فصل: كتاب النكاح:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.مَسَائِلُ مَنْثُورَةٌ :

(أَهْلُ عَرَفَةَ إذَا وَقَفُوا فِي يَوْمٍ وَشَهِدَ قَوْمٌ أَنَّهُمْ وَقَفُوا يَوْمَ النَّحْرِ أَجْزَأَهُمْ) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجْزِيَهُمْ اعْتِبَارًا بِمَا إذَا وَقَفُوا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ تَخْتَصُّ بِزَمَانٍ وَمَكَانٍ فَلَا يَقَعُ عِبَادَةٌ دُونَهُمَا.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ قَامَتْ عَلَى النَّفْيِ وَعَلَى أَمْرٍ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا نَفْيُ حَجِّهِمْ، وَالْحَجُّ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ فَلَا تُقْبَلُ، وَلِأَنَّ فِيهِ بَلْوَى عَامًا لِتَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ وَالتَّدَارُكُ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَفِي الْأَمْرِ بِالْإِعَادَةِ حَرَجٌ بَيِّنٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكْتَفِيَ بِهِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَقَفُوا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ لِأَنَّ التَّدَارُكَ مُمْكِنٌ فِي الْجُمْلَةِ بِأَنْ يَزُولَ الِاشْتِبَاهُ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَلِأَنَّ جَوَازَ الْمُؤَخَّرِ لَهُ نَظِيرٌ وَلَا كَذَلِكَ جَوَازُ الْمُقَدَّمِ.
قَالُوا: يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ لَا يَسْمَعَ هَذِهِ الشَّهَادَةَ وَيَقُولَ قَدْ تَمَّ حَجُّ النَّاسِ فَانْصَرِفُوا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إلَّا إيقَاعُ الْفِتْنَةِ.
وَكَذَا إذَا شَهِدُوا عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، وَلَا يُمْكِنُهُ الْوُقُوفُ فِي بَقِيَّةِ اللَّيْلِ مَعَ النَّاسِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ لَمْ يَعْمَلْ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ.
الشَّرْحُ:
مَسَائِلُ مَنْثُورَةٌ مِنْ عَادَةِ الْمُصَنِّفِينَ أَنْ يَذْكُرُوا فِي آخِرِ الْكِتَابِ مَا شَذَّ وَنَدَرَ مِنْ الْمَسَائِلِ فِي الْأَبْوَابِ السَّالِفَةِ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ تَكْثِيرًا لِلْفَائِدَةِ، وَيُتَرْجِمُوا عَنْهُ بِمَسَائِلَ مَنْثُورَةٍ أَوْ مَسَائِلَ مُتَفَرِّقَةٍ أَوْ مَسَائِلَ شَتَّى أَوْ مَسَائِلَ لَمْ تَدْخُلْ فِي الْأَبْوَابِ، وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَشْهَدَ قَوْمٌ أَنَّهُمْ رَأَوْا هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ فِي لَيْلَةٍ كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي وَقَفُوا فِيهِ الْيَوْمَ الْعَاشِرَ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ لَا يَقْبَلُ الشَّرْحَ.
وَقَوْلُهُ (وَكَذَا إذَا شَهِدُوا عَشِيَّةَ عَرَفَةَ) صُورَتُهُ أَنَّ الشُّهُودَ شَهِدُوا فِي الطَّرِيقِ قَبْلَ أَنْ يَلْحَقُوا عَرَفَاتٍ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ وَقَالُوا: رَأَيْنَا هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ وَهَذَا الْيَوْمُ هُوَ التَّاسِعُ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ لَا يَلْحَقُ الْوُقُوفَ فِي بَقِيَّةِ اللَّيْلِ مَعَ أَكْثَرِ النَّاسِ لَا تُسْمَعُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ وَيَقِفُونَ مِنْ الْغَدِ بَعْدَ الزَّوَالِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا شَهِدُوا وَقَدْ تَعَذَّرَ الْوُقُوفُ صَارَ كَأَنَّهُمْ شَهِدُوا بَعْدَ الْوَقْتِ فَلَا تُسْمَعُ وَإِنْ كَانَ يَلْحَقُ الْوُقُوفَ مَعَ أَكْثَرِ النَّاسِ، وَلَكِنْ لَا يَلْحَقُ الضَّعَفَةُ فَإِنْ وَقَفَ جَازَ وَإِلَّا فَاتَ الْحَجُّ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْوُقُوفَ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ قُدْرَةُ الْأَكْثَرِ دُونَ الْأَقَلِّ قَالَ (وَمَنْ رَمَى فِي الْيَوْمِ الثَّانِي الْجَمْرَةَ الْوُسْطَى وَالثَّالِثَةَ وَلَمْ يَرْمِ الْأُولَى، فَإِنْ رَمَى الْأُولَى ثُمَّ الْبَاقِيَتَيْنِ فَحَسَنٌ) لِأَنَّهُ رَاعَى التَّرْتِيبَ الْمَسْنُونَ (وَلَوْ رَمَى الْأُولَى وَحْدَهَا أَجْزَأَهُ) لِأَنَّهُ تَدَارَكَ الْمَتْرُوكَ فِي وَقْتِهِ، وَإِنَّمَا تَرَكَ التَّرْتِيبَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَجْزِيهِ مَا لَمْ يُعِدْ الْكُلَّ لِأَنَّهُ شَرَعَ مُرَتَّبًا فَصَارَ كَمَا إذَا سَعَى قَبْلَ الطَّوَافِ أَوْ بَدَأَ بِالْمَرْوَةِ قَبْلَ الصَّفَا.
وَلَنَا أَنَّ كُلَّ جَمْرَةٍ قُرْبَةٌ مَقْصُودَةٌ بِنَفْسِهَا فَلَا يَتَعَلَّقُ الْجَوَازُ بِتَقْدِيمِ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ، بِخِلَافِ السَّعْيِ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلطَّوَافِ لِأَنَّهُ دُونَهُ، وَالْمَرْوَةُ عُرِفَتْ مُنْتَهَى السَّعْيِ بِالنَّصِّ فَلَا تَتَعَلَّقُ بِهَا الْبُدَاءَةُ.
الشَّرْحُ:
(وَمَنْ رَمَى فِي الْيَوْمِ الثَّانِي الْجَمْرَةَ الْوُسْطَى وَالثَّالِثَةَ وَلَمْ يَرْمِ الْأُولَى) يَعْنِي الَّتِي تَلِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ ثُمَّ جَاءَ يُعِيدُ الرَّمْيَ فِي يَوْمِهِ، فَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى رَمْيِ الَّتِي تَرَكَهَا أَجْزَأَهُ لِأَنَّهُ أَتَى بِأَصْلِ الرَّمْيِ فِي وَقْتِهِ، وَإِنَّمَا تَرَكَ الْمَسْنُونَ مِنْ التَّرْتِيبِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ شَيْئًا، وَإِنْ أَعَادَ الْجِمَارَ الثَّلَاثَ فَحَسَنٌ لِمَا فِيهِ مِنْ مُرَاعَاةِ سُنَّةِ التَّرْتِيبِ، وَهَذَا نَظِيرُ مَا سَبَقَ أَنَّ الطَّائِفَ إذَا دَخَلَ الْحَطِيمَ فِي طَوَافِهِ لَا يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ، فَإِنْ أَعَادَ عَلَى الْحَطِيمِ وَحْدَهُ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ أَعَادَ الطَّوَافَ كُلَّهُ كَانَ حَسَنًا.
(وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُجْزِئُهُ مَا لَمْ يُعِدْ الْكُلَّ لِأَنَّهُ شُرِعَ مُرَتَّبًا) تَرْتِيبًا صَارَ بِهِ الثَّانِي كَالْجُزْءِ مِنْ الْأَوَّلِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ إذَا تَرَكَ الْكُلَّ يَجِبُ دَمٌ وَاحِدٌ فَلَا يَجُوزُ التَّفْرِيقُ فِيمَا بَيْنَهُمَا فَصَارَ تَرْكُ التَّرْتِيبِ فِيهَا كَتَقْدِيمِ السَّعْيِ عَلَى الطَّوَافِ أَوْ الِابْتِدَاءِ بِالْمَرْوَةِ قَبْلَ الصَّفَا، بِخِلَافِ الصَّلَوَاتِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا قُرْبَةٌ مَقْصُودَةٌ بِذَاتِهَا فَلَا يَكُونُ التَّرْتِيبُ بَيْنَهَا وَاجِبًا (وَلَنَا أَنَّ كُلَّ جَمْرَةٍ قُرْبَةٌ مَقْصُودَةٌ بِنَفْسِهَا) لِتَعَلُّقِ كُلٍّ مِنْهَا بِبُقْعَةٍ عَلَى حِدَةٍ وَالْبُقْعَةُ فِي بَابِ الْحَجِّ أَصْلٌ فَكَانَ مَا شُرِعَ فِيهِ أَصْلًا فَلَا يَتَعَلَّقُ جَوَازُ الْبَعْضِ بِبَعْضٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَعَادَ مُرَتَّبًا كَانَ مُؤَدِّيًا لَا قَاضِيًا.
بِخِلَافِ الصَّلَوَاتِ فَإِنَّ النَّصَّ فِيهَا نَاطِقٌ بِأَنَّ مَنْ صَلَّى بِلَا تَرْتِيبٍ صَلَّى قَبْلَ وَقْتِهَا فَلَا يَجُوزُ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ دُونَهُ) أَيْ؛ لِأَنَّ السَّعْيَ دُونَ الطَّوَافِ يَعْنِي أَحَطَّ مَنْزِلَةً مِنْ الطَّوَافِ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ فَرْضٌ كَطَوَافِ الزِّيَارَةِ أَوْ مِنْ جِنْسِ الْفَرْضِ كَطَوَافِ الْقُدُومِ، وَأَمَّا السَّعْيُ فَوَاجِبٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَكَانَ دُونَ الطَّوَافِ فَصَلُحَ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لِلطَّوَافِ. وَقَوْلُهُ (وَالْمَرْوَةُ عُرِفَتْ مُنْتَهَى السَّعْيِ بِالنَّصِّ) وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ» أَرَادَ بِهِ قَوْله تَعَالَى {إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} (فَلَا تَتَعَلَّقُ بِهَا الْبُدَاءَةُ) قَالَ (وَمَنْ جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَحُجَّ مَاشِيًا فَإِنَّهُ لَا يَرْكَبُ حَتَّى يَطُوفَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ) وَفِي الْأَصْلِ خَيَّرَهُ بَيْنَ الرُّكُوبِ وَالْمَشْيِ، وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى الْوُجُوبِ، وَهُوَ الْأَصْلُ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْقُرْبَةَ بِصِفَةِ الْكَمَالِ فَتَلْزَمُهُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ، كَمَا إذَا نَذَرَ بِالصَّوْمِ مُتَتَابِعًا وَأَفْعَالُ الْحَجِّ تَنْتَهِي بِطَوَافِ الزِّيَارَةِ فَيَمْشِي إلَى أَنْ يَطُوفَهُ.
ثُمَّ قِيلَ: يَبْتَدِئُ الْمَشْيَ مِنْ حِينِ يُحْرِمُ، وَقِيلَ مِنْ بَيْتِهِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ، وَلَوْ رَكِبَا أَرَاقَ دَمًا لِأَنَّهُ أَدْخَلَ نَقْصًا فِيهِ، قَالُوا إنَّمَا يَرْكَبُ إذَا بَعُدَتْ الْمَسَافَةُ وَشَقَّ عَلَيْهِ الْمَشْيُ، وَإِذَا قَرُبَتْ وَالرَّجُلُ مِمَّنْ يَعْتَادُ الْمَشْيَ وَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَرْكَبَ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَحُجَّ مَاشِيًا) أَيْ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ مَاشِيًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَرْكَبَ حَتَّى يَطُوفَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ وَهُوَ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَهُوَ الصَّحِيحُ (وَخُيِّرَ فِي الْأَصْلِ) يَعْنِي الْمَبْسُوطَ (بَيْنَ الرُّكُوبِ وَالْمَشْيِ) بَعْدَ النَّذْرِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ مَاشِيًا يُكْرَهُ وَرَاكِبًا أَفْضَلُ لَكِنَّهُ وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فَكَانَ مُخَيَّرًا.
وَقَوْلُهُ (وَهَذَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لَا يَرْكَبُ، يَعْنِي رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ تَقْتَضِي تَرْكَ الرُّكُوبِ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْهُ بِصِيغَةِ النَّفْيِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمَشْرُوعِيَّةِ فَكَانَ الرُّكُوبُ غَيْرَ مَشْرُوعٍ وَهُوَ الْأَصْلُ أَيْ الْمُوَافِقُ لِلْقَوَاعِدِ لِأَنَّ مَنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ لَا يَتَأَدَّى نَاقِصًا، وَالْمَشْيُ فِي الْحَجِّ صِفَةُ كَمَالٍ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَجَّ مَاشِيًا فَلَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ حَسَنَةٌ مِنْ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ، قِيلَ وَمَا حَسَنَاتُ الْحَرَمِ؟ قَالَ: كُلُّ حَسَنَةٍ بِسَبْعِمِائَةٍ» وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ بَعْدَمَا كُفَّ بَصَرُهُ: مَا تَأَسَّفْت عَلَى شَيْءٍ كَتَأَسُّفِي عَلَى أَنِّي لَمْ أَحُجَّ مَاشِيًا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَ الْمُشَاةَ فَقَالَ تَعَالَى {يَأْتُوك رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} فَصَارَ كَمَا إذَا نَذَرَ بِالصَّوْمِ مُتَتَابِعًا لَا يَتَأَدَّى مُتَفَرِّقًا.
وَاعْتُرِضَ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ النَّذْرَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِمَا لَهُ نَظِيرٌ فِي الْمَشْرُوعَاتِ الْمَفْرُوضَةِ أَوْ الْوَاجِبَةِ، وَلَيْسَ لِلْمَشْيِ نَظِيرٌ.
وَالثَّانِي أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَرِهَ الْمَشْيَ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ، فَمَا وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ فَإِنَّهُ يُنَاقِضُ ذَلِكَ؟.
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ لَهُ أَصْلًا وَهُوَ أَنَّ الْمَكِّيَّ الْفَقِيرَ إذَا لَمْ يَمْلِكْ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ وَأَمْكَنَهُ الْمَشْيُ إلَى عَرَفَاتٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ مَاشِيًا.
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ مَا كَرِهَ الْمَشْيَ مُطْلَقًا وَإِنَّمَا كَرِهَ الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْمَشْيِ لِأَنَّهُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ سَاءَ خُلُقُهُ فَجَادَلَ وَالْجِدَالُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي الْحَجِّ.
وَقَوْلُهُ (وَأَفْعَالُ الْحَجِّ تَنْتَهِي بِطَوَافِ الزِّيَارَةِ) يُرِيدُ بِالْأَفْعَالِ الْأَرْكَانَ لَا مُطْلَقَ الْأَفْعَالِ، فَإِنَّ رَمْيَ الْجِمَارِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ.
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ قِيلَ) يَعْنِي أَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَذْكُرْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْكُتُبِ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ يَبْدَأُ.
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، فَقِيلَ: يَبْتَدِئُ مِنْ حِينِ يُحْرِمُ وَعَلَيْهِ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَالْإِمَامُ الْعَتَّابِيُّ وَغَيْرُهُمَا (وَقِيلَ مِنْ بَيْتِهِ) وَعَلَيْهِ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَمَالَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ، وَقَالَ (لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ) يَعْنِي أَنَّهُ هُوَ الْمُتَعَارَفُ وَالْعُرْفُ مُعْتَبَرٌ فِي النَّذْرِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ وَاجِبٌ (فَلَوْ رَكِبَ أَرَاقَ دَمًا لِأَنَّهُ أَدْخَلَ نَقْصًا فِيهِ) يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ «عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: إنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ مَاشِيَةً حَافِيَةً، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَغَنِيٌّ عَنْ تَعْذِيبِ أُخْتِك مُرْهَا فَلْتَرْكَبْ وَلْتَذْبَحْ لِرُكُوبِهَا شَاةً» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «وَلْتُرِقْ دَمًا» وَقَوْلُهُ (قَالُوا) يَعْنِي الْمَشَايِخَ كَأَنَّهُ بَيَانُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ رِوَايَةِ الْأَصْلِ وَرِوَايَةِ الْجَامِعِ.
رَوَى الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ عَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّهُ قَالَ (إنَّمَا يَرْكَبُ إذَا بَعُدَتْ الْمَسَافَةُ وَشَقَّ الْمَشْيُ، وَأَمَّا إذَا قَرُبَتْ وَالرَّجُلُ مِمَّنْ يَعْتَادُ الْمَشْيَ وَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَرْكَبَ) (وَمَنْ بَاعَ جَارِيَةً مُحْرِمَةً قَدْ أَذِنَ لَهَا مَوْلَاهَا فِي ذَلِكَ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يُحَلِّلَهَا وَيُجَامِعَهَا) وَقَالَ زُفَرُ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا عَقْدٌ سَبَقَ مِلْكَهُ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ فَسْخِهِ كَمَا إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً مَنْكُوحَةً.
وَلَنَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَائِمٌ مَقَامَ الْبَائِعِ وَقَدْ كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يُحَلِّلَهَا، فَكَذَا الْمُشْتَرِي إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ ذَلِكَ لِلْبَائِعِ لِمَا فِيهِ مِنْ خَلْفِ الْوَعْدِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي، بِخِلَافِ النِّكَاحِ لِأَنَّهُ مَا كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَفْسَخَهُ إذَا بَاشَرَتْ بِإِذْنِهِ فَكَذَا لَا يَكُونُ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي، وَإِذَا كَانَ لَهُ أَنْ يُحَلِّلَهَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ رَدِّهَا بِالْعَيْبِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ يَتَمَكَّنُ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْ غَشَيَانِهَا، (وَ) ذُكِرَ (فِي بَعْضِ النُّسَخِ أَوْ يُجَامِعُهَا) وَالْأَوَّلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُحَلِّلُهَا بِغَيْرِ الْجِمَاعِ بِقَصِّ شَعْرٍ أَوْ بِقَلْمِ ظُفْرٍ ثُمَّ يُجَامِعُ، وَالثَّانِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُحَلِّلُهَا بِالْمُجَامَعَةِ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ تَقْدِيمِ مَسٍّ يَقَعُ بِهِ التَّحَلُّلُ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُحَلِّلَهَا بِغَيْرِ الْمُجَامَعَةِ تَعْظِيمًا لِأَمْرِ الْحَجِّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ بَاعَ جَارِيَةً مُحْرِمَةً) ظَاهِرٌ.
قَوْلُهُ (وَقَدْ كَانَ لِلْبَائِعِ) يَعْنِي عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَوْلَى إذَا أَذِنَ لِلْعَبْدِ فِي الْحَجِّ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُحَلِّلَهُ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ بِالْإِذْنِ فَصَارَ الْعَبْدُ كَالْحُرِّ إلَّا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَهُ أَنْ يُحَلِّلَهُ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ لَمْ يَقَعْ بِإِذْنِهِ.
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ النِّكَاحِ لِأَنَّهُ مَا كَانَ لِلْبَائِعِ فَسْخُهُ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ زُفَرَ.
وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ إذَا كَانَ بِإِذْنِهِ لِمَا أَنَّ النِّكَاحَ حَقُّ الزَّوْجِ فَقَدْ تَعَلَّقَ حَقُّهُ بِهِ بِإِذْنِ الْمَالِكِ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْمَالِكُ مِنْ فَسْخِهِ وَإِنْ بَقِيَ مِلْكُهُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْعَبْدِ بِهِ كَالرَّاهِنِ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْمَرْهُونِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِإِذْنِهِ، وَالْمُشْتَرِي قَامَ مَقَامَهُ بَعْدَ الشِّرَاءِ، فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ لَهُ حَقُّ الْفَسْخِ أَيْضًا، وَأَمَّا هَاهُنَا فَقَدْ اجْتَمَعَ فِي الْجَارِيَةِ حَقَّانِ: حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْإِحْرَامِ.
وَحَقُّ الْمُشْتَرِي فِي الِاسْتِمْتَاعِ، فَيُقَدَّمُ حَقُّ الْعَبْدِ لِحَاجَتِهِ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لِغِنَاهُ.
وَقَوْلُهُ (وَذُكِرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ) أَيْ نُسَخِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (أَوْ يُجَامِعُهَا) يَعْنِي قَالَ: فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يُحَلِّلَهَا أَوْ يُجَامِعَهَا، وَبَاقِي كَلَامِهِ ظَاهِرٌ.
وَهَذَا آخِرُ الْعِبَادَاتِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُعِينُ عَلَى الْإِتْمَامِ.

.كتاب النكاح:

(النِّكَاحُ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ بِلَفْظَيْنِ يُعَبِّرُ بِهِمَا عَنْ الْمَاضِي) لِأَنَّ الصِّيغَةَ وَإِنْ كَانَتْ لِلْإِخْبَارِ وَضْعًا فَقَدْ جُعِلَتْ لِلْإِنْشَاءِ شَرْعًا دَفْعًا لِلْحَاجَةِ.
الشَّرْحُ:
لَمَّا فَرَغَ مِنْ الْعِبَادَاتِ شَرَعَ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَابْتَدَأَ مِنْ بَيْنِهَا بِالنِّكَاحِ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَصَالِحَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَقَدْ اشْتَهَرَتْ فِي وَعِيدِ مَنْ رَغِبَ عَنْهُ وَتَحْرِيضِ مَنْ رَغِبَ فِيهِ الْآثَارُ، وَمَا اتَّفَقَ فِي حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ مِثْلُ مَا اتَّفَقَ فِي النِّكَاحِ مِنْ اجْتِمَاعِ دَوَاعِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَالطَّبْعِ.
فَأَمَّا دَوَاعِي الشَّرْعِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَظَاهِرَةٌ.
وَأَمَّا دَوَاعِي الْعَقْلِ فَإِنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يُحِبُّ أَنْ يَبْقَى اسْمُهُ وَلَا يَنْمَحِي رَسْمُهُ، وَمَا ذَاكَ غَالِبًا إلَّا بِبَقَاءِ النَّسْلِ.
وَأَمَّا الطَّبْعُ فَإِنَّ الطَّبْعَ الْبَهِيمِيَّ مِنْ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى يَدْعُو إلَى تَحْقِيقِ مَا أُعِدَّ مِنْ الْمُبَاضَعَاتِ الشَّهْوَانِيَّةِ وَالْمُضَاجَعَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ، وَلَا مَزْجَرَةَ فِيهَا إذَا كَانَتْ بِأَمْرِ الشَّرْعِ وَإِنْ كَانَتْ بِدَوَاعِي الطَّبْعِ بَلْ يُؤْجَرُ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَشْرُوعَاتِ.
وَالنِّكَاحُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْوَطْءِ، ثُمَّ قِيلَ لِلتَّزَوُّجِ نِكَاحٌ مَجَازًا لِأَنَّهُ سَبَبٌ لَهُ، وَقِيلَ هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ عَقْدٌ وُضِعَ لِتَمْلِيكِ مَنَافِعِ الْبُضْعِ.
وَسَبَبُهُ تَعَلُّقُ الْبَقَاءِ الْمَقْدُورِ بِتَعَاطِيهِ.
وَشَرْطُهُ الْخَاصُّ حُضُورُ شَاهِدَيْنِ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِهِ، بِخِلَافِ بَقِيَّةِ الْأَحْكَامِ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ فِيهَا لِلظُّهُورِ عِنْدَ الْحَاكِمِ لَا الِانْعِقَادِ.
وَشَرْطُهُ الْعَامُّ الْأَهْلِيَّةُ بِالْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ وَالْمَحَلِّ، وَهِيَ امْرَأَةٌ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ نِكَاحِهَا مَانِعٌ شَرْعِيٌّ.
وَرُكْنُهُ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ كَمَا فِي سَائِرِ الْعُقُودِ؛ وَالْإِيجَابُ هُوَ الْمُتَلَفَّظُ بِهِ أَوَّلًا مِنْ أَيِّ جَانِبٍ كَانَ وَالْقَبُولُ جَوَابُهُ.
وَحُكْمُهُ ثُبُوتُ الْحِلِّ عَلَيْهَا وَوُجُوبُ الْمَهْرِ عَلَيْهِ وَحُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، وَهُوَ فِي حَالَةِ التَّوَقَانِ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ الزِّنَا وَاجِبٌ وَهُوَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالنِّكَاحِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَفِي حَالَةِ الِاعْتِدَالِ مُسْتَحَبٌّ، وَفِي حَالَةِ خَوْفِ الْجَوْرِ مَكْرُوهٌ قَالَ (النِّكَاحُ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ) قَدْ ذَكَرْت مَعْنَى الِانْعِقَادِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ عَلَى مَا سَيَأْتِي وَقَوْلُهُ (يُعَبَّرُ بِهِمَا) أَيْ بِلَفْظٍ وَيُبَيَّنُ؛ لِأَنَّ التَّعْبِيرَ الْبَيَانُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} أَيْ تُبَيِّنُونَ، وَإِنَّمَا اُخْتِيرَ لَفْظُ الْمَاضِي لِلْإِنْشَاءِ وَهُوَ الْكَلَامُ الَّذِي لَيْسَ لِنِسْبَتِهِ خَارِجٌ تُطَابِقُهُ أَوْ لَا تُطَابِقُهُ لِيَدُلَّ عَلَى التَّحَقُّقِ وَالثُّبُوتِ فَكَانَ أَدَلَّ عَلَى قَضَاءِ الْحَاجَةِ. (وَيَنْعَقِدُ بِلَفْظَيْنِ يُعَبِّرُ بِأَحَدِهِمَا عَنْ الْمَاضِي وَبِالْآخَرِ عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ زَوِّجْنِي فَيَقُولَ زَوَّجْتُك) لِأَنَّ هَذَا تَوْكِيلٌ بِالنِّكَاحِ وَالْوَاحِدُ يَتَوَلَّى طَرَفَيْ النِّكَاحِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ) يَعْنِي فِي أَوَّلِ فَصْلِ الْوَكَالَةِ فِي النِّكَاحِ (وَيَنْعَقِدُ بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ وَالْهِبَةِ وَالتَّمْلِيكِ وَالصَّدَقَةِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ لَيْسَ حَقِيقَةً فِيهِ وَلَا مَجَازًا عَنْهُ لِأَنَّ التَّزْوِيجَ لِلتَّلْفِيقِ وَالنِّكَاحَ لِلضَّمِّ، وَلَا ضَمَّ وَلَا ازْدِوَاجَ بَيْنَ الْمَالِكِ وَالْمَمْلُوكَةِ أَصْلًا.
وَلَنَا أَنَّ التَّمْلِيكَ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ فِي مَحَلِّهَا بِوَاسِطَةِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَهُوَ الثَّابِتُ بِالنِّكَاحِ وَالسَّبَبِيَّةُ طَرِيقُ الْمَجَازِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَيَنْعَقِدُ بِلَفْظِ النِّكَاحِ) بَيَانُ أَلْفَاظٍ يَنْعَقِدُ بِهَا النِّكَاحُ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ) لِأَنَّهُ إنْ انْعَقَدَ بِغَيْرِهِ مِثْلُ التَّمْلِيكِ مَثَلًا، فَإِمَّا أَنْ يَنْعَقِدَ بِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ حَقِيقَةٌ أَوْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَجَازٌ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَقِيقَةً كَانَ التَّمْلِيكُ وَالتَّزْوِيجُ مُتَرَادِفَيْنِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذْ التَّمْلِيكُ يُوجَدُ بِغَيْرِ نِكَاحٍ وَلَا إلَى الثَّانِي لِعَدَمِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهُمَا؛ (لِأَنَّ التَّزْوِيجَ لِلتَّلْفِيقِ) يُقَالُ: لَفَّقْت بَيْنَ ثَوْبَيْنِ وَلَفَّقْت أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ، إذَا لَاءَمْتَ بَيْنَهُمَا بِالْخِيَاطَةِ (وَالنِّكَاحُ لِلضَّمِّ، وَلَا ضَمَّ وَلَا ازْدِوَاجَ بَيْنَ الْمَالِكِ وَالْمَمْلُوكَةِ أَصْلًا) فَلَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَهُمَا.
وَقُلْنَا الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَهُمَا مَوْجُودَةٌ؛ لِأَنَّ (التَّمْلِيكَ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ فِي مَحَلِّهَا) يَعْنِي أَنَّ تَمْلِيكَ الرَّقَبَةِ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ إذَا صَادَفَتْ مَحَلَّ الْمُتْعَةِ لِإِفْضَائِهِ إلَيْهِ (وَ) مِلْكُ الْمُتْعَةِ (هُوَ الثَّابِتُ بِالنِّكَاحِ وَالسَّبَبِيَّةُ طَرِيقُ الْمَجَازِ) وَقُيِّدَ بِقَوْلِهِ فِي مَحَلِّهَا احْتِرَازًا عَنْ تَمْلِيكِ الْغِلْمَانِ وَالْبَهَائِمِ وَالْأُخْتِ الرَّضَاعِيَّةِ وَالْأَمَةِ الْمَجُوسِيَّةِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ إذَا وَرَدَ عَلَى مِلْكِ النِّكَاحِ أَفْسَدَهُ فَكَيْفَ يَثْبُتُ النِّكَاحُ بِهِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ إفْسَادَهُ لِلنِّكَاحِ لَيْسَ مِنْ حَيْثُ تَحْرِيمُ الْوَطْءِ لَا مَحَالَةَ، بَلْ مِنْ حَيْثُ إبْطَالُ ضَرْبِ مَالِكِيَّةٍ لَهَا فِي مُوَاجَبِ النِّكَاحِ مِنْ طَلَبِ الْقَسْمِ وَتَقْدِيرِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى وَالْمَنْعِ عَنْ الْعَزْلِ، وَحِينَئِذٍ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ مَا يُثْبِتُهُ وَيَنْفِيهِ فَجَازَتْ الِاسْتِعَارَةُ. وَيَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ هُوَ الصَّحِيحُ لِوُجُودِ طَرِيقِ الْمَجَازِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَيَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ) يَعْنِي بِأَنْ تَقُولَ الْمَرْأَةُ بِعْتُك نَفْسِي أَوْ قَالَ أَبُوهَا بِعْتُك بِنْتِي بِكَذَا وَكَذَا بِلَفْظِ الشِّرَاءِ بِأَنْ قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَةٍ اشْتَرَيْتُك بِكَذَا فَأَجَابَتْ بِنَعَمْ، أَشَارَ إلَيْهِ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ.
وَقَوْلُهُ (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ الْأَعْمَشِ إنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ خَاصٌّ لِتَمْلِيكِ مَالٍ وَالْمَمْلُوكُ بِالنِّكَاحِ لَيْسَ بِمَالٍ، وَوَجْهُ الصَّحِيحِ وُجُودُ طَرِيقِ الْمَجَازِ. (وَلَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ) فِي الصَّحِيحِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ (وَ) لَا بِلَفْظِ (الْإِبَاحَةِ وَالْإِحْلَالِ وَالْإِعَارَةِ) لِمَا قُلْنَا (وَ) لَا بِلَفْظِ (الْوَصِيَّةِ) لِأَنَّهَا تُوجِبُ الْمِلْكَ مُضَافًا إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ فِي الصَّحِيحِ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ إنَّهُ يَنْعَقِدُ بِهَا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالنِّكَاحِ مَنْفَعَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنْ جُعِلَ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْعِوَضَ أَجْرًا فِي قَوْله تَعَالَى {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِجَارَةِ.
وَوَجْهُ الصَّحِيحِ أَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَنْعَقِدُ شَرْعًا إلَّا مُؤَقَّتَةً، وَالنِّكَاحُ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا مُؤَبَّدًا فَكَانَ بَيْنَ مُوجِبَيْهِمَا تَنَافٍ فَلَا تَجُوزُ الِاسْتِعَارَةُ، فَقَالَ الْمُصَنِّفُ (لِأَنَّهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ) لِعَدَمِ إفْضَائِهَا إلَيْهِ (وَلَا بِلَفْظِ الْإِبَاحَةِ وَالْإِحْلَالِ وَالْإِعَارَةِ لِمَا قُلْنَا) يَعْنِي قَوْلَهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْإِبَاحَةِ وَالْإِحْلَالِ لَا يُوجِبُ مِلْكًا أَصْلًا، فَإِنَّ مَنْ أَحَلَّ لِغَيْرِهِ طَعَامًا أَوْ أَبَاحَهُ لَهُ لَا يَمْلِكُهُ فَإِنَّمَا يُتْلِفُهُ عَلَى مِلْكِ الْمُبِيحِ (وَلَا بِلَفْظِ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهَا تُوجِبُ الْمِلْكَ مُضَافًا إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ) وَلَوْ صَرَّحَ بِلَفْظِ النِّكَاحِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ زَمَانُ انْتِهَاءِ مِلْكِ النِّكَاحِ وَبُطْلَانِهِ لَا زَمَانُ ثُبُوتِهِ. قَالَ (وَلَا يَنْعَقِدُ نِكَاحُ الْمُسْلِمِينَ إلَّا بِحُضُورِ شَاهِدَيْنِ حُرَّيْنِ عَاقِلَيْنِ بَالِغَيْنِ مُسْلِمَيْنِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ عُدُولًا كَانُوا أَوْ غَيْرَ عُدُولٍ أَوْ مَحْدُودِينَ فِي الْقَذْفِ) اعْلَمْ أَنَّ الشَّهَادَةَ شَرْطٌ فِي بَابِ النِّكَاحِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ» وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي اشْتِرَاطِ الْإِعْلَانِ دُونَ الشَّهَادَةِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَلَا يَنْعَقِدُ نِكَاحُ الْمُسْلِمِينَ إلَّا بِحُضُورِ شَاهِدَيْنِ حُرَّيْنِ عَاقِلَيْنِ بَالِغَيْنِ مُسْلِمَيْنِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَيْنِ عُدُولًا كَانُوا أَوْ غَيْرَ عُدُولٍ) أَمَّا اشْتِرَاطُ الشَّهَادَةِ فَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ» وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ قَوْله تَعَالَى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ} وَغَيْرُهُ مِنْ الْآيَاتِ بِهِ.
وَأَجَابَ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ بِأَنَّ هَذَا حَدِيثٌ مَشْهُورٌ تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ فَتَجُوزُ الزِّيَادَةُ بِهِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ (وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ فِي اشْتِرَاطِ الْإِعْلَانِ دُونَ الشَّهَادَةِ) حَتَّى لَوْ أَعْلَنُوا بِحُضُورِ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ صَحَّ، وَلَوْ أَمَرَ الشَّاهِدَيْنِ أَنْ لَا يُظْهِرَا الْعَقْدَ لَمْ يَصِحَّ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَعْلِنُوا النِّكَاحَ وَلَوْ بِالدُّفِّ» وَالْجَوَابُ أَنَّ الْإِعْلَانَ يَحْصُلُ بِحُضُورِ الشَّاهِدَيْنِ حَقِيقَةً، وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْحُرِّيَّةِ فِيهَا لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا شَهَادَةَ لَهُ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ، لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ بِدُونِهِمَا، وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْإِسْلَامِ فِي أَنْكِحَةِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَلَا يُشْتَرَطُ وَصْفُ الذُّكُورَةِ حَتَّى يَنْعَقِدَ بِحُضُورِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَسَتَعْرِفُ فِي الشَّهَادَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّرْحُ:
وَأَمَّا اشْتِرَاطُ الْحُرِّيَّةِ فَلِأَنَّ الْعَبْدَ لَا شَهَادَةَ لَهُ (لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ) وَالشَّهَادَةُ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْوِلَايَةَ عِبَارَةٌ عَنْ نَفَاذِ الْقَوْلِ عَلَى الْغَيْرِ شَاءَ أَوْ أَبَى.
وَذَلِكَ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ عِنْدَ الْأَدَاءِ، وَكَلَامُنَا فِي حَالَةِ الِانْعِقَادِ، فَكَمَا يَنْعَقِدُ بِشَهَادَةِ الْمَحْدُودِينَ فِي الْقَذْفِ فَلْيَنْعَقِدْ بِشَهَادَةِ الْعَبْدَيْنِ إذْ الْوِلَايَةُ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْأَدَاءَ يَحْتَاجُ إلَى وِلَايَةٍ مُتَعَدِّيَةٍ وَلَيْسَتْ بِمُرَادَةٍ هَاهُنَا.
وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهَا الْوِلَايَةُ الْقَاصِرَةُ تَعْظِيمًا لِخَطَرِ أَمْرِ النِّكَاحِ كَاشْتِرَاطِ أَصْلِ الشَّهَادَةِ، وَكَذَلِكَ اعْتِبَارُ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ (لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ بِدُونِهِمَا وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْإِسْلَامِ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ) يَعْنِي أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ، وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَفِيهِ النَّظَرُ الَّذِي مَرَّ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْأَدَاءَ حَتَّى تَكُونَ الْوِلَايَةُ شَرْطًا.
وَالْجَوَابُ أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّهَادَةَ وَصِفَةَ الشَّاهِدَيْنِ إنَّمَا كَانَتْ تَعْظِيمًا وَلَا تَعْظِيمَ لِشَيْءٍ بِسَبَبِ حُضُورِهِ لِلْكُفَّارِ (وَلَا يُشْتَرَطُ وَصْفُ الذُّكُورَةِ حَتَّى يَنْعَقِدَ بِحُضُورِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ) وَوَعَدَ الْمُصَنِّفُ بِبَيَانِ ذَلِكَ فِي الشَّهَادَاتِ وَنَحْنُ تَابَعْنَاهُ فِي ذَلِكَ، وَلَا تُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ حَتَّى يَنْعَقِدَ بِحَضْرَةِ الْفَاسِقَيْنِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
لَهُ أَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ بَابِ الْكَرَامَةِ وَالْفَاسِقُ مِنْ أَهْلِ الْإِهَانَةِ.
وَلَنَا أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُحَرِّمْ الْوِلَايَةَ عَلَى نَفْسِهِ لِإِسْلَامِهِ لَا يُحَرِّمُ عَلَى غَيْرِهِ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِهِ، وَلِأَنَّهُ صَلُحَ مُقَلَّدًا فَيَصْلُحُ مُقَلِّدًا وَكَذَا شَاهِدًا.
وَالْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ تَحَمُّلًا، وَإِنَّمَا الْفَائِتُ ثَمَرَةُ الْأَدَاءِ بِالنَّهْيِ لِجَرِيمَتِهِ فَلَا يُبَالِي بِفَوَاتِهِ كَمَا فِي شَهَادَةِ الْعُمْيَانِ وَابْنَيْ الْعَاقِدَيْنِ.
الشَّرْحُ:
وَيَنْعَقِدُ بِشَهَادَةِ فَاسِقَيْنِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ.
هُوَ يَقُولُ (الشَّهَادَةُ مِنْ الْكَرَامَةِ) لِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ قَوْلِهِ فِي نَفْسِهِ وَنَفَاذِهِ عَلَى الْغَيْرِ إكْرَامًا لَهُ لَا مَحَالَةَ (وَالْفَاسِقُ مِنْ أَهْلِ الْإِهَانَةِ) لِجَرِيمَتِهِ، وَدَلِيلُهُ يَتِمُّ بِأَنْ يَقُولَ: وَالْفَاسِقُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْكَرَامَةِ، وَلَكِنْ عَدَلَ عَنْهُ إلَى مَا ذُكِرَ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ، وَفِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ تَرْكِ الْإِكْرَامِ وَهُوَ الْإِهَانَةُ (وَلَنَا أَنَّ الْفَاسِقَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ) عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ نَفْسَهُ وَعَبْدَهُ وَأَمَتَهُ وَيُقِرَّ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِهِ مِنْ الْقَتْلِ وَغَيْرِهِ، وَكُلُّ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْوِلَايَةُ عَلَى نَفْسِهِ وِلَايَةٌ قَاصِرَةٌ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ عَلَى نَفْسِهِ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهَا مُتَعَدِّيَةٌ إلَى غَيْرِهِ.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَهَذَا) إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ لِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ: يَعْنِي (لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُحْرَمْ الْوِلَايَةُ عَلَى نَفْسِهِ لِإِسْلَامِهِ لَمْ يَحْرُمْ عَلَى غَيْرِهِ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِهِ) كَمَا أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَهُمْ وِلَايَةٌ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَلَهُمْ الْوِلَايَةُ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِهِ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفِسْقَ لَا يُخْرِجُ الْمَرْءَ مِنْ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْأَدَاءِ، وَفِيهِ الْإِلْزَامُ، فَلَأَنْ لَا يَخْرُجَ عَنْهَا عَلَى الِانْعِقَادِ وَلَا إلْزَامَ فِيهِ أَوْلَى (وَلِأَنَّهُ صَلُحَ مُقَلِّدًا) كَالْحَجَّاجِ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ بَعْدَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ قَلَّمَا يَخْلُو وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَنْ فِسْقٍ (فَيَصْلُحُ مُقَلِّدًا) أَيْ قَاضِيًا (فَكَذَا شَاهِدًا) لِأَنَّ الشَّهَادَةَ وَالْقَضَاءَ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ.
وَفِي عِبَارَتِهِ تَسَامُحٌ لِأَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنْ تَكُونَ أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ مُرَتَّبَةٌ عَلَى أَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّ أَهْلِيَّةَ الْقَضَاءِ مُسْتَفَادَةٌ مِنْ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ، وَلَوْ قَالَ بِالْوَاوِ كَانَ أَحْسَنَ.
لَا يُقَالُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَتَّبًا عَلَى مُقَلِّدًا بِكَسْرِ اللَّامِ لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ السَّلْطَنَةِ لَيْسَتْ مُسْتَفَادَةً مِنْ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ عَكْسَهُ كَذَلِكَ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ إذَا كَانَ الْفِسْقُ لَا يَمْنَعُ عَنْ وِلَايَةٍ هِيَ أَعَمُّ ضَرَرًا فَلَأَنْ لَا يَمْنَعَ عَنْ وِلَايَةِ عَامِّ الضَّرَرِ أَوْ خَاصِّهِ أَوْلَى، وَالتَّرْتِيبُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ غَيْرُ خَافِي الصِّحَّةِ.
وَلَوْ قَالَ الْفَاسِقُ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ الْقَاصِرَةِ بِلَا خِلَافٍ فَيَصْلُحُ شَاهِدًا عَلَى الِانْعِقَادِ لِأَنَّهُ لَا إلْزَامَ فِيهِ وَكَانَتْ الْوِلَايَةُ قَاصِرَةً لَكَانَ أَسْهَلَ تَأَتِّيًا، وَيَنْعَقِدُ بِحُضُورِ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ لِأَنَّهُ (مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ) عَلَى مَا مَرَّ (فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ تَحَمُّلًا) لَا أَدَاءً.
فَإِنْ قُلْت: النُّكْتَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْفَاسِقِ أَوَّلًا تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِلْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ شَهَادَةٌ مُتَعَدِّيَةٌ وَلَمْ تَكُنْ فَكَانَتْ مَنْقُوضَةً.
قُلْت: كَانَ كَذَلِكَ لَوْلَا النَّصُّ الْقَاطِعُ.
وَقَوْلُهُ (وَإِنَّمَا الْفَائِتُ ثَمَرَةُ الْأَدَاءِ بِالنَّهْيِ لِجَرِيمَتِهِ فَلَا يُبَالِي بِفَوَاتِهِ كَمَا فِي شَهَادَةِ الْعُمْيَانِ) مَعْذِرَةٌ عَنْ عَدَمِ قَبُولِ شَهَادَةِ الْمَحْدُودِ فِي قَذْفٍ بَعْدَمَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ كَالْفَاسِقِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَنْ السُّؤَالِ الَّذِي ذَكَرْته آنِفًا، وَالطَّرِيقُ الَّذِي ذَكَرْته فِي الْفَاسِقِ أَسْهَلُ مَأْخَذًا. قَالَ (وَإِنْ تَزَوَّجَ مُسْلِمٌ ذِمِّيَّةً بِشَهَادَةِ ذِمِّيَّيْنِ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ: لَا يَجُوزُ) لِأَنَّ السَّمَاعَ فِي النِّكَاحِ شَهَادَةٌ وَلَا شَهَادَةَ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ فَكَأَنَّهُمَا لَمْ يَسْمَعَا كَلَامَ الْمُسْلِمِ.
وَلَهُمَا أَنَّ الشَّهَادَةَ شُرِطَتْ فِي النِّكَاحِ عَلَى اعْتِبَارِ إثْبَاتِ الْمِلْكِ لِوُرُودِهِ عَلَى مَحَلِّ ذِي خَطَرٍ لَا عَلَى اعْتِبَارِ وُجُوبِ الْمَهْرِ إذْ لَا شَهَادَةَ تُشْتَرَطُ فِي لُزُومِ الْمَالِ وَهُمَا شَاهِدَانِ عَلَيْهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَسْمَعَا كَلَامَ الزَّوْجِ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَنْعَقِدُ بِكَلَامَيْهِمَا وَالشَّهَادَةُ شُرِطَتْ عَلَى الْعَقْدِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِنْ تَزَوَّجَ مُسْلِمٌ ذِمِّيَّةً بِشَهَادَةِ ذِمِّيَّيْنِ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ السَّمَاعَ) أَيْ سَمَاعَ كَلَامِ الْعَاقِدَيْنِ مِنْ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ (فِي النِّكَاحِ شَهَادَةٌ) وَهَذَا ظَاهِرٌ لِأَنَّا لَا نُرِيدُ مِنْ الشَّهَادَةِ عَلَى النِّكَاحِ إلَّا ذَلِكَ (وَلَا شَهَادَةَ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ) وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ (فَكَأَنَّهُمَا لَمْ يَسْمَعَا كَلَامَ الزَّوْجِ، وَلَهُمَا أَنَّ الشَّهَادَةَ، شُرِطَتْ فِي النِّكَاحِ عَلَى اعْتِبَارِ إثْبَاتِ الْمِلْكِ) وَتَرْكِيبُ الْحُجَّةِ، هَكَذَا الشَّهَادَةُ فِي النِّكَاحِ، شُرِطَتْ عَلَى اعْتِبَارِ إثْبَاتِ الْمِلْكِ عَلَيْهَا، وَكُلُّ مَا شُرِطَتْ عَلَى اعْتِبَارِ إثْبَاتِ الْمِلْكِ عَلَيْهَا شَهَادَةٌ عَلَيْهَا فَالشَّهَادَةُ فِي النِّكَاحِ شَهَادَةٌ عَلَيْهَا.
وَبَيَّنَ الْمُصَنِّفُ الْمُقَدِّمَةَ الْأُولَى بِقَوْلِهِ (لِوُرُودِهِ عَلَى مَحَلٍّ ذِي خَطَرٍ).
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الشَّهَادَةَ فِي النِّكَاحِ حَالَ الِانْعِقَادِ، إمَّا أَنْ تَكُونَ لِإِثْبَاتِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ عَلَيْهَا إبَانَةً لِخَطَرِ الْمَحَلِّ، أَوْ لِإِثْبَاتِ مِلْكِ الْمَهْرِ عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي مُنْتَفٍ لِأَنَّ الْمَهْرَ مَالٌ وَلَا يَجِبُ الْإِشْهَادُ عَلَى لُزُومِ الْمَالِ أَصْلًا، وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ فَلِأَنَّا قَدْ عَلِمْنَا بِالِاسْتِقْرَاءِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ يُشْتَرَطُ فِي إثْبَاتِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ عَلَيْهَا إلَّا الشَّهَادَةُ، فَإِنَّ الْوَلِيَّ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا، وَإِذَا كَانَتْ الشَّهَادَةُ حَالَ انْعِقَادِ النِّكَاحِ شَهَادَةٌ عَلَيْهَا كَانَ الذِّمِّيَّانِ شَاهِدَيْنِ عَلَيْهَا، وَشَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الذِّمِّيَّةِ جَائِزَةٌ.
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَسْمَعَا) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الشَّهَادَةَ فِي النِّكَاحِ شَرْطٌ عَلَى الْعَقْدِ وَالْعَقْدُ يَنْعَقِدُ بِكَلَامَيْهِمَا، فَإِذَا لَمْ يَسْمَعَا كَلَامَ الْمُسْلِمِ لَمْ يَشْهَدَا عَلَى الْعَقْدِ قَالَ (وَمَنْ أَمَرَ رَجُلًا بِأَنْ يُزَوِّجَ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ فَزَوَّجَهَا وَالْأَبُ حَاضِرٌ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ سِوَاهُمَا جَازَ النِّكَاحُ) لِأَنَّ الْأَبَ يُجْعَلُ مُبَاشِرًا لِلْعَقْدِ لِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ وَيَكُونُ الْوَكِيلُ سَفِيرًا وَمُعَبِّرًا فَيَبْقَى الْمُزَوِّجُ شَاهِدًا (وَإِنْ كَانَ الْأَبُ غَائِبًا لَمْ يَجُزْ) لِأَنَّ الْمَجْلِسَ مُخْتَلِفٌ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَجْعَلَ الْأَبَ مُبَاشِرًا، وَعَلَى هَذَا إذَا زَوَّجَ الْأَبُ ابْنَتَهُ الْبَالِغَةَ بِمَحْضَرِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ إنْ كَانَتْ حَاضِرَةً جَازَ، وَإِنْ كَانَتْ غَائِبَةً لَمْ يَجُزْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
(وَمَنْ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ فَزَوَّجَهَا) بِحَضْرَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْأَبُ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا، فَإِنْ كَانَ حَاضِرًا (جَازَ النِّكَاحُ لِأَنَّ الْأَبَ يُجْعَلُ مُبَاشِرًا لِلْعَقْدِ وَيَكُونُ الْوَكِيلُ) شَاهِدًا لِأَنَّ الْمَجْلِسَ مُتَّحِدٌ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ الْوَاقِعُ مِنْ الْمَأْمُورِ حَقِيقَةً كَالْوَاقِعِ مِنْ الْآمِرِ حُكْمًا لِكَوْنِ الْوَكِيلِ فِي بَابِ النِّكَاحِ (سَفِيرًا وَمُعَبِّرًا، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ مُخْتَلِفٌ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْأَبُ مُبَاشِرًا) مَعَ عَدَمِ حُضُورِهِ فِي مَجْلِسِ الْمُبَاشَرَةِ.
قَالَ فِي النِّهَايَةِ: هَذَا تَكَلُّفٌ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِأَنَّ الْأَبَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا فِي بَابِ النِّكَاحِ فَلَا حَاجَةَ إلَى نَقْلِ الْمُبَاشَرَةِ مِنْ الْمَأْمُورِ إلَى الْآمِرِ حُكْمًا، وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأَخِيرَةِ، وَهِيَ مَا (إذَا زَوَّجَ ابْنَتَهُ الْبَالِغَةَ بِمَحْضَرِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ كَانَتْ حَاضِرَةً جَازَ) بِنَقْلِ مُبَاشَرَةِ الْأَبِ إلَيْهَا لِعَدَمِ صَلَاحِيَّتِهَا لِلشَّهَادَةِ عَلَى نَفْسِهَا (وَإِنْ كَانَتْ غَائِبَةً لَمْ يَجُزْ) لِأَنَّ الشَّيْءَ إنَّمَا يَقْدِرُ أَنْ لَوْ تُصُوِّرَ تَحْقِيقًا.
وَأَقُولُ: أَرَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ فِي الِاحْتِيَاجِ إلَى ذَلِكَ التَّكَلُّفِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَبَ إذَا كَانَ حَاضِرًا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا فِي نِكَاحٍ أَمَرَهُ بِهِ، لِأَنَّ الْوَكِيلَ سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ فَكَأَنَّ الْأَبَ هُوَ الْمُزَوِّجُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُزَوِّجُ شَاهِدًا، وَإِذَا انْتَقَلَ إلَيْهِ الْمُبَاشَرَةُ أَيْضًا صَارَ هُوَ الْمُزَوِّجُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ شَاهِدًا، وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ مَا إذَا وَكَّلَ رَجُلًا أَنْ يُزَوِّجَ عَبْدَهُ فَزَوَّجَهُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَالْعَبْدُ حَاضِرٌ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ مَعَ إمْكَانِ جَعْلِ الْعَبْدِ مُبَاشِرًا لِلْعَقْدِ وَالْوَكِيلِ مَعَ الرَّجُلِ شَاهِدَيْنِ، كَمَا لَوْ بَاشَرَ الْمَوْلَى عَقْدَ تَزْوِيجِ الْعَبْدِ عِنْدَ حَضْرَةِ الْعَبْدِ مَعَ رَجُلٍ آخَرَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْعَبْدَ لَمْ يَكُنْ مُوَكِّلًا حَتَّى تَنْتَقِلَ مُبَاشَرَةُ الْوَكِيلِ إلَيْهِ وَيَبْقَى شَاهِدًا فَبَقِيَ الْوَكِيلُ عَلَى حَالِهِ مُزَوِّجًا، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاشَرَهُ الْمَوْلَى بِحَضْرَةِ الْعَبْدِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ هُنَاكَ يُجْعَلُ مُبَاشِرًا لِلنِّكَاحِ بِنَفْسِهِ وَالْمَوْلَى شَاهِدًا فَيَكُونُ النِّكَاحُ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ.
لَا يُقَالُ: الْمَوْلَى لَيْسَ بِوَكِيلٍ عَنْ الْعَبْدِ فَكَيْفَ تَنْتَقِلُ مُبَاشَرَتُهُ إلَيْهِ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمَّا كَانَ لَهُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُوَكِّلِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ غَائِبًا لِعَدَمِ إمْكَانِهِ مُبَاشِرًا لِمَا قُلْنَا إنَّ الشَّيْءَ إنَّمَا يُقَدَّرُ أَنْ لَوْ تُصُوِّرَ تَحْقِيقًا.

.(فَصْلٌ فِي بَيَانِ الْمُحَرَّمَاتِ):

قَالَ (لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُمِّهِ وَلَا بِجَدَّاتِهِ مِنْ قِبَلِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} وَالْجَدَّاتُ أُمَّهَاتٌ، إذْ الْأُمُّ هِيَ الْأَصْلُ لُغَةً أَوْ ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُنَّ بِالْإِجْمَاعِ، قَالَ (وَلَا بِبِنْتِهِ) لِمَا تَلَوْنَا (وَلَا بِبِنْتِ وَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَتْ) لِلْإِجْمَاعِ.
الشَّرْحُ:
فَصْلٌ: فِي بَيَانِ الْمُحَرَّمَاتِ.
لَمَّا كَانَتْ مِنْ بَنَاتِ آدَمَ مَنْ أَخْرَجَهَا اللَّهُ عَنْ مَحَلِّيَّةِ النِّكَاحِ بِالنِّسْبَةِ إلَى بَعْضِ بَنِي آدَمَ احْتَاجَ إلَى ذِكْرِهَا فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ.
وَأَسْبَابُ حُرْمَتِهِنَّ تَتَنَوَّعُ إلَى تِسْعَةِ أَنْوَاعٍ: الْقَرَابَةُ، وَالْمُصَاهَرَةُ، وَالرَّضَاعُ، وَالْجَمْعُ، وَتَقْدِيمُ الْحُرَّةِ عَلَى الْأَمَةِ، وَقِيَامُ حَقِّ الْغَيْرِ مِنْ نِكَاحٍ أَوْ عِدَّةٍ، وَالشِّرْكُ، وَمِلْكُ الْيَمِينِ، وَالطَّلْقَاتُ الثَّلَاثُ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ (لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُمِّهِ وَلَا بِجَدَّاتِهِ مِنْ قِبَلِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} وَدَلَالَتُهُ عَلَى حُرْمَةِ الْأُمِّ ظَاهِرَةٌ.
وَأَمَّا عَلَى حُرْمَةِ الْجَدَّةِ فَبِاعْتِبَارِ أَنَّ الْأُمَّ فِي اللُّغَةِ هِيَ الْأَصْلُ كَمَا يُقَالُ لِمَكَّةَ أُمُّ الْقُرَى، فَتَكُونُ دَلَالَتُهَا عَلَيْهِمَا بِاعْتِبَارِ مَعْنًى يَعُمُّهُمَا لُغَةً لَا بِاعْتِبَارِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ أَوْ ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُنَّ بِالْإِجْمَاعِ) وَهَذَانِ الْمَسْلَكَانِ يُسْلَكُ بِهِمَا فِي كُلِّ مَا فِيهِ مَعْنَى الْفَرْعِيَّةِ أَيْضًا كَالْبَنَاتِ وَبَنَاتِهَا وَبَنَاتُ الِابْنِ بَنَاتٌ كَذَلِكَ، وَالْأُخْتُ وَبَنَاتُهَا وَبَنَاتُ الْأَخِ وَالْعَمَّاتُ وَالْخَالَاتُ مُتَفَرِّقَةٌ كُنَّ أَوْ غَيْرُهَا تَنَاوَلَهَا النَّصُّ بِجِهَةِ عُمُومِ الِاسْمِ، هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَرَابَةِ. (وَلَا بِأُخْتِهِ وَلَا بِبَنَاتِ أُخْتِهِ وَلَا بِبَنَاتِ أَخِيهِ وَلَا بِعَمَّتِهِ وَلَا بِخَالَتِهِ) لِأَنَّ حُرْمَتَهُنَّ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَتَدْخُلُ فِيهَا الْعَمَّاتُ الْمُتَفَرِّقَاتُ وَالْخَالَاتُ الْمُتَفَرِّقَاتُ وَبَنَاتُ الْإِخْوَةِ الْمُتَفَرِّقِينَ لِأَنَّ جِهَةَ الِاسْمِ عَامَّةٌ. قَالَ (وَلَا بِأُمِّ امْرَأَتِهِ الَّتِي دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} مِنْ غَيْرِ قَيْدِ الدُّخُولِ.
الشَّرْحُ:
وَتَحْرُمُ أُمُّ امْرَأَتِهِ إنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا أَوْ لَمْ تَكُنْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ بِالدُّخُولِ. (وَلَا بِبِنْتِ امْرَأَتِهِ الَّتِي دَخَلَ بِهَا) لِثُبُوتِ قَيْدِ الدُّخُولِ بِالنَّصِّ (سَوَاءً كَانَتْ فِي حِجْرِهِ أَوْ فِي حِجْرِ غَيْرِهِ) لِأَنَّ ذِكْرَ الْحِجْرِ خَرَجَ مَخْرَجَ الْعَادَةِ لَا مَخْرَجَ الشَّرْطِ وَلِهَذَا اكْتَفَى فِي مَوْضِعِ الْإِحْلَالِ بِنَفْيِ الدُّخُولِ.
الشَّرْحُ:
وَتَحْرُمُ بِنْتُ امْرَأَتِهِ الَّتِي دَخَلَ بِهَا لِثُبُوتِ قَيْدِ الدُّخُولِ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} وَلَيْسَ كَوْنُهَا فِي الْحِجْرِ شَرْطًا.
(قَالَ الْمُصَنِّفُ لِأَنَّ ذِكْرَ الْحِجْرِ) يَعْنِي فِي قَوْله تَعَالَى {وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} (خَرَجَ مَخْرَجَ الْعَادَةِ) فَإِنَّ الْعَادَةَ أَنْ تَكُونَ الْبَنَاتُ فِي حِجْرِ زَوْجِ أُمِّهَا غَالِبًا: أَيْ فِي تَرْبِيَتِهَا لَا عَلَى وَجْهِ الشَّرْطِ، وَاسْتَوْضَحَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ (وَلِهَذَا اكْتَفَى فِي مَوْضِعِ الْإِحْلَالِ بِنَفْيِ الدُّخُولِ) وَلَمْ يَشْتَرِطْ نَفْيَ الدُّخُولِ مَعَ نَفْيِ الْحِجْرِ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ: فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ وَلَسْنَ فِي حُجُورِكُمْ، فَإِنَّ الْإِبَاحَةَ تَتَعَلَّقُ بِضِدِّ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُرْمَةُ.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْحُرْمَةُ مُتَعَلِّقَةً بِعِلَّةٍ ذَاتِ وَصْفَيْنِ، وَهُمَا الدُّخُولُ، وَالْحِجْرُ.
ثُمَّ تَنْتَفِي الْحُرْمَةُ بِانْتِفَاءِ أَحَدِهِمَا لِأَنَّ الشَّيْءَ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ الْجُزْءِ، فَلَمْ يَكُنْ ثُبُوتُ الْإِبَاحَةِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الدُّخُولِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْحُرْمَةَ غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِالْحِجْرِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْعَادَةَ فِي مِثْلِهِ نَفْيُ الْوَصْفَيْنِ جَمِيعًا أَوْ نَفْيُ الْعِلَّةِ مُطْلَقًا، لَا نَفْيُ أَحَدِهِمَا وَالسُّكُوتُ عَنْ الْآخَرِ.
لَا يُقَالُ: لَا يَجْرِي حُكْمُ الرِّبَا وَهُوَ حُرْمَةُ الْفَضْلِ وَالنَّسِيئَةِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْبَدَلَيْنِ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ الْجِنْسِيَّةُ أَوْ لَمْ يُوجَدْ الْقَدْرُ، بَلْ يُقَالُ: لَمْ يُوجَدْ الْقَدْرُ مَعَ الْجِنْسِ، أَوْ يُقَالُ: لَمْ تُوجَدْ عِلَّةُ الرِّبَا وَلَيْسَ بِقَوِيٍّ، (قَالَ وَلَا بِامْرَأَةِ أَبِيهِ وَأَجْدَادِهِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ}
الشَّرْحُ:
وَتَحْرُمُ امْرَأَةُ أَبِيهِ وَأَجْدَادِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ} فَإِنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى الْأَبِ ظَاهِرَةٌ وَعَلَى الْجَدِّ بِأَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَبِ الْأَصْلُ فَيَتَنَاوَلُ الْآبَاءُ الْأَجْدَادَ كَمَا تَتَنَاوَلُ الْأُمُّ الْجَدَّاتِ، وَإِمَّا بِالْإِجْمَاعِ.
وَأَمَّا الْمُرَادُ بِالنِّكَاحِ إنْ كَانَ هُوَ الْوَطْءُ فَيَكُونُ الْعَقْدُ ثَابِتًا بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْعَقْدَ فَالْوَطْءُ ثَابِتٌ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. (وَلَا بِامْرَأَةِ ابْنِهِ وَبَنِي أَوْلَادِهِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} وَذَكَرَ الْأَصْلَابَ لِإِسْقَاطِ اعْتِبَارِ التَّبَنِّي لَا لِإِحْلَالِ حَلِيلَةِ الِابْنِ مِنْ الرَّضَاعَةِ.
الشَّرْحُ:
وَتَحْرُمُ امْرَأَةُ الِابْنِ نَسَبًا وَرَضَاعًا وَبَنِي أَوْلَادِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} فَحَلِيلَةُ الِابْنِ وَهِيَ زَوْجَتُهُ حَرَامٌ عَلَى الْأَبِ سَوَاءٌ دَخَلَ بِهَا الِابْنُ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ لِإِطْلَاقِ النَّصِّ عَلَى الدُّخُولِ، وَأَمَّا حَلِيلَةُ ابْنِ الِابْنِ فَبِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالِابْنِ هُوَ الْفَرْعُ فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَحَلَائِلُ فُرُوعِكُمْ، وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ حَلِيلَةَ ابْنِ الِابْنِ وَابْنِ الْبِنْتِ بِعُمُومِهِ أَوْ بِالْإِجْمَاعِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْله تَعَالَى {مِنْ أَصْلَابِكُمْ} يَأْبَى ذَلِكَ.
أَجَابَ بِأَنَّ (ذِكْرَ الْأَصْلَابِ لِإِسْقَاطِ اعْتِبَارِ التَّبَنِّي لَا لِإِحْلَالِ حَلِيلَةِ الِابْنِ مِنْ الرَّضَاعَةِ) وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ التَّبَنِّي انْتَسَخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} وَقِصَّتُهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَنَّى زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ ثُمَّ تَزَوَّجَ زَيْنَبَ بَعْدَمَا طَلَّقَهَا زَيْدٌ، فَطَعَنَ الْمُشْرِكُونَ وَقَالُوا: إنَّهُ تَزَوَّجَ حَلِيلَةَ ابْنِهِ، فَنَسَخَ اللَّهُ التَّبَنِّي بِقَوْلِهِ {اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} وَدَفَعَ طَعْنَ الْمُشْرِكِينَ بِهَذَا التَّقْيِيدِ فَبَقِيَتْ حَلِيلَةُ الِابْنِ مِنْ الرَّضَاعِ دَاخِلَةً تَحْتَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» وَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ مِنْ التَّحْرِيمِ بِالْمُصَاهَرَةِ. (وَلَا بِأُمِّهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَلَا بِأُخْتِهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ} وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ».
الشَّرْحُ:
وَتَحْرُمُ أُمُّ الرَّجُلِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَأُخْتُهُ مِنْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ} وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالرَّضَاعِ. (وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَ أُخْتَيْنِ نِكَاحًا وَلَا بِمِلْكِ يَمِينٍ وَطْئًا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَجْمَعَنَّ مَاءَهُ فِي رَحِمِ أُخْتَيْنِ».
الشَّرْحُ:
وَيَحْرُمُ أَنْ يَجْمَعَ الرَّجُلُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِنِكَاحٍ أَوْ بِمِلْكِ يَمِينٍ وَطْئًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَسَرَى حُكْمُهُمَا إلَى كُلِّ امْرَأَتَيْنِ لَوْ فُرِضَتْ إحْدَاهُمَا ذِكْرًا حَرُمَتْ الْأُخْرَى عَلَيْهِ بِعِلَّةِ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ سَوَاءٌ كَانَ فِي النَّسَبِ أَوْ الرَّضَاعِ. (فَإِنْ تَزَوَّجَ أُخْت أَمَةٍ لَهُ قَدْ وَطِئَهَا صَحَّ النِّكَاحُ) لِصُدُورِهِ مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحِلِّهِ (وَ) إذَا جَازَ (لَا يَطَأُ الْأَمَةَ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَطَأْ الْمَنْكُوحَةَ) لِأَنَّ الْمَنْكُوحَةَ مَوْطُوءَةٌ حُكْمًا، وَلَا يَطَأُ الْمَنْكُوحَةَ لِلْجَمْعِ إلَّا إذَا حَرَّمَ الْمَوْطُوءَةَ عَلَى نَفْسِهِ لِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ فَحِينَئِذٍ يَطَأُ الْمَنْكُوحَةَ لِعَدَمِ الْجَمْعِ، وَيَطَأُ الْمَنْكُوحَةَ إنْ لَمْ يَكُنْ وَطِئَ الْمَمْلُوكَةَ لِعَدَمِ الْجَمْعِ وَطْئًا إذْ الْمَرْقُوقَةُ لَيْسَتْ مَوْطُوءَةً حُكْمًا.
الشَّرْحُ:
وَمَنْ لَهُ أَمَةٌ فَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا جَازَ، سَوَاءٌ كَانَ وَطِئَ الْأَمَةَ أَوْ لَمْ يَطَأْهَا لِأَنَّهُ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ وَهُوَ وَاضِحٌ (مُضَافًا إلَى مَحَلِّهِ) لِأَنَّ الْأُخْتَ الْمَمْلُوكَةَ وَطْؤُهَا مِنْ بَابِ الِاسْتِخْدَامِ، وَهُوَ لَا يَمْنَعُ نِكَاحَ الْأُخْتِ، ثُمَّ إنْ كَانَ وَطِئَ الْأَمَةَ لَا يَطَؤُهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَطَأْ الْمَنْكُوحَةَ بَعْدُ لِأَنَّ الْمَنْكُوحَةَ مَوْطُوءَةٌ حُكْمًا فَوَطْءُ الْأَمَةِ يَكُونُ جَمْعًا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِوَطْءِ أَحَدِهِمَا حَقِيقَةً وَالْأُخْرَى حُكْمًا.
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ النِّكَاحَ لَوْ كَانَ قَائِمًا مَقَامَ الْوَطْءِ حَتَّى تَصِيرَ الْمَنْكُوحَةُ مَوْطُوءَةً حُكْمًا وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ هَذَا النِّكَاحُ كَيْ لَا يَصِيرَ جَامِعًا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَطْئًا كَمَا قَالَ بِهِ مَالِكٌ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ نَفْسَ النِّكَاحِ لَيْسَ بِوَطْءٍ حَتَّى يَصِيرَ بِهِ جَامِعًا بَيْنَهُمَا، وَإِنَّمَا يَصِيرُ وَطْئًا بَعْدَ ثُبُوتِ حُكْمِهِ وَهُوَ حِلُّ الْوَطْءِ فَلَا يَكُونُ وَطْءُ الْأَمَةِ مَانِعًا عَنْ النِّكَاحِ (وَلَا يَطَأُ الْمَنْكُوحَةَ) أَيْضًا (لِلْجَمْعِ) بَيْنَهُمَا (إلَّا إذَا حَرَّمَ الْمَوْطُوءَةَ عَلَى نَفْسِهِ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ) كَالْبَيْعِ وَالتَّزْوِيجِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَطْءَ قَائِمٌ حُكْمًا، حَتَّى لَوْ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ يُسْتَحَبُّ لَهُ الِاسْتِبْرَاءُ فَيَصِيرَ جَامِعًا بَيْنَهُمَا وَطْئًا حَقِيقَةً، وَبِالتَّحْرِيمِ عَلَى نَفْسِهِ يَبْطُلُ حُكْمُ ذَلِكَ الْوَطْءِ لِزَوَالِ مَعْنَى اشْتِغَالِ رَحِمِهَا بِمَائِهِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَحِلُّ لِزَوْجِهَا أَنْ يَغْشَاهَا فَيَحِلَّ لَهُ أَنْ يَطَأَ الْمَنْكُوحَةَ حِينَئِذٍ لِعَدَمِ الْجَمْعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَطِئَ الْمَمْلُوكَةَ جَازَ لَهُ أَنْ يَطَأَ الْمَنْكُوحَةَ لِعَدَمِ الْجَمْعِ وَطْئًا إذْ الْمَرْقُوقَةُ لَيْسَتْ مَوْطُوءَةً حُكْمًا. (فَإِنْ تَزَوَّجَ أُخْتَيْنِ فِي عُقْدَتَيْنِ وَلَا يَدْرِي أَيَّتَهمَا أُولَى فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا) لِأَنَّ نِكَاحَ إحْدَاهُمَا بَاطِلٌ بِيَقِينٍ، وَلَا وَجْهَ إلَى التَّعْيِينِ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ وَلَا إلَى التَّنْفِيذِ مَعَ التَّجْهِيلِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ أَوْ لِلضَّرَرِ فَتَعَيَّنَ التَّفْرِيقُ (وَلَهُمَا نِصْفُ الْمَهْرِ) لِأَنَّهُ وَجَبَ لِلْأُولَى مِنْهُمَا، وَانْعَدَمَتْ الْأَوْلَوِيَّةُ لِلْجَهْلِ بِالْأَوَّلِيَّةِ فَيُصْرَفُ إلَيْهِمَا، وَقِيلَ لابد مِنْ دَعْوَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَنَّهَا الْأُولَى أَوْ الِاصْطِلَاحِ لِجَهَالَةِ الْمُسْتَحِقَّةِ.
الشَّرْحُ:
قَوْلُهُ (فَإِنْ تَزَوَّجَ أُخْتَيْنِ فِي عُقْدَتَيْنِ وَلَا يَدْرِي أَيَّتَهمَا أَوْلَى فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا) قَيَّدَ بِعُقْدَتَيْنِ، لِأَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَهُمَا بِعَقْدٍ وَاحِدٍ كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فَلَا يَسْتَحِقَّانِ شَيْئًا مِنْ الْمَهْرِ، وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ وَلَا يَدْرِي أَيَّتَهُمَا أَوْلَى لِأَنَّهُ لَوْ عَلِمَ بِذَلِكَ بَطَلَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ نِكَاحَ إحْدَاهُمَا بَاطِلٌ بِيَقِينٍ) يَعْنِي مَنْ كَانَتْ أُخْرَى فِي الْوَاقِعِ (وَلَا وَجْهَ إلَى التَّعْيِينِ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ وَلَا إلَى التَّنْفِيذِ) يَعْنِي إلَى تَصْحِيحِهِ فِي إحْدَاهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهَا (لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ) وَهِيَ حِلُّ الْقُرْبَانِ لِلزَّوْجِ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ مَعَ الْجَهَالَةِ (أَوْ لِلضَّرَرِ) يَعْنِي فِي حَقِّهِمَا لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَبْقَى مُعَلَّقَةً لَا ذَاتَ بَعْلٍ وَلَا مُطَلَّقَةً (فَتَعَيَّنَ التَّفْرِيقُ) وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ مَا إذَا كَانَ لِرَجُلٍ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَطَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ بِعَيْنِهَا ثُمَّ نَسِيَهَا فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ وَلَا يُفَرَّقُ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْفَارِقَ تَمَكُّنُ الزَّوْجِ ثَمَّةَ مِنْ دَعْوَى ثَلَاثٍ مِنْهُنَّ بِأَعْيَانِهَا، لِأَنَّ نِكَاحَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ كَانَ ثَابِتًا بِيَقِينٍ، وَلَيْسَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ نِكَاحِهِمَا كَذَلِكَ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ دَعْوَى النِّكَاحِ فِي إحْدَاهُمَا تَمَسُّكًا بِالْيَقِينِ فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا.
وَقَوْلُهُ (وَلَهُمَا نِصْفُ الْمَهْرِ) يَعْنِي بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ (لِأَنَّهُ وَجَبَ الْأَوْلَى مِنْهُمَا) أَمَّا أَنَّهُ وَجَبَ فَلِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بِسَبَبٍ مُضَافٍ إلَى الزَّوْجِ وَهُوَ التَّجْهِيلُ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْمَهْرَ أَلْبَتَّةَ، وَأَمَّا أَنَّهُ لِلْأُولَى فَلِأَنَّ نِكَاحَهَا صَحِيحٌ دُونَ الْأُخْرَى، وَتَقْرِيرُ كَلَامِهِ الْمَهْرُ لِلْأُولَى مِنْهُمَا لِمَا قُلْنَا وَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا لِكَوْنِهَا أُولَى أَوْلَى (لِلْجَهْلِ بِالْأَوْلَوِيَّةِ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالْأَوَّلِيَّةِ (فَيُصْرَفُ إلَيْهِمَا) وَقَوْلُهُ (وَقِيلَ لابد مِنْ دَعْوَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا) قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ: لابد أَنْ تَدَّعِيَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَنَّهَا هِيَ الْأُولَى، وَأَمَّا إذَا قَالَتْ لَا نَدْرِي أَيَّ النِّكَاحَيْنِ كَانَ أَوَّلًا لَا يُقْضَى لَهُمَا بِشَيْءٍ حَتَّى يَصْطَلِحَا، لِأَنَّ الْحَقَّ لِلْمَجْهُولَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ الدَّعْوَى أَوْ الِاصْطِلَاحِ لِيَقْضِيَ لَهُمَا: وَصُورَةُ هَذَا الِاصْطِلَاحِ أَنْ يَقُولَا عِنْدَ الْقَاضِي: لَنَا عَلَيْهِ الْمَهْرُ وَهَذَا الْحَقُّ لَا يَعْدُونَا فَنَصْطَلِحَ عَلَى أَخْذِ نِصْفِ الْمَهْرِ فَيَقْضِي الْقَاضِي. (وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا أَوْ ابْنَةِ أَخِيهَا أَوْ ابْنَةِ أُخْتِهَا) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا وَلَا عَلَى ابْنَةِ أَخِيهَا وَلَا عَلَى ابْنَةِ أُخْتِهَا» وَهَذَا مَشْهُورٌ، يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْكِتَابِ بِمِثْلِهِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا أَوْ ابْنَةِ أَخِيهَا أَوْ ابْنَةِ أُخْتِهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا وَلَا عَلَى ابْنَةِ أَخِيهَا وَلَا عَلَى ابْنَةِ أُخْتِهَا») رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ.
وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ أَنَّهُ رَوَاهُ عَلِيٌّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو سَعِيدٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو وَأَبُو أُمَامَةَ وَجَابِرٌ وَعَائِشَةُ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَسَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ (وَهُوَ مَشْهُورٌ) تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ وَالْعَمَلِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا فَائِدَةُ التَّكْرَارِ لِحُكْمٍ وَاحِدٍ بِصِفَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ فِي مَوْضِعَيْنِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا هُوَ أَنْ لَا يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فِي النِّكَاحِ، ثُمَّ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا هُوَ عَيْنُ جَمْعِ الْمَرْأَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ بِنْتِ أَخِيهَا، وَكَذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا هُوَ عَيْنُ الْجَمْعِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ ابْنَةِ أُخْتِهَا.
أُجِيبَ بِأَنَّ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيَّ قَالَ: ذُكِرَ هَذَا النَّفْيُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، إمَّا لِلْمُبَالَغَةِ فِي بَيَانِ التَّحْرِيمِ، أَوْ لِإِزَالَةِ الْإِشْكَالِ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ نِكَاحَ ابْنَةِ الْأَخِ عَلَى الْعَمَّةِ لَا يَجُوزُ، وَنِكَاحَ الْعَمَّةِ عَلَى ابْنَةِ الْأَخِ يَجُوزُ لِتَفْضِيلِ الْعَمَّةِ، كَمَا لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ وَيَجُوزُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ عَلَى الْأَمَةِ، فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُبُوتَ هَذِهِ الْحُرْمَةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ لِإِزَالَةِ الْإِشْكَالِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: فِي عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ تَسَامُحٌ لِأَنَّهُ قَالَ: وَهَذَا مَشْهُورٌ (تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْكِتَابِ بِمِثْلِهِ) وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ إنَّمَا تُسْتَعْمَلُ فِي تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ عَلَى مَا لَا يَخْفَى عَلَى الْمُحَصِّلِينَ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} عَامٌّ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يُخَصِّصُهُ.
سَلَّمْنَا جَوَازَ الِاصْطِلَاحِ عَلَى تَخْصِيصِ الْعَامِّ بِالزِّيَادَةِ، لَكِنَّ شَرْطَ التَّخْصِيصِ الْمُقَارَنَةُ عِنْدَنَا أَوَّلًا وَلَيْسَتْ بِمَعْلُومَةٍ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْكِتَابِ نَسْخٌ أَخَصُّ فَيَجُوزُ ذِكْرُهُ وَإِرَادَةُ مُطْلَقِ النَّسْخِ لِأَنَّ ذِكْرَ الْأَخَصِّ وَإِرَادَةَ الْأَعَمِّ مَجَازٌ شَائِعٌ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ يَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِهِ، وَلَا نِزَاعَ فِي ذَلِكَ لاسيما أَنَّهُ تَطَرَّقَ إلَيْهَا الِاحْتِمَالُ بِالنَّسْخِ مَرَّةً فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} نَسْخُ عُمُومٍ قَوْله تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} بِتَقْدِيرِهِ مُتَأَخِّرًا لِئَلَّا يَتَكَرَّرَ النَّسْخُ، فَجَازَ أَنْ يُنْسَخَ بِخَبَرٍ مَشْهُودٍ مَا تَنَاوَلَهُ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ، وَلَا بَأْسَ بِمُطَالَعَةِ مَا فِي النِّهَايَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ كَلَامِ الْمَهَرَةِ الْحُذَّاقِ الْمُتْقِنِينَ إنْ كَانَتْ الْقَوَاعِدُ الْأُصُولِيَّةُ عَلَى ذِكْرٍ مِنْك. (وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ لَوْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا رَجُلًا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْأُخْرَى) لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا يُفْضِي إلَى الْقَطِيعَةِ وَالْقَرَابَةُ الْمُحَرِّمَةُ لِلنِّكَاحِ مُحَرِّمَةٌ لِلْقَطْعِ، وَلَوْ كَانَتْ الْمَحْرَمِيَّةُ بَيْنَهُمَا بِسَبَبِ الرَّضَاعِ يَحْرُمُ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ لَوْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا رَجُلًا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْأُخْرَى) ظَاهِرٌ، وَهُوَ حُكْمٌ ثَابِتٌ بِدَلَالَةِ الْحَدِيثِ الَّذِي كَانَ بَحْثُنَا فِيهِ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا مُحَرَّمٌ لِإِفْضَائِهِ إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ الْقَطْعِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، وَلَا عَلَيْك أَنْ تَجْعَلَهُ ثَابِتًا بِدَلَالَةِ قَوْله تَعَالَى {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} كَمَا قَدَّمْته وَهُوَ أَوْلَى.
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ كَانَتْ الْمَحْرَمِيَّةُ بَيْنَهُمَا بِسَبَبِ الرَّضَاعِ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (لِمَا رَوَيْنَا) إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ» الْحَدِيثَ. (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ امْرَأَةٍ وَبِنْتِ زَوْجٍ كَانَ لَهَا مِنْ قَبْلُ) لِأَنَّهُ لَا قَرَابَةَ بَيْنَهُمَا وَلَا رَضَاعَ.
وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ ابْنَةَ الزَّوْجِ لَوْ قَدَّرْتَهَا ذَكَرًا لَا يَجُوزُ لَهُ التَّزَوُّجُ بِامْرَأَةِ أَبِيهِ.
قُلْنَا: امْرَأَةُ الْأَبِ لَوْ صَوَّرْتَهَا ذَكَرًا جَازَ لَهُ التَّزَوُّجُ بِهَذِهِ وَالشَّرْطُ أَنْ يُصَوَّرَ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ امْرَأَةٍ) ظَاهِرٌ، وَنُسِبَ فِي الْمَبْسُوطِ قَوْلُ زُفَرَ هَذَا إلَى ابْنِ أَبِي لَيْلَى.
وَقَوْلُهُ (وَالشَّرْطُ أَنْ يُصَوَّرَ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ) يَعْنِي كَمَا كَانَ فِي الْأُخْتَيْنِ كَذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ فَرْعٌ عَلَيْهِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْفَرْعُ عَلَى وِفَاقِ الْأَصْلِ.
وَقَدْ صَحَّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ جَمَعَ بَيْنَ امْرَأَةِ عَلِيٍّ وَبِنْتِهِ، وَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّحْرِيمِ بِسَبَبِ الْجَمْعِ. قَالَ (وَمَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَبِنْتُهَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الزِّنَا لَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ لِأَنَّهَا نِعْمَةٌ فَلَا تُنَالُ بِالْمَحْظُورِ.
وَلَنَا أَنَّ الْوَطْءَ سَبَبُ الْجُزْئِيَّةِ بِوَاسِطَةِ الْوَلَدِ حَتَّى يُضَافَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَلًا فَتَصِيرُ أُصُولُهَا وَفُرُوعُهَا كَأُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ وَكَذَلِكَ عَلَى الْعَكْسِ، وَالِاسْتِمْتَاعُ بِالْجُزْءِ حَرَامٌ إلَّا فِي مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ وَهِيَ الْمَوْطُوءَةُ، وَالْوَطْءُ مُحَرَّمٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ سَبَبُ الْوَلَدِ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ زِنًا.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَابْنَتُهَا) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ الْحُرْمَةِ بِسَبَبِ الْجَمْعِ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الزِّنَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ أَوَّلًا وَذَكَرَ الْخِلَافَ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الزِّنَا لَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ لِأَنَّهَا نِعْمَةٌ) فَإِنَّهَا تُلْحِقُ الْأَجْنَبِيَّاتِ بِالْمَحَارِمِ، وَكُلُّ مَا هُوَ نِعْمَةٌ لَا يُنَالُ بِالْمَحْظُورِ لِانْتِفَاءِ الْمُنَاسَبَةِ الْوَاجِبَةِ بَيْنَ الْحُكْمِ وَسَبَبِهِ (وَلَنَا أَنَّ الْوَطْءَ سَبَبُ الْجُزْئِيَّةِ) وَتَقْرِيرُهُ: الْوَلَدُ جُزْءُ مَنْ هُوَ مِنْ مَائِهِ وَالِاسْتِمْتَاعُ بِالْجُزْءِ حَرَامٌ: أَمَّا أَنَّ الْوَلَدَ جُزْءُ مَنْ هُوَ مِنْهُ فَلِأَنَّ سَبَبَ الْجُزْئِيَّةِ مَوْجُودٌ وَهُوَ الْوَطْءُ فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِلْجُزْئِيَّةِ بَيْنَ الْوَالِدَيْنِ وَالْوَلَدِ لَا مَحَالَةَ، وَكَذَا بَيْنَ الْوَالِدَيْنِ بِسَبَبِ الْوَلَدِ (حَتَّى يُضَافَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَلًا) يُقَالُ ابْنُ فُلَانٍ وَابْنُ فُلَانَةَ (فَتَصِيرُ أُصُولُهَا وَفُرُوعُهَا كَأُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ) وَتَصِيرُ أُصُولُهُ وَفُرُوعُهُ كَأُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَتْ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةً فِي نَفْسِ الْمَرْأَةِ الْمَوْطُوءَةِ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ جُزْءُ الْوَاطِئِ.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَالِاسْتِمْتَاعُ بِالْجُزْءِ حَرَامٌ إلَّا فِي مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ وَهِيَ الْمَوْطُوءَةُ) لِأَنَّهَا لَوْ قِيلَ بِحُرْمَتِهَا لَمْ تَحِلَّ امْرَأَةٌ بَعْدَمَا وَلَدَتْ لِزَوْجِهَا وَعَادَ النِّكَاحُ عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْضِ لِأَنَّهُ مَا شُرِعَ إلَّا لِلتَّوَالُدِ، فَلَوْ حَرُمَتْ بِالْوِلَادَةِ لَكَانَ مَا وُضِعَ لِلْوِلَادَةِ يَنْتَفِي بِهَا فِيهِمَا وَذَلِكَ خَلَفٌ بَاطِلٌ، وَأَمَّا أَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ بِالْجُزْءِ حَرَامٌ فَلِأَنَّ أَوَّلَ الْإِنْسَانِ آدَم عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ بَنَاتُهُ فَهُوَ الْأَصْلُ فِي حُرْمَةِ الْجُزْءِ، وَاسْتَثْنَى مَوْضِعَ الضَّرُورَةِ وَهِيَ امْرَأَتُهُ.
وَقَوْلُهُ (وَالْوَطْءُ مُحَرَّمٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ سَبَبُ الْوَلَدِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ نِعْمَةٌ فَلَا تُنَالُ بِمَحْظُورٍ.
وَبَيَانُهُ أَنَّ الْوَطْءَ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِلْحُرْمَةِ مِنْ حَيْثُ ذَاتُهُ حَتَّى تُعْتَبَرَ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُكْمِ بِالْمَشْرُوعِيَّةِ، وَلَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ زِنًا وَإِنَّمَا هُوَ سَبَبٌ لَهَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ سَبَبٌ لِلْوَلَدِ أُقِيمَ مَقَامَهُ كَالسَّفَرِ مَعَ الْمَشَقَّةِ، وَلَا عُدْوَانَ وَلَا مَعْصِيَةَ لِلْمُسَبِّبِ الَّذِي هُوَ الْوَلَدُ لِعَدَمِ اتِّصَافِهِ بِذَلِكَ.
لَا يُقَالُ: وَلَدُ عِصْيَانٍ أَوْ عُدْوَانٍ وَالشَّيْءُ إذَا قَامَ مَقَامَ غَيْرِهِ يُعْتَبَرُ فِيهِ صِفَةُ أَصْلِهِ لَا صِفَةُ نَفْسِهِ كَالتُّرَابِ فِي التَّيَمُّمِ.