فصل: بَابُ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.بَابُ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ:

قَالَ: (الْإِجَارَةُ تُفْسِدُهَا الشُّرُوطُ كَمَا تُفْسِدُ الْبَيْعَ)؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَتِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَقْدٌ يُقَالُ وَيُفْسَخُ (وَالْوَاجِبُ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ أَجْرُ الْمِثْلِ لَا يُجَاوَزُ بِهِ الْمُسَمَّى) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: يَجِبُ بَالِغًا مَا بَلَغَ اعْتِبَارًا بِبَيْعِ الْأَعْيَانِ.
وَلَنَا أَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تَتَقَوَّمُ بِنَفْسِهَا بَلْ بِالْعَقْدِ لِحَاجَةِ النَّاسِ فَيُكْتَفَى بِالضَّرُورَةِ فِي الصَّحِيحِ مِنْهَا، إلَّا أَنَّ الْفَاسِدَ تَبَعٌ لَهُ، وَيُعْتَبَرُ مَا يُجْعَلُ بَدَلًا فِي الصَّحِيحِ عَادَةً، لَكِنَّهُمَا إذَا اتَّفَقَا عَلَى مِقْدَارٍ فِي الْفَاسِدِ فَقَدْ أَسْقَطَا الزِّيَادَةَ، وَإِذَا نَقَصَ أَجْرُ الْمِثْلِ لَمْ يَجِبْ زِيَادَةُ الْمُسَمَّى لِفَسَادِ التَّسْمِيَةِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ مُتَقَوِّمَةٌ فِي نَفْسِهَا وَهِيَ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ، فَإِنْ صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ انْتَقَلَ عَنْهُ وَإِلَّا فَلَا.
الشَّرْحُ:
(بَابُ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ): تَأْخِيرُ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ عَنْ صَحِيحِهَا لَا يَحْتَاجُ إلَى مَعْذِرَةٍ لِوُقُوعِهَا فِي مَحَلِّهَا.
قَالَ (الْإِجَارَةُ تُفْسِدُهَا الشُّرُوطُ) تَفْسُدُ الْإِجَارَةُ بِالشُّرُوطِ الَّتِي فَسَادُ الْبَيْعِ بِهَا لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَتِهِ فِي كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقْبَلُ الْإِقَالَةَ وَالْفَسْخَ، وَالْوَاجِبُ فِي الْإِجَارَةِ الَّتِي فَسَدَتْ بِالشُّرُوطِ الْأَقَلُّ مِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ وَالْمُسَمَّى، وَإِنَّمَا جَعَلْت اللَّامَ فِي قَوْلِهِ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ لِلْعَهْدِ كَمَا رَأَيْت لِسِيَاقِ الْكَلَامِ وَدَفْعًا لِمَا قِيلَ الْأَقَلُّ مِنْ الْأَجْرِ وَالْمُسَمَّى إنَّمَا يَجِبُ إذَا فَسَدَتْ بِشَرْطٍ، أَمَّا إذَا فَسَدَتْ لِجَهَالَةِ الْمُسَمَّى أَوْ لِعَدَمِ التَّسْمِيَةِ وَجَبَ أَجْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ نَقَلَهُ فِي النِّهَايَةِ عَنْ الذَّخِيرَةِ وَالْمُغْنِي وَفَتَاوَى قَاضِي خَانْ.
وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: يَجِبُ بَالِغًا مَا بَلَغَ اعْتِبَارًا بِبَيْعِ الْأَعْيَانِ، فَإِنَّ الْبَيْعَ إذَا فَسَدَ وَجَبَ الْقِيمَةُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ عِنْدَهُ كَالْأَعْيَانِ.
وَلَنَا أَنَّ تَقَوُّمَ الْمَنَافِعِ ضَرُورَةُ دَفْعِ الْحَاجَةِ بِالْعَقْدِ، وَالضَّرُورِيُّ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ، وَالضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ بِالصَّحِيحَةِ فَيُكْتَفَى بِهَا.
وَهَذَا كَمَا تَرَى يَقْتَضِي عَدَمَ اعْتِبَارِ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ، إلَّا أَنَّ الْفَاسِدَةَ تَبَعٌ لِلصَّحِيحَةِ فَيَثْبُتُ فِيهَا مَا يَثْبُتُ فِي الصَّحِيحَةِ عَادَةً وَهُوَ قَدْرُ أَجْرِ الْمِثْلِ، وَهَذَا يَقْتَضِي لُزُومَ الْأَجْرِ الْمُسَمَّى بَالِغًا مَا بَلَغَ لَكِنَّهُمَا إذَا اتَّفَقَا عَلَى مِقْدَارٍ فِي الْفَاسِدِ سَقَطَتْ الزِّيَادَةُ وَهَذَا يَقْتَضِي لُزُومَ الْأَجْرِ الْمُسَمَّى بَالِغًا مَا بَلَغَ، لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ التَّسْمِيَةُ فَاسِدَةً لَمْ يَجِبْ مِنْ الْمُسَمَّى مَا زَادَ عَلَى أَجْرِ الْمِثْلِ فَاسْتَقَرَّ الْوَاجِبُ عَلَى مَا هُوَ الْأَقَلُّ مِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ وَالْمُسَمَّى، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّ الْعَيْنَ مُتَقَوِّمٌ فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ أَيْ الْقِيمَةُ هُوَ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ لِتَذْكِيرِ الْخَبَرِ، فَإِنْ صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ انْتَقَلَ عَنْهُ وَإِلَّا فَلَا قَالَ: (وَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَارًا كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ فَاسِدٌ فِي بَقِيَّةِ الشُّهُورِ، إلَّا أَنْ يُسَمِّيَ جُمْلَةَ شُهُورٍ مَعْلُومَةٍ)؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كَلِمَةَ كُلٍّ إذَا دَخَلَتْ فِيمَا لَا نِهَايَةَ لَهُ تَنْصَرِفُ إلَى الْوَاحِدِ لِتَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِالْعُمُومِ فَكَانَ الشَّهْرُ الْوَاحِدُ مَعْلُومًا فَصَحَّ الْعَقْدُ فِيهِ، وَإِذَا تَمَّ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْقُضَ الْإِجَارَةَ لِانْتِهَاءِ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ (وَلَوْ سَمَّى جُمْلَةَ شُهُورٍ مَعْلُومَةٍ جَازَ)؛ لِأَنَّ الْمُدَّةَ صَارَتْ مَعْلُومَةً.
قَالَ (وَإِنْ سَكَنَ سَاعَةً مِنْ الشَّهْرِ الثَّانِي صَحَّ الْعَقْدُ فِيهِ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُؤَجِّرِ أَنْ يُخْرِجَهُ إلَى أَنْ يَنْقَضِيَ، وَكَذَلِكَ كُلُّ شَهْرٍ سَكَنَ فِي أَوَّلِهِ سَاعَةً)؛ لِأَنَّهُ تَمَّ الْعَقْدُ بِتَرَاضِيهِمَا بِالسُّكْنَى فِي الشَّهْرِ الثَّانِي، إلَّا أَنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ هُوَ الْقِيَاسُ، وَقَدْ مَالَ إلَيْهِ بَعْضُ الْمَشَايِخِ، وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ أَنْ يَبْقَى الْخِيَارُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى مِنْ الشَّهْرِ الثَّانِي وَيَوْمِهَا؛ لِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ الْأَوَّلِ بَعْضَ الْحَرَجِ.
الشَّرْحُ:
(وَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَارًا كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ صَحَّ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ إلَّا أَنْ يُسَمِّيَ جُمْلَةَ الشُّهُورِ) مِثْلُ أَنْ يَقُولَ عَشَرَةَ أَشْهُرٍ كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ (لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كَلِمَةَ كُلَّ إذَا دَخَلَتْ فِيمَا لَا نِهَايَةَ لَهُ تَنْصَرِفُ إلَى الْوَاحِدِ لِتَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِالْعُمُومِ) لِأَنَّ جُمْلَةَ الشُّهُورِ مَجْهُولَةٌ وَالْبَعْضُ مِنْهَا غَيْرُ مَحْصُورٍ كَذَلِكَ وَمَحْصُورًا تَرْجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٍ (وَالْوَاحِدُ مِنْهَا مَعْلُومٌ) مُتَيَقَّنٌ فَصَحَّ الْعَقْدُ فِيهِ، وَإِذَا تَمَّ الشَّهْرُ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُنْقِضَ الْإِجَارَةَ لِانْتِهَاءِ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ وَهَلْ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ النَّقْضُ بِمَحْضَرِ الْآخَرِ أَوْ لَا؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ مَحْضَرِ صَاحِبِهِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَيَصِحُّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ لَا يَصِحُّ بِغَيْرِ مَحْضَرِهِ بِلَا خِلَافٍ، وَوَجْهُ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي الْمُطَوَّلَاتِ (فَإِنْ سَكَنَ سَاعَةً مِنْ الشَّهْرِ الثَّانِي صَحَّ الْعَقْدُ فِيهِ) أَيْضًا (وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُؤَجِّرِ أَنْ يُخْرِجَهُ إلَى أَنْ يَنْقَضِيَ الشَّهْرُ، وَكَذَا كُلُّ شَهْرٍ سَكَنَ فِي أَوَّلِهِ لِأَنَّهُ تَمَّ الْعَقْدُ فِيهِ بِتَرَاضِيهِمَا بِالسُّكْنَى فِي أَوَّلِهِ، إلَّا أَنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ) أَيْ الْقُدُورِيُّ (هُوَ الْقِيَاسُ، وَإِلَيْهِ مَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ أَنْ يَبْقَى الْخِيَارُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى وَيَوْمِهَا مِنْ الشَّهْرِ الثَّانِي، لِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ الْأَوَّلِ بَعْضَ الْحَرَجِ) وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْفَسْخِ فِي رَأْسِ الشَّهْرِ الثَّانِي بِنَاءً عَلَى أَنَّ رَأْسَهُ عِبَارَةٌ عَنْ السَّاعَةِ الَّتِي يُهِلُّ فِيهَا الْهِلَالُ، فَكَمَا أَهَلَّ مَضَى رَأْسُ الشَّهْرِ وَالْفَسْخُ بَعْدَ ذَلِكَ فَسْخٌ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ.
وَقِيلَ ذَلِكَ فَسْخٌ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِهِ وَكِلَاهُمَا لَا يَجُوزُ.
وَذَكَرُوا لِذَلِكَ طُرُقًا ثَلَاثَةً: مِنْهَا أَنْ يَقُولَ الَّذِي يُرِيدُ بِهِ الْفَسْخَ فِي خِلَالِ الشَّهْرِ فَسَخْت الْعَقْدَ رَأْسَ الشَّهْرِ فَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ إذَا أَهَلَّ الْهِلَالُ فَيَكُونُ هَذَا فَسْخًا مُضَافًا إلَى رَأْسِ الشَّهْرِ، وَعَقْدُ الْإِجَارَةِ يَصِحُّ مُضَافًا فَكَذَا فَسْخُهُ قَالَ: (وَإِنْ اسْتَأْجَرَ دَارًا سَنَةً بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ جَازَ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ قِسْطَ كُلِّ شَهْرٍ مِنْ الْأُجْرَةِ)؛ لِأَنَّ الْمُدَّةَ مَعْلُومَةٌ بِدُونِ التَّقْسِيمِ فَصَارَ كَإِجَارَةِ شَهْرٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ قِسْطَ كُلِّ يَوْمٍ، ثُمَّ يُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِمَّا سَمَّى وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ شَيْئًا فَهُوَ مِنْ الْوَقْتِ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ؛ لِأَنَّ الْأَوْقَاتِ كُلَّهَا فِي حَقِّ الْإِجَارَةِ عَلَى السَّوَاءِ فَأَشْبَهَ الْيَمِينَ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ؛ لِأَنَّ اللَّيَالِيَ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لَهُ (ثُمَّ إنْ كَانَ الْعَقْدُ حِينَ يَهُلُّ الْهِلَالُ فَشُهُورُ السَّنَةِ كُلِّهَا بِالْأَهِلَّةِ)؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْأَصْلُ (وَإِنْ كَانَ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ فَالْكُلُّ بِالْأَيَّامِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ بِالْأَيَّامِ وَالْبَاقِي بِالْأَهِلَّةِ؛ لِأَنَّ الْأَيَّامَ يُصَارُ إلَيْهَا ضَرُورَةً، وَالضَّرُورَةُ فِي الْأَوَّلِ مِنْهَا.
وَلَهُ أَنَّهُ مَتَى تَمَّ الْأَوَّلُ بِالْأَيَّامِ ابْتَدَأَ الثَّانِيَ بِالْأَيَّامِ ضَرُورَةً وَهَكَذَا إلَى آخِرِ السَّنَةِ، وَنَظِيرُهُ الْعِدَّةُ وَقَدْ مَرَّ فِي الطَّلَاقِ.
الشَّرْحُ:
(فَإِنْ اسْتَأْجَرَ دَارًا سَنَةً بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ صَحَّ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ قِسْطَ كُلِّ شَهْرٍ مِنْ الْأُجْرَةِ لِأَنَّ الْمُدَّةَ مَعْلُومَةٌ بِدُونِ التَّقْسِيمِ فَصَارَ كَإِجَارَةِ شَهْرٍ وَاحِدٍ وَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِمَّا سَمَّاهُ) بِأَنْ يَقُولَ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ مَثَلًا (وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ شَيْئًا فَهُوَ مِنْ الْوَقْتِ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ لِأَنَّ الْأَوْقَاتِ كُلَّهَا فِي حَقِّ الْإِجَارَةِ سَوَاءٌ) لِذِكْرِ الشَّهْرِ مَنْكُورًا وَفِي مِثْلِهِ يَتَعَيَّنُ الزَّمَانُ الَّذِي يَعْتَقِبُ السَّبَبَ (كَمَا فِي الْأَيْمَانِ) كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا شَهْرًا بِدَلَالَةِ الْحَالِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْعَاقِلِ أَنْ يَقْصِدَ صِحَّةَ الْعَقْدِ وَصِحَّتَهُ بِذَلِكَ لِتَعَيُّنِهِ بِعَدَمِ الْمُزَاحِمِ (بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا) حَيْثُ لَا يَتَعَيَّنُ الشَّهْرُ الَّذِي يَتَعَقَّبُ نَذْرُهُ مَا لَمْ يُعَيِّنْهُ، لِأَنَّ الْأَوْقَاتِ كُلَّهَا لَيْسَتْ فِيهِ عَلَى السَّوَاءِ (لِأَنَّ اللَّيَالِيَ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لَهُ) تَوْضِيحُهُ أَنَّ الشُّرُوعَ فِي الصَّوْمِ لَا يَكُونُ إلَّا بِعَزِيمَةٍ مِنْهُ وَرُبَّمَا لَا يَقْتَرِنُ ذَلِكَ بِالسَّبَبِ (ثُمَّ إنْ كَانَ الْعَقْدُ حِينَ يُهَلُّ الْهِلَالُ) عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ أَيْ يُبْصَرُ (فَشُهُورُ السَّنَةِ كُلُّهَا بِالْأَهِلَّةِ لِأَنَّهَا الْأَصْلُ) فِي الشُّهُورِ الْعَرَبِيَّةِ، فَمَهْمَا كَانَ الْعَمَلُ بِهِ مُمْكِنًا لَا يُصَارُ إلَى غَيْرِهِ (وَإِنْ كَانَ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ فَالْكُلُّ بِالْأَيَّامِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ) ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتِّينَ يَوْمًا (وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْأَوَّلَ بِالْأَيَّامِ وَالْبَاقِيَ بِالْأَهِلَّةِ) فَيَكُونُ أَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا بِالْهِلَالِ وَشَهْرٌ بِالْأَيَّامِ يُكْمِلُ مَا بَقِيَ مِنْ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ مِنْ الشَّهْرِ الْأَخِيرِ (لِأَنَّ الْأَيَّامَ يُصَارُ إلَيْهَا ضَرُورَةً وَالضَّرُورَةُ فِي الْأَوَّلِ مِنْهَا) فَلَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ تَمَامَ الْأَوَّلِ وَاجِبٌ ضَرُورَةَ تَسْمِيَتِهِ شَهْرًا، وَتَمَامُهُ إنَّمَا يَكُونُ بِبَعْضِ الثَّانِي، فَإِذَا تَمَّ الْأَوَّلُ بِالْأَيَّامِ ابْتَدَأَ الثَّانِي بِالْأَيَّامِ ضَرُورَةً وَهَكَذَا إلَى آخِرِ السَّنَةِ، وَنَظِيرُهُ الْعِدَّةُ وَقَدْ مَرَّ فِي الطَّلَاقِ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: هَذِهِ حَوَالَةٌ غَيْرُ رَائِجَةٍ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الِاخْتِلَافِ عَلَى أَنَّ الْأَشْهُرَ كُلَّهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِالْأَيَّامِ وَعِنْدَهُمَا الْبَاقِي بَعْدَ الْأَوَّلِ وَالْأَخِيرِ بِالْأَشْهُرِ لَمْ يَمُرَّ فِي الطَّلَاقِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَهُوَ سَهْوٌ مِنْهُ، لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ قَالَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ: ثُمَّ إنْ كَانَ الطَّلَاقُ بِالْأَهِلَّةِ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ تُعْتَبَرُ الشُّهُورُ بِالْأَهِلَّةِ، وَإِنْ كَانَ فِي وَسَطِهِ فَبِالْأَيَّامِ فِي حَقِّ التَّفْرِيقِ وَفِي حَقِّ الْعِدَّةِ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَكْمُلُ الْأَوَّلُ بِالْأَخِيرِ وَالْمُتَوَسِّطَانِ بِالْأَهِلَّةِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْإِجَارَاتِ. قَالَ: (وَيَجُوزُ أَخْذُ أُجْرَةِ الْحَمَّامِ وَالْحَجَّامِ) أَمَّا الْحَمَّامُ فَلِتَعَارُفِ النَّاسِ وَلَمْ تُعْتَبَرْ الْجَهَالَةُ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ» وَأَمَّا الْحَجَّامُ فَلِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَأَعْطَى الْحَجَّامَ الْأُجْرَةَ» وَلِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ فَيَقَعُ جَائِزًا.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَيَجُوزُ أَخْذُ أُجْرَةِ الْحَمَّامِ وَالْحَجَّامِ إلَخْ) اسْتِئْجَارُ الْحَمَّامِ وَالْحَجَّامِ وَأَخْذُ أُجْرَتِهِمَا جَائِزٌ، أَمَّا الْحَمَّامُ فَلِجَرَيَانِ الْعُرْفِ بِذَلِكَ وَالْقِيَاسُ عَدَمُ الْجَوَازِ لِلْجَهَالَةِ وَلَكِنَّهُ تُرِكَ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ» وَأَمَّا الْحَجَّامُ فَلِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ احْتَجَمَ وَأَعْطَى الْحَجَّامَ الْأُجْرَةَ» وَلِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ بِلَا مَانِعٍ مَعْلُومٍ فَيَقَعُ جَائِزًا، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُمَا فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ مَعَ كَوْنِهِ جَائِزًا لِأَنَّ لِبَعْضِ النَّاسِ فِيهِ خِلَافًا، فَإِنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ كَرِهَ غَلَّةَ الْحَمَّامِ آخِذًا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْحَمَّامُ شَرُّ بَيْتٍ» وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَلَ بَيْنَ حَمَّامِ الرِّجَالِ وَحَمَّامِ النِّسَاءِ فَكَرِهَ اتِّخَاذَ الْحَمَّامِ لِلنِّسَاءِ لِأَنَّهُنَّ نُهِينَ عَنْ الْبُرُوزِ وَأُمِرْنَ بِالْقَرَارِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ لَمْ يُبِحْ أُجْرَةَ الْحَجَّامِ، وَكَرِهَ كَسْبَهُ عُثْمَانُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَالْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «إنَّ مِنْ السُّحْتِ عَسْبَ التَّيْسِ وَمَهْرَ الْبَغِيِّ وَكَسْبَ الْحَجَّامِ» وَالصَّحِيحُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِاِتِّخَاذِ الْحَمَّامِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا لِلْحَاجَةِ، وَالْحَاجَةُ فِي حَقِّ النِّسَاءِ أَظْهَرُ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَحْتَاجُ إلَى الِاغْتِسَالِ عَنْ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، وَلَا تَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ فِي الْأَنْهَارِ وَالْحِيَاضِ تَمَكُّنَ الرِّجَالِ، وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ حَمَّامَ الْجُحْفَةِ».
وَتَأْوِيلُ مَا رُوِيَ مِنْ الْكَرَاهَةِ هُوَ أَنْ يَدْخُلَ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ، فَأَمَّا بَعْدَ التَّسَتُّرِ فَلَا بَأْسَ بِالدُّخُولِ، وَلَا كَرَاهَةَ فِي غَلَّتِهِ كَمَا لَا كَرَاهَةَ فِي غَلَّةِ الدُّورِ وَالْحَوَانِيتِ.
وَالنَّهْيُ فِي كَسْبِ الْحَجَّامِ قَدْ انْتَسَخَ بِمَا ذُكِرَ فِي آخِرِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «فَآتَاهُ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: إنَّ لِي نَاضِحًا وَحَجَّامًا أَفَأَعْلِفُ نَاضِحِي مِنْ كَسْبِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَأَتَاهُ آخَرُ فَقَالَ: إنَّ لِي عِيَالًا وَحَجَّامًا أَفَأُطْعِمُ عِيَالِي مِنْ كَسْبِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ» فَالرُّخْصَةُ بَعْدَ النَّهْيِ دَلِيلُ انْتِسَاخِ الْحُرْمَةِ قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ أُجْرَةِ عَسْبِ التَّيْسِ) وَهُوَ أَنْ يُؤَجِّرَ فَحْلًا لِيَنْزُوَ عَلَى الْإِنَاثِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «إنَّ مِنْ السُّحْتِ عَسْبَ التَّيْسِ» وَالْمُرَادُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ.
الشَّرْحُ:
(وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ أُجْرَةِ عَسْبِ الْفَحْلِ) أَيْ ضِرَابِهِ (وَهُوَ أَنْ يُؤَجِّرَ فَحْلًا لِيَنْزُوَ عَلَى الْإِنَاثِ) وَخَرَجَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لِجَوَازِهِ وَجْهًا، وَهُوَ أَنَّهُ انْتِفَاعٌ مُبَاحٌ وَلِهَذَا جَازَ بِطَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ وَالْحَاجَةُ تَدْعُو إلَيْهِ فَكَانَ جَائِزًا كَاسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ لِلْإِرْضَاعِ، قُلْنَا هُوَ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ مِنْ السُّحْتِ عَسْبَ التَّيْسِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (وَمُرَادُهُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ)، قَالَ: (وَلَا الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْأَذَانِ وَالْحَجِّ، وَكَذَا الْإِمَامَةُ وَتَعْلِيمُ الْقُرْآنِ وَالْفِقْهِ) وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ طَاعَةٍ يَخْتَصُّ بِهَا الْمُسْلِمُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَصِحُّ فِي كُلِّ مَا لَا يَتَعَيَّنُ عَلَى الْأَجِيرِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ غَيْرِ مُتَعَيَّنٍ عَلَيْهِ فَيَجُوزُ.
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ وَلَا تَأْكُلُوا بِهِ» وَفِي آخِرِ مَا عَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ «وَإِنْ اُتُّخِذْتَ مُؤَذِّنًا فَلَا تَأْخُذْ عَلَى الْأَذَانِ أَجْرًا» وَلِأَنَّ الْقُرْبَةَ مَتَى حَصَلَتْ وَقَعَتْ عَنْ الْعَامِلِ وَلِهَذَا تُعْتَبَرُ أَهْلِيَّتُهُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الْأَجْرِ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا فِي الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، وَلِأَنَّ التَّعْلِيمَ مِمَّا لَا يَقْدِرُ الْمُعَلِّمُ عَلَيْهِ إلَّا بِمَعْنًى مِنْ قِبَلِ الْمُتَعَلِّمِ فَيَكُونُ مُلْتَزِمًا مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَلَا يَصِحُّ.
وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا اسْتَحْسَنُوا الِاسْتِئْجَارَ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ الْيَوْمَ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ التَّوَانِي فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ.
فَفِي الِامْتِنَاعِ تَضْيِيعُ حِفْظِ الْقُرْآنِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.
الشَّرْحُ:
(وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْأَذَانِ وَالْحَجِّ) وَكَلَامُهُ فِيهِ ظَاهِرٌ (قَوْلُهُ عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ غَيْرِ مُتَعَيَّنٍ عَلَيْهِ) إشَارَةً إلَى الِاحْتِرَازِ عَمَّا لَوْ تَعَيَّنَ الشَّخْصُ لِلْإِمَامَةِ وَالْإِفْتَاءِ وَالتَّعْلِيمِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُهُ بِالْإِجْمَاعِ وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا يُرِيدُ بِهِ مَشَايِخَ بَلْخِي رَحِمَهُمُ اللَّهُ (اسْتَحْسَنُوا الِاسْتِئْجَارَ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ الْيَوْمَ) يَعْنِي فِي زَمَانِنَا، وَجَوَّزُوا لَهُ ضَرْبَ الْمُدَّةِ وَأَفْتَوْا بِوُجُوبِ الْمُسَمَّى، وَعِنْدَ عَدَمِ الِاسْتِئْجَارِ أَوْ عِنْدَ عَدَمِ ضَرْبِ الْمُدَّةِ أَفْتَوْا بِوُجُوبِ أَجْرِ الْمِثْلِ (لِأَنَّهُ ظَهَرَ التَّوَانِي فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ، فَفِي الِامْتِنَاعِ تَضْيِيعُ حِفْظِ الْقُرْآنِ) وَقَالُوا: إنَّمَا كَرِهَ الْمُتَقَدِّمُونَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ لِلْمُعَلِّمِينَ عَطِيَّاتٌ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَكَانُوا مُسْتَغْنِينَ عَمَّا لابد لَهُمْ مِنْ أَمْرِ مَعَاشِهِمْ، وَقَدْ كَانَ فِي النَّاسِ رَغْبَةٌ فِي التَّعْلِيمِ بِطَرِيقِ الْحِسْبَةِ وَلَمْ يَبْقَ ذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْخَيْرَاخَرِيُّ: يَجُوزُ فِي زَمَانِنَا لِلْإِمَامِ وَالْمُؤَذِّنِ وَالْمُعَلِّمِ أَخْذُ الْأُجْرَةِ، ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْغِنَاءِ وَالنَّوْحِ، وَكَذَا سَائِرُ الْمَلَاهِي)؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَالْمَعْصِيَةُ لَا تُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ.
الشَّرْحُ:
(وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى سَائِرِ الْمَلَاهِي لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَالْمَعْصِيَةُ لَا تُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ) فَإِنَّهُ لَوْ اُسْتُحِقَّتْ بِهِ لَكَانَ وُجُوبُ مَا يَسْتَحِقُّ الْمَرْءُ بِهِ عِقَابًا مُضَافًا إلَى الشَّرْعِ وَهُوَ بَاطِلٌ. قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ إجَارَةُ الْمُشَاعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا مِنْ الشَّرِيكِ، وَقَالَا: إجَارَةُ الْمُشَاعِ جَائِزَةٌ) وَصُورَتُهُ أَنْ يُؤَاجِرَ نَصِيبًا مِنْ دَارِهِ أَوْ نَصِيبَهُ مِنْ دَارٍ مُشْتَرَكَةٍ مِنْ غَيْرِ الشَّرِيكِ.
لَهُمَا أَنَّ لِلْمُشَاعِ مَنْفَعَةً وَلِهَذَا يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ، وَالتَّسْلِيمُ مُمْكِنٌ بِالتَّخْلِيَةِ أَوْ بِالتَّهَايُؤِ فَصَارَ كَمَا إذَا آجَرَ مِنْ شَرِيكِهِ أَوْ مِنْ رَجُلَيْنِ وَصَارَ كَالْبَيْعِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ آجَرَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَلَا يَجُوزُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ الْمُشَاعِ وَحْدَهُ لَا يُتَصَوَّرُ، وَالتَّخْلِيَةُ اُعْتُبِرَتْ تَسْلِيمًا لِوُقُوعِهِ تَمْكِينًا وَهُوَ الْفِعْلُ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ التَّمَكُّنُ وَلَا تَمَكُّنَ فِي الْمُشَاعِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِحُصُولِ التَّمَكُّنِ فِيهِ، وَأَمَّا التَّهَايُؤُ فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ حُكْمًا لِلْعَقْدِ بِوَاسِطَةِ الْمِلْكِ، وَحُكْمُ الْعَقْدِ يَعْقُبُهُ وَالْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ شَرْطُ الْعَقْدِ وَشَرْطُ الشَّيْءِ يَسْبِقُهُ، وَلَا يُعْتَبَرُ الْمُتَرَاخِي سَابِقًا، وَبِخِلَافِ مَا إذَا آجَرَ مِنْ شَرِيكِهِ فَالْكُلُّ يَحْدُثُ عَلَى مِلْكِهِ فَلَا شُيُوعَ، وَالِاخْتِلَافُ فِي النِّسْبَةِ لَا يَضُرُّهُ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْهُ، وَبِخِلَافِ الشُّيُوعِ الطَّارِئِ؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى التَّسْلِيمِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِلْبَقَاءِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا آجَرَ مِنْ رَجُلَيْنِ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ يَقَعُ جُمْلَةً ثُمَّ الشُّيُوعُ بِتَفَرُّقِ الْمِلْكِ فِيمَا بَيْنَهُمَا طَارِئٌ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَا يَجُوزُ إجَارَةُ الْمُشَاعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا مِنْ الشَّرِيكِ) وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَجِّرَ الرَّجُلُ نَصِيبًا مِنْ دَارِهِ أَوْ نَصِيبَهُ مِنْ دَارٍ مُشْتَرَكَةٍ مِنْ غَيْرِ الشَّرِيكِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ سَوَاءٌ كَانَ النَّصِيبُ مَعْلُومًا كَالرُّبُعِ وَنَحْوِهِ أَوْ مَجْهُولًا (وَقَالَا: يَجُوزُ لِأَنَّ الْمُشَاعَ لَهُ مَنْفَعَةٌ وَلِهَذَا يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ) وَمَا لَهُ مَنْفَعَةٌ يُرَدُّ عَلَيْهِ عَقْدُ الْإِجَارَةِ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى الْمَنَافِعِ فَكَانَ الْمُقْتَضِي مَوْجُودًا (وَالْمَانِعُ) وَهُوَ عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ (مُنْتَفٍ لِأَنَّهُ مُمْكِنٌ بِالتَّخْلِيَةِ أَوْ بِالتَّهَايُؤِ، فَصَارَ كَمَا إذَا آجَرَ مِنْ شَرِيكِهِ أَوْ مِنْ رَجُلَيْنِ وَصَارَ كَالْبَيْعِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ آجَرَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ) وَيُمْكِنُ تَوْجِيهُهُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مُعَارَضَةً، وَتَقْرِيرُهُ آجَرَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ (لِأَنَّ تَسْلِيمَ الْمُشَاعِ وَحْدَهُ) سَوَاءٌ كَانَ مُحْتَمِلًا لِلْقِسْمَةِ كَالدَّارِ أَوْ لَا كَالْعَبْدِ (غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ) وَمَا لَا يُتَصَوَّرُ تَسْلِيمُهُ لَا تَصِحُّ إجَارَتُهُ لِعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَالْإِجَارَةُ عَقْدٌ عَلَى الْمَنْفَعَةِ فَيَكُونُ دَلِيلًا مُبْتَدَأً مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِدَلِيلِ الْخَصْمِ.
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ مُمَانَعَةً وَتَقْرِيرُهُ لَا نُسَلِّمُ انْتِفَاءَ الْمَانِعِ فَإِنَّهُ آجَرَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّسْلِيمِ وَعَدَمُ التَّسْلِيمِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِجَارَةِ.
وَقَوْلُهُ (وَالتَّخْلِيَةُ) جَوَابٌ عَمَّا قَالَا وَالتَّسْلِيمُ مُمْكِنٌ بِالتَّخْلِيَةِ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ التَّخْلِيَةَ لَمْ تُعْتَبَرْ تَسْلِيمًا لِذَاتِهَا حَيْثُ اُعْتُبِرَتْ بَلْ لِكَوْنِهَا تَمْكِينًا (وَهُوَ) أَيْ التَّمْكِينُ هُوَ (الْفِعْلُ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ التَّمَكُّنُ) فَكَأَنَّهَا اُعْتُبِرَتْ عِلَّةً وَهُوَ وَسِيلَةٌ إلَى التَّمَكُّنِ (وَالتَّمَكُّنُ فِي الْمُشَاعِ غَيْرُ حَاصِلٍ) فَفَاتَ الْمَعْلُولُ وَإِذَا فَاتَ الْمَعْلُولُ لَا مُعْتَبَرَ بِالْعِلَّةِ (بِخِلَافِ الْبَيْعِ) فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ لَيْسَ الِانْتِفَاعَ بَلْ الرَّقَبَةَ وَلِهَذَا جَازَ بَيْعُ الْجَحْشِ فَكَانَ التَّمَكُّنُ بِالتَّخْلِيَةِ فِيهِ حَاصِلًا.
وَقَوْلُهُ (وَأَمَّا التَّهَايُؤُ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا أَوْ بِالتَّهَايُؤِ.
وَحَاصِلُهُ أَنَّ التَّهَايُؤَ مِنْ أَحْكَامِ الْعَقْدِ بِوَاسِطَةِ الْمِلْكِ فَهُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ الْعَقْدِ الْمُوجِبِ لِلْمِلْكِ وَهُوَ مُنْتَفٍ لِانْتِفَاءِ شَرْطِهِ وَهُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ، وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالتَّهَايُؤِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ثُبُوتُ الشَّيْءِ بِمَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ ثُبُوتًا.
وَقَوْلُهُ (وَبِخِلَافِ مَا إذَا آجَرَ مِنْ شَرِيكِهِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا فَصَارَ كَمَا إذَا آجَرَ مِنْ شَرِيكِهِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ إذَا آجَرَ مِنْ شَرِيكِهِ (فَالْكُلُّ يَحْدُثُ عَلَى مِلْكِهِ فَلَا شُيُوعَ) وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شُيُوعٌ؛ لَجَازَ الْهِبَةُ وَالرَّهْنُ مِنْ الشَّرِيكِ لَكِنَّهُ لَمْ يَجُزْ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ لَا شُيُوعَ يَمْنَعُ التَّسْلِيمَ وَهُوَ الْمَقْصُودُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَالْمَنْفِيُّ شُيُوعٌ مَوْصُوفٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشُّيُوعُ مَانِعًا لِحُكْمٍ بِاعْتِبَارٍ دُونَ آخَرَ فَيَمْنَعُ عَنْ جَوَازِ الْهِبَةِ مِنْ حَيْثُ الْقَبْضُ فَإِنَّ الْقَبْضَ التَّامَّ لَا يَحْصُلُ فِي الشَّائِعِ، كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الشَّرِيكَ وَالْأَجْنَبِيَّ فِيهِ سَوَاءٌ، وَيَمْنَعُ جَوَازَ الرَّهْنِ لِانْعِدَامِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْحَبْسُ الدَّائِمُ لِأَنَّهُ فِي الشَّائِعِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ، وَالشَّرِيكُ وَالْأَجْنَبِيُّ فِيهِ سَوَاءٌ.
وَأَمَّا هَاهُنَا فَلَا يَنْعَدِمُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ، وَإِنَّمَا يَتَعَذَّرُ التَّسْلِيمُ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الشَّرِيكِ.
وَقَوْلُهُ (وَالِاخْتِلَافُ فِي النِّسْبَةِ لَا يَضُرُّهُ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ: سَلَّمْنَا أَنَّ الْكُلَّ يَحْدُثُ عَلَى مِلْكِهِ، لَكِنْ عَلَى اخْتِلَافٍ مَعَ النِّسْبَةِ لِأَنَّ الشَّرِيكَ يَنْتَفِعُ بِنَصِيبِهِ بِنِسْبَةِ الْمِلْكِ وَبِنَصِيبِ شَرِيكِهِ بِالِاسْتِئْجَارِ فَيَكُونُ الشُّيُوعُ مَوْجُودًا.
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي السَّبَبِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ إذَا اتَّحَدَ الْمَقْصُودُ، عَلَى أَنَّا نَمْنَعُ جَوَازَهُ عَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْهُ فَكَانَ كَالرَّهْنِ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ.
وَقَوْلُهُ (وَبِخِلَافِ الشُّيُوعِ الطَّارِئِ) بِأَنْ آجَرَ رَجُلٌ مِنْ رَجُلَيْنِ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا فَإِنَّهُ تَبْقَى الْإِجَارَةُ فِي نَصِيبِ الْحَيِّ شَائِعًا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ (لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى التَّسْلِيمِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِلْبَقَاءِ) لِأَنَّ الْقُدْرَةَ لِوُجُوبِ التَّسْلِيمِ، وَوُجُوبُهُ فِي الِابْتِدَاءِ دُونَ الْبَقَاءِ لَيْسَ لَهُ تَعَلُّقٌ ظَاهِرًا إلَّا أَنْ يُجْعَلَ تَمْهِيدًا لِلْجَوَابِ عَنْ قَوْلِهِمَا أَوْ مِنْ رَجُلَيْنِ، لَكِنَّهُ فِي قَوْلِهِ وَبِخِلَافِ مَا إذَا آجَرَ نَبْوَةً عَنْ ذَلِكَ تُعْرَفُ بِالتَّأَمُّلِ.
وَقَوْلُهُ (وَبِخِلَافِ مَا إذَا آجَرَ مِنْ رَجُلَيْنِ) جَوَابٌ عَنْ ذَلِكَ، وَوَجْهُهُ مَا قَالَ (إنَّ التَّسْلِيمَ يَقَعُ جُمْلَةً ثُمَّ الشُّيُوعُ بِتَفَرُّقِ الْمِلْكِ فِيمَا بَيْنَهُمَا طَارِئٌ) فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ طَارِئٌ بَلْ هُوَ مُقَارِنٌ لِأَنَّهَا تَنْعَقِدُ سَاعَةً فَسَاعَةً.
أُجِيبَ بِأَنَّ بَقَاءَ الْإِجَارَةِ لَهُ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ مِنْ وَجْهٍ لِأَنَّهَا عَقْدٌ لَازِمٌ فَلَا يَكُونُ مُقَارِنًا، وَهُوَ فَاسِدٌ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْغَيْرَ اللَّازِمِ هُوَ الَّذِي يَكُونُ لِلْبَقَاءِ فِيهِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْوَكَالَةِ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ هَذَا ابْتِدَاءً وَبَقَاءً سَقَطَ الِاعْتِرَاضُ، وَإِنَّمَا الْخَصْمُ يَقُولُ: لَا بَقَاءَ لِلْعَقْدِ فِيهَا.
وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: الطَّرَيَانُ إنَّمَا هُوَ عَلَى التَّسْلِيمِ لَا عَلَى الْعَقْدِ وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَشُكُّ فِيهِ. قَالَ: (وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الظِّئْرِ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وَلِأَنَّ التَّعَامُلَ بِهِ كَانَ جَارِيًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبْلَهُ وَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ.
ثُمَّ قِيلَ: إنَّ الْعَقْدَ يَقَعُ عَلَى الْمَنَافِعِ وَهِيَ خِدْمَتُهَا لِلصَّبِيِّ وَالْقِيَامُ بِهِ وَاللَّبَنُ يُسْتَحَقُّ عَلَى طَرِيقِ التَّبَعِ بِمَنْزِلَةِ الصَّبْغِ فِي الثَّوْبِ.
وَقِيلَ إنَّ الْعَقْدَ يَقَعُ عَلَى اللَّبَنِ، وَالْخِدْمَةُ تَابِعَةٌ، وَلِهَذَا لَوْ أَرْضَعَتْهُ بِلَبَنِ شَاةٍ لَا تَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ.
وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إلَى الْفِقْهِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لَا يَنْعَقِدُ عَلَى إتْلَافِ الْأَعْيَانِ مَقْصُودًا، كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ بَقَرَةً؛ لِيَشْرَبَ لَبَنَهَا.
وَسَنُبَيِّنُ الْعُذْرَ عَنْ الْإِرْضَاعِ بِلَبَنِ الشَّاةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا يَصِحُّ إذَا كَانَتْ الْأُجْرَةُ مَعْلُومَةً اعْتِبَارًا بِالِاسْتِئْجَارِ عَلَى الْخِدْمَةِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الظِّئْرِ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ إلَخْ) اسْتِئْجَارُ الظِّئْرِ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ جَائِزٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} يَعْنِي بَعْدَ الطَّلَاقِ، وَلِأَنَّ التَّعَامُلَ بِهِ كَانَ جَارِيًا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبْلَهُ، وَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَقِيلَ هُوَ الْمَنَافِعُ وَهِيَ خِدْمَتُهَا لِلصَّبِيِّ وَالْقِيَامُ بِهِ، وَاللَّبَنُ تَبَعٌ كَالصَّبْغِ فِي الثَّوْبِ وَهُوَ اخْتِيَارُ صَاحِبِ الذَّخِيرَةِ وَالْإِيضَاحِ وَالْمُصَنِّفِ.
وَقِيلَ هُوَ اللَّبَنُ وَالْخِدْمَةُ تَابِعَةٌ وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ حَيْثُ قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْعَقْدَ يَرِدُ عَلَى اللَّبَنِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْقِيَامِ بِمَصَالِحِهِ تَبَعٌ وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ مَنْفَعَةُ الثَّدْيِ وَمَنْفَعَةُ كُلِّ عُضْوٍ عَلَى حَسَبِ مَا يَلِيقُ بِهِ، وَاسْتَوْضَحَ الْمُصَنِّفُ هَذِهِ الْجِهَةَ بِقَوْلِهِ: وَلِهَذَا لَوْ أَرْضَعَتْهُ بِلَبَنِ شَاةٍ لَا تَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ، وَبَيَّنَ مَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَهُ بِقَوْلِهِ: وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إلَى الْفِقْهِ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لَا يَنْعَقِدُ عَلَى إتْلَافِ الْأَعْيَانِ مَقْصُودًا، كَمَنْ اسْتَأْجَرَ بَقَرَةً لِيَشْرَبَ لَبَنَهَا وَوَعَدَ بِبَيَانِ الْعُذْرِ عَنْ الْإِرْضَاعِ بِلَبَنِ شَاةٍ.
وَتَعَجَّبَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ مِنْ اخْتِيَارِ الْمُصَنِّفِ مَا أَعْرَضَ عَنْهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ بَعْدَ رُؤْيَتِهِ الدَّلِيلَ الْوَاضِحَ، وَهُوَ تَقْلِيدٌ صِرْفٌ لِأَنَّ الدَّلِيلَ لَيْسَ بِوَاضِحٍ، لِأَنَّ مَدَارَهُ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ مَمْنُوعٌ، بَلْ الْمَقْصُودُ هُوَ الْإِرْضَاعُ وَانْتِظَامُ أَمْرِ مَعَاشِ الصَّبِيِّ عَلَى وَجْهٍ خَاصٍّ يَتَعَلَّقُ بِأُمُورٍ وَوَسَائِطَ مِنْهَا اللَّبَنُ، فَجَعَلَ الْعَيْنَ الْمَرْئِيَّةَ مَنْفَعَةً.
وَنَقْضُ الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ عَقْدٌ عَلَى إتْلَافِ الْمَنَافِعِ مَعَ الْغِنَى عَنْ ذَلِكَ بِمَا هُوَ وَجْهٌ صَحِيحٌ لَيْسَ بِوَاضِحٍ، وَلَا يَتَشَبَّثُ لَهُ بِمَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: اسْتِحْقَاقُ لَبَنِ الْآدَمِيَّةِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَجَوَازُ بَيْعِ لَبَنِ الْأَنْعَامِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَلَئِنْ كَانَ فَنَحْنُ مَا مَنَعْنَا أَنْ يَسْتَحِقَّ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي اسْتِحْقَاقِهِ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ مَقْصُودًا أَوْ تَبَعًا وَلَيْسَ فِي كَلَامِ مُحَمَّدٍ مَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ (قَوْلُهُ وَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا) يَعْنِي مِنْ جَوَازِ الْإِجَارَةِ بِأَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ (صَحَّتْ إذَا كَانَتْ الْأُجْرَةُ مَعْلُومَةً اعْتِبَارًا بِاسْتِئْجَارِ عَبْدٍ لِلْخِدْمَةِ مَثَلًا) فَإِنْ قِيلَ: قَدْ عُلِمَ مِنْ أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ جَوَازُهَا حَيْثُ صَدَرَ الْحُكْمُ فَاسْتَدَلَّ فَمَا فَائِدَةُ هَذَا الْكَلَامِ؟ قُلْت: أَثْبَتَ جَوَازَهَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوَّلًا ثُمَّ رَجَعَ إلَى إثْبَاتِهَا بِالْقِيَاسِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَوْطِئَةً لِقَوْلِهِ قَالَ: (وَيَجُوزُ بِطَعَامِهَا وَكِسْوَتِهَا اسْتِحْسَانًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَا: لَا يَجُوزُ)؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ مَجْهُولَةٌ فَصَارَ كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَهَا لِلْخَبْزِ وَالطَّبْخِ.
وَلَهُ أَنَّ الْجَهَالَةَ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّ فِي الْعَادَةِ التَّوْسِعَةَ عَلَى الْأَظْآرِ شَفَقَةٌ عَلَى الْأَوْلَادِ فَصَارَ كَبَيْعِ قَفِيزٍ مِنْ صُبْرَةٍ، بِخِلَافِ الْخَبْزِ وَالطَّبْخِ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِيهِ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: فَإِنْ سَمَّى الطَّعَامَ دَرَاهِمَ وَوَصَفَ جِنْسَ الْكِسْوَةِ وَأَجَلَهَا وَذَرْعَهَا فَهُوَ جَائِزٌ) يَعْنِي بِالْإِجْمَاعِ.
وَمَعْنَى تَسْمِيَةِ الطَّعَامِ دَرَاهِمَ أَنْ يَجْعَلَ الْأُجْرَةَ دَرَاهِمَ ثُمَّ يَدْفَعُ الطَّعَامَ مَكَانَهُ، وَهَذَا لَا جَهَالَةَ فِيهِ (وَلَوْ سَمَّى الطَّعَامَ وَبَيَّنَ قَدْرَهُ جَازَ أَيْضًا) لِمَا قُلْنَا، وَلَا يُشْتَرَطُ تَأْجِيلُهُ؛ لِأَنَّ أَوْصَافَهَا أَثْمَانٌ.
(وَيُشْتَرَطُ بَيَانُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الْبُيُوعِ (وَفِي الْكِسْوَةِ يُشْتَرَطُ بَيَانُ الْأَجَلِ أَيْضًا مَعَ بَيَانِ الْقَدْرِ وَالْجِنْسِ)؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ إذَا صَارَ مَبِيعًا، وَإِنَّمَا يَصِيرُ مَبِيعًا عِنْدَ الْأَجَلِ كَمَا فِي السَّلَمِ.
الشَّرْحُ:
(وَيَجُوزُ بِطَعَامِهَا وَكِسْوَتِهَا) يَعْنِي جَازَتْ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ كَسَائِرِ الْإِجَارَاتِ وَبِطَعَامِهَا وَكِسْوَتِهَا أَيْضًا (اسْتِحْسَانًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) لِأَنَّ الْعَادَةَ الْجَارِيَةَ بِالتَّوْسِعَةِ عَلَى الْأَظْآرِ شَفَقَةٌ عَلَى الْأَوْلَادِ تَرْفَعُ الْجَهَالَةَ، بِخِلَافِ مَا قَالَاهُ مِنْ غَيْرِهَا مِنْ الْإِجَارَاتِ كَالْخَبْزِ وَالطَّبْخِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ الْجَهَالَةَ فِيهَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فَلَا يَجُوزُ بِطَعَامِ الطِّبَاخَةِ وَكِسْوَتِهَا وَذِكْرُ رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إشَارَةٌ إلَى مَا يَجْعَلُهُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ بِمَعْرِفَةِ الْجِنْسِ وَالْأَجَلِ وَالْمِقْدَارِ، وَفَسَّرَ قَوْلَهُ فَإِنْ سَمَّى الطَّعَامَ دَرَاهِمَ (بِأَنْ يَجْعَلَ الْأُجْرَةَ دَرَاهِمَ ثُمَّ يَدْفَعُ الطَّعَامَ مَكَانَهُ) أَيْ مَكَانَ الْمُسَمَّى مِنْ الدَّرَاهِمِ.
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَهَذَا التَّفْسِيرُ الَّذِي ذَكَرَهُ لَا يُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ اللَّفْظِ، وَلَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: أَيْ سَمَّى الدَّرَاهِمَ الْمُقَدَّرَةَ بِمُقَابَلَةِ طَعَامِهَا، ثُمَّ أَعْطَى الطَّعَامَ بِإِزَاءِ الدَّرَاهِمِ الْمُسَمَّاةِ وَهُوَ حَقٌّ، وَلَكِنْ لَوْ قُدِّرَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لَفْظَةُ بَدَلًا بِأَنْ يُقَالَ أَنْ يَجْعَلَ الْأُجْرَةَ دَرَاهِمَ بَدَلًا آلَ إلَى ذَلِكَ (وَهَذَا) أَيْ جَعَلَ الْأُجْرَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ (لَا جَهَالَةَ فِيهِ، وَكَذَا لَوْ سَمَّى الطَّعَامَ وَبَيَّنَ قَدْرَهُ وَلَا يُشْتَرَطُ تَأْجِيلُهُ) أَيْ تَأْجِيلُ الطَّعَامِ الْمُسَمَّى أُجْرَةً (لِأَنَّ أَوْصَافَهَا) أَيْ أَوْصَافَ الطَّعَامِ بِتَأْوِيلِ الْحِنْطَةِ (أَثْمَانٌ) أَيْ أَوْصَافُ أَثْمَانٍ مِنْ وُجُوبِهِ فِي الذِّمَّةِ إذَا كَانَ دَيْنًا، وَالْأَثْمَانُ لَا يُشْتَرَطُ تَأْجِيلُهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مُسْلَمًا فِيهِ لِأَنَّهُ فِي السَّلَمِ مَبِيعٌ وَإِنْ كَانَ دَيْنًا فَاشْتُرِطَ تَأْجِيلُهُ بِالسَّنَةِ (وَيُشْتَرَطُ بَيَانُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ) إذَا كَانَ لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا، وَقَدْ مَرَّ فِي الْبُيُوعِ) وَالْبَاقِي ظَاهِرٌ قَالَ (وَلَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَمْنَعَ زَوْجَهَا مِنْ وَطْئِهَا)؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ حَقُّ الزَّوْجِ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إبْطَالِ حَقِّهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ صِيَانَةً لِحَقِّهِ، إلَّا أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَمْنَعُهُ عَنْ غِشْيَانِهَا فِي مَنْزِلِهِ؛ لِأَنَّ الْمَنْزِلَ حَقُّهُ (فَإِنْ حَبِلَتْ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَفْسَخُوا الْإِجَارَةَ إذَا خَافُوا عَلَى الصَّبِيِّ مِنْ لَبَنِهَا)؛ لِأَنَّ لَبَنَ الْحَامِلِ يُفْسِدُ الصَّبِيَّ وَلِهَذَا كَانَ لَهُمْ الْفَسْخُ إذَا مَرِضَتْ أَيْضًا (وَعَلَيْهَا أَنْ تُصْلِحَ طَعَامَ الصَّبِيِّ)؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ عَلَيْهَا.
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيمَا لَا نَصَّ عَلَيْهِ الْعُرْفُ فِي مِثْلِ هَذَا الْبَابِ، فَمَا جَرَى بِهِ الْعُرْفُ مِنْ غَسْلِ ثِيَابِ الصَّبِيِّ وَإِصْلَاحِ الطَّعَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى الظِّئْرِ أَمَّا الطَّعَامُ فَعَلَى وَالِدِ الْوَلَدِ، وَمَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ أَنَّ الدُّهْنَ وَالرَّيْحَانَ عَلَى الظِّئْرِ فَذَلِكَ مِنْ عَادَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَمْنَعَ زَوْجَهَا مِنْ وَطْئِهَا إلَخْ) وَطْءُ الْمَرْأَةِ حَقُّ الزَّوْجِ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ إبْطَالِهِ وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ: أَيْ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ صِيَانَةً لِحَقِّهِ، وَلَفْظُ الْكِتَابِ مُطْلَقٌ يَتَنَاوَلُ مَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ مِمَّنْ يَشِينُهُ ظُئُورَةُ زَوْجَتِهِ أَوْ لَا، وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ تُرْضِعُهُ فِي بَيْتِ أَبَوَيْهِ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ الْخُرُوجِ عَنْ مَنْزِلِهِ وَإِنْ كَانَتْ تُرْضِعُهُ فِي بَيْتِهِ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ إدْخَالِ صَبِيِّ الْغَيْرِ فِي مَنْزِلِهِ كَمَا أَنَّ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَمْنَعَ الزَّوْجَ مِنْ غَشَيَانِهَا فِي مَنْزِلِهِ بَعْدَ الرِّضَا بِالْعَقْدِ لِأَنَّ الْمَنْزِلَ حَقُّهُ، فَإِنْ حَبِلَتْ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَفْسَخُوا الْإِجَارَةَ إذَا خَافُوا عَلَى الصَّبِيِّ مِنْ لَبَنِهَا، لِأَنَّ لَبَنَ الْحَامِلِ يُفْسِدُ الصَّبِيَّ فَكَانَ الْخَوْفُ عُذْرًا تُفْسَخُ بِهِ الْإِجَارَةُ كَمَا لَوْ مَرِضَتْ (قَوْلُهُ وَعَلَيْهَا أَنْ تُصْلِحَ طَعَامَ الصَّبِيِّ لِأَنَّ الْعَمَلَ) يَعْنِي الْعَمَلَ الرَّاجِعَ إلَى مَنْفَعَةِ الصَّبِيِّ (عَلَى الظِّئْرِ) وَالْبَاقِي ظَاهِرٌ. (وَإِنْ أَرْضَعَتْهُ فِي الْمُدَّةِ بِلَبَنِ شَاةٍ فَلَا أَجْرَ لَهَا)؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَأْتِ بِعَمَلٍ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهَا، وَهُوَ الْإِرْضَاعُ، فَإِنَّ هَذَا إيجَارٌ وَلَيْسَ بِإِرْضَاعٍ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ الْأَجْرُ لِهَذَا الْمَعْنَى أَنَّهُ اخْتَلَفَ الْعَمَلُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ أَرْضَعَتْهُ فِي الْمُدَّةِ بِلَبَنِ شَاةٍ فَلَا أَجْرَ لَهَا، لِأَنَّهَا لَمْ تَأْتِ بِعَمَلٍ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهَا وَهُوَ الْإِرْضَاعُ، فَإِنَّ هَذَا إيجَارٌ وَلَيْسَ بِإِرْضَاعٍ) دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ (فَإِنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَجِبْ الْأَجْرُ لِاخْتِلَافِ الْعَمَلِ) لَا لِانْتِفَاءِ اللَّبَنِ، وَلِهَذَا لَوْ أُوجِرَ الصَّبِيُّ بِلَبَنِ الظِّئْرِ فِي الْمُدَّةِ لَمْ تُسْتَحَقَّ الْأُجْرَةُ، فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُوَ الْإِرْضَاعُ وَالْعَمَلُ دُونَ الْعَيْنِ وَهُوَ اللَّبَنُ.
وَقَوْلُهُ (أَنَّهُ اخْتَلَفَ الْعَمَلُ) بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ لِهَذَا الْمَعْنَى.
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: وَهُوَ أَنَّهُ وَفِي بَعْضِهَا لِأَنَّهُ فَإِنْ قِيلَ: الظِّئْرُ أَجِيرٌ خَاصٌّ أَوْ مُشْتَرَكٌ أُجِيبَ بِأَنَّهَا أَجِيرٌ خَاصٌّ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْمَبْسُوطِ.
قَالَ فِيهِ: وَلَوْ ضَاعَ الصَّبِيُّ مِنْ يَدِهَا أَوْ وَقَعَ فَمَاتَ أَوْ سُرِقَ مِنْ حُلِيِّ الصَّبِيِّ أَوْ ثِيَابِهِ شَيْءٌ لَمْ يَضْمَنْ الظِّئْرُ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَجِيرِ الْخَاصِّ، فَإِنَّ الْعَقْدَ وَرَدَ عَلَى مَنَافِعِهَا فِي الْمُدَّةِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَنْ تُؤَجِّرَ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِهِمْ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْعَمَلِ، وَالْأَجِيرُ الْخَاصُّ أَمِينٌ فِيمَا فِي يَدِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ قَالَ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَجِيرِ الْخَاصِّ لَا عَيْنِهِ.
وَذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ خَاصًّا وَمُشْتَرَكًا، فَإِنَّهَا لَوْ آجَرَتْ نَفْسَهَا لِقَوْمٍ آخَرِينَ لِذَلِكَ وَلَمْ يَعْلَمْ الْأَوَّلُونَ فَأَرْضَعَتْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَفَرَغَتْ أَثِمَتْ، وَهَذِهِ جِنَايَةٌ مِنْهَا وَلَهَا الْأَجْرُ كَامِلًا عَلَى الْفَرِيقَيْنِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تَحْتَمِلُهُمَا، فَقُلْنَا بِأَنَّهَا تَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ مِنْهُمَا كَمَلًا تَشْبِيهًا بِالْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ، وَتَأْثَمُ بِمَا فَعَلَتْ نَظَرًا إلَى الْأَجِيرِ الْخَاصِّ. قَالَ: (وَمَنْ دَفَعَ إلَى حَائِكٍ غَزْلًا لِيَنْسِجَهُ بِالنِّصْفِ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ.
وَكَذَا إذَا اسْتَأْجَرَ حِمَارًا يَحْمِلُ طَعَامًا بِقَفِيزٍ مِنْهُ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ)؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْأَجْرَ بَعْضَ مَا يَخْرُجُ مِنْ عَمَلِهِ فَيَصِيرُ فِي مَعْنَى قَفِيزِ الطَّحَّانِ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ، وَهُوَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ ثَوْرًا لِيَطْحَنَ لَهُ حِنْطَةً بِقَفِيزٍ مِنْ دَقِيقِهِ.
وَهَذَا أَصْلٌ كَبِيرٌ يُعْرَفُ بِهِ فَسَادُ كَثِيرٍ مِنْ الْإِجَارَاتِ، لاسيما فِي دِيَارِنَا، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ عَاجِزٌ عَنْ تَسْلِيمِ الْأَجْرِ وَهُوَ بَعْضُ الْمَنْسُوجِ أَوْ الْمَحْمُولِ.
إذْ حُصُولُهُ بِفِعْلِ الْأَجِيرِ فَلَا يُعَدُّ هُوَ قَادِرًا بِقُدْرَةِ غَيْرِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْمِلَ نِصْفَ طَعَامِهِ بِالنِّصْفِ الْآخَرِ حَيْثُ لَا يَجِبُ لَهُ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ مَلَكَ الْأَجِيرَ فِي الْحَالِ بِالتَّعْجِيلِ فَصَارَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا.
وَمَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِحَمْلِ طَعَامٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا لَا يَجِبُ الْأَجْرُ لِأَنَّ مَا مِنْ جُزْءٍ يَحْمِلُهُ إلَّا وَهُوَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ فِيهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ.
قَالَ (وَلَا يُجَاوِزُ بِالْأَجْرِ قَفِيزًا)؛ لِأَنَّهُ لَمَّا فَسَدَتْ الْإِجَارَةُ فَالْوَاجِبُ الْأَقَلُّ مَا سَمَّى وَمِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِحَطِّ الزِّيَادَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَكَا فِي الِاحْتِطَابِ حَيْثُ يَجِبُ الْأَجْرُ بَالِغًا مَا بَلَغَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى هُنَاكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَلَمْ يَصِحَّ الْحَطُّ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ دَفَعَ إلَى حَائِكٍ غَزْلًا لِيَنْسِجَهُ إلَخْ) وَمَنْ دَفَعَ إلَى حَائِكٍ غَزْلًا لِيَنْسِجَهُ بِالنِّصْفِ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ، وَكَذَلِكَ إذْ اسْتَأْجَرَ حِمَارًا يَحْمِلُ طَعَامًا لَهُ بِقَفِيزٍ مِنْهُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى قَفِيزِ الطَّحَّانِ فِي جَعْلِ الْأُجْرَةِ بَعْضَ مَا يَخْرُجُ مِنْ عَمَلِهِ، وَقَدْ «نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَفِيزِ الطَّحَّانِ وَهُوَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ ثَوْرًا لِيَطْحَنَ لَهُ حِنْطَةً بِقَفِيزٍ مِنْ دَقِيقِهَا،» وَهَذَا أَصْلٌ كَبِيرٌ يُعْرَفُ بِهِ فَسَادٌ كَثِيرٌ مِنْ الْإِجَارَاتِ.
فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ عُرْفُ دِيَارِنَا عَلَى ذَلِكَ فَهَلْ يُتْرَكُ بِهِ الْقِيَاسُ؟ قُلْنَا: لَا، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَكَانَ ثَابِتًا بِدَلَالَةِ النَّصِّ، وَمِثْلُهُ لَا يُتْرَكُ بِالْعُرْفِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَا يُتْرَكُ بَلْ يُخَصَّصُ عَنْ الدَّلَالَةِ بَعْضُ مَا فِي مَعْنَى قَفِيزِ الطَّحَّانِ بِالْعُرْفِ كَمَا فَعَلَ بَعْضُ مَشَايِخِ بَلْخِي فِي الثِّيَابِ لِجَرَيَانِ عُرْفِهِمْ بِذَلِكَ.
قُلْت: الدَّلَالَةُ لَا عُمُومَ لَهَا حَتَّى يُخَصَّ عُرْفُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ (قَوْلُهُ وَالْمَعْنَى فِيهِ) يَعْنِي الْمَعْنَى الْفِقْهِيَّ فِي عَدَمِ جَوَازِ ذَلِكَ هُوَ (أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ عَاجِزٌ عَنْ تَسْلِيمِ الْأَجْرِ وَهُوَ بَعْضُ الْمَنْسُوجِ أَوْ الْمَحْمُولِ لِأَنَّ حُصُولَهُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ وَالشَّخْصُ لَا يُعَدُّ قَادِرًا بِقُدْرَةِ غَيْرِهِ) فَإِذَا ثَبَتَ فَسَادُ الْعَقْدِ كَانَ لِلْحَائِكِ أَجْرُ مِثْلِهِ لِأَنَّ صَاحِبَ الثَّوْبِ اسْتَوْفَى مَنْفَعَتَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَكَانَ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ (وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْمِلَ نِصْفَ طَعَامِهِ بِالنِّصْفِ الْآخَرِ حَيْثُ لَا يَجِبُ لَهُ الْأَجْرُ) لَا الْمُسَمَّى وَلَا أَجْرُ الْمِثْلِ (لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ مَلَّكَ الْأَجِيرَ) الْأُجْرَةَ (فِي الْحَالِ بِالتَّعْجِيلِ) لِأَنَّ تَسْلِيمَ الْأُجْرَةِ بِحُكْمِ التَّعْجِيلِ يُوجِبُ الْمِلْكَ فِي الْأُجْرَةِ (فَصَارَ) حَامِلًا طَعَامًا (مُشْتَرَكًا.
وَمَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِحَمْلِ طَعَامٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا لَا يَجِبُ الْأَجْرُ.
لِأَنَّ مَا مِنْ جُزْءٍ يَحْمِلُهُ إلَّا وَهُوَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ فِيهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ) وَقَوْلُهُ (بِالنِّصْفِ الْآخَرِ) تَلْوِيحٌ إلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ مَا إذَا قَالَ احْمِلْ هَذَا الْكُرَّ إلَى بَغْدَادَ بِنِصْفِهِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ شَرِيكًا وَلَكِنْ تَفْسُدُ الْإِجَارَةُ لِكَوْنِهَا فِي مَعْنَى قَفِيزِ الطَّحَّانِ، وَيَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ قِيمَةَ نِصْفِ الْكُرِّ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا يُجَاوِزُ بِالْأَجْرِ قَفِيزًا) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ وَكَذَا إذَا اسْتَأْجَرَ حِمَارًا لِيَحْمِلَ طَعَامًا بِقَفِيزٍ مِنْهُ (لِأَنَّهُ لَمَّا فَسَدَتْ الْإِجَارَةُ فَالْوَاجِبُ الْأَقَلُّ مِنْ الْمُسَمَّى وَمِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِحَطِّ الزِّيَادَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَكَا فِي الِاحْتِطَابِ حَيْثُ يَجِبُ الْأَجْرُ بَالِغًا مَا بَلَغَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، لِأَنَّ الْمُسَمَّى) وَهُوَ نِصْفُ الْحَطَبِ (هُنَاكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَلَمْ يَصِحَّ الْحَطُّ) وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَلَا يُجَاوِزُ بِأَجْرِهِ نِصْفَ ثَمَنِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِنِصْفِ الْمُسَمَّى حَيْثُ اشْتَرَكَ، وَهَذَا إذَا احْتَطَبَ أَحَدُهُمَا وَجَمَعَ الْآخَرُ، وَأَمَّا إذَا احْتَطَبَا جَمِيعًا وَجَمَعَا جَمِيعًا فَهُمَا شَرِيكَانِ عَلَى السَّوَاءِ. قَالَ: (وَمَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَخْبِزَ لَهُ هَذِهِ الْعَشَرَةَ الْمَخَاتِيمَ مِنْ الدَّقِيقِ الْيَوْمَ بِدِرْهَمٍ فَهُوَ فَاسِدٌ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِي الْإِجَارَاتِ: هُوَ جَائِزٌ)؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ عَمَلًا وَيَجْعَلُ ذِكْرَ الْوَقْتِ لِلِاسْتِعْجَالِ تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ فَتَرْتَفِعُ الْجَهَالَةُ.
وَلَهُ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ لِأَنَّ ذِكْرَ الْوَقْتِ يُوجِبُ كَوْنَ الْمَنْفَعَةِ مَعْقُودًا عَلَيْهَا وَذِكْرَ الْعَمَلِ يُوجِبُ كَوْنَهُ مَعْقُودًا عَلَيْهِ وَلَا تَرْجِيحَ، وَنَفْعُ الْمُسْتَأْجِرِ فِي الثَّانِي وَنَفْعُ الْأَجِيرِ فِي الْأَوَّلِ فَيُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَصِحُّ الْإِجَارَةُ إذَا قَالَ: فِي الْيَوْمِ، وَقَدْ سَمَّى عَمَلًا؛ لِأَنَّهُ لِلظَّرْفِ فَكَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْعَمَلَ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ الْيَوْمَ وَقَدْ مَرَّ مِثْلُهُ فِي الطَّلَاقِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَخْبِزَ لَهُ هَذِهِ الْعَشَرَةَ الْمَخَاتِيمَ إلَخْ) الْمَخَاتِيمُ جَمْعُ مَخْتُومٍ وَهُوَ الصَّاعُ سَمَّى بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَخْتِمُ أَعْلَاهُ كَيْ لَا يَزْدَادَ أَوْ يَنْقُصَ، وَإِضَافَةُ الْعَشَرَةِ إلَى الْمَخَاتِيمِ مِنْ بَابِ الْخَمْسَةِ الْأَثْوَابِ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ، وَالْيَوْمَ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَمَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَخْبِزَ لَهُ هَذِهِ الْعَشَرَةَ الْمَخَاتِيمَ الْيَوْمَ بِدِرْهَمٍ فَهُوَ فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: هُوَ جَائِزٌ ذَكَرَهُ فِي إجَارَاتِ الْمَبْسُوطِ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ حَتَّى إذَا فَرَغَ مِنْهُ نِصْفَ النَّهَارِ فَلَهُ الْأَجْرُ كَامِلًا، وَإِنْ لَمْ يَفْرُغْ فِي الْيَوْمِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَهُ فِي الْغَدِ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُوَ الْعَمَلُ، وَإِذَا كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُوَ الْعَمَلُ وَهُوَ مَعْلُومٌ جَازَ الْعَقْدُ وَيَجْعَلُ ذِكْرَ الْوَقْتِ لِلِاسْتِعْجَالِ لَا لِتَعْلِيقِ الْعَقْدِ بِهِ فَكَأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِلْعَمَلِ عَلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنْهُ فِي أَسْرَعِ الْأَوْقَاتِ، وَالْحَمْلُ عَلَى هَذَا مِمَّا لابد مِنْهُ دَفْعًا لِلْجَهَالَةِ لِتَصْحِيحِ الْعَقْدِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا صَالِحٌ لِذَلِكَ، لِأَنَّ ذِكْرَ الْوَقْتِ يُوجِبُ كَوْنَ الْمَنْفَعَةِ مَعْقُودًا عَلَيْهَا، وَذِكْرُ الْعَمَلِ يُوجِبُ كَوْنَهُ مَعْقُودًا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، وَالْجَهَالَةُ الْمُفْضِيَةُ إلَى النِّزَاعِ تُفْسِدُ الْعَقْدَ، وَهَذِهِ كَذَلِكَ لِأَنَّ نَفْعَ الْمُسْتَأْجِرِ فِي الثَّانِي حَتَّى لَا يَجِبَ الْأَجْرُ عَلَيْهِ إلَّا بِتَسْلِيمِ الْعَمَلِ، وَنَفْعُ الْأَجِيرِ فِي الْأَوَّلِ لِاسْتِحْقَاقِهِ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ، فَإِنْ مَضَى الْيَوْمَ وَلَمْ يَفْرُغْ مِنْ الْعَمَلِ جَازَ أَنْ يَطْلُبَ الْأَجِيرُ أَجْرَهُ نَظَرًا إلَى الْأَوَّلِ وَيَمْنَعَهُ الْمُسْتَأْجِرُ نَظَرًا إلَى الثَّانِي فَأَفْضَى إلَى النِّزَاعِ، وَجَعْلُ ذِكْرِ الْوَقْتِ لِلتَّعْجِيلِ تَحَكُّمٌ لِتَفَاوُتِ الْأَغْرَاضِ، فَقَدْ يَكُونُ لِلتَّعْجِيلِ وَقَدْ يَكُونُ لِكَوْنِ الْمَنْفَعَةِ مَعْلُومَةً، وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ مَسْأَلَتِنَا وَبَيْنَ مَا إذَا قَالَ إنَّ خِطَّتَهُ الْيَوْمَ فَلَكَ دِرْهَمٌ، وَإِنَّ خِطَّتَهُ غَدًا فَلَكَ نِصْفُ دِرْهَمٍ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَجَازَ الشَّرْطَ الْأَوَّلَ وَجَعَلَ ذِكْرَ الْوَقْتِ لِلتَّعْجِيلِ وَبَيَّنَهَا وَبَيَّنَ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَخْبِزَ لَهُ قَفِيزَ دَقِيقٍ عَلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنْهُ الْيَوْمَ فَإِنَّ الْإِجَارَةَ فِيهَا جَائِزَةٌ بِالْإِجْمَاعِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأُولَى أَنَّ دَلِيلَ الْمَجَازِ وَهُوَ نُقْصَانُ الْأَجْرِ لِلتَّأْخِيرِ فِيهَا صَرْفُهُ عَنْ حَقِيقَتِهِ الَّتِي هِيَ التَّوْقِيتُ إلَى الْمَجَازِ الَّذِي هُوَ التَّعْجِيلُ، وَلَيْسَ لَهُ فِي مَسْأَلَتِنَا مَا يَصْرِفُهُ عَنْهَا فَلَا يُصَارُ إلَى الْمَجَازِ، وَكَذَلِكَ بَيَّنَهَا وَبَيَّنَ الثَّانِيَةَ، فَإِنَّ كَلِمَةَ عَلَى فِيهَا مَعْنَى الشَّرْطِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ فَحَيْثُ جَعَلَهُ شَرْطًا دَلَّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ التَّعْجِيلُ، يُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ إذَا قَالَ فِي الْيَوْمِ صَحَّتْ الْإِجَارَةُ لِأَنَّهُ لِلظَّرْفِ وَالْمَظْرُوفُ لَا يَسْتَغْرِقُ الظَّرْفَ كَمَا مَرَّ فِي الطَّلَاقِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إنْ عَمِلْت فِي بَعْضِ الْيَوْمِ وَذَلِكَ يُفِيدُ التَّعْجِيلَ فَكَانَ الْعَمَلُ هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ الْيَوْمَ فَإِنَّ الْمَنْفَعَةَ تَسْتَغْرِقُ الْوَقْتَ فَتَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ مَعْقُودًا عَلَيْهِ وَتَلْزَمَ الْجَهَالَةُ. قَالَ: (وَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا عَلَى أَنْ يَكْرُبَهَا وَيَزْرَعَهَا أَوْ يَسْقِيَهَا وَيَزْرَعَهَا فَهُوَ جَائِزٌ)؛ لِأَنَّ الزِّرَاعَةَ مُسْتَحَقَّةٌ بِالْعَقْدِ، وَلَا تَتَأَتَّى الزِّرَاعَةُ إلَّا بِالسَّقْيِ وَالْكِرَابِ.
فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَحَقًّا.
وَكُلُّ شَرْطٍ هَذِهِ صِفَتُهُ يَكُونُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ فَذِكْرُهُ لَا يُوجِبُ الْفَسَادَ (فَإِنْ اشْتَرَطَ أَنْ يُثَنِّيَهَا أَوْ يُكْرِيَ أَنْهَارَهَا أَوْ يُسَرْقِنَهَا فَهُوَ فَاسِدٌ)؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى أَثَرُهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ، وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ.
وَمَا هَذَا حَالُهُ يُوجِبُ الْفَسَادَ؛ لِأَنَّ مُؤَجِّرَ الْأَرْضِ يَصِيرُ مُسْتَأْجِرًا مَنَافِعَ الْأَجِيرِ عَلَى وَجْهٍ يَبْقَى بَعْدَ الْمُدَّةِ فَيَصِيرُ صَفْقَتَانِ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ.
ثُمَّ قِيلَ: الْمُرَادُ بِالتَّثْنِيَةِ أَنْ يَرُدَّهَا مَكْرُوبَةً وَلَا شُبْهَةَ فِي فَسَادِهِ.
وَقِيلَ أَنْ يُكْرِيَهَا مَرَّتَيْنِ، وَهَذَا فِي مَوْضِعٍ تُخْرِجُ الْأَرْضُ الرِّيعَ بِالْكِرَابِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَالْمُدَّةُ سَنَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ ثَلَاثَ سِنِينَ لَا تَبْقَى مَنْفَعَتُهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِكْرِي الْأَنْهَارِ الْجَدَاوِلَ بَلْ الْمُرَادُ مِنْهَا الْأَنْهَارُ الْعِظَامُ هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ تَبْقَى مَنْفَعَتُهُ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ.
قَالَ: (وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَزْرَعَهَا بِزِرَاعَةِ أَرْضٍ أُخْرَى فَلَا خَيْرَ فِيهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ جَائِزٌ، وَعَلَى هَذَا إجَارَةُ السُّكْنَى بِالسُّكْنَى وَاللُّبْسِ بِاللُّبْسِ وَالرُّكُوبِ بِالرُّكُوبِ.
أَنَّ الْمَنَافِعَ بِمَنْزِلَةِ الْأَعْيَانِ حَتَّى جَازَتْ الْإِجَارَةُ بِأُجْرَةِ دَيْنٍ وَلَا يَصِيرُ دَيْنًا بِدَيْنٍ، وَلَنَا أَنَّ الْجِنْسَ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ النَّسَاءَ عِنْدَنَا فَصَارَ كَبَيْعِ الْقُوهِيِّ بِالْقُوهِيِّ نَسِيئَةً وَإِلَى هَذَا أَشَارَ مُحَمَّدٌ، وَلِأَنَّ الْإِجَارَةَ جُوِّزَتْ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِلْحَاجَةِ وَلَا حَاجَةَ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ، بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفَ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا عَلَى أَنْ يُكْرِيَهَا إلَخْ) بَيَّنَ فِي هَذَا أَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي لَا يَقْتَضِيهِ عَقْدُ الْإِجَارَةِ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ شَرْطٌ فَاسِدٌ يَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ، وَالشَّرْطُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ لَا يُفْسِدُهُ كَمَا فِي الْبَيْعِ، فَإِنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا عَلَى أَنْ يُكْرِيَهَا وَيَزْرَعَهَا أَوْ يَسْقِيَهَا وَيَزْرَعَهَا فَهُوَ جَائِزٌ، لِأَنَّ الزِّرَاعَةَ تُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ وَلَا تَتَأَتَّى إلَّا بِالسَّقْيِ وَالْكِرَابِ فَكَانَا مِنْ مُقْتَضَيَاتِهِ فَذِكْرُهُ لَا يُوجِبُ الْفَسَادَ، وَإِنْ شَرَطَ أَنْ يُثْنِيَهَا أَوْ يُكْرِيَ أَنْهَارَهَا أَوْ يُسَرْقِنَهَا فَهُوَ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ، وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لِبَقَاءِ أَثَرِهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، وَمَا هَذَا حَالُهُ يُوجِبُ الْفَسَادَ لِأَنَّ مُؤَجِّرَ الْأَرْضِ يَصِيرُ مُسْتَأْجِرًا مَنَافِعَ الْأَجِيرِ عَلَى وَجْهٍ تَبْقَى بَعْدَ الْمُدَّةِ فَيَصِيرُ صَفْقَتَانِ فِي صَفْقَةٍ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّثْنِيَةِ إنْ كَانَ رَدَّهَا مَكْرُوبَةً فَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ لَا يَقْتَضِيهِ لِأَنَّ الزِّرَاعَةَ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا أَنْ يُكْرِيَهَا مَرَّتَيْنِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا فِي مَوْضِعٍ تُخْرِجُ الْأَرْضُ الرِّيعَ بِالْكِرَابِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَالْمُدَّةُ سَنَةٌ وَاحِدَةٌ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا تُخْرِجُ الْأَرْضُ الرِّيعَ إلَّا بِالْكِرَابِ مَرَّتَيْنِ أَوْ كَانَتْ تُخْرِجُ بِالْكِرَابِ مَرَّةً إلَّا أَنَّ مُدَّةَ الْإِجَارَةِ كَانَتْ ثَلَاثَ سِنِينَ فَإِنَّهُ لَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ حِينَئِذٍ مِنْ مُقْتَضَيَاتِهِ، وَالثَّانِي لَيْسَ فِيهِ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مَنْفَعَةٌ لِعَدَمِ بَقَاءِ أَثَرِهِ بَعْدَ الْمُدَّةِ.
وَأَمَّا كَرْيُ الْأَنْهَارِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ الْمُرَادُ بِهَا الْجَدَاوِلُ لِبَقَاءِ مَنْفَعَتِهِ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ وَنَفَاهُ الْمُصَنِّفُ وَقَالَ: بَلْ الْمُرَادُ مِنْهَا الْأَنْهَارُ الْعِظَامُ هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ تَبْقَى مَنْفَعَتُهُ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ دُونَ الْأَوَّلِ (وَإِذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَزْرَعَهَا بِزِرَاعَةٍ أُخْرَى لَا يَجُوزُ أَصْلًا، وَكَذَا إجَارَةُ السُّكْنَى بِالسُّكْنَى وَاللُّبْسُ بِاللُّبْسِ وَالرُّكُوبُ بِالرُّكُوبِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ جَائِزٌ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ بِمَنْزِلَةِ الْأَعْيَانِ وَلِهَذَا جَازَتْ الْإِجَارَةُ بِدَيْنٍ) أَيْ بِأُجْرَةٍ هِيَ دَيْنٌ عَلَى الْمُؤَجِّرِ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ الْمَنَافِعُ بِمَنْزِلَةِ الْأَعْيَانِ لَكَانَ ذَلِكَ دَيْنًا بِدَيْنٍ (وَلَنَا) فِي ذَلِكَ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا (أَنَّ الْجِنْسَ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ النَّسَاءَ عِنْدَنَا فَصَارَ كَبَيْعِ الْقُوهِيِّ بِالْقُوهِيِّ نَسِيئَةً) وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ أَنَّ الْجِنْسَ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ النَّسَاءَ، وَمَعْنَى الْقُوهِيِّ تَقَدَّمَ فِي الْبُيُوعِ (وَإِلَى هَذَا) أَيْ إلَى هَذَا الطَّرِيقِ (أَشَارَ مُحَمَّدٌ) وَهُوَ مَا رُوِيَ: أَنَّ ابْنَ سِمَاعَةَ كَتَبَ إلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَكَتَبَ فِي جَوَابِهِ، إنَّك أَطَلْت الْفِكْرَةَ فَأَصَابَتْك الْحَيْرَةُ، وَجَالَسْت الْحِنَّائِيَّ فَكَانَتْ مِنْك زَلَّةٌ، أَمَا عَلِمْت أَنَّ السُّكْنَى بِالسُّكْنَى كَبَيْعِ الْقُوهِيِّ بِالْقُوهِيِّ نَسَاءً.
وَالْحِنَّائِيُّ اسْمٌ مُحْدَثٌ كَانَ يُنْكِرُ الْخَوْضَ عَلَى ابْنِ سِمَاعَةَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَيَقُولُ: لَا بُرْهَانَ لَكُمْ عَلَيْهَا.
وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّ النَّسَاءَ مَا يَكُونُ عَنْ اشْتِرَاطِ أَجَلٍ فِي الْعَقْدِ وَتَأْخِيرُ الْمَنْفَعَةِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ.
وَالثَّانِي أَنَّ النَّسَاءَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي مُبَادَلَةِ مَوْجُودٍ فِي الْحَالِ بِمَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ بَلْ يَحْدُثَانِ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُمَا لَمَّا أَقْدَمَا عَلَى عَقْدٍ يَتَأَخَّرُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِيهِ وَيَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا كَانَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي وُجُوبِ التَّأْخِيرِ مِنْ الْمَشْرُوطِ فَأُلْحِقَ بِهِ دَلَالَةً احْتِيَاطًا عَنْ شُبْهَةِ الْحُرْمَةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ فِي النَّسَاءِ شُبْهَةَ الْحُرْمَةِ، فَبِالْإِلْحَاقِ بِهِ تَكُونُ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ وَلَيْسَتْ بِمُحَرَّمَةٍ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الثَّابِتَ بِالدَّلَالَةِ كَالثَّابِتِ بِالْعِبَارَةِ، فَبِالْإِلْحَاقِ تَثْبُتُ الشُّبْهَةُ لَا شُبْهَتُهَا.
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الَّذِي لَمْ تَصْحَبْهُ الْبَاءُ يُقَامُ فِيهِ الْعَيْنُ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ ضَرُورَةَ تَحَقُّقِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ دُونَ مَا تَصْحَبُهُ لِفِقْدَانِهَا فِيهِ وَلَزِمَ وُجُودُ أَحَدِهِمَا حُكْمًا وَعَدَمُ الْآخَرِ وَتَحَقُّقُ النَّسَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ نَسْلُكَ طَرِيقًا آخَرَ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: الْمُدَّعِي أَنَّ هَذِهِ الْإِجَارَةَ فَاسِدَةٌ، لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا دُونَ الْآخَرِ أَوَّلًا، فَإِنْ كَانَ لَزِمَ النَّسَاءُ وَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَكَذَلِكَ لِعَدَمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ.
لَا يُقَالُ: قِسْمَةٌ غَيْرُ حَاضِرَةٍ لِجَوَازِ أَنْ يُعْتَبَرَا مَوْجُودَيْنِ؛ لِأَنَّ بُطْلَانَهُ قُدَّ وَ الثَّانِي (أَنَّ الْإِجَارَةَ جُوِّزَتْ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِلْحَاجَةِ، وَلَا حَاجَةَ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ) لِحُصُولِ مَقْصُودِهِ بِمَا هُوَ لَهُ مِنْ غَيْرِ مُبَادَلَةٍ (بِخِلَافِ مَا إذْ اخْتَلَفَ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ) كَالرُّكُوبِ وَاللُّبْسِ وَالزِّرَاعَةِ وَالسُّكْنَى.
فَإِنْ قِيلَ: إذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسُ لَزِمَ الْكَالِئُ بِالْكَالِئِ.
أُجِيبَ بِأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ فِي الدَّيْنِ وَالْمَنْفَعَةُ لَيْسَتْ بِدَيْنٍ، وَإِنْ قِيلَ: انْتَفَى الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَنَعْنَاهُ بِقِيَامِ الْعَيْنِ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ فِيمَا لَمْ تَصْحَبْهُ الْبَاءُ ثُمَّ إذَا اسْتَوْفَى أَحَدُهُمَا الْمَنَافِعَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنْفَعَتَهُ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ فَعَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ.
وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ تُقَوَّمُ الْمَنْفَعَةُ بِالتَّسْمِيَةِ وَقَدْ فَسَدَتْ. قَالَ: (وَإِذَا كَانَ الطَّعَامُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَاسْتَأْجَرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ أَوْ حِمَارَ صَاحِبِهِ عَلَى أَنْ يَحْمِلَ نَصِيبَهُ فَحَمَلَ الطَّعَامَ كُلَّهُ فَلَا أَجْرَ لَهُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهُ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ عَيْنٌ عِنْدَهُ وَبَيْعُ الْعَيْنِ شَائِعًا جَائِزٌ، وَصَارَ كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ لِيَضَعَ فِيهَا الطَّعَامَ أَوْ عَبْدًا مُشْتَرَكًا لِيَخِيطَ لَهُ الثِّيَابَ وَلَنَا أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِعَمَلٍ لَا وُجُودَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ فِعْلٌ حِسِّيٌّ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الشَّائِعِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ حُكْمِيٌّ، وَإِذَا لَمْ يُتَصَوَّرْ تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا يَجِبُ الْأَجْرُ، وَلِأَنَّ مَا مِنْ جُزْءٍ يَحْمِلُهُ إلَّا وَهُوَ شَرِيكٌ فِيهِ فَيَكُونُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّسْلِيمُ، بِخِلَافِ الدَّارِ الْمُشْتَرَكَةِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُنَالِكَ الْمَنَافِعُ وَيَتَحَقَّقُ تَسْلِيمُهَا بِدُونِ وَضْعِ الطَّعَامِ، وَبِخِلَافِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ مِلْكُ نَصِيبِ صَاحِبِهِ وَأَنَّهُ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ يُمْكِنُ إيقَاعُهُ فِي الشَّائِعِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِذَا كَانَ الطَّعَامُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ إلَخْ) وَإِذَا كَانَ الطَّعَامُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَاسْتَأْجَرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ أَوْ حِمَارَ صَاحِبِهِ عَلَى أَنْ يَحْمِلَ نَصِيبَهُ فَحَمَلَ الطَّعَامَ كُلَّهُ فَلَا أَجْرَ لَهُ: يَعْنِي لَا الْمُسَمَّى وَلَا أَجْرَ الْمِثْلِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَهُ الْمُسَمَّى لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ عَيْنٌ عِنْدَهُ وَبَيْعُ الْعَيْنِ شَائِعًا جَائِزٌ، وَصَارَ كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ لِيَضَعَ فِيهِ الطَّعَامَ يَعْنِي الطَّعَامَ الْمُشْتَرَكَ أَوْ عَبْدًا مُشْتَرَكًا لِيَخِيطَ الثِّيَابَ.
وَلَنَا أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِعَمَلٍ لَا وُجُودَ لَهُ، لِأَنَّ الْحَمْلَ فِعْلٌ حِسِّيٌّ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الشَّائِعِ إذْ الْحَمْلُ يَقَعُ عَلَى مُعَيَّنٍ وَالشَّائِعُ لَيْسَ بِمُعَيَّنٍ.
فَإِنْ قِيلَ: إذَا حَمَلَ الْكُلَّ فَقَدْ حَمَلَ الْبَعْضَ لَا مَحَالَةَ فَيَجِبُ الْأَجْرُ.
أُجِيبَ بِأَنَّ حَمْلَ الْكُلِّ حَمْلٌ مُعَيَّنٌ وَهُوَ لَيْسَ بِمَعْقُودٍ عَلَيْهِ الِاسْتِئْجَارُ لِعَمَلٍ لَا وُجُودَ لَهُ لَا يَجُوزُ لِعَدَمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَإِذَا لَمْ يُتَصَوَّرْ تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا يَجِبُ الْأَجْرُ أَصْلًا.
وَفَرَّقَ بَيْنَ هَذَا وَإِجَارَةِ الْمُشَاعِ فَإِنَّهَا أَيْضًا فَاسِدَةٌ عِنْدَهُ، فَإِنْ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ بِأَنَّ هُنَاكَ تَسْلِيمَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مُتَعَذِّرٌ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ، فَإِنْ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ وَجَبَ الْأَجْرُ، وَأَمَّا هَاهُنَا فَإِنَّهُ مُتَعَذِّرٌ أَصْلًا فَلَا يَجِبُ (قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ الشَّافِعِيِّ عَلَى الْبَيْعِ، وَذَلِكَ (لِأَنَّ الْبَيْعَ تَصَرُّفٌ حُكْمِيٌّ) أَيْ شَرْعِيٌّ، وَالتَّصَرُّفُ فِي الشَّائِعِ شَائِعٌ شَرْعًا، كَمَا إذَا بَاعَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ مَا مِنْ جُزْءٍ) دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى الْمَطْلُوبِ وَوَجْهُهُ أَنَّ حَامِلَ الشَّائِعِ مَا يُحْمَلُ مِنْ جُزْءٍ إلَّا وَهُوَ شَرِيكٌ فِيهِ، وَكُلُّ مَنْ حَمَلَ شَيْئًا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ كَانَ عَامِلًا لِنَفْسِهِ، وَمَنْ عَمِلَ لِنَفْسِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ أَجْرًا عَلَى غَيْرِهِ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ التَّسْلِيمِ إلَيْهِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا يَخْلُو مِنْ أَنَّهُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ فَقَطْ أَوْ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ، وَالْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ فَإِنَّهُ شَرِيكٌ، وَالثَّانِي حَقٌّ لَكِنَّ عَدَمَ اسْتِحْقَاقِهِ الْأَجْرَ عَلَى فِعْلِهِ لِنَفْسِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا وَقَعَ لِغَيْرِهِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ فَقَطْ، لِأَنَّ عَمَلَهُ لِنَفْسِهِ أَصْلٌ وَمُوَافِقٌ لِلْقِيَاسِ وَعَمَلُهُ لِغَيْرِهِ لَيْسَ بِأَصْلٍ بَلْ بِنَاءً عَلَى أَمْرٍ مُخَالِفٍ لِلْقِيَاسِ فِي الْحَاجَةِ، وَهِيَ تَنْدَفِعُ بِجَعْلِهِ عَامِلًا لِنَفْسِهِ لِحُصُولِ مَقْصُودِ الْمُسْتَأْجِرِ فَاعْتَبَرَ جِهَةَ كَوْنِهِ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فَقَطْ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ الْأَجْرَ.
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الدَّارِ الْمُشْتَرَكَةِ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ الْخَصْمِ عَلَى اسْتِئْجَارِ الدَّارِ الْمُشْتَرَكَةِ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُنَاكَ مَنَافِعُ الدَّارِ وَتَسْلِيمُهَا مُتَحَقِّقٌ بِدُونِ وَضْعِ الطَّعَامِ فِيهِ، فَإِنَّهُ إذَا تَسَلَّمَ الْبَيْتَ وَلَمْ يَضَعْ فِيهِ الطَّعَامَ أَصْلًا وَجَبَ عَلَيْهِ الْأَجْرُ، بِخِلَافِ الْحَمْلِ فَإِنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُوَ الْعَمَلُ وَتَسْلِيمُهُ فِي الشَّائِعِ لَا يَتَحَقَّقُ كَمَا مَرَّ.
وَقَوْلُهُ (وَبِخِلَافِ الْعَبْدِ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى اسْتِئْجَارِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لِلْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ يَمْلِكُ مَنْفَعَةَ نَصِيبِ صَاحِبِهِ وَالْمِلْكُ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ يُمْكِنُ إيقَاعُهُ فِي الشَّائِعِ كَمَا فِي الْبَيْعِ، بِخِلَافِ الْحَمْلِ لِأَنَّهُ فِعْلٌ حِسِّيٌّ فَكَانَ الضَّابِطُ أَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ لَا يَجِبُ فِيهِ الْأَجْرُ إلَّا بِإِيقَاعِ عَمَلٍ فِي الْعَيْنِ الْمُشْتَرَكَةِ لَا يَجِبُ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ يَجِبُ كَالدَّارِ الْمُشْتَرَكَةِ وَالسَّفِينَةِ الْمُشْتَرَكَةِ لِحَمْلِ الطَّعَامِ الْمُشْتَرَكِ (وَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ يَزْرَعُهَا أَوْ أَيَّ شَيْءٍ يَزْرَعُهَا فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ)؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ تُسْتَأْجَرُ لِلزِّرَاعَةِ وَلِغَيْرِهَا، وَكَذَا مَا يُزْرَعُ فِيهَا مُخْتَلِفٌ، فَمِنْهُ مَا يَضُرُّ بِالْأَرْضِ مَا لَا يَضُرُّ بِهَا غَيْرُهُ، فَلَمْ يَكُنْ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا.
(فَإِنْ زَرَعَهَا وَمَضَى الْأَجَلُ فَلَهُ الْمُسَمَّى) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ.
وَفِي الْقِيَاسِ: لَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ فَاسِدًا فَلَا يَنْقَلِبُ جَائِزًا.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْجَهَالَةَ ارْتَفَعَتْ قَبْلَ تَمَامِ الْعَقْدِ فَيَنْقَلِبُ جَائِزًا، كَمَا إذَا ارْتَفَعَتْ فِي حَالَةِ الْعَقْدِ، وَصَارَ كَمَا إذَا أَسْقَطَ الْأَجَلَ الْمَجْهُولَ قَبْلَ مُضِيِّهِ وَالْخِيَارَ الزَّائِدَ فِي الْمُدَّةِ.
(وَمَنْ اسْتَأْجَرَ حِمَارًا إلَى بَغْدَادَ بِدِرْهَمٍ وَلَمْ يُسَمِّ مَا يَحْمِلُ عَلَيْهِ فَحَمَلَ مَا يَحْمِلُ النَّاسُ فَنَفَقَ فِي نِصْفِ الطَّرِيقِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ)؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ الْمُسْتَأْجَرَةَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَإِنْ كَانَتْ الْأُجْرَةُ فَاسِدَةً (فَإِنْ بَلَغَ بَغْدَادَ فَلَهُ الْأَجْرُ الْمُسَمَّى اسْتِحْسَانًا) عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى (وَإِنْ اخْتَصَمَا قَبْلَ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ) وَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى قَبْلَ أَنْ يَزْرَعَ (نُقِضَتْ الْإِجَارَةُ) دَفْعًا لِلْفَسَادِ إذْ الْفَسَادُ قَائِمٌ بَعْدُ.
الشَّرْحُ:
وَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهَا لِلزِّرَاعَةِ أَوْ لِغَيْرِهَا أَوْ بَيَّنَ أَنَّهَا لِلزِّرَاعَةِ وَلَمْ يُبَيِّنْ مَاذَا يَزْرَعُ فِيهَا فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ لِجَهَالَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْأَرْضَ كَمَا تُسْتَأْجَرُ لِلزِّرَاعَةِ تُسْتَأْجَرُ لِغَيْرِهَا كَالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ (وَكَذَا مَا يُزْرَعُ فِيهَا مُخْتَلِفٌ، فَمِنْهُ مَا يَضُرُّ بِالْأَرْضِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ) كَالذُّرَةِ وَالْأَرُزِّ فَإِنَّ ضَرَرَهُمَا بِهَا أَكْثَرُ مِنْ ضَرَرِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَجَهَالَةُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ تُفْسِدُ الْعَقْدَ، فَإِنْ زَرَعَهَا وَمَضَى الْأَجَلُ وَجَبَ الْأَجْرُ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، لِأَنَّهُ انْعَقَدَ فَاسِدًا فَلَا يَنْقَلِبُ جَائِزًا.
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْجَهَالَةَ قَدْ ارْتَفَعَتْ قَبْلَ تَمَامِ الْعَقْدِ بِنَقْضِ الْحَاكِمِ بِوُقُوعِ مَا وَقَعَ فِيهَا مِنْ الزَّرْعِ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ يُعْقَدُ لِلِاسْتِقْبَالِ، فَإِذَا شَاهَدَ الْمَزْرُوعَ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ وَعَرَفَ أَنَّهُ ضَارٌّ أَوْ لَيْسَ بِضَارٍّ فَقَدْ ارْتَفَعَتْ الْجَهَالَةُ الْمُفْضِيَةُ إلَى النِّزَاعِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَارْتِفَاعُهَا مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ كَارْتِفَاعِهَا مِنْ حَالَةِ الْعَقْدِ لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَائِهِ، وَلَوْ ارْتَفَعَتْ مِنْ الِابْتِدَاءِ جَازَ فَكَذَا هَاهُنَا.
وَصَارَ كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ إلَى الدِّيَاسِ مَثَلًا ثُمَّ أَسْقَطَ الْأَجَلَ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ النَّاسُ فِيهِ، وَكَمَا إذَا بَاعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ إلَى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ثُمَّ أَسْقَطَ الرَّابِعَ، وَكَمَا إذَا بَاعَ بِشَرْطٍ قَبْلَ مَجِيئِهِ، وَهَذَا رَدُّ الْمُخْتَلِفِ عَلَى الْمُخْتَلَفِ، فَإِنَّ زُفَرَ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ أَيْضًا، وَلَكِنْ لَمَّا أَثْبَتَ ذَلِكَ بِدَلِيلِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ ذَكَرَ هَاهُنَا بِطَرِيقِ الْمُبَادِي.
لَا يُقَالُ: ذِكْرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَكْرَارٌ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي أَوَّلِ بَابٍ مَا يَجُوزُ مِنْ الْإِجَارَةِ وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْأَرَاضِي لِلزِّرَاعَةِ، وَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ حَتَّى يُسَمَّى مَا يُزْرَعُ فِيهَا لِأَنَّ ذَلِكَ وَضْعُ الْقُدُورِيِّ وَهَذَا وَضْعُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يَشْتَمِلُ عَلَى زِيَادَةِ فَائِدَةٍ هِيَ قَوْلُهُ فَإِنْ زَرَعَهَا وَمَضَى الْأَجَلُ فَلَهُ الْمُسَمَّى (وَمَنْ اسْتَأْجَرَ حِمَارًا إلَى بَغْدَادَ بِدِرْهَمٍ وَلَمْ يُسَمِّ مَا يَحْمِلُ عَلَيْهِ فَحَمَلَ عَلَيْهِ مَا يَحْمِلُهُ النَّاسُ فَهَلَكَ فِي نِصْفِ الطَّرِيقِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ) الْإِجَارَةَ وَإِنْ كَانَتْ فَاسِدَةً فَ (الْعَيْنُ الْمُسْتَأْجَرَةُ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ) لِأَنَّ حُكْمَ الْفَاسِدِ إنَّمَا تُؤْخَذُ مِنْ الْجَائِزِ، إذْ لَا حُكْمَ لِلْفَاسِدِ بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ مُبَاشَرَةٌ مَأْمُورٌ بِنَقْضِهِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَأْخُذَ مِنْ الصَّحِيحِ حُكْمَهُ (فَإِنْ بَلَغَ بَغْدَادَ فَلَهُ الْأَجْرُ الْمُسَمَّى اسْتِحْسَانًا كَمَا مَرَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى) وَهِيَ قَوْلُهُ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْجَهَالَةَ ارْتَفَعَتْ قَبْلَ تَمَامِ الْعَقْدِ، فَإِنَّهُ لَمَّا حَمَلَ عَلَيْهِ مَا يَحْمِلُهُ النَّاسُ مِنْ الْحَمْلِ فَقَدْ تَعَيَّنَ الْحَمْلُ وَارْتَفَعَتْ الْجَهَالَةُ الْمُفْضِيَةُ إلَى النِّزَاعِ فَانْقَلَبَ إلَى الْجَوَازِ وَوَجَبَ الْمُسَمَّى (وَإِنْ اخْتَصَمَا قَبْلَ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ وَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى قَبْلَ أَنْ يَزْرَعَ نُقِضَتْ الْإِجَارَةُ دَفْعًا لِلْفَسَادِ لِأَنَّهُ قَائِمٌ بَعْدُ) وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.