فصل: حارة المنتجبية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **


 حارة المنتجبية

قال ابن عبد الظاهر‏:‏ بلغني أنّ رجلًا كان يتحجّب لشمس الدين قاضي زادة كان يقول‏:‏ إنّ هذه الخطّة منسوبة لجدّه منجب الدولة‏.‏

الحارة المنصورية هذه الحارة كانت كبيرة متسعة جدًا فيها عدّة مساكن السودان فلمّا كانت واقعتهم في ذي القعدة سنة أربع وستّين وخمسمائة كما تقدّم في ذكر حارة بهاء الدين أمر صلاح الدين يوسف بن أيوّب بتخريب المنصورة هذه وتعفية أثرها فخرّبها خطلبا بن موسى الملقّب صارم الدين وعملها بستانًا‏.‏

وكان للسودان بديار مصر شوكة وقوّة فتبعهم صلاح الدين ببلاد الصعيد حتّى أفناهم بعد أن كان لهم بديار مصر في كلّ قرية ومحلّة وضعية مكان مفرد لا يدخله والٍ ولا غيره احترامًا لهم‏.‏

وقد كانوا يزيدون على خمسين ألفًا وإذا ثاروا على وزير قتلوه وكان الضرر بهم عظيمًا لامتداد أيديهم إلى أموال الناس وأهاليهم فلمّا كثر بغيهم وزاد تعدّيهم أهلكهم الله بذنوبهم وفي واقعة السودان وتخريب المنصورة وقتل مؤتمن الخلافة الذي تقدّم ذكره العماد الأصفهاني الكاتب يخاطب بهاء الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيّوب‏:‏ يوسف مصر الذي إليه تشدّ آمالنا الرواحل رأيك في الدهر عن رزايا جلى مهماته الجلائل أجريت نيلين في ثراها نيل نجيع ونيل نائل كم كرم من نداك جارٍ وكم دم من عداك سائل وكم معادٍ بلا معاد ومستطيل بغير طائل وحاسد كاسد المساعي وسائد نافق الوسائل أقررت عين الإسلام بملك مصر حتّى لم يبق فيها قذى لباطل وكيف يزهى بملك مصر من يستقلّ ذنبًا لنائل وما نفيت السودان حتّى حكمت البيض في المقاتل صيّرت رحب الفضا مضيقًا عليهم كفّة لجائل وكلّ رأي منهم كرا وأرض مصر كلام واصل وقد خلت منهم المغاني وأقفرت منهم المنازل وقد خلت منهم المغاني وأقفرت منهم المنازل وما أصيبوا إلا بطلّ فكيف لو أمطروا بوابل وقد تجلّى بالحقّ ما بال - باطل في مصر كان عاجل مؤتمن القوم خان حتّى غالته من شرّه الغوائل عاملكم بالخنا فأضحى ورأسه فوق رأس عامل وحالف الذلّ بعد عزّ والدهر أحواله حوائل يا مخجل البحر بالأيادي قدآن أن تفتح السواحل نقدّس القدس من خباث أرجاس كفر غُتم أراذل وكان موضع المنصور على يمنة من سلك في الشارع خارج باب زويلة‏.‏

قال ابن عبد الظاهر‏:‏ كانت للسودان حارة تعرف بهم تسمّى المنصورة خرّبها صلاح الدين وأخذها خلطبا فعمرها بستانًا وحوضًا وهي إلى جانب الباب الحديد يعني الذي يعرف اليوم بالقوس عند رأس المنجبية فيما بينها وبين الهلالية وقد حكر هذا بستان في الأيام الظاهرية وبعضها يعني المنصورة من جهة بركة الفيل إلى جانب بستان سيف الإسلام ويسمّى الآن بحكر الغتمي لأن الغتمي هذا كان شرع بستان سيف الإسلام فحكر في هذه الجهة وهي الآن أحكار الديوان السلطاني وحكر الغتمي الذي كان بستان سيف الإسلام يعرف اليوم بدرب ابن البابا تجاه البندقدارية بجوار حمّام الفارقاني قريب من صليبة جامع ابن طولون‏.‏

حارة المصامدة هذه الحارة عرفت بطائفة المصامدة أحد طوائف عساكر الخلفاء الفاطميين واختطّت في وزارة المأمون البطايحي وخلافة الآمر بأحكام الله بعد سنة خمس عشرة وخمسمائة‏.‏

قال ابن عبد الظاهر‏:‏ حارة المصامدة مقدّمهم عبد الله المصمودي‏.‏

وكان المأمون البطائحي وزير الخليفة الآمر بأحكام الله قدّمه ونوّه بذكره وسلّم له أبوابه للمبيت عليها وأضاف إليه جماعة من أصحابه فلما استخلص المصامدة وقرّبهم سيّر أبا بكر المصمودي ليختار لهم حارة فتوجه بالجماعة إلى اليانسية بالشارع فلم يجد بها مكانًا ووجدها تضيق عنهم فسيّر المهندسين لاختيار حارة لهم فاتفقوا على بناء حارة ظاهر باب الحيد على يمنة الخارج على شاطىء بركة الفيل فقال‏:‏ بل تكون على يسرة الخارج والفسح قدّامها إلى بركة الفيل‏.‏

فبنيت الحارة على يسرة الخارج من الباب المذكور وبني بجانبها مسجد على زلاقة الباب المذكور وبنى أبو بكر المصمودي مسجدًا أيضًا وهذه فيما أعتقد هي الهلالية وحذّر من بناء شيء قبالتها في الفضاء الذي بينا وبين بركة الفيل لانتفاع الناس بها وصار ساحل بركة الفيل من المسجد قبالة هذه الحارة إلى آخر حصن دويرة مسعود إلى الباب الحديد ولم يزل ذلك إلى بعض أيام الخليفة الحافظ لدين الله‏.‏

قال‏:‏ وبنى في صفّ هذه الحارة من قبليّها عدّة دور بحوانيت تحتها إلى أن اتّصل البناء بالمساجد الثلاثة الحاكميّة المعلّقة والقنطرة المعروفة بدار طولون وبعدها بستان ذكر أنه كان في جملة قاعات الدار المذكورة‏.‏

قال‏:‏ وأظنّ المساجد هي التي قبالة حوض الجاولي قال‏:‏ وبنى المأمون ظاهره حوضًا وأجرى الماء له وذلك قبالة مشهد محمد الأصغر ومشهد السيّدة سكينة‏.‏

قال‏:‏ وأظنّ هذا البستان هو الذي بنته شجر الدّر بستانًا ودارًا وحمّامات قريب من مشهد السيّدة نفيسة قال‏:‏ وأمر المأمون بالنداء في القهرة مع مصر ثلاثة أيام بأنّ من كانت له دار في الخراب أو مكان يعمر ومن عجز عن أن يعمره فليؤجّره من غير نقل شيء من أنقاضه ومن تأخّر بعد ذلك فلا حقّ له في شيء منه ولا حكر يلزمه‏.‏

وأباح تعمير ذلك جميعه بغير طلب بحقّ فيه فطلب الناس كافة ما هو جارٍ في الديوان السلطانيّ وغيره وعمروه حتّى صار البلدان لا يتخلّلهما داثر ولا دارس وبنى في الشارع يعني خارج باب زويلة من الباب الجديد إلى الجبل عرضًا وهو القلعة الآن‏.‏

قال‏:‏ وكان الخراب استولى على تلك الأماكن في زمن المستنصر في أيام وزارة البازوري حتّى أنه كان بنى حائطًا يستر الخراب عن نظر الخليفة إذا توجّه من القاهرة إلى مصر وبنى حائطًا آخر عند جامع ابن طولون‏.‏

قال‏:‏ وعمر ذلك حتّى صار المتعيّشون بالقاهرة والمستخدمون يصلّون العشاء الأخيرة بالقاهرة ويتوجّهون إلى مساكنهم في مصر لا يزالون في ضوء وسرج وسوق موقود إلى باب الصفا وهو المعاصر الآن وذلك أنه يخرج من الباب الحديد الحاكمي على يمنة بركة الفيل إلى بستان سيف الإسلام وعدّة بساتين وقبالة جميع حوانيت مسكونة عامرة بالمتعيّشين إلى مصر والمعاش مستمر الليل والنهار‏.‏

حارة الهلالية ذكر ابن عبد الظاهر أنّها على يسرة الخارج من الباب الحديد الحاكمي‏.‏

حارة البيازرة هذه الحارة خارج باب القنطرة على شاطىء الخليج من شرقيه فيما بين زقاق الكحل وباب القنطرة حيث المواضع التي تعرف اليوم ببركة جنادق والكدّاشين وإلى قريب من حارة بهاء الدين واختطت هذه الحارة في الأيام الآمرية وذلك أن زمام البيازرة شكا ضيق دار الطيور بمصر وسأل أن يفسح للبيازرة في عمارة حارة على شاطىء الخليج بظاهر القاهرة لحاجة الطوير والوحوش إلى الماء فأذن له في ذلك فاختطّوا هذه الحارة وجعلوا منازلهم مناظر على الخليج وفي كلّ دار باب سرّ يُنزل منه إلى الخليج واتّصل بنا هذه الحارة بزقاق الكحل فعرفت بهم وسميت بحارة البيازرة واحدهم بازيار ثم إنّ المختار الصقلبي زمام القصر أنشأ بجوارها بستانًا بنى فيه منظرة عظيمة وهذا البستان يعرف اليوم موضعه ببستان ابن صيرم خارج باب الفتوح فلما كثرت العمائر في حارة البيازرة أمر الوزير المأمون بعمل الأقنة لشي الطوب على شاطىء الخليج الكبير إلى حيث كان البستان الكبير الجيوشيّ الذي تقدّم ذكره في ذكر مناظر الخلفاء ومنتزهاتهم‏.‏

‏.‏

حارة الحسينية عرفت بطائفة من عبيد الشراء يقال لهم الحسينية‏:‏ قال المسبِّحي في حوادث سنة خمس وتسعين وثلثمائة‏:‏ وأمر بعمل شُونة ممّا يلي الجبال ملئت بالسنط والبوص والحلفاء فابتدىء بعملها في ذي الحجة سنة اربع وتسعين وثلثمائة إلى شهر ربيع الأول سنة خمس وتسعين فخامر قلوب الناس من ذلك جزع شديد وظن كلّ من يتعلق بخدمة أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله أنّ هذه الشونة عُملت لهم‏.‏

ثمّ قويت الإشاعات وتحدّث العوام في الطرقات أنها للكتّاب وأصحاب الدواوين وأسبابهم فاجتمع سائر الكتّاب وخرجوا بأجمعهم في خامس ربيع الول ومعهم سائر المتصرفين في الدواوين من المسلمين والنصارى إلى الرماحين بالقاهرة ولميزالوا يقبّلون الأرض حتّى وصلوا إلى القصر فوقفوا على بابه يدعون ويتضرّعون ويضجّون ويسألون العفو عنهم ومعهم رقعة قد كتبت عن جميعهم إلى أن دخلوا باب القصر الكبير وسألوا أن يُعفى عنهم ولا يُسمع فيهم قول ساعٍ يسعى بهم وسلّموا رقعتهم إلى قائد القوّاد الحسين بن جوهر فأوصلها إلى أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله فأجيبوا إلى ما سألوا وخرج إليهم قائد القوّاد فأمرهم بالانصراف والبكور لقراءة سجل بالعفو عنهم فانصرفوا بعد العصر وقرىء من الغد سجل كتب منه نسخة للمسلمين ونسخة للنصارى ونسخة لليهود بأمان لهم والعفو عنهم‏.‏

وقال‏:‏ في ربيع الآخر واشتدّ خوف الناس من أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله فكتب ما شاء الله من الأمانات للغلمان الأتراك الخاصّة وزمامهم وأمرائهم من الحمدانية والكجورية والغلمان العرفان والمماليك وصبيان الدار وأصحاب الإقطاعات والمرتزقة والغلمان الحاكميّة القدم على اختلاف اصنافهم وكُتب أمان الجماعة من خدم القصر الموسومين بخدمة الحضرة بعدما تجمّعوا وصاروا إلى تربة للعزيز بالله وضجوا بالبكاء وكشفوا رؤوسهم وكتبت سجلاّت عدّة بأمانات للديلم والجبل والغلمان الشرابية والعلمان الريحانية والغلمان البشارية والغلمان المفرّقة العجم وغيرهم والنقباء والروم المرتزقة وكتبت عدّة أمانات للزويليين والبنادين والطبّالين والبرقيين والعطوفيين وللعرافة الجوانية والجودرية وللمظفرّية وللصنهاجيين ولعبيد الشراء الحسينية وللميمونية وللفرحية وأمان لمؤذني أبواب القصر وأمانات لسائر البيارزة والفهّدين والحجّالين وأمانات أخر لعدّة أقوام كلّ ذلك بعد سؤالهم وتضرّعهم‏.‏

وقال‏:‏ في جمادي الآخرة وخرج أهل الأسواق على طبقاتهم كلّ يلتمس كتب أمان يكون لهم فكتب فوق المائة سجل بأمان لأهل الأسواق على طبقاتهم نسخة واحدة وكان يقرأ جميعها في القصر أبو عليّ أحمد بن عبد السميع العباسيّ وتسلم أهل كل سوق ما كتب لهم وهذه نسخة إحداها‏.‏

بعد البسملة‏:‏ هذا كتاب من عبد الله ووليه المنصور أبي عليّ الإمام الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين لأهل مسجد عبد الله أنكم من الآمنين بأمان الله الملك الحق المبين وأمان جدّنا محمد خاتم النبيين وأبينا علي خير الوصيين وآبائنا الذريّة النبويّة المهديين صلى الله على الرسول ووصيه وعليهم أجمعين وأمان أمير المؤمنين على النفس والحال والدم والمال لاخوف عليكم ولا تمتدّ يد بسوء إليكم إلاّ في حدّ يقام بواجبه وحق يُؤخذ بمستوجبه فليوثق بذلك وليعول عليه إن شاء الله تعالى‏.‏

وكتب في جمادى الآخرة سنة خمس وتسعين وثلاثمائة والحمد لله وصلى الله على محمد سيد المرسلين وعلى خير الوصيين وعلى الأئمة المهديين ذرية النبوّة وسلم تسليمًا كثيرًا‏.‏

وقال ابن عبد الظاهر‏:‏ فأمّا الحارات التي من باب الفتوح ميمنة وميسرة للخارج منه فالميمنة إلى الهليلجة والميسرة إلى بركة الأرمن برسم الريحانية وهي الحسينية الآن وكانت برسم الريحانية الغزاوية والمولجة والعجمان وعبيد الشراء وكانت ثمان حارات وهي‏:‏ حارة حامد بين الحارتين المنشية الكبيرة الحارة الكبيرة الحارة الوسطى سوق الكبير الوزيرية وللأجناد بظاهر القاهرة حارات وهي‏:‏ حارة البيازرة والحسينية جميع ذلك سكن الريحانية وسكن الجيوشة والعطوفية بالقاهرة وبظاهرها الهلالية والشوبك وحلب والحبانية والمأمونية وحارة الروم وحارة المصامدة والحارة الكبيرة والمنصورة الصغيرة واليانسية وحارة أبي بكر والمقس ورأس التبان والشارع‏.‏

ولم يكن للأجناد في هذا الوجه غير حارة عنتر للمؤمنين المرتجلة وكانت كل حارة من هذه بلدة كبيرة بالبزازين والعطارين والجزارين وغيرهم والولاة لا يحكمون عليها ولا يحكم فيها إلاّ الأزمة ونوّابهم وأعظم الجميع الحارة الحسينية التي هي آخر صف الميمنة إلى الهليلجة وهي الحسينية الآن لأنها كانت سكن الأرمن فارسهم وراجلهم وكان يجتمع بها قريب من سبعة آلاف نفس وأكثر من ذلك وبها أسواق عدّة‏.‏

وقال في موضع آخر‏:‏ الحسينية منسوبة لجماعة من الأشراف الحسينيين وكانوا في الأيام الكاملية قدموا من الحجاز فنزلوا خارج باب النصر بهذه الأمكنة واستوطنوها وبنوا بها مدابغ صنعوا بها الأديم المشبه بالطائفي فسمِّيت بالحسينية ثم سكنها الأجناد بعد ذلك وابتنوا بها هذه الأبنية العظيمة وهذا وهم فإنه تقدم أن جملة الطوائف في الأيام الحاكمية الطائفة الحسينية وتقدم فيما نقله ابن عبد الظاهر أيضًا أن الحسينية كانت عدة حارات والأيام الكاملية إنما كانت بعد الستمائة وقد كانت الحسينية قبل ذلك بما ينيف عن مائتين سنة فتدبره‏.‏

واعلم أن الحسينية شقتان إحداهما ما خرج عن باب الفتوح وطولها من خارج باب الفتوح إلى الخندق وهذه الشقة هي التي كانت مساكن الجند في أيام الخلفاء الفاطميين وبها كانت الحارات المذكورة‏.‏

والشقة الأخرى ما خرج عن باب النصر وامتدّ في الطول إلى الريدانية وهذه الشقة لم يكن بها في أيام الخلفاء الفاطميين سوى مصلى العيد تجاه باب النصر وما بين المصلى إلى الريدانية فضاء لا بناء فيه وكانت القوافل إذا برزت تريد الحج تنزل هناك فلما كان بعد الخمسين واربعمائة وقدم بدر الجمالي أمير الجيوش وقام بتدبير أمر الدولة الخليفة المنتصر بالله أنشأ بحري مصلى العيد خارج باب النصر تربة عظيمة وفيها قبره هو وولده الأفضل ابن أمير الجيوش وأبو علي كتيفات بن الأفضل وغيره وهي باقية لى يومنا هذا‏.‏

ثم تتابع الناس في إنشاء الترب هناك حتى كثرت ولم تزل هذه الشقة مواضع للترب ومقابر أهل الحسينية والقاهرة إلى بعد السبعمائة ولقد حُدّثت عن المشيخة ممن أدرك بأنّ ما بين مصلى الأموات التي خارج باب النصر وبين دار كهرداش التي تعرف اليوم بدار الحاجب مكانًا يعرف بالمراغة معدّ لتمريغ الدّواب به وأنّ ما في صف المصلى من بحريها الترب فقط ولم تعمر هذه الشقة إلى في الدولة التركية ولاسيما لما تغلب التتر على ممالك الشرق والعراق وجفل الناس إلى مصر فنزلوا بهذه الشقة وبالشقة الأخرى وعمروا بها المساكن ونزل بها أيضًا أمراء الدولة فصارت من أعظم عمائر مصر والقاهرة واتخذ الأمراء بها من بحريها فيما بين الريدانية إلى الخندق مناخات الجمال واصطبلات الخيل ومن ورائها الأسواق والمساكن العظيمة في الكثرة وصار أهلها يوصفون بالحسن خصوصًا لما قدمت الأويراتية‏.‏

قدوم الأويراتية وكان من خبر هذه الطائفة‏:‏ أنّ بيدو بن طرغاي بن هولاكو لما قتل في ذي الحجة سنة أربع وتسعين وسبعمائة وقام في الملك من بعده على المغل الملك غازان محمود بن خر بنده بن إيغاني تخوّف منه عدة من المغل يعرفون بالأويرتية وفرّوا عن بلاده إلى نواحي بغداد فنزلوا هناك مع كبيرهم طرغاي وجرت لهم خطوب آلت بهم إلى الحاق بالفرات فقاموا بها هنالك وبعثوا إلى نائب حلب يستأذنوه في قطع الفرات ليعبروا لى ممالك الشام فأذن لهم وعدّوا الفرات إلى مدينة بهنسا فأكرمهم نائبها وقام لم بما ينبغي من العلوفات والضيافات وطولع الملك العادل زين الدين كتيفا وهو يومئذ سلطان مصر والشام بأمرهم فاستشار الأمراء فيما يعلم بهم فاتفق الرأي على استدعاء أكابرهم إلى الديار المصرية وتفريق باقيهم في البلاد الساحلية وغيرها من بلاد الشام وخرج إليهم الأمير علم الدين سنجر الدواداري والأمير شمس الدين سنقر الأعسر إلى دمشق فجهزا أكابر الأويراتية نحو الثلثمائة للقدوم على السلطان وفرّقا من بقي منهم بالبقاع العزيزة وبلاد الساحل ولما قرب الجماعة من القاهرة وخرج الأمراء بالعسكر إلى لقائهم واجتمع الناس من كل مكان حتى امتلأ الفضاء للنظر إليهم فكان لدخولهم يوم عظيم وصاروا إلى قلعة الجبل فأنعم السلطان على طرغاي مقدّمهم بأمرة طبلخانة وعلى اللصوص بأمرة عشرة وأعطى البقية تقادمًا في الحلقة واقطاعات وأجرى عليهم الرواتب وأُنزلوا بالحسينية وكانوا على غير الملة الإسلامية فشق ذلك على الناس وبلوامع ذلك منهم بأنواع من البلاء لسوء أخلاقهم ونفرة نفوسهم وشدّة جبروتهم وكان إذا ذاك بالقاهرة ومصر غلاء كبير وفناء عظيم فتضاعفت المضرّة واشتدّ الأمر على الناس وقال في ذلك الأديب شمس الدين محمد بن دينار‏:‏ ربنا اكشف عنا العذاب فإنّا قد تلفنا في الدولة المغلية جاءنا المغل والغلا فانصلقنا وانطبخنا في الدولة المغلية‏.‏

ولما دخل شهر رمضن من سنة خمس وتسعين وستمائة لم يصم أحد من الأويراتية وقيل للسلطان ذلك فأبى أن يُكرههم على الإسلام ومنع من معارضتهم ونهى أن يشوّش عليهم أحد وأظهر العناية بهم وكان مراده أن يجلهم عونًا له يتقوّى بهم فبالغ في إكرامهم حتى أثر في قلوب إمراء الدولى منه أحنا وخشوا إيقاعه بهم فإن الأويراتية كانوا أهل جنس كتيفا وكانوا مع ذلك صورًا جميلة فافتتن بهم الأمراء وتنافسوا في أولادهم من الذكور والإناث واتخذوا منهم عدّة صيروهم من جملة جندهم وتعشَّقوهم فكان بعضهم يستنشد من صاحبه من اختص ب وجعله محل شهوته ثم ما قنع الأمراء ما كان منهم بمصر حتى أرسلوا إلى البلاد الشامية واستدعوا منهم طائفة كبيرى فتكاثر نسلهم في القاهرة واشتدّت الرغبة من الكافة في أولادهم على اختلاف الآراء في الإناث والذكور فوقع التحاسد والتشاجر بين أهل الدولة إلى أن آل الأمر بسببهم وباسباب أُخَر إلى خلع السلطان الملك العادل كتيفًا من الملك في صفر سنة ست وتسعين وستمائة‏.‏

فلما قام في السلطنة من بعده الملك المنصور حاسم الدين لاجين قبض على طرغاي مقدّم الأويراتية وعلى جماعة من أكابرهم وبعث بهم إلى الإسكندري فسجنهم بها وقتلهم وفرّق جميع الأويراتية على الأمراء فاستخدموهم وجعلوهم من جندهم فصار أهل الحسينية لذلك يوصفون بالحسن والجمال البارع وأدركنا من ذلك طرفًا جيدًا وكان للناس في نكاح نسائهم رغبة ولأخرين شغف بأولادهم ولله در الشيخ تقيّ الدين السروجيّ إذ يقول من أبيات‏:‏ يا ساعيّ الشوقِ مذ جرى جرت دموعي فهي أعوانهُ خذ لي جوابًا عن كتابي الذي إلى الحسينية عنوانَهُ فهي كما قد قيل وادي الحمى وأهلها في الحسن غزلانَهُ أمشي قليلًا وانعطف يسرة يلقاك درب طال بنيانَهُ سلم وقل يخشى مسنٌ أيُ مُسنٍ اشت حديثًا طال كتمانَهُ وسل لي الوصل فإن قال بق فقل أوت قد طال هجرانَهُ وما برحوا يوصفون بالزعارة والشجاعة وكان يُقال لهم البدورة فيقال البدر فلان والبدر فلان ويعانون لباس الفتوّة وحمل السلاح ويؤثر منهم حكايات كثيرة وأخبار جمة وكانت الحسينية قد أربت في عمارتها على سائر اخطاط مصر والقاهرة حتى لقد قال لي ثقة ممن أدركت من الشيخة‏:‏ أنّه يعرف الحسينية عامرة بالأسواق والدور وسائر شوارعها كافة بازدحم الناس ومن الباعة والمارة وأرباب المعايش وأصحاب اللهو والملعوب فيما بين الريدانية محطة المحمل يوم خروج الحاج من القاهرة ولى باب الفتوح لا يستطيع الإنسان أن يمرّ في هذا الشارع الطويل العريض طول هذه المسافة الكبيرة إلا بمشقة من الزحام كما كنا نعرف شاعر بين القصرين فيما أدركنا‏.‏

ومازال أمر الحسينية متماسكًا إلى أن كانت الحوادث والمحن منذ سنة ستة وثمانمائة وما بعدها فخربت حاراتها ونقضت مبنيها وبيع ما فيها من الأخشاب وغيرها وباد أهلها ثم حدث بها بعد سنة عشرين وثمانمائة آية من آيات الله تعالى وذلك أنَّ في أعوام بضع وستين وسبعمائة بدا بناحية برج الزيات فيما بين المطرية وسر ياقوس فساد الأرضة التي من شأنها العبث في الكتب والثياب فأكلت لشخص نحو ألف وخمسمائة قتة دريس فكنّا لا نزال نتعجب من ذلك ثم فشت هناك وشنع عبثها في سقوف الدور وسرت حتى عاثت في أخشاب سقوف الحسينية وغلات أهلها وسائر أمتعتهم حتى أتلفت شيئًا كثيرًا وقويت حتى صارت تأكل الجدران فبادر أهل تلك الجهة إلى هدم ما قد بقي من الدور خوفًا عليها من الأرضة شيئًا بعد شيء حتى قاربوا باب الفتوح وباب النصر وقد بقي منها اليوم قليل من كثير يخاف إن استمرّت أحوال الأقليم على ما هي عليه من الفساد أن تُدثر وتمحى آثارها كما دثر سواها ولله در القائل‏:‏ والله إن لم يُدركها وقد رحلتْ بلمحةٍ أو بلطفٍ من لديه خفي ولم يجدْ بتلافيها على عجلٍ ما أمرها صائرٌ إلاّ إلى تلفِ حارة حلب هذه الحالة خارج باب زويلة تعرف اليوم بزقاق حلب وكانت قديمًا من جملة مساكن الأجناد‏.‏

قال ياقوت في باب حلب‏:‏ الأوّل حلب المدينة المشهورة بالشام وهي قصبة نواحي قنسرين والعواصم اليوم الثاني حلب الساجود من نواحي حلب أيضًا الثالث كفر حلب من قراها أيضًا الرابع محلة بظاهر القاهرة بالشارع من جهة الفسطاط‏.‏

والله تعالى أعلم‏.‏

أخطاط القاهرة وظواهرها قد تقدم ذكر ما يُطلق عليه حارة من الأخطاط ونريد أن نذكر من الخطط ما لا يطلق عليه اسم حارة ولا درب وهي كثيرة وكل قليل تتغير أسماؤها ولا بدّ من إيراد ما تيسر منها‏.‏

خط خان الوراقة‏:‏ هذا الخط فيما بين حارة بهاء الدين وسويقة أمير الجيوش وفي شرقيّة سوق المرجلين وهو يشتمل على عدّة مساكن وبه طاحون وكان موضعه قديمًا اصطبل الصبيان الحجرية لموقف خيولهم كما تقدّم فلما زالت الدولة الفاطمية اختط مواضع للسكنى وقد شمله الخراب‏.‏

خط باب القنطرة هذا الخط كان يعرف قديمًا بحارة المرتاحية وحارة الفرحية والرماحين وكان ما بين الرماحين الذي يُعرف اليوم بباب القوس داخل باب القنطرة وبين الخليج فضاء لا عمارة فيه بطول ما بين باب الرمحين إلى باب الخوخة وإلى باب سعادة وإلى باب الفرج ولم يكن إذ ذاك على حافة الخليج عمائر البتة وإنما العمائر من جانب الكافوري وهو مناظر اللؤلؤة ما جاورها من قبليها إلى باب الفرج وتخرج العامّة عصريات كل يوم إلى شاطىء الخليج الشرقي تحت المناظر للتفرّج فإن بر الخليج الغربيّ كان فضاء ما بين بساتين وبرك كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

قال القاضي الفاضل في متجدّدات سنة سبع وثمانين وخمسمائة‏:‏ في شوّال قطع النيل الجسور واقتلع الشجر وغرّق النواحي وهدم المساكن وأتلف كثيرًا من النساء والأطفال وكثر الرخاء بمصر فالقمح كل مائة أردب بثلاثين دينارًا والخبز البايت ستة أرطال بربع درهم والرطب الأمهات ستة أرطال بردهم والموز ستة أرطال بدرهم والرمان الجيد مائة حبة بدرهم والحمل الخيار بدرهمين والتين ثمانية أرطال بدرهم والعنب ستة أرطال بدرهم في شهر بابه بعد انقضاء موسمه المعهود بشهرين والياسمين خمسة أرطال بدرهم وآل أمر أصحاب البساتين إلى أن لا يجمعوا الزهر لنقص ثمنه عن أجرة جمعه وثمر الحناء عشرة أرطال بدرهم والبسرة عشرة أرطال بدرهم من جيده والمتوسط خمسة عشر رطلًا بدرهم وما في مصر إلاّ متسخط بهذه النعمة‏.‏

قال‏:‏ ولقد كنت في خليج القاهرة من جهة المقس لانقطاع الطرق بالمياه فرأيت الماء مملوء سمكًا والزيادة قد طبقت الدنيا والنخل مملوء تمرًا والمكشوف من الأرض مملوء ريحانًا وبقولًا ثم نزلت فوصلت إلى المقس فوجدت من القلعة التي بالمقس إلى منية السيرج غلالًا قد ملأت صبرها الأرض لا يدري الماشي أين يضع رجله متصلًا عرض ذلك إلى باب القنطرة وعلى الخليج عند باب القنطرة من مراكب الغلة ما قد ستر سواحله وأرضه‏.‏

قال‏:‏ ودخلت البلد فرأيت في السوق من الأخباز واللحوم والألبان والفواكه ما قد ملأها وهجمت منه العين على منظر ما رأيت قبله مثله‏.‏

قال‏:‏ وفي البلد من البغي ومن المعاصي ومن الهر بها ومن الفسق بالزنا واللواط ومن شهادة الزور ومن مظالم الأمراء والفقهاء ومن استحلال الفطر في نهار رمضان وشرب الخمر في ليله ممن يقع عليه اسم الإسلام ومن عدم النكير على ذلك جميعه ما لم يُسمع ولم يُعهد مثله فلا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم وظفر بجماعة مجتمعين في حارة الروم يتغدّون في قاعة في نهار رمضان فما كلموا وبقوم مسلمين ونصارى اجتمعوا على شرب خمر فيل ليل رمضان فما اقيم فيهم حدّ وخط باب القنطرة فيما بين حارة بهاء الدين وسويقة أمير الجيوش وينتهي من قبليه إلى خط بين السورين‏.‏