فصل: حشيشة الفقراء

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **


 حشيشة الفقراء

قال الحسن بن محمد في كتاب السوانح الأدبية في مدائح القنبية‏:‏ سألت الشيخ جعفر بن محمد الشيرازيّ الحيدريّ ببلدة تستر في سنة ثمان وخمسين وستمائة عن السبب في الوقوف على هذا العقار ووصوله إلى الفقراء خاصة وتعدّيه إلى العوام عامّة فذكر لي أن شيخه شيخ الشيوخ حيدرًا رحمه الله كان كثير الرياضة والمجاهدة قليل الاستعمال للغذاء قد فاق في الرهادة وبرز في العبادة وكان مولده بنشاور من بلاد خراسان ومقامه بجبل بين نشاور ومارماه وكان قد اتخذ بهذا الجبل زاوية وفي صحبته جماعة من الفقراء وانقطع في موضع منها ومكث بها أكثر من عشر سنين لا يخرج منها ولا يدخل عليه أحد غيري للقيام بخدمته‏.‏

قال‏:‏ ثم أن الشيخ طلع ذات يوم وقد اشتدّ الحرّ وقت القائلة منفردًا بنفسه إلى الصحراء ثم عاد وقد علا وجهه نشاط وسرور بخلاف ما كنا نعهده من حاله قبل وأذن لأصحابه في الدخول عليه وأخذ يحادثهم فلما رأينا الشيخ على هذه الحالة من المؤانسة بعد إقامته تلك المدّة الطويلة في الخلوة والعزلة سألناه عن ذلك فقال‏:‏ بينما أنا في خلوتي إذ خطر ببالي الخروج إلى الصحراء منفردًا فخرجت فوجدت كل شيء من النبات ساكنًا لا يتحرك لعدم الريح وشدّة القيظ ومررت بنبات له ورق فرأيته في تلك الحال يميس بلطف ويتحرّك من غير عنف كالثمل النشوان فجعلت أقطف منه أوراقًا وآكلها فحدث عندي الارتياح ما شاهدتموه وقوموا بنا حتى أوقفكم عليه لتعرفوا شكله‏.‏

قال‏:‏ فخرجنا إلى الصحراء فأوقفنا على النبات فلما رأيناه قلنا هذا نبات يُعرف بالقنب فأمرنا أن نأخذ من ورقه ونأكله ففعلنا ثم عدنا إلى الزاوية فوجدنا في قلوبنا من السرور والفرح ما عجزنا عن كتمانه فلما رآنا الشيخ على الحالة التي وصفنا أمرنا بصيانة هذا العقار وأخذ علينا الأيمان أن لا يعلم به أحدًا من عوّام الناس وأوصانا أن لا نخفيه عن الفقراء وقال أن الله تعالى قد خصكم بسرّ هذا الورق ليُذهِبَ بأكله همومكم الكثيفة ويجلو بفعله أفكاركم الشريفة فراقبوه فيما أودعكم وراعوا فيما استرعاكم‏.‏

قال الشيخ جعفر‏:‏ فزرعتها بزاوية الشيخ حيدر بعد أن وقفنا على هذا السرّ في حياته وأمرنا بزرعها حول ضريحه بعد وفاته وعاش الشيخ حيدر بعد ذلك عشر سنين وأنا في خدمته لم أره يقطع أكلها في كل يوم وكان يأمرنا بتقليل الغذاء وأكل هذه الحشيشة وتوفي الشيخ حيدر سنة ثمان عشرة بزاويته في الجبل وعمل على ضريحه قبة عظيمة وأتته النذور الوافرة من أهل خراسان وعظموا قدره وزاروا قبره احترموا أصحابه وكان قد أوصى أصحابه عند وفاته أن يوقفوا ظرفاء قال‏:‏ ولم تزل الحشيشة شائعة ذائعة في بلاد خراسان ومعاملات فارس ولم يكن يِعرف أكلها أهل العراق حتى ورد إليها صاحب هرمز ومحمد بن محمد صاحب البحرين وهما من ملوك سيف البحر المجاور لبلاد فارس في أيام الملك الإمام المستنصر بالله وذلك في سنة ثمان وعشرين وستمائة فحملها أصحابهما معهم وأظهروا للناس أكلها فاشتهرت بالعراق ووصل خبرها إلى أهل الشام ومصر والروم فاستعملوها‏.‏

قال‏:‏ وفي هذه السنة ظهرت الدراهم ببغداد وكان الناس ينفقون القراضة وقد نسب إظهار الحشيشة إلى الشيخ حيدر الأديب محمد بن عليّ بن الأعمى الدمشقيّ في أبيات وهي‏:‏ دع الخمر من مدامه حيدر معنبرةً خضراء مثل الزبرجد يعاطيكها ظبيٌ من الترك أغيدٌ يميس على غصنٍ من البان أملد فنحسبها في كفه إذ يُديرها كرقم عذارِ فوق خدٍّ مورَّد يرنحها أدنى نسيم تنسَّمتْ فتهفو إلى برد النسيم المردِّدِ وتشدو على أغصانها الورقِ في الضحى فيطربها سجعُ الحمامُ المغرِّدِ وفيها معانْ ليس في الخمرِ مثلها فلا تستمع فيها مقالًا مفند هي البكرُ لم تُنكحْ بماءِ سحابةٍ ولا عُصرت يومًا برجْلٍ ولا يدِ ولا نصّ في تحريمها عند مالكٍ ولا حدّ عند الشافعيّ وأحمدِ ولا أثبت النعمانُ تنجيسَ عينها فخذها بحدِّ المشرفيّ المهندِ وكفٌ أكفَّ الهمَّ بالكفِ واسترحَ ولا تطرحْ يومًا السرورِ إلى غدِ وكذلك نُسب إظهارها إلى الشيخ حيدر الأديب أحمد بن محمد بن الرسَّام الحلبيّ فقال‏:‏ ومهفهفٌ بادي النفار عَهَدْتُهُ لا ألتقيه فطُ غيرَ معبسٍ فرأيته بعضُ الليالي ضاحكًا سهلُ العريكةِ ريضًا في المجلسِ فقضيتُ منه مآربي وشكرتُهُ إذ صارَ من عبد التنافرِ مؤنسي فأجابني لا تشكرنَّ خلائقي واشكر شفيعُكَ فهو خمُر المفلسِ فحشيشَةُ الأفراحِ تشفعُ عندنا للعاشقينَ ببسطها للأنفُسِ وذا هممتَ بصيد ظبي نافرِ فاجهدّ بأن يرعى حشيشَ القنبُسِ واشكر عصابة حيدرِ إذ أظهروا لذوي الخلاعةِ مذهبَ المتخمِّسِ ودع المعطِّلِ للسرورِ وخلني من حسنُ ظنِّ الناسِ بالمنمّسِ بزمان طويل وذلك أنه كان بالهند شيخ يُسمى بيررطن هو أوّل من أظهر لأهل الهند أكلها ولم يكونوا يعرفونها قبل ذلك ثم شاع أمرها في بلاد الهند حتى ذاع خبرها ببلاد اليمن ثم فشا إلى أهل فرس ثم ورد خبرها إلى أهل العراق والروم والشام ومصر في السنة التي قدّمت ذكرها‏.‏

قال‏:‏ وكان بيررطن في زمن الأكاسرة وأدرك الإسلام وأسلم وأنّ الناس من ذلك الوقت يستعملونها وقد نَسب إظهارها إلى أهل الهند عليّ بن مكيّ في أبيات أنشدنيها من لفظها وهي‏:‏ ألا فأكْفِفِ الأحزانَ عن مع الضرِّ بعذراءّ زُفَّتْ في ملاحفها الخضرِ تجلتّ لنا لما تحلتّ بسندسٍ فجلّت عن التشبيهِ في النظمِ والنثرِ بدت تملأُ الأبصارَ نورًا بحسنها فأخجل نورُ الروضِ والزهرُ بالزهرِ عروسٌ يُسرُّ النفسُ مكنون سُرِّها وتصبحُ في كل الحواسِ إذا تسري فللذّوقِ منها مطعم الشهدِ رائقًا وللشمِ منها فائقُ المسكِ بالنشرِ وفي لونها للطرفِ أحسنُ نزهةٍ يميلُ إلى رؤياهُ من سائرِ الزهرِ تركَّبُ من قانِ وأبيضَ فانثنتْ تتيهُ على الأزهار عاليةَ القدرِ فيكسفُ نور الشمس حمرةُ لونها وتخجلُ من مبيضِّهِ طلعةُ البدرِ تبدّتْ فأبدتْ ما أجنَّ من الهوى وجاءت فولتْ جندُ همي والفِكْرِ جميلةُ أوصافٍ جليلةُ رتبةٍ تغالتْ فغالى في مدائحها شعري فَقُمْ فانفِ جيشَ الهمِّ واكفِفْ يد العِنا بهنديةٍ أمضى من البيضِ والسُمرِ بنهديةٍ في أصل إظهار أكلها إلى الناسِ لا هندية اللونُ كالسُّمْرِ تُزيلُ لهيبَ الهمِّ عنّا بأكلِها وتُهدي لنا الأفراحَ في السرِّ والجهرِ قال‏:‏ وأنا أقول إنه قديم معروف منذ أوجد الله تعالى الدنيا وقد كان على عهد اليونانيين والدليل على ذلك ما نقله الأطباء في كتبهم عن بقراط وجالينوس من مزاج هذا العقار وخواصه ومنافعه ومضارّه قال ابن جزلة في كتاب منهاج البيان‏:‏ القنب الذي هو ورق الشهدانج منه بستانيٌّ ومنه برّيٌّ والبستانيُّ أجوده وهو حار يابس في الدرجة الثالثة وقيل حرارته في الدرجة الأولى ويقال أنه بارد يابس في الدرجة الأولى والبريّ منه حار يابس في الدرجة الرابعة‏.‏

قال‏:‏ ويُسمى بالكفِّ‏.‏

أنشدني تقيّ الدين الموصلي‏:‏ كفٌ كفَّ الهمومَ بالكفِّ فالك - فُّ شفاءٌ للعاشقِ المهمومِ بابنةِ القنَّبِ الكريمةِ لا بابن - ةِ كرمٍ بعد البنتِ الكُرومِ قال‏:‏ والفقراءإنما يقصدون استعماله مع ما يجدون من اللذة تجففًا للمنيّ وفي إبطاله قطعٌ لشهوة الجماع كي لا تميل نفوسهم إلى ما يوقع في الزنا‏.‏

وقال بعض الأطباء‏:‏ ينبغي لمن يأكل الشهدانج أو ورقه أن يأكله مع اللوز أو الفستق أو السكر أو العسل أو الخشخاش ويُشرب بعده الكسنجبين ليدفع ضرره وإذا قلي كان أقلُّ لضرره ولذلك جرت العادة قبل أكله أن يُقلى وإذا أُكل غير مقليّ كان كثير الضرر وأمزجة الناس تختلف في أكله فمنهم من لا يقدر أن يأكله مضافًا إلى غيره ومنهم من يضيف إليه السكر أو العسل أو غيره من الحلاوات‏.‏

وقرأت في بعض الكتب أن جالينوس قال إنها تبرىء من التخمة وهي جيدة للهضم وذكر ابن جزلة في كتاب المنهاج أن برز شجر القنب البستانيّ هو الشهدانج وثمره يشبه حب السمنة وهو حب يُعصر منه الدهن‏.‏

وحكي عن حنين بن إسحاق أنّ شجرة البري تخرج في القفار المنقطعة على قدر ذراع وورقه يغلب عليه البياض‏.‏

وقال يحيى بن ماسويه في كتاب تدبير أبدان الأصحاء‏:‏ أنّ من غلب على بدنه البلغم ينبغي أن تكون أغذيته مسخنة مجففة كالزبيب والشهدانج‏.‏

وقال صاحب كتاب إصلاح الأدوية‏:‏ أنّ الشهدانج يُدرُّ البول وهو عسر الانهضام رديء الخلط للمعدة‏.‏

قال‏:‏ ولم أجد لإزالة الزفر من اليد أبلغ من غسلها بالحشيشة ورأيت من خواصها أن كثيرًا من ذوات السموم كالحية ونحوها إذا شمت ريحها هربت ورأيت أن الإنسان إذا أكلها ووجد فعلها في نفسه وأحبّ أن يفارقه فعلها قطر في منخريه شيئًا من الزيت وأكل قال مؤلفه رحمه الله تعالى‏:‏ دع نزاهة القوم فما بُليّ الناس بأفسد من هذه الشجرة لأخلاقهم ولقد حدّثني القاضي الرئيس تاج الدين إسماعيل بن عبد الوهاب بن الخطباء المخزوميّ قبل اختلاطه عن الرئيس علاء الدين بن نفيس‏:‏ أنه سئل عن هذه الحشيشة فقال‏:‏ اعتبرتها فوجدتها تورث السفالة الرذالة وكذلك جرّبنا في طول عمرنا من عاناها فإنه ينحط في سائر أخلاقه إلى ما لا يكاد أن يبقى له من الإنسانية شيء البتة‏.‏

وقد قال ابن البيطار في كتاب المفردات‏:‏ ومن القنب نوع ثالث يقال له القنب الهنديّ ولم اره بغير مصر ويزرع في البساتين ويقال له الحشيشة عندهم أيضًا وهوي سكر جدًّا إذا تناول منه الإنسان قدر درهم أو درهمين حتى أنّ من أكثر منه يخرجه إلى حدّ الرعونة وقد استعمله قوم فاختلت عقولهم وأدّى بهم الحال إلى الجنون وربما قَتَلتْ‏.‏

ورأيت الفقراء يستعملونها على أنحاء شتى فمنهم من يطبخ الورق طبخًا بليغًا ويدعكه باليد دعكًا جيدًا حتى يتعجن ويعمل منه أقراصًا ومنهم من يجففه قليلًا ثم يحمصه ويفركه باليد ويخلط به قليل سمسم مقشور وسكَّر ويستفه ويطيل مضغه فإنهم يطربون عليه ويفرحون كثيرًا وربما أسكرهم فيخرجون به إلى الجنون أو قريب منه وهذا ما شاهدته من فعلها وإذا خيف من الإكثار منه فليبادر إلى القيء بسمن وماء سخن حتى تُبقى منه المعدة وشراب الحامض لهم فيغاية النفع فانظر كلام العارف فيها واحذر من إفساد بَشَريَّتِكَ وتلاف اخلاقك باستعمالها ولقد عهدناها وما يرمى بتعاطيها إلاّ أرذل الناس ومع ذلك فيأنفون من انتسابهم لها لما فيها من الشنعة وكان قد تتبع الأمير سودون الشيخونيّ رحمه الله الموضع الذي يُعرف بالجنينة من أرض الطبالة وباب اللوق وحكر واصل ببولاق وأتلف ما هنالك من هذه الشجرة الملعونة وقبض على من كان يبتلعها من أطراف الناس ورذلائهم وعاقب على فعلها بقلع الأضراس فقلع أضراس كثير من العامّة في نحو سنة ثمانين وسبعمائة وما برحت هذه الخبيثة تعدّ من القاذورات حتى قدم سلطان فتظاهر أصحابه بأكلها وشنع الناس عليهم واستقبحوا ذلك من فعلهم وعابوه عليهم فلما سافر من القاهرة إلى بغداد وخرج منها ثانيًا وأقام بدمشق مدّة تعلم أهل دمشق من أصحابه التظاهر بها‏.‏

وقدم إلى القاهرة شخص من ملاحدة العجم صنع الحشيشة بعسل خلط فيها عدّة أجزاء مجففةَ كعرف اللفاح ونحوه وسمَّاها العقدة وباعها بخفية فشاع أكلها وفشا في كثير من الناس مدّة أعوام فلما كان في سنة خمس وعشرة وثمانمائة شنع التجاهر بالشجرة الملعونة فظهر أمرها واشتهر أكلها وارتفع الاحتشام من الكلام بها حتى لقد كادت أن تكون من تحف المترفين وبهذا السبب غلبت السفالة على الأخلاق وارتفع ستر الحياء والحشمة من بين الناس وجهروا بالسوء من القول وتفاخروا بالمعايب وانحطوا عن كل شرف وفضيلة وتحلوا بكل ذميمة من الأخلاق ورذيلة فلولا الشكل لم تقض لم بالإنسانية ولولا الحس لما حكمت عليهم بالحيوانية وقد بدأ المسخ في الشمائل والأخلاق المنذر بظهوره على الصور والذوات عافانا الله تبارك وتعالى من بلائه وأرض الطبالة الآن بيد ورثة الحاجب‏.‏

أرض البعل والتاج قال ابن سيده‏:‏ البعل الأرض المرتفعة التي لا يصيبها المطر إلاّ مرّة واحدة في السنة‏.‏

وقيل‏:‏ البعل كلُّ شجر أو زرع لايُسعى‏.‏

وقيل‏:‏ البعل‏:‏ ما سقته السماء وقد استبعل الموضع‏.‏

والبعل‏:‏ من النخل ما شربَ بعروقه من غير سقي ولا ماء سماء‏.‏

وقيل هو ما اكتفى بماء السماء والبعل ما أعطِيّ من الأتاوة على سقي النخل واستبعل الموضع والنخل صار بعلًا‏.‏

وأرض البعل هذه بجانب الخليج تتصل بأرض الطبالة كانت بستانًا يُعرف بالبعل وفيه منظرة أنشأه الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجماليّ وجعل على هذا البستتان سورًا ولى جانب بستان البعل هذا بستان التاج وبستان الخمس وجوه وقد ذكرت مناظر هذه البساتين وما كان فيها للخلفاء الفاطميين من الرسوم عند ذكر المناظر من هذا الكتاب‏.‏

وأرض البعل في هذا الوقت مزرعة تجاه قنطرة الأوز التي على الخليج‏.‏

يخرج الناس للتنزه هناك أيام النيل وايام الربيع وكذلك أرض التاج فإنها اليوم قد زالت منها الأشجار واستقرّت من أراضي المنية الخراجية وفي أيام النيل ينبت فيها نبات يعرف بالبشنين له ساق طويل وزهره شبه اللينوفر وإذا أشرقت الشمس انفتح فصار منظرًا أنيقًا وإذا غربت الشمس انضم‏.‏

ويذكر أنّ من العصافير نوعًا صغيرًا يجلس العصفور منه في دار البشنينة فإذا أقبل الليل انضمت عليه وغطست في الماء فبات في جوفها آمنًا إلى أن تُشرق الشمس فتصعد البشنينة وتنفتح فيطير العصفور وهو شيء ما برحنا نسمعه‏.‏

وهذا البشنين يُصنع من زهره دهن يُعالج به في البرسام وترطيب الدماغ فينجع وأصله يُعرف بالبيارون يجمعه الأعراب ويأكلونه نيئًا ومطبوخًا وهو يميل إلى الحرارة يسيرًا ويزيد في الباه ويسخِّن المعدة ويقوّيها ويقطع الزحير ذكل ذلك ابن البيطار في كتاب المفردات وفي أيام الربيع تزرع هذه الأراضي فتذكِّر بحسنها ونضارتها جنة الخلد التي وعد المتقون‏.‏

وأدركتُ بهذه الأرض بقايا نخل وأشجار وقد تلفت‏.‏

ضواحي القاهرة قال ابن سيده‏:‏ ضواحي كل شيء نواحيه البارزة للشمس والضواحي من النخيل ما كان خارج السور على صفة عالية لأنها تضحى للشمس‏.‏

وفي كتاب النبيّ صلى الله عليه وسلم لأهل بدر‏:‏ ‏"‏ لكم الصامتة من النخل ولنا الضاحية من البعل ‏"‏ يعني بالصامتة‏:‏ ما أطاف به سور المدينة وضواحي الروم ما ظهر من بلادهم وبرز‏.‏

ويقال في زماننا لما خرج عن القاهرة مما هو في جنبتي الخليج من القرى ضواحي القاهرة وقد عرفت أصل ذلك من اللغة وتُعرف البلاد التي من الضواحي في غربيّ الخليج من القرى ضواحي القاهرة وقد عرفت أصل ذلك من اللغة وتُعرف البلاد التي من الضواحي في غربيّ الخليج بالحبس الجيوشيّ وهي‏:‏ بهتين والأميرية والمنية‏.‏

وكان أيضًا بناحية الجيزة من جملة الحبس الجيوشيّ ناحية سفط ونهيًا ووسيم حَبَس هذه البلاد أمير الجيوش بدر الجماليّ على عقبه‏.‏

فلما زالت الدولة الفاطمية جعل السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب أمر الأسطول لأخيه الملك العادل أبي بكر بن أيوب وسلّمه له في سنة سبع وثمانين وخمسمائة وأفرد لديوان الأسطول من الأبواب الديوانية الزكاة التي كانت تُجبى من الناس بمصر والحبس الجيوشي بالبرّين والنطرون والخراج وما معه من ثمن القرظ وساحل السنط والمراكب الديوانية وأشنأ وطنتدي وأحيل ورثة أمير الجيوش على غير الحبس الذي لهم ثم افتى الفقهاء ببطلان الحبس وقبضت النواحي وصارت من جملة أموال الخراج فعرفت ببلاد الملك وهذه الضواحي الآن منها ما هو وقف ومنها ما هو في الديوان السلطانيّ وخراجها يتميز على غيرها من النواحي ويُزرع أكثرها من الكتان والمقاثي وغيرها‏.‏

منية الأمراء قال ياقوت في كتاب المشترك‏:‏ المنية ثلاثة وأربعون موضعًا وجميعها بمصر غير واحدة وبمصر من القرى المسماة بهذا الإسم ما يقارب المائتين‏.‏

قال‏:‏ ومنية الشيرج ويقال لها منية الأمير ومنية الأمراء بُليدة فيها أسواق على فرسخ من القاهرة في طريق الإسكندرية‏.‏

وذكر الشريف محمد بن أسعد الجوانيّ النسابة‏:‏ أن قتلى أهل الشام الذين قُتلوا في وقعة الخندق بين مروان بن الحكم وعبد الرحمن بن جحدم أمير مصر في سنة خمس وستين من الهجرة دفنوا حيث موضع منية الشيرج هذه وكانوا نحوًا من الثمانمائة‏.‏

وقال ابن عبد الظاهر‏:‏ منية الأمراء من الحبس الجيوشيّ الشرقيّ الذي كان حبسه أمير الجيوش ثم ارتجع‏.‏

وفي كل سنة يأكل البحر منها جانبًا ويُجّدَّدُ جامعها ودورها حتى صار جامعها القديم ودورها في برّ الجيزة وغلب البحر عليها وهذه المنية من محاسن منتزهات القاهرة وكانت قد كثرت العمائر بها واتخذها الناس منزل قصف ودار لعب ولهو ومغنى صبابات وبها كان يُعمل عيد الشهيد الذي تقدّم ذكره عند ذكر النيل من هذا الكتاب لقربها من ناحية شبرا وبها سوق في كل يوم أحد يباع فيه البقر والغنم والغلال وهو من أسواق مصر المشهورة وأكثر من كان يسكن بها النصارى وكانت تُعرف بعصر الخمر وبيعه حتى أنه لما عظمت زيادة ماء النيل في سنة ثمان عشرة وسبعمائة وكانت الغرقة المشهورة وغرقت شبرا والمنية تلف فيها من جرار الخمر ما ينيف على ثمانين ألف جرّة مملوءة بالخمر وباع نصرانيّ واحد مرّة في يوم عيد الشهيد بها خمرًا باثني عشر ألف درهم فضة عنها يومئذٍ نحو الستمائة دينار وكسر منها الأمير بلبغا السالميّ في صفر سنة ثلاث وثمانمائة ما ينيف على أربعين ألف جرّة مملوءة بالخمر‏.‏

وما برحت تَغرق في الأنيال العالية إلى أن عمل الملك الناصر محمد بن قلاوون في سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة الجسر من بولاق إلى المنية كما ذُكر عند ذكر الجسور من هذا الكتاب‏.‏

فأَمِنً أهلها من الغرق وأدركناها عامرة بكثرة المساكن والناس والأسواق والمناظر وتقصد للنزهة بها أيام النيل والربيع ولا سيما في يومي الجمعة والأحد فإنه كان للناس بها في هذين اليومين مجتمع ينفق فيه مال كثير ثم لما حدثت المحن من سنة ست وثمانمائة الحّ المناسر بالهجوم عليها في الليل وقتلوا من أهلها عدّة فارتحل الناس منها وخلت أكثر دورها وتعطلت حتى لم يبق بها سوى طاحون واحدة لطحن القمح بعدما كان بها ما ينيف على ثمانين طاحونة وبها الآن بقية وهي جارية في الديوان السلطاني المعروف بالمفرد‏.‏

كرم الريش هذا اسم لبلد فيما بين أرض البعل ومنية الشيرج‏.‏

كان النيل يمرّ بغربيها بعد مروره بغربيّ أرض البعل وأدركت آثار الجروف باقية من غربيّ البعل وغربيّ كوم الريش إلى أطراف المنية حتى تغيرت الأحوال من بعد سنة ست وثمانمائة ففاض ماء النيل في أيام الزيادة ونزل في الدرب الذي كان يُسلك فيه من أرض الطبالة إلى المنية فانقطع هذا الدرب وترك الناس سلوكه وكان كوم الريش من أجلِّ منتزهات القاهرة ورغب أعيان الناس في سكناها للتنزه بها‏.‏

وأخبرني شيخنا قاضي القضاة مجد الدين إسماعيل بن إبراهيم الحنفي وخال أبي تاج الدين إسماعيل بن أحمد بن الخطباء أنهما أدركا بكوم الريش عدّة أمراء يسكون فيها دائمًا وأنه كان من جملة من يسكن فيها دائمًا نحو الثمانمائة من الجند السلطاني وأنا أدركت بها سوقًا عامرًا بالمعايش بأنواعها من المآكل لا أعرف اليوم بالقاهرة مثله في كثرة المآكل وأدركت بها حمّامًا وجامعين تقام بهما الجمعة وموقف مكارية ومنارة لا يقدر الواصف أني عبر عن حسنها لما اشتملت عليه من كل معنى رائق بهج وما بَرِحَتْ على ذلك إلى أن حدثت المحن من سنة ست وثمانمائة فطرقها أنواع الرزايا حتى صارت بلاقع وجُهلت طرقها وتغيرت معاهدها ونزل بها من الوحشة ما أبكاني وأنشدت في رؤيتها عندما شاهدتها خرابًا‏:‏ قفرًا كأنَكَ لم تكنْ تلهو بها في نعمةٍ وأوانسٍ أترابِ وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إنّ أخذ أليم شديد‏.‏

بولاق قد تقدّم في غير موضع من هذا الكتاب أن ساحل النيل كان بالمقس وأن الماء انحسر بعد سنة سبعين وخمسمائة عن جزيرة عرفت بجزيرة الفيل وتقلص ماء النيل عن سور القاهرة الذي ينتهي إلى المقس وصارت هناك رمال وجزائر ما من سنة إلاّ وهي تكثر حتى بقي ماء النيل لا يمرّ بها إلا أيام الزيادة فقط‏.‏

وفي طول السنة ينبت هناك البوص والحلفاء وتنزل المماليك السلطانية لرمي النشاب في تلك التلال الرمل‏.‏

فلما كان سنة ثلاث عشرة وسبعمائة رغب الناس في العمارة بديار مصر لشغف السلطان الملك الناصر بها ومواظبته عليها فكأنما نودي في القاهرة ومصر أن لا يتأخر أحد من الناس عن إنشاء عمارة وجدّ الأمراء والجند والكتّاب والتجّار والعامّة في البناء وصارت بولاق حينئذٍ تجاه بولاق التكرور فعمّر هناك رجل من التجار منظرة وأحاط جدارًا على قطعة أرض غرس فيها عدّة أشجار وتردّد إليها للنزهة‏.‏

فلما مات انتقلت إلى ناصر الدين محمد بن الجوكندار فعمر الناس بجانبها دورًا على النيل وسكنوا ورغبوا في السكنى هناك فامتدّت المناظر على النيل من الدار المذكورة إلى جزيرة الفيل وتفاخروا في إنشاء القصور العظيمة هناك وغرسوا من ورائها البساتين العظيمة وأنشأ القاضي ابن المغربيّ رئيس الأطباء بستانًا اشتراه منه القاضي كريم الدين ناظر الخاص للأمير سيف الدين طشتمر الساقي بنحو مائة ألف درهم فضة‏.‏

وكثر التنافس بين الناس في هذه الناحية وعمروها حتى انتظمت العمارة في الطول على حافة النيل من منية الشيرج إلى موردة الحلفاء بجوار الجامع الجديد خارج مصر وعمر في العرض على حافة النيل الغربية من تجاه الخندق بحريّ القاهرة إلى منشأة المهرانيّ‏.‏

وبقيت هذه المسافة العظيمة كلها بساتين وأحكارًا عامرة بالدور والأسواق والحمّامات والمساجد والجوامع وغيرها وبلغت بساتين جزيرة الفيل خاصة ما ينيف على مائة وخمسين بستانًا بعدما كانت في سنة أحدى عشرة وسبعمائة نحو العشرين بستانًا‏.‏

وأنشأ القاضي الفاضل جلال الدين القزوينيّ وولده عبد الله دارًا عظيمة على شاطيء النيل بجزيرة الفيل عند بستان الأمير ركن الدين بيبرس الحاجب‏.‏

وأنشأ الأمير عز الدين الخطيريّ جامعة ببولاق على النيل وأنشأ بجواره رُبعين‏.‏

وأنشأ القاضي شرف الدين بن زنبور بستانًا وأنشأ القاضي فخر الدين المعروف بالفخر ناظر الجيش بستانًا وحكر الناس حول هذه البساتين وسكنوا هناك ثم حفر الملك الناصر محمد بن قلاوون الخليج الناصريّ سنة خمس وعشرين وسبعمائة فعمر الناس على جانبي هذا الخليج وكان أوّل من عمر بعد حفر الخليج الناصريّ المهاميزي أنشأ بستانًا ومسجدًا هما موجودان إلى اليوم وتبعه الناس في العمارة حتى لم يبق في جميع هذه المواضع مكان بغير عمارة وبقي من يمرّ بها يتعجب إذ ما بالعهد من قِدّمٍ بينما هي تلال رمل وحلافي إذ صارت بساتين ومناظر وقصورًا ومساجد وأسواقًا وحمامات وأزقة وشوارع وفي ناحية بولاق هذه كان خص الكيالة الذي يؤخذ فيه مكس الغلة وأنشأ القاضي الفاضل جلال الدين القزوينيّ وولده عبد الله دارًا عظيمة على شاطيء النيل بجزيرة الفيل عند بستان الأمير ركن الدين بيبرس الحاجب‏.‏

وأنشأ الأمير عز الدين الخطيريّ جامعة ببولاق على النيل وأنشأ بجواره رُبعين‏.‏

وأنشأ القاضي شرف الدين بن زنبور بستانًا وأنشأ القاضي فخر الدين المعروف بالفخر ناظر الجيش بستانًا وحكر الناس حول هذه البساتين وسكنوا هناك ثم حفر الملك الناصر محمد بن قلاوون الخليج الناصريّ سنة خمس وعشرين وسبعمائة فعمر الناس على جانبي هذا الخليج وكان أوّل من عمر بعد حفر الخليج الناصريّ المهاميزي أنشأ بستانًا ومسجدًا هما موجودان إلى اليوم وتبعه الناس في العمارة حتى لم يبق في جميع هذه المواضع مكان بغير عمارة وبقي من يمرّ بها يتعجب إذ ما بالعهد من قِدّمٍ بينما هي تلال رمل وحلافي إذ صارت بساتين ومناظر وقصورًا ومساجد وأسواقًا وحمامات وأزقة وشوارع وفي ناحية بولاق هذه كان خص الكيالة الذي يؤخذ فيه مكس الغلة إلى أن أبطله الملك الناصر محمد بن قلاوون كما ذكر في الروك الناصريّ من هذا الكتاب‏.‏

ولما كانت سنة ست وثمانمائة انحسر ماء النيل عن ساحل بولاق ولم يزل يبعد حتى صار على ما هو عليه الآن وناحية بولاق الآن عامرة وتزايدت العمائر بها وتجدّد فيها عدّة جوامع وحمّامات ورباع وغيرها‏.‏