فصل: تابع

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **


 وخرج مختار الصقلبيّ وعليّ بن عمر العدّاس والرجال بين أيديهم ينادون لا يتكلّم أحد ولا ينطق وقد اجتمع الناس فيما بين القصر ودار الوزير التي عرفت بدار الديباج ثمّ خرج العزيز من القصر على بغلة والناس يمشون بين يديه وخلفه بغير مظلّة والحزن ظاهر عليه حتّى وصل إلى داره فنزل وصلّة عليه وقد طرح على تابوته ثوب مثقل ووقف حتّى دفن بالقبّة التي كان بناها وهو يبكي ثمّ أنصرف‏.‏

وسُمع العزيز وهو يقول‏:‏ واطول أسفي عليك يا وزير والله قو قدرت أفديك بجميع ما أملك لفعلت‏.‏

وأمر بإجراء غلمانه على عادتهم وعتق جميع مماليكه وأقام ثلاثًا لا يأكل على مائدته ولا يحضرها من عادته الحضور وعمل على قبره ثوبان مثقلان وأقام الناس عند قبره شهرًا وغدا الشعراء إلى قبر فرثاه مائة شاعر أجيزوا كلّهم وبلغ العزيزَ أنّ عليه ستّة عشر ألف دينار دَيْنًا فأرسل بها إلى قبره فوضت عليه وفرّقت على أرباب الديون وألزم القرّاء بالمقام على قبره وأجرى عليهم الطعام وكانت الموائد تُحضَر إلى قبره كلّ يوم مدّة شهر يحضر نساء الخاصّة كلّ يوم ومعهنّ نساء العامّة فتقوم الجواري بأقداح الفضّة والبلّور وملاعق الفضّة فيسقين النساء الأشربة والسَوابق بالسكّر ولم تتأخّر نائحة ولا لاعبة عن حضور القبر مدّة الشهر وخلّف أملاكًا وضياعًا قياسير ورباعًا عينًا وورقًا وأواني ذهبًا وفضّة وجوهرًا وعنبرًا وطِيبًا وثيابًا وفرشًا ومصاحف وكتبًا وجواري وعبيدًا وخيلًا وبغالًا ونوقًا وحُمُرًا وإبلًا وغِلالًا وخزائن ما بين أشربة وأطعمة قُوِّمت بأربعة آلاف ألف دينار سوى ما جهّز به ابنته وهو ما قيمته مائتا ألف دينار وخلّف ثمانمائة حظيّة سوى جواري الخدمة فلم يتعرّض العزيز لشيء ممّا يملكه أهله وجواريه وغلمانه وأمر بحفظ جهاز ابنته إلى أن زّوجها وأجرى لمن في داره كلّ شهر ستمائة دينار للنفقة سوى الكسوة والجِرايات وما يحمل إليهم من الأطعمة من القصر وأمر بنقل ما خلّفه إلى القصر فلمّا تمّ له من يوم وفاته شهر قطع الأمير منصور بن العزيز جميع مستغلاّته وأقرّ العزيزُ جميعَ ما فعل الوزير وما ولاّه من العمّال على حاله وأجرى الرسوم التي كان يُجريها وأقرّ غلمانه على حالهم وقال‏:‏ هؤلاء صنائعي‏.‏

وكانت عدّة غلمان الوزير أربعة آلاف غلام عُرفوا بالطائفة الوزيريّة وزاد العزيز أرزاقهم عمّا كانت عليه وأدناهم وإليهم تُنسب الوزيريّة فإنّها كانت مساكنهم‏.‏

واتّفق أنّ الوزير عمَر قبّة أنفق عليها خمسة عشر ألف دينار وآخر ما قال‏:‏ لقد طال أمر هذه القبّة ما هذه قبّة هذه تربة‏.‏

فكانت كذلك ودفن تحتها وموضع قبره اليوم المدرسة الصاحبيّة واتّفق أنّه وجد في داره رقعة مكتوب فيها‏:‏ احذروا من حوادث الأزمانِ وتوقّوا طوارقَ الحِدثان قد أمنتمْ رِيب الزمان ونمتمُ رُبَّ خوفٍ مكمن في الأمان فلمّا قرأها قال‏:‏ لا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم ولم يلبث بعدها إلا أيامًا يسيرة ومرض فمات‏.‏

حارة الباطلية عرفت بطائفة يقال لهم الباطلية قال ابن عبد الظاهر‏:‏ وكان المعزّ لما قسم العطاء في الناس جاءت طائفة فسألت عطاء فقيل لها‏:‏ أفرغ ما كان حاضرًا ولم يبق شيء فقالوا‏:‏ رحنا نحن في الباطل فسمّوا الباطليّة وعرفت هذه الحارة بهم‏.‏

وفي

 

سنة ثلاث وستّين وستّمائة

احترقت حرة الباطليّة عندما كثر الحريق في القاهرة ومصر واتّهم النصارى بفعل ذلك فجمعهم الملك الظاهر بيبرس وحملت لهم الأحطاب الكثيرة والحّلْفاء وقُدِّموا ليحرقوا بالنار فتشفّع لهم الأمير فارس الدين أقطاي أتابك العساكر على أن يلتزموا بالأموال التي احترقت وأن يحملوا إلى بيت الماء خمسين ألف دينار فتُرِكوا‏.‏

وجرى في ذلك ما تستحسن حكايته وهو أنّه قد جمع مع النصارى سائر اليهود وركب السلطان ليحرقهم بظاهر القاهرة وقد اجتمع الناس من كلّ مكان للتشفّي بحريقهم لما نالهم من البلاء فيما دُهوا به من حريق الأماكن لاسيّما الباطليّة فإنّها أتت النار عليها حتّى حُرقت بأسرها‏.‏

فلمّا حضر السلطان وقدم اليهود والنصارى ليُحرَقوا برز ابنُ الكازروني اليهوديّ - وكان صيرفيًا - وقال للسلطان‏:‏ سألتك بالله لا تحرقنا مع هؤلاء الكلاب الملاعين أعدائنا وأعدائكم احرقنا ناحية وحدنا فضحك السلطان والأمراء وحينئذٍ تقرّر الأمر على ما ذكر فندب لاستخراج المال منهم الأمير سيف الدين بلبان المهراني فاستخلص بعض ذلك في عدّة سنين وتطاول الحال فدخل كتّاب الأمراء مع مخادعيهم وتحيّلوا في إبطال ما بقي فبطل في أيام السعيد بن الظاهر‏.‏

وكان سبب فعل النصارى لهذا الحريق حقنهم لمّا أخذ الظاهر من الفرنج أرسوف وقيسارية وطرابلس ويافا وأنطاكية‏.‏

وما زالت الباطلية خرابًا والناس تضرب بحريقها المثل لمن يشرب الماء كثيرًا فيقولون‏:‏ كأنّ في باطنه حريق الباطليّة‏.‏

ولما عمر الطواشي بهادر المقدّم داره بالباطليّة عمر فيها مواضع بعد سنة خمس وثمانين وسبعمائة‏.‏

حارة الروم قال ابن عبد الظاهر‏:‏ واختطّت الروم حارتّيْن‏:‏ حارة الروم الآن وحارة الروم الجوّانية فلمّا ثقل ذلك عليهم قالوا‏:‏ الجوّانية لا غير‏.‏

والورّاقون إلى هذا الوقت يكتبون حارة الروم السفلي وحارة الروم العليا المعروفة اليوم بالجوّانية‏.‏

وفي سابع عشر ذي الحجّة سنة تسع وتسعين وثلثمائة أمر الخليفة الحاكم بأمر الله بهدم حارة الروم فهدمت ونهبت‏.‏

حارة الديلم عرفت بذلك لنزول الديلم الواصلين مع هفتكين الشرابي حين قدم ومعه أولاد مولاه معزّ الدولة البويهي وجماعة من الدَّيْلَم والأتراك في سنة ثمان وستّين وثلثمائة فمكنوا بها فعرفت بهم‏.‏

وهفتكين هذا يقال له الفتكين أبو منصور التركيّ الشرابيّ غلام معزّ الدولة وكان فيه شجاعة وثبات في الحراب‏.‏

فلمّا سارت الأتراك من بغداد لحرب الديلم جرى بينهم قتال عظيم اشتهر فيه هفتكين إلاّ أن أصحابه انهزموا عنه وصار في ظائفة قليلة فولّى بمن معه من الأتراك وهم نحو الأربعمائة فسار إلى الرحبة وأخذ منها على البرّ إلى أن قرب من حوشبة إحدى قرى الشام وقد وقع في قلوب العربان منه مهابة فخرج إليه ظالم بن مرهوب العقيلي من بعلبك وبعث إلى أبي محمود إبراهيم بن جعفر أمير دمشق من قبل الخليفة المعزّ لدين الله يُعلمه بقدومه هفتكين من بغداد الإقامة الخطبة العباسيّة وخوّفه منه فأنفذ إليه عسكرًا وسار إلى ناحية حوشبة يريد هفتكين وسار بشارة الخادم من قبل أبي المعالي بن حمدان عونًا لهفتكين فَرُدَّ ظالم إلى بعلبك من غير حرب وسار بشارة بهفتكين إلى حمص فحمل إليه أبو المعالي وتلقّاه وأكرمه‏.‏

وكان قد ثار بدمشق جماعة من أهل الدّعارة والفساد وحاربوا عمّال السلطان واشتدّ أمرهم وكان كبيرهم يُعرف بابن الماورد فلمّا بلغهم خبب هفتكين بعثوا إليه من دمشق إلى حمص يستدعونه ووعدوه بالقيام معه على عساكر المعزّ وإخراجهم من دمشق لِيليَ عليهم فوقع ذلكمنه بالموافقة وسار حتّى نزل بثنية العقاب لأيام بقيت من شعبان سنة أربع وستّين وثلثمائة فبلغ عسكر المعزّ خبر الفرنج وأنّهم قد قصدوا طرابلس فساروا بأجمعهمإلى لقاء العدوّ ونظل هفتكين على دمشق من غير حرب فأقام أيامًا ثم سار يريد محاربة ظالم ففرّ منه ودخل هفتكين بعلبكّ فطرقه العدوّ من الروم والفرنج وانتهبوا بعلبك وأحرقوا وذلك في شهر رمضان وانتشروا في أعمال بعلبك والبقاع يقتلون ويأْسرون ويحرقون وقصدوا دمشق وقد التحق بها هفتكين فخرج إليهم أهل دمشق وسألوهم الكفّ عن البلد والتزموا بمال فخرج إليهم هفتكين وأهدى إليهم وتكلّم معهم في أنه لا يستطيع جباية المال لقوّة ابن الماورد وأصحابه وأمر ملك الروم به فقبض عليه وقيّده وعاد فجبى المال من دمشق بالعنف وحمل إلى ملك الروم ثلاثين ألف دينار ورحل إلى بيروت ثمّ إلى طرابلس فتمكن هفتكين من دمشق وأقام بها الدعوة لأبي بكر عبد الكريم الطائع بن المطيع العباسيّ وسيّر إلى العرب السرايا فظفرت وعادت إليه بعده بمن أسَرته من رجال العرب فقتلهم صبرًا‏.‏

وكان قد تخوّف من المعزّ فكاتب القرامطة يستدعيهم من الأحْسَاء للقدوم عليه لمحاربة عساكر المعزّ وما زال بهم حتّة وافوا دمشق في سنة خمس وستّين ونزلوا على ظاهرها ومعهم كثير من أصحاب هفتكين الذين كانوا قد تشتتوا في البلاد فقوي بهم ولقي القرمطة وحمل إليهم وسرّ بهم فأقاموا على دمشق إيامًا ثمّ رحلوا نحو الرّمْلة وبها أبو محمود فلحق بيافا ونزل القرامطة الرملة ونصبوا القتال على يافا حتّة كّلّ الفريقان وسئموا جميعًا من طول الحرب وسار هفتكين على الساحل ونزل صيدا وبها ظالم بن مروب العقيليّ وابن الشيخ من قبل المعزّ وفقاتلهم قتالًا شديدًا انهزم منه ظالم إلى صور وقتل بين الفريقين نحو أربعة آلاف رجل فقطع أيدي القتلى من عسكر المعزّ وسيّرها إلى دمشق فطيف بها ثمّ سار عن صيدا يريد عكّا وبها عسكر المعزّ وكان قد مات المعزّ في ربيع الآخر سنة 365 ه وقام من بعده ابنه العزيز بالله وسيّر جوهرًا القائد في عسكر عظيم إلى قتال هفتكين والقرامطة فبلغ ذلك القرامطة وهم على الرملة ووصل الخبر بمسيره إلى هفتكين وهو على عكّا فخاف القرامطة وفرّوا عنها فنزلها جوهر وسار من القرامطة إلى الأحساء التي هي بلادهم جماعة وتأخّر عدّة وسار هفتكين من عكّا إلى طبريّة وقد علم بمسير القرامطة وتأخّر بعضهم فاجتمع بهم في طبرية واستعدّ للقاء جوهر وجمع الأقوات من بلاد حوران والثنية وأدخلها إلى دمشق وسار إليها فتحصن بها ونزل جوهر على ظاهر دمشق لثمان بقين من ذي القعدة فبنى على معسكره سورًا وحفر خندقًا عظيمًا وجعل له أبوابًا وجمع هفتكين الناس للقتال‏.‏

وكان قد بقي عبد ابن الماورد ردل يعرف بقسّام التراب وصار في عدّة وافرة من الدعّار فأعانه هفتكين وقوّاه وامدّه بالسلاح وغيره ووقعت بينهم وبين جوهر حروب عظيمة طويلة إلى يوم الحادي عشر من ربيع الأوّل سنة ستّ وستين وثلاثمائة فاختلّ أمر هفتكين وهمّ بالفرار ثمّ إنه استظهر ووردت الأخبار بقدوم الحسن بن أحمد القرمطيّ إلى دمشق فطلب جوهر الصلح على أن يرحل عن دمشق من غير أن يتبعه أحد وذلك أنه رأى أواله قد قلّت وهلك كثير ممّا كان في عسكره حتّى صار أكثر عسكره رجّالة وأعوزهم العلف وخشي قدوم القرامطة فأجابه هفتكين وقد عظم فرحه واشتدّ سروره فرحل في ثالث جمادي الأول وجدّ في المسير وقد قرب القرامطة فأناخ بطبريّة فبلغ ذلك القرمطي فقصده وقد سار عنها إلى الرملة فبعض غليه بسرية كانت لها مع جوهر وقعة قتل فيها جماعة من العرب وأدركه القرمطي وسار في أثره هفتكين فمات الحسن بن أحمد القرمطي بالرملة وقام من بعده بأمر القرامطة ابن عمّه جعفر ففسد ما بينه وبين هفتكين ورجع عن الرملة إلى الأحساء وناصب هفتكين القتال وألح فيه على جوهر حتّى انهزم عنه وسار إلى عسقلان وقد غنم هتفكين ممّا كان معه شيئًا يجلذ عن الوصف ونزل على البلد محاصرًا لها‏.‏

وبلغ ذلك العزيز فاستعدّ للمسير إلى بلاد الشام فلما طال الأمر على جهور راسل هفتكين حتّى يقرّر الصلح على مال يحمله إليه وأن يخرج من تحت سيف هفتكين فعلق سيفه على باب عسقلان وخرج جوهر ومن معه من تحته وساروا إلى القاهرة فوجد العزيز قد برز يريد المسير فسار معه وكان مدّة قتال هفتكين لجوهر على ظاهر الرملة وفي عسقلان سبعة عشر شهرًا‏.‏

وسار العزيز بالله حتّى نزل الرملة وكان هفتكين بطبرّية فسار إلى لقاء العزيز ومعه أبو إسحاق وأبو ظاهر أخو عز الدولة ابن بختيار بن أحمد بن نويه وأبو اللحاد مرزبان عز الدولة ابن بختيار بن عز الدولة ابن بويه فحاربوه فلم يكن غير ساعة حتّى هزمتْ عساكرُ العزيز عساكر هفتكين وملكوه في يوم الخميس لسبع بقين من المحرّم سنة ثمان وستّين وثلثمائة واستأمن أبو إسحاق ومرزبان بن بختيار وقُتل أبو طاهر أخو عز الدولة ابن بختيار وأخذ أكثر أصحابه أسرى وطُلب هفتكين في وكان قد فرّ وقت الهزيمة على فرس بمفرده فأخذه بعض العرب أسيرًا فقد به على مفرّج بن دعقل بن الجراح الطائيّ وعمامته في عنقه فبعض به إلى العزيز فأمر به فشهر في العسكر وطيف به على جمل فأخذ الناس يلطمونه ويهزَّون لحيته حتى رأى في نفسه العبر ثم سار العزيز بهفتكين والأسرى إلى القاهرة فاصطنعه ومن معه وأحسن إليه غاية الإحسان وأنزله في دار وواصله بالعطاء والخلع حتّى قال‏:‏ لقد احتشمت من ركوبي مع مولانا العزيز بالله وتطوّفي إليه بما غموني من فضله وإحسانه‏.‏

فلما بلغ ذلك العزيز قال لعمه حيدرة‏:‏ يا عمّ والله إني أحبّ أن أرى النعم عند الناس ظاهرة وارى عليهم الذهب والفضة والجهور ولهم الخيل واللباس والضياع والعقار وأن يكون ذلك كلّه من عندي‏.‏

وبلغ العزيز أنّ الناسَ من العامّة يقولون‏:‏ ما هذا التركيّ فأمر به فشهّر في أجمل حال ولمّا رجع من تطوّفه وهب له مالًا جزيلًا وخلع عليه وأمر سائر الأولياء بأن يدعوه إلى دورهم فما منهم إلا من عمل له دعوة وقدم غليه وقاد بين يديه الخيول‏:‏ ثمّ إن العزيز قال له بعد ذلك‏:‏ كيف رأيت دعوات أصحابنا فقال‏:‏ يما مولانا حسنة في الغاية وما فيهم إلا من أنعم وأكرم‏.‏

فصار يركب للصيد والتفرّج وجمع إليه العزيز بالله أصحابه من الأتراك والديلم واستحبجه واختصّ به ومازال على ذلك إلى أن توفّي في سنة اثنين وسبعين وثلثمائة فاتّهم العزيزُ وزيرَه يعقوبض بن حارة الأتراك هذه الحارة تجاه الجامع الأزهر وترعف اليوم بدرب الأتراك وكان نافذًا إلى حارة الديلم والورّاقون القدماء تارة يفردونها من حالة الديلم وتارة يضيفونها إليها ويجعلونها من حقوقها فيقولون تارة‏:‏ حارة الديلم والأتراك وتراة يقولون‏:‏ حارتي الديلم والأتراك وقيل لها حارة الأتراك لأنّ هفتكين لما غلب ببغداد سار معه من جنسه أربعمائة من الأتراك وتلاحق به عند ورود القرامطة عليه بدشمق عدة من أصحابه فلما دمع لحرب العزيز بالله كان أصحابه ما بين ترك وديلم فلما قبض عليه العزيز ودخل به إلى القاهرة في الثاني والعشرين من شهر ربيع الأول سنة ثمان وستّين وثلثمائة كما تقدّم نزل الديلم مع أصحابهم في موضع حارة الديلم ونزل هفتكين بأتراكه في هذا المكان فصار يعرف بحارة الأتراك‏.‏

وكانت مختلطة بحارة الديلم لأنهما أهل دعوة واحدة إلا أنّ كلّ جنس على حدة لتخالفهما في الجنسيّة ثم قيل بعد ذلك درب الأتراك‏.‏

حارة كتامة هذه الحارة مجاورة لحارة الباطليّة وقد صارت الآن من جملتها‏.‏

كانت منازل كاتمة بها عندما قدموا من المغرب مع القائد جوهر ثمّ مع العزيز وموضع هذه الحارة اليوم حمام كواي وما جاورها مما وراء مدرسة ابن الغنام حيث الموضع المعروف بدرب ابن الأعسر إلى رأس الباطلية وكانت كتامة هي أصل دولة الخلفاء الفاطميين‏.‏

أبي عبد الله الشيعي هو الحسن بن أحمد بن محمد بن زكريا الشيعي من أهل صنعاء اليمن ولي الحِسبة في بعض أعمال بغداد ثمّ سار إلى ابن حوشب باليمن وصار من كبار أصحابه وكان له علم وفهم وعنده دهاء ومكر فورد على ابن حوشب موت الحلوانيّ داعي المغرب ورفيقه فقال لأبي عبد الله الشيعي‏:‏ إنّ أرض كُتامة من بلاد المغلاب قد خَربها الحلوانيّ وأبو سفيان وقد ماتا وليس لها غيرك فبادر فإنّها موطّأة ممهّدة لك‏.‏

فخرج من اليمن إلى مكّة وقد زوّده ابن حوشب بمال فسأل عن حجّاج كُتامة فأُرشد إليهم واجتمع بم وأخفى عنهم قصد وذلك أنه جلس قريباص منهم فسمعهم يتحدّثون بفضائل آل البيت فحدّثهم في ذلك وأطال ثمّ نهض ليقوم فسألوه أن يأذن لهم في زيارته فأذن لهم فصاروا يتردّدون إليه لما رأوا من علمه وعقله ثمّ إنهم سألوه أينّ يقصد فقال‏:‏ أُريد مصر فسرّوا بصحبته ورحلوا من مكّة وهو لا يخبرهم شيئًا من خبره وما هو عليه من القصد‏.‏

وشاهدوامنه عبادة وورعًا وتحرّجًا وزهادة فقويت رغبتهم فيه واشتملوا على محبّته واجتمعوا على اعتقاده وساروا بأسرهم خدمًا له‏.‏

وهو في أثناء ذلك يستخبرهم عن بلادهم ويَعلم أحوالهم ويفحص عن قبائلم وكيف طاعتهم للسلطان بإفريقية فقالوا له‏:‏ ليس له علينا طاعة وبيننا وبينه عشرة أيان قال‏:‏ أفتحملون السلاح قالوا‏:‏ هو شغلنا‏.‏

وما برح حتّى عرف جميع ما هم عليه‏.‏

فلمّا وصلوا إلى مصر أخذ يودّعهم فشقّ عليهم فراقه وسألوه عن حاجته بمصر فقال‏:‏ ما لي بها من حاجة إلا أنّي أطلب التعليم بها‏.‏

قالوا‏:‏ فأمّا إذا كنتَ تقصد هذا فإنّ بلادنا أنفع لك وأطوع لأمرك ونحن أعرف بحقّك ومازالوا به حتّى أجابهم إلى المسير معهم فساروا به إلى أن قاربوا بلادهم وخرج لى لقائهم أصحابهم وكان عندهم حسّ كبير من التشيّع واعتقاد عظيم في محبّة أهل البيت كما قرّره الحلوانيّ فعرّفهم القوم خبر أبي عبد الله فقاموا بحقّ تعظيمه وإجلاله ورغبوا في نزوله عندهم واقترعوا فيمن يضيفه ثمّ ارتحلوا إلى أرض كُتامة فوصلوا إليها منتصف الربيع الأوّل سنة ثمان وثمانين ومائتين فما منهم إلا منْ سأله أن يكون منزله عنده فلم يوافق أحدًا منهم وقال‏:‏ أين يكون فجّ الأخيار فعجبوا من ذلك ولم يكونوا قطّ ذكروه له منذ صحبوه فدلّوه عليه فقصده وقال‏:‏ إذا حللنا به صرنا نأتي كلّ قوم منكم في ديارهم ونزورهم في بيوتهم فرضوا جميعًا بذلك‏.‏

وسار إلى جيل يلحان وفيه فج الأخيار فقال هذا فج الأخيار وما سمّي إلا بكم ولقد جاء في الآثار للمهديّ هجرة ينبو بها عن الأوطان ينصره فيها الأخيار من أهل ذلك الزمان قوم اسمهم مشتقّ من الكتمان ولخروجكم في هذا الفجّ سمّي فجّ الأخير فتسامعت به القبائل وأتته البربر من كلّ مكان وعظم أمره حتى أنّ كتامة اقتتلت عليه مع قبائل البربر وهو لا يذكر اسم المهدي ولا يعرّج عليه فبلغ خبره إبراهيم بن الأغلب أمير إفريقية فقال أبو عبد الله لكتامة‏:‏ أنا صاحب النذر الذي قال لكم أبو سفيان والحلوانيّ فازداد محبّتهم له وعظم أمره فيهم وأتته القبائل من كلّ مكان وسار إلى مدينة تاصروق ومع الخيل وصيّر أمرها للحسن بن هارون كبير كتامة وخرج للحرب فظفر وغنم وعمل على تاصروق خندقًا فرجعت إليه قبائل من البربر وحاربوه فظفر بهم وصارت إليه أموالهم ووالى الغزو فيهم حتّى استقام له أمرهم فسار وأخذ مدائن عدّة فبعض إليه ابن الأغلب بعساكر كانت له معهم حروب عظيمة وخطوب عديدة وأنباء كثيرة آلت إلى غلب أبي عبد الله وانتشار أصحابه من كتامة في البلاد فصارو يقول‏:‏ المهديّ يخرج في هذا الأيام ويملك الأرض فيا طوبى لمن هاجر إليَّ وأطاعني‏.‏

وأخذ يغري الناس بابن الأغلب ويذكر كرامات المهدي وما يفتح الله له ويعدهم بأنّهم يملكون الأرض كلّها‏.‏

وسير إلى عبيد الله بن محمد رجالًا من كتامة ليخبروه بما فتح الله له وأنه ينتظره فوافوا عبيد الله بسليمة من أرض حمص وكان قد اشتهر بها وطلبه الخليفة المكتفي ففرّ منه بابنه أبي القاسم وسار إلى مصر وكان لهما قصص مع النوشزي عامل مصر حتّى خلصا منه ولحاق ببلاد المغرب‏.‏

وبلغ ابنَ الأغلب زيادة الله خبرُه مسير عبيد الله فأزكى له العيون وأقام له الأعوان حتّى قبض عليه بسلجماسة وكان عليها اليسع بن مدرار وحبس بها هو وابنه أبو القاسم‏.‏

وبلغ ذلك أبا عبد الله وقد عظم أمره فسار وضايق زيادة الله بن الأغلب وأخذ مدائنه شيئًا بعد شيء وصار فيما ينيف على مائتي ألف وألحّ على القيروان حتّى فرّ زيادة الله إلى مصر وملكها أبو عبد الله ثم سار إلى رفادة فدخلها أوّل رجب سنة ست وتسعين ومائتين وفرّق الدُور على كتامة وبعث العمال إلى البلاد وجمع الموال ولم يخطب باسم أحد‏.‏

فملا دخل شهر رمضان سار من رفّادة فاهتزّ لرحيله المغرب بأسره وخافته زَناتة وغيرها وبعثوا إليه بطاعتهم وسار إلى سَلجماسة ففرّ منه اليسع بن مدرار واليها ودخل البلد فأخرج عبيد الله وابنه من السجن وقال‏:‏ هذا المهديّ الذي كنت أدعوكم إليه‏.‏

وأركبه هو وابنه ومشى بسائر رؤساء القبائل بين أيديهما وهو يقول‏:‏ هذا مولاكم ويبكي من شدّة الفرح حتة وصل إلى فسطاط ضُرب له فأنزل فيه وبعض في طلب اليسع فأدركه وحمل إليه فضربه بالسياط وقتله ثمّ سار المهدي إلى رفادة فصار بها في آخر ربيع الآخر سنة سبع وتسعين ومائتين‏.‏

ولما تمكّن قتل أبا عبد الله وأخاه في يوم الاثنين للنصف من جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين ومائتين فكان هذا ابتداء أمر الخلفاء الفاطميين وما زالت كتامة هي أهل الدولة مدّة خلافة المهدي عبيد الله وخلافة ابنه القاسم القائم بأمر الله وخلافة المنصور بنصر الله إسماعيل بن القاسم وخلافة معدّ المعز لدين الله ابن المنصور وبهم أخذ ديار مصر لما سيّرهم إليها مع القائد جوهر في سنة ثمان وخمسين وثلثمائة وهم أيضًا كانوا أكابر من قدم معه من الغرب في سنة اثنين وستّين وثلثمائة‏.‏

فلما كان في أيّام ولده العزيز بالله نزار اصطنع الدّيلم والأتراك وقدّمهم وجعلهم خاصّته فتناسوا وصار بينهم وبين كتامة تحاسد إلى أن مات العزيز بالله وقام من بعده أبو عليّ المنصور الملقّب بالحاكم بأمر الله فقدّم ابن عمار الكتامي وولاّه الوساطة وهي في معنى رتبة الوزارة فاستبدّ بأمور الدولة وقدّم كتامة وأعطاهم وحطّ من الغلمان الأتراك والديلم الذين اصطنعهم العزيز فاجتمعوا إلى برجوان وكان صقلبيًا وقد تاقت نفسه إلى الولاية فأغرى المصطنعة بابن عمّار حتّى وضعوا منه واعتزل عن الأمر وتقلّد برجوان الوساطة فاستخدم الغلمان المصطنعين في القصر وزاد في عطاياهم وقوّاهم ثمّ قتل الحاكم ابن عمّار وكثيرًا من رجال دولة أبيه وجدّه فضعفت كتامة وقويت الغلمان‏.‏

فلما مات الحاكم وقام من بعده ابنه الظاهر لإعزاز دين الله علي أكثر من اللهو ومال إلى الأتراك والمشارقة فانحطّ جانب كتامة ومازال ينقص قدرهم ويتلاشى أمرهم حتّى ملك المستنصر بعد أبيه فاستكثرت أمّه من العبيد حتّى يقال إنهم بلغوا نحوًا من خمسين ألف أسود واستكثر هو من الأتراك وتنافس كلّ منهما مع الآخر فكانت الحرب التي آلت إلى خراب مصر وزوال بهجتها إلى أن قدم أمير الجيوش بدر الجمالي من عكّا وقتل رجال الدولة وأقام له جندًا وعسكرًا من الأرمن فصار من حينئذٍ معظم الجيش الأرمن وذهبت كتامة وصاروا من جملة الرعيّة بعدما كانوا وجوه الدولة وأكابر أهلها‏.‏

حارة الصالحية عرفت بغلمان الصالح طلائع بن رزبك وهي موضعان‏:‏ الصالحيّة الكبرى والصالحيّة الصغرى وموضعهما فيما بين المشهد الحسيني ورحبة الأيدمري وبين البرقيّة وكانت من الحارات العظيمة وقد خربت الآن وباقيها متداعٍٍ إلى الخراب‏.‏

قال ابن الظاهر‏:‏ الحارة الصالحية منسوبة إلى الصالح طلائع بن رزيك لأنّ غلمانه كانوا يسكنونها وهي مكانان وللصالح دار بحارة الديلم كانت سكنه قبل الوزارة وهي باقية إلى الآن وبها بعض ذرّيته والمكان المعروف بخوخة الصالح نسبة إليه‏.‏

حارة البرقية هذه الحارة عرفت بطائفة من طوائف العسكر في الدولة الفاطمية يقاللها الطائفة البرقية ذكرها المسبّحي‏.‏

قال ابن عبد الظاهر‏:‏ ولما نزل بالقاهرة - يعني المعزّ لدين الله - اختطّت كلّ خطة عرفت بها قال‏:‏ واختطت جماعة من أهل برقة الحارة المعروفة بالبرقية انتهى‏.‏

وإلى هذه الحارة تنسب الأمراء البرقية‏.‏

الأمراء البرقيّة ووزارة ضرغام وذلك أنّ طلائع بن رزيك كان قد أنشأ في وزارته أمراء يقال لهم البرقيّة وجعل ضرغامًا مقدّمهم فترقّى حتّى صار صاحب الباب وطمع في شاور السعدي لما ولي الوزارة بعد رزيك بن الصالح طلائع بن رزيك فجمع رفقته وتخوّف شارو منه وصار العسكر فرقتين‏:‏ فرقة مع ضرغام وفرقة مع شارو‏.‏

فلمّا كان بعد تسعة أشهر من وزارة شارو ثار ضرغام في رمضان سنة ثمان وخمسين وخمسمائة وصار على شارو فأخرجه من القاهرة وقتل ولده الأكبر المسمّى بطيءّ وبقي شجاع المنعوت بالكامل وخرج شارو من القاهرة يريد الشام كما فعل الوزير رضوان بن ولخشي فإنه كان رفيقًا له في تلك الكرّة واستقرّ ضرغام في وزارة الخليفة العاضد لدين الله بعد شارو وتلقّب بالملك المنصور فشكر الناسسيرته فإنه كان فارس عصره وكان كاتبًا جميل الصورة فَكِه المحاضرة عاقلًا كريمًا لا يضع في سمعة ترفعه أو مداراة تنفعه إلا أنه كان أذنًا مستحيلًا على أصحابه وإذا ظنّ في أحد شرًّا جهل الشكّ يقينًا وعجّل له العقوبة‏.‏

وغلب عليه مع ذلك في وزارته أخواه ناصر الدين همام وفخر الدين حسام وأخذ يتنكّر لرفقته البرقيّة الذين قاموا بنصرته وأعانوه على إخراج شارو وتقليده للوزارة من أجل أنه بلغه عنهم أنّهم يحسدونه ويضعون منه وأنّ منهم من كاتب شارو وحثّه على القدوم إلى القاهرة ووعده بالمعاونة له فأظلم الجوّ بينه وبينهم وتجرّد للإيقاع بهم على عادته في أسرع العقوبة وأحضرهم إليه في دار الوزارة ليلًا وقتلهم بالسيف صبرًا وهم‏:‏ صبح بن شاهنشاه والطهر مرتفع المعروف بالجلواص وعين الزمان وعلي بن الزبد وأسد الفازي وأقاربهم وهم نحو من سبعين أميراّ سوى اتباعهم فذهب لذلك رجال الدولة واختّلت أحوالها وضعفت بذهاب أكابرها وفقد أصحاب الرأي والتدبير وقصد الفرنج ديار مصر فخرج إليهم همام أخو ضرغام وانهزم منهم وقتل منهم عدّة ونزلوا على حصن بلبيس وملكوا بعض السور ثمّ ساروا وعاد همام عودًا رديئًا فبعث به ضرغام إلى الإسكندرية وبها الأمير مرتفع الجلواص فأخذه العرب وقاده همام إلى أخيه فضرب عنقه وصلبه على باب زويلة فما هو إلا أن قدم رسل الفرنج على ضرغام في طلب مال الهدنة المقرّر في كلّ سنة - وهو ثلاثة وثلاثون ألف دينار - وإذا بالخبر قد ورد بقدوم شارو من الشام ومعه أسد الدين شيركوه في كثير من الغزّ فأزعجه ذلك وأصبح الناس يوم التاسع والعشرين من جمادى الأولى سنة تسع وخمسين خائفين على أنفسهم وأموالهم فجمعوا الأقوات والماء وتحوّلوا من مساكنهم وخرج همام بالعسكر أوّل يوم جمادى الآخرة فسار إلى بلبيس وكانت له وقعة مع شارو انهزم فيها وصار إلى شارو وأصحابه جميع ما كان منع عسكر همام وأسروا عدّة ونزل شارو بمن معه إلى التاج ظاهر القاهرة في يوم الخميس سادس جمادى الآخرة فجمع ضرغام الناس وضمّ إليه الطائفة الريحانية والجيوشية بداخل القاهرة وشارو مقيم بالتاج مدّة أيام - وطوالعه من العربان - فطارد عسكر ضرغام بأرض الطبّالة خارج القاهرة ثمّ سار شارو ونزل بالمقس فخرج إليه عسكر ضرغام وحاربوه فانهزم هزيمة قبيحة وسار إلى بركة الحبش ونزل بالشرف الذي يعرف اليوم بالرصد وملك مدينة مصر وأقام بها أيامًا فأخذ ضرغام مال الأيتام الذي بمودع الحكم فكرهه الناس واستعجزوه ومالوا مع شارو فتنكّر منهم ضرغام وتحدّث بإيقاع العقوبة بهم فزاد بغضهم له ونزل شارو في أرض اللوق خارج باب زويلة وطارد رجال ضرغام وقد خلت المنصورة والهلالية وثبت أهل اليانسية بها وزحف إلى باب سعادة وباب القنطرة وطرح النار في اللؤلؤة وما حولها من الدور وعظمت الحروب بينه وبين أصحاب ضرغام وفني كثير من الطائفة الريحانية فبعثوا إلى شاور ووعدوه بأنّهم عون له فانحلّ أمر ضرغام فأرسل العاضد إلى الرماة يأمرهم بالكفّ عن الرمي فخرج الرجال إلى شاور وصاروا من جملته وفترت همة أهل القاهرة وأخذ كلّ منهم يعمل الحيلة في الخروج إلى شاور فأمر ضرغام بضرب الأبواق لتجتمع الناس فضربت الأبواق والطبول ما شاء الله من فوق الأسوار فلما يخرج إليه أحد وانفكّ عنه الناس فسار إلى باب الذهب من أبواب القصر ومعه خمسمائة فارس فوقف وطل بمن الخليفة أني شرف عليه من الطاق وتضرّع إليه وأقسم عليه بآبائه فلم يجبه أحد واستمرّ واقفًا إلى القصر والناس تنحلّ عنه حتّى بقي في نحو ثلاثين فارسًا فورت عليه رقعة فيها خذ نفسك وانجُ بها وإذا بالأبواق والطبول قد دخلت من باب القنطرة ومعها عساكر شاور فمرّ ضرغام إلى باب زويلة فصاح الناس عليه ولعنوه وتخطّفوا من معه وأدركه القوم فأردوه عن فرسه قريبً من الجسر الأعظم فيما بين القاهرة ومصر وأحتزوا رأسه في سلخ جمادى الآخرة وفرّ منهم أخوه إلى جهة المطرّية فادركه الطلب وقتل عند مسجد تبر خارج القاهرة وقتل أخوه الآخر عند بكرة الفيل فصار حينئذٍ ضرغام ملقى يومين ثمّ حمل إلى القرافة ودفن به وكانت وزارته تسعة أشهر وكان من أجلّ أعيان الأمراء وأشجع فرسانهم وأجودهم لعبًا بالكرة وأشدّم رمياّ بالسهام ويكتب مع ذلك كتابة ابن مقلة وينظم الموشحات الجيدة ولمّا جيء برأسه إلى شاوّر رُفع إلى قفاه وطيف به فقال الفقيه عمارة‏:‏ أرى جنك الوزارة صار سيفًا يحزّ بحدّه جيد الرقاب كأنّك رائد البلوى وإلا بشير بالمنيّة والمصاب فكان كما قال عمارة فإن البلايا والمنايا من حينئذٍ تتابعت على دولة الخلفاء الفاطميين حتّة لم يبقّ منهم عين تطرف ولله عاقبة الأمور‏.‏