فصل: الميدان الناصريّ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **


 الميدان الناصريّ

هذا الميدان من جملة أراضي بستان الخشاب فيما بين مدينة مصر والقاهرة وكان موضعه قديمًا غامرًا بماء النيل ثم عُرف ببستان الخشاب فلما كانت سنة أربع عشرة وسبعمائة هدم السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون الميدان الظاهريّ وغرس في أشجارًا كما تقدّم وأنشأ هذا الميدان من أراضي بستان الخشاب فإنه كان حينئذ مطلًا على النيل وتجهز في سنة ثمان عشرة وسبعمائة للركوب إليه وفرّق الخيول على جميع الأمراء واستجدّ ركوب الأوجاقية بكوا في الزركس على صفة الطاسات فوق رؤوسهم وسمّاهم الجفتاوات فيركب منهم اثنان بثوبي حرير أطلس أصفر وعلى رأس كلّ منهما كوفية الذهب وتحت كل واحد فرس أبيض بحلية ذهب ويسيران معًا بين يدي السلطان في ركوبه من قلعة الجبل إلى الميدان وفي عودته منه إلى القلة وكان السلطان إذا ركب إلى هذا الميدان للعب الأكرة يفرّق حوائص ذهب على الأمراء المقدّمين وركوبه إلى هذا الميدان دائمًا يوم السبت في قوّة الحرّ بعد وفاء النيل مدّة شهرين من السنة فيفرّق في كلّ ميدان على اثنين بالنوبة فمنهم من تجيء نوبته بعد ثلاث سنين أو أربع سنين وكان من مصطلح الملوك أن تكون تفرقة السلطان الخيول على الأمراء في وقتين أحدهما عندما يخرج إلى مرابط خيله في الربيع عند اكتمال تربيعها وفي هذا الوقت يعطي أمراء المئين الخيول مسرجة ملجمة بكنابيش مذهبة بفضة خفيفة وليس لأمراء العشروات خظ في ذلك إلاّ ما يتفقدهم به على سبيل الأنعام ولخاصكية السلطان المقرّبين من أمراء المئين وأمراء الطبلخانات زيادة كثيرة من ذلك بحيث يصل إلى بعضهم المائة فرس في السنة‏.‏

وكان من شعار السلطان أن يركب إلى الميدان وفي عنق الفرس رقبة حرير أطلس أصفر بزركش ذهب فتستر من تحت أذني الفرس إلى حيث السرج ويكون قدّامه اثنان من الأوشاقية راكبين على حصانين اشبهين برقبتين نظير ما هو راكب به كأنهما معدّان لأن يركبهما وعلى الأوشاقين المذكورين قباآن اصفران من حرير بطراز مزركش بالذهب وعلى رأسهما قبعان مزركشان وغاشية السرج محمولة أمام السلطان وهي أديم مزركش مذهب يحملها بعض الركا بدارية قدّامه وهو ماش في وسط الموكب ويكون قدّامه فارس يشيبب بشبابة لا يقصد بنغمها إلا طراب بل ما يقرع بالمهابة سامعة ومن خلف السلطان الجنائب وعلى رأسه العصائب السلطانية وهي صفر مطرزة بذهب بألقابه واسمه وهذا لا يختص بالركوب إلى الميدان بل يُعمل هذا الشعار أيضًا إذا ركب يوم العيد أو دخل إلى القاهرة أو إلى مدينة من مدن الشام ويزداد هذا الشعار في يوم العيدين ودخول المدينة برفع المظلة على رأسه ويقال لها الحبر وهو أطلس أصفر مزركش من أعلاه قبة وطائر من فضة مذهبة يحملها يومئذ بعض أمراء المئين الأكابر وهو راكب فرسه إلى جانب السلطان ويكون أرباب الوظائف والسلا حدارية كلهم خلف السلطان ويكون حوله وأمامه الطبردارية وهم طائفة من الاكراد ذوي الإقطاعات والأمرة ويكونون مشاة وبأيديم الأطباء المشهورة‏.‏

قلعة الجبل قال ابن سيده في كتاب المحكم‏:‏ القعلة بتحريك القاف واللام والعين وفتحها الحصن الممتنع في جبل وجمعها قلاع وقلع وأقلعوا بهذه البلاد بنوها فجعلوها كالقلعة‏.‏

وقيل‏:‏ القلعة بسكون اللام حصن مشرف وجمعه قلوع وهذه القلعة على قطعة من الجبل وهي تصل بجبل المقطم وتُشرف على القاهرة ومصر والنيل والقرافة فتصير القاهرة في الجهة البحرية منها ومدينة مصر والقرافة الكبرى وبركة الحبش في الجهة القبلية الغربية والنيل الأعظم في غربيها وجبل المقطم من ورائها في الجهة الشرقية‏.‏

وكان موضعها أوّلًا يُعرف بقبة الهواء ثم صار من تحته ميدان أحمد بن طولون ثم صار موضعها مقبرة فيها عدّة مساجد إلى أن أنشأها السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب أوّل الملوك بديار مصر على يدّ الطواشي بهاء الدين قراقوش الأسديّ في سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة وصارت من بعده دارالمُلك بديار مصر إلى يومنا هذا وهي ثامن موضع صار دار المملكة بديار مصر‏.‏

وذلك أن دار الملك كانت أولًا قبل الطوفان مدينة أمسوس ثم صار تخت الملك بعبد الطوفان بمدينة منف إلى أن خرّبها بخت نصر ثم لما ملك الإسكندر بن فيليبس سار إلى مصر وجدّد بناء الإسكندرية فصارت دار المملكة من حينئذ بعد مدينة منف الإسكندرية إلى أن جاء الله تعالى بالإسلام وقدم عمرو بن العاص رضي الله عنه بجيوش المسلمين إلى مصر وفتح الحصن واختط مدينة فسطاط مصر فصارت دار الإمارة من حينئذ بالفسطاط إلى أن زالت دولة بني أمية وقدمت عساكر بني العباس إلى مصر وبنوا في ظاهر الفسطاط العسكر فصار الأمراء من حينئذ تارة ينزلون في العسكر وتارة في الفسطاط إلى أن بنى أحمد بن طولون القصر والميدان وأنشأ القطائع بجانب العسكر فصارت القطائع منازل الطولونية إلى أن زالت دولتهم فسكن الأمراء بعد زوال دولة بني طولون بالعسكر إلى أن قدم جوهر القائد من بلاد المغرب بعساكر المعز لدين الله وبنى القاهرة المعزية فصارت القاهرة من حينئذ دار الخلافة ومفرّ الإمامة ومنزل الملك إلى أن انقضت الدولة الفاطمية على يد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب فلما استبدّ بعدهم بأمر سلطنة مصر بنى قلعة الجبل هذه ومات فسكنها من بعده الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب واقتدى به مَنْ مَلَك مصر من بعده من أولاده إلى أن انقرضوا على يد مماليكهم البحرية وملكوا مصر من بعدهم فاستقرّوا بقلعة الجبل إلى يومنا هذا وسأجمع إن شاء الله تعالى من أخبار قلعة الجبل هذه وذكر من ملكها ما فيه كفاية‏.‏

والله أعلم‏.‏

اعلم أن أوّل ما عُرف من خبر موضع قلعة الجبل أنه كان فيه قبة تعرف بقة الهواء قال أبو عمرو الكنديّ في كتاب أمراء مصر‏:‏ وابتنى حاتم بن هرثمة القبة التي تعرف بقبة الهواء وهو أوّل من ابتناها وولي مصر إلى أن صُرف عنها في جمادى الآخرة سنة خمس وتسعين ومائة قال‏:‏ ثم مات عيسى بن منصور أمير مصر في قبة الهواء بعد عزله لا حدى عشرة خلت من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وثلاثين ومائتين ولما قدم أمير المؤمنين المأمون إلى مصر في سنة سبع عشرة ومائتين جلس بقبة الهواء هذه وكان بحضرته سعيد بن عفير فقال المأمون‏:‏ لعن الله فرعون حيث يقول‏:‏ أليس لي ملك مصر فلو رأى العراق وخصبها‏.‏

فقال سعيد بن عفير‏:‏ يا أمير المؤمنين لا تقل هذا فإن الله عز وجل قال‏:‏ ‏"‏ ودمّرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون ‏"‏ الأعراف 37 فما ظنك يا أمير المؤمنين بشيء دمّره الله هذا بقيته ثم قال سعيد‏:‏ لقد بلغنا أن أرضًا لم تكن أعظم من مصر وجميع أهل الأرض يحتاجون إليها وكانت الأنهار بقناطر وجسور بتقدير حتى أنّ الماء يجري تحت منازلهم وأفنيتهم يُرسلونه متى شاؤوا ويحبسونه متى شاؤوا وكانت البساتين متصلة لا تنقطع ولقد كانت الأمةٌ تضع المكتل على رأسها فيمتلىء مما يسقط من الشجر وكانت المرأة تخرج حاسرة لا تحتاج إلى خمار لكثرة الشجر وفي قبة الهواء حبس المأمون الحارث بن مسكين‏.‏

قال الكنديّ في كتاب الموالي‏:‏ قدم المأمون مصر وكان بها رجل يقال له الحضرميّ يتظلم من ابن أسباط وابن تميم فجلس الفضل بن مروان في المسجد الجامع وحضر مجلسه يحيى بن أكثم وابن أبي داود وحضر إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد وكان على مظالم مصر وحضر جماعة من فقهاء مصر وأصحاب الحديث وأحضر الحارث بن مسكين ليولي قضاء مصر فدعاه الفضل بن مروان فبينما هو يكلمه إذ قال الحضرميّ للفضل‏:‏ سل أصلحك الله الحارث عن ابن أسباط وابن تميم‏.‏

قال‏:‏ ليس لهذا أحضرناه‏.‏

قال‏:‏ أصلحك الله سله فقال الفضل للحارث‏:‏ ما تقول في هذين الرجلين فقال‏:‏ ظالمين غاشمين‏.‏

قال‏:‏ ليس لهذا أحضرناك فاضطرب المسجد وكان الناس متوافرين فقام الفضل وصار إلى المأمون بالخبر وقال‏:‏ خفت على نفسي من ثوران الناس مع الحارث فأرسل المأمون إلى الحارث فدعاه فابتدأه بالمسألة فقال‏:‏ ما تقول في هذين الرجلين فقال‏:‏ ظالمين غاشمين‏.‏

قال‏:‏ هل ظلماك بشيء قال‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فعاملتهما قال‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فكيف شهدت عليهما قال‏:‏ كما شهدت أنك أمير المؤمنين ولم أرك قد إلاّ الساعة وكما شهدت أنك غزوت ولم أحضر عزوك‏.‏

قال‏:‏ إخرج من هذه البلاد فليست لك ببلاد وبع قليلك وكثيرك فإنك لا تعايها أبدًا‏.‏

وحبسه في رأسك الجبل في قبة ابن هرثمة ثم انحدر المأمون إلى البشرود وأحضره معه فلما فتح البشرود أحضر الحارث فلما دخل عليه سأله عن المسألة التي سأله عنها بمصر فردّ عليه الجواب بعينه فقال‏:‏ فأيّ شيء تقول في خروجنا هذا قال‏:‏ أخبرني عبد الرحمن بن القاسم عن مالك أنّ الرشيد كتب إليه في أهل دهلك يسأله عن قتالهم فقال‏:‏ إن كانوا خرجوا عن ظلم من السلطان فلا يحلّ قتالهم وإن كانوا إنما شقوا العصا فقتالهم حلال‏.‏

فقال المأمون‏:‏ أنت تيس ومالك أتيس منك ارحل عن مصر‏.‏

قال‏:‏ يا أمير المؤمنين إلى الثغور قال الحق بمديننة السلام‏.‏

فقال له أبو صالح الحرّاني‏:‏ يا أمير المؤمنين تغفر زلته قال‏:‏ يا شيخ تشفعت فارتفع‏.‏

ولما بنى أحمد بن طولون القصر والميدان تحت قبة الهواء هذه كان كثيرًا ما يُقيم فيها فإنها كانت تشرف على قصره واعتنى بها الأمير أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون وعل لها الستور الجليلة والفرش العظيمة في كلّ فصل ما يناسبه‏.‏

فلما زالت دولة بني طولون وخرب القصر والميدان كانت قبة الهواء مما خرب كما تقدّم ذكره عند ذكر القطائع من هذا الكتاب ثم عُمل موضع قبة الهواء مقبرة وبني فيها عدّة مساجد‏.‏

قال الشريف محمد بن أسعد الجوانيّ النسابة في كتاب النقطة في الخطط‏:‏ والمساجد المبنية على الجبل المتصلة باليحاميم المطلة على القاهرة المعزية التي فيها المسجد المعروف بسعد الدولة والترب التي هناك تحتوي القلعة التي بناها السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب علي الجميع وهي التي نعتها بالقاهرة وبنيت هذه القلعة في مدّة يسيرة وهذه المساجد هي مسجد سعد الدولة ومسجد معز الدولة‏.‏

والي مصر ومسجد مقدّم بن عليان من بني بويه الديلميّ ومسجد العدّة بناه أحد الأستاذين الكبار المستنصرية وهو عدّة الدولة وكان بعد مسجد معز الدولة ومسجد عبد الجبار بن عبد الرحمن بن شبل بن عليّ رئيس الرؤساء‏.‏

وكافي الكفاة أبي يعقوب بن يوسف الوزير بهمدان ابن عليّ‏.‏

بناه وانتقل بالإرث إلى ابن عمه القاضي الفقيه أبي الحجاج يوسف بن عبد الجبار بن شبل وكان من أعيان السادة ومسجد قسطة وكان غلامًا أرمنيًا من غلمان المظفر بن أمير الجيوش مات مسمومًا من أكلة هريسة‏.‏

وقال الحافظ أبو الطاهر السلفيّ‏:‏ سمعت أبا منصور قسطة الأرمنيّ والي الاسكندرية يقول‏:‏ كان عبد الرحمن خطيب ثغر عسقلان يخطب بظاهر البلد في عيد من الأعياد فقيل له‏:‏ قد قَرُبَ منا العدو‏.‏

فنزل عن المنبر وقطع الخطبة فبلغه أن قومًا من العسكرية عابوا عليه فعله فخطب في الجمعة الأخرى داخل البلد في الجامع خطبة بليغة قال فيها‏:‏ قد زعم قوم أن الخطيب فزع وعن المنبر نزع وليس ذلك عارًا على الخطيب فإنما ترسه الطيلسان وحسامه اللسان وفرسه خشب لا تجري من الفرسان وإنما العار على من تقلد الحسام وسنّ السنان وركب الجياد الحسان وعند اللقاء يصيح إلى عسقلان‏.‏

وكان قسطة هذا من عقلاء الأمراء المائلين إلى العدل المثابرين على مطالعة الكتب وأكثر ميله إلى التواريخ وسير المتقدّمين وكان مسجده بعد مسدد شقيق الملك ومسجد الديلميّ وكان على قرنة الجبل المقابل للقلعة من شرقيها إلى البحريّ وقبره قدّام الباب‏.‏

وتربة وَلَخْشى الأمير والد السلطان رضوان بن ولخشى المنعوت بالأفضل كان من الأعيان الفضاء الأدباء ضرب على طريقة ابن البوّاب وأبي عليّ بن مقلة وكتب عدّة ختمات وكان كريمًا شجاعًا يُلقَّب فحل الأمراء وكانت هذه التربة آخر الصف ومسجد شقيق الملك الأستاذ خسروان صاحب بيت المال أضيف إلى سور القلعة البحري إلى المغرب قليلًا ومسجد أمين الملك صارم الدولة مفلح صاحب المجلس الحافظيّ كان بعد مسجد القاضي أبي الحجاج المعروف بمسجد عبد الجبار وهو في وسط القلعة بعده تربة لاون أخي يانس ومسجد القاضي النبيه كان لمام الدولة غنّام ومات رسولًا ببلاد الشام وشراه منه وأنشأه القاضي النبيه وقبره به وكان القاضي من الأعيان‏.‏

وقال ابن عبد الظاهر‏:‏ أخبرني والدي قال‏:‏ كنا نطلع إليها يعني إلى المساجد التي كانت موضع قلعة الجبل قبل أن تُسكن في ليالي الجمع نبيت متفرّجين كما نبيت في جواسق الجبل والقرافة‏.‏

قال مؤلفه رحمه الله‏:‏ وبالقلعة الآن مسجد الردينيّ وهو أبو الحسن علي بن مرزوق بن عبد الله الردينيّ الفقيه المحدّث المفسر كان معاصرًا لأبي عمر وعثمان بن مرزوق الحوفيّ وكان ينكر على أصحابه وكانت كلمته مقبولة عند الملوك وكان يأوي بمسجد سعد الدولة ثم تحوّل منه إلى مسجد عُرف بالردينيّ وهو الموجود الآن بداخل قلعة الجبل وعليه وقف بالإسكندرية وفي هذا المسجد قبر يزعمون أنه قبره وفي كتب المزارات بالقرافة أنّه توفي ودفن بها في سنة أربعين وخمسمائة بخط سارية شرقيّ تربة الكيروانيّ واشتهر قبره بإجابة الدعاء عنده‏.‏

بناء قلعة الجبل وكان سبب بنائها أن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب لما أزال الدولة الفاطمية من مصر واستبدّ بالأمر لم يتحوّل من دار الوزارة بالقاهرة ولم يزل يخاف على نفسه من شيعة الخلفاء الفاطميين بمصر ومن الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي سلطان الشام رحمة الله عليه فامتنع أوّلًا من نور الدين بأن سير أخاه الملك المعظم شمس الدولة توران شاه بن أيوب في سنة تسع وستين وخمسمائة إلى بلاد اليمن لتصير له مملكة تعصمه من نور الدين فاستولى شمس الدولة على ممالك اليمن وكفى الله تعالى صلاح الدين أمر نور الدين ومات في تلك السنة فحلا له الجوّ وأمن جانبه وأحبّ أن يجعل لنفسه معقلًا بمصر فإنه كان قد قسم القصرين بين أمرائه وأنزلهم فيهما فيقال أنّ السبب الذي دعاه إلى اختيار مكان قلعة الجبل أنه علق اللحم بالقاهرة فتغير بعد يوم وليلة فعلق لحم حيوان آخر في موضع القلعة فلم يتغير إلا بعد يومين وليلتين فأمر حينئذ بإنشاء قلعة هناك وأقام على عمارتها الأمير بهاء الدين قراقوش الأسديّ فشرع في بنائها وبنى سور القاهرة الذي زاده في سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة وهدم ما هنالك من المساجد وأزال القبور وهدم الأهرام الصغار التي كانت بالجيزة وقناطر الجيزة وقصد أن يجعل السور يحيط بالقاهرة والقلعة ومصر فمات السلطان قبل أن يتم الغرض من السور والقلعة فأهمل العمل إلى أن كانت سلطنة الملك الكامل محمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب في قلعة الجبلواستنابته في مملكة مصر وجعله وليّ عهد فأتم بناء القلعة وأنشأ بها الآدر السلطانية وذلك في سنة أربع وستمائة وما برح يسكنها حتى مات فاستمرّت من بعده دار مملكة مصر إلى يومنا هذا وقد كان السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب يقيم بها أيامًا وسكنها الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين في أيام أبيه مدّة ثم انتقل إلى دار الوزارة‏.‏

قال ابن عبد الظاهر‏:‏ وسمعت حكاية تُحكى عن صلاح الدين أنه طلعها ومعه أخوه الملك العادل فلما رآها التفت إلى أخيه وقال‏:‏ يا سيف الدين قد بنيت هذه القلعة لأولادك‏.‏

فقال‏:‏ يا خوند منَّ الله عليك أنت وأولادك وأولاد أولادك بالدنيا‏.‏

فقال‏:‏ ما فهمت ما قلت لك أنا نجيب ما يأتي لي أولاد نجباء وأنت غير نجيب فأولادك يكونون نجباء فسكت‏.‏

قال مؤلفه رحمه الله‏:‏ وهذا الذي ذكره صلاح الدين يوسف من انتقال الملك عنه إلى أخيه وأولاد أخيه لي سهو خاصًا بدولته بل اعتُبر ذلك في الدول جد الأمر ينتقل عن أولاد القائم بالدولة إلى بعض أقاربه هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القائم بالملة الإسلامية ولما توفي صلى الله عليه وسلم انتقل أمر القيام بالملة الإسلامية بعده إلى أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه واسمه عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرّة بن كعب بن لؤيّ فهو رضي الله عنه يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في مرّة بن كعب ثم انتقل الأمر بعد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم إلى بني أمية كان القائم بالدولة الأموية معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية فلم تفلح أولاده وصارت الخلافة إلى مروان بن الحكم بن العاص بن أمية فتوارثها بنو مروان حتى انقضت دولتهم بقيام بني العباس رضي الله عنه فكان أول من قام من بني العباس عبد الله بن محمد السفاح ولما مات انتقلت الخلافة من بعده إلى أخيه أبي جعفر عبد الله بن محمد المنصور واستقرّت في بنيه إلى أن انقرضت الدولة العباسية من بغداد‏.‏

وكذا وقع في دولة العجم أيضًا فأول ملوك بني بوبه عماد الدين أبو عليّ الحسن بن بويه والقائم من بعده في السلطنة أخوه حسن بن بويه وأوّل ملوك بني سلجوق طغريل والقائم من بعده ي السلطنة ابن أخيه البارسلان بن داو بن ميكال بن سلجوق وأوّل قائم بدول بني أيوب السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ولما مات اختلف أولاده فانتقل ملك مصر والشام وديار بكر والحجاز واليمن إلى أخيه الملك العادل أبي بكر بن أيوب واستمرّ فيهم لى أن انقرضت الدولة الأيوبية فقام بمملكة مصر المماليك الأتراك وأوّل من قام منهم بمصر الملك المعز أيبك فلما مات لم يفلح ابنه عليّ فصارت المملكة إلى قطز وأوّل من قام بالدلة الجركسية الملك الظاهر برقوق وانتقلت المملكة من بعد ابنه الملك الناصر فرج إلى الملك المؤيد شيخ المحموديّ الظاهريّ وقد جمعت في هذه فصلًا كبيرًا وقلما تجد الأمر بخلاف ما قلته لك ولله عاقبة الأمور‏.‏

قال ابن عبد الظاهر‏:‏ والملك الكامل هو الذي اهتم بعمارتها وعمارة أبراجها البرج الأحمر وغيره فكملت في سنة أربع وستمائة وتحوّل إليها من دار الوزارة ونقل إليها أولاد العاضد وأقاربه وسجنهم في بيت فيها فلم يزالوا فيه إلى أن حوّلوا منه في سنة إحدى وسبعين وستمائة‏.‏

قال‏:‏ وفي آخر سنة اثنتين وثمانين وستمائة شرع السلطان الملك المنصور قلاون في عمارة برج عظيم على جانب باب السرّ الكبير وبنى علوه مشترفات وقاعات مرخمة لم ير مثلها وسكنها في صفر سنة ثلاث وثمانين وستمائة ويقال أن قراقوش كان يستعمل في بناء القلعة والسور خمسين ألف أسير‏.‏

البئر التي بالقلعة‏:‏ هذه البئر من العجائب استنبطها قراقوش‏.‏

قال ابن عبد الظاهر‏:‏ وهذه البئر من عجائب الأبنية تدور البقر من أعلاها فتنقل الماء من نقالة في وسطها وتدور أربقار في وسطها وتنقل الماء من أسفلها ولها طريق إلى الماء ينزل البقر إلى معينها في مجاز وجميع ذلك حجر منحوت ليس فيه بناء وقيل أن أرضها مسامّة أرض بركة الفيل وماؤها عذب‏.‏

سمت من يحكي من المشايخ أنها لما نُقِرت جاء ماؤها حلوًا فأرد قراقوش أو نوّا به الزيادة في مائها فوسع نقر الجبل فخرجت منه عين مالحة غيرت حلاوتها‏.‏

وذكر القاضي ناصر الدين شافع بن عليّ في كتاب عجائب البنيان أنه يُنزل إلى هذه البئر بدرج نحو ثلاثمائة درجة‏.‏

صفة القلعة وصفة قلعة الجبل أنها بناءً على نشزعال يدور بها سور من حجر بأبراج وبدنات حتى تنتهي إلى القصر الأبلق ثم من هناك تتصل بالدور السلطانية على غير أوضاع أبراج الغلال ويُدخل إلى القلعة من بابين أحدهما بابها الأعظم المواجه للقاهرة ويُقال له الباب المدرّج وبداخله يجلس وغلي القلة ومن خارجه تدق الخليلية قبل المغرب‏.‏

والباب الثاني باب القرافة وبين البابين ساحة فسيح في جانبها بيوت وبجانبها القبليّ سوق للمآكل ويتوصل من هذه الساحة إلى دركاه جليلة كان يجلس بها الأمراء حتى يؤذن لهم بالدخول وفي وسط الدركاه باب القلعة ويُدخل منه في دهليز فسيح إلى ديار وبيوت وإلى الجامع الذي تقام به الجمعة ويُمشى في دهليز باب القلعة في مداخل أبواب إلى رحبة فسيحة في صدرها الإيوان الكبير المعدّ لجلوس السلطان في يوم المواكب وإقامة دار العدل‏.‏

وبجانب هذه الرحبة ديار جليلة ويمرّ منها إلى باب القصر الأبلق وبين يدي باب القصر رحبة ون الأولى يجلس بها خواص الأمراء قبل دخولهم إلى الخدمة الدائمة بالقصر وكان بجانب هذه الرحبة محاذيًا لباب القصر خزانة القصر ويُدخل من باب القصر في دهاليز خمسة إلى قصر عظيم ويتوصل منه إلى الإيوان الكبير بباب خاص ويُدخل منه أيضًا إلى قصور ثلاثة ثم إلى دور الحرم السلطانية وإلى البستان والحمّام والحوش وباقي القلعة فيه دور ومساكن للمماليك السلطانية وخواص الأمراء بنسائم وأولادهم ومماليكهم ودواوينهم وطشتخاناتهم وفرشخاناتهم وشربخاناتهم ومطابخهم وسائر وظائفم وكانت أكابر أمراء الألوف وأعيان أمراء الطبلخاناه والعشراوات تسكن بالقلعة إلى آخر أيام الناصر محمد بن قلاون وكان بها أيضًا طباق المماليك السلطانية ودار الوارة وتعرف بقاعة الصاحب وبها قاعدة الإنشاء وديوان الجيش وبيت المال وخزانة الخاص وبها الدور السلطانية من الطشتخاناه والركابخاناه والحوائجخاناه والزردخاناه وكان بها الجب الشنيع لسجن الأمراء وبها دار النيابة وبها عدّة أبراج يحبس بها الأمراء والمماليك وبها المساجد والحوانيت والأسواق وبها مساكن تعرف بخرائب التتر كانت قدر حارة خرّبها الملك الأشرف برسباي في ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وثمانمائة ومن حقوق القلعة الإصطبل السلطانيّ وكان ينزل إليه السلطان من جانب إيوان القصر ومن حقوقها أيضًا الميدان وهو فاصل بين الإصطبلات وسوق الخيل من غربيه وهو فسيح المدى وفيه يُصلي السلطان صلاة العيدين وفيه يلعب بالأكرة مع خواصه وفيه تعمل المدّات أوقات المهمات أحيانًا ومن رأى القصور والإيوان الكبير والميدان الأخضر والجامع يقرّ لملوك مصر بعلوّ الهمم وسعة الإنفاق والكرم‏.‏

باب الدرفيل‏:‏ هذا الباب بجانب خندق القلعة ويُعرف أيضًا بباب المدرج وكان يُعرف قديمًا بباب سارية ويُتوصل إليه من تحت دار الضيافة وينتهي منه إلى القرافة وهو فيما بين سور القلعة والجبل‏.‏

والدرفيل هو الأمير حسام الدين لاجين الأيدمريّ المعروف بالدرفيل دوادار الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري مات في سنة اثنتين وسبعين وستمائة‏.‏

دار العدل القديمة‏:‏ هذه الدار موضعها الآن تحت القلعة يُعرف بالطبلخاناه والذي بنى دار العدل الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري في سنة إحدى وستين وستمائة وصار يجلس بها لعرض العساكر في كل اثنين وخمسين وابتدأ بالحضور في أوّل سنة اثنتين وستين وستمائة وصار يجلس بها لعرض العساكر في كلّ اثنين وخميس وابتدأ بالحضور في أوّل سنة اثنتين وستين وستمائة فوقف إليه ناصر الدين محمد بن أبي نصر وشكا أنه أُخذ له بستان في أيام المعز أيبك وهو بأيدي المقطعين وأخرج كتابًا مثبتًا وأخرج من ديوان الجيش ما يشهد بأن البستان ليس من حقوق الديوان فأمر بردّه عليه فتسلمه‏.‏

وأحضرت مرافعة في ورقة مختوم رفعها خادم أسود في مولاه القاضي شمس الدين شيخ الحنابلة تضمنت أنه يبغض السلطان ويتمنى زوال دولته فإنه لم يجعل للحنابلة مدرّسًا في المدرسة التي أنشأها بخط بين القصرين ولم يولّ قاضياَ حنبليًا وذكر عنه أمورًا قادحة فبعث السلطان الورقة إلى الشيخ فحضر إليه وحلف أنه ما جرى منه شيء وأن هذا الخادم طردتهفاختلق عليّ ما قال‏.‏

فقبل السلطان عذره وقال‏:‏ ول شتمتني أنت في حلّ وأمر بضرب الخادم مائة عصا‏.‏

وغلت الأسعار بمصر حتى بلغ أردب القمح نحو مائة درهم وعُدم الخبز فنادى السلطان في الفقراء أن يجتمعوا تحت القلعة ونزل في يوم الخميس سابع ربيع الآخر منها وجلس بدار الدل هذه ونظر في أمر السعر وأبطل التسعير وكتب مرسومًا إلى الأمراء ببيع خمسمائة أردب في كلّ يوم ما بين مائتين إلى ما دونهما حتى لايشتري الخزن شيئًا وأن يكون البيع للضعفاء والأرامل فقط دون من داهم وأمر الحجاب فنزلوا تحت القلعة وكتبة أسماء الفقراء الذين تجمعوا بالرميلة وبعث إلى كلّ جهة من جهات القاهرة ومصر وضواحيهما حاجبًا لكتابة أسماء الفقراء وقال‏:‏ والله لو كان عندي غلة تكفي هؤلاء لفرّقتها ولما انتهى إحضار الفقراء أخذ منهم لنفسه ألوفًا وجعل باسم ابنه الملك السعيد ألوفًا وأمر ديوان الجيش فوزع باقيهم على كلّ أمير من الفقراء بعدّة رجاله ثم فرّق ما بقي على الأجناد ومفاردة الحلقة والمقدّمين والبحرية وجعل طائفة التركمان ناحية وطائفة الأكرد ناحية وقرّر لكلّ واحد من الفقراء فرّق من بقي منهم على الأكابر والتجار والشهود وعين لأرباب الزوايا مائة أردب قمح في كلّ يوم تُخرج من الشون السلطانية إلى جامع أحمد بن طولون وتفرّق على من هناك ثم قال‏:‏ هؤلاء المساكين الذين جمعناهم اليوم ومضى النهار لابدّ لهم من شيء وأمر ففرّق فيهم جملة مال وأعطى للصاحب بهاء الدين عليّ بن محمد بن حنا طائفة كبيرة من العميان وأخذ الأتابك سيف الدين أقطاي طائفة التركمان ولم يبق من أحد ن الخاص والأمراء والحواشي ولا من الحجاب والولاة وأرباب المناصب وذوي المراتب وأصحاب الأموال حتى أخذ جماعة من الفقراء على قدر حاله‏.‏

وقال السلطان للأمير صارم الدين المسعودي والي القاهرة‏:‏ خذ مائة فقير وأطعمهم لله تعالى‏.‏

فقال‏:‏ نعم قد أخذتهم دائمًا‏.‏

فقال له السلطان هذا شيء فعلته ابتداءً من نفسك وهذه المائة خذها لأجلي‏.‏

فقال للسلطان‏:‏ السمع والطاعة وأخذ مائة فقير زيادة على المائة التي عينت له وانقضى النهار في هذا العمل وشرع الناس في فتح الشون والمخازن وتفرقة الصدقات على الفقراء فنزل سعر القمح ونقص الأردب عشرين درهمًا وقلّ وجود الفقراء إلى أن جاء رمضن وجاء المغلّ الجديد فأوّل يوم من بيع الجديد نقص سعر أردب القمح أربعين درهمًا ورقًا وفي اليوم الذي جلس فيه السلطان بدار العدل للنظر في أمور الأسعار قرئت عليه قصة ضمان دار الضرب وفيها أنه قد توقفت الدراهم وسألوا إبطال الناصرية فإن ضمانهم بمبلغ مائتين ألف وخمسين ألف درهم فوقع عليها يحط عنهم منها مبلغ خمسين ألف درهم وقال‏:‏ وفي مستهل شعر رجب منها جلس أيضًا بدار العدل فوقف له بعض الأجناد بصغير يتيم ذُكر أنه وصيه وشكا في قضيته‏.‏

فقال السلطان لقاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأغر أنّ الأجناد إذا مات أحد منهم استولى خجداشه على موجود فيموت الوصيّ ويكبر اليتيم فلا يجد له مالًا وتقدّم إليه أن لا يمكن وصيًا من الانفراد بتركة ميت ولكن يكون نظر القاضي شاملًا له وتصير أموال الأيتام مضبوطة بأمناء الحكم‏.‏

ثم أنه استدعى نقباء العساكر وأمرهم بذلك فاستمرّ الحال فيه على ما ذكر‏.‏

وفي خامس عشري شعبان سنة ثلاث وستين وستمائة جلس بدار العدل واستدعى تاج الدين ابن القرطبيّ وقال له‏:‏ قد أضجرتني مما تقول عندي مصالح لبيت المال فتحدّث الآن بما عندك فتكلّم في حق قاضي القضاة تاج الدين وفي حق متولي جزيرة سواكن وفي حق الأمراء وأنهم إذا مات منهم أحد أخذ ورثته أكثر من استحقاقهم فأنكر عليه وأمر بحبس وتحدّث السلطان في أمر الأجناد وأنه إذا مات أحدهم في مواطن الجهاد لا يصل إليه شاهد حتى يشهد عليه بوصيته وأنه يُشهد بعض أصحابه فإذا حضر إلى القاهرة لا تقبل شهادته وكان الجنديّ في ذلك الوقت لا تُقبل شهادته فرأى السلطان أن كل أمير يعين من جماعته عدّة ممن يعرف خيره ودينه ليسمع قولهم وألزم مقدّمي الأجناد بذلك فشرع قاضي القضاة في اختيار رجال وجلس أيضًا في تاسع عشرية بدار العدل فوقف له شخص وشكا أن الأملاك الديوانية لا يمكن أحد من سكانها أن ينتقل منها فأنكر السلطان ذلك وأمر أن من انقضت مدّة إجارته وأراد الخلوّ فلا يُمنع من ذلك وله في ذلك عدّة أخبار كلها صالحة رحمه الله تعالى‏.‏

وما برحت دار العدل هذه باقية إلى أن استجدّ السلطان الملك المنصور قلاون الإيوان فهُجرت دار العدل هذه إلى أن كانت سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة فهدمها السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون وعمل موضعها الطبلخاناه فاستمرّت طبلخاناه إلى يومنا إلاّ أنه كان في أيام عمارتها إنما يجلس بها دائمًا في أيام الجلوس نائب دار العدل ومعه القضاة وموقع دار العدل والأمراء فينظر نائب دار العدل‏.‏

في أمور المتظلمين وتقرأ عليه القصص وكان الأمر على ذلك في أيام الظاهر بيبرس وأيام ابنه الملك السعيد بركة ثم أيام الملك المنصور قلاون‏.‏

الإيوان‏:‏ المعروف بدار العدل هذا الإيوان أنشأه السلطان الملك المنصور قلاون الألفيّ الصالحي النجمي ثم جدده ابنهن السلطان الملك الأشرف خليل واستمرّ جلوس نائب دار العدل به فلما عمل الملك الناصر محمد بن قلاون الروك أمر بهدم هذا الإيوان فهُدم وأعاد بناء على ما هو عليه الآن وزاد فيه وأنشأ به قبة جليلة وأقام به عُمدًا عظيمة نقلها إليه من بلاد الصعيد ورخمه ونصب في صدره سرير الملك وعمله من العاج والأبنوس ورفع سمك هذا الإيوان وعمل أمامه رحبة فسيحة مستطيلة وجعل بالإيوان باب سرّ من داخل القصر وعمل باب الإيوان مسبوكًا من حديد بصناعة بديعة تمنع الداخل إليه وله منه باب يُغلق فإذا أراد أن يجلس فتح حتى ينظر منه ومن تخاريم الحديد بقية العسكر الواقفين بساحة الإيوان وقرّر للجلوس فيه بنفسه يم الاثنين ويوم الخميس فاستمرّ الأمر على ذلك وكان أولًا دون ما هو اليوم فوسع في قبته وزاد في ارتفاعه وجعل قدّامه دركاة كبيرى فجاء من أعظم المباني الملوكية وأوّل ما جلس فيه عند انتهاء عمل الروك بعدما رسم لنقيب الجيش أن يستدعي سائر الأجناد فلما تكامل حضورهم جلس وعي أن يحضر في كلّ يوم مقدّمًا ألوف بمضافيهما فكان المقدّم يقف بمضافيه ويستدعي بمضافيه من تقدمته على قدر منازلهم فيتقدم الجندّي إلى السلطان فيسأله أنت ابن من ومملوك من ثم يُعطيه مثالًا واستمر على ذلك من مستهل المحرّم سنة خمس عشرة وسبعمائة إلى مستهل صفر منها وما برح بعد ذلك يواظب على الجلوس به في يومي الإثنين والخميس وعنده أمراء الدولة والقضاة والوزير وكاتب السرّ وناظر الجيش وناظر الخاص وكتاب الدست وتقف الأجناد بين يديه على قدر أقدارهم فلما مات الملك الناصر اقتدى به في ذلك أولاده من بعده واستمروا على الجلوس بالإيوان إلى أن استبدّ بمملكة مصر الملك الظاهر برقوق فالتزم ذلك أيضًا إلاّ أنه صار يجلس فيه إذا طلت الشمس جلوسًا يسيرًا يُقرأ عليه في بعض قصص لا لمعنى سوى إقامة رسوم المملكة فقط وكان من قبله من ملوك بني قلاون إنما يجلسون بالإيوان سحرًا على الشمع وكان موضع جلوس السلطان في الإيوان للنظر في المظالم فأعرض الملك الظاهر عن ذلك وجعل لنفسه يومين يجلس فيهما بالإصطبل السلطانيّ للحكم بين الناس كما سيأتي ذكره عن قريب إن شاء الله تعالى وصار الإيوان في أيام الظاهر برقوق وأيام ابنه الملك الناصر فرج وأيام الملك المؤيد شيخ إنما هو شيء من بقايا الرسوم الملوكية لاغير‏.‏