فصل: قتل الحجاج سعيد بن جبير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم **


 ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين

فمن الحوادث فيها‏:‏

غزوة عمر بن الوليد ومسلمة أرض الروم ففتح على يد مسلمة ثلاث حصون وجلا خلقًا كثيرًا

عن بلادهم‏.‏

وفيها‏:‏ غزا طارق بن زياد الأندلس في اثني عشر ألفًا ففتحها وقتل الملك‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس عمر بن عبد العزيز وهو على المدينة وكان عمال الأمصار الذين كانوا في

السنة التي قبلها‏.‏

 ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

أنس بن مالك

بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار‏:‏ أمه أم

سليم بنت ملحان‏.‏

لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ذهبت به أمه إليه ليخدمه‏.‏

أخبرنا محمد بن عبد الباقي البزاز قال‏:‏ أخبرنا أبو محمد الجوهري قال‏:‏ أخبرنا ابن حيوية

قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن معروف قال‏:‏ حدثنا الحسين بن الفهم قال‏:‏ حدثنا محمد بن سعد قال‏:‏

أخبرنا سليمان بن حرب قال‏:‏ حدثنا حماد بن زيد عن سنان بن ربيعة قال‏:‏ سمعت أنس بن

مالك يقول‏:‏ ذهبت بي أمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ يا رسول الله خويدمك ادع له قال‏:‏ ‏"‏ اللهم أكثر ماله وولده وأطل عمره واغفر ذنبه ‏"‏‏.‏

قال أنس‏:‏ فقد دفنت من صلبي مائة غير اثنين - أو قال‏:‏ مائة واثنين وإن ثمرتي لتحمل في

السنة مرتين ولقد بقيت حتى سئمت الحياة وأنا أرجو الرابعة‏.‏

قال ابن سعد‏:‏ وأخبرنا محمد بن عبد الله الأنصاري قال‏:‏ حدثنا أبي عن ثمامة بن عبد الله بن

أنس قال‏:‏ كان كرم أنس يحمل في كل سنة مرتين‏.‏

وكان أنس يصلي فيطيل القيام حتى تقطر قدماه دمًا‏.‏

قال ابن سعد‏:‏ وحدثنا إسماعيل بن عبد الله بن زرارة الحرمي قال‏:‏ حدثنا جعفر بن سليمان

الضبعي قال‏:‏ حدثنا ثابت البناني قال‏:‏

شكى قيم لأنس بن مالك في أرضه العطش فصلى أنس فدعا فثارت سحابة حتى غشيت

أرضه فملأت صهريجه فأرسل غلامه فقال‏:‏ انظر أين بلغت هذه فنظر فإذا هي لم تعد

قال‏:‏ وأخبرنا يوسف بن العرق قال‏:‏ حدثنا صالح المري عن ثابت قال‏:‏ كان أنس إذا أشفى

على ختم القرآن من الليل بقي منه سور حتى يصبح فيختمه عند عياله‏.‏

قال‏:‏ وحدثنا عفان قال‏:‏ حدثنا جعفر بن سليمان قال‏:‏ حدثنا الثابت البناني قال‏:‏ كان أنس

إذا ختم القرآن جمع ولده وأهله فدعا لهم‏.‏

قال‏:‏ وأخبرنا عفان قال‏:‏ حدثنا خالد بن أبي عثمان قال‏:‏ حدثنا ثمامة بن عبد الله بن أنس

قال‏:‏ كان أنس إذا صلى المغرب لم يقدر عليه ما بين المغرب والعشاء قائمًا يصلي‏.‏

توفي أنس بالبصرة في هذه السنة وهو ابن تسع وتسعين سنة‏.‏

وقيل‏:‏ ابن مائة وسبع سنين وهو آخر من مات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبصرة ورزق مائة ولد ولا يعرف في الإسلام من ولد له من صلبه مائة سوى أربعة‏:‏ أنس بن مالك وعبد الله بن عمر الليثي وخليفة السعدي وجعفر بن سليمان الهاشمي‏.‏

إبراهيم بن يزيد بن شريك التيمي

من تيم الرباب يكنى أبا أسماء‏:‏ روى عن أبيه والحارث بن سويد في آخرين فكان عالمًا

عابدًا‏.‏

أخبرنا محمد بن عبد الباقي بن أحمد قال‏:‏ حدثنا محمد بن أحمد قال‏:‏ حدثنا أبو نعيم أحمد

بن عبد الله قال‏:‏ حدثنا أبي قال‏:‏ حدثنا محمد بن أحمد بن يزيد قال‏:‏ حدثنا عبد الله بن

عمر قال‏:‏ حدثنا حفص الواسطي قال‏:‏ حدثنا العوام بن حوشب قال‏:‏

ما رأيت رجلًا قط خيرًا من إبراهيم التيمي وما رأيته رافعًا بصره إلى السماء في صلاة ولا

غيرها وسمعته يقول‏:‏ إن الرجل ليظلمه فارحمه‏.‏

أخبرنا ابن ناصر وابن أبي عمر قال‏:‏ حدثنا رزق الله وطراد قالا‏:‏ أخبرنا ابن بشران قال‏:‏

حدثنا ابن صفوان قال‏:‏ حدثنا أبو بكر قال‏:‏ حدثنا إسحاق بن إبراهيم أنه سمع سفيان بنعيينة يقول‏:‏ قال إبراهيم‏:‏

مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها وأشرب من أنهارها وأعانق أبكارها ثم مثلت نفسي في

النار آكل من زقومها وأشرب من صديدها وأعالج سلاسلها وأغلالها فقلت لنفسي‏:‏ أي

نفسي أي شيء تريدين قالت‏:‏ أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحًا قال‏:‏ قلت‏:‏ فأنت في الأمنية

فاعملي‏.‏

أنبأنا أبو بكر بن أبي طاهر عن أبي محمد الجوهري عن أبي عمر ابن حيوية قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن معروف قال‏:‏ أخبرنا الحسين بن الفهم قال‏:‏ حدثنا محمد بن سعد قال‏:‏ أخبرنا علي بن

محمد قال‏:‏ كان سبب حبس إبراهيم التيمي أن الحجاج طلب إبراهيم النخعي فجاء الذي يطلبه فقال‏:‏ أريد إبراهيم فقال إبراهيم التيمي‏:‏ أنا إبراهيم وهو يعلم أنه أراد النخعي فلم يستحل أن يدله عليه فجاء به إلى الحجاج فأمر بحبسه ولم يكن لهم في الحبس ظل من الشمس ولا كن من

البرد وكان كل اثنين في سلسلة فتغير إبراهيم فجاءته أمه في الحبس فلم تعرفه حتى كلمها

فمات في السجن فرأى الحجاج قائلًا يقول‏:‏ مات في هذه الليلة رجل من أهل الجنة فلما أصبح

قال‏:‏ هل مات الليلة أحد بواسط قالوا‏:‏ نعم إبراهيم التيمي قال‏:‏ حلم نزعة من نزعات

الشيطان وأمر به فألقي على الكناسة وذلك في هذه السنة‏.‏

وضاح اليمن

أخبرنا المبارك بن علي الصيرفي قال‏:‏ أخبرنا علي بن محمد العلاف قال‏:‏ أخبرنا عبد الملك بن

بشران قال‏:‏ حدثني أحمد بن إبراهيم الكندي قال‏:‏ أخبرنا جعفر بن محمد الخرائطي قال‏:‏

حدثنا محمد بن أحمد قال‏:‏ حدثنا إسحاق بن الضيف عن أبي مسهر قال‏:‏

كان وضاح اليمن نشأ هو وأم البنين صغيرين فأحبها وأحبته وكان لا يصبر عنها حتى إذا

بلغت حجبت عنه وطال بهما البلاء فحج الوليد بن عبد الملك فبلغه جمال أم البنين وأدبها

فتزوجها ونقلها إلى الشام‏.‏

قال‏:‏ فذهب عقل وضاح عليها وجعل يذوب وينحل فلما طال عليه البلاء خرج إلى الشام

فجعل يطوف بقصر الوليد بن عبد الملك في كل يوم لا يجد حيلة حتى رأى يومًا جارية صفراء

فما زال حتى أنس بها فقال لها‏:‏ هل تعرفين أم البنين فقالت‏:‏ إنك تسأل عن مولاتي فقال‏:‏

إنها لابنة عمي فإنها تسر بمكاني وموضعي لو أخبرتها قالت‏:‏ إني أخبرها فمضت الجارية

فأخبرت أم البنين فقالت‏:‏ ويلك أحي هو قالت‏:‏ نعم قالت‏:‏ قولي له كن مكانك حتى يأتيك

رسولي‏.‏

فلن أدع الاحتيال لك فاحتالت إلى أن أدخلته إليها في صندوق فمكث عندها حينًا فإذا أمنت أخرجته فقعد معها وإذا خافت عين رقيب أدخلته الصندوق‏.‏

فأهدي يومًا للوليد بن عبد الملك جوهر فقال لبعض خدمه‏:‏ خذ هذا الجوهر فامض به إلى أم

البنين وقل لها‏:‏ أهتدي هذا إلى أمير المؤمنين فوجه به إليك‏.‏

فدخل الخادم من غير استئذان ووضاح معها فلمحه ولم تشعر أم البنين فبادر إلى الصندوق

فدخله فأدى الرسالة إليها وقال لها‏:‏ هبي لي من هذا الجوهر حجرًا فقالت‏:‏ لا أم لك وما

تصنع أنت بهذا فخرج وهو عليها حنق فجاء الوليد فخبره الخبر ووصف له الصندوق الذي

رآه دخله فقال‏:‏ كذبت لا أم لك‏.‏

ثم نهض الوليد مسرعًا فدخل إليها وهي في ذلك البيت وفيه صناديق فجاء حتى جلس على ذلك الصندوق الذي وصف له الخادم فقال لها‏:‏ يا أم البنين هبي لي صندوقًا من صناديقك هذه فقالت‏:‏ يا أمير المؤمنين هي لك وأنا لك فقال لها‏:‏

ما أريد غير هذا الذي تحتي فقالت‏:‏ يا أمير المؤمنين إن فيه شيئًا من أمور النساء قال‏:‏ ما

أريد غيره قالت‏:‏ هو لك‏.‏

فأمر به فحمل ودعا بغلامين وأمرهما بحفر بئر فحفرا حتى إذا بلغا الماء وضع فمه على الصندوق وقال‏:‏ أيها الصندوق قد بلغنا عنك شيء فإن كان حقًا فقد دفنا خبرك ودرسنا أثرك وإن كان كذبًا فما علينا من دفن صندوق من حرج ثم أمر به فألقي في الحفرة وأمر بالخادم فقذف في ذلك المكان فوقه وطم عليهما المكان‏.‏

فكانت أم البنين توجد في ذلك المكان تبكي إلى أن وجدت فيه يومًا مكبوبة على وجهها ميتة‏.‏

وقد روى نحو هذه الحكاية هشام بن محمد بن السائب‏:‏ أن أم البنين كانت عند يزيد بن عبد

الملك وإن قصة وضاح اليمن جرت له وهي عند يزيد‏.‏

  دخلت سنة ثلاث وتسعين

فمن الحوادث فيها‏:‏ غزاة العباس بن الوليد أرض الروم‏.‏

ففتح الله على يده بعضها وغزاها أيضًا مسلمة فافتتح بلادًا منها‏.‏

قالوا‏:‏ كان ملك خوارزم ضعيفًا فغلبه أخوه خرزاذ على أمره وكان خرزاذ أصغر منه فكان

إذا بلغه أن عند أحد جارية أو دابة أو متاعًا فاخرًا أرسل فأخذه أو بلغه أن لأحد بنتًا أو

أختًا أو امرأة جميلة أخذها ولا يمتنع عليه أحد ولا يمنعه الملك فإذا قيل له قال‏:‏ لا أقوى

عليه فلما طال ذلك عليه كتب إلى قتيبة في السر يدعوه إلى أرضه ليسلمها إليه وبعث إليه

بمفتاح البلد واشترط عليه أن يسلم إليه أخاه وكل من يضاده يحكم فيهم بما يرى فرجعت

الرسل بما يحب وسار قتيبة مظهرًا أنه يريد الصغد فقال الملك لأصحابه‏:‏ إن قتيبة يريد

الصغد فهل لكم أن نتنعم في ربيعنا هذا فأقبلوا على التنعم والشراب وأمنوا فلم يشعروا إلا

بقتيبة فقال الملك‏:‏ ما ترون قالوا‏:‏ نقاتله قال‏:‏ لا أرى ذلك لأنه قد عجز عنه من هو أقوى

منا ولكن نصرفه عنا بشيء نؤديه إليه فصالحه على مال عظيم وأخذ أخاه فدفعه إليه ثم

أتى قتيبة الصغد فصالحوه على ألفي ألف ومائتي ألف كل عام وأن يبنى له فيها مسجد ويضع

فيه منبرًا فيخطب عليه ففعلوا فدخل فخطب وصلى فقال‏:‏ لست ببارح فاخرجوا وجاءوه

بالأصنام فأحرقها فوجدوا من بقايا ما كان فيها من مسامير الذهب والفضة خمسين ألف

مثقال ودخل المسلمون مدينة سمرقند فصالحوهم‏.‏

ثم ارتحل قتيبة راجعًا إلى مرو واستخلف على سمرقند عبد الرحمن بن مسلم وخلف عنده جندًا كثيفًا وآلة من آلات الحرب كثيرة‏.‏

فلقيه موسى في عشرة آلاف فترضى طارقًا فرضي عنه ووجهه إلى طليطلة - وهي من عظام

مدائن الأندلس - وهي من قرطبة على عشرين يومًا - فأصاب فيها مائدة سليمان بن داود

عليه السلام وفيها من الذهب والجوهر ما الله به أعلم‏.‏

وفيها‏:‏ أجدب أهل إفريقية جدبًا شديدًا‏.‏

فخرج موسى بن نصير فاستسقى بالناس ودعا وخطب فقيل له‏:‏ ألا تدعو لأمير المؤمنين

فقال‏:‏ ليس هذا موضع ذلك فسقوا سقيًا كفاهم حينًا‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ ضرب عمر بن عبد العزيز خبيب بن عبد الله بن الزبير بن العوام خمسين

سوطًا‏.‏وقيل‏:‏ مائة سوط عن أمر الوليد بن عبد الملك بذلك وصب على رأس قربة ماء بارد في يوم شات ووقفه على باب المسجد فمكث يومًا ومات‏.‏

وكان السبب أن خبيبًا حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ إذا بلغ بنو أبي

العاص ثلاثين رجلًا اتخذوا عباد الله خولًا ومال الله دولًا ‏"‏‏.‏

أنبأنا الحسين بن محمد بن عبد الوهاب الدباس قال‏:‏ أخبرنا أبو جعفر بن المسلمة قال‏:‏ أخبرنا

أبو طاهر المخلص قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن سليمان بن داود الطوسي قال‏:‏ حدثنا الزبير بن بكار

كان خبيب قد لقي العلماء ولقي كعب الأحبار وقرأ الكتب وكان من النساك وأدركه

أصحابنا وغيرهم يذكرون أنه كان يعلم علمًا كثيرًا لا يعرفون وجهه ولا مذهبه فيه يشبه ما

يدعى الناس من علوم النجوم‏.‏

قال عمي مصعب‏:‏ وحدثت عن مولى لخالته أم هاشم بنت منظور يقال له يعلى بن عقبة قال‏:‏

كنت أمشي معه وهو يحدث نفسه إذ وقف ثم قال‏:‏ سأل قليلًا فأعطي كثيرًا وسأل كثيرًا

فأعطي قليلًا فطعنه فأراده فقتله ثم أقبل علي فقال‏:‏ قتل عمرو بن سعيد الساعة ثم مضى

فوجدوا ذلك اليوم الذي قتل فيه عمرو بن سعيد‏.‏

وله أشباه هذا يذكرونها والله أعلم ما هي وكان طويل الصمت قليل الكلام‏.‏

وكان الوليد بن عبد الملك قد كتب إلى عمر بن عبد العزيز إذ كان واليًا على المدينة يأمره

بجلده مائة سوط وبحبسه فجلده عمر مائة سوط وبرد له ماء في جرة ثم صبها عليه في غداة

باردة فكن فمات فيها‏.‏

وكان عمر قد أخرجه من المسجد حين اشتد وجعه وندم على ما صنع فانتقله آل الزبير في

دار من دورهم‏.‏

قال عمي مصعب‏:‏ وأخبرني مصعب بن عثمان أنهم نقلوه إلى دار عمر بن مصعب بن الزبير

واجتمعوا عنده حتى مات فبينا هم جلوس إذ جاءهم الماجشون استأذن عليهم وخبيب

مسجى بثوبه وكان الماجشون يكون مع عمر بن عبد العزيز في ولايته على المدينة فقال عبد الله بن عروة‏:‏ إئذنوا له فلما دخل قال‏:‏ كان صاحبك في مرية من موته اكشفوا له عنه فكشفوا له عنه فلما رآه الماجشون انصرف‏.‏

قال الماجشون‏:‏ فانتهيت إلى دار مروان فقرعت الباب فدخلت فوجدت عمر كالمرأة الماخض قائمًا قاعدًا فقال لي‏:‏ ما وراءك فقلت‏:‏ مات الرجل فسقط إلى الأرض فزعًا ثم رفع رأسه يسترجع فلم تزل تعرف فيه حتى مات فاستعفى من المدينة وامتنع من الولاية وكان يقال‏:‏ إنك قد فعلت كذا فأبشر فيقول‏:‏ فكيف بخبيب‏.‏

وحدثني عمي قال‏:‏ حدثني هارون بن أبي عبيد الله بن عبد الله بن مصعب قال‏:‏ سمعت

أصحابنا يقولون‏:‏ قسم فينا عمر بن عبد العزيز قسمًا في خلافته خصنا به فقال الناس‏:‏ دية

خبيب‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ عزل الوليد عمر بن عبد العزيز عن المدينة‏.‏

وكان السبب في ذلك أن عمر كتب إلى الوليد يخبره بعسف الحجاج أهل علمه بالعراق

واعتدائه عليهم وظلمه لهم بغير حق فبلغ ذلك الحجاج فاضطغنه على عمر وكتب إلى الوليد‏:‏

إن من قبلي من مراق أهل العراق وأهل الشقاق قد جلوا عن العراق ولجأوا إلى المدينة وإن ذلك فكتب الوليد إلى الحجاج‏:‏ أن أشر علي برجلين فكتب إليه يشير عليه بعثمان بن حيان وخالد بن عبد الله فولى خالدًا مكة وولى عثمان المدينة وعزل عمر بن عبد العزيز فخرج عمر بن عبد العزيز من المدينة معزولًا في شعبان هذه السنة واستخلف حين خرج أبا بكر بن عمرو بن حزم وجعل يقول لمولاه مزاحم‏:‏ أتخاف أن تكون ممن نفته المدينة‏.‏

ووليها عثمان بن حيان في شعبان إلا أنه قدم المدينة لليلتين مضيتا من شوال‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏حج بالناس عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك وكانت العمال على الأمصار عمالها في السنة التي قبلها إلا بالمدينة فإن عمر وليها إلى شعبان وعثمان بن حيان وليها من شعبان ويقال‏:‏ قدمها في سنة أربع وتسعين‏.‏

 ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

إياس بن قتادة التميمي

ابن أخت الأحنف بن قيس أسند عن قيس بن عباد عن أبي بن كعب‏.‏

أنبأنا أبو بكر ابن أبي طاهر عن أبي محمد الجوهري عن ابن حيوية قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن

معروف قال‏:‏ أخبرنا الحسين بن الفهم قال‏:‏ حدثنا محمد بن سعد قال‏:‏ أخبرت عن معتمر بن

سليمان عن سلمة بن علقمة قال‏:‏ اعتم إياس بن قتادة وهو يريد بشر بن مروان فنظر في المرآة

فإذا بشيبة في دقنه فقال‏:‏ افليها يا جارية ففلتها فإذا هي بشيبة أخرى فقال‏:‏ أنظروا من

بالباب من قومي فادخلوا عليه فقال‏:‏ يا بني تميم إني كنت وهبت لكم شبيبتي فهبوا لي

شيبتي ألا أراني حمير الحاجات وهذا الموت يقرب مني‏.‏

ثم قال‏:‏ انقضي العمامة فاعتزل يؤذن لقومه ويعبد ربه ولم يغش سلطانًا حتى مات‏.‏

زرارة بن أوفى الحرشي

يكنى أبا حاجب‏:‏أسند عن أبي هريرة وعمران وابن عباس‏.‏وتوفي في هذه السنة فجأة‏.‏

أخبرنا محمد بن طاهر قال‏:‏ أخبرنا إبراهيم بن عمر البرمكي قال‏:‏ أخبرنا أبو محمد بن ناسي

قال‏:‏ حدثنا أبو جعفر أحمد بن علي الخراز قال‏:‏ حدثنا عبد الواحد بن غياث قال‏:‏ حدثنا أبو

خباب القصار قال‏:‏ صلى بنا زرارة بن أوفى الفجر فلما بلغ‏:‏ ‏"‏ فإذا نقر في الناقور ‏"‏ شهق شهقة فمات‏.‏

عبد الرحمن بن يزيد بن جارية بن عامر الأنصاري

وأمه جميلة بنت ثابت ابن أبي الأقلح ولد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

واسمه حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم يكنى أبا الخطاب‏:‏

وكان أبو ربيعة يسمى ذا الرمحين سمي بذلك لطوله كأنه يمشي على رمحين‏.‏

وقيل‏:‏ بل قاتل في عكاظ برمحين فسمي بذلك‏.‏

ولد عمر ليلة قتل عمر بن الخطاب وكانت أمه وأم إخوته نصرانية‏.‏

وأبو جهل بن هشام عم أبيه وأم عمر بن الخطاب حثمة بنت هشام بن المغيرة بنت عم أبيه وإخوته عبد الله وعبد الرحمن والحارث بنو عبد الله بن أبي ربيعة‏.‏

وكان أخوه عبد الرحمن تزوج بنت أبي بكر الصديق بعد طلحة وولدت له وأعقب الحارث ولا عقب لعمر‏.‏وكان عمر شاعرًا مجيدًا‏.‏

روى الزبير بن بكار قال‏:‏ حدثني يعقوب ابن أبي إسحاق قال‏:‏ كانت العرب تقر لقريش

بالتقدم في كل شيء عليها إلا في الشعر فلما كان عمر أقرت له الشعراء بالشعر أيضًا‏.‏

وقال ابن جريج‏:‏ ما دخل على العواتق في حجالهن شيء أضر عليهن من شعر عمر بن أبي

ربيعة‏.‏

وقال هشام بن عروة‏:‏ لا ترووا فتياتكم شعر عمر بن أبي ربيعة لا يتورطن في الزنا تورطًا‏.‏

وكان كثير التشبيب بالنساء قلما يرى امرأة إلا ويتشبب بها تشبيب عاشق‏.‏

وكان يحب زيارتهن ويكثر مجالستهن فممن شبب بهن سكينة بنت الحسين فقال‏:‏

ليت المغيري الذي لم أجزه ** فيما أطال تصيدي وطلابي

كانت ترد لنا المنى أيامه ** أولا تلوم على هوى وتصابي

أسكين ما ماء الفرات وطيبه ** مني على ظمأ وحب شراب

بألذ منك وقد نأيت وقلما ** ترعى النساء أمانة الغياب

وشبب بفاطمة بنت عبد الملك بن مروان فقال‏:‏

افعلي بالأسير إحدى ثلاث ** وافهميهن ثم ردي جوابي

اقتليه قتلًا سريحًا مريحًا ** لا تكوني عليه سوط عذابي

أو اقتدي فإنما النفس بالنـ ** ـفس قضاء مفصلا في كتاب

أو صليه تقر به العين وشر ** الوصال وصل الكذاب

فأعطت الذي جاءها بالأبيات لكل بيت عشرة دنانير‏.‏

وحج عبد الملك فلقيه عمر فقال له عبد الملك‏:‏ يا فاسق فقال‏:‏ بئس تحية ابن العم على طول

السخط قال‏:‏ يا فاسق أما أن قريشًا لتعلم أنك أطولها صبوة وأبطأها توبة ألست القائل‏:‏

ولولا أن تعنفني قريش فقال الناصح الأوفى الشقيق

وكان أخوه الحارث خيرًا عفيفًا فعاتبه يومًا‏.‏

قال عمر‏:‏ وكنت على ميعاد من الثريا فرحت إلى المسجد مع المغرب وجاءت الثريا للميعاد فتجد الحارث مستلقيًا على الفراش فألقت نفسها عليه وهي لا تشك أنه أنا فوثب وقال‏:‏ من هذه قيل له‏:‏ الثريا قال‏:‏ ما أرى عمر ينتفع بوعظنا فلما جئت للميعاد قال‏:‏ ويحك كدنا نفتن بعدك لا والله ما شعرت إلا وصاحبتك واقعة علي قلت‏:‏ لا تمسك النار أبدًا قال‏:‏ عليك لعنة الله وعليها‏.‏

فلما تزوج سهيل بن عبد الرحمن بن عوف الثريا قال عمر‏:‏

أيها المنكح الثريا سهيلًا ** عمرك الله كيف يلتقيان

هي شامية إذا ما استقلت ** وسهيل إذا استقل يمان

أخبرنا المبارك بن علي الصيرفي قال‏:‏ أخبرنا علي بن محمد بن العلاف قال‏:‏ أخبرنا عبد الملك

بن بشران قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن إبراهيم الكندي قال‏:‏ حدثنا أبو بكر محمد بن جعفر الخرائطي

قال‏:‏ حدثنا إسماعيل بن أحمد بن معاوية الباهلي عن أبيه عن الأصمعي عن أبي سفيان بن

العلاء قال‏:‏ لما بصرت الثريا بعمر بن ربيعة وهو يطوف حول البيت فتنكرت وفي كفها خلوق فرجمته فأثر الخلوق في ثوبه فجعل الناس يقولون‏:‏ يا أبا الخطاب ما هذا بزي محرم فأنشأ يقول‏:‏ مسحت كفها بجيب قميصي ** حين طفنا بالبيت مسحًا رفيقا

فقال له عبد الله بن عمر‏:‏ مثل هذا القول تقول في هذا الموضع فقال‏:‏ يا أبا عبد الرحمن قد

سمعت مني ما سمعت فورب هذه البنية ما حللت إزاري على حرام قط‏.‏

وقد روى محمد بن الضحاك‏:‏ أن عمر بن أبي ربيعة لما مرض مرض الموت أسف عليه أخوه

الحارث فقال عمر‏:‏ يا أخي إن كان أسفك لما سمعت من قولي قلت لها وقالت لي فكل مملوك

لي حر إن كان كشف فرجًا حرامًا قط فقال الحارث‏:‏ الحمد لله طيبت نفسي وكان له سبعون

عبدًا‏.‏

وقد روي عنه أنه لما كبر حلف ألا يقول بيت شعر إلا أعتق رقبة‏.‏

وروى الزبير بن بكار عن محمد بن الضحاك قال‏:‏ عاش عمر بن أبي ربيعة ثمانين سنة فتك

منها أربعين سنة ونسك أربعين سنة‏.‏

وقد روى الزبير بن بكار قال‏:‏ حدثني مصعب بن عثمان‏:‏ أن عمر بن عبد العزيز لما ولي

الخلافة لم تكن له همة إلا عمر بن أبي ربيعة والأحوص‏.‏

فكتب إلى عامله على المدينة‏:‏ إني قد

عرفت عمر والأحوص بالخبث والشر فإذا أتاك كتابي هذا فاشددهما واحملهما إلي - فلما أتاه

الكتاب حملهما إليه فأقبل على عمر وقال‏:‏ هيه فلم أر كالتجميز منظر ناظر كالرمي فإذا لم

يفلت الناس منك في هذه الأيام فمتى يفلتون أما والله لو أهممت بحجبك لم تنظر إلى شيء

غيرك ثم أمر بنفيه فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين أو خير من ذلك قال‏:‏ وما هو قال‏:‏ أعاهد الله عز

وجل ألا أعود لمثل هذا الشعر ولا أذكر النساء في الشعر وأجدد توبة على يديك قال‏:‏ أو

تفعل قال‏:‏ نعم‏.‏فعاهد الله على توبته وخلاه‏.‏ثم دعا بالأحوص فقال‏:‏ من يقول‏:‏هي الله بيني وبين قيمها يفر مني بها، وأتبعه‏:‏ بل الله بين قيمها وبينك‏.‏ ثم أمر بنفيه إلى دهلك فلم يزل بها فسئل في رده فقال‏:‏ والله لا أرده ما كان لي سلطان‏.‏

وقد اختلفوا في سبب موته على قولين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن عمر بن عبد العزيز سيره إلى دهلك ثم

غزا في البحر فأحرقت السفينة التي كان فيها فاحترق هو ومن كان معه‏.‏ذكره ابن قتيبة‏.‏

والثاني‏:‏ أنه نظر إلى امرأة مستحسنة في الطواف فكلمها فلم تجبه فقال لها أبياتًا فبلغتها فقيل

لها‏:‏ اذكريها لزوجك ينكر عليه فقالت‏:‏ كلا لا أشكوها إلا إلى الله فقالت‏:‏ اللهم إن كان نوه باسمي ظالمًا فاجعله طعامًا للريح‏.‏

فضرب الدهر ضربة فغدا يومًا على فرس فهبت الريح فنزل إلى شجرة فخدشه منها غصن فدمي فرمي فيه‏.‏فمات من ذلك‏.‏

 

سنة أربع وتسعين

فمن الحوادث فيها‏:‏

غزاة العباس بن الوليد أرض الروم فقيل‏:‏ إنه فتح أنطاكية‏.‏

وغزا عبد العزيز بن الوليد وغزا الوليد بن هشام فأوغلا وغزا يزيد بن أبي كبشة أرض سورية‏.‏

وفيها‏:‏ افتتح القاسم بن محمد الثقفي أرض الهند‏.‏

وفيها‏:‏ غزا قتيبة شاش وفرغانة حتى بلغ خجندة وافتتح قاشان وجاءه الجنود الذين وجههم

إلى الشاش وقد فتحوها فانصرف إلى مرو‏.‏

وفيها‏:‏ أخذ عثمان بن حيان أمير المدينة جماعة من الخوارج فقتلهم وبعث ببعضهم في جوامع

إلى الحجاج ونادى‏:‏ برئت الذمة ممن آوى عراقيًا‏.‏

وفيها‏:‏ استقضى الوليد سليمان بن حبيب‏.‏

وفيها‏:‏ دامت الزلازل أربعين يومًا وشمل الهدم الأبنية الشاهقة وتهدمت دور مدينة أنطاكية‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏

 

قتل الحجاج سعيد بن جبير

وكان سبب ذلك خروجه عليه مع من خرج مع عبد الرحمن بن الأشعث وكان الحجاج قد

جعل سعيد بن جبير على عطاء الجند حين وجه عبد الرحمن إلى رتبيل لقتاله فلما خلع عبد

الرحمن الحجاج خلعه معه سعيد بن جبير فلما هزم عبد الرحمن وهرب إلى بلاد رتبيل هرب

سعيد إلى أصفهان فكتب الحجاج إلى واليها‏:‏ أن خذه وكان الوالي يتحرج فأرسل إلى سعيد

أن أخرج وتنح عنا فتنحى إلى أذربيجان ثم خرج إلى مكة فأقام بها‏.‏

وكان أناس ممن فعل مثله يستخفون فلا يخبرون بأسمائهم‏.‏

وكتب الحجاج إلى الوليد‏:‏ إن أهل الشقاق والنفاق قد لجأوا إلى مكة فإن رأى أمير المؤمنين أن

يأذن لي فيهم‏.‏

فكتب إلى خالد بن عبد الله القسري فأخذ عطاء وسعيد بن جبير ومجاهدًا وطلق بن حبيب وعمرو بن دينار‏.‏

فأرسل عطاء وعمرو بن دينار لأنهما مكيان وبعث بالآخرين إلى الحجاج فمات طلق في الطريق وحبس مجاهد حتى مات الحجاج وقتل سعيد‏.‏

واختلفوا فيمن أقام الحج للناس في هذه السنة فقال أبو معشر‏:‏ مسلمة بن عبد الملك‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ عبد العزيز بن الوليد وكان العامل على المدينة عثمان بن حيان وعلى الكوفة زياد بن جرير وعلى قضائها أبو بكر بن موسى وعلى البصرة الجراح بن عبد الله وعلى قضائها عبد الرحمن بن أذينة وعلى خراسان قتيبة وعلى مصر قرة بن شريك وكان العراق والمشرق كله إلى الحجاج‏.‏

 

ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

سعيد بن المسيب

بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم بن يقظة‏:‏ وكل من كان منسوبًا إلى عائذ بن عمران فهو عائذي بالذال المعجمة‏.‏

ومن نسب إلى عمرو بن مخزوم فهو عائدي بالدال المهملة‏.‏

وقد يقال عائذي بالذال المعجمة نسبة إلى عائذ الله بن سعيد منهم حمزة العائذي وسعيد بن حنظلة العائذي وابن طلق العائذي‏.‏

ويقال‏:‏ عائذي نسبة إلى عائذ قريش منهم علي بن مسهر القاضي‏.‏

وقال أبو عبد الله الصوري‏:‏ اجتمع في مخزوم عائد وعائذ وهما أبناء عم‏.‏

فأما عائذ فهو ابن عمران بن مخزوم وأما عائد فهو ابن عمرو بن مخزوم‏.‏

وإذا جاء عمران فولده عايذ بالياء نقطتين من تحتها والذال المعجمة‏.‏

وإذا جاء عمر فولده عابد بالباء واحدة والدال غير معجمة‏.‏

ويكنى سعيد أبا عبد الله ويقال‏:‏ أبا عبد الملك‏.‏ويقال‏:‏ أبا محمد‏.‏

وجده حزن لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد سعيد لسنتين خلتا من خلافة عمر وقال‏:‏ أصلحت بين علي وعثمان وكان سعيد أفقه أهل الحجاز وأعبرهم للرؤيا‏.‏

أخبرنا ابن ناصر قال‏:‏ أخبرنا أبو سعيد محمد بن عبد الملك الأسدي قال‏:‏ أنبأنا أبو الحسين بن

رزمة قال‏:‏ أخبرنا عمر بن محمد بن سيف قال‏:‏ حدثنا أبو عبد الله اليزيدي قال‏:‏ حدثنا لما مات العبادلة - عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن الزبير - صار الفقه في جميع البلدان إلى الموالي فكان فقيه أهل مكة عطاء ابن أبي رباح وفقيه أهل اليمن طاووس وفقيه أهل اليمامة يحيى بن أبي كثير وفقيه أهل البصرة الحسن وفقيه أهل الشام مكحول وفقيه أهل خراسان عطاء الخراساني إلا المدينة فإن الله تعالى خصها بقرشي فكان فقيه أهل المدينة سعيد بن المسيب غير مدافع‏.‏

أخبرنا محمد بن طاهر قال‏:‏ أخبرنا الجوهري قال‏:‏ أخبرنا أبو عمر ابن حيوية قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن معروف قال‏:‏ أخبرنا الحسين بن الفهم قال‏:‏ حدثنا محمد بن سعد قال‏:‏ أخبرنا محمد بن عمر قال‏:‏ حدثنا قدامة بن موسى الجمحي قال‏:‏كان سعيد بن المسيب يفتي وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحياء‏.‏

قال محمد بن سعد‏:‏ وأخبرنا يزيد بن هارون والفضل بن دكين قالا‏:‏ أخبرنا مسعر بن كدام عن سعد بن إبراهيم عن سعيد بن المسيب قال‏:‏ ما بقي أحد أعلم بكل قضاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر مني‏.‏

وقال الزبير بن بكار‏:‏ حدثني محمد بن الضحاك عن عثمان الحزامي عن مالك بن أنس‏:‏ أن

سعيد بن المسيب ولد في زمان عمر بن الخطاب وكان احتلامه عند مقتل عثمان وكان يقال

لسعيد‏:‏ راوية عمر بن الخطاب وكان يتتبع أقضية عمر بن الخطاب يتعلمها وإن كان عبد الله

بن عمر ليرسل إليه يسأله عن القضاء من أقضية عمر فيخبره‏.‏

قال الزبير‏:‏ وحدثني أبو مصعب الزهري قال‏:‏ حدثني المغيرة بن عبد الله الأخنسي عن رجل

أهل البصرة قال‏:‏ كان الحسن بن أبي الحسن لا يدع شيئًا من فعله بقول أحد حتى يقول أن سعيد بن المسيب قد قال خلافه فيأخذ به ويدع قوله‏.‏

قال‏:‏ وأخبرنا محمد بن عمر قال‏:‏ أخبرنا حارثة بن أبي عمران أنه سمع محمد بن يحيى بن حيان يقول‏:‏ كان رأس من بالمدينة في دهره والمقدم عليهم في الفتوى سعيد بن المسيب ويقال‏:‏ فقيه الفقهاء‏.‏

قال‏:‏ وأخبرنا محمد بن عمر قال‏:‏ أخبرنا ثور بن يزيد عن مكحول قال‏:‏سعيد بن المسيب عالم العلماء‏.‏

قال‏:‏ وأخبرنا عبد الله بن جعفر الرقي قال‏:‏ حدثنا أبو المليح عن ميمون بن مهران قال‏:‏ قدمت المدينة فسألت عن أفقه الفقهاء فدفعت إلى سعيد بن المسيب‏.‏

قال‏:‏ وأخبرنا محمد بن عمر قال‏:‏ حدثني هشام بن سعد قال‏:‏ سمعت الزهري يقول وسأله سائل عن من أخذ سعيد بن المسيب علمه قال‏:‏ عن زيد بن ثابت وجالس سعد بن أبي وقاص وابن عباس وابن عمر ودخل على أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة وأم سلمة وكان قد سمع من عثمان وعلي وصهيب ومحمد بن مسلمة وجل روايته المسندة عن أبي هريرة وكان زوج ابنته‏.‏

قال‏:‏ وأخبرني معن بن عيسى عن مالك قال‏:‏ كان عمر بن عبد العزيز يقول‏:‏ ما كان في المدينة عالم إلا يأتيني بعلمه وأوتى بما عند سعيد بن المسيب‏.‏

أخبرنا ابن ناصر قال‏:‏ أخبرنا عبد المحسن بن محمد قال‏:‏ أخبرنا عبد الملك بن عبد الله بن

سكين الفقيه قال‏:‏ أخبرنا أبيض بن محمد بن أبيض قال حدثنا عبد الرحمن النسائي قال‏:‏ حدثني أبو عبد الله الأسباطي قال‏:‏ لما نزل الماء في عين سعيد بن المسيب قيل له‏:‏ اقدحها قال‏:‏ فعلى من أفتحها‏.‏

قال مؤلف الكتاب رحمه الله‏:‏ وابتلي سعيد بن المسيب بالضرب وذلك أن عبد الله بن الزبير

ولى جابر بن الأسود الزهري المدينة فدعا الناس إلى بيعة ابن الزبير فقال سعيد‏:‏ لا حتى يجتمع الناس فضربه ستين سوطًا فبلغ ذلك ابن الزبير فكتب إليه يلومه ويقول‏:‏ مالنا ولسعيد دعه‏.‏

وكان عبد الملك قد خطب بنت سعيد لابنه الوليد فأبى فاحتال على سعيد حتى ضربه مائة سوط في يوم بارد وصب عليه جرة ماء وألبسه جبة صوف‏.‏

أخبرنا إسماعيل بن أحمد السمرقندي قال‏:‏ أخبرنا أبو بكر محمد بن هبة الله الطبري قال‏:‏

أخبرنا محمد بن الحسين بن الفضل قال‏:‏ أخبرنا عبد الله بن جعفر بن درستويه قال‏:‏ حدثنا

يعقوب بن سفيان قال‏:‏ حدثنا زيد بن بشير الحضرمي قال‏:‏ حدثنا ضمام عن بعض أهل

المدينة قال‏:‏

لما كانت بيعة سليمان بن عبد الملك مع بيعة الوليد كره سعيد بن المسيب أن يبايع بيعتين

فكتب صاحب المدينة إلى عبد الملك بن مروان يخبره أن سعيد بن المسيب كره أن يبايع لهما

جميعًا فكتب عبد الملك إلى صاحب المدينة‏:‏ وما كان حاجتك إلى رفع هذا عن سعيد بن

المسيب ما كنا نخاف منه فأما إذا ظهر ذلك وانتشر في الناس فادعه إلى ما دخل فيه من

دخل في هذه البيعة فإن أبى فاجلده مائة سوط واحلق رأسه ولحيته وألبسه ثيابًا من شعر

وقفه على الناس في سوق المسلمين لئلا يجترئ علينا غيره‏.‏

فلما علم بعض من حضر من قريش سألوا الوالي أن لا يعجل عليه حتى يخوفه بالقتل فعسى أن

يجيب فأرسلوا مولى له كان في الحرس قالوا‏:‏ اذهب فأخفه بالقتل وأخبره أنه مقتول لعل ذلك

يخيفه حتى يدخل فيما دخل فيه الناس‏.‏

فجاءه مولاه وهو يصلي فبكى المولى فقال له سعيد‏:‏ ما يبكيك قال‏:‏ يبكيني ما يراد بك قد جاء كتاب فيك إن لم تبايع قتلت فجئت لتطهر وتلبس ثيابًا طاهرة وتفرغ من عهدك قال‏:‏ ويحك قد وجدتني أصلي فتراني كنت أصلي ولست بطاهر وثيابي غير طاهرة وأما ما ذكرت من العهد فإني أضل ممن أرسلك إن كنت بت ليلة ولم أفرغ من عهدي‏.‏

فانطلق فلما أتى الوالي دعوه فأبى أن يجيب فأمره بالتجريد ولبس ثيابًا من شعر ثم جلده مائة سوط وحلق رأسه ولحيته ووقف فقال‏:‏ لو كنت أعلم أنه ليس شيء إلا هذا ما نزعت ثيابي طائعًا ولا أجبت إلى ذلك‏.‏

قال ضمام‏:‏ فبلغني أن هشام بن إسماعيل كان إذا خطب الناس يوم الجمعة تحول إليه سعيد بن

المسيب بوجهه ما دام يذكر الله عز وجل حتى إذا رفع يذكر عبد الملك ويمدحه ويقول فيه ما

يقول أعرض عنه سعيد بوجهه فلما فطن له هشام أمر حرسيًا أن يخصب وجهه إذا تحول عنه

ففعل ذلك به فقال سعيد لهشام وأشار بيده إليه‏:‏ هي ثلاث نحل‏.‏فما مر به إلا ثلاثة أشهرحتى عزل هشام‏.‏

ومعنى نحل‏:‏ حسب‏.‏

أنبأنا الحسين بن عبد الوهاب قال‏:‏ أخبرنا ابن المسلمة قال‏:‏ أخبرنا المخلص قال‏:‏ أخبرنا

كان سعيد بن المسيب لا يقبل بوجهه على هشام بن إسماعيل إذا خطب يوم الجمعة فأمر به

هشام بعض أعوانه يعطفه عليه إذا خطب فأهوى العون يعطفه فأبى عليه فأخذه حتى عطفه

فصاح سعيد يا هشام إنما هي أربع بعد أربع‏.‏

فلما انصرف هشام قال‏:‏ ويحكم جن سعيد فسئل سعيد‏:‏ أي شيء أربع بعد أربع سمعت في ذلك شيئًا قال‏:‏ لا فقيل‏:‏ ما أردت بقولك قال‏:‏ إن جاريتي لما أردت المسجد قالت لي‏:‏ إني رأيت هذه الليلة رؤيا فلا تخرج حتى أقصها عليك وتعبرها لي رأيت كأن موسى غطس عبد الملك في البحر ثلاث غطسات فمات في الثالثة فأولت أن عبد الملك مات وذلك أن موسى بعث على الجبارين بقتلهم وعبدالملك جبار هذه الأمة‏.‏

قال‏:‏ فلم قلت أربع بعد أربع قال‏:‏ مسافة مسير الرسول من دمشق إلى المدينة بالخبر‏.‏

فمكثوا ثماني ليال ثم جاء رسول بموت عبد الملك‏.‏

تزويج بنت سعيد

أخبرنا المحمدان ابن ناصر وابن عبد الباقي قالا‏:‏ أخبرنا حمد بن أحمد الحداد قال‏:‏ أخبرنا أبو

نعيم أحمد بن عبد الحافظ قال‏:‏ أخبرنا عمر بن أحمد بن عثمان قال‏:‏ أخبرنا عبد الله بن سليمان بن الأشعث قال‏:‏ حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال‏:‏ حدثني عمي عبد الله بن وهب عن عطاء وابن خالد عن ابن حرملة عن ابن أبي وداعة قال‏:‏كنت أجالس سعيد بن المسيب ففقدني أيامًا فلما جئته قال‏:‏ أين كنت قلت‏:‏ توفيت أهلي فاشتغلت بها قال‏:‏ ألا أخبرتنا فشهدناها‏.‏

قال‏:‏ ثم أردت أن أقوم فقال‏:‏ هل استحدثت امرأة فقلت‏:‏ يرحمك الله ومن يزوجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة فقال‏:‏ أنا فقلت‏:‏ أو تفعل نعم ثم حمد الله وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وزوجني على درهمين أو ثلاثة‏.‏

قال‏:‏ فقمت وما أدري ما أصنع من الفرح فصرت إلى منزلي وجعلت أتفكر ممن آخذ وممن

أستدين فصليت المغرب وكنت وحدي وقدمت عشائي أفطر خبزًا وزيتًا فإذا الباب يقرع فقلت‏:‏ من هذا قال‏:‏ سعيد قال‏:‏ فأفكرت في كل إنسان اسمه سعيد إلا سعيد بن المسيب فإنه لم ير أربعين سنة إلا بين بيته والمسجد فقمت فخرجت فإذا سعيد بن المسيب فظننت أنه قد بدا له فقلت‏:‏ يا أبا محمد ألا أرسلت إلي فآتيك قال‏:‏ لا أنت أحق أن تؤتى قلت‏:‏ فما تأمر قال‏:‏ إنك كنت رجلًا عزبًا تزوجت فكرهت أن أبيتك الليلة وحدك وهذه امرأتك قال‏:‏ فإذا هي قائمة من خلفه في طوله ثم أخذ بيدها فدفعها في الباب ورد الباب فسقطت المرأة من الحياء فاستوثقت من الباب ثم تقدمتها إلى القصعة التي فيها الزيت والخبز فوضعتها في ظل السراج لكيلا تراه ثم صعدت إلى السطح فرميت الجيران فجاءوني فقالوا‏:‏ ما شأنك قلت‏:‏ ويحكم زوجني سعيد بن المسيب بنته اليوم وقد جاء بها على غفلة فقالوا‏:‏ سعيد بن المسيب زوجك قلت‏:‏ نعم‏.‏

وهوذا هي في الدار‏.‏

قال‏:‏ ونزلوا هم إليها وبلغ أمي فجاءت وقالت‏:‏ وجهي من وجهك حرام إن مسستها قبل أن أصلحها إلى ثلاثة أيام‏.‏

قال‏:‏ فأقمت ثلاثًا ثم دخلت بها فإذا هي من أجمل الناس وإذا هي أحفظ الناس لكتاب الله

عز وجل وأعلمهم بسنة رسوله وأعرفهم بحق زوج‏.‏

قال‏:‏ فمكثت شهرًا لا يأتيني سعيد ولا آتيه فلما كان قرب الشهر أتيت سعيدًا وهو في حلقته فسلمت عليه فرد علي السلام ولم يكلمني حتى تفرق أهل المجلس فلم يبق غيري قال‏:‏ ما حال ذلك الإنسان قلت‏:‏ خيرًا يا أبا محمد على ما يحب الصديق ويكره العدو فقال‏:‏ إن رابك شيء فالعصا فانصرفت إلى منزلي فوجه إلي بعشرين ألف درهم‏.‏

قال عبد الله بن سليمان‏:‏ وكانت بنت سعيد بن المسيب خطبها عبد الملك بن مروان لابنه الوليد حين ولاه العهد فأبى سعيد أن يزوجه فلم يزل عبد الملك يحتال على سعيد حتى ضربه مائة سوط في يوم بارد وصب عليه جرة ماء وألبسه جبة صوف‏.‏

قال عبد الله‏:‏ وابن أبي وداعة هو كثير بن المطلب بن أبي وداعة‏.‏قال مؤلف الكتاب‏:‏ وكان لكثير هذا ولد يقال له كثير أيضًا‏.‏روى الحديث وكان شاعرًا ولم يكن له عقب‏.‏فأما أبو وداعة فاسمه الحارث بن صبيرة بن سعيد بن سعد بن سهم‏.‏

كان قد شهد بدرًا مع المشركين فأسر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تمسكوا به فإن له ابنًا كيسًا بمكة‏)‏‏.‏ فخرج المطلب ففداه بأربعة آلاف درهم وهو أول أسير فدي فشخص الناس

بعده ففدوا أسراهم وكان أبوه صبيرة قد جاز الأربعين سنة بقليل ثم مات‏.‏

أنبأنا الحسين بن عبد الوهاب قال‏:‏ أخبرنا ابن المسلمة قال‏:‏ أخبرنا المخلص قال ثنا

سليمان بن داود قال‏:‏ حدثنا الزبير بن بكار قال‏:‏ حدثني علي بن صالح عن عامر بن صالح بن

عبد الله بن عروة بن الزبير‏:‏ أن الناس مكثوا زمانًا ومن جاز من قريش في السن أربعين سنة عمر فجازها صبيرة بن سعيد بيسير ثم مات فجأة ففزع لذلك الناس فناحت عليه الجن فقالت‏:‏

من يأمن الحدثان بعد صبيرة القرشي ماتا ** عجلت منيته المشي ب فكان منيته افتلاتا

وفي رواية أن شاعرًا قال‏:‏

حجاج بيت الله إن صبيرة القرشي ماتا **

سبقت منيته المشيب كأن ميتته افتلاتا **

فتزودوا لا تهلكوا من دون أهلكم خفاتا **

قال مؤلف الكتاب رحمه الله‏:‏ ثم إن أبا وداعة أسلم يوم الفتح وبقي إلى خلافة عمر وأسلم ابنه

المطلب يوم الفتح أيضًا‏.‏

توفي سعيد بالمدينة في هذه السنة وهو ابن أربع وثمانين سنة‏.‏

علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم

أبو الحسن أمه أم ولد اسمها غزالة‏.‏

روى عن أبيه وابن عباس وجابر بن عبد الله وصفية وأم سلمة وشهد مع أبيه كربلاء وهو ابن ثلاث وعشرين سنة وكان مريضًا حينئذ ملقى على الفراش فلما قتل الحسين قال شمر‏:‏ اقتلوا هذا فقال رجل من أصحابه‏:‏ سبحان الله أتقتلون غلامًا حدثًا مريضًا لم يقاتل وجاء عمر بن سعد بن أبي وقاص فقال‏:‏ لا تعرضوا للنسوة ولا لهذا المريض ثم أدخل على ابن زياد فهم بقتله ثم تركه وبعثه إلى يزيد فرده إلى المدينة فالعقب من ولد الحسين لعلي من هذا وأما الأكبر المقتول فلا عقب له‏.‏

أخبرنا المبارك بن علي الصيرفي عن عبد الغفار بن القاسم قال‏:‏ كان علي بن الحسين خارجًا

من المسجد فلقيه رجل فسبه فثارت إليه العبيد والموالي فقال علي بن الحسين‏:‏ مهلًا عن الرجل ثم أقبل عليه فقال‏:‏ ما ستر الله عليك من أمرنا أكثر ألك حاجة نعنيك عليها فاستحيا الرجل فألقى إليه خميصة كانت عليه وأمر له بألف درهم فكان الرجل بعد ذلك يقول‏:‏ أشهد أنك من أولاد الرسل‏.‏

أنبأنا البارع بإسناد له عن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه قال‏:‏ قدم المدينة قوم من أهل

العراق فجلسوا إلي ثم ذكروا أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فنسبوهما ثم ابتركوا في عثمان

ابتراكًا فقلت لهم‏:‏ أخبروني أنتم من المهاجرين الأولين الذين قال الله فيهم‏:‏ ‏{‏للفقراء المهاجرين

الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلًا من الله ورضوانًا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون‏}‏ قالوا‏:‏ لسنا منهم قال‏:‏ فأنتم من الذين قال الله عز وجل فيهم‏:‏ ‏{‏والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون‏}‏ قالوا‏:‏ لسنا منهم‏.‏

قال لهم‏:‏ أما أنتم فقد تبرأتم من الفريقين أن تكونوا منهم وأنا أشهد أنكم لستم من الفرقة الثالثة

الذين قال الله عز وجل فيهم‏:‏ ‏{‏والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلًا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم‏}‏ قوموا عني لا قرب

الله قربكم فأنتم تستترون بالإسلام ولستم من أهله‏.‏

أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك قال‏:‏ أخبرنا علي بن محمد الأنباري قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف قال‏:‏ أخبرنا ابن صفوان قال‏:‏ أخبرنا أبو بكر القرشي قال‏:‏ حدثني محمد بنأبي معشر قال‏:‏ حدثني ابن أبي نوح الأنصاري قال‏:‏وقع حريق في بيت فيه علي بن الحسين رضي الله عنهما وهو ساجد فجعلوا يقولون له‏:‏ يا ابن رسول الله النار يا ابن رسول الله النار فما رفع رأسه حتى أطفئت فقيل له‏:‏ ما الذي ألهاك عنها قال‏:‏ ألهتني النار الأخرى‏.‏

أخبرنا محمد بن عبد الباقي بإسناد له عن عبد الله بن أبي سليمان قال‏:‏ كان علي بن الحسين رضي الله عنهما لا تجاوز يده فخذه ولا يخطر بيده وكان إذا قام إلى الصلاة أخذته رعدة فقيل له‏:‏ مالك فقال‏:‏ تدرون بين يدي من أقوم ومن أناجي‏.‏

أخبرنا محمد بن أبي القاسم بإسناد له عن أبي حمزة الثمالي قال‏:‏ كان علي بن الحسين رضي

الله عنهما يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل فيتصدق به ويقول‏:‏ إن صدقة السر تطفئ غضب الرب عز وجل‏.‏

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز بإسناده عن جعفر بن محمد قال‏:‏ كان علي بن الحسين

رضي الله عنهما لا يحب أن يعينه على طهوره أحد كان يستقي الماء لطهوره ويخمره قبل أن

ينام فإذا قام من الليل بدأ بالسواك ثم يتوضأ ثم يأخذ في صلاته وكان لا يدع صلاة الليل في السفر والحضر وربما صلاها على بعيره وكان يقول‏:‏ عجبت للمتكبر الفخور الذي كان بالأمس

نطفة ثم هو غدًا جيفة وعجبت كل العجب لمن شك في الله وهو يرى خلقه وعجبت كل العجب لمن ينكر النشأة الأخرى وهو يرى الأولى ولمن عمل لدار الفناء وترك دار البقاء‏.‏

وكان إذا أتاه سائل رحب به وقال‏:‏ مرحبًا بمن يحمل زادي إلى الآخرة‏.‏

أخبرنا محمد بن ناصر بإسناد له عن طاووس قال‏:‏ رأيت علي بن الحسين رضي الله عنهما

ساجدًا فقلت‏:‏ رجل صالح من أهل بيت طيب لأسمعن ما يقول‏:‏ فأصغيت إليه فسمعته يقول‏:‏ ‏(‏عبيدك بفنائك مسكينك بفنائك سائلك بفنائك فقيرك بفنائك‏)‏ فوالله ما دعوت بها في كرب إلا كشف عني‏.‏

أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك قال‏:‏ أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار قال‏:‏ أخبرنا ابن علي

الطناجيري قال‏:‏ أخبرنا أبو حفص بن شاهين قال‏:‏ حدثنا محمد بن الحسن قال‏:‏ حدثنا أحمد

بن الحارث قال‏:‏ حدثنا جدي قال‏:‏ حدثنا الهيثم بن عدي قال‏:‏ حدثنا جعفر بن محمد عن أبيه قال‏:‏ قال علي بن الحسين رضي الله عنهما‏:‏سألت الله عز وجل في دبر كل صلاة سنة أن يعلمني اسمه الأعظم‏.‏

قال‏:‏ فوالله إني لجالس قد صليت ركعتي الفجر إذ ملكتني عيناي فإذا رجل جالس بين يدي قال‏:‏ قد استجيب لك فقل‏:‏ ‏(‏اللهم إني أسألك باسمك الله الله الله الله الله الذي لا إله إلا هو رب العرش العظيم‏)‏ ثم قال لي‏:‏ أفهمت أم أعيد عليك قلت‏:‏ أعد علي ففعل قال علي‏:‏ فما دعوت بها في شيء قط إلا رأيته وإني لأرجو أن يدخر الله لي عنده خيرًا‏.‏

أخبرنا عبد الوهاب قال‏:‏ أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال‏:‏ حدثنا أبو محمد الجوهري قال‏:‏

حدثنا ابن حيوية قال‏:‏ أخبرنا أبو بكر بن الأنباري قال‏:‏ حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي

قال‏:‏ حدثنا علي بن عبد الله قال‏:‏ حدثنا عبد الله بن هارون بن أبي عيسى عن أبيه عن

حاتم بن أبي صفيرة عن عمرو بن دينار قال‏:‏

دخل علي بن الحسين رضي الله عنهما على أسامة بن زيد في مرضه الذي مات فيه وهو

يبكي فقال له‏:‏ ما يبكيك قال‏:‏ دين علي قال‏:‏ كم مبلغه قال‏:‏ خمسة عشر ألف دينار - أو

بضعة عشر ألف دينار - قال‏:‏ فهو علي‏.‏

وقال شيبة بن نعامة الضبي‏:‏ كان علي بن الحسين رضي الله عنهما يبخل فلما مات وجدوه

يقوت مائة أهل بيت‏.‏

وفي رواية‏:‏ أنه كان إذا أقرض قرضًا لم يستعده وإذا عار ثوبًا لم يرتجعه وإذا وعد شيئًا لم يأكل ولم يشرب حتى يفي بوعده وإذا مشى في حاجة فوقفت قضاها من ماله‏.‏

وكان يحج ويغزو ولا وقال الزهري‏:‏ لم أر هاشميًا أفضل منه ولا أفقه منه‏.‏

أنبأنا محمد بن أبي منصور الحافظ قال‏:‏ أخبرنا أبو الفضل جعفر بن يحيى بن إبراهيم المكي

قال‏:‏ أخبرنا القاضي أبو الحسن محمد بن علي بن صخر قال‏:‏ أخبرني علي بن أحمد بن عبد

الرحمن الأصبهاني قال‏:‏ حدثنا أحمد بن عبد الجبار قال‏:‏ حدثنا عبد الرزاق عن معمر قال‏:‏

سمعت الزهري يقول‏:‏وجه عبد الملك بن مروان رسلًا في حمل علي بن الحسين فوجدوه بمكة فحملوه مكبلًا بالحديد ومنع الناس أن يدخلوا عليه‏.‏

قال ابن شهاب‏:‏ فأذنت عليه فصرفني البوابون من عند عبد الملك فأذنوا لي فدخلت عليه الحبس وجعلت أتوجع له وأقول له‏:‏ يعز علي يا ابن رسول الله أن أراك على مثل هذه الحالة فلما رأى شدة حزني وبكائي قال‏:‏ يا زهري لا تجزع إن هذا الحديد لا يؤذيني ثم نزعه من رجله وضعه بين يدي وقال‏:‏ لست أجوز معهم ذات عرق‏.‏

قال‏:‏ ثم مضوا به محمولًا فما لبثنا بعد ذلك إلا أربعة أيام حتى أتت رسل عبد الملك يسألون

عن علي بن الحسين وقد فقدوه فقلت‏:‏ كيف كان أمره قالوا‏:‏ لما نزلنا ذات عرق فبتنا بها

ليلتنا تلك فلما أصبحنا وجدنا حديده وفقدناه‏.‏

قال ابن شهاب‏:‏ فقدمت بعد ذلك بأسبوع على عبد الملك وهو بالشام فسألني عن علي بن الحسين فقلت‏:‏ أنت أعلم به مني فقال‏:‏ إنه قدم علي في اليوم الذي فقده فيه أصحابي بذات

عرق فدخل علي من هذا الباب فقال‏:‏ ما أنا وأنت فقلت‏:‏ أريد أن تقيم عندي‏.‏

قال علماء السير‏:‏ حج هشام بن عبد الملك ولم يل الخلافة بعد فطاف بالبيت فجهد أن يصل

إلى الحجر فيستلمه فلم يقدر عليه فنصب له منبر وجلس عليه ينظر إلى الناس فأقبل علي بن

الحسين فطاف بالبيت فلما بلغ إلى الحجر تنحى له الناس حتى استلمه فقال رجل من أهل الشام‏:‏ من هذا الذي قد هابه الناس هذه الهيبة فقال هشام‏:‏ لا أعرفه مخافة أن يرغب فيه أهل الشام وكان الفرزدق حاضرًا فقال الفرزدق‏:‏ ولكني أعرفه فقال الشامي‏:‏ من هذا يا أبا فراس فقال‏:‏هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ** والبيت يعرفه والحل والحرم

هذا ابن خير عباد الله كلهم ** هذا التقي النقي الطاهر العلم

إذا رأته قريش قال قائلها ** إلى مكارم هذا ينتهي الكرم

ينمى إلى ذروة العز التي قصرت ** عن نيلها عرب الإسلام والعجم

يكاد يمسكه عرفان راحته ** ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم

يغضي حياء ويغضى من ** مهابته فما يكلم إلا حين يبتسم

من جده دان فضل الأنبياء له ** وفضل أمته دانت له الأمم

ينشق نور الهدى عن نور غرته ** كالشمس ينجاب عن إشراقها القتم

مشتقة من رسول الله نبعته ** طابت عناصره والخيم والشيم

هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله ** بجده أنبياء الله قد ختموا

الله شرفه قدمًا وفضله جرى ** بذاك له في لوحه القلم

وليس قولك‏:‏ من هذا بضائره ** العرب تعرف من أنكرت والعجم

كلتا يديه غياث عم نفعهما ** يستوكفان ولا يعروهما العدم

سهل الخليقة لا تخشى بوادره ** يزينه اثنان حسن الخلق والشيم

حمال أثقال أقوام إذا فدحوا ** رحب الفناء أريب حين يعتزم

عم البرية بالإحسان فانقشعت ** عنه الغيابة والإملاق والعدم

من معشر حبهم دين وبغضهم ** كفر وقربهم منجى ومعتصم

لا ينقص العسر بسطًا من أكفهم ** سيان ذلك إن أثروا وإن عدموا

يستدفع السوء والبلوى بحبهم ** ويسترب به الإحسان والنعم

مقدم بعد ذكر الله ذكرهم ** في كل بدء ومختوم به الكلم

يأبى لهم أن يحل الذم ساحتهم ** خيم كريم وأيد بالندى هضم

أي الخلائق ليست في ** رقابهم لأولية هذا أوله نعم

ما قال لا قط إلا في تشهده ** لولا التشهد كانت لاءه نعم

من يعرف الله يعرف أولية ذا ** الدين من بيت هذا ناله الأمم

قال‏:‏ فغضب هشام وأمر بحبس الفرزدق بعسفان - بين مكة والمدينة‏.‏

وبلغ ذلك علي بن الحسين فبعث إلى الفرزدق باثني عشر ألف درهم وقال‏:‏ أعذر يا أبا فراس فلو كان عندنا أكثر من هذا لوصلناك به فردها الفرزدق وقال‏:‏ يا ابن رسول الله ما قلت الذي قلت إلا غضبًا لله عز وجل ولرسوله وما كنت لأزرأ عليه شيئًا فقال‏:‏ شكر الله لك إلا أنا أهل البيت إذا أنفذنا أمرًا لم نعد فيه فقبلها وجعل يهجو هشامًا وهو في الحبس فكان مما هجاه به قوله‏:‏

أتحبسني بين المدينة والتي ** إليها قلوب الناس يهوى منيبها

يقلب رأسًا لم يكن رأس سيد ** وعين له حولاء باد عيوبها

ومن العجائب‏:‏ ثلاثة كانوا في زمان واحد وهم بنو أعمام كل واحد منهم اسمه علي ولهم

ثلاثة أولاد كل واحد منهم اسمه محمد والآباء والأبناء علماء أشراف‏:‏ علي بن الحسين بن علي وعلي بن عبد الله بن عباس وعلي بن عبد الله بن جعفر‏.‏

عروة بن الزبير بن العوام أبو عبد الله

أمه أسماء بنت أبي بكر‏.‏

روى عن أبيه وعن زيد بن ثابت وأسامة وأبي أيوب والنعمان بن بشير وأبي هريرة ومعاوية وابن عمر وابن عمرو وابن عباس في آخرين وكان فقيهًا فاضلًا يسرد الصوم مات صائمًا‏.‏

أخبرنا إسماعيل بن أحمد السمرقندي قال‏:‏ أخبرنا محمد بن هبة الله الطبري قال‏:‏ أخبرنا محمد

بن الحسين بن الفضل قال‏:‏ حدثنا عبد الله بن جعفر بن درستويه قال‏:‏ حدثنا يعقوب بن سفيان قال‏:‏ حدثني سعيد بن أسد قال‏:‏ حدثنا ضمرة عن ابن شوذب قال‏:‏كان عروة بن الزبير إذا كان أيام الرطب ثلم حائطه فيدخل الناس فيأكلون ويحملون وكان إذا دخله ردد هذه الآية فيه حتى يخرج منه‏:‏ ‏{‏ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله‏}‏‏.‏

وكان عروة يقرأ ربع القرآن كل يوم نظرًا في المصحف ويقوم به الليل فما تركه إلا ليلة قطعت قال يعقوب‏:‏ وحدثني العباس بن مزيد قال‏:‏ أخبرني أبي قال‏:‏ قال أبو عمرو يعني الأوزاعي‏:‏

خرجت في بطن قدمه بثرة - يعني عروة - فترامى به ذلك إلى أن نشرت ساقه فقال لما

نشرت‏:‏ اللهم إنك تعلم أني لم أمش بها إلى سوء قط‏.‏

أخبرنا محمد بن عبد الباقي بإسناده عن هشام بن عروة قال‏:‏ خرج أبي إلى الوليد بن عبد

الملك فوقعت في رجله الأكلة فقال له الوليد‏:‏ يا أبا عبد الله أرى لك قطعها‏.‏

قال‏:‏ فقطعت وإنه لصائم فما تضور وجهه‏.‏

قال‏:‏ ودخل ابن له - أكبر ولده - اصطبله فرفسته دابة فقتلته فما سمع من أبي في ذلك شيء حتى قدم المدينة فقال‏:‏ اللهم إنه كان لي أطراف أربعة فأخذت واحدًا وأبقيت لي ثلاثة فلك الحمد‏.‏

وكان لي بنون أربعة فأخذت واحدًا وبقيت لي ثلاثة فلك الحمد وأيم الله لئن أخذت لقد أبقيت ولئن ابتليت لطالما عافيت‏.‏

توفي عروة بناحية الفرع في هذه السنة ودفن هناك‏.‏وقيل‏:‏ توفي في السنة التي قبلها‏.‏

أبو بكر بن عبد الرحمن

ابن الحارث بن هشام بن المغيرة ولد في خلافة عمر وليس له اسم وروى عن أبي مسعود الأنصاري وأبي هريرة وعائشة وأم سلمة وكان يقال له‏:‏ راهب قريش لكثرة صلاته وكان فقيهًا جوادًا أودع مالًا فذهب فغرمه حفظًا لعرضه وذهب بصره فذهب يومًا إلى مغتسله فمات فجأة في هذه السنة‏.‏

 

سنة خمس وتسعين

فمن الحوادث فيها‏:‏ غزوة العباس بن الوليد بن عبد الملك أرض الروم ففتح الله على يديه ثلاثة

حصون وفتح قنسرين‏.‏

وفيها‏:‏ قتل الوضاحي بأرض الروم وقتل معه نحو من ألفي رجل‏.‏

وفيها‏:‏ انصرف موسى بن نصير إلى إفريقية من الأندلس‏.‏

وفيها‏:‏ غزا قتيبة الشاش فلما وصل إليها جاءه موت الحجاج فقفل راجعًا إلى مرو فجاءه كتاب من الوليد يقول فيه‏:‏ عرف أمير المؤمنين بلاءك وجهادك وجدك في جهاد أعداء المسلمين وأمير المؤمنين رافعك وصانع بك ما تحب فلا تغيب عن أمير المؤمنين كتبك حتى كأني أنظر إلى بلادك والثغر الذي أنت به‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏

مات الحجاج فاستخلف على الصلاة ابنه عبد الرحمن وقيل‏:‏ بل استخلف يزيد بن أبي كبشة على الصلاة وعلى الخراج يزيد بن أبي مسلم وأقرهما الوليد وأقر عمال الحجاج كلهم‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏

حج بالناس بشر بن الوليد بن عبد الملك وكان العمال فيها العمال في السنة التي قبلها إلا ما كان من الكوفة والبصرة فإنها ضمت إلى من ذكرنا بعد موت الحجاج‏.‏

 

ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

الحجاج بن يوسف

ابن الحكم بن أبي عقيل وهو عتبة بن مسعود بن عامر بن معتب بن مالك بن كعب بن عوف

بن سعد بن عوف بن ثقيف من الأحلاف‏:‏ وأمه الفارعة بنت همام وكانت عند المغيرة بن شعبة فولدت له بنتًا‏.‏

وكان الحجاج أخفش دقيق الصوت فصيحًا حسن الحفظ للقرآن إلا أنه قد أخذ عليه فيه لحن‏.‏

قال ليحيى بن يعمر‏:‏ أتجدني ألحن قال‏:‏ الأمير أفصح من ذلك قال‏:‏ عزمت عليك لتخبرني قال‏:‏ نعم‏:‏ ‏"‏ ومساكن ترضونها أحب إليكم ‏"‏ بالرفع وأحب منصوب قال‏:‏ لا تسمعني ألحن بعدها فنفاه إلى خراسان‏.‏

وكان الحجاج أول أيامه معلمًا وكان يقرأ في كل ليلة ربع القرآن‏.‏

وسمع الحديث وأسنده وليس وكان الحجاج قد أذل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل المدينة خاصة واحتج بأنهم لم ينصروا عثمان وقتل الخلق الكثير يحتج عليهم بأنهم خرجوا على عبد الملك‏.‏

أخبرنا أبو الفتح الكروخي قال‏:‏ أخبرنا أبو عامر الأزدي وأبو بكر الكروخي قالا‏:‏ أخبرنا عبد

الجبار بن محمد بن الجراح عن أبي العباس بن محبوب عن الترمذي عن هشام بن حسان قال‏:‏

أحصينا ما قتل الحجاج صبرًا فبلغ مائة ألف وعشرين ألف رجل‏.‏

وأخبرنا عبد الوهاب بإسناد له عن الأصمعي قال‏:‏ حدثنا أبو عاصم عن عباد بن كثير عن

قحذم قال‏:‏وجد في سجن الحجاج ثلاثة وثلاثين ألفا ما يجب على أحد منهم قطع ولا قتل ولا صلب ووجد فيهم أعرابي رؤيا جالسًا يبول عند ربض المدينة - يعني واسط - فخلى عنه فانصرفوهو يقول‏:‏إذا نحن جاوزنا مدينة واسط خرينا وصلينا بغير حساب‏.‏

أخبرنا ابن ناصر قال‏:‏ أخبرنا علي بن أحمد البسري عن أبي عبد الله بن بطة قال‏:‏ حدثنا أبو

بكر بن الأنباري قال‏:‏ حدثني أبي قال‏:‏ حدثنا أحمد بن عبيد قال‏:‏ أخبرنا هشام بن محمد الكلبي عن عوانة بن الحكم قال‏:‏

دخل أنس بن مالك رضي الله عنه على الحجاج بن يوسف فلما وقف سلم عليه فقال له الحجاج‏:‏ إيه إيه يا أنس يوم لك مع علي ويوم لك مع ابن الزبير ويوم لك مع ابن الأشعث والله لأستأصلنك كما تستأصل الشأفة ولأدمغنك كما تدمغ الصمغة فقال أنس‏:‏ إياي - يعني الأمير-

أصلحه الله قال‏:‏ إياك صك الله سمعك قال أنس‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون والله لولا الصبية الصغار ما باليت أي قتلت قتلت ولا أي ميتة مت‏.‏

ثم خرج من عنده فكتب إلى عبد الملك بن مروان يخبره بذلك فلما قرأ كتابه استشاط غضبًا

وصفق عجبًا وتعاظم ذلك من الحجاج‏.‏

وكان كتاب أنس بن مالك إلى عبد الملك بن مروان‏:‏

بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏

إلى عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين من أنس بن مالك أما بعد فإن الحجاج قال لي هجرًا وأسمعني نكرًا ولم أكن له منك ومنه أهلًا فخذلني على يديه وأعني عليه فإني أمت إليك بخدمتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتي إياه والسلام عليك ورحمة الله وبركاته‏.‏

فبعث إلى إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر وكان مصافيًا للحجاج فقال‏:‏ دونك كتابي هذين فخذهما واركب البريد إلى العراق فابدأ بأنس بن مالك وادفع إليه كتابه وأبلغه مني السلام وقل له‏:‏ يا أبا حمزة قد كتبت إلى الملعون الحجاج كتابًا إذا قرأه كان أطوع لك من وكان كتاب عبد الملك إلى أنس‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الملك بن مروان أما بعد فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت من شكايتك الحجاج وما سلطته عليك ولا أمرته بالإساءة إليك فإن عاد لمثلها فاكتب إلي بذلك أنزل به عقوبتي وتحسن لك معونتي والسلام‏.‏

فلما قرأ أنس كتابه قال‏:‏ جزى الله أمير المؤمنين عني خيرًا وعافاه فهذا كان ظني به والرجاء

منه‏.‏

فقال له إسماعيل‏:‏ يا أبا حمزة الحجاج عامل أمير المؤمنين وليس بك عنه غنى ولا بأهل بيتك ولو جعل لك في جامعة ثم دفع إليك قدر أن يضر وينفع فقاربه وداره قال‏:‏ أفعل إن شاء الله‏.‏

ثم خرج إسماعيل من عنده فدخل على الحجاج فلما رآه قال‏:‏ مرحبًا برجل أحبه وقد كنت أحب لقاءه قال‏:‏ فأنا والله قد كنت أحب لقاءك في غير ما أتيتك به قال‏:‏ وما أتيتني به قال‏:‏ فارقت أمير المؤمنين وهو من أشد الناس عليك غضبًا ومنك بعدًا فاستوى جالسًا مرعوبًا فرمى إليه بالطومار فجعل ينظر فيه مرة ويعرق وينظر إلى إسماعيل أخرى فلما فهمه قال‏:‏ مر بنا إلى أبي حمزة نعتذر إليه ونترضاه قال‏:‏ لا تعجل قال‏:‏ كيف لا أعجل وقد أتيتني بآبدة ثم رمى الطومار إليه فإذا فيه‏.‏

بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏

من عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين إلى الحجاج بن يوسف‏.‏

أما بعد فإنك عبد طمت بك الأمور فسموت فيها وعدوت طورك وجاوزت قدرك وأردت أن

تروزني فإن سوغتكها مضيت قدمًا وإن لم رجعت القهقرى فلعنك الله عبدًا أخفش العينين

منقوص الجاعرتين أنسيت مكاسب آبائك بالطائف وحفرهم الآبار بأيديهم ونقلهم الصخور

على ظهورهم في المناهل يا ابن المستفرمة بعجم الزبيب والله لأغمزنك غمزة الليث الثعلب

والصقر الأرنب وثبت على رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا فلم

تقبل له إحسانه واستخفافًا منك بالعهد والله لو أن اليهود والنصارى رأت رجلًا خدم عزيز

بن عزرة وعيسى بن مريم لعظمته وشرفته وأكرمته فكيف وهذا أنس بن مالك خادم رسول

الله صلى الله عليه وسلم خدمه ثماني سنين يطلعه على سره ويشاوره في أمره ثم هو مع هذا

بقية من بقايا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فإذا قرأت كتابي هذا فكن أطوع له من خفه ونعله وإلا أتاك مني سهم مثكل بحتف قاض ‏{‏ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون‏}‏‏.‏

فأتاه فترضاه‏.‏ وما عرف لعبد الملك منقبة أكرم منها‏.‏

أخبرنا محمد بن ناصر قال‏:‏ أخبرنا محمد بن علي النرسي قال‏:‏ أخبرنا أبو عبد الله محمد بنعلي بن عبد الرحمن الحسني قال‏:‏ أخبرنا زيد بن جعفر بن حاجب قال‏:‏ أخبرنا صالح بن

وصيف الكناني قال‏:‏ حدثنا أبو المعمر محمد بن مسلم بن عثمان الأموي قال‏:‏ حدثني محمد بن

سهل بن عمير المازني قال‏:‏ حدثني أبي قال‏:‏عرض الحجاج بن يوسف خيلًا له فأرسل إلى أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له‏:‏ أين هذه من التي كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أنس‏:‏ تلك والله كما قال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم‏}‏ وهذه هيئت للرياء والسمعة فقال له الحجاج‏:‏ لولا كتاب أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان أتاني لفعلت وفعلت فقال له أنس‏:‏ تالله لم تقدر على ذلك علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أتحرز بهن من كل شيطان مريد ومن كل جبار عنيد قال‏:‏ فجثا الحجاج على ركبتيه ثم قال‏:‏ علمنيهن يا عم قال‏:‏ تالله لست لهن بأهل‏.‏قال‏:‏ فدس إليه وإلى ولده وإلى أهله فأبوا أن يعلموه‏.‏قال أبو المعمر‏:‏ قال محمد بن سهل‏:‏ قال أبي قال أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هي ‏:‏ ‏(‏بسم الله على نفسي وديني بسم الله على أهلي ومالي بسم الله على ما أعطاني ربي الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله ربي لا أشرك به شيئًا أجرني من كل شيطان رجيم ومن كل جبار عنيد إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا الله هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم‏)‏‏.‏

قال محمد بن سهل‏:‏ وحدثني أبي قال‏:‏ كنت في مجلس فيه الحسن بن أبي الحسن البصري جالسًا إذ مر به الحجاج بن يوسف على برذون له فنزل فشق الناس حتى قعد إلى جانب الحسن وجعل الحسن يحدث الناس ويهوي بيده إلى بغلة كأنه يريد القيام فلما رأى الحجاج ما يصنع قال‏:‏ يا أبا سعيد لعلك تفعل هذا من أجلي قال‏:‏ لا ولكن يمر بنا الضعيف وذو الحاجة فيشتغل بكلامنا عن حاجته فالتفت الحجاج إلى جلساء الحسن فقال‏:‏ نعم الشيخ شيخكم ونعم المؤدب مؤدبكم ولولا الرعية وهذه البلية لأحببت مشاهدة شيخكم‏.‏

ثم قام فركب فقام رجل من أهل الديوان فقال‏:‏ يا أبا سعيد أخرج عطائي وأمر ببعثي وأخذت بفرس وسلاح ولا والله ما فيه ثمن الفرس ولا نفقة عيالي‏.‏

قال‏:‏ فأرسل الحسن عينيه بالبكاء ثم قال‏:‏ ما لهم قاتلهم الله اتخذوا عباد الله خولًا ومال الله دولًا وكتاب الله دغلًا واستحلوا الخمر بالنبيذ والنجس بالزكاة يأخذون من غير حق الله وينفقون في سخط الله فستردون فتعلمون والحساب عند البيدر وإذا أقبل عدو الله ففي سرادقات محفوفة - ويقال‏:‏ زفافة - وإذا أقبل أخوه المسلم فطار وأجل منفعة قليلة وندامة طويلة‏.‏

قال‏:‏ فما لبث أن سعى بكلامه إلى الحجاج فأرسل إليه شرطيين فأخذا بضبعيه حتى أدخلاه

على الحجاج وتبعه ثابت البناني ومحمد بن سيرين ومعه الكفن والحنوط فلما أدخل عليه قال‏:‏يا ابن أم الحسن أنت القائل ما لهم قاتلهم الله اتخذوا عباد الله خولًا ومال الله دولًا وكتاب الله دغلًا واستحلوا الخمر بالنبيذ والنجس بالزكاة فذكر الكلام إلى آخره قال‏:‏ نعم قال‏:‏ وما الذي جرأك عليه قال‏:‏ ما أخذ الله على من كان قبلنا قال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنًا قليلًا‏}‏‏.‏

فكرهت أن أكون من أولئك القوم قال‏:‏ نعم الشيخ أنت ونعم المؤدب أنت وليس مثلك أخذ بكلمة استخرجها ولئن بلغني عنك ثانيًا لأفرقن بين رأسك وجسدك فقال له الحسن‏:‏ ليس ذاك إليك ثم قال‏:‏ يا جارية هات الغالية فجاءت جارية فقال‏:‏ أفرغيه على رأسه فكشفالحسن عن شعره فقال‏:‏ إنه لرأس ما أصابه الدهن منذ كذا وكذا‏.‏

فخرج إلى أصحابه فقال له ابن سيرين وثابت البناني‏:‏ ما قال لك الطاغية وما رددت عليه

قال‏:‏ قال لي كذا وقلت له كذا وإنكم ستطلبون‏.‏

فخرج ابن سيرين إلى بلاد الهند وخرج ثابت إلى كابل وأقام الحسن حتى صلى الجمعة خلف الحجاج فرقي الحجاج المنبر فأطال الخطبة حتى دخل في وقت العصر فقال الحسن‏:‏ أما من رجل يقول‏:‏ الصلاة جامعة فقال رجل من تلامذة الحسن‏:‏ يا أبا سعيد أتأمرنا أن نتكلم والإمام يخطب فقال‏:‏ إنما أمرنا أن ننصت لهم إذا أخذوا في أمر ديننا فإذا أخذوا في أمر دنياهم أخذنا في أمر ديننا قوموا الصلاة جامعة ثم التفت إلى جلسائه فقال‏:‏ بعث إليكم أخيفش أعيمش ملعون معذب قوموا الصلاة جامعة فقام الحسن وقام الناس لقيام الحسن فقطع الحجاج الخطبة ونزل فصلى بهم وطلب الحجاج الحسن فلم يقدر عليه‏.‏

وروى أبو بكر بن الأنباري عن أبيه عن العباس بن ميمون عن ابن عائشة عن أبيه قال‏:‏ كان

سجن الحجاج بواسط إنما هو حائط محوط ليس فيه مآل ولا ظل ولا بيت فإذا آوى المسجونون إلى الجدران يستظلون بها رمتهم الحرس بالحجارة وكان يطعمهم خبز الشعير مخلوطًا به الملح والرماد فكان لا يلبث الرجل فيه إلا يسيرًا حتى يسود فيصير كأنه زنجي فحبس فيهمرة غلام فجاءته أمه تتعرف خبره فصيح به لها فلما رأته أنكرته قالت‏:‏ ليس هذا ابني كان ابني أشقر أحمر وهذا زنجي فقال لها‏:‏ أنا والله يا أماه ابنك أنا فلان وأختي فلانة وأبي فلان فلما عرفته شهقت فماتت‏.‏

قال‏:‏ وقال الحجاج ليزيد بن أبي مسلم‏:‏ كم قد قتلنا في الظنة قال‏:‏ ثمانين ألفًا‏.‏

قال‏:‏ وخرج من سجنه يوم مات الحجاج ما منهم من حل من قيد ولا غير حالًا إلا في بلده الذي كان منه‏.‏

أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك ومحمد بن ناصر قالا‏:‏ أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار قال‏:‏أخبرنا يحيى بن الحسين بن منذر القاضي قال‏:‏ أخبرنا إسماعيل بن سعيد بن سويد قال‏:‏حدثنا أبو بكر بن الأنباري قال‏:‏ حدثني أبي قال‏:‏ حدثنا أحمد بن إبراهيم بن عثمان أبو العباس الوراق ومحمد بن أبي يعقوب الدينوري قالا‏:‏مرض الحجاج بن يوسف مرضًا أشرف منه على الموت فبلغه أن أهل الكوفة يرجعون بموته فلما برئ صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ يا أهل الكوفة يا أهل الشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق قد نفخ الشيطان في معاطسكم -أو قال‏:‏ مناخركم- زعمتم أن الحجاج قد مات فإن مات الحجاج فمه والله ما يسرني أني لا أموت وما أرجو الخير كله إلا بعد الموت وما رضى الله تعالى الخلود لأحد من خلقه إلا لأهونهم عليه إبليس ولقد العبد الصالح ربه فقال‏:‏ ‏{‏رب اغفر لي وهب لي ملكًا لا ينبغي لأحد من بعدي‏}‏ ثم اضمحل كأن لم يكن يا أيها الرجل وكلكم ذلك الرجل والله لكأني بي وبكم وقد صار كل حي منا ميتًا وكل رطب منا يابسًا ونقل كل امرئ منا في ثياب طهره إلى ثلاث أذرع في ذراعين فأكلت الأرض لحمه ومصت دمه وصديده ورجع الخبيثان يقيم أحدهما صاحبه خبيثة من ولده يقسم خبيثة من ماله ألا إن الذين يعلمون يعلمون ما أقول ثم نزل‏.‏

أخبرنا محمد بن ناصر قال‏:‏ أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال‏:‏ أخبرنا أبو الطيب الطبري قال‏:‏ حدثنا المعافى بن زكريا قال‏:‏ حدثنا الحسن بن أحمد الكلبي قال‏:‏ حدثنا محمد بن زكريا لما أراد الحجاج الخروج من البصرة إلى مكة خطب الناس وقال‏:‏ يا أهل البصرة إني أريد الخروج إلى مكة وقد استخلفت عليكم محمدًا ابني وأوصيته فيكم بخلاف ما أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأنصار فإنه أوصى في الأنصار أن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم ألا وأني قد أوصيته بكم ألا يقبل من محسنكم ولا يتجاوز عن مسيئكم ألا فإنكم قائلون‏:‏ لا أحسن الله له الصحابة وإني معجل لكم الجواب‏:‏ لا أحسن الله عليكم الخلافة‏.‏

تم الجزء السادس من كتاب المنتظم في تاريخ الملوك والأمم تأليف الشيخ الإمام العالم الحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن الجوزي عفى الله عنه وعن جميع المسلمين‏.‏

يتلوه في الجزء السابع ذكر وفاة الحجاج‏.‏