فصل: تابع

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **


 وقال الشريف الجواني‏:‏ إن أبا عبد الله محمد بن مفسر قاضي مصر سمع بأن المادراني عمل في أيامه الكعك المحشو بالسكر والقرص الصغار المسمى افطن له فأمرهم بعمل الفستق الملبس بالسكر الأبيض الفانيد المطيب بالمسك وعمل منه في أول الحال أشياء عوض لبه‏:‏ لب ذهب في صحن واحد فمضى عليه جملة وخطف قدامه تخاطفه الحاطرون ولم يعد لعمله بل الفستق الملبس وكان قد سمع في سيرة المادراني أنه عمل له هذا الإفطن له وفي كل واحدة خمسة دنانير ووقف أستاذ على السماط فقال لأحد الجلساء‏:‏ إفطن له وكان عمل على السماط عدة صحون من ذلك الجنس لكن ما فيه الدنانير صحن واحد فلما رمز الأستاذ لذلك الرجل بقوله‏:‏ إفطن له وأشار إلى الصحن تناول ذلك الرجل منه فأصاب الذهبن واعتمد عليه فحصل له جملة ورآه الناس وهو إذا أكل يخرج من فمه ويجمع بيده يحط في حجره فتنبهوا له وتزاحموا عليه فقيل لذلك من يومئذ‏:‏ افطن له‏.‏

وقال أبو سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس في تاريخ مصر‏:‏ حدثني بعض أصحابنا بتفسير رؤيا رآها غلام ابن عقيل الخشاب عجيبة فكانت حقًا كما فسرت فسألت غلام ابن عقيل عنها فقال لي‏:‏ أنا أخبرك كان أبي في سوق الخشابين فأنفق بضاعته ورثت حاله وماله فأسلمتني أمي إلى ابن عقيل وكان صديقًا لأبي فكانت أخدمه وأفتح حانوته وأكنسها ثم أفرش ما يجلس عليه فكان يجري علي رزقًا أتقوت به فأتى يومًا في الحانوت وقد جلس أستاذي ابن عقيل فجاء ابن العسال مع رجل من أهل الريف يطلب عود خشب لطاحونة فاشترى من ابن عقيل عود طاحونة بخمسة دنانير فسمعت قومًا من أهل السوق يقولون‏:‏ هذا ابن العسال المفسر للرؤيا عند ابن عقيل فجاء منهم قوم وقصوا عليه منامات رأوها ففسرها لهم فذكرت رؤيا رأيتها في ليلتي فقلت له‏:‏ إني رأيت البارحة في نومي كذا وكذا فقصصت عليه الرؤيا فقال لي‏:‏ أي وقت رأيتها من الليل فقلت‏:‏ انتبهت بعد رؤياي في وقت كذا فقال لي‏:‏ هذه رؤيا لست أفسرها إلا بدنانير كثيرة فألححت عليه فقال أستاذي ابن عقيل‏:‏ إن قربت علينا وزنت أنا لك ذلك من عندي فلم يزل به ينزله حتى قال‏:‏ والله لا آخذ أقل من ثمن العود الخشب خمسة دنانير فقال له ابن عقيل‏:‏ إن صحت الرؤيا دفعت إليك العود بلا ثمن فقال له‏:‏ يأخذ مثل هذا اليوم ألف دينار قال أستاذي‏:‏ فإذا لم يصح هذا فقال‏:‏ يكون العود عندك إلى مثل هذا اليوم فإن كان لم يصح أخذ ما قلت له في ذلك اليوم فليس لي عندك شيء ولا أفسر رؤيا أبدًا فقال له أستاذي‏:‏ قد أنصفت ومضت الجمعة فلما كان مثل ذلك اليوم غدوت مثل ما كنت أغدو إلى دكان أستاذي ففتحتها ورششتها واستلقيت على ظهري أفكر فيما قال لي ومن أين يمكن أن يصير إلي ألف دينار فقلت‏:‏ لعل سقف المكان ينفرج فيسقط منه هذا المال‏:‏ وجعلت أجيل فكري وإني كذلك إلى ضحى إذ وقف علي جماعة من أعوان الخراج معهم ناس فقالوا‏:‏ هذه دكان ابن عقيل ثم قالوا لي‏:‏ قم فقلت لهم‏:‏ لست ابن عقيل أنا غلامه فقالوا‏:‏ بل أنت ابنه وجبذوني فأخرجوني من الدكان فقلت‏:‏ إلى أين فقالوا‏:‏ إلى ديوان الأستاذ أبي علي الحسين بن أحمد يعنون أبا زنبور فقلت‏:‏ وما يصنع بي فقالوا‏:‏ إذا جئت سمعت كلامه وما يريده منك وكنت بعقب علة ضعيف البدن فقلت‏:‏ ما أقدر أمشي فقالوا‏:‏ اكتر حمارًا تركبه ولم يكن معي ما أكتري به حمارًا فنزعت تكة سراويلي من وسطي ودفعتها على درهمين لمن أكراني الحمار ومضيت معهم فجاءوا بي إلى دار أبي زنبور فلما دخلت قال‏:‏ أنت ابن عقيل فقلت‏:‏ لا يا سيدي أنا غلام في حانوته قال‏:‏ أفليس تبصر قيمة الخشب قلت‏:‏ بلى قال‏:‏ فاذهب مع هؤلاء فقوم لنا هذا الخشب فانظر بحيث لا يزيد ولا ينقص فمضيت معهم فجاءوا بي إلى شط البحر إلى خشب كثير من أثل وسط جاف وغير ذلك مما يصلح لبناء المراكب فقومته تقويم جزع حتى بلغت قيمته ألفي دينار فقالوا لي‏:‏ انظر هذا الموضع الآخر فيه من الخشب أيضًا فنظرت فإذا هو أكثر مما قومت بنحو مرتين فأعجلوني ولم أضبط قيمة الخشب فردوني إلى أبي زنبور فقال لي‏:‏ قومت الخشب كما أمرتك ففزعت فقلت‏:‏ نعم فقال‏:‏ هات كم قومته فقلت‏:‏ ألفا دينار فقال‏:‏ انظر لاتغلط فقلت‏:‏ هو قيمته عندي فقال بلي‏:‏ فخذه أنت بألفي دينار فقلت‏:‏ أنا فقير لا أملك دينارًا واحدًا فكيف لي بقيمته قال‏:‏ أليت تحسن تدبيره وتبيعه فقلت‏:‏ بلى قال‏:‏ فدبره وبعه ونحن نصبر عليك بالثمن إلى أن تبيع شيئًا شيئًا وتؤدي ثمنه فقلت‏:‏ أفعل فأمر بكتاب يكتب علي في الديوان بالمال فكتب علي ورجعت إلى الشط أعرف عدد الخشب وأوصي به الحراس فوافيت جماعة أهل سوقنا وشيوخهم قد أتوا إلى موضع الخشب فقالوا لي‏:‏ إيش صنعت قومت الخشب قلت‏:‏ نعم قالوا‏:‏ بكم قومته فقلت‏:‏ بألفي دينار فقالوا لي‏:‏ وأنت تحسن تقوم لا يساوي هذا هذه القيمة فقلت لهم‏:‏ قد كتب علي كتاب في الديوان وهو عندي يساوي أضعاف هذا فقالوا لي‏:‏ اسكت لا يسمعك أحد وكانوا قد قوموه قبلي لأبي زنبور بألف دينار فقال بعضهم لبعض‏:‏ أعطوا هذا ربحه وتسلموه أنتم فقال قائل‏:‏ أعطوه ربحه خمسمائة دينار فقلت‏:‏ لا والله لا آخذ فقالوا‏:‏ قد رأى رؤيا فزيدوه فقلت‏:‏ لا والله لا آخذ أقل من ألف دينار قالوا‏:‏ فلك ألف دينار فحول اسمك من الديوان نعطك إذا بعنا ألف دينار فقلت‏:‏ لا والله لا أفعل حتى آخذ الألف دينار في وقتي هذا فمضوا إلى حوانيتهم وإلى منازلهم حتى جاءوني بألف دينار فقلت‏:‏ لا آخذها إلا بنقد الصيرفي وميزانه فمضيت معهم إلى صيرفي الناحية حتى وزنوا عنده الألف دينار ونقدتها وأخذتها فشددتها في طرف رداءي فمضيت معهم إلى الديوان وحولت أسماءهم مكان اسمي ووفوا حتى الديوان من عندهم ورجعت وقت الظهر إلى أستاذي فقال لي‏:‏ قبضت ألف دينار منهم فقلت‏:‏ نعم ببركتك وتركت الدنانير بين يديه وقلت له‏:‏ يا أستاذ خذ ثمن العود الخشب فقال‏:‏ لا والله لا آخذ منك شيئًا أنت عندي مقام ابني وجاء في الوقت ابن العسال فدفع إليه أستاذي العود الخشب فمضى فهذا خبر رؤياي وتفسيرها فتأمل أعزك الله ما يشتمل عليه من عظم ما كانت عليه مصر وسعة حال الديوان وكيف فضل فيه خشب يساوي آلافًا من الذهب ونحن اليوم في زمن إذا احتيج فيه إلى عمارة شيء من الأماكن السلطانية بخشب أو غيره أخذ من الناس إما بغير ثمن أو بأخس القيم مع ما يصيب مالكه من الخوف والخسارة للأعوان وكيف لما قوم هذا الخشب لم يكلف المشتري دفع المال في الحال وفي زمننا إذا طرحت البضاعة السلطانية على الباعة يكلفون حمل ثمنها بالسرعة حتى أن فيهم من يبيعها بأقل من نصف ما اشتراها به ويكمل الثمن إما من ماله أو يقترضه بربحن وكيف لما علم أهل السوق أن الخشب بيع بدون القيمة لم يمضوا إلى الديوان ويدفعون فيه زيادة إما لقلة شره الناس إذ ذاك وتركهم الأخلاق الرذيلة من الحسد ونحوه أو لعلمهم بعدل السلطان وإنه لا ينكث ما عقده وفي زمننا لو ادعى عدو على عدوه أن البضاعة التي كان اشتراها من الديوان قيمتها أكثر مما أخذها به لقبل قوله ورغم زيادة على ما ادعاه عدوه من قلة القيمة جملة أخرى لا جرم أنه تظاهر سفهاء الناس بكل رذيلة وذميمة من الأخلاق فإن الملك سوق يجبى إليه ما نفق به وكيف لما علم ابن عقيل أن غلامه استفاد على اسمه ألف دينار لم إلى أخذها بل دفع عنه خمسة الدنانير وما ذاك إلا من انتشار الخير في الناس وكثرة أموالهم وسعة حال كل أحد بحسبه وطيب نفوس الكافة ولعمري لو سمع زمننا أحد من الأمراء والوزراء فضلًا عن الباعة أن غلامًا من غلمانه أخذ على اسمه عشر هذا المبلغ لقامت قيامته وكيف اتسعت أحوال الخشابين حتى وزنوا ألف دينار في ساعة وإنه ليعسر اليوم على الخشابين أن يزنوا في يوم مائة دينار وهذا كله من وفور غنى الناس بمصر وعظم أمرهم وكثرة سعاداتهم وكان الفسطاط نحو ثلث بغداد ومقداره فرسخ على غاية العمارة والخصب والطيبة واللذة وكانت مساكن أهلها خمس طبقات وستًا وسبعًا وربما سكن في الدار الواحدة المائتان من الناس وكان فيه دار عبد العزيز بن مروان يصب فيها لمن في كل يوم أربعمائة راوية ماء وكان فيها خمسة مساجد وحمامان وعدة أفران يخبز بها عجين أهلها وقد قال أبو داود في كتاب السنن‏:‏ شبرت قثاءة بمصر‏:‏ ثلاثة عشر شبرًا ورأيت أترجة على بعير قطعتين‏:‏ قطعت وصيرت على مثل عدلين ذكره في باب صدقة الزرع من كتاب الزكاة قلت‏:‏ وقد ذكر أن هذا كان في جنان بني سنان البصري خارج مدينة الفسطاط وكانت بحيث لي ير أبدع منها فلما قدم أمير المؤمنين عبد الله المأمون بن هارون الرشيد مصر‏:‏ سنة سبع عشرة ومائتين رأى جنان بني سنان هذه فأعجب بها وسأل إبراهيم بن سنان‏:‏ كم عليه من الخراج لجنانه فذكر أنه يحمل إلى الديوان في كل سنة عشرين ألف دينار فقال المأمون‏:‏ وكم ترد عليك هذه الجنان قال‏:‏ لا أستطيع حصره إلا أن ما زاد على مائة ألف دينار أتصدق به ولو درهمًا هذا وله ولد اسمه أحمد بن إبراهيم بن سنان يوصف بعلم وزهد والله تعالى أعلم‏.‏

 

الآثار الواردة في خراب مصر

روى قاسم بن أصبغ عن كعب الأحبار قال‏:‏ الجزيرة آمنة من الخراب حتى تخرب أرمينية ومصر آمنة من الخراب حتى تخرب الجزيرة‏:‏ والكوفة آمنة من الخراب حتى تكون الملحمة ولا يخرج الدجال حتى تفتح القسطنطينية‏.‏

وعن وهب بن منبه أنه قال‏:‏ الجزيرة آمنة من الخراب حتى تخرب آرمينية وأرمينية آمنة من الخراب حتى تخرب مصر ومصر آمنة من الخراب حتى تخرب الكوفة ولا تكون الملحمة الكبرى حتى تخرب الكوفة فإذا كانت الملحمة الكبرى فتحت القسطنطينية على يدي رجل من بني هاشم وخراب الأندلس من قبل الزنج وخراب إفريقية من قبل الأندلس وخراب مصر من أنقطاع النيل واختلاف الجيوش فيها وخراب العراق من قبل الجوع والسيف وخراب الكوفة من قبل عدو من ورائهم يخفرهم حتى لا يستطيعوا أن يشربوا من الفرات قطرة وخراب البصرة من قبل العراق وخراب الأبلة من قبل عدو يخفرهم مرة برًا ومرة بحرًا وخراب الري من قبل الديلم وخراب خرسان من قبل التبت وخراب التبت من قبل الصين وخراب الصين من قبل الهند وخراب اليمن من قبل الجراد والسلطان وخراب مكة من قبل الحبشة وخراب المدينة من قبل الجوع وفي رواية‏:‏ وخراب أرمينية من قبل الرجف والصواعق وخراب الأندلس وخراب الجزيرة من سنابك الخيل واختلاف الجيوش‏.‏

وعن عبد الله بن الصامت قال‏:‏ إن أسرع الأرضين خرابًا البصرة ومصر فقيل له‏:‏ وما يخربهما وفيهما عيون الرجال والأموال فقال‏:‏ يخربهما القتل الأحمر والجوع الأغبر وكأني بالبصرة‏:‏ كأنها نعامة جاثمة وأما مصر‏:‏ فإن نيلها ينضب أو قال‏:‏ ييبس فيكون ذلك خرابها وعن الأوزاعي‏:‏ إذا دخل أصحاب الرايات الصفر مصر فلتحفر أهل الشام أسرابًا تحت الأرض‏.‏

وعن كعب‏:‏ علامة خروج المهدي ألوية تقبل من قبل المغرب عليها رجل من كندة أعرج فإذا ظهر أهل المغرب على مصر فبطن الأرض يومئذ خير لأهل الشام‏.‏

وعن سفيان الثوري قال‏:‏ يخرج عنق من البربر فويل لأهل مصر‏.‏

وقال ابن لهيعة عن أبي الأسود عن مولى لشرحبيل بن حسنة أو لعمر بن العاص قال‏:‏ سمعته يومًا واستقبلنا فقال‏:‏ إيها لك مصر إذا رميت بالقسي الأربع‏:‏ قوس الأندلس وقوس الحبشة وقوس الترك وقوس الروم‏.‏

وعن قاسم عبد الله بن مغلا أنه قال لابنته‏:‏ إذا بلغك أن الإسكندرية قد فتحت فإن كلن خمارك بالمغرب فلا تأخذيه حتى تلحقي بالمشرق‏.‏

وذكر مقاتل بن حيان عن عكرمة عن ابن عباس يرفعه قال‏:‏ أنزل الله تعالى منالجنة إلى الأرض خمسة أنهار‏:‏ سيحون وهو نهر الهند وجيحون وهو نهر بلخ ودجلة والفرات وهما نهرا العراق والنيل وهو نهر مصر أنزلها الله تعالى من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل عليه السلام واستودعها الجبال وأجراها في الأرض وجعل فيها منافع للناس في أصناف معايشهم وذلك قوله عز وجل‏:‏ ‏"‏ وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض ‏"‏ ‏"‏ المؤمنون ‏"‏ فإذا كان عند خروج يأجوج وماجوج أرسل الله تعالى جبريل عليه السلام فرفع من الأرض القرآن كله والعلم كله والحجر من ركن البيت ومقام إبراهيم وتابوت موسى بما فيه وهذه الأنهار الخمسة فيرفع كل ذلك إلى السماء فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وإنا على ذهاب به لقادرون ‏"‏ ‏"‏ المؤمنون ‏"‏ فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فقدت أهلها خير الدنيا والدين وقال ابن لهيعة عن عقبة بن عامر الحضرمي عن حيان بن الأعين عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ إن أول مصر خرابًا أنطابلس وقال الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن سالم بن أبي سالم عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ إني لأعلم السنة التي تخرجون فيها من مصر قال‏:‏ فقلت له‏:‏ ما يخرجنا منها يا أبا محمد أعدو قال‏:‏ لا ولكن يخرجكم منها نيلكم هذا ويغور فلا تبقى منه قطرة حتى تكون فيه الكثبان من الرمل وتأكل سباع الأرض حيتانه‏.‏

وكان لخراب مدينة فسطاط مصر سببان‏:‏ أحدهما‏:‏ الشدة العظمى التي كانت في خلافة المستنصر بالله الفاطمي والثاني‏:‏ حريق مصر في وزارة شاور بن مجير السعدي‏.‏

فأما الشدة العظمى‏:‏ فإن سببها أن السعر ارتفع بمصر في سنة ست وأربعين وأرعمائة وتبع الغلاء وباء فبعث الخليفة المستنصر بالله أبو تميم معد بن الظاهر لإعزاز دين الله أبي الحسن علي إلى متملك الروم بقسطنطينية أن يحمل الغلال إلى مصر فأطلق أربعمائة ألف أردب وعزم على حملها إلى مصر فأدركه أجله ومات قبل ذلك فقام في الملك بعده امرأة وكتبت إلى المستنصر تسأله أن يكون عونًا لها ويمدها بعساكر مصر إذا ثار عليها أحد فأبى أن يسعفها في طلبتها فجردت لذلك وعاقت الغلال عن المسير إلى مصر فخنق المستنصر وجهز العساكر وعليها مكين الدولة الحسن بن ملهم وسارت إلى اللاذقية فحاربتها بسبب نقض الهدنة وإمساك الغلال عن الوصول إلى مصر وأمدها بالعساكر الكثيرة ونودي في بلاد الشام بالغزو فنزل ابن ملهم قريبًا من فامية وضايق أهلها وجال في أعمال أنطاكية فسبى ونهب فأخرج صاحب قسطنطينية ثمانين قطعة في البحر فحاربها ابن ملهم عدة مرار وكانت عليه وأسر هو وجماعة كثيرة في شهر ربيع الأول منها فبعث المستنصر في سنة سبع وأربعين‏:‏ أبا عبد الله القضاعي برسالة إلى القسطنطينية فوافى إليها رسول طغربل السلجوقي من العراق بكتابة يأمر متملك الروم بأن يمكن الرسول من الصلاة في جامع القسطنيطينة فأذن له في ذلك فدخل إليه وصلى فيه صلاة الجمعة‏.‏

وخطب للخليفة القائم بأمر الله العباسي فبعث القاضي القضاعي إلأى المستنصر يخبره بذلك فأرسل إلى كنيسة قمامة بيت المقدس وقبض على جميع ما فيها وكان شيئًا كثيرًا من أموال النصارى ففسد من حينئذ ما بين الروم والمصريين حتى استولوا على بلاد الساحل كلها وحاصروا القاهرة كما يرد في موضعه إن شاء الله تعالى واشتد في هذه السنة الغلاء وكثر الوباء بمصر والقاهرة وأعمالها إلى سنة أربع وخمسين وأربعمائة فحدث مع ذلك الفتنة العظيمة التي خرب بسببها إقليم مصر كله وذلك أن المستنصر لما خرج على عادته في كل سنة على النجب مع النساء والحشم إلى أرض الجب خارج القاهرة وجرد بعض الأتراك سيفًا وهو سكران على أحد عبيد الشراء فاجتمع عليه كثير من العبيد وقتلوه فحنق لقتله الأتراك وساروا بجميعهم إلى المستنصر‏.‏

وقالوا‏:‏ إن كان هذا عن رضاك فالسمع والطاعة وإن كان من غير رضى أمير المؤمنين فلا نرضى بذلك فتبرأ المستنصر مما جرى وأنكره فتجمع الأتراك لمحاربة العبيد وكانت بينهما حروب شديدة بناحية كوم شريك قتل فيها عدة من العبيد‏.‏

وانهزم من بقي منهم فشق ذلك على أم المستنصر فإنها كانت السبب في كثرة العبيد السود بمصر وذلك أنها كانت جارية سوداء فأحبت الاستكثار من جنسها واشترتهم من كل مكان وعرفت رغبتها في هذا الجنس فجلبت الناس إلى مصر منهم حتى يقال‏:‏ إنه صار في مصر إذ ذاك على زيادة على خمسين ألف عبد أسود فلما كانت وقعة كوم شريك أمدت العبيد بالأموال والسلاح سرًا وكانت أم المستنصر قد تحكمت في الدولة وحقدت على الأتراك وحثت على قتلهم مولاها أبا سعد التستري فقويت العبيد لذلك حتى صار الواحد منهم يحكم بما يختار فكرهت الأتراك ذلك وكان ما ذكر فظفر بعض الأتراك يومًا بشيء من المال والسلاح قد بعثت به أم المستنصر إلى العبيد تمدهم به بعد انهزامهم من كوم الشريك فاجتمعوا بأسرهم ودخلوا على المستنصر وأغلظوا في القول فحلف أنه لم يكن عنده علم بما ذكر وصار إلى أمه فأنكرت ما فعلت وخرج الأتراك فصار السيف قائمًا ووقعت الفتنة ثانيًا فانتدب المستنصر‏:‏ أبا الفرج ابن المغربي ليصلح بين الطائفتين فاصطلحه على غل وخرج العبيد إلى شبرا دمنهور فكان هذا أول اختلال أحوال أهل مصر ودبت عقارب العداوة بين الفئتين إلى سنة تسع وخمسين فقويت شوكة الأتراك وضروا على المستنصر وزاد طمعهم فيه وطلبوا منه الزيادة في واجباتهم وضاقت أحوال العبيد واشتدت ضرورتهم وكثرت حاجتهم وقل مال السلطان واستضعف جانبه فبعثت أم المستنصر إلى قواد العبيد تغريهم بالأتراك فاجتمعوا بالجيزة وخرج إليهم الأتراك ومقدمهم ناصر الدين حسين بن حمدان فاقتتلا عدة مرار ظهر في آخرها الأتراك على العبيد وهزموهم إلى بلاد الصعيد فعاد ابن حمدان إلى القاهرة وقد عظم أمره وقوي جأشه وكبرت نفسه واستخف بالخليفة فجاءه الخبر‏:‏ أنه قد تجمع من العبيد ببلاد الصعيد نحو خمسة عشر ألف فارس فقلق وبعث بمقدمي الأتراك إلى المستنصر فأنكر ما كان من اجتماع العبيد وجفوا في خطابهم وقارقوه على غير رضى منهم فبعثت أم المستنصر إلى من بحضرتها من العبيد بأمرهم بالإيقاع على غفلة بالأتراك فهجموا عليهم وقتلوا منهم عدة فبادر ابن حمدان إلى الخروج طاهر القاهرة وتلاحق به الأتراك وبرز إليهم العبيد المقيمون بالقاهرة ومصر وحاربوهم عدة أيام فحلف ابن حمدان أنه لا ينزل عن فرسه حتى ينفصل الأمر إما له أو عليه وجد كل من الفريقين في القتال هرت الأتراك على العبيد وأثخنوا في قتلهم وأسرهم فعادوا إلى القاهرة وتتبع ابن حمدان من في البلد منهم حتى أفنى معظمهم هذا والعبيد ببلاد الصعيد على حالهم وباٌلإسكندرية أيضأ منهم جمع كثير فسار ابن حمدان إلى الإسكندرية وحاصرهم فيها مدة حتى سألوه الأمان فأخرجهم وأقام فيها من يثق به وانقضت هذه السنة كلها في قتال العبيد ودخلت سنة ستين وأربعمائة وقد خرق الأتراك ناموس المستنصر واستهانوا به واستخفوا بقدره وصار مقررهم في كل شهر أربعمائة ألف دينار بعدما كان ثمانية وعشرين ألف دينار ولم يبق في الخزائن مال فبعثوا يطالبونه بالمال وفاعتذر إليهم بعجزه عما طلبوه فلم يعذروه وقالوا‏:‏ بع ذخائرك فلم يجد بدًا من إجابتهم وأخرج ما كان في القصر من الذخائر فصاروا يقومون ما يخرج إليهم بأخس القيم وأقل الأثمان ويأخذون ذلك في واجباتهم‏.‏

وتجهز ابن حمدان وسار إلى الصعيد يريد قتال العبيد وكانت شرورهم قد كثرت وضررهم وفسادهم قد تزايدت فلقيهم وواقعهم غير مرة والأتراك تنكسر منهم وتعود إلى محاربتهم إلى أن حمل العبيد عليهم حملة انهزموا فيها إلى الجيزة فأفحشوا عند ذلك في أمر المستنصر ونسبوه إلى مباطنة العبيد وتقويتهم فأنكر ذلك وحلف عليه فأخذوا في إصلاح شأنهم ولم شعثهم وساروا لقتال العبيد وما زالوا يلحون في قتالهم حتى انكسرت العبيد كسرة شنيعة وقتل منهم خلق كثير وفر من بقي فذهبت شوكته وزالت دولتهم ورجع ابن حمدان وقد كشف قناع الحياء وجهر بالسوء للمستنصر واستبد بسلطنة البلاد ودخلت سنة إحدى وستين وابن حمدان مستبد بالأمر مجاف للمستنصر فنقل مكانه على الأتراك وتفرغوا من العبيد والتفتوا إليه وقد استبد بالأمور دونهم واستأثر بالأموال عليهم ففسد ما بينهم وبينه وشكوا منه إلى الوزير خطير الملك فأغراهم به ولامهم على ما كان تقويته وحسن لهم الثورة به فصاروا إلى المستنصر ووافقوه على ذلك فبعث إلى ابن حمدان يأمره بالخروج عن مصرن ويهدده إن امتنع فلم يقدر على المتناع منه لفساد الأتراك عليه وميلهم مع المستنصر فخرج إلى الجيزة وانتهب الناس دوره ودور حواشيه فلما جن عليه الليل عاد من الجيزة سرًا إلى دار القائد تاج الملوك شادي وترامى عليه وقبل رجليه وسأله النصرة على الذكر والوزير الخطير فإنهما قاما بهذه الفتنة فأجابه إلى ذلك ووعدهبقتل المذكورين وفارقه ابن حمدان فلما كان من الغد ركب شادي في أصحابه وأخذ يسير بين القصرين بالقاهرة وأقبل الوزير الخطير في موكبه فبادره شادي على حين غفلة وقتله ففر الذكر إلى القصر والتجأ بالمستنصر فلم يكن بأسرع من قدوم ابن حمدان وقد استعد للحرب فيمن معه فركب المستنصر بلأمة الحرب واجتمع إليه الأجناد والعامة وصار في عدد لا ينحصر وبرزت الفرسان فكانت بين الخليفة وابن حمدان حروب آلت إلى هزيمة ابن حمدان وقتل كثير من أصحابه فمضى في طائفة إلى البحيرة وترامى على بني سيس وتزوج منها فعظم الأمر بالقاهرة ومصر من شدة الغلاء وقلة الأقوات لما فسد من الأعمال بكثرة النهب وقطع الطريق حتى أكل الناس الجيف والميتات ووقف أرباب الفساد في الطريق فصاروا يقتلون من ظفروا به في أزقة مصر فهلك من أهل مصر في هذه الحروب والفتن ما لا يمكن حصره وامتد ذلك إلى أن دخلت سنة ثلاث وستين فجهز المستنصر عساكره لقتال ابن حمدان بالبحيرة فسارت إليه ولم يوفق في محاربته فكسرها كلها واحتوى على ما كان معها من سلاح وكراع ومال فتقوى به وقطع الميرة عن البلد ونهب أكثر الوجه البحري وقطع منه الخطبة للمستنصر ودعا للخليفة القائم بأمر الله العباسي بالأسكندرية ودمياط وعامة الوجه البحري فاشتد الجوع وتزايد الموتان بالقاهرة ومصر حتى أنه كان يموت الواحد من أهل البيت فلا يمضي يوم وليلة من موته حتى يموت سائر من في ذلك البيت ولا يوجد من يستولي عليه ومدت الأجناد ايديها إلى النهب فخرج الأمر عن الحد ونجا أهل القوة بأنفسهم من مصرن وساروا إلى الشام والعراق وخرج من خزائن القصر ما يجل وصفه وقد ذكر طرف من ذلك في أخبار القاهرة عند ذكر حزائن القصر فاضطر الأجناد ما هم فيه من شدة الجوع إلى مصالحة ابن حمدان بشرط أن يقيم في مكانه ويحمل إليه مال مقرر وينوب عنه شادي بالقاهرة فرضي بذلك وسير الغلال إلى القاهرة ومصر فسكن ما بالناس من شدة الجوع قليلًا ولم يكن ذلك إلا نحو شهر ووقع الاختلاف عليه فقدم من البحيرة إلى مصر وحاصرها وانتهبها وأحرق دورًا عديدة بالساحل ورجع إلى البحيرة فدخلت سنه أربع وستين والحال على ذلك وشادي قد استبد بأمر الدولة وفسد ما بينه وبين ابن حمدان ومنعه من المال الذي تقرر له وشح به عليه فلم يوصله إلى القليل فجرد من ذلك ابن حمدان وجمع العربان وسار إلى الجيزة وخادع شادي حتى صار إليه ليلًا في عدة من الأكابر فقبض عليه وعليهم وبعث أصحابه فنهبوا مصر وأطلقوا فيها النار فخرج إليهم عسكر المستنصر من القاهرة وهزموهم فعاد إلى البحيرة وبعث رسولًا إلى الخليفة القائم بأمر الله ببغداد بإقامة الخطبة له وسأله الخلع والتشاريف فاضمحل أمر المستنصر وتلاشى ذكره وتفاقم الأمر في الشدة من الغلاء حتى هلكوا فسار ابن حمدان إلى البلد وليس في أحد قوة يمنعه بها فملك القاهرة وامتنع المستنصر بالقصر فسير إليه رسولًا يطلب منه المال فوجده وقد ذهب سائر ما كان يعهده من أبهة الخلافة حتى جلس على حصير ولم يبق معه سوى ثلاثة من الخدم فبلغه رسالة ابن حمدان فقال المستنصر للرسول‏:‏ ما يكفي ناصر الدولة أن اجلس في مثل هذا البيت على هذا الحال فبكى الرسول رقة له وعاد إلى ابن حمدان فأخبره بما شاهد من اتضاع أمر المستنصر وسوء حاله فكف عنه وأطلق له في كل شهر مائة دينار وامتدت يده وتحكم وبالغ في إهانة المستنصر مبالغة عظيمة وقبض على أمه وعاقبها أشد العقوبة واستصفى أموالها فحاز منها شيئًا كثيرًا فتفرق حينئذ عن المستنصر جميع أقاربه وأولاده من الجوع فمنهم من سار إلى المغرب قال الشريف محمد بن أسعد الجواني النسابة في كتاب النقط‏:‏ حل بمصر غلاء شديد في خلافة المستنصر بالله في سنة سبع وخمسين وأربعمائة وأقام إلى سنة أربع وستين وأربعمائة وعم مع الغلاء وباء شديد فأقام ذلك سبع سنين والنيل يمد وينزل فلا يجد من يزرع وشمل الخوف من العسكرية وفساد العبيد فانقطعت الطرقات برًا وبحرًا إلا بالخفارة الكثيرة مع ركوب الغرر ونزا المارقون بعضهم على بعض واستولى الجوع لعدم القوت وصار الحال إلى أن بيع رغيف من الخبز الذي وزنه رطل بزقاق القناديل‏:‏ كبيع الطرف في النداء بأربعة عشر درهمًا وبيع أردب من القمح بثمانين دينارًا ثم عدم ذلك وأكلت الكلاب والقطاط ثم تزايد الحال حتى أكل الناس بعضهم بعضًا وكان بمصر طوائف من أهل الفساد قد سكنوا بيوتًا قصيرة السقوف قريبة ممن يسعى في الطرقات ويطوف وقد أعدوا سلبًا وخطاطيف فإذا مر بهم أحد شالوه في أقرب وقت ثم ضربوه بالأخشاب وشرحوا لحمه وأكلوه‏.‏