فصل: المحاريب التي بديار مصر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **


 المحاريب التي بديار مصر

وسبب اختلافها وتعيين الصواب فيها وتبيين الخطأ منها‏.‏

اعلم أن محاريب ديار مصر التي يستقبلها المسلمون في صلواتهم أربعة محاريب‏.‏

أحدها محراب الصحابة رضى الله عنهم الذي أسسوه في البلاد التي استوطنوها والبلاد التي كثر ممرهم بها من إقليم مصر وهو محراب المسجد الجامع بمصر المعروف بجامع عمرو ومحراب المسجد الجامع بالجيزة وبمدينة بليبس وبالإسكندرية وقوص وأسوان وهذه المحارب المذكورة على سمت واحد غير أن محاريب ثغر أسوان أشد تشريقًا من غيرها وذلك أن أسوان مع مكة شرفها الله تعالى في الإقليم الثاني وهو الحد الغربي من مكة بغير ميل إلى الشمال ومحراب بلبيس مغرب قليلًا‏.‏

والمحراب الثاني محراب مسجد أحمد بن طولون وهو منحرف عن سمت محراب الصحابة وقد ذكر في سبب انحرافه أقوال منها أن أحمد بن طولن لما عزم على ناء هذا المسجد بعث إلى محراب مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخذ سمته فإذا هو مائل عن خط سمت القبلة المستخرج بالصناعة نحو العشر درج إلى جهة الجنوب فوضع حينئذ محراب مسجده هذا مائلا عن خط سمت القبلة إلى جهة الجنوب بنحو ذلك إقتداء منه بمحراب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه وخط له المحراب فلما أصبح وجد النمل قد أطاف بالمكان الذي خطه له رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وقيل غير ذلك‏.‏

وأنت إن صعدت إلى السطح جامع ابن طولون رأيت محرابه مائلا عن محراب جامع عمرو بن العاص إلى الجنوب ورأيت محراب المدارس التي حدثت إلى جانبه قد انحرفت عن محرابه إلى جهة الشرق وصار محراب جامع عمرو فيما بين محراب ابن طولون والمحاريب الأخر وقد عقد مجلس بجامع ابن طولون في ولاية قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن محمد بن جماعة حضره علماء المقيات منهم الشيخ تقي الدين محمد بن محمد بن موسى الغزولي والشيخ أبو الطاهر محمد بن محمد ونظروا في محرابه فأجمعوا على أنه منحرف عن خط سمت القبلة إلى جهة الجنوب مغربًا بقدر أربع عشرة درجة وكتب بذلك محضر وأثبت على ابن جماعة‏.‏

والمحراب الثالث‏:‏ محراب جامع القارة المعروف بالجامع الأزهر وما في سمته من بقية محاريب القاهرة وهي محاريب يشهد الإمتحان بتقدم واضعها في استخراج القبلة فإنها على خط سمت القبلة من غير ميل عنه ولا انحراف البتة‏.‏

والمحراب الرابع‏:‏ محاريب المساجد التي في قرى بلاد الساحل فإنها تخالف محاريب الصحابة إلا أن محراب جامع منية غمر قريب من سمت محاريب الصحابة فإن الوزير أبا عبد الله محمد بن فاتك المنعوت بالمأمون البطائحي وزير الخليفة الآمر بأحكام الله أبي علي منصور بن المستعلي بالله أنشأ جامعًا بمنية زفتًا في سنة ست عشرة وخمسمائة فجعل محرابه على سمت المحاريب الصحيحة وفي قرافة مصر بجوار مسجد الفبح عدة مساجد تخالف محاريب الصحابة مخالفت فاحشة وكذلك بمدينة مصر الفسطاط غير مسجد على هذا الحكم فأما محاريب الصحابة التي بفسطاط مصر والإسكندرية فإن سمتها يقابل مشرق الشتاء وهو مطالع برج العقرب مع ميل قليل إلى ناحية الجنوب ومحاريب مساجد القرى وما حول مسجد الفتح بالقرافة فإنها تستقبل خط نصف النهار الذي يقال له خط الزوال وتميل عنه إلى جهة المغرب وهذا الاختلاف بين هذين المحرابين اختلاف فاحش يفضي إلى إبطال الصلاة وقد قال ابن عبد الحكيم‏:‏ قبلة أهل مصر أن يكون القطب الشمالي على الكتف الأيسر وهذا سمت محاريب الصحابة‏.‏

قال‏:‏ وإذا طلعت منازل العقرب وتكلمت صورته فمحاذاته سمت القبلة لديار مصر وبرقة وإفريقية وما والاها وفي الفرقدين والقطب الشمالي كفاية للمستدلين فإنهم إن كانوا مستقبلين في مسيرهم من الجنوب جهة الشمال استقبلوا القطب والفرقدين وإن كانوا سائرين إلى الجنوب من الشمال استدبروها وإن كانوا سائرين إلى الشرق من المغرب جعلوها على الأذن اليسرى وإن كانوا سائرين من الشرق إلى المغرب جعلوها على الأذن اليمنى وإن كان مسيرهم إلى النكباء التي بين الجنوب والصبا جعلوها على الكتف الأيسر وإن كان مسيرهم إلى النكباء التي بين الجنوب والدبور جعلوها على الكتف الأيمن وإن كان مسيرهم إلى النكباء التي بين الشمال والدبور جعلوها على الحاجب الأيمن وإن كان مسيرهم إلى النكباء التي بين الشمال والصبا جعلوها على الحاجب الأيسر وإذا عرف ذلك فإنه يستحيل تصويب محرابين مختلفين في قطر واحد إذا زاد إختلافهما على مقدار ما يتسامح به في التيامن والتياسر وبيان ذلك أن كل قطر من أقطار الأرض كبلاد الشام وديار مصر ونحوهما من الأقطار قطعة من الأرض واقعة في مقابلة جزء من الكعبة والكعبة تكون في جهة من جهات ذلك القطر فإذا اختلف محرابان في قطر واحد فإنا نتيقن أن أحدهما صواب والآخر خطأ إلا أن يكون القطر قريبًا من مكة وخطته التي هو محدود بها إتساعًا كثيرًا يزيد على الجزء الذي يخصه لو وزعت الكعبة أجزاء متماثلة فإنه حينئذ يجوز التيامن والتياسر في محاربيه وذلك مثل بلاد البجة فإنها على الساحل الغربي من بحر القلزم ومكة واقعة في شرقيها ليس بينهما إلا مسافة البحر فقط وما بين جدة ومكة من البر وخطة بلاد الجبة مع ذلك واسعة مستطيلة على الساحل أولها عيذاب وهي محاذية لمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتميل عنها في الجنوب ميلًا قليلًا والمدينة شامية عن مكة بنحو عشرة أيام وآخر بلاد البجة من ناحية الجنوب سواكن وهي مائلة في ناحية الجنوب عن مكة ميلًا كثيرًا وهذا المقدار من طول بلاد البجة يزيد على الجزء الذي يخص هذه من الأرض لو وزعت الأرض أجزاء متساوية إلى الكعبة فيتعين والحالة هذه التيامن أو التياسر في طرفي هذه البلاد لطلب جهة الكعبة‏.‏

وأما إذا بعد القطر عن الكعبة بعدًا كثيرًا فإنه لا يضر إتساع خطته ولا يحتاج فيه إلى تيامن ولا تياسر لاتساع الجزء الذي يخصه من الأرض فإن كل قطر منها له جزء يخصه من الكعبة من أجل الكعبة من البلاد المعمورة كالكرة من الدائرة فالأقطار كلها في استقبال الكعبة محيطة بها كإحاطة الدائرة بمركزها وكل قطر فإنه يتوجه إلى الكعبة في جزء يخصه والأجزاء المنقسمة إذا قدرت الأرض كالدائرة فإنها تتسع عند المحيط وتتضايق عند المركز فإذا كان القطر بعيدًا عن الكعبة فإنه يقع في متسع الحد ولا يحتاج فيه إلى تيامن ولا تياسر وبخلاف ما إذا قرب القطر من الكعبة فإنه يقع في متضايق الجزء ويحتاج عند ذلك إلى تيامن أو تياسر فإن فرضنا أن الواجب إصابة عين الكعبة في استقبال الصلاة لمن بعد عن مكة وقد علمت ما في هذه المسألة من الأختلاف بين العلماء فإنه لا يتسامح في اختلاف المحاريب بأكثر من قدر التيامن والتياسر الذي يخرج عن حد الجهة فلو زاد الاختلاف حكم ببطلان أحد المحرابين ولابد اللهم إلا أن يكونا في قطرين بعيدين بعضهما من بعض وليسا على خط واحد من مسامته الكعبة وذلك كبلاد الشام وديار مصر فإن البلاد الشامية لها جانبان وخطتها متسعة مستطيلة في شمال مكة وتمتد أكثر من الجزء الخاص بها بالنسبة إلى مقدار بعدها عن الكعبة ووفي هذين القطرين يجري ما تقدم ذكره في أرض البجة إلا أن التيامن و التياسر ظهوره في البلاد الشامية أقل من ظهوره في أرض البجة من أجل بعد البلاد الشامية عن الكعبة وقرب أرض البجة وذلك أن البلاد الشامية وقعت في متسع الجزء الخاص بها فلم يظهر أثر التيامن والتياسر ظهورًا كثيرًا كظهوره في أرض الجبة لأن البلاد الشامية لها جانب شرقي وجانب غربي ووسط فجانبها الغربي هو أرض بيت المقدس وفلسطين إلى العريش أول حد مصر وهذا الجانب من البلاد الشامية يقابل الكعبة على حد مهب النكباء التي بين الجنوب والصبا وأما جانب البلاد الشامية الشرقي فإنه ما كان مشرقًا عن مدينة دمشق إلى حلب والفرات وما يسامت ذلك من بلاد الساح وهذه الجهة تقابل الكعبة مشرقًا عن أوسط مهب الجنوب قليلًا وإما وسط بلاد الشام فإنها دمشق وما قاربها وتقابل الكعبة على وسط مهب الجنوب وهذا هو سمت مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ميل يسير عنه إلى ناحية المشرق‏.‏

وأما مصر فإنها تقابل الكعبة فيما بين الصبا ومهب النكباء التي بين الصبا والجنوب ولذلك لما اختلف هذان القطران أعني مصر والشام في محاذاة الكعبة اختلفت محاربيهما وعلى ذلك مضع الصحابة رضي الله عنهم محاريب الشام ومصر على اختلاف السمتين فأما مصر بعينها وضواحيها وما في حدها أو على سمتها أو في البلاد الشامية وما في حدها أو على سمتها فإنه لايجوز فيها تصويب محرابين مختلفين إختلافًا بينًا فإن تباعد القطر عن القطر بمسافة قريبة أو بعيدة وكان القطران على سمت واحد في محاذاة الكعبة لم يضر حينئذ تباعدهما ولا تختلف محاريبهما بل تكون محاريب كل قطر منهما على حد واحد وسمت واحد وذلك كمصر وبرقة وأفريقية وصقلية والأندلس فإن هذه البلاد وأن تباعد بعضها عن بعض فإنها كلها تقابل الكعبة على حد واحد وسمتها جميعها سمت مصر من اختلاف البتة وقد تبين بما تقرر حال الأقطار المختلفة من الكعبة في وقوعها منها‏.‏

وأما اختلاف محاريب مصر فإن له أسبابًا أحدها حمل كثير من الناس قوله صلى الله عليه وسلم الذي رواه الحافظ أبو عيسى الترمذي من حيث أبي هريرة رضي الله عنه ‏"‏ ما بين المشرق والمغرب قبلة على العموم ‏"‏ وهذا الحديث قد روي موقوفا على عمر وعثمان وعلى وابن عباس ومحمد ابن الحنيفة رضي الله عنهم وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا‏.‏

قال أحمد بن حنبل هذا في كل البلدان‏.‏

قال هذا المشرق وهذا المغرب وما بينهما قبلة قيل له فصلاة من صلى بينهما جائزة قال‏:‏ نعم وينبغي أن يتحرى الوسط وقال أحمد بن خالد قول عمر‏:‏ ما بين المشرق والمغرب قبلة قاله‏:‏ بالمدينة فمن كانت قبلته مثل قبلة المدينة فهو في سعة مما بين المشرق والمغرب ولسائر البلدان من السعة في القبلة مثل ذلك بين الجنوب والشمال وقال أبو عمر بن عبد البر لاختلاف بين أهل العلم فيه قال مؤلفه رحمه الله إذا تأملت وجدت هذا الحديث يختص بأهل الشام والمدينة وما على سمت تلك البلاد شمالًا وجنوبًا فقط والدليل على ذلك أنه يلزم من حمله على العموم بطال التوجه إلى الكعبة في بعض الأقطار والله سبحانه قد افترض على الكافة أن يتوجهوا إلى الكعبة في الصلاة حيثما كانوا بقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره ‏"‏‏.‏

البقرة‏.‏

وقد عرفت إن كنت تمهرت في معرفة البلدان وحدود الأقاليم أن الناس في توجههم إلى الكعبة كالدائرة حول المركز فمن كان في الجهة الغربية من الكعبة فإن جهة قبلة صلاته إلى المشرق ومن كان في الجهة الشرقية من الكعبة فإنه يستقبل في صلاته جهة المغرب ومن كان في الجهة الشمالية من فإنه يتوجه في صلاته إلى جهة الجنوب ومن كان في الجهة الجنوبية من الكعبة كانت صلاته إلى جهة الشمال ومن كان من الكعبة فيما بين المشرق والجنوب فإن قبلته بين الشمال والمغرب ومن كان من الكعبة فيما بين الجنوب والمغرب فإن قبلته فيما بين الشمال والمشرق ومن كان من الكعبة فيما بين المشرق والشمال فقبلته فيما بين الجنوب والمغرب ومن كان من الكعبة فيما الشمال والمغرب فقبلته فيما بين الجنوب والمشرق‏.‏

فقد ظهر ما يلزم من القول بعموم هذا الحديث من خروج أهل المشرق الساكنين به وأهل المغرب أيضًا عن التوجه إلى الكعبة في الصلاة عينًا وجهة لأن من كان مسكنه من البلاد ما هو في أقصى المشرق من الكعبة لو جعل المشرق عن يساره والمغرب عب يمينه لكان إنما يستقبل حينئذ جنوب أرضه ولم يستقبل قط عين الكعبة ولا جهتها فوجب ولا بد حمل الحديث على أنه خاص بأهل المدينة والشام وما على سمت ذلك من البلاد بدليل أن المدينة النبوية واقعة بين مكة وبين أوسط الشام على خط مستقيم والجانب الغربي من بلاد الشام التي هي أرض وفلسطين يكون عن يمين من يستقبل بالمدينة الكعبة والجانب الشرقي الذي هو حمص وحلب وماو إلى ذلك واقع عن يسار من استقبل الكعبة بالمدينة والمدينة واقعة في أواسط بلاد الشام على جهة مستقيمة بحيث لو خرج خط من الكعبة ومر على استقامة إلى المدينة النبوية لنفذ منها إلى أوسط جهة الشام سواء وكذلك لو خرج خط من مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوجه على استقامة لوقع فيما بين الميزاب من الكعبة وبين الركن الشامي فلو فرضنا أن الخط خرق الموضع الذي وقع فيه من الكعبة ومر لنفذ إلى بيت المقدس على استواء من غير ميل ولا انحراف البتة وصار موقع هذا الخط فيما بين نكباء الشمال والدبور وبين القطب الشمالي‏.‏

وهو إلى القطب الشمالي أقرب وأميل ومقابلته ما بين أوسط الجنوب ونكباء الصبا والجنوب وهو إلى الجنوب أقرب والمدينة النبوية مشرقة عن هذا السمت ومغربة عن سمت الجانب الآخر من بلاد الشام وهو الجانب الغربي تغريبًا يسيرًا فمن يستقبل مكة بالمدينة يصير المشرق عن يساره والمغرب عن يمينه وما بينهما فهو قبلته وتكون حينئذ الشام بأسرها وجملة بلادها خلفه فالمدينة على هذا في أوسط جهات البلاد الشامية‏.‏

ويشهد بصدق ذلك ما رويناه من طريق مسلم رحمه الله عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال‏:‏ رقيت على بيت أختي حفصة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدًا لحاجته مستقبل الشام مستدبر القبلة وله أيضًا من حديث ابن عمر بينا الناس في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستدار إلى الكعبة‏.‏

فهذا أعزك الله أوضح دليل أن المدينة مكة والشام على حد واحد وأنها في أوسط جهة بلاد الشام فمن استقبل بالمدينة الكعبة فقد استدبر الشام ومن استدبر بالمدينة الكعبة فقد استقبل الشام ويكون حينئذ الجانب الغربي من بلاد الشام وما على سمته من البلاد جهة القبلة عندهم أن يجعل الواقف مشرق الصيف عن يساره ومغرب الشتاء عن يمينه فيكون ما بين قبلته وتكون قبلة الجانب الشرقي من بلاد الشام وما على سمت ذلك من البلدان أن يجعل المصلي مغرب الصيف عن يمينه ومشرق الشتاء عن يساره وما بينهما قبلته ويكون أوسط البلاد الشامية التي هي حد المدينة النبوية قبلة المصلي بها أن يجعل مشرق الاعتدال عن يساره ومغرب الاعتدال عن يمينه وما بينهما قبلة له فهذا أوضح استدلال على أن الحديث خاص بأهل المدينة وما على سمتها من البلاد الشامية وما وراءها من البلدان المسامتة لها‏.‏

وهكذا أهل اليمن وما على سمت اليمن من البلاد فإن القبلة واقعة فيما هنالك بين المشرق والمغرب لكن على عكس وقوعها في البلاد الشامية فإنه تصير مشارق الكواكب في البلاد الشامية التي على يسار المصلي واقعة عن يمين المصلي في بلاد اليمن وكذلك كل ما كان من المغرب عن يمين المصلي بالشام فإنه ينقلب عن يسار المصلي باليمن وكل من قام ببلاد اليمن مستقبلًا الكعبة فإنه يتوجه إلى بلاد الشام فيما بين المشرق والمغرب وهذه الأقطار سكانها هم المخاطبون بهذا الحديث وحكمه لازم لهم وهو خاص بهم دون من سواهم من أهل الأقطار السبب الثاني‏:‏ في اختلاف محاريب مصر أن الديار المصرية افتتحها المسلمون كانت خاصة بالقبط والروم مشحونة بهم ونزل الصحابة رضي الله عنهم من أرض مصر في موضع الفسطاط الذي يعرف اليوم بمدينة مصر وبالإسكندرية وتركوا سائر قرى مصر بأيدي القبط كما تقدم في موضعه من هذا الكتاب ولم يسكن أحد من المسلمين بالقرى وإنما كانت رابطة تخرج إلى الصعيد حتى إذا جاء أوان الربيع انتشر الأتباع في القرى لرعي الدواب ومعهم طوائف من السادات ومع ذلك فكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينهي الجند عن الزرع ويبعث إلى أمراء الأجناد بإعطاء الرعية أعطياتهم وأرزاق عيالهم وينهاهم عن الزرع‏.‏

روى الإمام أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن الحكم في كتاب فتوح مصر من طريق ابن وهب عن حيوة بن شريح عن بكر بن عمر وعن عبد الله بن هبيرة‏:‏ أن عمر ببن الخطاب أمر بناذرة أن يخرج إلى أمراء الأجناد يتقدمون إلى الرعية أن عطائهم قائم وأن أرزاق عيالهم سابل فلا يزرعون‏.‏

قال ابن وهب‏:‏ وأخبرني شريك بن عبد الرحمن المرادي قال‏:‏ بلغنا أن شريك بن سمي الغطفاني أتى إلى عمرو بن العاص فقال إنكم لاتعطونا ما يحاسبنا أفتأذن لي بالزرع فقال له عمرو‏:‏ ما أقدر على ذلك‏.‏

فزرع شريك من غير إذن عمرو فلما بلغ ذلك عمرًا كتب إلى عمر بن الخطاب يخبره أن شريك بن سمي الغطفاني حرث بأرض مصر فكتب إليه عمر أن ابعث إلى به فلما انتهى كتاب عمر إلى عمرو أقرأه شريكًا فقال شريك لعمرو‏:‏ وقتلتني يا عمرو‏.‏

فقال ما أنا بالذي قتلتك أنت صنعت هذا بنفسك‏.‏

فقال له‏:‏ إذا كان هذا من رأيك فإذن لي بالخروج من غير كتاب ولك علي عهد الله أن أجعل يدي في يده فأذن له بالخروج فلما وقف على عمر قال‏:‏ تؤمنني يا أمير المؤمنين قال‏:‏ ومن أي الأجناد أنت قال من جند مصر قال‏:‏ فلعلك شريك بن سمي الغطفاني قال‏:‏ نعم يا أمير المؤمنين‏.‏

قال‏:‏ لأجعلنك نكالًا لمن خلفك‏.‏

قال‏:‏ مني ما قبل الله تعالى من العباد قال وتفعل قال‏:‏ فكتب إلى عمرو بن العاص أن شريك بن سمي جاءني تائبًا فقبلت منه‏.‏

قال‏:‏ وحدثنا عبد الله بن صالح بن عبد الرحمن شريح عن أبي قبيل قال كان الناس يجتمعون بالفسطاط إذا قفلوا فإذا حضر مرافق الريف خطب عمرو بن العاص الناس فقال‏:‏ قد حضر مرافق الريف ربيعكم فانصرفوا فإذا حمض اللبن واشتد العود وكثر الذباب فحي على فسطاطكم ولا أعلمن ما جاء أحد قد أسمن نفسه وأهزل جواده‏.‏

وقال ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب قال‏:‏ كان عمرو يقول للناس إذا قفلوا من غزوهم‏:‏ أنه قد حضر الربيع فمن أحبر منكم أن يخرج بفرسه يربعه فليفعل ولا أعلمن ما جاء أحد قد أسمن نفسه وأهزل فرسه فإذا حمض اللبن وكثر الذباب ولوى العود فارجعوا إلى قيروانكم‏.‏

وعن ابن لهيعة عن الأسود بن مالك الحميري عن بجير بن ذاخر المعافري قال‏:‏ رحت أنا ووالدي إلى صلاة الجمعة تهجيرًا وذلك بعد حميم النصارى بأيام يسيرة فأطلنا الركوع إذا أقبل رجال بأيديهم السياط يزجرون الناس فذعرت فقلت يا أبت من هؤلاء فقال‏:‏ يا بني هؤلاء الشرط فأقام المؤذنون الصلاة فقام عمرو بن العاص على المنبر فرأيت رجلًا ربعه قصير القامة وافر الهامة أدعج أبلج عليه ثياب موشاة كأن به العقبان تألق عليه حلة وعمامة وجبة فحمد الله وأثنى عليه حمدًا موجزًا وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ووعظ الناس وأمرهم ونهاهم فسمعته يحض على الزكاة وصلة الأرحام ويأمر بالاقتصاد وينهي عن الفضول وكثرة العيال وإخفاض الحال في ذلك فقال‏:‏ يا معشر الناس إياكم وخلالًا أربعًا فإنها تدعو إلى النص بعد الراحة وإلى الذلة بعد العزة إياكم وكثرة العيال وإخفاض الحال وتضيع المال والقيل بعد القال في غير درك ولا نوال‏.‏

ثم أنه لابد من فاغ يؤول إليه المرء في توديع جسمه والتدبير لشأنه وتخليته بين نفسه وبين شهواتها ومن صار إلى ذلك فليأخذ بالقصد والنصب الأقل ولا يضيع المرء في فراغه نصيب العلم من نفسه فيجوز من الخير عاطلًا وعن حلال الله وحرامه غافلًا‏.‏

يا معشر الناس‏:‏ إنه قد تدلت الجوزاء وذلت الشعري وأقلعت السماء وارتفع الوباء وقل الندى وطاب المرعى ووضعت الحوامل ودرجت السخائل وعلى الراعي بحسن رعيته حسن النظر فحي لكم على بركة الله تعالى إلى ريفكم فنالوا من خيره ولبنه وخرافه وصيده واربعوا خيلكم وأسمنوها وصنونوها وأكرموها فإنها جنتكم من عدوكم وبها مغانمكم وأنفالكم واستوصوا بمن جاورتموه من القبط خيرًا وإياكم والمومسات المعسولات فإنهن يفسدون ويقصرن الهمم‏.‏

حدثني عمر أمير المؤمنين أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ إن الله سيفتح عليكم بعدي مصر فاستوصوا بقطبها خيرًا فإن لهم فيكم صهرًا وذمة فكفوا أيديكم وعفوا فروجكم وغضوا أبصاركم ‏"‏‏.‏

ولاأعلمن ما أتى رجل قد أسمن جسمه وأهزل فرسه واعلموا أني معترض الخيل كاعتراض الرجال فمن أهزل فرسه من غير علة حططته من فريضة قدر ذلك واعلموا أنكم في رباط إلى يوم القيامة لكثرة الأعداء حولكم وتشوق قلوبهم إليكم وإلى داركم معدن الزرع والمال والخير الواسع والبركة النامية وحدثني عمر أمير المؤمنين أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا فيها جندًا كثيفًا فذلك الجند خير أجناد الأرض ‏"‏ فقال له أبو بكر رضي الله عنه‏:‏ ولم يارسول الله قال‏:‏ ‏"‏ لأنهم وأزواجهم في رباط إلى يوم القيامة ‏"‏ فاحمدوا الله معشر الناس على ما أولاكم فتمتعوا في ريفكم ما طاب لكم فإذا يبس العود وسخن الماء وكثرت الذباب وحمض اللبن وصوح البقل وانقطع الورد من الشجر فحي إلى فسطاطكم على بركة الله ولايقدمن أحد منكم ذو عيال إلا ومعه تحفة لعيله على ما أطاق من سعته أو عسرته أقول قولي هذا واستحفظ الله عليكم‏.‏

قال فحفظت ذلك عنه‏.‏

فقال والدي بعد انصرافنا إلى المنزل لما حكيت له خطبته أنه يابني يحذر الناس إذا انصرفوا إليه على الرباط كما حذرهم على الريف والدعة‏.‏

قال‏:‏ وكان إذا جاء وقت الربيع كتب لكل قوم بربيعهم ولبنهم إلى حيث أحبوا وكانت القرى التي يأخذ فيها معظمهم منوف وسمنود وأهناس وطحا زكان أهل الراية متفرقين فكان آل عمرو بن العاص وآل عبد الله بن سعد يأخذون في منوف ووسيم وكانت هذيل تأخذ في ببا وبوصير وكانت عدوان تأخذ في بوصير وقرى عك والذي يأخذ فيه معظمهم بوصير ومنوف وسندبيس وارتيب وكانت بلى تأخذ في منف وطرانية وكانت فهم تأخذ في اتريب وعين شمس ومنوف وكانت مهرة تأخذ في مناونمي وبسطه ووسسم وكانت لخم تأخذ في الفيوم وطرانية وقربيط وكانت جذام تأخذ في قربيط وطرانية وكانت حضر موت تأخذ في ببا وعين شمس واتريب وكانت مراد تأخذ في منف والفيوم ومعهم عبس بن زوف وكانت حمير تأخذ في بوصير وقرى أهناس وكانت خولان في قرى أهناس والقيس والبهنسا وآل وعلة يأخذون في سفط من بوصير وآل ابرهة يأخذون في منف وغفار وأسلم يأخذون مع وائل من جذام وسعد في بسطة وقربيط وطرانية وآل يسار بن ضبة في باتريب‏.‏

قال‏:‏ وأقامت مدلج بخربت فاتخذوها منزلًا وكان معهم نفر من حمير حالفوهم فيها فهي منازلهم‏.‏

ورجعت خيشن وطائف من لخم وجذام فنزلوا أكناف ضان وأبليل وطرانية ولم تكن قيس بالخوف الشرقي قديمًا وإنما أنزلهم به ابن الحبحاب وذلك أنه وفد إلى هشام بن عبد الملك فأمر له بفريضة خمسة آلاف رجل فجعل ابن الحبحاب الفريضة في قيس وقدم بهم فأنزهم الجوف الشرقي بمصر فانظر أعزك الله ما كان عليه الصحابة وتابعوهم عند فتح مصر من قلة السكنى بالريف ومع ذلك فكانت القرى كلها في الإقليم أعلاه وأسفله مملوءة بالقبط والروم ولم ينتشر إلا بعد المائة من تاريخ الهجرة وعندما أنزل عبيد الله بن الحبحاب مولى سلول قيسًا بالخوف الشرقي فلما كان المائة الثانية من سني الهجرة كثر انتشار المسلمين بقرى مصر ونواحيها وما برحت القبط تنقض وتحارب المسلمين إلى ما بعد المائتين من سني الهجرة‏.‏

قال أبو عمرو محمد بن يوسف الكندي في كتاب أمراء مصر‏:‏ وفي إمرة الحر بن يوسف أمير مصر كتب عبيد الله بن الحبحاب صاحب خراج مصر إلى هشام بن عبد الملك بأن أرض مصر تحتمل الزيادة فزاد على كل دينار قيراطًا فنقضت كورة تنو ونمى وقريط وطرانية وعامة الحوف الشرقي فبعث إليهم الحر بأهل الديون فحاربهم فقتل منهم خلق كثير وذلك أول نقض القبط بمصر وكان نقضهم في سنة تسع ومائة ورابط الحر بن يوسف بدمياط ثلاثة أشهر ثم نقض أهل الصعيد وحارب القبط عمالهم في سنة إحدى وعشرين ومائة فبعث إليهم حنظلة بن صفوان أمير مصر أهل الديون فقتلوا من القبط ناسًا كثيرًا فظفر بهم وخرج بحنس وهو رجل من القبط من سنود فبعث إليه عبد الملك بن مروان موسى بن نصير أمير مصر فقتل بحنس في كثير من أصحابه وذلك في سنة اثنتين وثلاثين ومائة وخالفت القبط أيضًا برشيد فبعث إليهم مروان بن محمد الحمار لما دخل مصر فارًا من بن المهلب بن أبي صفرة أمير مصر بناحية سخا ونابذوا العمال وأخرجوهم في سنة خمسين ومائة وصاروا إلى شبراسنباط وانضم إليهم أهل البشرود والأوسية والنخوم فأتى الخبر يزيد بن حاتم فعقد لنصر بن حبيب المهلبي على أهل الديوان ووجوه أهل مصر فخرجوا إليهم ولقيهم القبط من وقتلوا من المسلمين فألقى المسلمون النار في عسكر القبط وانصرف العسكر إلى مصر منهزمًا‏.‏

 ولاية موسى بن علي بن رباح على مصر

وفي ولاية موسى بن علي بن رباح على مصر

خرج القبط ببهليت في سنة ست وخمسين ومائة فخرج إليهم عسكر فهزمهم ثم نقضت القبط في جمادى الأولى سنة ست عشرة ومائتين مع من نقض من أهل أسفل الأرض من العرب وأخرجوا العمال وخلعوا الطاعة لسوء لسوء سيرة العمال فيهم فكانت بينهم وبين الجيوش حروب امتدت إلى أن قدم الخليفة عبد الله أمير المؤمنين المأمون إلى مصر لعشر خلون من المحرم سنة سبع عشرة ومائتين فعقد على جيش بعث به إلى الصعيد وارتحل هو إلى سخاء وأوقع الإفشين بالقيط في ناحية البشرود حتى نزلوا على حكم أمير المؤمنين فحكم بقتل الرجال وبيع النساء والأطفال فبيعوا وسبي أكثرهم وتتبع كل من يومًا إليه بخلاف فقتل ناسًا كثيرًا ورجع إلى الفسطاط في صفر ومضى إلى حلوان وعاد لثمان عشرة خلت من صفر فكان مقامه بالفسطاط وسخا وحلوان تسعة وأربعين يومًا‏.‏

فانظر أعزك الله كيف كانت إقامة الصحابة إنما هي بالفسطاط والإسكندرية وأنه لم يكن لهم كثير إقامة بالقرى وأن النصارى كانوا متمكنين من القرى والمسلمون بها قليل وأنهم لم ينتشروا بالنواحي إلا بعد عصر الصحابة والتابعين يتبين لك أنهم لم يؤسسوا في القرى والنواحي مساجد وتفطن لشيء آخر وهو أن القبط مابرحوا كما تقدم يثبتون لمحاربة المسلمين دالة منهم بما هم عليه من القوة لما قتلوا منهم وسبوا وجعلوا عدة من كنائس النصارى مساجد ن وكنائس النصارى مؤسسة على استقبال المشرق المغرب وزعمًا منهم أنهم أمروا باستقبال مشرق الإعتدال وأنه الجنة لطلوع الشمس منه فجعل المسلمون ابواب الكنائس محاريب عندما غلبوا عليها‏.‏

وصيروها مساجد فجاءت موازية لخط نصف النهار وصارت منحرفة عن محاربي الصحابة انحرافًا كثيرًا يحكم بخطئها وبعدها عن الصواب كما تقدم‏.‏

السبب الثالث‏:‏ تساهل كثير من الناس في معرفة أدلة القبلة حتى أنك لتجد كثيرًا من الفقهاء لايعرفون منازل القمر صورة وحسابًا وقد علم من له ممارسة بالرياضيات أن بمنازل القمر يعرف وقت الفجر في المنازل وناهيك بما يترتب على معرفة ذلك من أحكام الصلاة والصيام وهذه المنازل التي للقمر من بعض ما يستدل به على القبلة والطرقات وهي من مبادئ العلم وقد جهلوه فمن أعوزه الأدنى فخري به أن يجهل ما هو أعلى منه وأدق‏.‏

السبب الرابع‏:‏ الإعتذار بنجم سهيل فإن كثيرًا ما يقع الإعتذار عن مخالفة محاريب المتأخرين بأنها بنيت على مقابلة سهيل ومن هناك يقع الخطأ فإن هذا أمر يحتاج فيه إلى تحرير وهو أن دائرة سهيل مطلعها جنوب مشرق الشتاء قليلًا وتوسطها في أوسط الجنوب وغروبها يميل عن أوسط الجنوب قليلًا فلعل من تقدم من السلف أمر ببناء المساجد في القرى على مقابلة مطالع سهيل ومطلعه في سمت قبلة مصر تقريبًا فجهل من قام بأمر البنيان فرق ما بين مطالع سهيل وتوسطه وغروبه وتساهل فوضع المحراب على مقابلة توسط سهيل وهو أوسط الجنوب فجاء المحراب حينئذ منحرفًا عن السمت الصحيح انحرافًا لا يسوغ التوجه إليه البتة‏.‏

السبب الخامس‏:‏ أن المحاريب الفاسدة بديار مصر أكثرها في البلاد الشمالية التي تعرف بالجه البحري والذي يظهر أن الغلط من وضعها من جهة ظنه أن هذه البلاد لها حكم بلاد الشام وذلك أن بلاد مصر التي في الساحل كثيرة الشبه ببلاد الشام في كثرة أمطارها وشدة بردها وحسن فواكهها فاستطرد الشبه حتى في المحاريب ووضعها على سمت المحاريب الشامية فجاء شيئًا خطأ وبيان ذلك أن هذه البلاد ليست بشمالية عن الشام حتى يكون حكمها في استقبال الكعبة كالحكم في البلاد الشامية بل هي مغزية عن الجانب الغربي من الشام بعدة أيام وسمتاهما مختلفان في استقبال الكعبة لاختلاف القطرين فإن الجانب الغربي نمن الشام كما تقدم يقابل ميزاب الكعبة على خط مستقيم وهو حيث مهب النكباء التي بين الشمال والدبور ووسط الشام كدمشق وما والاها شمال مكة من غير ميل وهم يستقبلون أواسط الجنوب في صلاتهم بحيث يكون القطب الشمالي المسمى بالجدي وراء ظهورهم والمدينة النبوية بين هذا الحد من الشام وبين مكة مشرقة عن هذا الحد قليلًا فإذا كانت مصر مغربة عن الجانب الغربي من الشام بأيام عديدة تعين ووجب أن تكون محاربيها ولا بد مائلة إلى جهة المرق بقدر بعد مصر وتغريبها عن أوسط الشام وهذا أمر يدركه الحس ويشهد لصحته العيان وعلى ذلك أسس الصحابة رضي الله عنهم المحاريب بدمشق وبيت المقدس مستقبلة ناحية الجنوب فرض رحمه الله نفسك في التمييز وعود نظرك التأمل وأربأ بنفسك أن تقاد البهيمة بتقليدك من لايؤمن عليه الخطأ‏.‏

فقد نهجت لك السبيل في هذه المسألة وألنت لك من القول وقربت لك حتى كأنك تعاين الأقطار وكيف موقعها من مكة‏.‏

ولي هنا مزيد بيان فيه الفرق بين إصابة العين وإصابة الجهة وهو أن المكلف لو وقف وفرضنا أنه خرج خط مستقيم من بين عينيه ومر حتى اتصل بجدار الكعبة من غير ميل عنها إلى غيره إن كان لا ينحرف عن مقابلته فلو امتداد خطين من كلا عيني الواقف بحيث يلتقيان في باطن الرأس على زواية مثلثة ويتصلان بما انتهى إليه البصر من كلا الجانبين لكان ذلك شكلًا مثلثًا يقسمه الخط الخارج من بين العينين إلى الكعبة بنصفين حتى يصير ذلك الشكل بين مثلثين متساويين فالخط الخارج من بين عيني مستقبل الكعبة الذي فرق بين الزاويتين هو مقابلة العين التي اشترط الشافعي رحمه الله وجوب استقباله من الكعبة عند الصلاة ومنتهى مالايكشف بصر المستقبل من الجانبين هو حد مقابلة الجهة التي قال جماعة من علماء الشريعة بصحة استقباله في الصلاة والخطان الخارجان من العينين إلى طرفيه همنا آخر الجهة من اليمين والشمال فمهما وقعت صلاة المستقبل على الخط الفاصل بين الزاويتين كان قد استقبل عين الكعبة ومهما وقعت صلاته منحرفة عن يمين الخط أو يساره بحيث لا يخرج استقباله عن نتهى حد الزاويتين المحدودتين بما يكشف بصره من الجانبين فإنه مستقبل الكعبة وإن خرج استقباله عن حد الزاويتين من أحد الجانبين فإنه يخرج في استقباله عن حد جهة الكعبة وهذا الحد في الجهة يتسع ببعد المدى ويضيق بقربه فأقصى ما ينتهي إليه سعة تلك الجهة ربع دائرة الأفق وذلك أن الجهات المعتبرة في الاستقبال أربع المشرق والمغرب والجنوب والشمال فمن استقبل جهة من هذه الجهات كان أقصى ما ينتهي إليه سعة تلك الجهة ربع دائرة الأفق وإن انكشف لبصره أكثر من ذلك فلال عبرة به من أجل ضرورة تساوي الجهات فإنا لو فرضنا إنسانًا وقف في مركز دائرة واستقبال أربع المشرق والمغرب والجنوب والشمال فمن استقبل جهة من هذه الجهات كان أقصى ما ينتهي إليه سعة تلك الجهة ربع دائرة الأفق وإن انكشف لبصره أكثر من ذلك فلا عبرة به من أجل ضرورة تساوي الجهات فإنا لو فرضنا إنسانًا وقف في مركز دائرة واستقبل جزأ من محيط الدائرة لكانت كل جهة من جهاته الأربع التي هي وراء وأمامه ويمينه وشماله تقابل ربعًا من أرباع الدائرة فتبين بما قلنا أن أقصى ما ينتهي إليه اتساع الجهة قدر ربع دائرة الأفق فأي جزء من أجزاء دائرة الأفق قصده الواقف بالاستقبال في بلد من البلدان كانت جهة ذلك الجزء المستقبل ربع دائرة الأفق وكان الخط الخارج من بين عيني الواقف إلى وسط تلك الجهة هو مقابلة العين ومنتهى الربع من جانبيه يمنة ويسرة هو منتهى الجهة التي قد استقبلها فما خرج من محاريب بلد من البلدان عن حد جهة الكعبة لا تصح الصلاة لذلك المحراب بوجه من الوجوه وما وقع في جهة الكعبة صحت الصلاة إليه عند من يرى أن الفرض إليه الأسد الأفضل الأولى عند الجمهور‏.‏

وإن أنصفت علمت أنه مهما وقع الاستقبال في مقابلة جهة الكعبة فإنه يكون سديدًا وأقرب منه إلى الصواب ما وقع قريبًا من مقابلة العين يمنة أو يسرة بخلاف ما وقع بعيدًا عن مقابلة العين فإنه بعيد من الصواب ولعله هو الذي يجري فيه الخلاف بين علماء الشريعة والله أعلم‏.‏

وحيث تقرر الحكم الشرعي بالأدلة المعية والبراهين العقلية في هذه المسألة فاعلم أن المحاريب المخالفة لمحاريب المخالفة لمحاريب الصحابة التي بقرافة مصر وبالجه البحري من ديار مصر واقعة في آخر جهة الكعبة من مصر وخارجه عن حد الجهة وهي مع ذلك في مقابلة ما بين البجة والنوبة لافي مقابلة الكعبة فإنها منصوبة على موازاة خط نصف النهار ومحاريب الصحابة على موازاة مشرق الشتاء تجاه مطالع العقرب مع ميل يسير عنها إلى ناحية الجنوب فإذا جعلنا مشرق الشتاء المذكور مقابلة عين الكعبة لأهل مصر وفرضنا جهة ذلك الجزء ربع دائرة الأفق صار سمت المحاريب التي هي موازية لخط نصف النهار خارجًا عن جهة الكعبة والذي يستقبلها في الصلاة يصلي إلى غير شطر المسجد الحرام وهو خطر عظيم فاحذره‏.‏

واعلم أن صعيد مصر واقع في جنوب مدينة مصر وقوص واقعة في شرقي الصعيد وفيما بين مهب ريح الجنوب والصبا من ديار مصر فالمتوجه من مدينة قوص إلى عيذاب يستقبل مشرق الشتاء سواء إلى أن يصل إلى عيذاب حتى ينتهي في البحر إلى جدة فإذا سار من جدة في البر استقبل المشرق كذلك حتى يحل بمكة فإذا عاد من مكة استقبل المغرب فاعرف من هذا أن مكة واقعة في النصف الشرقي من الربع الجنوبي بالنسبة إلى أرض مصر وهذا هو سمت محاريب الصحابة التي بديار مصر والإسكندرية وهو الذي يجب أن يكون سمت جميع محاريب إقليم مصر‏.‏

برهان آخر‏:‏ وهو أن من سار من مكة يريد على الجادة فإنه يستقبل ما بين القطب الشمالي الذي هو الجدي وبين مغرب الصيف مدة يومين وبعض اليوم الثالث وفي هذه المدة يكون مهب النكباء التي بين الشمال والمغرب تلقاء وجهه ثم يستقبل بعد ذلك في مدة ثلاثة أيام أوسط الشمال بحيث يبقى الجدي تلقاء وجهه إلى أن يصل إلى بدر فإذا سار من بدر إلى المدينة النبوية صار مشرق الصيف تلقاء وجهه تارة ومشرق الإعتدال تارة إلى أن ينتهي إلى المدينة فإذا رجع من المدينة إلى الصفراء استقبل مغرب الشتاء إلى أن يعدل إلى ينبع فيصير تارة يسير شمالًا وتارة يسير مغربًا ويكون ينبع من مكة على حد النكباء التي بين الشمال ومغرب الصيف فإذا سار من ينبع استقبل مابين الجدي ومغرب الثريا وهو مغرب الصيف وهبت النكباء تلقاء وجهه إلى أن يصل إلى مدين فإذا سار من مدين استقبل تارة الشمال وأخرى مغرب الصيف حتى يدخل إيلة ومن إيلة لايزال يستقبل مغرب الإعتدال تارة ويميل عنه إلى جهة الجنوب مع استقبال مغرب الشتاء أخرى إلى أن يصل إلى القاهرة ومصر فلو فرضنا خطأ خرج من محاريب مصر الصحيحة التي وضعها الصحابة ومر على استقامة من غير ميل ولاانحراف لاتصل بالكعبة ولصق بها‏.‏

واعلم أن أهل مصر والإسكندرية وبلاد الصعيد وأسفل الأرض وبرقة وإفريقية وطرابلس المغرب وصقلية والأندلس وسواحل المغرب إلى السوس الأقصى والبحر المحيط وما على سمت هذه البلاد يستقبلون في صلاتهم من الكعبة ما بين الركن الغربي إلى الميزاب وما على سمت هذه البلاد يستقبل الكعبة في شيء من هذه البلاد فليجعل بنات نعش إذا غربت خلف كتفه الأيسر وإذا طلعت على صدغه الأيسر ويكون الجدي على أذنه اليسرى ومشرق الشمس تلقاء وجهه أو ريح الشمال خلف أذنه اليسرى أو ريح الدبور خلف كتفه الأيمن أو ريح الجنوب التي تهب من ناحية الصعيد على عينه اليمنى فإنه حينئذ يستقبل من الكعبة سمت محاريب الصحابة الذين آمرنا الله بإتباع سبيلهم ونهانا عن مخالفتهم بقوله عز وجل‏:‏ ‏"‏ ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ماتولى ونصله جهنم وساءت مصيرا ‏"‏ النساء 155‏.‏

ألهمنا الله بمنه اتباع طريقهم وصيرنا بكرمه من حزبهم وفريقهم إنه على كل شيء قدير‏.‏

جامع العسكر هذا الجامع بظاهر مصر وهو حيث الفضاء الذي هو اليوم فيما بين جامع أحمد بن طولون وكوم الجارح بظاهر مدينة مصر وكان إلى جانب الشرطة والدار التي يسكنها أمراء مصر ومن هذه الدار إلى الجامع باب وكان يجمع فيه الجمعة وفيه منبر ومقصرة وهذا الجامع بناه الفضل بن صالح بن علي بن عبد الله بن عباس في ولايته إمارة مصر ملاصقًا لشرطة العسكر التي كانت يقال لها الشرطة العليا في سنة تسع وستين ومائة فكانوا يجمعون فيه وكانت ولاية الفضل إمارة مصر من قبل المهدي محمد بن أبي جعفر المنصور على الصلاة والخراج فدخلها سلخ المحرم سنة تسع وستين ومائة في عسكر من الجند عظيم أتى بهم من الشام ومصر تضطرم لما كان في الحوف ولخروج دحية بن مصعب بن الأصبع بن عبد العزيز بن مروان فقام في ذلك وجهز الجنود حتى أسر دحية وضرب عنقه في جمادى الآخرة من السنة المذكورة وكان يقول أنا أولى الناس بولاية مصر لقيامي في أمر دحية وقد عجز عنه غيري حتى كفيت أهل مصر أمره فعزله موسى الهادي لما استخلف بعد موت أبيه المهدي بعدما أقره فندم الفضل على قتل دحية وأظهر توبة وسار إلى بغداد فمات عن خمسين سنة في سنة اثنتين وسبعين ومائة ولم يزل الجامع بالعسكر إلى بغداد فمات عن خمسين سنة في سنة اثنتين وسبعين ومائة ولم يزل الجامع بالعسكر إلى أن ولي عبد الله بن ظاهر بن الحسين بن مصعب مولى خزاعة على صلاة مصر وخراجها من قبل عبد الله أمير المؤمنين المأمون في ربيع الأول سنة إحدى عشرة ومائتين فزاد في عمارته وكان الناس يصلون فيه الجمعة قبل بناء جامع أحمد بن طولون ولم يزل هذا الجامع بالعسكر إلى ما بعد الخمسمائة من سني الهجرة‏.‏

قال ابن المأمون في تاريخه من حوادث سنة سبع عشرة وخمسمائة وكان يطلق في الأربع ليالي الوقود وهي مستهل رجب ونصفه ومستهل شعبان ونصفه برسم الجوامع الستة الأزهر والأنور والأقمر بالقاهرة والطولوني والعتيق بمصر وجامع القرافة والمشاهد التي تتضمن الأعضاء الشريفة وبعض المساجد التي يكون لأربابها وجاهة جملة كثيرة من الزيت الطيب ويختص بجامع راشدة وجامع ساحل الغلة بمصر والجامع بالمقس يسير ويعني بجامع ساحل الغلة جامع العسكر فإن العسكر حينئذ كان قد خرب وحملت أنقاضه وصار الجامع بساحل مصر وهو الساحل القديم المذكور في موضعه من هذا الكتاب‏.‏

العسكر كان العسكر في صدر الإسلام يعرف بعد الفتح بالحمراء القصوى وهي كما تقدم خطة بني الأزرق وخطة بني روبيل وخطة بني يشكر بن جزيلة من لخم ثم دثرت هذه الحمراء وصارت صحراء فلما زال زالت دولة بني أمية ودخلت المسودة إلى مصر في طلب مروان بن محمد الجعدي في سنة ثلاث وثلاثين ومائة وهي خراب فضاء يعرف بعضه بجبل يشكر نزل صالح بن علي بن عبد الله بن عباس وأبو عون عببد الله بن يزيد بعسكرهما في هذا الفضاء وامرر عبد الملك أبو عون أصحابه بالبناء فيه فبنوا‏.‏

وسمي من يومئذ بالعسكر وصار أمراء مصر إذا قدموا ينزلون فيه من بعد أبي عون‏.‏

وقال الناس من عهده كنا بالعسكر خرجنا إلى العسكر وكنت في العسكر فصارت مدينة الفسطاط والعسكر ونزل الأمراء من عهد أبي عون بالعسكر فلما ولي يزيد بن حاتم إمارة مصر وقام علي بن محمد عبد الله بن حسن وطرق المسجد كتب أبو جعفر المنصور إلى يزيد بن حاتم يامره أن يتحول من العسكر إلى الفسطاط وأن يجعل اليوان في كنائس القصر وذلك في سنة ست وأربعين ومائة إلى أن قدم الأمير أبو العباس أحمد بن طولون من العراق أميرًا على مصر فنزل بالعسكر بدار إمارة التي بناها صالح بن علي بعد هزيمة مروان وقتله وكان لها باب إلى الجامع الذي بالعسكر وكان الأمراء ينزلون بهذه الدار إلى أن نزلها أحمد بن طولون ثم تحول منها إلى القطائع وجعلها أبو الجيش خماروية بن أحمد بن طولون عند إمارته على مصر ديوانًا للخراج ثم فرقت حجرًا حجرًا بعد دخول محمد بن سليمان الكاتب إلى مصر وزوال دولة بني طولون وسكن محمد بن سليمان أيضًا بدار في العسكر عند المصلى القديم ونزلها الأمراء من بعده إلى أن ولي الإخشيد محمد بن طفج فنزل بالعسكر أيضًا ولما بني أحمد بن طولون القطائع اتصلت مبانيها بالعسكر وبني الجامع على جبل يشكر فعمر ما هناك عمارة عظيمة بحيث كانت هناك دار على بركة قارون أنفق عليها كافور الإخشيدي مائة ألف دينار وسكنها وكان هناك مارستان أحمد بن طولون أنفق عليه وعلى مستغله ستين ألف دينار‏.‏

وقدمت عساكر المعز لدين الله وغلامه جوهر القائد في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة والعسكر عامر غير أنه منذ بني أحمد بن طولون القطائع هجر اسم العسكر وصار يقال مدينة الفسطاط والقطائع فلما خرب محمد ببن سليمان الكاتب قصر ابن طولون وميدانه كما ذكر في موضعه من هذا الكتاب صارت القطائع فيها المساكن الجليلة حيث كان العسكر وأنزل المعز لدين الله أبا علي في دار الإمارة فلم يزل أهله بها إلى أن خربت القطائع في الغلاء الكائن بمصر في خلافة المستنصر أعوام بضع وخمسين وأربعمائة‏.‏

فيقال أنه كان هنالك ما ينيف على مائة ألف دار ولا ينكر ذلك فانظر ما بين سفح الجبل حيث القلعة الآن وبين ساحل مصر القديم الذي يعرف اليوم بالكبارة ومابين كوم الجارح من مصر وقناطر السباع فهنالك كانت القطائع والعسكر ويخص العسكر من ذلك ما بين قناطر السباع وحدرة ابن قميحة إلى كوم الجارح حيث الفضاء الذي يتوسط فيما بين قنطرة السد وباب المخدم من جهة القرافة فهناك كان العسكر ولما استولى الخراب في المحنة زمن المستنصر أمر الوزير الناصر للدين عبد الرحمن البازوري ببناء حائط يستر الخراب إذا توجه الخليفة إلى مصر فيما بين العسكر والقطائع وبين الطريق وأمر فبنى حائط آخر عند جامع ابن طولون فلما كان في الخلافة الآمر بأحكام الله أبي علي منصور بن المستعلي بالله أمر وزيره أبو عبد الله محمد بن فاتك المنعوت بالمأمون البطايحي فنودي مدة ثلاثة أيام في القاهرة ومصر بأن من كان دار الخراب أو مكان يعمره ومن عجز عن عمارته يبيعه أو يؤجره من غير نقل شيء من أنقاضه ومن تأخر بعد ذلك فلا حق له ولا حكر يلزمه وأباح تعمير جميع ذلك بغير طلب حق فعمر الناس ما كان منه مما يلي القاهرة من حيث مشهد السيدة نفيسة إلى ظاهر باب زويلة ونقلت أنقاض العسكر فصار الفضاء الذي يوصل إليه من مشهد السيدة نفيسة ومن الجامع الطولوني ومن قنطرة السد ويسلك فيه إلى حيث كوم الجارح‏.‏

والعامر الآن من العسكر جبل إن شاء الله تعالى‏.‏

جامع ابن طولون ذا الجامع موضعه يعرف بجبل يشكر قال ابن عبد الظاهر وهو مكان مشهور بإجابة الدعاء وقيل أن موسى عليه السلام ناجى ربه عليه بكلمات‏.‏

وابتدأ في بناء هذا الجامع الأمير أبو العباس أحمد بن طولون بعد بناء القطائع في سنة ثلاث وستين ومائتين‏.‏

قال جامع السيرة الطولونية‏:‏ كان أحمد بن طولون يصلى الجمعة في المسجد القديم الملاصق للشرطة فلما ضاق عليه بنى الجامع الجديد مما أفاء الله عليه من المال الذي وجده فوق الجبل في الموضع المعروف بتنور فرعون ومنه بني العين فلما أراد بناء الجامع قدر له ثلاثمائة عمود فقيل له‏:‏ ما تجدها أو تنفذ إلى الكنائس في الأرياف والضياع الخراب فتحمل ذلك فأنكر ذلك ولم يختره وتعذب قلبه بالفكر في أمره وبلغ النصراني الذي تولى له بناء العين وكان قد غضب عليه وضربه ورماه في المطبق الخبر‏.‏

فكتب إليه يقول أنا أبنية لك كما تحب وتختار بلا عمد إلا عمودي القبلة فأحضره وقد طال شعره حتى نزل على وجهه فقال له‏:‏ ويحك ما تقول في بناء الجامع فقال‏:‏ أنا أصوره للأمير حتى يراه عيانًا بلا عمد لألا عمودي القبلة‏.‏

فأمر بأن تحضر له الجلود فأحضرت وصوره له فأعجبه واستحسنه وأطلقه وخلع عليه وأطلق له للنفقة عليه مائة ألف من جميعه وبيضه وخلقه وعلق فيه القناديل بالسلاسل الحسان الطوال وفرش فيه الحصر وحمل إليه صناديق المصاحف ونقل إليه القراء والفقهاء وصلى فيه بكار بن قتيبة القاضي وعمل الربيع بن سليمان بابًا فيما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ من بني لله مسجدًا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتًا في الجنة ‏"‏‏.‏

فلما كان أول جمعة صلاها فيه أحمد بن طولون وفرغت الصلاة جلس محمد بن الربيع خارج المقصورة وقام المستملي وفتح باب المقصورة وجلس أحمد بن طولون ولم ينصرف والغلمان قيام وسائر الحجاب حتى فرغ المجلس فلما فرغ المجلس خرج إليه غلام بكيس فيه ألف دينار وقال يقول لك الأمير نفعك الله بما علمك وهذه لأبي طاهر يعني ابنه وتصدق أحمد بن طولون بصدقات عظيمة فيه وعمل طعامًا عظيمًا للفقراء والمساكين وكان يومًا عظيمًا حسنًا‏.‏

وراح أحمد بن طولون ونزل في الدار التي عملها فيه للإمارة وقد فرشت وعلقبت وحملت إليها الآلات والأواني وصناديق الأشربة وماشاكلها فنزل بها أحمد وجدد طهره وغير ثيابه وخرج من بابها إلى المقصورة فركع وسجد لله تعالى على ما أعانه عليه من ذلك ويسره له‏.‏

فلما أراد الانصراف خرج من المقصورة حتى أشرف على الفوارة وخرج إلى باب الريح‏.‏

فصعد النصراني الذي بنى الجامع ووقف إلى جانب المركب النحاس وصاح‏:‏ ياأحمد بن طولون ياأمير الأمان عبدك يريد الجائزة ويسأل الأمان أن لايجري عليه مثل ما جرى في المرة الأولى‏.‏

فقال له أحمد بن طولون‏:‏ انزل فقد أمنك الله ولم الجائزة‏.‏

فنزل وخلع عليه وأمر له بعشرة آلاف دينار وأجرى عليه الرزق الواسع إلى أن مات‏.‏

وراح أحمد بن طولون في يوم الجمعة إلى الجامع فلما رقى الخطيب المنبر وخطب وهو أبو يعقوب البلخي دعا للمعتمد ولولده ونسي أن يدعو لأحمد بن طولون ونزل عن المنبر فأشار أحمد إلى نسيم الخادم أن أضربه خمسمائة سوط‏.‏

فذكر الخطيب سهوه وهو على مراقي المنبر‏.‏

فعاد وقال‏:‏ الحمد لله وصلى الله على محمد ‏"‏ ولقد عهدنا إلى بني آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما ‏"‏ طه 115 ‏.‏

اللهم وأصلح الأمير أبا العباس أحمد بن طولون مولى أمير المؤمنين‏.‏

وزاد في الشكر والدعاء له بقدر الخطبة ثم نزل فنظر أحمد بن طولون إلى نسيم أن أجعلها دنانير ووقف الخطيب على ما كان منه فحمد الله تعالى على سلامته وهنأه الناس بالسلامة‏.‏

ورأى أحمد بن طولون الصناع يبنون في الجامع عند العشاء وكان في شهر رمضان فقال‏:‏ متى يشتري هؤلاء الضعفاء إفطارًا لعيالهم وأولادهم اصرفوهم العصر‏.‏

فصارت سنة إلى اليوم بمصر‏.‏

فلما فرغ شهر رمضان قيل له‏:‏ قد انقضى شهر رمضان قيل له‏:‏ قد انقضى شهر رمضان فيعودون إلى رسمهم‏.‏

فقال‏:‏ قد بلغني دعاؤهم وقد تبركت به وليس هذا مما يوفر العمل علينا‏.‏

وفرغ منه في شهر رمضان سنة خمس وستين ومائتين وتقرب الناس إلى أحمد بن طولون بالصلاة فيه وألزم أولادهم كلهم صلاة الجمعة في فوارة الجامع ثم يخرجون بعد الصلاة إلى مجلس الربيع بن سليمان ليكتبوا العلم مع كل واحد منهم وراق وعدة غلمان‏.‏

وبلغت النفقة على هذا الجامع في بنائه مائة ألف دينار وعشرين ألف دينار‏.‏

ويقال أحمد بن طولون رأى في منامه كأن الله تعالى قد تجلى ووقع نوره على المدينة التي حول الجامع إلا الجامع فإنه لم يقع عليه من النور شيء فتألم وقال‏:‏ والله مابنيته إلا لله خالصًا ومن المال الحلال الذي لاشبهة فيه‏.‏

فقال له معبر حاذق‏:‏ هذا الجامع يبقى ويخرب كل ما حوله لأن الله تعالى قال‏:‏ ‏"‏ فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا ‏"‏ الأعراف 143‏.‏

فكل شيء يقع عليه جلال الله عز وجل لايثبت‏.‏

وقد صح تعبير هذه الرؤيا وبقي الجامع عامرًا ثم عادت العمارة لما حوله كما هي الآن‏.‏

قال القضاعي رحمه الله وذكر أن السبب في بنائه أن أهل مصر شكوا إليه ضيق الجامع يوم الجمعة من جنده وسودانه فأمر بإنشاء المسجد الجامع بجبل يشكر بن جديلة من لخم فابتدأ بنيانه في سنة ثلاث وستين ومائتين وفرغ منه سنة خمس وستين ومائتين وقيل أن أحمد بن طولون قال‏:‏ أريد أن أبني بناء إن احترقت مصر بقي وإن غرقت بقي‏.‏

فقيل له‏:‏ يبنى بالجير والرماد والآجر الأحمر القوي النار إلى السقف ولايجعل فيه أساطين رخام فإنه لاصبر لها على النار فبناه هذا البناء وعمل في مؤخرة ميأة وخزانة شراب فيها جميع الشرابات والأدوية وعليها خدم وفيها طبيب جالس يوم الجمعة لحادث يحدث للحاضرين للصلاة وبناء جامع سامراء وكذلك المنارة وعلق فيه سلاسل النحاس المفرغة والقناديل المحكمة وفرشه بالحصر العبدانية والسامانية‏.‏

حديث الكنز‏:‏ قال جامع السيرة‏:‏ لما ورد على أحمد بن طولون كتاب المعتمد بما استدعاه من رد الخراج بمصر إليه وزاده المعتمد مع ما طلب الثغور الشامية رغب بنفسه عن المعادن ومرافقها فأمر بتركها وكتب بإسقاطها في سائر الأعمال ومنع المتقلبين من الفسخ على المزارعين وخطر الارتفاق على العمال وكان قبل إسقاط المرافق بمصر قد شاور عبد الله بن دسومة في ذلك وهو يومئذ أمين على أبي أيوب متولي الخراج‏.‏

فقال‏:‏ إن أمنني الأمير تكلمت بما عندي‏.‏

فقال له‏:‏ قد أمنك الله عز وجل‏.‏

فقال‏:‏ أيها الأمير إن الدنيا والآخرة ضرتان والحازم من لم يخلط إحدهما مع الأخرى والمفرط من خلط بينهما فيتلف أعماله ويبطل سعيه وأفعال الأمير أيده الله الخير وتوكله توكل الزهاد وليس مثله من ركب خطة لم يحكمها ولو كنا نثق بالنصر دائمًا طول العمر لما كان شيء عندنا آئر من التضييق على أنفسنا في العاجل بعمارة الآجل ولكن الإنسان قصير العمر كثير المصائب مدفوع إلى الآفات وترك الإنسان ما قد أمكنه وصار في يده تضييع ولعل الذي حماه نفسه يكون سعادة لمن يأتي من بعده فيعود ذلك توسعة لغيره بما حرمه هو ويجتمع للأمير أيده الله بما قد عزم على إسقاطه من الرافق في السنة بمصر دون غيرها مائة ألف دينار وإن فسخ ضياع الأمراء والمتقبلين في هذه السنة لأنها سنة ظمأ توجب الفسيخ زاد مال البلد وتوفر توفرًا عظيمًا ينضاف إلى مال المرافق وكل ما عدل الأمير أيده الله إليه من أمر غير هذا فهو مفسد لدنياه وهذا رأيي والأمير أيده الله على ما عساه يراه‏.‏

فقال له‏:‏ ننظر في هذا إن شاء الله‏.‏

وشغل قلبه كلامه فبان تلك الليلة بعد أن مضى أكثر الليل يفكر في كلام ابن دسومة فرأى في منامه رجلًا من إخوانه الزهاد بطرسوس وهو يقول له‏:‏ ليس ما أشار به عليك من استشرته في أمر الارتفاق والفسخ برأي تحمد عاقبته فلا تقبله‏.‏

ومن ترك شيئًا لله عز وجل عوضه الله عنه فأمض ما كنت عزمت عليه‏.‏

فلما أصبح أنفذ الكتب إلى سائر الأعمال بذلك وتقدم في سائر الدواوين بإمضائه ودعا بابن دسومة فعرفه بذلك فقال له‏:‏ قد أشار عليك رجلان الواحد في اليقظة والآخر ميت في النوم وأنت إلى الحي أقرب وركب في غد ذلك اليوم إلى نحو الصعيد فلما أمعن في الصحراء ساخت في الأرض يد فرس بعض غلمانه وهو رمل فسقط الغلام في الرمل فإذا بفتق ففتح فأصيب فيه من المال ما كان مقداره ألف دينار وهو الكنز الذي شاع خبره وكتب به إلى العراق أحمد بن طولون بخير المعتمد به ويستأذنه فيما يصرفه فيه من وجوه البر وغيرها فبنى منه المارستان ثم أصاب بعده في الجبل مالًا عظيمًا فبنى منه الجامع ووقف جميع مابقي من المال في الصدقات وكانت صدقاته ومعروفه لاتحصى كثرة‏.‏

ولما انصرف من الصحراء وحمل المال أخضر ابن دسومة وأراه المال وقال له‏:‏ بئس الصاحب والمستشار أنت هذا أول بركة مشورة الميت في النوم ولولا أنني أمنتك لضربت عنقك وتغير عليه وسقط محله عنده ورفع إليه بعد ذلك أنه قد أجحف بالناس وألزمهم أشياء ضجوا منها فقبض عليه وأخذ ماله وحبسه فمات في حبسه‏.‏

وكان ابن دسومة واسع الحيلة بخيل الكف زاهدًا في شكر الشاكرين لايهش إلى شيء من أعمال البر‏.‏

وكان أحمد بن طولون من أهل القرآن إذا جرت منه إساءة استغفر وتضرع‏.‏

وقال ابن عبد الظاهر‏:‏ سمعت غير واحد يقول إنه لما فرغ أحمد بن طولون من بناء هذا الجامع أسر للناس بسماع ما يقوله الناس فيه من العيوب‏.‏

فقال رجل‏:‏ محرابه صغير وقال آخر‏:‏ ما فيه عمود‏.‏

وقال آخر‏:‏ ليست له ميضأة‏.‏

فجمع الناس وقال‏:‏ أما المحراب فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد خطه لي فأصبحت فرأيت النمل قد أطافت بالمكان الذي خطه لي وأما العمد فإني بنيت هذا الجامع من مال حلال وهو الكنز وما كنت لأشويه بغيره وهذه العمد إما أن تكون من مسجد أو كنيسة فنزهته عنها وأما الميضأة فإني نظرت فوجدت ما يكون بها من النجاسات فطهرته منها وها أنا أبنيها خلفه ثم أمر ببنائها‏.‏

وقيل أنه لما فرغ من بنائه رأى في منامه كأن نارًا نزلت من السماء فأخذت الجامع دون ماحوله فلما أصبح قص رؤياه فقيل له‏:‏ أبشر بقبول الجامع لأن النار كانت في الزمان الماضي إذا قبل الله قربانًا نزلت نار من السماء أخذته ودليله قصة قابيل وهابل‏.‏

قال‏:‏ ورأيت من يقول أنه عمر ما حوله حتى كان خلفه مسطبة ذراع في ذراع أجرتها في كل يوم اثنا عشر درهمًا في بكرة النهار لشخص يبيع الغزل ويشتريه والظهر لخباز والعصر لشيخ يبيع الحمص والفول‏.‏

وقيل عن أحمد بن طولون أنه كان لايعبث بشيء قط فاتفق أنه أخذ درجًا أبيض بيده وأخرجه ومده واستيقظ لنفسه وعلم أنه قد فطن به وأخذ عليه لكونه لم تكن تلك عادته فطلب المعمار على الجامع وقال‏:‏ تبني المنارة التي للتأذين هكذا فبنيت على تلك الصورة والعامة يقولون أن العشاري الذي على المنارة المذكورة يدور مع الشمس وليس صحيحًا وإنما يدور مع دوران الرياح وكان الملك الكامل قد اعتنى بوقودها ليلة النصف من شعبان ثم أبطلها‏.‏

وقال المسبحي‏:‏ إن الحاكم أنزل إلى جامع ابن طولون ثمانمائة مصحف وأربعة عشر مصحفًا‏.‏

وفي سنة ست وسبعين وثلاثمائة في ليلة الخميس لعشر خلون من جمادى الأولى احترقت الفوارة التي كانت بجامع ابن طولون فلم يبق منها شيء وكانت في وسط صحنه قبة مشبكة من جميع جوانبها مفروشة كلها بالرخام وتحت القبة قصعة رخام فسحتها أربعة أذرع في وسطها فوارة تفور بالماء وفي وسطها قبة موقة يؤذن فيها وفي أخرى على سلمها وفي السطح علامات الزوال والسطح بدرابزين ساج فاحترق جميع هذا في في ساعة واحدة‏.‏

وفي المحرم سنة خمس وثمانين وثلاثمائة أمر العزيز بالله بن المعز ببناء الرومية وابن البناء وماتت أم العزيز في سلخ ذي القعدة من السنة والله أعلم‏.‏

تجديد الجامع‏:‏ وكان من خبر جامع ابن طولون أنه لما كان غلاء مصر في زمان المستنصر وخربت القطائع والعسكر عدم الساكن هناك وصار ما حول الجامع خرابًا وتوالت الأيام على ذلك وتشعث الجامع وخرب أكثره وصار أخيرًا ينزل فيه المغاربة بآبارها ومتاعها عندما تمر بمص أيام الحج فهيأ الله جل جلاله لعمارة هذا الجامع أن كان بين الملك الأشرف خليل بن قلاون وبين الأمير بيدر أمور موشحة تزايدت وتأكدت إلى أن جمع بيدر من يثق به وقتل الأشرف بناحية تروجه في سنة ثلاث وتسعين وستمائة كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى عند ذكر مدرسته وكان ممن وافق الأمير بيدرًا على قتل الأشرف الأمير حسام الدين لاجين المنصوري والأمير قراسنقر فلما قتل بيدر في محاربة مماليك الأشرف له فر لاجين وقراسنقر من المعركة فاختفى لاجين بالجامع الطولوني قراسنقر في داره بالقاهرة وصار لاجين يتردد بمفرده من غير أحد معه في الجامع وهو حينئذ خراب لاساكن فيه وأعطى الله عهدًا إن سلمه الله من هذه المحنة ومكنه من الأرض أن يجدد عمارة هذا الجامع ويجعل له ما يقوم به وعملا أعمالًا غلى أن اجتمعا بالأمير زين الدين كتبغا المنصوري وهو إذا ذاك نائب السلطنة في أيام الملك الناصر محمد بن قلاون والقائم بأمور الدولة كلها فأحضرها إلى مجلس السلطان بقلعة الجبل بعد أن أتقن أمرهما مع الأمراء ومماليك السلطان فخلع عليهما وصار كل منهما إلى داره وهو آمن فلم تطل أيام الملك الناصر في هذه الولاية حتى خلعه الأمير كتبغا وجلس على تخت الملك وتلقب بالملك العادل فجعل لاجين نائب السلطنة بديار مصر وجرت أمور اقتضت قيام لاجين نائب على كتبغا وهم بطريق الشام ففر كتبغا إلى دمشق واستولى لاجين على دست المملكة وسار إلى مصر وجلس على سرير الملك بقلعة الجبل وتلقب بالملك المنصور في المحرم من سنة ست وتسعين وستمائة فأقام قراسنقر في نيابة السلطنة بديار مصر وأخرج الناصر محمد بن قلاون من قلعة الجبل إلى كرك الشوبك فجعله في قلعتها وأعانه أهل الشام على كتبغا حتى قبض عليه وجعله نائب حماه فأقام بها مدة سنين بعد سلطنة مصر والشام على وخلع على الأمير علم الدين سنجر الدواداري وأقامه في نيابة دار العدل وجعل إليه شراء الأوقاف على الجامع الطولوني وصرف إليه كل ما يحتاج إليه في العمارة وأكد عليه في أن لا يسخر فيه فاعلًا ولا صانعًا وأن لا يقيم مستحثًا للصناع ولا يشتري لعمارته شيئًا مما يحتاج إليه من سائر الأصناف إلا بالقيمة التامة وأن يكون ما ينفق على ذلك من ماله وأشهد عليه بوكالته فابتاع منية أندونة من أراضي الجيزة وعرفت هذه القرية بأندونة كاتب بمصر كان نصرانيًا في زمن أحمد بن طولون وممن نكبه وأخذ منه خمسين ألف دينار واشترى أيضًا ساحة بجوار جامع أحمد بن طولون مما كان في القديم عامرًا ثم خرب وحكرها وعمر الجامع وأزال كل ما كان فيه من تخريب وبلطه وبيضه ورتب فيه تفسير القرآن الكريم ودرسًا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم ودرسًا للطب وقرر للخطيب معلومًا وجعل له إمامًا راتبًا ومؤذنين وفراشين وقومة وعمل بجواره مكتبًا لإقراء أيتام المسلمين كتاب الله عز وجل وغير ذلك من أنواع القربات ووجوه البر فبلغت النفقة على عمارة الجامع وثمن مستغلاته عشرين ألف دينار فلما شاء الله سبحانه أن يهلك لاجين زين له سوء عمله عزل الأمير قراسنقر من نيابة السلطنة فعزله وولى مملوكه منكتمر وكان عسوفًا عجولًا حادًا ولاجين مع ذلك يركن إليه ويعول في جميع أموره عليه ولا يخالف قوله ولاينقض فعله فشرع منكوتمر في تأخير أمراء الدولة من الصالحية والمنصورية وأعجل في إظهار التهجم لهم والإعلان بما يريده من القبض عليهم وإقامة أمراء غيرهم فتوحشت القلوب منه وتالأت على بغضه ومشى القوم بعضهم إلى بعض وكاتبوا إخوانهم من أهل البلاد حتى تم لهم ما يريدون فواعد جماعة منهم إخوانهم على قتل السلطان لاجين ونائبه منكوتمر فما إلا أن صلى السلطان العشاء من ليلة الجمعة العاشر من شهر ربيع الأول سنة ثمان وتسعين وستمائة وإذا بالأمير كرجي وكان ممن هو قائم بين يديه تقدم ليصلح الشمعة فضربه بسيف قد أخفاه معه أطار به زنده وأنقض عليه البقية ممن واعدوهم بالسيوف والخناجر فقطعوه قطعًا وهو يقول الله الله وخرجوا من فورهم إلى باب القلعة الجبل فإذا بالأمير طفج قد جلس في انتظارهم ومعه عدة من الأمراء وكانوا إذ ذاك يبيتون بالقلعة دائمًا فأمروا بإحضار منكومر من دار النيابة بالقلعة وقتلوه بعد مضي نصف ساعة من قتل أستاذه الملك المنصور حسام الدين لاجين المنصوري رحمه الله فلقد كان مشكور السيرة‏.‏

 وفي سنة سبعة وستين وسبعمائة

جدد الأمير يلبغا العمري الخاصكي درسًا بجامع ابن طولون فيه سبعًا مدرسين للحنفية وقرر لكل فقيه من الطلبلة في الشهر أربعين درهمًا وأردب قمح فانتقل جماعة من الشافعية إلى مذهب الحنفية‏.‏

وأول من ولي نظره بعد تجديده الأمير علم الدين سنجر الجاولي وهو إذا ذاك دوادار السلطان الملك المنصور لاجين ثم ولي نظره قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة ثم من بعده الأمير مكين في أيام الناصر محمد بن قلاون فجدد في أوقافه طاحونًا وفرنًا وحوانيت فلما مات وليه قاضي القضاة عز الدين بن جماعة ثم ولاه الناصر للقاضي كريم الدين الكبير فحدد فيه مئذنتين فلما نكبه السلطان عاد نظره إلى قاضي القضاة الشافعي وما برح إلى أيام الناصر حسن بن محمد بن قلاون فولاه للأمير صرغتمش وتوفر في مدة مال الوقف مائة ألف درهم فضة وقبض عليه وهي حاصلة فباشره قاضي القضاة إلى أيام الأشراف شعبان بن حسين ففوض نظره إلى الأمير الجاي اليوسفي إلى أن غرق فتحدث فيه قاضي القضاة الشافعي إلى أن فوض السلطان الظاهر برقوق نظره إلى الأمير قطلو بغا الصفوي في العشرين من جمادى الآخرة سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة وكان الأمير منطاش مدة تحكمه في الدولة فوضه إلى المذكور في آواخر شوال سنة إحدى وتسعين وسبعمائة ثم عاد نظره إلى القضاء بعد الصفوي وهو بأيديهم إلى اليوم وفي سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة جدد الرواق البحري الملاصق للمئذنة الحاج عبيد الله محمد بن عبد الهادي الهويدي البازادار مقدم الدولة وجدد ميضأة القديمة وكان عبيدهذا بازدارًا ثم ترقى حتى صار مقدم الدولة في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة ثم ترك زي المقدمين وتزيا بزي الأمراء وحاز نعمة دار الإمارة وكان بجوار الجامع الطولوني دار أنشأها الأمير أحمد بن طولون عندما بني الجامع وجعلها في الجهة القبلية ولها باب من جدار الجامع يخرج منه إلى المقصورة بجوار المحراب والمنبر وجعل في هذه الدار جميع ما يحتاج إليه من الفرش والستور والآلات فكان ينزل بها إذا راح إلى صلاة الجمعة فإنها كانت تجاه القصر والميدان فيجلس فيها ويجدد وضوءه ويغير ثيابه وكان يقال لها دار الإمارة وموضعها الآن سوق الجامع حيث البزارين وغيرهم ولم تزل هذه الدار باقية إلى أن قدم الإمام المعز لدين الله أبو تميم معد من بلاد المغرب فكان يستخرج فيها أموال الخراج قال الفقيه الحسن بن إبراهيم بن زولاق في كتاب سيرة المعز ولست عشرة بقيت من المحرم يعني من سنة ثلاث وستين وثلاثمائة قلد المعز لدين الله الخراج وجميع وجوه الأعمال والحسبة والسواحل والأعشار والجوالي والأحباش والمواريث والشرطين وجميع ما ينضاف إلى ذلك وما يطرأ في مصر وسائر الأعمال أبا الفرج يعقوب بن يوسف بن كلس وعسلوج بن الحسن وكتب لهما سجلًا بذلك قريء يوم الجمعة على منبر جامع أحمد بن طولون وجلسا غد هذا اليوم في دار الإمارة في جامع أحمد ببن طولون للنداء على الضياع وسائر وجوه الأعمال ثم خربت هذه الدار فيما خرب من القطائع والعسكر وصار موضعها ساحة إلى أن حكرها الدويداري عند تجديد الأذان بمصر وما كان فيه من الإختلاف اعلم أن أول من أذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم بلال بن رباح مولى أبي بكر الصديق رضي الله عنه عنهما بالمدينة الشريفة وفي الأسفار وكان ابن أم مكتوم واسمه عمرو بن قيس بن شريح من بني عامر بن لؤي وقيل اسمه عبد الله وأمه أم مكتوم واسمها عاتكة بنت عبد الله بن عنكثة من بني مخزوم ربما أذن بالمدينة وأذن أبو محذورة واسمه أوس وقيل سمرة بن معير بن لوذان بن ربيعة بن معير بن عريج بن سعد بن جمح وكان استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يؤذن بلال فأذن له وكان يؤذن في المسجد الحرام وأقام بمكة ومات بها ولم يأت المدينة‏.‏

قال ابن الكلبي كان أبو محذرة لايؤذن للنبي صلى الله عليه وسلم بمكة إلا في الفجر ولم يهاجر وأقام بمكة‏.‏

وقال ابن جريج‏:‏ علم النبي صلى الله عليه وسلم أبا محذرة الأذان بالجعرانة حين قسم غنائم حنين ثم جعله مؤذنًا في المسجد الحرام‏.‏

وقال الشعبي أذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم بلال وأبو محذورة وابن أم كلتوم وقد جاء أن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يؤذن بين يدي رسول صلى الله عليه وسلم عند المنبر وقال محمد بن سعد عن الشعبي كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة مؤذنين بلال وأبو محذرة وعمرو بن أم مكتوم فإذا غاب بلال أذن أبو محذرة وإذا غاب أبو محذرة أذن ابن أم مكتوم‏.‏

قلت لعل هذا كان بمكة وذكر ابن سعد أن بلالًا أذن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه وأن عمر رضي الله عنه أراده أن يؤذن له فأبى عليه فقال له‏:‏ إلى من ترى أن أجعل النداء فقال إليه وإلى عقبة من بعده وقد ذكر أن سعد القرظ كان يؤذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء‏.‏

وذكر أبو داود في مراسيلة والدار قطني في سننه قال بكير بن عبد الله الأشج كانت مساجد المدينة تسعة سوى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يصلون بأذان بلال رضي الله عنه‏.‏

وقد كان عند فتح مصر الأذان إنما هو بالمسجد الجامع المعروف بجامع عمرو وبه صلاة الناس بأسرهم وكان من هدى الصحابة والتابعين رضي الله عنه عنهم المحافظة على الجماعة وتشديد النكير على من تخلف عن صلاة الجماعة‏.‏

قال أبو عمرو الكندي في ذكر من عرف على المؤذنين بجامع عمرو بن العاص بفسطاط مصر وكان أول من عرف علي المؤذنين أبو مسلم سالم بن عامر بن عبد المرادي وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أذن لعمر بن الخطاب سار إلى مصر مع عمرو بن العاص يؤذن له حتى افتتحت مصر فأقام على الأذان وضم إليه عمرو بن العاص تسعة رجال يؤذنون هو عاشرهم وكان الأذان في ولده حتى انقرضوا‏.‏

قال أبو الخير‏:‏ حدثني أبو مسلم وكان مؤذنًا لعمرو بن العاص أن الأذان كان أوله لاإله إلا الله وآخره لاإله إلا الله وكان أبو مسلم يوصي بذلك حتى مات ويقول هكذا كان الأذان ثم عرف عليهم أخوه شرحبيل بن عامر وكانت له صحبة وفي عرافته زاد مسلمة بن مخلد في المسجد الجامع وجعل له المنار ولم يكن قبل ذلك وكان شرحبيل أول من رقي منارة مصر للأذان وأن مسلمة بن مخلد اعتكف في منارة الجامع فسمع أصوات النواقيس عالية بالفسطاط فدعا شرحبيل بن عامر فأخبره بما ساءه من ذلك‏.‏

فقال شرحبيل فإني أمدد بالأذان من نصف الليل إلى قرب الفجر فانههم أيها الأمير أن ينقسوا إذا أذنت فنهاهم مسلمة عن ضرب النواقيس وقت الأذان ومدد شرحبيل سنة خمس وستين‏.‏

وذكر عن عثمان رضي الله عنه أنه أول من رزق الؤذنين فلما كثرت مساجد الخطبة أمر مسلمة بن مخلد الأنصاري في إمارته على مصر ببناء المنار في جميع المساجد خلا مساجد تجيب وخولان فكانوا يؤذنون في الجامع أولًا فإذا فرغوا أذن كل مؤذن في الفسطاط في وقت واحد فكان لأذانهم دوي شديد وكان الأذان أولًا بمصر كأذان أهل المدينة وهو الله أكبر الله أكبر وباقية كما هو اليوم فلم يزل الأمر بمصر على ذلك في جامع عمرو بالفسطاط وفي جامع العسكر وفي جامع أحمد بن طولون وبقية المساجد إلى أن قدم القائد جوهر بجيوش المعز لدين الله وبنيي القاهرة فلما كان في يوم الجمعة الثامن من جمادي الأولى سنة تسع وخمسين وثلاثمائة صلى القائد جوهر الجمعة في جامع أحمد بن طولون وخطب به عبد السميع بن عمر العباسي بقلنسوة وسبني وطيلسان دبسي وأذن المؤذن حي على خير العمل وهو أول ما أذن به بمصر وصلى به عبد السميع الجمعة فقرأ سورة الجمعة ‏"‏إذا جاءك المنافقون ‏"‏ وقنت في الركعة الثانية وانحط إلى السجود ونسي الركوع فصاح به علي بن الوليد قاضي عسكر جوهر بطلت الصلاة أعد ظهرًا أربع ركعات ثم أذن بحي على خير العمل في سائر مساجد العسكر إلى حدود مسجد عبد الله وأنكر جوهر على عبد السميع أنه لم يقرأ بسم اله الرحمن الرحيم في كل سورة ولا قرأها في الخطبة فأنكر جوهر ومنعه من ذلك‏.‏

ولأربع بقين من جمادى الأولى المذكور أذن في الجامع العتيق بحي على خير العمل وجهروا في الجامع بالبسملة في الصلاة فلم يزل الأمر على ذلك طول مدة الخلفاء الفاطميين إلا أن الحاكم بأمر الله سنة أربعمائة أمر بجمع مؤذني القصر وسائر الجوامع وحضر قاضي القضاة مالك بن سعيد الفارقي وقرأ أبو العباسي سجلًا فيه الأمر بترك حي على خير العمل في الأذان وأن يقال في صلاة الصبح الصلاة خير من النوم وأن يكون ذلك من مؤذني القصر عند قولهم السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله فامتثل ذلك‏.‏

ثم عاد المؤذنون إلى قول حي على خير العمل في ربيع الآخر سنة إحدى وأربعمائة ومنع في سنة خمس وأربعمائة مؤذني جامع القاهرة ومؤذني القصر من قولهم بعد الأذان السلام على أمير المؤمنين وأمرهم أن يقولوا بعد الأذان الصلاة رحمك الله ولهذا الفعل أصل قال الواقدي كان بلال رضي الله عنه يقف على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول‏:‏ السلام عليك يا رسول الله وربما قال‏:‏ السلام عليك بأبي أنت وأمي يا رسول الله حي على الصلاة حي على الصلاة السلام عليك يا رسول الله‏.‏

قال البلاذري وقال غيره كان يقول السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته حي على الصلاة حي على الفلاح الصلاة يا رسول اله فلما ولي أبو بكر رضي الله عنه الخلافة كان سعد القرظ فيقول السلام عليك يا خليفة رسول الله ورحمة الله وبركاته حي على الصلاة حي على الفلاح الصلاة يا خليفة رسول الله‏.‏

فلما استخلف عمر رضي الله عنه كان سعد يقف على بابه فيقول السلام عليك يا خليفة خليفة رسول الله ورحمة الله حي على الصلاة حي على الصلاة يا خليفة خليفة رسول الله فلما قال عمر رضي الله عنه للناس أنتم وأنا أميركم فدعي أمير المؤمنين استطالة لقول القائل يا خليفة خليفة رسول الله ولمن بعده خليفة خليفة رسول الله‏.‏

كان المؤذن يقول السلام عليك أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته حي على الصلاة حي على الفلاح الصلاة يا أمير المؤمنين‏.‏

ثم إن عمر رضي الله عنه أمر المؤذن فزاد فيها رحمك الله‏.‏

ويقال أن عثمان رضي الله عنه زادها وما زال المؤذنون إذا أذنوا سلموا على الخلفاء وأمراء الأعمال ثم يقيمون الصلاة بعد السلام فيخرج الخليفة أو الأمير فيصلى بالناس هكذا كان العمل مدة أيام بني أمية ثم مدة بني العباس أيام كانت الخلفاء وأمراء الأعمال تصلي بالناس‏.‏

فلما استولى العجم وترك خلفاء بني العباس بالناس ترك ذلك كما ترك غيره من سنن الإسلام ولم يكن أحد من الخلفاء الفاطميين بالناس الصلوات الخمس في كل يوم فسلم المؤذنون في أيامهم على الخليفة بعد الأذان للفجر فوق المنارات فلما انقضت أيامهم وغير السلطان صلاح الدين رسومهم لم يتجاسر المؤذنون على السلام عليه احترامًا للخليفة العباسي ببغداد فجعلوا عوض السلام على الخليفة السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم واستمر ذلك قبل الأذان للفجر في كل ليلة بمصر والشام والحجاز وزيد فيه بأمر المحتسب صلاح الدين عبد الله البرلسي الصلاة ولما تغلب أبو علي بن كتيفات بن الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجمالي على رتبة الوزارة في أيام الحافظ ل دين الله أبي الميمون عبد المجيد بن الأمير أبي القاسم محمد بن المستنصر بالله في سادس عشر ذي القعدة سنة أربع وعشرين وخمسمائة وسجن الحافظ وقيده واستولى على ما القصر من الأموال والذخائر وحملها إلى دار الوزارة وكان إماميًا متشدد في ذلك خالف ما عليه الدولة من مذهب الإسماعيلية وأظهر الدعاء للإمام المنتصر وأزال من الأذان حي على خير العمل وقولهم محمد وعلي خير البشر وأسقط ذكر إسماعيل بن جعفر الذي تنتسب إليه الإسماعيلية فلما قتل في سادس عشر المحرم سنة ست وعشرين وخمسمائة عاد الأمر إلى الخليفة الحافظ وأعيد إلى الأذان ما كان أسقط منه‏.‏

وأول من قال في الأذان بالليل محمد وعلي خير البشر الحسين المعروف بأمير كابن شكنبة ويقال أشكنبة وهو اسم أعجمي معناه الكرش وهو علي بن محمد بن علي بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب وكان أول تأذينة بذلك في أيام سيف الدولة بن حمدان بحلب في سنة سبع وأربعين وثلاثمائة‏.‏

قاله الشريف محمد بن أسعد الجواني النسابة ولم يزل الأذان بحلب يزاد فيه حي على خير العمل ومحمد وعلي خير البشر إلى أيام نور الدين محمود‏.‏

فلما فتح المدرسة الكبيرة المعروفة بالحلاوية استدعى أبا الحسن علي بن الحسن بن محمد البلخي الحنفي إليها فجاء ومعه جماعة من الفقهاء وألقي بها الدروس فلما سمع الأذان أمر الفقهاء فصعدوا المنارة وقت الأذان وقال لهم مر وهم يؤذنون الأذان المشروع ومن امتنع كبوه على رأسه فصعدوا وفعلوا ما أمرهم به واستمر الأمر على ذلك‏.‏

وأما مصر فلم يزل الأذان بها على مذهب القوم إلى أن استبد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بسلطنة ديار مصر وأزال الدولة الفاطمية في سنة سبع وستين وخمسمائة وكان ينتحل مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه وعقيدة الشيخ أبي الحسن الأشعري رحمه الله فأبطل من الأذان قول حي على خير العمل وصار يؤذن في سائر إقليم مصر والشام بأذان أهل مكة وفيه تربيع التكبير وترجيع الشهادتين فاستمر الأمر على ذلك إلى أن بنت الأتراك المدارس بديار مصر وانتشر مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه في مصر فصار يؤذن في بعض المدارس التي للحنفية بأذان أهل الكوفة وتقام الصلاة أيضًا على رأيهم وما عدا ذلك فعلى ما قلنا إلا أنه في ليلة الجمعة إذا فرغ المؤذنون من التأذين سلموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو شىء أحدثه محتسب القاهرة صلاح الدين عبد الله بن عبد الله البرلسي بعد سنة ستين وسبعمائة ومتولى الأمر بديار مصر الأمير منطاش القائم بدولة الملك الصالح المنصور أمير حاج المعروف بحاجي بن شعبان بن حسين بن محمد بن قلاون‏.‏

فسمع بعض الفقراء الخلاطين سلام المؤذنين على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة جمعة وقد استحسن ذلك طائفة من إخوانه فقال لهم أتحبون أن يكون هذا السلام في كل أذان قالوا نعم فبات تلك الليلة وأصبح متواجدًا يزعم أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه وأنه أمره أن يذهب إلى المحتسب فيبلغه عنه أن يأمر المؤذنين بالسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل أذان فمضى إلى محتسب القاهرة وهو يومئذ نجم الدين محمد الطنبدي وكان شيخًا جهولًا وبلهانًا مهولًا سيء السيرة في الحبسة والقضاء متهافتًا على الدرهم ولو قاده إلى البلاء لايحتشم من أخذ البراطيل والرشوة ولا يراعي في مؤمن إلا ولا ذمة قد ضرى على الآثام وتجسد من أكل الحرام يرى أن العلم إرخاء العذبة ولبس الجبة ويحسب أن رضي الله سبحانه في ضرب العباد بالدرة وولاية الحسبة لم تحمد الناس قط أياديه ولا شكرت أبدًا مساعيه بل جهالاته شائعة وقبائح أفعاله ذائعة أشخص غير مرة إلى مجلس المظالم وأوقف مع من أوقف للمحكمة بين يدي السلطان من أجل عيوب فوادح حقق فيها شكاته عليه القوادح وما زال في السيرة مذمومًا ومن العامة ملومًا وقال له يأمرك أن تتقدم لسائر المؤذنين بان يزيدوا في كل أذان قولهم الصلاة والسلام عليك يا رسول الله كما يفعل في ليالي الجمع فأعجب الجاهل هذا القول وجهل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لايأمر بعد وفاته إلا بما يوافق ما شرعه الله عى لسانه في حياته وقد نهى الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز عن الزيادة فيما شرعه حيث يقول‏:‏ ‏"‏ أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ‏"‏ الشورى‏.‏

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إياكم ومحدثات الأمور ‏"‏ فأمر بذلك في شعبان من السنة المذكورة وتمت هذه البدعة واستمرت إلى يومنا هذا في جميع ديار مصر وبلاد الشام وصارت العامة وأهل الجهالة ترى أن ذلك من جملة الأذان الذي لايحل تركه وأدى ذلك إلى أن زاد بعض أهل الإلحاد في الأذان ببعض القرى السلام بعد الأذان على شخص من المعتقدين الذين ماتوا فلا حول ولا قوة إلا بالله وإن لله وأن إليه راجعون‏.‏

وأما التسبيح في الليل على المآذن فإنه لم يكن من فعل سلف الأمة وأول ما عرف من ذلك أن موسى بن عمران صلوات الله عليه لما كان ببني إسرائيل في التيه بعد غرق فرعون وقومه اتخذ بوقين من فضة مع رجلين من بني إسرائيل ينفخان فيهما وقت الرحيل ووقت النزول وفي أيام الأعياد وعند ثلث الليل الأخير من كل ليلة فتقوم عند ذلك طائفة من بني لاوي سبط موسى عليه السلام ويقولون نشيدًا منزلًا بالوحي فيه تخويف وتحذير وتعظيم لله تعالى وتنزيله له تعالى إلى وقت طلوع الفجر واستمر الحال على هذا كل ليلة مدة حياة موسى عليه السلام وبعده أيام يوشع بن نون ومن قام في بني إسرائيل من القضاة إلى أن قام بأمرهم داود عليه السلام وشرع في عمارة بيت المقدس فرتب في كل ليلة عدة من بني لاوي يقومون عند ثلث الليل الأخر فنهم من يضرب بالآلات كالعود والسطير والبربط والدف والمزمار‏.‏

ونحو ذلك ومنهم من يرفع عقيرته بالنشائد المنزلة بالوحي على نبي الله موسى عليه السلام ويقال أن عدد بني لاوي هذا كان ثمانين وثلاثين ألف رجل قد ذكر تفصيلهم في كتاب الزبور فإذا قام هؤلاء ببيت المقدس قام في كل محلة من محال بيت المقدس رجال يرفعون أصواتهم بذكر الله سبحانه من غير آلات فإن الآلات كانت مما يختص في ببيت المقدس فقط وقد نهوا عن ضربها في غير البيت فيتسامع من قرية بيت المقدس فيقوم في كل قريبة رجال يرفعون أصواتهم بذكر الله تعالى حتى يهم الصوت بالذكر جميع قرى بنى إسرائيل ومدنهم وما زال الأمر عى ذلك في كل ليلة إلى أن جرب بخت نصر بيت المقدس وجلى بنى إسرائيل إلى بابل فبطل هذا العمل وغيره من بلاد بني إسرائيل مدة جلائهم في بابل سبعين سنة فلما أعاد بنوا إسرائيل من بابل وعمروا البيت العمارة الثانية أقاموا شرائعهم وعاد قيام بنى لاوي بالبيت في الليل وقيام أهل محال القدس وأهل القرى والمدن على ما كان العمل عليه أيام عمارة البيت الأولى واستمر ذلك إلى أن جرب القدس بعد قتل نبي الله يحيى بن زكريا وقيام اليهود على روح الله ورسوله عيسى ابن مريم صلوات الله عليهم على يد طيطش فبطلت شرائع بني إسرائيل من حينئذ وبطل هذا القيام فيما بطل من بلاد بني إسرائيل‏.‏

وأما في الملة الإسلامية فكان ابتداء هذا العمل بمصر وسببه أن مسلمة بن مخلد أمير مصر بنى منارًا لجامع عمرو بن العاص واعتكف فيه فسمع أصوات النواقيس عالية فشكا ذلك إلى شرحبيل بن عامر عريف المؤذنين فقال‏:‏ إني أمدد الأذان من نصف الليل إلى قرب الفجر فإنهم أيها الأمير أن ينقسوا إذا أذنت‏.‏

فنهاهم مسلمة عن ضرب النواقيس وقت الأذان ومدد شرحبيل ومطط أكثر الليل ثم إن الأمير أبا العباس أحمد بن طولون كان قد جعل في حجرة تقرب منه رجالًا تعرف بالمكبرين عدتهم اثنا عشر رجلًا يبيت في هذه الحجرة كل ليلة أربعة يجعلون الليل بينهم عقبا فكانوا يكبرون ويسبحون ويحمدون الله سبحانه في كل وقت ويقرأون القرآن بألحان ويتوسلون ويقولون قصائد زهية ويؤذنون في أوقات الأذان وجعل لهم أرزاقًا واسعة تجري عليهم‏.‏

فلما مات أحمد بن طولون وقام من بعده ابنه أبو الجيش خماروية أقرهم بحالهم وأجراهم على رسمهم مع أبيه ومن حينئذ اتخذ الناس قيام المؤذنين في الليل على المآذن وصار يعرف ذلك بالتسبيح‏.‏

فلما ولي السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب سلطنة مصر وولى القضاء صدر الدين عبد الملك بن درباس الهدباني الماراني الشافعي كان من رأيه ورأي السلطان اعتقاد مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري في الأصول فحمل الناس إلى اليوم على اعتقاده حتى يكفر من خالفه وتقدم الأمر إلى المؤذنين أن يعلنوا في وقت التسبيح على المآذن بالليل بذكر العقيدة التي تعرف بالرشدة فواظب المؤذنون على ذكرها في كل ليلة بسائر جوامع مصر والقاهرة إلى وقتنا هذا‏.‏

ومما أحث أيضًا التذكير في يوم الجمعة من أثناء النهار بأنواع من الذكر على المآذن ليتهيأ الناس لصلاة الجمعة وكان ذلك بعد السبعمائة من سني الهجرة‏.‏

قال ابن كثير رحمه الله في يوم الجمعة سادس ربيع الآخر سنة أربع وأربعين وسبعمائة رسم بأن يذكر بالصلاة يوم الجمعة في سائر مآذن الجامع الأموي ففعل ذلك‏.‏