فصل: ثم دخلت سنة سبع وستين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم **


 ثم دخلت سنة سبع وستين

فمن الحوادث فيها‏:‏

 مقتل عبيدالله بن زياد

وذلك أن إبراهيم بن الأشتر خرج يقصد ابن زياد فالتقوا قريبًا من الموصل فاقتتلوا قتالًا شديدًا وقتل خلق كثير من الفريقين وقال ابن الأشتر‏:‏ قتلت رجلًا وجدت منه ريح المسك تحت راية مفردة على شاطئ نهر فالتمسوه فإذا هو عبد الله بن زياد ضربه فقده نصفين وقتل الحصين بن نمير وانهزم أصحاب ابن زياد وتبعهم أصحاب إبراهيم فكان من غرق أكثر ممن قتل وأصابوا عسكرهم وفيه من كل شيء وخرج المختار من الكوفة فنزل ساباط وجاءته البشرى بقتل ابن زياد وهزيمة أصحابه وانصرف المختار إلى الكوفة ومضى ابن الأشتر إلى الموصل وبعث عماله عليها‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏

 ولى عبد الله بن الزبير أخاه مصعب بن الزبير على البصرة

فدخلها فصعد المنبر فخطب فقال‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم ‏{‏طسم تلك آيات الكتاب المبين نتلوا عليك من نبأ موسى وفرعون‏}‏ إلى قوله ‏{‏إنه كان من المفسدين‏}‏ - وأشار بيده إلى الشام - ‏{‏ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين‏}‏ - وأشار بيده نحو الحجاز - ‏{‏ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون‏}‏ وأشار بيده نحو الشام‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏

 سار مصعب بن الزبير إلى المختار فقتله

وسبب ذلك أن شبث بن ربعي كان فيمن قاتل المختار فهزمهم المختار فلحقوا بمصعب بن الزبير بالبصرة فقدم شبث على مصعب وهو على بغلة قد قطع ذنبها وطرف أذنها وشق قباءه وهو ينادي‏:‏ يا غوثاه يا غوثاه‏.‏

فدخل عليه ومعه أشراف الناس من المنهزمين فأخبره بما أصيبوا به وسألوه النصر على المختار ثم قدم محمد بن الأشعث بن قيس أيضًا وكان المختار قد طلبه فلم يجده فهدم داره فكتب مصعب إلى المهلب وهو عامله في فارس‏:‏ أن أقبل إلينا تشهد أمرنا فإنا نريد المسير إلى الكوفة‏.‏

فأقبل المهلب بجموع كثيرة وأموال عظيمة فدخل على مصعب فأمر مصعب الناس بالمعسكر عند الجسر الأكبر ودعا عبد الله بن مخنف وقال له‏:‏ ائت الكوفة فاخرج إلي جميع من قدرت أن تخرجه وادعهم إلى بيعتي سرًا‏.‏

وخذل أصحاب المختار فمضى حتى جلس في بيته مستترًا لا يظهر وخرج مصعب ومعه المهلب والأحنف بن قيس‏.‏

وبلغ المختار الخبر فقام في أصحابه فقال‏:‏ يا أهل الكوفة يا أعوان الحق وشيعة الرسول إن فراركم الذين بغوا عليكم أتوا أشباههم من الفاسقين فاستغووهم انتدبوا مع أحمد بن شميط ودعا الرؤوس الذي كانوا مع ابن الأشتر فبعثهم مع أحمد بن شميط وإنما فارقوا ابن الأشتر لأنهم رأوه كالمتهاون بأمر المختار‏.‏

فخرج ابن شميط حتى ورد المدائن وجاء مصعب فعسكر قريبًا منه فقال‏:‏ يا هؤلاء إنا ندعوكم إلى كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإلى بيعة المختار وإلى أن يجعل هذا الأمر شورى في آل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فاقتتلوا فقتل ابن شميط وانهزم أصحابه‏.‏

وبلغ الخبر إلى المختار فقال‏:‏ ما من موتة أموتها أحب إلي من موتة ابن شميط وساروا فالتقوا وقد جعل مصعب على ميمنته المهلب بن أبي صفرة وعلى ميسرته عمر بن عبيد بن معمر التيمي وعلى الخيل عباد بن الحصين وعلى الرجالة مقاتل بن مسمع البكري ونزل وهو يمشي متنكبًا قوسًا وتزاحف الناس ودنا بعضهمإلى بعض فبعث المختار إلى عبد الله بن جعدة‏:‏ أن أحمل على من يليك فحمل فكشفهم حتى انتهوا إلى مصعب فجثى على ركبتيه ولم يكن فرارًا ورمى بأسهمه ونزل الناس عنده فقاتلوا ساعة ثم تحاجزوا وحمل المهلب فحطم أصحاب المختار حطمة منكرة فكشفهم وقتل محمد بن الأشعث وعامة أصحابه وتفرق أصحاب المختار وجاء هو حتى دخل قصر الكوفة فحصر هو وأصحابه فكانوا لا يقدرون على الطعام والشراب إلا بحيلة وكان يخرج هو وأصحابه فيقاتلون قتالًا ضعيفًا وكانت لا تخرج له خيل إلا رميت بالحجارة من فوق البيوت وصب عليهم الماء القذر وصار المختار وأصحابه يشربون من البئر فيصبون عليه العسل ليتغير طعمه‏.‏

ثم أمر مصعب أصحابه فاقتربوا من القصر ثم دخلوه فقال المختار لأصحابه‏:‏ ويحكم إن الحصار لا يزيدكم إلا ضعفًا فانزلوا بنا نقاتل لنقتل كرامًا والله ما أنا بآيس إن صدقتموهم أن ينصركم الله‏.‏

فتوقفوا عن قبول قوله فقال‏:‏ أما أنا فوالله لا أعطي بيدي‏.‏

ثم أرسل إلى امرأته أم ثابت بنت سمرة بن جندب فأرسلت إليه بطيب كثير فاغتسل وتحنط ووضع ذلك الطيب على رأسه ولحيته ثم خرج في تسعة عشر رجلًا فقال لهم‏:‏ أتؤمنونني وأخرج إليكم فقالوا‏:‏ لا إلا على الحكم فقال‏:‏ لا أحكمكم في نفسي أبدًا فضارب بسيفه حتى قتل ونزل أصحابه على الحكم فقتلوا وأمر مصعب بكف المختار فقطعت ثم سمرت بمسمار حديد إلى جنب حائط المسجد ولم يزل على ذلك حتى قدم الحجاج بن يوسف فنظر إليها فقال‏:‏ ما هذه فقالوا‏:‏ كف المختار فأمر بنزعها‏.‏

وبعث مصعب عماله على الجبال والسواد وكتب إلى ابن الأشتر يدعوه إلى طاعته ويقول له‏:‏ إن أنت أجبتني ودخلت في طاعتي فلك الشام وأعنة الخيل وما غلبت عليه من أرض المغرب ما دام لآل الزبير سلطان‏.‏

وكتب عبد الملك بن مروان من الشام إليه يدعوه إلى طاعته ويقول‏:‏ إن أجبتني ودخلت في طاعتي فلك العراق فدعا إبراهيم بن الأشتر أصحابه وقال‏:‏ ما تقولون - أو ماذا ترون فقال بعضهم تدخل في طاعة عبد الملك وقال بعضهم‏:‏ تدخل في طاعة ابن الزبير فقال ابن الأشتر‏:‏ لو لم أكن أصبت عبيد الله بن زياد ولا رؤساء أهل الشام تبعت عبد الملك‏.‏

وأقبل بالطاعة إلى ابن الزبير‏.‏

ولما قتل مصعب المختار ملك البصرة والكوفة غير أنه أقام بالكوفة ووجه المهلب على الموصل والجزيرة وأذربيجان وأرمينية وأن مصعبًا لقي عبد الله بن عمر فقال له ابن عمر‏:‏ أنت القاتل سبعة آلاف من أهل القبلة في غداة واحدة فقال مصعب‏:‏ إنهم كانوا كفرة سحرة فقال ابن عمر‏:‏ والله لو قتلت عدتهم غنمًا من تراث أبيك لكان ذلك سرفًا‏.‏

والتراث هو الميراث‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏

 عزل عبد الله بن الزبير أخاه مصعب بن الزبير عن البصرة

وبعث ابنه حمزة بن عبد الله إليها قال المدائني‏:‏ وفد مصعب إلى عبد الله بعد قتل المختار فعزله وحبسه عنده واعتذر إليه من عزله وقال‏:‏ والله إني لأعلم أنك أكفأ من حمزة ولكني رأيت فيه ما رأى عثمان في عبد الله بن عامر حين عزل أبا موسى وولاه‏.‏

فقدم حمزة البصرة وكان يجود تارة حتى لا يدع شيئًا يملكه ثم يبخل مما لا يمنع مثله فظهر منه ضعف وتخليط‏.‏

وكتب الأحنف بن قيس إلى ابن الزبير بذلك وسأله أن يعيد مصعبًا فعزله فأخذ مالًا كثيرًا وخرج إلى المدينة فأودعه رجالًا فذهبوا سوى يهودي كان أودعه فإنه وفى له‏.‏

وعلم ابن الزبير بذلك فقال‏:‏ أبعده الله أردت أن أباهي به بني مروان‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ حج بالناس عبد الله بن الزبير وكان القاضي على الكوفة عبد الله بن عتبة بن مسعود وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة وكان على خراسان عبد الله بن خازم السلمي وكان بالشام عبد الملك بن مروان‏.‏

 ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

عبيد الله بن زياد بن أبية

وقد ذكرنا قتله في الحوادث‏.‏

المختار بن أبي عبيد

واسم أبي عبيد مسعود بن عمرو بن عمير بن عوف‏:‏ وأمه دومة بنت عمرو بن وهب ويكنى المختار أبا إسحاق وهو أخو صفية زوجة عبد الله بن عمر بن الخطاب‏.‏

خرج طالبًا بدم الحسين رضي الله عنه وجرت له عجائب قد ذكرنا بعضها‏.‏

وكان يقول‏:‏ قام أخبرنا ابن الحصين قال‏:‏ قال‏:‏ أخبرنا ابن المذهب قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن جعفر قال‏:‏ حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال‏:‏ حدثني أبي قال‏:‏ حدثنا ابن نمير قال‏:‏ حدثنا عيسى بن عمر قال‏:‏ حدثنا السري عن رفاعة القتباني قال‏:‏ دخلت على المختار فألقى إلي وسادة وقال‏:‏ لولا أن أخي جبريل قام عن هذه لالقيتها لك‏.‏

قال‏:‏ فأردت أن أضرب عنقه فذكرت حديثًا حدثني به أخي عمرو بن الحمق قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أيما مؤمن أمن مؤمنًا على دمه فقتله فأنا من القاتل بريء‏)‏‏.‏

قتل المختار لأربع عشرة ليلة خلت من رمضان سنة سبع وستين وهو ابن سبع وستين سنة‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وستين

فمن الحوادث فيها‏:‏ أن عبد الله بن الزبير رد أخاه مصعب بن الزبير أميرًا على العراق بعد عزله إياه فبدأ بالبصرة فدخلها‏.‏

وبعث الحارث بن أبي ربيعة على الكوفة أميرًا‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏

 رجعت الأزارقة من فارس إلى العراق

حتى صاروا إلى قرب الكوفة ودخلوا المدائن وذلك أن الأزارقة كانت قد لحقت بفارس وكرمان ونواحي أصبهان بعدما أوقع بهم المهلب بالأهواز‏.‏

فلما وجه مصعب المهلب إلى الموصل ونواحيها عاملًا عليها وبعث عمر بن عبيد الله بن معمر على فارس انحطت الأزارقة على عمر فلقيهم بنيسابور فقاتلهم قتالًا شديدًا فقتل منهم قوم وانهزموا وتبعهم فقطعوا قنطرة طبرستان ثم ارتفعوا إلى نحو من أصبهان وكرمان فأقاموا بها حتى قووا واستعدوا وكثروا‏.‏

ثم إن القوم أقبلوا حتى مروا بفارس فشمر في طلبهم عمر مسرعًا حتى أتى أرجان فوجدهم قد خرجوا منها متوجهين إلى الأهواز وبلغ مصعبًا إقبالهم فخرج فعسكر بالناس بالجسر الأكبر وقال‏:‏ والله ما أدري ما الذي أغنى عني عمر وضعت معه جندًا بفارس أجري عليهم أرزاقهم وأمده بالرجال فقطعت الخوارج أرضه والله لو قاتلهم لكان عندي أعذر‏.‏

وجاءت للخوارج عيونهم بأن عمر في آثارهم وأن مصعبًا قد خرج من البصرة إليهم فذهبوا إلى المدائن فشنوا الغارة على أهلها يقتلون الولدان والنساء والرجال ويبقرون الحبالى‏.‏

وأقبلوا إلى ساباط فوضعوا أسيافهم في الناس ثم تبعهم الناس وقاتلوهم وقتل أميرهم فانحازوا إلى قطري فبايعوه فذهب بهم إلى ناحية كرمان فأقام بها حتى اجتمعت إليه جموع كثيرة وقوي ثم أقبل حتى أخذ في أرض أصبهان ثم خرج إلى الأهواز وكتب للحارث بن أبي ربيعة وهو عامل مصعب على البصرة يخبره أن الخوارج قد انحدرت إلى الأهواز وأنه ليس لهذا الأمر إلا المهلب فبعث إلى المهلب فأمره بقتال الخوارج والمصير إليهم وبعث إلى عامله إبراهيم بن الأشتر فجاء المهلب إلى البصرة وانتخب الناس وسار بمن أحب ثم توجه نحو الخوارج وأقبلوا إليه حتى التقوا بسولاف فاقتتلوا بها ثمانية أشهر أشد القتال‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ كان القحط الشديد بالشام ولم يقدروا لشدته على الغزو وشتى عبد الملك بأرض قنسرين ثم انصرف منها إلى دمشق‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ وافت عرفات أربعة ألوية ابن الحنفية في أصحابه في لواء أقام عند جبل المشاة وعبد الله بن الزبير في لواء فقام مقام الإمام اليوم ثم تقدم ابن الحنفية بأصحابه حتى وقفوا حذاء ابن الزبير ونجدة الحروري قام خلفهما في لواء بني أمية يسارهما‏.‏

فكان أول من أفاض لواء محمد ابن الحنفية ثم تبعه نجدة في لواء بني أمية ثم لواء ابن الزبير وتبعه الناس‏.‏

وقد روى سعيد بن جبير عن أبيه قال‏:‏ خفت الفتنة فجئت إلى محمد بن علي فقلت‏:‏ اتق الله فإنا في بلد حرام والناس وفد الله إلى هذا البيت فلا تفسد عليهم حجتهم‏.‏

فقال‏:‏ والله ما أريد ذلك ولا يؤتى أحد من الحاج من قبلي ولكني رجل أدفع عن نفسي فجئت إلى ابن الزبير فكلمته في ذلك فقال‏:‏ أنا رجل قد أجمع الناس علي فقلت‏:‏ أرى الكف خيرًا لك قال‏:‏ أفعل‏.‏

فجئت نجدة فكلمته في ذلك فقال‏:‏ أما أن أبتدئ أحدًا بقتال فلا ولكن من بدأ بقتالي قاتلته‏.‏

ثم جئت شيعة بني أمية فكلمتهم بنحو ذلك فقالوا‏:‏ نحن عزمنا على أن لا نقاتل أحدًا إلا أن يقاتلنا‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏

 حج ابن الزبير بالناس

وكان عامله على المدينة جابر بن الأسود بن عوف الزهري وعلى البصرة والكوفة مصعب وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة وعلى قضاء الكوفة عبد الله بن عتبة بن مسعود وعلى خراسان عبد الله بن خازم وبالشام عبد الملك بن مروان‏.‏

 ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

الحارث بن مالك

وقيل‏:‏ الحارث بن عوف وقيل عوف بن الحارث - أبو واقد الليثي‏:‏ أسلم قديمًا وكان يحمل لواء بني ليث وضمرة وسعد بن بكر يوم الفتح وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد الخروج إلى تبوك يستنفر بني ليث‏.‏

وخرج إلى مكة فجاور بها فمات في هذه السنة وهو ابن خمس وثمانين سنة ودفن بمكة في مقبرة المهاجرين التي بفج وإنما سميت المهاجرين لأنه دفن فيها من مات ممن كان هاجر إلى المدينة‏.‏

عبد الله بن عباس

ابن عبد المطلب بن هاشم يكنى أبا العباس‏:‏ وأمه لبابة بنت الحارث بن حرب الهلالية أخت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

ولد بمكة في شعب بني هاشم قبل الهجرة بثلاث سنين ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏ اللهم فقهه في الدين وعلمه الحكمة والتأويل ‏"‏‏.‏

وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يدينه ويحضره مع شيوخ الصحابة وأهل بدر ويقول له‏:‏ والله لأنك أصبح فتياننا وجهًا وأحسنهم عقلًا وأفقههم في كتاب الله عز وجل‏.‏

وكان يستشيره ويقول‏:‏ غص غواص‏.‏

وكان ابن مسعود يقول‏:‏ لو أن ابن عباس أدرك أسناننا ما عاشره منا أحد وقال‏:‏ نعم ترجمان القرآن ابن عباس‏.‏

وقال جابر بن عبد الله حين مات ابن عباس‏:‏ مات أعلم الناس وأحكم الناس‏.‏

وقال ابن الحنفية‏:‏ مات رباني هذه الأمة‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ كان ابن عباس يسمى البحر من كثرة علمه‏.‏

أخبرنا ابن ناصر قال‏:‏ أخبرنا محمد بن أحمد قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن عبد الله الحافظ قال‏:‏ حدثنا أبو حامد من جبلة قال‏:‏ حدثنا محمد بن إسحاق الثقفي قال‏:‏ حدثنا عبد الله بن عمر الجعفي قال‏:‏ حدثنا يونس بن بكير قال‏:‏ حدثناأبو حمزة الثمالي عن أبي صالح قال‏:‏ لقد رأيت من ابن عباس مجلسًا لو أن جميع قريش فخرت به لكان لها فخرًا رأيت الناس قد اجتمعوا حتى ضاق بهم الطريق فما كان أحد يقدر على أن يجيء ولا أن يذهب قال‏:‏ فدخلت عليه فأخبرته بمكانهم على بابه فقال لي‏:‏ ضع لي وضوءًا‏.‏

قال‏:‏ فتوضأ وجلس وقال‏:‏ اخرج وقل لهم‏:‏ من أراد أن يسأل عن القرآن وحروفه وما أراد منه فليدخل‏.‏

قال‏:‏ فخرجت فآذنتهم فدخلوا حتى ملأوا البيت والحجرة فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم به وزادهم مثل ما سألوا عنه أو أكثر‏.‏

ثم قال‏:‏ إخوانكم فخرجوا‏.‏

ثم قال‏:‏ اخرج فقل‏:‏ من أراد أن يسأل عن تفسير القرآن وتأويله فليدخل‏.‏

قال‏:‏ فخرجت فآذنتهم فدخلوا حتى ملأوا البيت والحجرة فما سألوا عن شيء إلا أخبرهم به وزادهم مثل ما سألوا عنه أو أكثر ثم قال‏:‏ إخوانكم‏.‏

قال‏:‏ فخرجوا‏.‏

ثم قال‏:‏ اخرج فقل‏:‏ من أراد أن يسأل عن الحلال والحرام والفقه فليدخل فخرجت فقلت لهم‏.‏

قال‏:‏ فدخلوا حتى ملأوا البيت والحجرة فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم به وزادهم مثل ما سألوه‏.‏

ثم قال‏:‏ إخوانكم قال‏:‏ فخرجوا‏.‏

ثم قال‏:‏ اخرج فقل‏:‏ من أراد أن يسأل عن الفرائض وما أشبهها فليدخل‏.‏

قال‏:‏ فخرجت فآذنتهم فدخلوا حتى ملأوا البيت والحجرة فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم به وزادهم مثل ما ثم قال‏:‏ اخرج فقل‏:‏ من أراد أن يسأل عن العربية والشعر وكلام العرب فليدخل‏.‏

قال‏:‏ فدخلوا حتى ملأوا البيت والحجرة فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم به وزادهم مثله‏.‏

قال أبو صالح‏:‏ فلو أن قريشًا كلها فخرت بذلك لكان فخرًا فما رأيت مثل هذا لأحد من الناس‏.‏

أخبرنا ابن ناصر قال‏:‏ أخبرنا عبد القادر بن محمد قال‏:‏ أخبرنا الحسن بن علي التميمي قال‏:‏ حدثنا أبو بكر بن مالك قال‏:‏ أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال‏:‏ حدثني أبي قال‏:‏ حدثنا إسماعيل يعني ابن علية قال‏:‏ أخبرنا صالح بن رستم عن عبد الله بن أبي مليكة قال‏:‏ صحبت ابن عباس من مكة إلى المدينة فكان إذا نزل قام شطر الليل يرتل ويكثر في ذلكم التسبيح‏.‏

قال أحمد‏:‏ وحدثنا معتمر عن شعيب عن أبي رجاء قال‏:‏ كان هذا الموضوع من ابن عباس - مجرى الدموع - كأنه الشرك البالي‏.‏

أخبرنا ابن الحصين قال‏:‏ أخبرنا الأمير أبو محمد المقتدري قال‏:‏ أخبرنا أبو العباس اليشكري قال‏:‏ أخبرنا ابن دريد قال‏:‏ أخبرنا الحسن بن خضر عن أبيه عمن حدثه عن سليمان بن عمر عن رشدين بن كريب عن أبيه أن ابن عباس كان يقول‏:‏ ثلاثة لا أكافئهم‏:‏ رجل ضاق مجلسي فأوسع لي ورجل كنت ظمآن فسقاني ورجل اغبرت قدماه في الاختلاف إلى بابي ورابع لا يقدر على مكافئته ولا يكافئه عني إلا الله عز وجل رجل حزبه أمر فبات ليلته ساهرًا فلما أصبح لم يجد لحاجته معتمدًا غيري‏.‏

قال‏:‏ وكان يقول‏:‏ إني لأستحي من الرجل يطأ بساطي ثلاث مرات ثم لا يرى عليه أثر من آثار بري‏.‏

توفي ابن عباس بالطائف سنة ثمان وستين ويقال‏:‏ خمس وستين ويقال‏:‏ أربع وستين‏.‏

والأول أصح‏.‏

وكان ابن إحدى وسبعين سنة‏.‏

أخبرنا محمد بن عبد الباقي الحاجب قال‏:‏ أخبرنا حمد بن أحمد قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن عبد الله قال‏:‏ حدثنا أبو الحسن علي بن محمد بن إبراهيم قال‏:‏ حدثنا محمد بن سليمان البصري قال‏:‏ حدثنا حفص بن عمر الرملي قال‏:‏ حدثنا الفرات بن السائب عن ميمون بن مهران قال‏:‏ شهدت جنازة عبد الله بن عباس بالطائف فلما وضع ليصلى عليه جاء طائر أبيض حتى دخل في أكفانه فالتمس فلم يوجد فلما سوي سمعنا صوتًا ولم نر الشخص‏:‏ ‏{‏يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي‏}‏‏.‏

عدي بن حاتم الطائي

وأمه النوار بنت برمكة بن عكل ويكنى أبا طريف

أخبرنا أبو بكر محمد بن أبي طاهر البزار قال‏:‏ أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي قال‏:‏ أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن معروف قال‏:‏ أخبرنا الحسين بن الفهم قال‏:‏ حدثنا محمد بن سعد قال‏:‏ أخبرنا محمد بن عمر قال‏:‏ حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة عن أبي عمير الطائي قال‏:‏ كان عدي بن حاتم يقول‏:‏ ما كان رجل من العرب أشد كراهية لرسول الله صلى الله عليه وسلم مني وكنت امرًا شريفًا قد سدت قومي فقلت‏:‏ إن اتبعته كنت دنيًا‏.‏

وكنت نصرانيًا فقلت لغلام لي‏:‏ أعد لي من إبلي أجمالًا ذللًا سمانًا أحبسها قريبًا مني فإذا سمعت بجيش محمد قد وطئ هذه البلاد فآذني فإني أرى خيله قد وطئت بلاد العرب كلها‏.‏

فلما كان ذات غداة جاءني غلامي فقال‏:‏ ما كنت صانعًا إذا غشيتك خيل محمد فاصنعه فإني قد رأيت رايات فسألت عنها فقيل‏:‏ هذه جيوش محمد‏.‏قلت‏:‏ قرب لي أجمالي فقربها فاحتملت بأهلي وولدي ثم قلت‏:‏ ألحق بأهل ديني من النصارى بالشام وخلفت ابنة حاتم بالحاضر‏.‏

وتخالفتني خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فشنوا الغارة على محلة آل حاتم فأصابوا نساءً وأطفالًا وشاء وابنة حاتم فقدم بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم هربي فجعلت ابنة حاتم في حظيرة بباب المسجد - كانت النساء يحبسن فيها - فمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقامت إليه وكانت امرأة جميلة جزلة فقالت‏:‏ يا رسول الله مات الولد وغاب الوافد فأمنن علي من الله عليك قال‏:‏ فإني فعلت فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة‏.‏

وفي رواية أخرى‏:‏ فقالت‏:‏ يا رسول الله هلك الوالد وغاب الوافد فامنن علي من الله عليك قال‏:‏ ومن وافدك قالت‏:‏ عدي بن حاتم قال‏:‏ الفار من الله ورسوله قالت‏:‏ ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركني حتى إذا كان بعد الغد مر بي فقلت مثل ذلك وقال مثل ذلك حتى إذا كان بعد الغد مر بي وقد يئست فلم أقل شيئًا فأشار إلي رجل خلفه أن قومي فكلميه فقمت فقلت‏:‏ يا رسول الله هلك الوالد وغاب الوالد فامنن علي من الله عليك قال‏:‏ فإني قد فعلت فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة حتى يبلغك إلى بلادك ثم آذنيني‏.‏

قالت‏:‏ فسألت عن الرجل الذي أشار إلي أن أكلمه فقيل هو علي بن أبي طالب فأقمت حتى قدم ركب من قضاعة‏.‏

قالت‏:‏ وإنما أريد أن آتي أخي بالشام فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ قد جاء من قومي من لي ثقة وبلاغ فكساني رسول الله صلى الله عليه قال عدي‏:‏ فوالله إني لقاعد في أهلي إذ نظرت إلى ظعينة تصوب إلي تؤمنا‏.‏

قلت‏:‏ ابنة حاتم فإذا هي هي فلما قدمت علي انسحلت تقول‏:‏ القاطع الظالم احتملت أهلك وولدك‏.‏

وتركت بقية والدك قلت‏:‏ يا أخية لا تقولي إلا خيرًا فقلت‏:‏ والله ما لي من عذر قد صنعت ما ذكرت ثم نزلت فأقامت عندي فقلت‏:‏ ما ترين في أمر هذا الرجل وكانت حازمة - وكانت امرأة حازمة - فقالت‏:‏ أرى والله أن تلحق به سريعًا فإن يكن الرجل نبيًا فالسبق إليه أفضل وإن يكن ملكًا فلن تذل في عز اليمن وأنت أنت وأبوك أبوك مع أني قد نبئت أن علية أصحابه قومك الأوس والخزرج‏.‏

فخرجت حتى أقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخلت وهو في مسجده فسلمت عليه فقال‏:‏ ‏"‏ من الرجل ‏"‏ فقلت‏:‏ عدي بن حاتم فانطلق بي إلى بيته فوالله إنه لعامد بي إلى بيته إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة فاستوقفته فوقف لها طويلًا تكلمه في حاجتها فقلت في نفسي‏:‏ والله ما هذا بملك إن للملك حالًا غير هذا‏.‏

ثم مضى حتى إذا دخل بيته تناول وسادة من أدم محشوة ليفًا فقدمها إلي فقال‏:‏ ‏"‏ اجلس على هذه ‏"‏ فقلت‏:‏ لا بل أنت‏.‏

فجلس عليها فرأى في عنقي وثنًا من ذهب فتلى هذه الآية‏:‏ ‏{‏اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله‏}‏ فقلت‏:‏ والله ما كانوا يعبدونهم فقال‏:‏ ‏"‏ أليس كانوا إذا أحلوا لهم شيئًا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئًا حرموه ‏"‏ قلت‏:‏ بلى قال‏:‏ ‏"‏ فتلك عبادتهم ‏"‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏إيه يا عدي ألم تكن تسير في قومك بالمرباع في مال فإن ذلك لم يكن يحل لك في دينك‏)‏ قلت‏:‏ أجل والله‏.‏فعرفت أنه نبي مرسل‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏لعلك يا عدي إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم فوالله ليوشكن هذا المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه ولعلك إنما يمنعك ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم فوالله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعير حتى تزور هذا البيت لا تخاف ولعلك إنما يمنعك من الدخول أن الملك والسلطان في غيرهم وأيم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم‏)‏‏.‏

قال عدي‏:‏ فأسلمت‏.‏

وكان عدي يقول‏:‏ قد مضت اثنتان وبقيت واحدة‏:‏ ليقض المال‏.‏

قال علماء السير‏:‏ لما قدم عدي على رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلم وحسن إسلامه ورجع إلى بلاد قومه فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب ثبت عدي وقومه على الإسلام وجاء بصدقاتهم إلى أبي بكر وحضر فتح المدائن وشهد مع علي الجمل وصفين والنهروان‏.‏

وكان جوادًا يفت للنمل الخبز ويقول‏:‏ إنهن جارات‏.‏

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال‏:‏ حدثنا محمد بن الحسين بن محمد المقري قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن عثمان بن يحيى الآدمي قال‏:‏ حدثنا علي بن محمد بن عبد الملك قال‏:‏ حدثنا سهل بن بكار قال‏:‏ حدثنا أبو عوانة عن مغيرة عن الشعبي عن عدي بن حاتم الطائي‏:‏ أنه أتى عمر بن الخطاب في أناس من طيء - أو قال من قومه - فجعل يفرض لرجال من طيء في ألفين ألفين فاستقبلته فأعرض عني فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين أما تعرفني قال‏:‏ نعم إني والله أعرفك أسلمت إذ كفروا وأقبلت إذا أدبروا ووفيت إذ غدروا وإن أول صدقة بيضت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه أصحابه صدقة طيء جئت بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

أنبأنا عبد الوهاب الحافظ قال‏:‏ أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار قال‏:‏ حدثنا الحسين بن علي الطناجيري قال‏:‏ حدثنا ابن شاهين قال‏:‏ حدثنا عبد الله بن ثابت قال‏:‏ حدثنا أبو سعيد الأشج قال‏:‏ حدثنا الهذيل بن عمير عن يحيى بن زكريا عن مجالد عن عامر قال‏:‏ أرسل الأشعث بن قيس إلى عدي بن حاتم يستعير منه قدور حاتم فأمر بها عدي فملئت وحملها الرجال إلى الأشعث فأرسل الأشعث‏:‏ إنما أردناها فارغة فأرسل إليه‏:‏ إنا لا نعيرها فارغة‏.‏

أخبرنا القزاز قالأخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال‏:‏ أخبرنا ابن بشران قال‏:‏ أخبرنا ابن مات عدي بن حاتم سنة ثمان وستين‏.‏

وقد قال هشام بن الكلبي‏:‏ مات سنة تسع وستين وهو ابن مائة وعشرين سنة‏.‏

واختلفوا أين مات على قولين‏:‏ أحدهما بالكوفة‏.‏

قاله ابن خياط‏.‏

والثاني بقرقيسيا‏.‏

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال‏:‏ أخبرنا علي بن أحمد الرزاز قال‏:‏ أخبرنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي قال‏:‏ أخبرنا محمد بن أحمد البزاز قال‏:‏ حدثنا علي بن المديني قال‏:‏ حدثنا جرير بن عبد الحميد عن المغيرة قال‏:‏ خرج عدي بن حاتم وجرير بن عبد الله وحنظلة الكاتب من الكوفة فنزلوا فرقيسيا وقالوا‏:‏ لا نقيم ببلد يشتم فيه عثمان‏.‏

قال ابن ثابت‏:‏ قال لي محمد بن علي الصوري‏:‏ أنا رأيت قبورهم بقرقيسيا‏.‏

عابس بن سعد القطيفي ـ قاضي مصر

ولي القضاء والشرطة لمسلمة بن مخلد روى عنه أبو قتيل المغافري‏.‏

وتوفي في هذه السنة‏:‏

قيس بن ذريح بن الحباب بن شبه بن حذافة

كان رضيع الحسين بن علي بن أبي طالب أرضعته أم قيس وكان منزل قومه في ظاهر المدينة وقيل‏:‏ كان منزله بسرف‏.‏

فمر قيس ببعض حاجته بخيام بني كعب من خزاعة والحي خلوف فوقف على خيمة للبنى بنت الحباب الكعبية فاستسقى الماء فخرجت إليه فسقته وكانت امرأة مديدة القامة شهلة حلوة المنظر والكلام فلما رآها وقعت في نفسه وشرب الماء فقالت له‏:‏ انزل فتبرد عندنا فنزل بهم وجاء أبوها فنحر له وأكرمه‏.‏

فانصرف قيس وفي نفسه من لبنى حر لا يطفأ فجعل يقول الشعر فيها حتى شاع وروي‏.‏

ثم أتاها يومًا آخر وقد اشتد وجده بها فسلم فظهرت له وردت سلامه ولحقت به فشكى إليها ما يجد من حبها فبكت وشكت إليه مثل ذلك وعرف كل واحد منهما ما له عند صاحبه فانصرف إلى أبيه وأعلمه حاله وسأله أن يزوجه إياها فأبى عليه وقال‏:‏ يا بني عليك بإحدى بنات عمك فهن أحق بك وكان ذريح المال موسرًا فأحب ألا يزوج ابنه إلى غريبة فانصرف قيس وقد ساءه ما خاطبه به أبوه فأتى أمه فشكى إليها واستعان بها على أبيه فلم يجد عندها ما يحب‏.‏

فأتى الحسين بن علي رضي الله عنهما وابن أبي عتيق وكان صديقه فشكى إليهما ما به وما رد عليه أبواه فقال له الحسين‏:‏ أنا أكفيك فمشى معه إلى أبي لبنى فلما بصر به أعظمه ووثب إليه وقال‏:‏ يا ابن رسول الله ما حاجتك قال‏:‏ إن الذي جئت فيه يوجب قصدك قد جئتك خاطبًا ابنتك لبنى لقيس بن ذريح فقال‏:‏ يا ابن رسول الله ما كنا لنعصي لك أمرًا وما بنا عن الفتى رغبة ولكن أحب الأمرين إلينا أن يخطبها ذريح أبوه عليه وأن يكون ذلك عن أمره فإنا نخاف إن لم يسمح أبوه في هذا أن يكون عارًا علينا فأتى الحسين ذريحًا وقومه مجتمعون فقاموا إليه أعظامًا وقالوا له مثل الخزاعيين فقال لذريح‏:‏ أقسمت عليك إلا ما خطبت لبنى على قيس فقال‏:‏ السمع والطاعة لأمرك فخرج معه في وجوه قومه حتى أتوا حي لبنى فخطبها ذريح على ابنه إلى أبيها فزوجه إياها وزفت إليه فأقام معها مدة وكان أبر الناس بأمه فألهته لبنى وعكوفه عليها عن بعض ذلك فوجدت أمه وأخذت في نفسها وقالت‏:‏ لقد شغلت هذه المرأة ابني عن بري‏.‏

ومرض قيس فقالت أمه لأبيه‏:‏ لقد خشيت أن يموت ولم يترك خلفًا وقد حرم الولد من هذه المرأة وأنت ذو مال فيصير مالك إلى الكلالة فزوجه غيرها لعل الله أن يرزقه ولدًا وألحت عليه في ذلك فلما اجتمع قومه دعاه فقال‏:‏ يا قيس إنك اعتللت فخفت عليك ولا ولد لي سواك وهذه المرأة ليست بولود فتزوج إحدى بنات عمك لعل الله أن يرزقك ولدًا تقر به عينك وأعيننا فقال قيس‏:‏ لست متزوجًا غيرها أبدًا قال أبوه‏:‏ فتسر بالإماء قال‏:‏ ولا أسوءها بشيء والله أبدًا قال أبوه‏:‏ فإني أقسم عليك إلا طلقتها فأبى وقال‏:‏ الموت عندي والله أسهل من ذلك ولكني أخيرك خصلة من ثلاث خصال‏:‏ قال‏:‏ وما هي قال‏:‏ تتزوج أنت فلعل الله يرزقك ولدًا غيري قال‏:‏ ما في فضلة لذلك قال‏:‏ فدعني أترحل عنك بأهلي واصنع ما كنت صانعًا لو مت في علتي هذه قال‏:‏ ولا هذه قال‏:‏ فأدع لبني عندك وارتحل عنك فلعلي أسلوها فإني ما أحب بعد أن تكون نفسي طيبة فإنها في خيالي قال‏:‏ لا أرضى أو تطلقها وحلف لا يكنه سقف أبدًا حتى يطلق لبنى‏.‏

وكان يخرج فيقف في حر الشمس فيجيء قيس فيقف إلى جانبه فيظله بردائه ويصطلي هو بحر الشمس ثم يدخل إلى لبنى فيعانقها ويبكي وتبكي هي معه وتقول له‏:‏ يا قيس‏:‏ لا تطع أباك فتهلك وتهلكني فيقول‏:‏ ما كنت لأطيع فيك أحدًا أبدًا‏.‏

فيقال‏:‏ إنه مكث كذلك سنة وقيل‏:‏ عشرين سنة وهجره أبواه لا يكلمانه فطلقها فلما طلقها استطير عقله ولحقه مثل الجنون وجعل يبكي فبلغها الخبر فأرسلت إلى أبيها ليحتملها فأقبل أبوها بهودج وإبل فقال قيس‏:‏ ما هذا فقالوا‏:‏ لبنى ترحل الليلة أو غدًا فسقط مغشيًا عليه ثم أفاق وجعل يقول‏:‏

وإني لمفن دمع عيني بالبكا ** حذار الذي قد كان أو هو كائن

وقالوا غدًا أو بعد ذاك بليلة ** فراق حبيب لم يبن وهو بائن

وما كنت أخشى أن تكون منيتي ** بكفيك إلا أن ما حان حائن

يقولون لبنى فتنة كنت قبلها ** بخير فلا تندم عليها وطلق

فطاوعت أعدائي وعاصيت ناصحي ** وأقررت عين الشامت المتخلق

وددت وبيت الله أني عصيتهم ** وحملت في رضوانها كل موثق

وكلفت خوض البحر والبحر زاخر ** أبيت على أثباج موج مغرق

كأني أرى الناس المحبين بعدها ** عصارة ماء الحنظل المتفلق

فتنكر عيني بعدها كل منظر ** ويكره سمعي بعدها كل منطق

وسقط غراب قريبًا منه فجعل ينعق مرارًا فتطير منه وقال‏:‏

لقد نعق الغراب ببين لبنى ** فطار القلب من حذر الغراب

وقال غدًا تباعد دار لبنى ** وتنأى بعد ود واقتراب

فقلت تعست ويحك من غراب ** وكان الدهر سعيك في تباب

فلما ركبت هودجها تبعها وقال‏:‏

ألا يا غراب البين هل أنت مخبري ** بخير كما خبرت بالنأي والشر

وقلت كذاك الدهر ما زال فاجعًا ** صدقت وهل شيء بباق على الدهر

وما أحببت أرضكم ولكن ** أقبل إثر من وطئ الترابا

لقد لاقيت من كلفي بلبنى ** بلاء ما أسيغ له شرابا

إذا نادى المنادي باسم لبنى ** عييت فما أطيق له جوابا

وقال له بعض الأطباء‏:‏ منذ كم وجدت بهذه المرأة ما وجدت فقال‏:‏

تعلق روحي روحها قبل خلقنا ** ومن بعدما كنا نطافًا وفي المهد

فزاد كما زدنا فأصبح ناميًا ** وليس إذا متنا بمنصرم العهد

ولكنه باق على كل حادث ** وزائرنا في ظلمة القبر واللحد

فقال له الطبيب‏:‏ إن مما يسليك عنها أن تذكر مساوئها وما تعافه النفس منها من أقذار بني أدم فقال‏:‏

إذا عبتها شبهتها البدر طالعًا ** وحسبك من عيب لها شبه البدر

لقد فضلت لبنى على الناس مثلما ** على ألف شهر فضلت ليلة القدر

إذا ما مشت شبرًا من الأرض أرجفت ** من البهر حتى ما تزيد على شبر

لها كفل يرتج منها إذا مشت ** وقد كغصن البان منضمر الخصر

فقال‏:‏

وفي عروة العذري إن مت أسوة ** وعمرو بن عجلان الذي قتلت هند

وبي مثل ما ماتا به غير أنني ** إلى أجل لم يأتني وقته بعد

وقال‏:‏

هل الحب إلا عبرة بعد زفرة ** وحر على الأحشاء ليس له برد

وفيض دموع تستهل إذا بدا لنا ** علم من أرضكم لم يكن يبدو

قال‏:‏ فلما طال على قيس ما به أشار قومه على أبيه أن يزوجه امرأة جميلة لعله يسلو بها فدعاه إلى ذلك فأبى فأعلمهم أبوه بما رد عليه فقالوا له‏:‏ مره بالمسير في أحياء العرب والنزول عليهم لعله يبصر امرأة تعجبه فأقسم عليه أن يفعل فسار حتى نزل بحي فرأى جارية كالبدر فقال‏:‏ ما اسمك يا جارية فقالت‏:‏ لبنى فسقط على وجهه فارتاعت وقالت‏:‏ إن لم يكن هذا قيس بن ذريح إنه لمجنون فلما أفاق سألته أن يصيب من طعامهم فأكل وارتحل فأتى أخوها فرأى مناخ الناقة فلحقه فرده فلم يزل به حتى زوجه من أخته فلما زفت إليه لم يلتفت إليها وبلغ حديثه لبنى فقالت‏:‏ إنه لغدار ولقد كنت أمتنع من التزويج فالآن أتزوج فزوجت فاشتد جزعه‏.‏

وإن أبا لبنى شخص إلى معاوية فشكى إليه وإنه يتعرض للبنى بعد الطلاق فكتب إليه بإهدار دمه فبعثت لبنى إليه تحذره فقال‏:‏ فإن يحجبوها أو يحل دون وصلها مقالة واش أو وعيد أمير فلن يمنعوا عيني من دائم البكا ولن يذهبوا ما قد أجن ضميري إلى الله أشكو ما ألاقي من الهوى ومن حرق تعتادني وزفير ومن حرق للحب في باطن الحشى وليل طويل الحزن غير قصير وكنا جميعًا قبل أن يظهر الهوى بأنعم حالي غبطة وسرور فما برح الواشون حتى بدت لهم بطون الهوى مقلوبة لظهور لقد كنت حسب النفس لو دام وصلنا ولكنما الدنيا متاع غرور ثم حج بعد ذلك وحجت فلقيها فوقف باهتًا وبعثت إليه بالسلام‏.‏

ثم انه اقتطع قطعة من أبله وأعلم أباه أنه يريد بها المدينة ليبيعها ويمتار لأهلها بثمنها فعرف أبوه أنه إنما يريد لبنى فعاتبه فلم يقبل وقدم المدينة فبينا هو يعرضها إذ ساومه زوج لبنى بناقة منها وهما لا يتعارفان فباعه إياها فقال‏:‏ إذا كان في غد فآتني في دار كثير بن الصلت فاقبض الثمن فأعدي له طعامًا‏.‏

ففعلت فلما كان من الغد جاء فصوت بالخادم وقال‏:‏ قولي لسيدك‏:‏ صاحب الناقة بالباب فعرفت لبنى نغمته فلم تقل شيئًا فقال زوجها للخادم‏:‏ قولي له يدخل فدخل فجلس فقالت لبنى للخادم‏:‏ قولي له‏:‏ مالك أشعث أغبر فقالت له فتنفس وقال‏:‏ هكذا تكون حال من فارق الأحبة وبكى‏.‏

فقالت لبنى‏:‏ قولي له‏:‏ حدثنا حديثك فلما ابتدأ يحدث كشفت الحجاب فبهت لا يتكلم ثم بكى ونهض يخرج فناداه زوجها‏:‏ ما قصتك ارجع فاقبض الثمن فلم يكلمه وخرج فقالت لبنى لزوجها‏:‏ هذا والله قيس‏.‏

وقال في طريقه فيها‏:‏

أتبكي على لبنى وأنت تركتها ** وكنت عليها بالملا أنت أقدر

فإن تكن الدنيا بلبنى تقلبت ** فللدهر والدنيا بطون وأظهر

لقد كان فيها للأمانة موضع ** وللكف مرتاد وللعين منظر

كأني لها أرجوحة بين أحبل ** إذا ذكرة منها على القلب تخطر

ثم عاد إلى منزله فمرض مرضًا أشفى منه فدخل عليه أبوه وأهله فعاتبوه فقال‏:‏ ويحكم أتروني أمرضت نفسي أو وجدت لها سلوة فاخترت البلاء أو لي في ذلك صنع هذا ما اختاره لي أبواي فقتلاني به فجعل أبوه يبكي ويدعو له بالفرج ودست إليه لبنى رجلًا فقالت له‏:‏ قل له‏:‏ لم تزوجت بعدها فجاء يسأله فحلف له أن عينه ما اكتحلت بالمرأة التي تزوجها وأنه لو رآها في نسوة ما عرفها وأنه ما مد إليها يدًا ولا كشف لها عن ثوب قال‏:‏ فحملني إليها ما شئت فقال‏:‏

ألا حي لبنى اليوم إن كنت غاديا ** وألمم بها من قبل أن لا تلاقيا

وقل إنني والراقصات إلى منى ** بأحبل جمع ينظرون المناديا

أصونك عن بعض الأمور مظنة ** وأخشى عليك الكاشحين الأعاديا

أقول إذا نفسي من الوجد أصعدت ** بها زفرة تعتادني هي ما هيا

وبين الحشى والنحر مني حرارة ** ولوعة وجد تترك القلب ساهيا

ألا ليت لبنى لم تكن خلة لنا ** ولم ترني لبنى ولم أدري ما هيا

خليلي مالي قد بليت ولا أرى ** لبينى على الهجران إلا كما هيا

جزعت عليها لو أرى لي مجزعًا ** وأفنيت دمع العين لو كان فانيا

تمر الليالي والشهور ولا أرى ** ولوعي بها يزداد إلا تماديا

واشتهر أمر قيس بالمدينة وغنى بشعره الغريض ومالك ومعبد وغيرهم ولم يبق شريف ولا وضيع إلا سمع بذلك وحزن له وجاء زوج لبنى فعاتبه فقال‏:‏ فضحني بذكرك فقالت‏:‏ والله ما وله زوجة يقال لها بريكة فدخل الدار قيس في جنونه فقال‏:‏ أين بريكة فلقيها فقال لها‏:‏ حاجتي نظرة إلى لبنى فقالت‏:‏ لك ذلك فنزل فأقام عندهم وأهدى لها هدايا كثيرة وقال لاطفيهم حتى يأنسوا بك ففعلت وزارتهم مرارًا وقالت لزوج لبنى‏:‏ أخبرني أنت خير من زوجي قال‏:‏ لا قاتل‏:‏ فلبنى خير مني قال‏:‏ لا قالت‏:‏ فما لي أزورها ولا تزورني قال‏:‏ ذاك إليها فأتتها وسألتها الزيارة وأعلمتها أن قيسًا عندها فأسرعت إليها فبكيا حتى كادا يتلفان ثم قالت له‏:‏ أنشدني ما قلت في علتك فقال‏:‏

أعالج من نفسي بقايا حشاشة ** على ظمأ والعادات تعود

فإن ذكرت لبنى هششت لذكرها ** كما هش للثدي الدرور الوليد

ورحل قيس إلى معاوية فدخل على ابنه يزيد فامتدحه وشكى ما به فقال‏:‏ إن شئت أن أحتم على زوجها أن يطلقها قال‏:‏ لا بل أحب أن أقيم حيث تقيم وأعرف أخبارها من غير أن يهدر دمي فأجابه وغير ما كان كتب في إهدار دمه‏.‏

وقد اختلفوا في آخر أمر قيس‏.‏

فروى قوم أن لبنى ماتت فخرج قيس في جماعة من قومه فوقف على قبرها فقال‏:‏ ماتت لبينى فموتها موتي هل تنفعن حسرتي على الفوت ثم أكب على القبر يبكي حتى أغمي عليه فرفعه أهله إلى منزله وهو لا يعقل فلم يزل عليلًا لا يفيق ولا يجيب مكلمًا ثلاثًا ثم مات فدفن إلى جنبها‏.‏

وروى محمد بن عبد الباقي بإسناده عن أيوب بن عباية قال‏:‏ خرج قيس بن ذريح إلى المدينة يبيع ناقة له فاشتراها زوج لبنى وهو لا يعرفه فقال له‏:‏ انطلق معي اعطك الثمن فمضى معه فلما فتح الباب إذا لبنى قد استقبلت قيسًا فلما رآها ولى هاربًا وخرج الرجل في أثره بالثمن ليدفعه إليه فقال له قيس‏:‏ لا تركب لي مطيتين أبدًا فقال‏:‏ وأنت قيس بن ذريح قال‏:‏ نعم فقال له‏:‏ هذه لبنى قد رأيتها قف حتى أخيرها فإن اختارتك طلقتها وظن القرشي أن في قلبها له موضعًا وأنها لا تفعل قال له قيس‏:‏ افعل‏.‏

فدخل القرشي عليها فاختارت قيسًا فطلقها وأقام قيس ينتظر انقضاء العدة ليتزوجها فماتت في العدة‏.‏

وروى آخرون أن ابن أبي عتيق جاء إلى الحسن والحسين رضي الله عنهما وابن جعفر وجماعة من قريش فقال‏:‏ إن لي حاجة إلى رجل وأخشى أن يردني وإني أستعين بجاهكم فمضى بهم إلى زوج لبنى فلما رآهم أعظم مصيرهم إليه فقالوا‏:‏ جئنا لحاجة لابن أبي عتيق فقال‏:‏ هي مقضية ما كانت قال ابن أبي عتيق‏:‏ فهب لي ولهم زوجتك لبنى وتطلقها قال‏:‏ فأشهدكم أنها طالق ثلاثًا فاستحيا القوم وقالوا‏:‏ والله ما عرفنا أن حاجته هذه وعوضه الحسن رضي الله عنه عن ذلك مائة ألف درهم وحملها ابن أبي عتيق إليه فلما انقضت العدة سأل القوم أباها فزوجها منه فلم تزل معه حتى ماتا‏.‏

وقال قيس يمدح ابن أبي عتيق‏:‏ جزى الرحمن أفضل ما يجازي على الإحسان خيرًا من صديق فقد جربت إخواني جميعًا فما ألفيت كابن أبي عتيق سعى في جمع شملي بعد صدع ورأي حدت فيه عن الطريق وأطفأ لوعة كانت بقلبي أغصتني حرارتها بريقي‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع وستين

فمن الحوادث فيها‏:‏

 خروج عبد الملك بن مروان إلى عين وردة

قال الواقدي‏:‏ واستخلف عمرو بن سعيد بن العاص على دمشق فتحصن بها فبلغ ذلك عبد الملك فرجع إلى دمشق فحاصره‏.‏

وقال غيره‏:‏ خرج معه إلى بعض الطريق ثم رجع إلى دمشق فتحصن بها‏.‏

قال عوانة بن الحكم‏:‏ خرج عبد الملك من دمشق يريد قرقيساء وفيها زفر بن الحارث الكلابي حتى إذا كان في بعض الطريق رجع عمرو بن سعيد عنه ليلًا ومعه حميد بن حريث بن بحدل الكلابي حتى أتى دمشق وعليها عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي قد استخلفه عبد الملك فلكا بلغه رجوع عمرو هرب وترك عمله فدخلها عمرو فغلب عليها وعلى خزائنها‏.‏

وقال آخرون‏:‏ كانت هذه القصة في سنة سبعين وذلك حين سار عبد الملك إلى مصعب نحو العراق فقال له عمرو بن سعيد‏:‏ إنك تخرج إلى العراق وقد كان أبوك وعدني هذا الأمر من بعده وعلى ذلك جاهدت معه فاجعل لي هذا الأمر من بعدك فلم يجبه فانصرف راجعًا إلى دمشق فرجع عبد الملك في أثره حتى انتهى إلى دمشق‏.‏

قالوا‏:‏ لما غلب عمرو على دمشق طلب عبد الرحمن بن أم الحكم فلم يصبه فأمر بداره فهدمت وصعد المنبر وقال‏:‏ لكم علي حسن المؤاساة والعطية‏.‏

ثم نزل ولما أصبح عبد الملك فقد عمرو فسأل عنه فأخبر خبره فرجع عبد الملك إلى دمشق فاقتتلوا ثم إن عبد الملك وعمرًا اصطلحا وكتبا بينهما كتابًا وأمنه عبد الملك وذلك عشية الخميس ثم انه بعث إليه فأتاه في مائة رجل من مواليه وأمر بحبس من معه وأذن له فدخل فرأى بني مروان عنده فأحس بالشر وأمر عبد الملك بالأبواب فغلقت فلما دخل عمرو رحب به عبد الملك وقال‏:‏ ها هنا يا أبا أمية وأجلسه معه على السرير وجعل يحدثه طويلًا ثم قال يا غلام خذ السيف عنه فقال عمرو‏:‏ إنا لله يا أمير المؤمنين فقال عبد الملك‏:‏ أو تطمع أن تجلس معي متقلدًا سيفك فأخذ السيف عنه ثم تحدثا ما شاء الله ثم قال‏:‏ يا أبا أمية قال‏:‏ لبيك قال‏:‏ إنك حيث خلعتني آليت إذا أنا ملأت عيني منك وأنا مالك لك أن أجمعك في جامعة فقال بنو مروان‏:‏ ثم تطلقه يا أمير المؤمنين قال‏:‏ ثم أطلقه وما عسيت أن أصنع بأبي أمية فقال بنو مروان‏:‏ أبر قسم أمير المؤمنين فقال عمرو‏:‏ وأبر قسمك يا أمير المؤمنين‏.‏

فأخرج من تحت فراشه جامعة فطرحها إليه ثم قال‏:‏ يا غلام قم فاجمعه فيها فقام الغلام فجمعه فيها فقال عمرو‏:‏ أذكرك الله يا أمير المؤمنين أن تخرجني فيها على رؤوس الناس فقال عبد الملك‏:‏ ما كنا لنخرجك في جامعة على رؤوس الناس ثم اجتبذه اجتباذة أصاب فمه السري فكسر ثنيته فقال عمرو‏:‏ أذكرك الله يا أمير المؤمنين أن يدعوك كسر عظم مني إلى أن تركب ما هو أعظم من ذلك فقال‏:‏ والله لو أعلم أنك تبقي علي إن أبقيت عليك أو تصلح قريش لأطلقتك ولكن ما اجتمع رجلان قط في بلدة على ما نحن عليه إلا أخرج أحدهما صاحبه‏.‏

فلما عرف عمرو ما يريد به قال‏:‏ أغدرًا يا ابن الزرقاء‏.‏

فأمر به عبد العزيز بن مروان أن يقتله فقال إليه بالسيف فقال له عمرو‏:‏ أذكرك الله والرحم أن تلي أنت قتلي وأن تولي ذلك من هو أبعد منك رحمًا فألقى السيف وجلس‏.‏

وصلى عبد الملك صلاة خفيفة ودخل وغلقت الأبواب ورأى الناس عبد الملك وليس معه عمرو فجاء إلى باب عبد الملك يحيى بن سعيد ومعه ألف عبد لعمرو فجعلوا يصيحون‏:‏ أسمعنا صوتك يا أبا أمية وكسروا باب القصر وضربوا الناس بالسيوف وضرب عبد من عبيد عمرو يقال له مصقلة الوليد بن عبد الملك ضربة على رأسه واحتمله إبراهيم بن عربي صاحب الديوان فأدخله بيت القراطيس ودخل عبد الملك فوجد عمرًا حيًا فقال لعبد العزيز‏:‏ أخزى الله أمك وكانت أم عبد العزيز ليلى وأم عبد الملك عائشة بنت معاوية بن المغيرة‏.‏

ثم إن عبد الملك قال‏:‏ يا غلام ائتني بالحربة فأتاه بها فهزها ثم طعنه فلم تجز فيه فضرب بيده إلى عضد عمرو فوجد مس الدرع فضحك ثم قال‏:‏ ودارع أيضًا يا غلام ائتني بالصمامة فأتاه بسيفه ثم أمر بعمرو فصرع وجلس على صدره فذبحه‏.‏

وانتفض عبد الملك رعدة وزعموا أن الرجل إذا قتل ذا قرابة له أرعد‏.‏

فحمل عبد الملك عن صدره فوضع على سريره ودخل يحيى بن سعيد ومن معه على بني مروان الدار فجرحوهم ومن معهم من مواليهم فقاتلوا يحيى وأصحابه وجاء عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي فدفع إليه الرأس‏.‏ فألقاه إلى الناس‏.‏

وقد قيل أن عبد الملك بن مروان لما خرج إلى الصلاة أمر غلامه أبا الزعيزعة بقتل عمرو فقتله وألقى رأسه إلى أصحابه‏.‏

وأمر عبد الملك بسريره فأبرز إلى المسجد وخرج فجلس عليه وفقد الوليد فجعل يقول‏:‏ ويحكم أين الوليد وأبيهم إن كانوا قتلوه فلقد أدركوا بثأرهم فأتاه إبراهيم بن عربي فقال‏:‏ هذا الوليد عندي قد أصابته جراحة وليس عليه بأس‏.‏

فأتى عبد الملك بيحيى بن سعيد فأمر به أم يقتل فقام إليه عبد العزيز فقال‏:‏ أذكرك الله يا أمير المؤمنين في استئصال بني أمية وإهلاكها‏.‏

وأمر بعنبسة فحبس ثم أتي بعامر بن الأسود الكلبي فضرب عبد الملك رأسه بقضيب خيزران كان معه ثم قال‏:‏ أتقاتلني مع عمرو وتكون معه علي قال‏:‏ نعم لأن عمرًا أكرمني وأهنتني وقربني وأبعدتني وأحسن إلي وأسأت إلي فكنت معه عليك‏.‏

فأمر به عبد الملك أن يقتل فقام إليه عبد العزيز فقال‏:‏ أذكرك الله يا أمير المؤمنين في خالي فوهبه له وأمر ببني سعيد فحبسوا ومكث يحيى في الحبس شهرًا أو أكثر‏.‏

ثم إن عبد الملك صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم استشار الناس في قتله فقام بعض خطباء الناس فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين هل تلد الحية إلا حية نرى والله أن تقتله فإنه منافق عدو‏.‏

ثم قام عبد الله بن سعد الفزازي فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن يحيى ابن عمك وقرابته ما قد علمت وقد صنعوا ما صنعوا وصنعت بهم ما قد صنعت وما أرى لك قتلهم ولكن سيرهم إلى عدوك فإن هم قتلوا كنت قد كفيت أمرهم وإن هم رجعوا رأيت فيهم رأيك‏.‏

فأخذ رأيه فأخرج آل سعيد فألحقهم بمصعب بن الزبير‏.‏

ثم إن عبد الملك بعث إلى امرأة عمرو الكلبية‏:‏ ابعثي إلي بالصلح الذي كنت كتبته لعمرو فقالت لرسوله‏:‏ ارجع إليه فقل له أني قد لففت ذلك الصلح معه في أكفانه ليخاصمك به عند ربك‏.‏

ثم جمع أولاده فرق لهم وأحسن جائزتهم‏.‏

وكان الواقدي يقول‏:‏ إنما تحصن في دمشق في سنة تسع وستين أما قتله إياه فكان في سنة سبعين‏.‏

وقال يحيى بن أكثم يرثيه‏:‏

أعيني جودا بالدمع على عمرو ** عشية تبتز الخلافة بالغدر

كأن بني مروان إذ يقتلونه بغاث ** من الطير اجتمعن على صقر

لحى الله دنيا تدخل النار أهلها ** وتهتك ما دون المحارم من ستر

وفي هذه السنة‏:‏

 أقام الحج للناس ابن الزبير

وكان عامله فيها على المصرين‏:‏ الكوفة والبصرة أخوه المصعب وكان على قضاء الكوفة شريح وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة وعلى خراسان عبد الله‏.‏

 ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

الأحنف بن قيس

ابن معاوية بن حصين السعدي التميمي واسمه الضحاك وقيل‏:‏ صخر ويكنى أبا بحر‏:‏ ولدته أمه وهو أحنف فكانت ترقصه وتقول‏:‏

والله لولا حنفة برجله ودقة في ساقه ** من هزله ما كان قي فتيانكم من مثله

أدرك زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه من يعرض عليهم الإسلام فقال الأحنف‏:‏ إنه ليدعو إلى خير وما أسمع إلا حسنًا فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏ اللهم اغفر للأحنف ‏"‏‏.‏

وكان الأحنف يقول‏:‏ ما من شيء أرجى عندي من ذلك‏.‏

وقد روى عن عمر وعلي وأبي ذر‏.‏

وهو الذي افتتح مرو الروذ وكان الحسن وابن سيرين في جيشه وكان عالمًا سيدًا وكان يحضر عند معاوية فيطيل السكوت فقال‏:‏ يا أبا بحر تكلم وكان يتهجد بالليل كثيرًا وكان يضع المصباح قريبًا منه ثم يقدم إصبعه إلى النار ثم يقول‏:‏ يا أحنف ما حملك على ما فعلت في يوم كذا‏.‏

وكان يصوم فيقال له‏:‏ إنك شيخ كبير والصيام يضعفك فيقول‏:‏ إني لأعده لشر طويل‏.‏

أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ قال‏:‏ أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال‏:‏ أخبرنا أبو محمد الجوهري قال‏:‏ أخبرنا أبو عمر بن حيوية قال‏:‏ أخبرنا أبو بكر بن الأنباري قال‏:‏ حدثني أبي قال‏:‏ حدثنا علي بن عبيد الله الطوسي قال‏:‏ قال معاوية بن هشام بن عبد الملك لخالد بن صفوان‏:‏ لم بلغ فيكم للأحنف بن قيس ما بلغ قال‏:‏ إن شئت حدثتك ألفًا إن شئت حذفت لك الحديث حذفًا قال‏:‏ احذفه حذفًا قال‏:‏ إن شئت ثلاثًا وإن شئت فاثنتين وإن شئت فواحدة قال‏:‏ ما الثلاث قال‏:‏ أما الثلاث فإنه لا يشره ولا يحسد ولا يمنع حقًا‏.‏

قال‏:‏ فما الثنتان قال‏:‏ كان موفقًا للخير معصومًا عن الشر‏.‏

قال‏:‏ فما الواحدة قال‏:‏ كان أشد الناس على نفسه سلطانًا‏.‏

أخبرنا ابن ناصر الحافظ قال‏:‏ أنبأنا الحسن بن أحمد البنا قال‏:‏ أخبرنا عبيد الله بن أحمد قال‏:‏ أخبرنا عبد الله بن عثمان قال‏:‏ أخبرنا ابن المنادي أن إبراهيم بن مهدي الأيلي حدثهم قال‏:‏ حدثني أحمد بن داود بن زياد الضبي قال‏:‏ حدثنا كعب بن مالك الكوفي قال‏:‏ حدثنا عبد الحميد بن عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي عن أبيه عن الشعبي قال‏:‏ قال لي الأحنف بن قيس‏:‏ يا شعبي قلت‏:‏ لبيك قال‏:‏ ثمانية إن أهينوا فلا يلوموا إلا أنفسهم قلت‏:‏ من هم قال‏:‏ الآتي إلى مائدة لم يدع إليها والداخل بين اثنين في حديثهما ولم يدخلاه والمتآمر على رب البيت في بيته والمندلق بالدالة على السلطان والجالس في المجلس الذي ليس له بأهل والمقبل بحديثه إلى من لا يسمع منه والطامع في فضل البخيل والمنزل حاجته بعدوه‏.‏

قال‏:‏ يا شعبي ألا أدلك على الداء الدوي قلت‏:‏ بلى قال‏:‏ الخلق الرديء واللسان البذيء‏.‏

قال‏:‏ قلت له‏:‏ دلني على مروءة ليس فيها مرزية فقال‏:‏ بخ بخ يا شعبي سألت عظيمًا الخلق الشحيح والكف عن القبيح‏.‏

وكان الأحنف يقول‏:‏ إن من السؤدد الصبر على الذل وكفى بالحلم ناصرًا‏.‏

وقال‏:‏ ما نازعني أحد إلا أخذت من أمري بإحدى ثلاث‏:‏ إن كان فوقي عرفت له قدره وإن كان دوني رفعت نفسي عنه وإن كان مثلي تفضلت عليه‏.‏

وقال زياد بن الأحنف‏:‏ قد بلغ من الشرف والسؤدد ما لا تنفعه معه الولاية ولا يضره العزل‏.‏

أخبرنا ابن الناصر قال‏:‏ أخبرنا عبد القادر بن محمد قال‏:‏ أخبرنا الحسن بن علي التميمي قال‏:‏ أخبرنا أبو بكر بن مالك قال‏:‏ حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال‏:‏ حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال‏:‏ حدثنا جرير عن مغيرة قال‏:‏ اشتكى ابن أخي الأحنف إلى الأحنف بن قيس وجع ضرسه فقال له الأحنف‏:‏ لقد ذهبت عيني منذ أربعين سنة ما ذكرتها لأحد‏.‏

أخبرنا عبد الخالق بن أحمد قال‏:‏ أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال‏:‏ أخبرنا محمد بن علي بن الفتح قال‏:‏ أخبرنا محمد بن عبد الله الدقاق قال‏:‏ أخبرنا الحسين بن صفوان قال‏:‏ أخبرنا أبو بكر القرشي قال‏:‏ حدثني محمد بن الحسين قال‏:‏ قال‏:‏ حدثنا قبيصة قال‏:‏ قيل للأحنف بن قيس‏:‏ ألا تأتي الأمراء قال‏:‏ فأخرج جرة مكسورة فكبها فإذا كسر فقال‏:‏ من يجزيه مثل هذا ما يصنع بإتيانهم‏.‏

قال محمد بن سعد‏:‏ كان الأحنف صديقًا لمصعب بن الزبير فوفد عليه الكوفة ومصعب واليها فتوفي عنده فرؤي مصعب في جنازته يمشي بغير رداء‏.‏

ظالم بن عمر بن سفيان أبو الأسود الدؤلي

قال يوسف بن حبيب‏:‏ الدول من بني حنيفة ساكن الواو والديل عبد القيس ساكنة الياء وقد روى أبو الأسود عن عمر وعلي والزبير وأبي ذر وعمران بن حصين‏.‏

واستخلفه عبد الله بن عباس لما خرج من البصرة فأقره علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكان يحب عليًا رضي الله عنه الحب الشديد وهو القائل‏:‏ يقولون الأرذلون بنو قشير طوال الدهر لا تنسى عليا أحب محمدا حبًا شديداَ وعباسًا وحمزة الوصيا فإن يك حبهم رشدًا أصبه ولست بمخطئ إن كان غيا وهو أول من وضع النحو‏.‏

قال محمد بن سلام‏:‏ أول من أسس العربية ووضع قياسها فوضع باب الفاعل والمفعول به والمضاف وحروف الرفع والنصب والجر والجزم وأخذ ذلك عنه يحيى بن يعمر‏.‏

وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى‏:‏ أخذ أبو الأسود عن علي بن أبي طالب العربية فكان لا يخرج شيئًا مما أخذه عن علي إلى آخر حتى بعث إليه زياد‏:‏ اعمل شيئًا يكون إمامًا نعرف به كتاب الله فلم يفعل حتى سمع قارئًا يقرأ‏:‏ ‏{‏أن الله بريء من المشركين ورسوله‏}‏ فقال‏:‏ ما ظننت إن أمر الناس قد صار إلى هذا‏.‏ وقال لزياد‏:‏ أبغي كاتبًا لقنًا يفعل ما أقول فأتي بكاتب من عبد القيس فلم يرضه فأتي بآخر فقال له أبو الأسود‏:‏ إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف فانقطه فوقه على أعلاه وإذا ضممت فمي بالحرف فانقطه نقطة بين يدي الحرف وإن كسرت فاجعل النقطة تحت الحرف فإذا اتبعت شيئًا من ذلك عنة فاجعل مكان النقطة نقطتين فهذه نقط أبي الأسود‏.‏

وروى أبو العباس المبرد قال‏:‏ حدثني المازني قال‏:‏ السبب الذي وضعت له أبواب النحو وعليه أصلت أصوله أن ابنة أبي الأسود قالت له‏:‏ ما أشد الحر قال‏:‏ الحصباء بالرمضاء قالت‏:‏ إنما تعجبت من شدته فقال‏:‏ أو قد لحن الناس‏.‏

فأخبر بذلك عليًا رضي الله عنه فأعطاه أصولًا بنى منها وعمل بعده عليها‏.‏

وهو أول من نقط المصاحف وأخذ النحو عن أبي الأسود عنبسة الفيل ثم أخذه عن عنبسة ميمون الأقرن ثم أخذه عن ميمون عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي ثم أخذه عنه عيسى بن عمر وأخذه عن عيسى الخليل بن أحمد الفراهيدي ثم أخذه عن الخليل سيبويه ثم أخذه عن سيبويه الأخفش وهو سعيد بن مسعدة المجاشعي‏.‏

وروى أبو حامد السجستاني قال‏:‏ حدثني يعقوب بن إسحاق الحضرمي قال‏:‏ حدثنا سعيد بن سالم الباهلي قال‏:‏ حدثنا أبي عن جدي عن أبي الأسود الدؤلي قال‏:‏ دخلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فرأيته مطرقًا متفكرًا فقلت‏:‏ فيم تفكر يا أمير المؤمنين قال‏:‏ إني سمعت ببلدكم لحنًا فأردت أن أضع في أصول العربية فقلت‏:‏ إن فعلت هذا أحييتنا فأتيته بعد أيام فألقى إلي صحيفة فيها‏:‏ الكلام كله‏:‏ اسم وفعل وحرف فالاسم ما أنبأ عن المسمى والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل‏.‏

ثم قال لي‏:‏ تتبعه وزد فيه ما وقع لك فجمعت منه أشياء وعرضتها عليه‏.‏

أخبرنا موهوب بن أحمد ومحمد بن ناصر والمبارك بن علي قالوا‏:‏ أخبرنا علي بن محمد العلاف قال‏:‏ أخبرنا علي بن أحمد بن عمر الحمامي قال‏:‏ أخبرنا أبو طاهر عبد الواحد بن عمر بن أبي هاشم قال‏:‏ حدثنا محمد بن علي بن إسماعيل الثوري قال‏:‏ حدثنا عمر بن شبة قال‏:‏ حدثنا عبد الله بن محمد يعني الثوري قال‏:‏ سمعت أبا عبيدة يقول‏:‏ أول من وضع النحو أبو الأسود الدؤلي ثم ميمون الأقرن ثم عنبسة الفيل ثم عبد الله بن أبي إسحاق‏.‏

قال‏:‏ ووضع عيسى بن عمر في النحو كتابين سمى أحدهما الجامع والآخر المكمل‏.‏

فقال الشاعر‏:‏ بطل النحو جميعًا كله غير ما أحدث عيسى بن عمر ذاك إكمال وهذا جامع فهما للناس شمس وقمر

قال عمر بن شبة‏:‏ وحدثنا حيان بن بشر قال‏:‏ حدثنا يحيى بن آدم عن أبي بكر بن عاصم أول من وضع العربية أبو الأسود الدؤلي فجاء إلى زياد بالبصرة فقال‏:‏ إني أرى العرب قد خالطت الأعاجم فتغيرت ألسنتهم أفتأذن لي أن أضع للعرب كلامًا يعرفون به ويقيمون به كلامهم قال‏:‏ لا قال‏:‏ فجاء رجل إلى زياد فقال أصلح الله الأمير توفي أبانا وترك بنون فقال‏:‏ ادع لي أبا الأسود فقال‏:‏ ضع للناس الذي نهيتك أن تضع لهم‏.‏

قال الجاحظ‏:‏ أبو الأسود معدود في طبقات الناس وهو في كلها مقدم كان معدودًا في التابعين والفقهاء والشعراء والمحدثين والأشراف والفرسان والأمراء والدهاة والنحويين والحاضري الجواب والنجلاء والشيعة والصلع الأشراف‏.‏

توفي أبو الأسود في هذه السنة وهو ابن خمس وثمانين سنة‏.‏

عامر بن عبد الله

وهو الذي يقال له عامر بن عبد قيس‏:‏ أدرك الصدر الأول وروى عن عمر وكان ملازمًا للتعبد غاية في التزهد وكان كعب الأحبار يقول‏:‏ هذا راهب هذه الأمة‏.‏

أخبرنا ابن ناصر وعلي بن عمر قالا‏:‏ أخبرنا فاروق الله وطراد قالا‏:‏ أخبرنا علي بن محمد بن بشران قال‏:‏ أخبرنا ابن صفوان قال‏:‏ حدثنا أبو بكر القرشي قال‏:‏ حدثني سلمة بن شبيب بن سهل بن عاصم عن عبد الله بن غالب عن عامر بن يسياف قال‏:‏ سمعت المعلى بن زياد كان عامر بن عبد الله قد فرض على نفسه كل يوم ألف ركعة وكان إذا صلى العصر جلس وقد انتفخت ساقاه من طول القيام فيقول‏:‏ يا نفس بهذا أمرت ولهذا خلقت يوشك أن يذهب العناء‏.‏

وكان يقول لنفسه‏:‏ قومي يا مأوى كل سوءة فوعزة ربك لأزحفن بك زحوف البعير وإن استطعت ألا تمس الأرض من زهمك لأفعلن ثم يتلوى كما يتلوى الحب على المقلاة ثم يقوم فينادي‏:‏ اللهم إن النار قد منعتني من النوم فاغفر لي‏.‏

عمرو بن سعيد بن العاص

قتله عبد الملك بن مروان بيده وقد ذكرنا قصته في الحوادث‏.‏

فضالة بن عبيد بن نافذ

أبو محمد الأنصاري‏:‏ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسكن الشام وكان قاضيًا لمعاوية وتوفي في هذه السنة‏.‏

يزيد بن ربيعة بن مفرغ أبو عثمان الحميري‏:‏ سمي جده مفرغًا لأنه راهن على سقاء لبن أن يشربه كله فشربه حتى فرغه فسمي مفرغًا‏.‏

وكان يزيد شاعرًا محسنًا غزلًا والسيد من ولده‏.‏

وأقمتم سوق الثناء ولم تكن سوق الثناء تقام في الأسواق فكأنهما جعل الإله إليكم قبض النفوس وقسمة الأرزاق وكان يزيد يهوى أناهيد بنت الأعنق وكان الأعنق دهقان من دهاقين الأهواز فنزل مرة بالموصل فزوجوه امرأة فلما كان اليوم الذي يكون البناء في ليلته خرج يتصيد ومعه غلامه برد فإذا هو بدهقان على حمار فقال له‏:‏ من أين أقبلت قال‏:‏ من الأهواز قال‏:‏ ما فعلت دهقانة يقال لها أناهيد بنت أعنق فقال‏:‏ صديقة ابن مفرغ قال‏:‏ نعم قال‏:‏ ما تجف جفونها من البكاء عليه فقال لغلامه برد‏:‏ أتسمع قال‏:‏ نعم قال‏:‏ هو بالرحمن كافر إن لم يكن وجهي هذا إليها فقال لها برد‏:‏ أكرمك القوم وزوجوك كريمتهم ثم تصنع هذا بهم وتقدم على ابن زياد بعد خلاصك منه فقال‏:‏ دع ذا عنك هو بالرحمن كافر إن رجع عن الأهواز ومضى على وجهه إلى البصرة ثم جعل يختلف إلى الأهواز فيزور أناهيد وقدم على عبيد الله بن أبي بكرة فأمر له بمائة ألف درهم ومائة وصيف ومائة نجيبة وكان يزيد قد لزمه غرماؤه بدين عليه فقال لهم‏:‏ انطلقوا فجلس على باب الأمير فخرج من عند الأمير أبو عمر بن عبيد الله بن معمر وأبو طلحة الطلحات فلما رآه قال‏:‏ أبا عثمان ما أقعدك ها هنا قال‏:‏ غرمائي هؤلاء قد لزموني بدين قال‏:‏ وكم هو قال‏:‏ سبعون ألفًا قال‏:‏ علي منها عشرة آلاف ثم خرج الآخر فسأله فقال‏:‏ علي عشرة آلاف فجعل الناس يخرجون فيضمن كل واحد منهم شيئًا إلى أن خرج عبد الله بن أبي بكرة فسأله فأخبره فقال‏:‏ وكم ضمن عنك قال‏:‏ أربعون ألفًا قال‏:‏ استمتع بها وعلي دينك أجمع‏.‏

وكان عم يزيد يعنفه في حب أناهيد ويعزله ويعيره فقال له‏:‏ يا عم إن لي بالأهواز حاجة لي على قوم بها ثلاثون ألف درهم فإن رأيت أن تتجشم العناء معي وتطالب بحقي فأجابه فاستأجر سفينة وتوجه إلى الأهواز فكتب إلى أناهيد‏:‏ تهيأي وتزيني واخرجي إلي مع جواريك فإني موافيك فلما نزلوا منزلها خرجت إليهم في هيئتها فلما رآها عمه قال له‏:‏ قبحك الله هلا علقت مثل هذه قال‏:‏ يا عم أو قد أعجبتك قال‏:‏ ومن لا تعجبه هذه قال‏:‏ أبجد منك تقول هذا قال‏:‏ نعم والله قال‏:‏ فإنها والله هذه بعينها‏.‏

فقال‏:‏ إنما أشخصتني لأجلها‏.‏

قال‏:‏ نعم ثم انصرف وأقام هو معها إلى أن مات في زمن الطاعون أيام مصعب بن الزبير‏.‏

 ثم دخلت سنة سبعين

فمن الحوادث فيها أن الروم ثارت على من بالشام من المسلمين‏.‏

فصالح عبد الملك ملك الروم على أن يؤدي إليه في كل جمعة ألف دينار خوفًا منه على المسلمين‏.‏

وفيها‏:‏ شخص مصعب بن الزبير إلى مكة فقدمها بأموال عظيمة فقسمها في قومه وغيرهم وقدم بدواب كثيرة وظهر وأثقال فأرسل إلى عبد الله بن صفوان وجبير بن شيبة وعبد الله بن مطيع مالًا كثيرًا ونحر بدنًا كثيرة‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس عبد الله بن الزبير وكان عماله على أمصاره عماله في السنة التي قبلها على المعاون والقضاء وبالشام عبد الملك بن مروان‏.‏

 ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

قيس بن الملوح بن مزاحم

وهو مجنون ليلى‏:‏ وقيل‏:‏ قيس بن معاذ وقيل‏:‏ اسمه البحتري بن الجعدي وقيل‏:‏ هو الأقرع بن معاذ وهو أحد بني جعدة بن كعب بن عامر بن صعصعة وقيل‏:‏ هو من بني عقيل بن كعب بن سعد‏.‏

وقد أنكر قوم وجوده وليس بشيء لأن العمل على المثبت‏.‏

وأما ليلى فهي بنت مهدي وقيل‏:‏ بنت ورد من بني ربيعة‏.‏

وتكنى أم مالك وكانت من أجمل النساء وأظرفهن وأحسنهن جسمًا وعقلًا وأدبًا وشكلًا‏.‏

أخبرنا محمد بن ناصر قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن محمد البخاري قال‏:‏ أخبرنا أبو محمد الجوهري قال‏:‏ أخبرنا ابن حيوية قال‏:‏ حدثنا محمد بن خلف قال‏:‏ أخبرني أبو محمد البلخي قال‏:‏ أخبرني عبد العزيز عن أبيه عن ابن دأب قال‏:‏ حدثني رجل من بني عامر بن صعصعة يقال له‏:‏ رباح قال‏:‏ كان في بني عامر جارية من أجمل النساء لها عقل وأدب يقال لها ليلى بني مهدي فبلغ المجنون خبرها وما هي عليه من الجمال والعقل وكان صبًا بمحادثة النساء فعمد إلى أحسن لباسه فلبسها وتهيأ فلما جلس إليها وتحدث بين يديها أعجبته ووقعت بقلبه فظل يومه ذلك يحدثها وتحدثه حتى أمسى فانصرف إلى أهله بأطول ليلة حتى إذا أصبح مضى إليها فلم يزل عندها حتى أمسى ثم انصرف فبات بأطول من ليلته الأولى وجهد أن يغمض فلم يقدر على ذلك فأنشأ يقول‏:‏

نهاري نهار الناس حتى إذا بدا ** لي الليل هزتني إليك المضاجع

أقضي نهاري بالحديث وبالمنى ** ويجمعني والهم بالليل جامع

فوقع في قلبها مثل الذي وقع في قلبه لها فجاء يومًا يحدثها فجعلت تعرض عنه وتقبل على غيره تريد أن تمتحنه وتعلم ما لها في قلبه فلما رأى ذلك منها اشتد عليه وجزع فلما خافت عليه أقبلت عليه وقالت‏:‏ كلانا مظهر للناس بغضًا وكل عند صاحبه مسكين فسرى عنه وقالت‏:‏ إنما أردت أن أمتحنك والذي لك عندي أكثر من الذي لي عندك وأنا معطية الله عهدًا إن أنا جالست بعد يومي هذا رجلًا سواك حتى أذوق الموت إلا أن أكره على ذلك فانصرف وهو أسر الناس فأنشأ يقول‏:‏

أظن هواها تاركي بمضلة ** من الأرض لا مال لدي ولا أهل

ولا أحد أفضي إليه وصيتي ** ولا صاحب إلا المطية والرحل

محا حبها حب الألى كن قبلها **وحلت مكانًا لم يكن حل من قبل

وقد روي لنا في بداية معرفتها قول آخر‏:‏ أخبرنا ابن نصر قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن محمد البخاري قال‏:‏ أخبرنا الجوهري قال‏:‏ أخبرنا ابن حيوية قال‏:‏ حدثنا محمد بن خلف قال‏:‏ قال العمري عن لقيط بن بكير المحاربي‏:‏ أن المجنون علق ليلى علاقة الصبي وذلك أنهما كانا صغيرين يرعيان أغنامًا لقومهما فتعلق كل واحد منهما صاحبه إلا أن المجنون كان أكبر منها لم يزالا على ذلك حتى كبرا فلما علم بأمرهما حجبت ليلى عنه فزال عقله وفي ذلك يقول‏:‏ تعلقت ليلى وهي ذات ذؤابة ** ولم يبد للأتراب من ثديها حجم

صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا ** إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم

أخبرنا أبو ناصر قال‏:‏ أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال‏:‏ أخبرنا أبو القاسم التنوخي قال‏:‏ أخبرنا ابن حيوية قال‏:‏ أخبرنا محمد بن خلف قال‏:‏ قال أبو عبيدة‏:‏ كان المجنون يجلس في نادية قومه وهم يتحدثون فيقبل عليه بعض القوم فيحدثه وهو باهت ينظر إليه وهو لا يفهم ما يحدثه به ثم يثوب عقله فيسأل عن الحديث فلا يعرفه‏.‏

فحدثه مرة بعض أهله بحديث ثم سأل عنه في غداة غد فلم يعرفه فقال‏:‏ إنك لمجنون فقال‏:‏ إني لأجلس في النادي أحدثهم فأستفيق وقد غالتني الغول يهوى بقلبي حديث النفس نحوكم حتى يقول جليسي أنت مخبول قال أبو عبيدة‏:‏ فتزايد الأمر به حتى فقد عقله فكان لا يقر في موضع ولا يأويه رحل ولا يعلوه ثوب إلا مزقه وصار لا يفهم شيئًا مما يكام به إلا أن تذكر له ليلى فإذا ذكرت أتى بالبداية فيرجع عقله‏.‏

وقد روينا أن قوم ليلى شكوا منه إلى السلطان فأهدر دمه فقال‏:‏ الموت أروح لي فعلموا أنه لا يزال يطلب غرتهم فرحلوا فجاء فأشرف فرأى ديارهم بلاقع فقصد منزل ليلى فألصق صدره به وجعل يمرغ خديه على ترابه ويقول‏:‏

أيا حرجات الحي حيث تحملوا ** بذي سلم لا جادكن ربيع

وخيماتك اللاتي بمنعرج اللوى ** بلين بلى لم تبلهن ربوع

ندمت على ما كان مني ندامة ** كما يندم المغبون حين يبيع

وقال بعض مشايخ بني عامر‏:‏ إن المجنون لقي ليلى وقومها قد رحلوا فغشي عليه فأقبل فتيان الحي فمسحوا وجهه وأسندوه إلى صدورهم وسألوا ليلى أن تقف له فقالت‏:‏ لا يجوز أن أفتضح ولكن يا فلانة - لأمة لها - اذهبي إليه وقولي له‏:‏ ليلى تقرأ عليك السلام وتقول لك أعزز علي بما أنت فيه ولو وجدت سبيلًا إلى شفاء دائك لوقيتك بنفسي فمضت فأخبرته فقال‏:‏ أبلغيها السلام وقولي لها‏:‏ إن دائي ودوائي أنت وقد وكلت بي شقاء طويلًا وبكى وأنشأ يقول‏:‏ وكيف ترى ليلى تقول رجال الحي تطمع أن ترى‏.‏

أخبرنا ابن ناصر قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن محمد البخاري قال‏:‏ أخبرنا الجوهري قال‏:‏ أخبرنا ابن لما ظهر من المجنون ما ظهر ورأى قومه ما ابتلي به اجتمعوا إلى أبيه وقالوا‏:‏ يا هذا قد ترى ما ابتلي ابنك به فلو خرجت به إلى مكة فعاذ ببيت الله وزار قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا الله عز وجل رجونا أن يرجع عقله ويعافيه الله عز وجل فخرج أبوه حتى أتى إلى مكة فجعل يطوف به ويدعو له بالعافية وهو يقول‏:‏

دعا المجرمون الله يستغفرونه ** بمكة وهنًا أن تمحى ذنوبها

فناديت أن يا رب أول سولتي ** لنفسي ليلى ثم أنت حبيبها

فإن أعط ليلى في حياتي لا يتب ** إلى الله خلق توبة لا أتوبها

حتى إذا كان بمنى نادى منادٍ من بعض تلك الخيام‏:‏ يا ليلى فخر مغشيًا عليه واجتمع الناس حوله ونضحوا الماء على وجهه وأبوه يبكي عند رأسه ثم أفاق وقال‏:‏ وداع دعى إذ نحن بالخيف من منى فهيج أحزان الفؤاد وما يدري دعى باسم ليلى غيرها فكأنما أطار بليلى طائرًا كان في صدري أخبرتنا شهدة بإسناد لها عن أبي عمرو الشيباني عن ابن دأب عن رباح قال‏:‏ حدثني بعض المشايخ قال‏:‏ خرجت حاجًا حتى إذا كنت بمنى إذا جماعة على جبل من تلك الجبال فصعدت إليهم فإذا معهم فتى أبيض حسن الوجه وقد علاه الصفار وبدنه ناحل وهم يمسكونه قال‏:‏ فسألتهم عنه فقالوا‏:‏ هذا قيس الذي يقال له المجنون خرج به أبوه لما بلي به يستجير له ببيت الله الحرام وقبر محمد عليه السلام فلعل الله أن يعافيه‏.‏

قال‏:‏ فقلت لهم‏:‏ فما لكم تمسكونه قالوا‏:‏ نخاف أن يجني على نفسه جناية تتلفه‏.‏

قال‏:‏ وهو يقول‏:‏ دعوني أتنسم صبا نجد فقال لي بعضهم‏:‏ ليس يعرفك لو شئت دنوت منه فأخبرته أنك قدمت من نجد وأخبرته عنها قلت‏:‏ نعم أفعل فدنوت منه فقالوا‏:‏ يا قيس هذا رجل قدم من نجد‏.‏

قال‏:‏ فتنفس حتى ظننت أن كبده قد تصدعت ثم جعل يسائلني عن موضع موضع وواد واد وأنا أخبره وهو يبكي ثم أنشأ يقول‏:‏ ألا حبذا نجد وطيب ترابه وأرواحه إن كان نجد على العهد أخبرنا ابن ناصر بالإسناد له عن زياد بن الأعرابي قال‏:‏ لما تشبث المجنون بليلى واشتهر بحبها اجتمع إليه أهلها فمنعوه من محادثتها وزيارتها وتهددوه وتوعدوه بالقتل وكان يأتي امرأة فتعرف له خبرها فنهوا تلك المرأة عن ذلك فكان يأتي غفلات الحي في اليل فلما كثر ذلك خرج أبو ليلى ومعه نفر من قومه إلى مروان بن الحكم فشكوا إليه ما ينالهم من قيس بن الملوح وسألوه الكتاب إلى عامله بمنعه من كلام ليلى ويتقدم إليه في ترك زيارتها فإذا أصابه أهلها عندهم فقد أهدر دمه‏.‏

فلما ورد الكتاب على عامله بعث إلى قيس وأبيه وأهل بيته فجمعهم وقرأ عليهم كتاب مروان وقال لقيس‏:‏ اتق الله في نفسك لا تذهب دمك هدرًا فانصرف قيس وهو يقول‏:‏ ألا حجبت ليلى وآلى أميرها علي يمينًا جاهدًا لا أزورها وواعدني فيها رجال أبوهم أبي وأبوها خشنت لي صدورها على غير شيء غير أني أحبها وأن فؤادي عند ليلى أسيرها فلما يئس منها وعلم أن لا سبيل إليها صار شبيهًا بالتائه العقل وأحب الخلوة وحديث النفس وتزايد الأمر به حتى ذهب عقله ولعب بالحصى والتراب ولم يكن يعرف شيئًا إلا ذكرها وقول الشعر فيها وبلغها ما صار إليه قيس فجزعت أيضًا لفراقه وضنيت ضنى شديدًا‏.‏

وقد روينا عن يونس النحوي‏:‏ أن أم قيس سألت ليلى فحضرت عنده ليلًا وقالت‏:‏ إن أمك تزعم أنك جننت على رأسي فقال‏:‏ قالت جننت على رأسي فقلت لها الحب أعظم مما بالمجانين الحب ليس يفيق الدهر صاحبه وإنما يصرع المجنون في الحين فبكت معه وتحدثا حتى كاد الصبح أن يسفر ثم ودعته وانصرفت فكان آخر عهده بها‏.‏

وقد روينا أن أبا المجنون قيده فجعل يأكل لحم ذراعيه ويضرب بنفسه الأرض فأطلقه يدور ولما زوجت ليلى وقيل غدًا ترحل قال المجنون ينشد‏:‏ كأن القلب ليلة قيل يغدى بليلى العامرية أو يراح قطاة عزها شرك فباتت تجاذبه وقد علق الجناح وروينا أن ليلى لما زوجت جاء المجنون إلى زوجها وهو يصلي في يوم شات فوقف عليه ثم أنشأ يقول‏:‏ بربك هل ضممت إليك ليلى قبيل الصبح أو قبلت فاها وهل رفت عليك قرون ليلى رفيف الأقحوانة في نداها فقال‏:‏ اللهم إذ حلفتني فنعم فقبض المجنون بكلتا يديه قبضتين من الجمر فما فارقهما حتى سقط مغشيًا عليه فسقط الجمر مع لحم راحتيه‏.‏

وكانت له داية يأنس بها وكانت تخرج إلى الصحراء فتحمل له رغيفًا وماء فربما أكله وربما تركه حتى جاءت يومًا وهو ملقى بين الأحجار ميتًا فاحتملوه إلى الحي فغسلوه ودفنوه ولم يبق في بني جعدة ولا في بني الحريش امرأة إلا خرجت حاسرة صارخة عليه تندبه واجتمع فتيان الحي يبكون عليه أشد بكاء وينشجون أشد نشيج وحضرهم حي ليلى معزين وأبوها معهم وكان أشد القوم جزعًا وبكاء عليه وجعل يقول‏:‏ ما علمت أن الأمر يبلغ كل هذا ولكني امرؤ عربي أخاف من العار وقبح الأحدوثة فزوجتها وخرجت عن يدي ولو علمت أن أمره يجري على هذا ما أخرجتها عن يده فما رئي يومًا كان أكثر باكيًا منه‏.‏

وبينما هم يقلبونه وجدوا خرقة فيها مكتوب‏:‏

ألا أيها الشيخ الذي ما بنا يرضى شقيت ولا هنيت من عيشك الخفضا شقيت كما أشقيتني وتركتني أهيم مع الهلاك لا أطعم الغمضا كأن فؤادي في مخاليب طائر إذا ذكرت ليلى يشد بها قبضا كأن فجاج الأرض حلقة خاتم علي فما تزداد طولًا ولا عرضا ومن أشعاره الرائقة قوله‏:‏ وشغلت عن فهم الحديث سوى ما كان منك فإنه شغلي وأديم لحظ محدثي ليرى أن قد فهمت وعندكم عقلي وقوله‏:‏ عجبت لعروة العذري أمسى أحاديثًا لقوم بعد قوم وعروة مات موتًا مستريحًا وها أنا ذا أموت بكل يوم وقد روينا متقدمًا أنه كان يهيم في البرية مع الوحش لا يأكل إلا ما ينبت في البر من بقل ولا يشرب إلا مع الظباء إذا وردت مناهلها وطال شعر جسده ورأسه وألفته الوحش وكانت لا تفر منه وجعل يهيم حتى بلغ حدود الشام فإذا ثاب عقله إليه رجع وسأل من يمر من أحياء العرب عن نجد فيقال له‏:‏ أين أنت من نجد قد شارفت الشام فيقول‏:‏ فأروني الطريق فيدلونه‏.‏