فصل: فَصْلٌ فِي وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.(كِتَابُ الْوَلَاءِ):

الْوَلَاءُ نَوْعَانِ: وَلَاءُ عَتَاقَةٍ وَيُسَمَّى وَلَاءَ نِعْمَةٍ.
الشَّرْحُ:
(كِتَابُ الْوَلَاءِ) أَوْرَدَ كِتَابَ الْوَلَاءِ عَقِيبَ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّهُ مِنْ آثَارِ زَوَالِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ، وَقَدْ سَاقَ مُوجِبَ تَرْتِيبِ الْأَبْوَابِ عَلَى النَّهْجِ الْمُتَقَدِّمِ إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ فَوَجَبَ تَأْخِيرُ كِتَابِ الْوَلَاءِ عَنْ كِتَابِ الْمُكَاتَبِ لِئَلَّا يَتَقَدَّمَ الْأَثَرُ عَلَى الْمُؤَثِّرِ.
وَالْوَلَاءُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ النُّصْرَةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْوَلِيِّ وَهُوَ الْقُرْبُ، وَحُصُولُ الثَّانِي بَعْدَ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَفِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ عِبَارَةٌ عَنْ تَنَاصُرٍ يُوجِبُ الْإِرْثَ وَالْعَقْلَ.
قَالَ (الْوَلَاءُ نَوْعَانِ) يُنَوَّعُ الْوَلَاءُ بِاخْتِلَافِ السَّبَبِ إلَى نَوْعَيْنِ: فَالْأَوَّلُ (وَلَاءُ عَتَاقَةٍ وَيُسَمَّى وَلَاءَ نِعْمَةٍ) اقْتِفَاءً بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْت عَلَيْهِ} أَيْ بِالْإِعْتَاقِ وَهُوَ زَيْدٌ. وَسَبَبُهُ الْعِتْقُ عَلَى مُلْكِهِ فِي الصَّحِيحِ، حَتَّى لَوْ عَتَقَ قَرِيبُهُ عَلَيْهِ بِالْوِرَاثَةِ كَانَ الْوَلَاءُ لَهُ.
وَوَلَاءُ مُوَالَاةٍ، وَسَبَبُهُ الْعَقْدُ وَلِهَذَا يُقَالُ وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ وَوَلَاءُ الْمُوَالَاةِ، وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى سَبَبِهِ، وَالْمَعْنَى فِيهِمَا التَّنَاصُرُ، وَكَانَتْ الْعَرَبُ تَتَنَاصَرُ بِأَشْيَاءَ، وَقَرَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنَاصُرَهُمْ بِالْوَلَاءِ بِنَوْعَيْهِ فَقَالَ: «إنَّ مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ وَحَلِيفُهُمْ مِنْهُمْ» وَالْمُرَادُ بِالْحَلِيفِ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُؤَكِّدُونَ الْمُوَالَاةَ بِالْحِلْفِ.
الشَّرْحُ:
(وَسَبَبُهُ الْعِتْقُ عَلَى مِلْكِهِ فِي الصَّحِيحِ) وَقَوْلُهُ (فِي الصَّحِيحِ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا إنَّ سَبَبَهُ الْإِعْتَاقُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا، لِأَنَّهُ لَوْ عَتَقَ عَلَى الرَّجُلِ قَرِيبُهُ بِالْوِرَاثَةِ كَانَ الْوَلَاءُ لَهُ وَلَا إعْتَاقَ، فَجُعِلَ الْعِتْقُ سَبَبًا أَوْلَى لِعُمُومِهِ، وَالثَّانِي وَلَاءُ مُوَالَاةٍ وَسَبَبُهُ الْعَقْدُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُ (قَوْلُهُ وَلِهَذَا يُقَالُ وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ وَوَلَاءُ الْمُوَالَاةِ) بَيَانٌ لِسَبَبِ النَّوْعَيْنِ فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُضَافُ إلَى شَيْءٍ، وَالْإِضَافَةُ تَدُلُّ عَلَى السَّبَبِيَّةِ كَمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ.
وَقَوْلُهُ (وَالْمَعْنَى فِيهِمَا التَّنَاصُرُ) بَيَانُ مَفْهُومِهِمَا الشَّرْعِيِّ (قَوْلُهُ وَكَانَتْ الْعَرَبُ تَتَنَاصَرُ بِأَشْيَاءَ) بَيَانُ وُجُوهِ التَّنَاصُرِ فِيهِمَا، فَإِنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَتَنَاصَرُ بِهِمَا وَبِالْحَلِفِ وَالْمُنَاطَاةِ (وَ) قَدْ (قَرَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنَاصُرَهُمْ بِالْوَلَاءِ بِنَوْعَيْهِ فَقَالَ: «إنَّ مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ وَحَلِيفُهُمْ مِنْهُمْ».
وَالْمُرَادُ بِالْحَلِيفِ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُؤَكِّدُونَ الْمُوَالَاةَ بِالْحَلِفِ). قَالَ (وَإِذَا أَعْتَقَ الْمَوْلَى مَمْلُوكَهُ فَوَلَاؤُهُ لَهُ) لِقَوْلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ»، وَلِأَنَّ التَّنَاصُرَ بِهِ فَيَعْقِلُهُ وَقَدْ أَحْيَاهُ مَعْنًى بِإِزَالَةِ الرِّقِّ عَنْهُ فَيَرِثُهُ وَيَصِيرُ الْوَلَاءُ كَالْوِلَادِ، وَلِأَنَّ الْغُنْمَ بِالْغُرْمِ، وَكَذَا الْمَرْأَةُ تَعْتِقُ لِمَا رَوَيْنَا، «وَمَاتَ مُعْتَقٌ لِابْنَةِ حَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْهَا وَعَنْ بِنْتٍ فَجَعَلَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمَالَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ».
وَيُسْتَوَى فِيهِ الْإِعْتَاقُ بِمَالٍ وَبِغَيْرِهِ لِإِطْلَاقِ مَا ذَكَرْنَاهُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِذَا أَعْتَقَ الْمَوْلَى مَمْلُوكَهُ إلَخْ) إذَا أَعْتَقَ الْمَوْلَى مَمْلُوكَهُ كَانَ الْوَلَاءُ لَهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ الْحُكْمَ إذَا تَرَتَّبَ عَلَى مُشْتَقٍّ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَقَّ مِنْهُ عِلَّةٌ لِذَلِكَ الْحُكْمِ.
فَإِنْ قِيلَ: الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يُنَاقِضُ جَعْلَ الْعِتْقِ سَبَبًا لِأَنَّ أَعْتَقَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْإِعْتَاقِ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الِاشْتِقَاقِ هُوَ مَصْدَرُ الثُّلَاثِيِّ وَهُوَ الْعِتْقُ.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ التَّنَاصُرَ بِهِ) أَيْ بِسَبَبِ الْإِعْتَاقِ دَلِيلٌ عَلَى الْأَثَرَيْنِ الثَّابِتَيْنِ بِهِ وَهُمَا الْعَقْلُ وَالْمِيرَاثُ.
وَتَقْرِيرُهُ الْمَوْلَى يَنْتَصِرُ بِمَوْلَاهُ بِسَبَبِ الْعِتْقِ، وَمَنْ يَنْتَصِرُ بِشَخْصٍ يَعْقِلُهُ لِأَنَّ الْغُرْمَ بِالْغُنْمِ فَحَيْثُ يَغْنَمُ بِنَصْرِهِ يَغْرَمُ عَقْلَهُ، وَالْمَوْلَى أَحْيَاهُ مَعْنًى بِإِزَالَةِ الرِّقِّ عَنْهُ، لِأَنَّ الرَّقِيقَ هَالِكٌ حُكْمًا، أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ كَثِيرٌ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَعَلَّقَتْ بِالْأَحْيَاءِ نَحْوُ الْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ وَالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ وَالْخُرُوجِ إلَى الْعِيدَيْنِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَبِالْإِعْتَاقِ تَثْبُتُ هَذِهِ الْأَحْكَامُ فِي حَقِّهِ فَكَانَ إحْيَاءً مَعْنًى، وَمَنْ أَحْيَا غَيْرَهُ مَعْنًى وَرِثَهُ كَالْوَالِدِ فَيَصِيرُ الْوَلَاءُ كَالْوِلَادِ وَالْوِلَادُ يُوجِبُ الْإِرْثَ، فَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ، وَلِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّهُ يَعْقِلُهُ فَيَرِثُهُ لِأَنَّ الْغُنْمَ بِالْغُرْمِ، فَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ الْغُنْمَ بِالْغُرْمِ) يَخْدُمُ الْوَجْهَيْنِ فَلِهَذَا أَخَّرَهُ (قَوْلُهُ وَكَذَا الْمَرْأَةُ تُعْتَقُ) يَعْنِي أَنَّ وَلَاءَ مُعْتِقِهَا لَهَا لِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» وَقَوْلُهُ (وَمَاتَ مُعْتِقٌ لِابْنَةِ حَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ لِمَا رَوَيْنَا مَعْنَى ذَكَرَهُ اسْتِدْلَالًا عَلَى ثُبُوتِ الْوَلَاءِ لِلْمَرْأَةِ (رُوِيَ «أَنَّ بِنْتَ حَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَعْتَقَتْ غُلَامًا لَهَا ثُمَّ مَاتَ الْمُعْتِقُ وَتَرَكَ ابْنَتَهُ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَالَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ».
وَيَسْتَوِي فِي ثُبُوتِ الْوَلَاءِ الْإِعْتَاقُ بِمَالٍ وَبِغَيْرِهِ) وَالْعِتْقُ بِقَرَابَةٍ أَوْ كِتَابَةٍ عِنْدَ الْأَدَاءِ أَوْ تَدْبِيرٍ أَوْ اسْتِيلَادٍ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْعِتْقُ حَاصِلًا ابْتِدَاءً أَوْ بِجِهَةِ الْوَاجِبِ كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَمَا أَشْبَهَهَا (لِإِطْلَاقِ مَا ذَكَرْنَاهُ) يَعْنِي قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمَعْنَى الْمَعْقُولِ. قَالَ (فَإِنْ شَرَطَ أَنَّهُ سَائِبَةٌ فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ وَالْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ) لِأَنَّ الشَّرْطَ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ فَلَا يَصِحُّ.
الشَّرْحُ:
(فَإِنْ شُرِطَ أَنَّهُ سَائِبَةٌ) أَيْ يَكُونُ حُرًّا وَلَا وَلَاءَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُعْتِقِهِ (فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ وَالْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ، لِأَنَّ الشَّرْطَ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ فَلَا يَصِحُّ). قَالَ (وَإِذَا أَدَّى الْمُكَاتَبُ عَتَقَ وَوَلَاؤُهُ لِلْمَوْلَى وَإِنْ عَتَقَ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى) لِأَنَّهُ عَتَقَ عَلَيْهِ بِمَا بَاشَرَ مِنْ السَّبَبِ وَهُوَ الْكِتَابَةُ وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي الْمُكَاتَبِ (وَكَذَا الْعَبْدُ الْمُوصَى بِعِتْقِهِ أَوْ بِشِرَائِهِ وَعِتْقِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ) لِأَنَّ فِعْلَ الْوَصِيِّ بَعْدَ مَوْتِهِ كَفِعْلِهِ وَالتَّرِكَةُ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَإِذَا أَدَّى الْمُكَاتَبُ) كَلَامُهُ ظَاهِرٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى شَرْحٍ.
وَذَكَرَ مَسْأَلَةَ جَرِّ الْوَلَاءِ وَبَيَّنَ مَوَاضِعَ الْجَرِّ عَنْ غَيْرِهِ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعِتْقَ إذَا وَقَعَ مَقْصُودًا عَلَى الْوَلَدِ لَا يَنْتَقِلُ وَلَاؤُهُ أَبَدًا، وَإِنْ وَقَعَ تَبَعًا لِأُمِّهِ ثُمَّ أُعْتِقَ الْأَبُ جَرَّ وَلَاءَ ابْنِهِ إلَى مَوَالِيهِ. (وَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَ مُدَبَّرُوهُ وَأُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ) لِمَا بَيَّنَّا فِي الْعَتَاقِ (وَوَلَاؤُهُمْ لَهُ) لِأَنَّهُ أَعْتَقَهُمْ بِالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ (وَمَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ عَتَقَ عَلَيْهِ) لِمَا بَيَّنَّا فِي الْعَتَاقِ (وَوَلَاؤُهُ لَهُ) لِوُجُودِ السَّبَبِ وَهُوَ الْعِتْقُ عَلَيْهِ (وَإِذَا تَزَوَّجَ عَبْدُ رَجُلٍ أَمَةً لِآخَرَ فَأَعْتَقَ مَوْلَى الْأَمَةِ الْأَمَةَ وَهِيَ حَامِلٌ مِنْ الْعَبْدِ عَتَقَتْ وَعَتَقَ حَمْلُهَا، وَوَلَاءُ الْحَمْلِ لِمَوْلَى الْأُمِّ لَا يَنْتَقِلُ عَنْهُ أَبَدًا) لِأَنَّهُ عَتَقَ عَلَى مُعْتِقِ الْأُمِّ مَقْصُودًا إذْ هُوَ جُزْءٌ مِنْهَا يَقْبَلُ الْإِعْتَاقَ مَقْصُودًا فَلَا يَنْتَقِلُ وَلَاؤُهُ عَنْهُ عَمَلًا بِمَا رَوَيْنَا (وَكَذَلِكَ إذَا وَلَدَتْ وَلَدًا لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ) لِلتَّيَقُّنِ بِقِيَامِ الْحَمْلِ وَقْتَ الْإِعْتَاقِ (أَوْ وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ أَحَدُهُمَا لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ) لِأَنَّهُمَا تَوْأَمَانِ يَتَعَلَّقَانِ مَعًا.
وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا وَالَتْ رَجُلًا وَهِيَ حُبْلَى وَالزَّوْجُ وَالَى غَيْرَهُ حَيْثُ يَكُونُ وَلَاءُ الْوَلَدِ لِمَوْلَى الْأَبِ لِأَنَّ الْجَنِينَ غَيْرُ قَابِلٍ لِهَذَا الْوَلَاءِ مَقْصُودًا، لِأَنَّ تَمَامَهُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَهُوَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لَهُ.
قَالَ (فَإِنْ وَلَدَتْ بَعْدَ عِتْقِهَا لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَلَدًا فَوَلَاؤُهُ لِمَوَالِي الْأُمِّ) لِأَنَّهُ عَتَقَ تَبَعًا لِلْأُمِّ لِاتِّصَالِهِ بِهَا بَعْدَ عِتْقِهَا فَيَتْبَعُهَا فِي الْوَلَاءِ وَلَمْ يَتَيَقَّنْ بِقِيَامِهِ وَقْتَ الْإِعْتَاقِ حَتَّى يَعْتِقَ مَقْصُودًا (فَإِنْ أُعْتِقَ الْأَبُ جَرَّ وَلَاءَ ابْنِهِ وَانْتَقَلَ عَنْ مَوَالِي الْأُمِّ إلَى مَوَالِي الْأَبِ) لِأَنَّ الْعِتْقَ هَاهُنَا فِي الْوَلَدِ يَثْبُتُ تَبَعًا لِلْأُمِّ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوَلَاءَ بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ» ثُمَّ النَّسَبُ إلَى الْآبَاءِ فَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ وَالنِّسْبَةُ إلَى مَوَالِي الْأُمِّ كَانَتْ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الْأَبِ ضَرُورَةً، فَإِذَا صَارَ أَهْلًا عَادَ الْوَلَاءُ إلَيْهِ؛ كَوَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ يُنْسَبُ إلَى قَوْمِ الْأُمِّ ضَرُورَةً، فَإِذَا أَكَذَبَ الْمُلَاعِنُ نَفْسَهُ يُنْسَبُ إلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أُعْتِقَتْ الْمُعْتَدَّةُ عَنْ مَوْتٍ أَوْ طَلَاقٍ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الْمَوْتِ أَوْ الطَّلَاقِ حَيْثُ يَكُونُ الْوَلَدُ مَوْلًى لِمَوَالِي الْأُمِّ وَإِنْ أُعْتِقَ الْأَبُ لِتَعَذُّرِ إضَافَةِ الْعُلُوقِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالطَّلَاقِ الْبَائِنِ لِحُرْمَةِ الْوَطْءِ وَبَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ لِمَا أَنَّهُ يَصِيرُ مُرَاجَعًا بِالشَّكِّ فَأُسْنِدَ إلَى حَالَةِ النِّكَاحِ فَكَانَ الْوَلَدُ مَوْجُودًا عِنْدَ الْإِعْتَاقِ فَعَتَقَ مَقْصُودًا.
الشَّرْحُ:
وَعَلَى هَذَا إذَا أَعْتَقَ الرَّجُلُ أَمَةً وَوَلَدَهَا عَتَقَا وَوَلَاؤُهُمَا لَهُ، فَإِنْ أُعْتِقَ الْأَبُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَجُرُّ وَلَاءَهُ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُنْفَصِلًا عَنْ الْأُمِّ كَانَ مَمْلُوكًا لِمَالِكِ الْأُمِّ وَالْعِتْقُ تَنَاوَلَهُ مَقْصُودًا فَلَا يَتَّبِعُ أَحَدًا، وَإِذَا أُعْتِقَتْ الْأُمُّ وَهِيَ حَامِلٌ أَوْ أُعْتِقَتْ وَوَلَدَتْ بَعْدَ الْعِتْقِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ وَلَدَتْ أَحَدَ التَّوْأَمَيْنِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بِيَوْمٍ ثُمَّ أَعْتَقَ الْأَبَ رَجُلٌ آخَرُ فَكَذَلِكَ لَا يَنْتَقِلُ الْوَلَاءُ إلَى مَوَالِي الْأَبِ لِأَنَّ الْمَوْلَى قَصَدَ إعْتَاقَ الْأُمِّ، وَالْقَصْدُ إلَيْهَا بِالْإِعْتَاقِ قَصْدٌ إلَى جَمِيعِ أَجْزَائِهَا وَالْحَمْلُ جُزْءٌ مِنْهَا، فَإِنْ كَانَ الْحَمْلُ ظَاهِرًا وَقْتَ الْإِعْتَاقِ فَوَاضِحٌ، وَإِنْ وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ حَصَلَ الْيَقِينُ بِقِيَامِهِ فِيهِ، وَكَذَا إذَا وَلَدَتْ أَحَدَ التَّوْأَمَيْنِ لِأَنَّهُمَا يَتَعَلَّقَانِ مَعًا.
فَإِنْ قِيلَ: الْحُبْلَى إذَا وَالَتْ رَجُلًا وَالزَّوْجُ وَالَى غَيْرَهُ كَانَ وَلَاءُ الْوَلَدِ لِمَوْلَى الْأَبِ فَمَا الْفَرْقُ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْجَنِينَ غَيْرُ قَابِلٍ لِهَذَا الْوَلَاءِ مَقْصُودًا، لِأَنَّ تَمَامَهُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَهُوَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لَهُ، وَإِذَا أَعْتَقَهَا ثُمَّ وَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَوَلَاؤُهُ لِمَوَالِي الْأُمِّ لِأَنَّهَا لَمَّا وَلَدَتْ لِذَلِكَ لَمْ يَتَيَقَّنْ لِقِيَامِ الْحَمْلِ وَقْتَ الْإِعْتَاقِ حَتَّى يُعْتَقَ مَقْصُودًا فَيُعْتَقَ تَبَعًا لِلْأُمِّ لِاتِّصَالِهِ بِهَا بَعْدَ عِتْقِهَا فَيَتْبَعُهَا فِي الْوَلَاءِ. (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَإِذَا تَزَوَّجَتْ مُعْتَقَةً بِعَبْدٍ فَوَلَدَتْ أَوْلَادًا فَجَنَى الْأَوْلَادُ فَعَقْلُهُمْ عَلَى مَوَالِي الْأُمِّ) لِأَنَّهُمْ عَتَقُوا تَبَعًا لِأُمِّهِمْ وَلَا عَاقِلَةَ لِأَبِيهِمْ وَلَا مَوْلَى، فَأُلْحِقُوا بِمَوَالِي الْأُمِّ ضَرُورَةً كَمَا فِي وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا (فَإِنْ أُعْتِقَ الْأَبُ جَرَّ وَلَاءَ الْأَوْلَادِ إلَى نَفْسِهِ) لِمَا بَيَّنَّا (وَلَا يَرْجِعُونَ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ بِمَا عَقَلُوا) لِأَنَّهُمْ حِينَ عَقَلُوهُ كَانَ الْوَلَاءُ ثَابِتًا لَهُمْ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لِلْأَبِ مَقْصُودًا لِأَنَّ سَبَبَهُ مَقْصُودٌ وَهُوَ الْعِتْقُ، بِخِلَافِ وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ إذَا عَقَلَ عَنْهُ قَوْمُ الْأُمِّ ثُمَّ أَكْذَبَ الْمُلَاعِنُ نَفْسَهُ حَيْثُ يَرْجِعُونَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ النَّسَبَ هُنَالِكَ يَثْبُتُ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ وَكَانُوا مَجْبُورِينَ عَلَى ذَلِكَ فَيَرْجِعُونَ.
الشَّرْحُ:
فَإِنْ أُعْتِقَ الْأَبُ جَرَّ وَلَاءَ ابْنِهِ إلَى مَوَالِيهِ لِأَنَّ الْوَلَاءَ بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ.
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ» الْحَدِيثَ.
ثُمَّ النَّسَبُ إلَى الْآبَاءِ فَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ، وَالنِّسْبَةُ إلَى مَوَالِي الْأُمِّ كَانَتْ ضَرُورَةَ عَدَمِ أَهْلِيَّةِ الْأَبِ لِرِقِّهِ، فَإِذَا صَارَ أَهْلًا عَادَ الْوَلَاءُ إلَيْهِ.
كَمَا أَنَّ وَلَدَ الْمُلَاعَنَةِ يَنْتَسِبُ إلَى قَوْمِ الْأُمِّ ضَرُورَةً، فَإِذَا أَكْذَبَ الْمُلَاعِنُ نَفْسَهُ عَادَ انْتِسَابُ الْوَلَاءِ إلَيْهِ.
وَنُوقِضَ قَوْلُهُ فَإِذَا صَارَ طِفْلًا عَادَ الْوَلَاءُ إلَيْهِ بِمَا إذَا أُعْتِقَتْ الْمُعْتَدَّةُ عَنْ مَوْتٍ بِأَنْ كَانَتْ الْأَمَةُ امْرَأَةَ مُكَاتَبٍ فَمَاتَ عَنْ وَفَاءٍ أَوْ أُعْتِقَتْ الْمُعْتَدَّةُ عَنْ طَلَاقٍ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الْمَوْتِ أَوْ الطَّلَاقِ حَيْثُ يَكُونُ الْوَلَدُ مَوْلًى لِمَوَالِي الْأُمِّ لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهُمْ، وَإِنْ أُعْتِقَ الْأَبُ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْعَوْدَ إلَيْهِ بِعَوْدِ الْأَهْلِيَّةِ، وَلَمْ يَثْبُتْ بِهَذَا الْعِتْقِ لِلْأَبِ أَهْلِيَّةٌ لِتَعَذُّرِ إضَافَةِ الْعُلُوقِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَإِلَى مَا بَعْدَ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ لِحُرْمَةِ الْوَطْءِ وَكَذَلِكَ بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ لِمَا أَنَّهُ يَصِيرُ مُرَاجِعًا بِالشَّكِّ، لِأَنَّهَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا عِنْدَ الطَّلَاقِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ الرَّجْعَةِ لِثُبُوتِ النَّسَبِ، وَاحْتُمِلَ أَنْ لَا يَكُونَ فَيَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِهَا لِيَثْبُتَ النَّسَبُ، وَإِذَا تَعَذَّرَ إضَافَتُهُ إلَى مَا بَعْدَ ذَلِكَ أُسْنِدَ إلَى حَالَةِ النِّكَاحِ فَكَانَ الْوَلَدُ مَوْجُودًا عِنْدَ الْإِعْتَاقِ فَعَتَقَ مَقْصُودًا، وَمَنْ عَتَقَ مَقْصُودًا لَا يَنْتَقِلُ وَلَاؤُهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَيَتَبَيَّنُ مِنْ هَذَا أَنَّهَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى الْمُتَيَقَّنِ بِوُجُودِ الْوَلَدِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَالطَّلَاقِ. وَأَمَّا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ فَالْحُكْمُ فِيهِ يَخْتَلِفُ بِالطَّلَاقِ الْبَائِنِ وَالرَّجْعِيِّ، فَفِي الْبَائِنِ مِثْلُ مَا كَانَ، وَأَمَّا فِي الرَّجْعِيِّ فَوَلَاءُ الْوَلَدِ لِمَوَالِي الْأَبِ لِتَيَقُّنِنَا بِمُرَاجَعَتِهِ.
وَذَكَرَ لَفْظَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى بَيَانِ الْعَقْلِ وَبَيَّنَ الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ وَكَلَامُهُ فِيهِ وَاضِحٌ. قَالَ (وَمَنْ تَزَوَّجَ مِنْ الْعَجَمِ بِمُعْتَقَةٍ مِنْ الْعَرَبِ فَوَلَدَتْ لَهُ أَوْلَادًا) فَوَلَاءُ أَوْلَادِهَا لِمَوَالِيهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: حُكْمُهُ حُكْمُ أَبِيهِ، لِأَنَّ النَّسَبَ إلَى الْأَبِ كَمَا إذَا كَانَ الْأَبُ عَرَبِيًّا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْأَبُ عَبْدًا لِأَنَّهُ هَالِكٌ مَعْنًى.
وَلَهُمَا أَنَّ وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ قَوِيٌّ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ حَتَّى اُعْتُبِرَتْ الْكَفَاءَةُ فِيهِ، وَالنَّسَبُ فِي حَقِّ الْعَجَمِ ضَعِيفٌ فَإِنَّهُمْ ضَيَّعُوا أَنْسَابَهُمْ وَلِهَذَا لَمْ تُعْتَبَرْ الْكَفَاءَةُ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِالنَّسَبِ، وَالْقَوِيُّ لَا يُعَارِضُهُ الضَّعِيفُ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْأَبُ عَرِيبًا لِأَنَّ أَنْسَابَ الْعَرَبِ قَوِيَّةٌ مُعْتَبَرَةٌ فِي حُكْمِ الْكَفَاءَةِ وَالْعَقْلِ، كَمَا أَنَّ تَنَاصُرَهُمْ بِهَا فَأَغْنَتْ عَنْ الْوَلَاءِ.
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْخِلَافُ فِي مُطْلَقِ الْمُعْتَقَةِ وَالْوَضْعُ فِي مُعْتَقَةِ الْعَرَبِ وَقَعَ اتِّفَاقًا.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ تَزَوَّجَ مِنْ الْعَجَمِ بِمُعْتَقَةٍ مِنْ الْعَرَبِ إلَخْ) تَزَوَّجَ مُسْلِمٌ مِنْ الْعَجَمِ لَمْ يُعْتِقْهُ أَحَدُ مُعْتَقَةِ الْعَرَبِ فَوَلَاءُ أَوْلَادِهَا لِمَوَالِيهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَأَمْوَالُهُمْ لَهُمْ لَا لِذَوِي أَرْحَامِهِ، حَتَّى لَوْ تَرَكَ هَذَا الْوَلَدُ عَمَّةً أَوْ خَالَةً لَمْ يَكُنْ لَهُمَا شَيْءٌ فِي وُجُودِ مُعْتِقِ الْأُمِّ وَعَصَبَتِهِ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ حُكْمُهُ حُكْمُ أَبِيهِ فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ وَلَاءُ عَتَاقَةٍ وَإِنَّمَا يُورَثُ مَا لَهُ بَيْنَ ذَوِي أَرْحَامِهِ، كَمَا إذَا كَانَ الْأَبُ عَرَبِيًّا وَالْأُمُّ مُعْتَقَةً فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ وَلَاؤُهُ لِمَوَالِي أُمِّهِ لِأَنَّ النَّسَبَ إلَى الْآبَاءِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَ النَّسَبُ إلَى الْآبَاءِ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ الْأَبُ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
أَجَابَ بِأَنَّ الْعَبْدَ هَالِكٌ مَعْنًى لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا وَلِأَنَّهُ أَثَرُ الْكُفْرِ وَالْكُفْرُ مَوْتٌ حُكْمِيٌّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} فَصَارَ حَالُ هَذَا الْوَلَدِ فِي الْحُكْمِ حَالَ مَنْ لَا أَبَ لَهُ فَيُنْسَبُ إلَى مَوَالِي الْأُمِّ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ إذَا كَانَ الْأَبُ حُرًّا لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ حَيَاةٌ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْعَرَبُ وَالْعَجَمُ فِيهِ سَوَاءٌ.
وَوَجْهُ قَوْلِهِمَا مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ حَتَّى اُعْتُبِرَتْ الْكَفَاءَةُ فِيهِ أَنَّ النَّاسَ يَتَفَاخَرُونَ بِالْعَتَاقَةِ وَيَعْتَبِرُونَهَا فِي الْكَفَاءَةِ، فَمَنْ لَهُ أَبٌ وَاحِدٌ فِي الْحُرِّيَّةِ لَا يَكُونُ كُفُؤًا لِمَنْ لَهُ أَبَوَانِ فِيهَا، وَالنَّسَبُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْعَجَمَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ لَمْ يَعْتَبِرُوا ذَلِكَ وَكَانَ تَفَاخُرُهُمْ بِعِمَارَةِ الدُّنْيَا حَتَّى جَعَلُوا مَنْ لَهُ أَبٌ وَاحِدٌ فِي الْإِمَارَةِ كُفُؤًا لِمَنْ لَهُ أَبَوَانِ فِي ذَلِكَ، قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ (الْخِلَافُ فِي مُطْلَقِ الْمُعْتَقَةِ) وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ ذَكَرَ الْمُعْتَقَةَ مُطْلَقًا، حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَ بِمُعْتَقَةِ غَيْرِ الْعَرَبِيِّ كَانَ كَذَلِكَ، فَكَانَ وَضْعُ الْقُدُورِيِّ فِي مُعْتَقَةِ الْعَرَبِ اتِّفَاقِيًّا. (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: نَبَطِيٌّ كَافِرٌ تَزَوَّجَ بِمُعْتَقَةٍ كَافِرَةٍ ثُمَّ أَسْلَمَ النَّبَطِيُّ وَوَالَى رَجُلًا ثُمَّ وَلَدَتْ أَوْلَادًا.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: مَوَالِيهِمْ مَوَالِي أُمِّهِمْ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: مَوَالِيهمْ مَوَالِي أَبِيهِمْ) لِأَنَّ الْوَلَاءَ وَإِنْ كَانَ أَضْعَفَ فَهُوَ مِنْ جَانِبِ الْأَبِ فَصَارَ كَالْمَوْلُودِ بَيْنَ وَاحِدٍ مِنْ الْمَوَالِي وَبَيْنَ الْعَرَبِيَّةِ.
وَلَهُمَا أَنَّ وَلَاءَ الْمُوَالَاةِ أَضْعَفُ حَتَّى يَقْبَلَ الْفَسْخَ، وَوَلَاءُ الْعَتَاقَةِ لَا يَقْبَلُهُ، وَالضَّعِيفُ لَا يَظْهَرُ فِي مُقَابَلَةِ الْقَوِيِّ، وَإِنْ كَانَ الْأَبَوَانِ مُعْتَقَيْنِ فَالنِّسْبَةُ إلَى قَوْمِ الْأَبِ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا، وَالتَّرْجِيحُ لِجَانِبِهِ لِشَبَهِهِ بِالنَّسَبِ أَوْ لِأَنَّ النُّصْرَةَ بِهِ أَكْثَرُ.
الشَّرْحُ:
وَذَكَرَ لَفْظَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِبَيَانِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ ذَكَرَ الْمُعْتَقَةَ مُطْلَقًا وَلِاشْتِمَالِهِ عَلَى وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ، وَذَلِكَ وَاضِحٌ فِي الْكِتَابِ.
(قَوْلُهُ كَالْمَوْلُودِ بَيْنَ وَاحِدٍ مِنْ الْمَوَالِي) يَعْنِي الْعَجَمَ، فَإِنَّ الْعَجَمِيَّ إذَا تَزَوَّجَ بِعَرَبِيَّةٍ فَوَلَدَتْ أَوْلَادًا فَإِنَّهَا تُنْسَبُ إلَى قَوْمِ أَبِيهِمْ، فَكَذَا إذَا كَانَتْ مُعْتَقَةً لِأَنَّ النِّسْبَةَ إلَى الْأُمِّ ضَعِيفَةٌ.
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ كَانَ الْأَبَوَانِ) أَيْ الْوَالِدَانِ (مُعْتَقَيْنَ) رَاجِعٌ إلَى أَوَّلِ الْخِلَافِ: يَعْنِي إنْ كَانَتْ الْأُمُّ مُعْتَقَةً وَالْأَبُ وَالَى رَجُلًا فَفِيهِ الْخِلَافُ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ الْوَالِدَانِ مُعْتَقَيْنَ (فَ) قَدْ أَجْمَعُوا أَنَّ (النَّسَبَ) إلَى قَوْمِ الْأَبِ لِاسْتِوَائِهِمَا وَالتَّرْجِيحُ لِجَانِبِهِ لِشَبَهِهِ (بِالنَّسَبِ) قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ» وَفِي حَقِيقَةِ النَّسَبِ يُضَافُ الْوَلَدُ إلَى الْأَبِ فِي الشَّرَفِ وَالدَّنَاءَةِ، فَكَذَلِكَ فِي الْوَلَاءِ، وَلِأَنَّ النُّصْرَةَ بِهِ: أَيْ بِالْأَبِ أَكْثَرُ. قَالَ (وَوَلَاءُ الْعَتَاقَةِ تَعْصِيبٌ وَهُوَ أَحَقُّ بِالْمِيرَاثِ مِنْ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ) «لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلَّذِي اشْتَرَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ هُوَ أَخُوك وَمَوْلَاك، إنْ شَكَرَك فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَشَرٌّ لَك، وَإِنْ كَفَرَك فَهُوَ خَيْرٌ لَك وَشَرٌّ لَهُ، وَلَوْ مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ وَارِثًا كُنْت أَنْتَ عَصَبَتَهُ», وَوَرَّثَ ابْنَةَ حَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَلَى سَبِيلِ الْعُصُوبَةِ مَعَ قِيَامِ وَارِثٍ وَإِذْ كَانَ عَصَبَةً تَقَدَّمَ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (فَإِنْ كَانَ لِلْمُعْتَقِ عَصَبَةٌ مِنْ النَّسَبِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ الْمُعْتِقِ)، لِأَنَّ الْمُعْتِقَ آخِرُ الْعَصَبَاتِ، وَهَذَا لِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «وَلَمْ يَتْرُكْ وَارِثًا» قَالُوا: الْمُرَادُ مِنْهُ وَارِثٌ هُوَ عَصَبَةٌ بِدَلِيلِ الْحَدِيثِ الثَّانِي فَتَأَخَّرَ عَنْ الْعَصَبَةِ دُونَ ذَوِي الْأَرْحَامِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَوَلَاءُ الْعَتَاقَةِ تَعْصِيبٌ) التَّعْصِيبُ هُوَ جَعْلُ الْإِنْسَانِ عَصَبَةً، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ الذَّكَرُ يُعَصِّبُ الْأُنْثَى (وَهُوَ) أَيْ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ (أَحَقُّ بِالْمِيرَاثِ مِنْ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي اشْتَرَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ: «هُوَ أَخُوك وَمَوْلَاك، إنْ شَكَرَك فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَشَرٌّ لَك، وَإِنْ كَفَرَك فَهُوَ خَيْرٌ لَك وَشَرٌّ لَهُ، وَلَوْ مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ وَارِثًا كُنْت أَنْتَ عَصَبَتَهُ») قَوْلُهُ هُوَ أَخُوك: يَعْنِي فِي الدِّينِ، وَقَوْلُهُ (إنْ شَكَرَك) يَعْنِي إنْ شَكَرَك بِالْمُجَازَاةِ عَلَى صَنِيعِك فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ لِأَنَّهُ انْتَدَبَ إلَى مَا نُدِبَ إلَيْهِ، وَشَرٌّ لَك لِأَنَّهُ أَوْصَلَ إلَيْك بَعْضَ الثَّوَابِ فِي الدُّنْيَا فَتَنْقُصُ بِقَدْرِهِ مِنْ ثَوَابِ الْآخِرَةِ، وَإِنْ كَفَرَك فَهُوَ خَيْرٌ لَك لِأَنَّهُ يَبْقَى لَك ثَوَابُ الْعَمَلِ كُلُّهُ فِي الْآخِرَةِ، وَشَرٌّ لَهُ لِأَنَّهُ كُفْرُ النِّعْمَةِ.
وَقَوْلُهُ (كُنْت أَنْتَ عَصَبَتَهُ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ وَلَمْ يَتْرُكْ عَصَبَةً حَيْثُ لَمْ يَقُلْ كُنْت وَارِثَهُ (وَوَرَّثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَةَ حَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَلَى سَبِيلِ الْعُصُوبَةِ مَعَ قِيَامِ وَارِثٍ) هِيَ بِنْتُ الْمَيِّتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى بِنْتَ الْمَيِّتِ النِّصْفَ وَالْبَاقِيَ لِبِنْتِ حَمْزَةَ، وَالْعَصَبَةُ هُوَ الَّذِي يَأْخُذُ مَا أَبْقَتْهُ الْفَرَائِضُ (وَإِذَا كَانَ عَصَبَةً تُقَدَّمُ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ). قَالَ (فَإِنْ كَانَ لِلْمُعْتَقِ عَصَبَةٌ مِنْ النَّسَبِ فَهُوَ أَوْلَى) لِمَا ذَكَرْنَا (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَصَبَةٌ مِنْ النَّسَبِ فَمِيرَاثُهُ لِلْمُعْتَقِ) تَأْوِيلُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ صَاحِبُ فَرْضٍ ذُو حَالٍ، أَمَّا إذَا كَانَ فَلَهُ الْبَاقِي بَعْدَ فَرْضٍ لِأَنَّهُ عَصَبَةٌ عَلَى مَا رَوَيْنَا، وَهَذَا لِأَنَّ الْعَصَبَةَ مَنْ يَكُونُ التَّنَاصُرُ بِهِ لِبَيْتِ النِّسْبَةِ وَبِالْمَوَالِي الِانْتِصَارُ عَلَى مَا مَرَّ وَالْعَصَبَةُ تَأْخُذُ مَا بَقِيَ.
الشَّرْحُ:
(فَإِنْ كَانَ لِلْمُعْتِقِ عَصَبَةٌ مِنْ النَّسَبِ فَهُوَ أَوْلَى) لِأَنَّ الْعِتْقَ آخِرُ الْعَصَبَاتِ عَلَى مَا قَالُوا إنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ وَلَمْ يَتْرُكْ عَصَبَةً وَارِثُ عَصَبَةٍ اسْتِدْلَالًا بِإِشَارَةِ الْحَدِيثِ كَمَا قُلْنَا فِي بَيَانِ قَوْلِهِ كُنْت أَنْتَ عَصَبَتَهُ، وَبِالْحَدِيثِ الثَّانِي: أَيْ بِحَدِيثِ بِنْتِ حَمْزَةَ فَتَأَخَّرَ عَنْ الْعَصَبَةِ دُونَ ذَوِي الْأَرْحَامِ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ) أَيْ لِلْمُعْتِقِ (عَصَبَةٌ مِنْ النَّسَبِ فَمِيرَاثُهُ لِلْمُعْتِقِ، تَأْوِيلُهُ) أَيْ تَأْوِيلُ قَوْلِ الْقُدُورِيِّ (إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ صَاحِبُ فَرْضٍ ذُو حَالٍ، أَمَّا إذَا كَانَ فَلَهُ الْبَاقِي بَعْدَ فَرْضِهِ) وَذَكَرُوا لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ تَأْوِيلَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ فَرْضٍ ذُو حَالٍ سِوَى حَالِ الْفَرْضِ كَالْأَبِ وَالْجَدِّ فَإِنَّ لَهُمَا حَالًا سِوَى حَالِ الْفَرْضِ وَهِيَ الْعُصُوبَةُ، أَمَّا إذَا كَانَ فَلَهُ: أَيْ فَلِمِثْلِ هَذَا الْوَارِثِ الْبَاقِي بِالْعُصُوبَةِ وَلَيْسَ لِلْمُعْتِقِ شَيْءٌ.
وَالثَّانِي أَنَّ مَعْنَاهُ ذُو حَالٍ وَاحِدٍ كَالْبِنْتِ، أَمَّا إذَا كَانَ مِثْلَ ذَلِكَ فَلِلْمُعْتِقِ الْبَاقِي بَعْدَ فَرْضِ ذَلِكَ الْوَارِثِ.
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَالثَّانِي أَوْجَهُ لِأَنَّهُ عَلَّلَ قَوْلَهُ فَلَهُ الْبَاقِي بَعْدَ فَرْضِهِ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّهُ عَصَبَةٌ عَلَى مَا رَوَيْنَا) وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَلَوْ مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ وَارِثًا كُنْت أَنْتَ عَصَبَتَهُ وَهُوَ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (وَهَذَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ عَصَبَةٌ: يَعْنِي إنَّمَا كَانَ عَصَبَةً (لِأَنَّ الْعَصَبَةَ مَنْ يَكُونُ التَّنَاصُرُ بِهِ لِبَيْتِ النِّسْبَةِ) أَيْ الْقَبِيلَةِ.
وَتَقْرِيرُهُ الْعَصَبَةَ مَنْ يَكُونُ انْتِصَارُ الْقَبِيلَةِ بِهِ، وَبِالْمَوْلَى يَكُونُ الِانْتِصَارُ عَلَى مَا مَرَّ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْوَلَاءِ.
وَهُوَ قَوْلُهُ وَكَانَتْ الْعَرَبُ تَتَنَاصَرُ بِأَشْيَاءَ، وَقَرَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنَاصُرَهُمْ بِالْوَلَاءِ بِنَوْعَيْهِ.
وَقَوْلُهُ (وَالْعَصَبَةُ تَأْخُذُ مَا بَقِيَ) تَمَامُ الدَّلِيلِ. وَتَقْرِيرُهُ فَلَهُ الْبَاقِي لِأَنَّهُ عَصَبَةٌ وَالْعَصَبَةُ تَأْخُذُ الْبَاقِيَ (فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى ثُمَّ مَاتَ الْمُعْتَقُ فَمِيرَاثُهُ لِبَنِي الْمَوْلَى دُونَ بَنَاتِهِ) لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَقَوْلُهُ (قَدَّمْنَاهَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ فَإِنْ وَلَدَتْ بَعْدَ عِتْقِهَا لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، إلَى أَنْ قَالَ: جَرَّ الْأَبُ وَلَاءَ ابْنِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ جَرَّ الْمُعْتِقِ وَمُعْتِقِ الْمُعْتِقِ فِي النِّهَايَةِ نَاقِلًا عَنْ الذَّخِيرَةِ فَلْيُطْلَبْ ثَمَّةَ. (فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى ثُمَّ مَاتَ الْمُعْتَقُ فَمِيرَاثُهُ لِبَنِي الْمَوْلَى دُونَ بَنَاتِهِ)، وَلَيْسَ لِلنِّسَاءِ مِنْ الْوَلَاءِ إلَّا مَا أَعْتَقْنَ أَوْ أَعْتَقَ مَنْ أَعْتَقْنَ أَوْ كَاتَبْنَ أَوْ كَاتَبَ مَنْ كَاتَبْنَ بِهَذَا اللَّفْظِ وَرَدَ الْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي آخِرِهِ «أَوْ جَرَّ وَلَاءَ مُعْتَقِهِنَّ» وَصُورَةُ الْجَرِّ قَدَّمْنَاهَا، وَلِأَنَّ ثُبُوتَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْقُوَّةِ فِي الْعِتْقِ مِنْ جِهَتِهَا فَيُنْسَبُ بِالْوَلَاءِ إلَيْهَا وَيُنْسَبُ إلَيْهَا مَنْ يُنْسَبُ إلَى مَوْلَاهَا، بِخِلَافِ النَّسَبِ لِأَنَّ سَبَبَ النِّسْبَةِ فِيهِ الْفِرَاشِ، وَصَاحِبُ الْفِرَاشِ إنَّمَا هُوَ الزَّوْجُ، وَالْمَرْأَةُ مَمْلُوكَةٌ لَا مَالِكَةٌ، وَلَيْسَ حُكْمُ مِيرَاثِ الْمُعْتَقِ مَقْصُورًا عَلَى بَنِي الْمَوْلَى بَلْ هُوَ لِعَصَبَتِهِ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ، لِأَنَّ الْوَلَاءَ لَا يُورَثُ وَيَخْلُفُهُ فِيهِ مَنْ تَكُونُ النُّصْرَةُ بِهِ، حَتَّى لَوْ تَرَكَ الْمَوْلَى أَبًا وَابْنًا فَالْوَلَاءُ لِلِابْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ أَقْرَبُهُمَا عُصُوبَةً، وَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ لِلْجَدِّ دُونَ الْأَخِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ فِي الْعُصُوبَةِ عِنْدَهُ.
وَكَذَا الْوَلَاءُ لِابْنِ الْمُعْتَقَةِ حَتَّى يَرِثَهُ دُونَ أَخِيهَا لِمَا ذَكَرْنَا، إلَّا أَنَّ عَقْلَ جِنَايَةِ الْمُعْتَقِ عَلَى أَخِيهَا لِأَنَّهُ مِنْ قَوْمِ أَبِيهَا وَجِنَايَتُهُ كَجِنَايَتِهَا.
الشَّرْحُ:
(قَوْلُهُ وَلِأَنَّ ثُبُوتَ الْمَالِكِيَّةِ إلَخْ) دَلِيلٌ مَعْقُولٌ عَلَى ثُبُوتِ الْوَلَاءِ مِمَّنْ أَعْتَقَ أَوْ أَعْتَقَ مَنْ أَعْتَقْنَ.
وَتَقْرِيرُهُ ثُبُوتُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْقُوَّةِ فِي الْمُعْتِقِ مِنْ جِهَةِ الْمُعْتَقَةِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَكُلُّ مَنْ ثَبَتَ مِنْ جِهَتِهِ شَيْءٌ يُنْسَبُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ عِلِّيَّتُهُ إذْ ذَاكَ فَثُبُوتُ الْمَالِكِيَّةِ يُنْسَبُ إلَيْهَا بِالْوَلَاءِ وَيُنْسَبُ إلَيْهَا مَنْ يُنْسَبُ إلَى مَوْلَاهَا، لِأَنَّ مُعْتَقَ الْمُعْتَقِ يُنْسَبُ إلَى مُعْتِقِهِ بِالْوَلَاءِ، وَفِي ذَلِكَ لَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ.
بِخِلَافِ النَّسَبِ فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا مِنْ الْآبَاءِ، لِأَنَّ سَبَبَ النِّسْبَةِ فِيهِ الْفِرَاشُ، وَالْفِرَاشُ إنَّمَا هُوَ لِلزَّوْجِ لِأَنَّهُ الْمَالِكُ وَالْمَرْأَةُ مَمْلُوكَةٌ، وَلَيْسَ حُكْمُ مِيرَاثِ الْمُعْتِقِ مَقْصُورًا عَلَى بَنِي الْمَوْلَى بَلْ هُوَ لِعَصَبَتِهِ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ.
لِأَنَّ الْوَلَاءَ لَا يُورَثُ حَتَّى يَكُونَ لِأَصْحَابِ الْفُرُوضِ مِنْهُ نَصِيبٌ، وَإِنَّمَا الْوَلَاءُ بِاعْتِبَارِ النُّصْرَةِ فَيَخْلُفُهُ فِيهِ مَنْ تَكُونُ بِهِ النُّصْرَةُ، وَالنُّصْرَةُ بِالذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ، حَتَّى لَوْ تَرَكَ الْمَوْلَى أَبًا وَابْنًا فَالْوَلَاءُ لِلِابْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَصُورَتُهُ: امْرَأَةٌ أَعْتَقَتْ عَبْدًا ثُمَّ مَاتَتْ عَنْ ابْنٍ وَأَبٍ ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ فَمِيرَاثُهُ لِلِابْنِ خَاصَّةً عِنْدَهُمَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَوَّلًا، ثُمَّ رَاجَعَ فَقَالَ: لِأَبِيهَا السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِلِابْنِ.
لِأَنَّ الْأُبُوَّةَ تُسْتَحَقُّ بِهَا كَالْبُنُوَّةِ، لِأَنَّ الْوَلَاءَ يُسْتَحَقُّ بِالْعُصُوبَةِ وَالْأَبُ عَصَبَةٌ عِنْدَ عَدَمِ الِابْنِ، وَوُجُودُ الِابْنِ لَا يُوجِبُ حِرْمَانَ الْأَبِ وَلِهَذَا لَمْ يَصِرْ مَحْرُومًا عِنْدَ مِيرَاثِهَا فَكَذَا عَنْ مِيرَاثِ مُعْتِقِهَا.
وَلَهُمَا أَنَّ أَقْرَبَ الْعَصَبَاتِ يَقُومُ مَقَامَ الْمُعْتِقِ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي مِيرَاثِ الْمُعْتِقِ وَالِابْنُ هُوَ الْعَصَبَةُ دُونَ الْأَبِ، وَاسْتِحْقَاقُ الْأَبِ السُّدُسَ مِنْهَا بِالْفَرِيضَةِ دُونَ الْعُصُوبَةِ وَكَذَا لَوْ تَرَكَ جَدُّ مَوْلَاهُ أَبَا أَبِيهِ وَأَخَاهُ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ كَانَ مِيرَاثُهُ لِلْجَدِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَا يُوَرِّثُ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ، فَالْجَدُّ عِنْدَهُ أَقْرَبُ فِي الْعُصُوبَةِ.
وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً أَعْتَقَتْ عَبْدًا ثُمَّ مَاتَتْ وَتَرَكَتْ ابْنَهَا وَأَخَاهَا ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُمَا فَالْمِيرَاثُ لِابْنِهَا دُونَ أَخِيهَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الِابْنَ أَقْرَبُ فِي الْعُصُوبَةِ إلَّا أَنَّ عَقْلَ جِنَايَةِ الْمُعْتِقِ عَلَى أَخِيهَا لِأَنَّهُ مِنْ قَوْمِ أَبِيهَا وَجِنَايَتُهُ كَجِنَايَتِهَا وَجِنَايَتُهَا عَلَى قَوْمِ أَبِيهَا فَكَذَلِكَ جِنَايَةُ مُعْتِقِهَا وَابْنِهَا لَيْسَ مِنْ قَوْمِ أَبِيهَا. (وَلَوْ تَرَكَ الْمَوْلَى ابْنًا وَأَوْلَادَ ابْنٍ آخَرَ) مَعْنَاهُ بَنِي ابْنٍ آخَرَ (فَمِيرَاثُ الْمُعْتَقِ لِلِابْنِ دُونَ بَنِي الِابْنِ لِأَنَّ الْوَلَاءَ لِلْكِبَرِ) هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عِدَّةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْهُمْ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَمَعْنَاهُ الْقُرْبُ عَلَى مَا قَالُوا، وَالصُّلْبِيُّ أَقْرَبُ.
الشَّرْحُ:
وَلَوْ تَرَكَ الْمَوْلَى ابْنًا وَبَنِي ابْنٍ آخَرَ فَمِيرَاثُ الْمُعْتِقِ لِلِابْنِ دُونَ بَنِي الِابْنِ، لِأَنَّ الْوَلَاءَ لِلْكِبَرِ هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عِدَّةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمَعْنَى الْكِبَرِ الْقُرْبُ فِي الْعُصُوبَةِ لَا فِي السِّنِّ عَلَى مَا قَالُوا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُعْتِقَ إذَا مَاتَ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ صَغِيرًا وَكَبِيرًا ثُمَّ مَاتَ الْمُعْتِقُ فَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْقُرْبِ إلَى الْمَيِّتِ مِنْ حَيْثُ النَّسَبُ وَالصُّلْبِيُّ أَقْرَبُ فَيَسْتَحِقُّ الْجَمِيعَ.

.فَصْلٌ فِي وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ:

قَالَ (وَإِذَا أَسْلَمَ رَجُلٌ عَلَى يَدِ رَجُلٍ وَوَالَاهُ عَلَى أَنْ يَرِثُهُ وَيَعْقِلَ عَنْهُ أَوْ أَسْلَمَ عَلَى يَدِ غَيْرِهِ وَوَالَاهُ فَالْوَلَاءُ صَحِيحٌ وَعَقْلُهُ عَلَى مَوْلَاهُ، فَإِنْ مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ فَمِيرَاثُهُ لِلْمَوْلَى) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْمُوَالَاةُ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ حَقِّ بَيْتِ الْمَالِ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ فِي حَقِّ وَارِثٍ آخَرَ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ عِنْدَهُ الْوَصِيَّةُ بِجَمِيعِ الْمَالِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُوصِي وَارِثٌ لِحَقِّ بَيْتِ الْمَالِ وَإِنَّمَا يَصِحُّ فِي الثُّلُثِ.
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} وَالْآيَةُ فِي الْمُوَالَاةِ.
«وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَجُلٍ أَسْلَمَ عَلَى يَدِ رَجُلٍ آخَرَ وَوَالَاهُ فَقَالَ: هُوَ أَحَقُّ النَّاسِ بِهِ مَحْيَاهُ وَمَمَاتَهُ» وَهَذَا يُشِيرُ إلَى الْعَقْلِ وَالْإِرْثِ فِي الْحَالَتَيْنِ هَاتَيْنِ، وَلِأَنَّ مَالَهُ حَقُّهُ فَيَصْرِفُهُ إلَى حَيْثُ شَاءَ، وَالصَّرْفُ إلَى بَيْتِ الْمَالِ ضَرُورَةُ عَدَمِ الْمُسْتَحِقِّ لَا أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ.
الشَّرْحُ:
فَصْلٌ فِي وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ:
أَخَّرَ وَلَاءَ الْمُوَالَاةِ عَنْ وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ لِأَنَّ وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ قَابِلٍ لِلتَّحْوِيلِ كَانَ أَقْوَى، بِخِلَافِ وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ فَإِنَّ لِلْمَوْلَى فِيهِ أَنْ يَنْتَقِلَ قَبْلَ الْعَقْلِ، وَمَعْنَى الْوَلَاءِ قَدْ تَقَدَّمَ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا.
وَصُورَةُ هَذَا الْوَلَاءِ أَنْ يَتَقَدَّمَ رَجُلٌ وَيُسَلِّمُ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ وَيَقُولُ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ وَالَيْتُك عَلَى أَنِّي إنْ مِتّ فَمِيرَاثِي لَك، وَإِذَا جَنَيْت فَعَقْلِي عَلَيْك وَعَلَى عَاقِلَتِك وَقَبِلَ الْآخَرُ مِنْهُ.
وَلَهُ ثَلَاثُ شَرَائِطَ: إحْدَاهَا أَنْ يَكُونَ مَجْهُولَ النَّسَبِ بِأَنْ لَا يُنْسَبَ إلَى غَيْرِهِ، وَأَمَّا نِسْبَةُ غَيْرِهِ إلَيْهِ فَغَيْرُ مَانِعٍ.
وَالثَّانِيَةُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ وَلَاءُ عَتَاقَةٍ وَلَا وَلَاءُ مُوَالَاةٍ مَعَ أَحَدٍ وَقَدْ عَقَلَ عَنْهُ.
وَالثَّالِثَةُ أَنْ لَا يَكُونَ عَرَبِيًّا.
فَإِنْ قِيلَ: مِنْ شَرْطِ الْعَقْدِ عَقْلُ الْأَعْلَى وَحُرِّيَّتُهُ فَإِنَّ مُوَالَاةَ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ بَاطِلَةٌ فَكَيْفَ جَعَلَ الشَّرَائِطَ ثَلَاثًا؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْمَذْكُورَةَ إنَّمَا هِيَ الشَّرَائِطُ الْعَامَّةُ الْمُحْتَاجُ إلَيْهَا فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الصُّوَرِ.
وَأَمَّا مَا ذَكَرْت فَإِنَّمَا هُوَ نَادِرٌ فَلَمْ يَذْكُرْهُ، وَأَمَّا حُكْمُهُ فَهُوَ وُجُوبُ الْعَقْلِ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَعْلَى إذَا جَنَى الْأَسْفَلَ، وَاسْتِحْقَاقُ مِيرَاثِهِ إذَا مَاتَ عَنْ غَيْرِ وَارِثٍ، وَكَلَامُهُ فِي الْفَصْلِ وَاضِحٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَفْسِيرٍ، خَلَا. قَالَ (وَإِنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ فَهُوَ أَوْلَى مِنْهُ، وَإِنْ كَانَتْ عَمَّةٌ أَوْ خَالَةٌ أَوْ غَيْرُهُمَا مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ) لِأَنَّ الْمُوَالَاةَ عَقْدُهُمَا فَلَا يَلْزَمُ غَيْرُهُمَا، وَذُو الرَّحِمِ وَارِثٌ، وَلَا بُدَّ مِنْ شَرْطِ الْإِرْثِ وَالْعَقْلِ كَمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ لِأَنَّهُ بِالِالْتِزَامِ وَهُوَ بِالشَّرْطِ، وَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَوْلَى مِنْ الْعَرَبِ لِأَنَّ تَنَاصُرَهُمْ بِالْقَبَائِلِ فَأَغْنَى عَنْ الْمُوَالَاةِ.
قَالَ (وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْهُ بِوَلَائِهِ إلَى غَيْرِهِ مَا لَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ) لِأَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ، وَكَذَا لِلْأَعْلَى أَنْ يَتَبَرَّأَ عَنْ وَلَائِهِ لِعَدَمِ اللُّزُومِ، إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي هَذَا أَنْ يَكُونَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الْآخَرِ كَمَا فِي عَزْلِ الْوَكِيلِ قَصْدًا، بِخِلَافِ مَا إذَا عَقَدَ الْأَسْفَلُ مَعَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ فَسْخٌ حُكْمِيٌّ بِمَنْزِلَةِ الْعَزْلِ الْحُكْمِيِّ فِي الْوَكَالَةِ.
قَالَ (وَإِذَا عَقَلَ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ بِوَلَائِهِ إلَى غَيْرِهِ) لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ، وَلِأَنَّهُ قَضَى بِهِ الْقَاضِي، وَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ عِوَضٍ نَالَهُ كَالْعِوَضِ فِي الْهِبَةِ، وَكَذَا لَا يَتَحَوَّلُ وَلَدُهُ، وَكَذَا إذَا عَقَلَ عَنْ وَلَدِهِ لَمْ يَكُنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَتَحَوَّلَ لِأَنَّهُمْ فِي حَقِّ الْوَلَاءِ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ.
الشَّرْحُ:
قَوْلُهُ (وَإِنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ فَهُوَ أَوْلَى مِنْهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ) فَإِنَّهُ أَوْرَدَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الثُّلُثُ لِلْمَوْلَى كَمَا لَوْ أَوْصَى بِكُلِّ مَالِهِ لِآخَرَ وَلَهُ وَارِثٌ مَعْرُوفٌ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ جَعَلَهُ بِعَقْدِ الْوَلَاءِ وَارِثًا عَنْهُ، وَفِي سَبَبِ الْوِرَاثَةِ ذُو الْقَرَابَةِ أَرْجَحُ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ مُتَّفَقٌ عَلَى ثُبُوتِهَا شَرْعًا وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهَا سَبَبًا لِلْإِرْثِ، وَعَقْدُ الْوَلَاءِ مُخْتَلَفٌ فِي ثُبُوتِهِ شَرْعًا، وَلَا يَظْهَرُ الضَّعِيفُ فِي مُقَابَلَةِ الْقَوِيِّ فَلَا يَظْهَرُ اسْتِحْقَاقُ الْمَوْلَى مَعَهُ بِهَذَا السَّبَبِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَالِ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ فَإِنَّهَا خِلَافُهُ فِي الْمَآلِ مَقْصُودًا، فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الثُّلُثِ لَهُ إلَّا بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ، لِأَنَّهُ مَا أَوْجَبَ لَهُ ذَلِكَ مَقْصُودًا، وَلَا بِطَرِيقِ الْإِرْثِ لِتَرَجُّحِ اسْتِحْقَاقِ الْقَرِيبِ عَلَيْهِ.
وَخَلَا قَوْلَهُ (إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي هَذَا أَنْ يَكُونَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الْآخَرِ كَمَا فِي عَزْلِ الْوَكِيلِ) فَإِنَّهُ أَوْرَدَ عَلَيْهِ بِأَنَّ سَبَبَ اشْتِرَاطِ حَضْرَةِ الْوَكِيلِ فِي حَقِّ الْعَزْلِ ظَاهِرٌ، وَهُوَ تَضَرُّرُ الْوَكِيلِ بِسَبَبِ الضَّمَانِ عِنْدَ رُجُوعِ الْحُقُوقِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ نَقَدَ مِنْ مَالِ الْمُوَكِّلِ عَلَى مَا مَرَّ فِي الْوَكَالَةِ فَمَا مَعْنَى اشْتِرَاطِ تَوَقُّفِ الْفَسْخِ هَاهُنَا عَلَى حَضْرَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ سَبَبَ الِاشْتِرَاطِ هَاهُنَا هُوَ السَّبَبُ هُنَالِكَ وَهُوَ دَفْعُ الضَّرَرِ فَإِنَّ الْعَقْدَ كَانَ بَيْنَهُمَا، وَفِي تَفَرُّدِ أَحَدِهِمَا إلْزَامُ الْفَسْخِ عَلَى الْآخَرِ بِدُونِ عِلْمِهِ، وَإِلْزَامُ شَيْءٍ عَلَى الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ بِهِ نَفْسُهُ ضَرَرٌ لَا مَحَالَةَ، لِأَنَّ فِيهِ جَعْلَ عَقْدِ الرَّجُلِ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ كَلَا عَقْدٍ، وَفِيهِ إبْطَالُ فِعْلِهِ بِدُونِ عِلْمِهِ، وَخَلَا قَوْلَهُ (لِأَنَّهُ فَسْخٌ حُكْمِيٌّ بِمَنْزِلَةِ الْعَزْلِ الْحُكْمِيِّ فِي الْوَكَالَةِ) فَإِنَّ عَزْلَ الْوَكِيلِ حَالَ غَيْبَتِهِ مَقْصُودًا لَا يَصِحُّ وَحُكْمًا يَصِحُّ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ الْعَبْدَ الَّذِي وَكَّلَهُ بِبَيْعِهِ.
فَإِنَّهُ أَوْرَدَ عَلَيْهِ لِمَاذَا يَجْعَلُ صِحَّةَ الْعَقْدِ مَعَ الثَّانِي مُوجِبَةَ فَسْخِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ وَالنَّسَبُ مَا دَامَ ثَابِتًا مِنْ إنْسَانٍ لَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُهُ مِنْ غَيْرِهِ فَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ، فَعَرَفْنَا أَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ صِحَّةِ الْعَقْدِ مَعَ الثَّانِي بُطْلَانَ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ، ذَكَرَ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي النِّهَايَةِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. قَالَ (وَلَيْسَ لِمَوْلَى الْعَتَاقَةِ أَنْ يُوَالِيَ أَحَدًا) لِأَنَّهُ لَازِمٌ، وَمَعَ بَقَائِهِ لَا يَظْهَرُ الْأَدْنَى. قَالَ

.كِتَابُ الْإِكْرَاهِ:

(الْإِكْرَاهُ يَثْبُتُ حُكْمُهُ إذَا حَصَلَ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى إيقَاعِ مَا تَوَعَّدَ بِهِ سُلْطَانًا كَانَ أَوْ لِصًّا) لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ اسْمٌ لِفِعْلٍ يَفْعَلُهُ الْمَرْءُ بِغَيْرِهِ فَيَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ مَعَ بَقَاءِ أَهْلِيَّتِهِ، وَهَذَا إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا خَافَ الْمُكْرَهُ تَحْقِيقَ مَا تَوَعَّدَ بِهِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ الْقَادِرِ وَالسُّلْطَانِ وَغَيْرِهِ سِيَّانِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْقُدْرَةِ، وَاَلَّذِي قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ إنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا مِنْ السُّلْطَانِ لِمَا أَنَّ الْمَنَعَةَ لَهُ وَالْقُدْرَةُ لَا تَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْمَنَعَةِ.
فَقَدْ قَالُوا هَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ لَا اخْتِلَافُ حُجَّةٍ وَبُرْهَانٍ، وَلَمْ تَكُنْ الْقُدْرَةُ فِي زَمَنِهِ إلَّا لِلسُّلْطَانِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَغَيَّرَ الزَّمَانُ وَأَهْلُهُ، ثُمَّ كَمَا تُشْتَرَطُ قُدْرَةُ الْمُكْرِهِ لِتَحَقُّقِ الْإِكْرَاهِ يُشْتَرَطُ خَوْفُ الْمُكْرَهِ وُقُوعَ مَا يُهَدَّدُ بِهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ لِيَصِيرَ بِهِ مَحْمُولًا عَلَى مَا دُعِيَ إلَيْهِ مِنْ الْفِعْلِ.
الشَّرْحُ:
كِتَابُ الْإِكْرَاهِ:
قِيلَ الْمُوَالَاةُ تُغَيِّرُ حَالَ الْمَوْلَى الْأَعْلَى عَنْ حُرْمَةِ أَكْلِ مَالِ الْمَوْلَى الْأَسْفَلِ بَعْدَ مَوْتِهِ إلَى حُكْمِهِ، كَمَا أَنَّ الْإِكْرَاهَ يُغَيِّرُ حَالَ الْمُخَاطَبِ مِنْ الْحُرْمَةِ إلَى الْحِلِّ فَكَانَ مُنَاسِبًا أَنْ يَذْكُرَ الْإِكْرَاهَ عَقِيبَ الْمُوَالَاةِ.
وَهُوَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ حَمْلِ الْإِنْسَانِ عَلَى شَيْءٍ يَكْرَهُهُ، يُقَالُ أَكْرَهْت فُلَانًا: أَيْ حَمَلْته عَلَى أَمْرٍ يَكْرَهُهُ.
وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ عَمَّا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ اسْمٌ لِفِعْلٍ يَفْعَلُهُ الْمَرْءُ بِغَيْرِهِ فَيَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ مَعَ بَقَاءِ أَهْلِيَّتِهِ، وَتَفْسِيرُهُ أَنْ يَحْمِلَ الْمَرْءُ غَيْرَهُ عَلَى الْمُبَاشَرَةِ حَمْلًا يَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعَ فَسَادِ اخْتِيَارٍ أَوْ مَعَ عَدَمِهِ، وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى نَوْعَيْ الْإِكْرَاهِ أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ عَدَمِ الرِّضَا وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى الْقِسْمِ الْآخَرِ، لَكِنْ لابد مِنْ تَقْدِيرٍ لَا فِي أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ فَذَلِكَ أَنْوَاعُ الْإِكْرَاهِ الثَّلَاثَةِ وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ.
وَقَوْلُهُ (مَعَ بَقَاءِ أَهْلِيَّتِهِ) إشَارَةٌ إلَى كَوْنِ الْمُكْرَهِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْخِطَابُ لِأَنَّ الْخِطَابَ بِالْأَهْلِيَّةِ، وَإِذَا كَانَتْ الْأَهْلِيَّةُ ثَابِتَةً كَانَ الْمُكْرَهُ مُخَاطَبًا، وَأَمَّا شَرْطُهُ وَحُكْمُهُ فَيَأْتِي فِي أَثْنَاءِ الْبَابِ، قَالَ (الْإِكْرَاهُ يَثْبُتُ حُكْمُهُ إذَا حَصَلَ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى إيقَاعِ مَا تَوَعَّدَ بِهِ) شَرْطُ الْإِكْرَاهِ حُصُولُهُ مِنْ قَادِرٍ عَلَى إيقَاعِ الْمُتَوَعَّدِ بِهِ (سُلْطَانًا كَانَ أَوْ لِصًّا) وَخَوْفُ الْمُكْرَهِ وُقُوعُهُ بِأَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ لِيَصِيرَ بِالْإِكْرَاهِ مَحْمُولًا عَلَى مَا دُعِيَ إلَيْهِ مِنْ الْمُبَاشَرَةِ، فَإِذَا حَصَلَ بِشَرَائِطِهِ يَثْبُتُ حُكْمُهُ عَلَى مَا سَيَجِيءُ مُفَصَّلًا، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ حُصُولِهِ مِنْ السُّلْطَانِ وَاللِّصِّ (لِأَنَّ تَحَقُّقَهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى خَوْفِ الْمُكْرَهِ تَحْقِيقُ مَا تَوَعَّدَ بِهِ، وَلَا يَخَافُ إلَّا إذَا كَانَ الْمُكْرَهُ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ، وَالسُّلْطَانُ وَغَيْرُهُ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْقُدْرَةِ سِيَّانِ) عِنْدَهُمَا (وَاَلَّذِي قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَتَحَقَّقُ) إلَّا مِنْ السُّلْطَانِ، لِمَا أَنَّ الْمَنَعَةَ لَهُ وَالْقُدْرَةُ لَا تَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْمَنَعَةِ، فَقَدْ قَالَ الْمَشَايِخُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ: هَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ لَا اخْتِلَافُ حُجَّةٍ وَبُرْهَانٍ، لِأَنَّ مَنَاطَ الْحُكْمِ الْقُدْرَةُ وَلَمْ تَكُنْ فِي زَمَنِهِ إلَّا لِلسُّلْطَانِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَغَيَّرَ أَهْلُ الزَّمَانِ. قَالَ (وَإِذَا أُكْرِهَ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ مَا لَهُ أَوْ عَلَى شِرَاءِ سِلْعَةٍ أَوْ عَلَى أَنْ يُقِرَّ لِرَجُلٍ بِأَلْفٍ أَوْ يُؤَاجِرَ دَارِهِ فَأُكْرِهَ عَلَى ذَلِكَ بِالْقَتْلِ أَوْ بِالضَّرْبِ الشَّدِيدِ أَوْ بِالْحَبْسِ فَبَاعَ أَوْ اشْتَرَى فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَمْضَى الْبَيْعَ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَهُ وَرَجَعَ بِالْمَبِيعِ) لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ هَذِهِ الْعُقُودِ التَّرَاضِي، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وَالْإِكْرَاهُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ يُعْدِمُ الرِّضَا فَيَفْسُدُ، بِخِلَافِ مَا إذَا أُكْرِهَ بِضَرْبِ سَوْطٍ أَوْ حَبْسِ يَوْمٍ أَوْ قَيْدِ يَوْمٍ لِأَنَّهُ لَا يُبَالِي بِهِ بِالنَّظَرِ إلَى الْعَادَةِ فَلَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الْإِكْرَاهُ إلَّا إذَا كَانَ الرَّجُلُ صَاحِبَ مَنْصِبٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسْتَضِرُّ بِهِ لِفَوَاتِ الرِّضَا، وَكَذَا الْإِقْرَارُ حُجَّةٌ لِتَرَجُّحِ جَنَبَةِ الصِّدْقِ فِيهِ عَلَى جَنَبَةِ الْكَذِبِ، وَعِنْدَ الْإِكْرَاهِ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ يَكْذِبُ لِدَفْعِ الْمَضَرَّةِ، ثُمَّ إذَا بَاعَ مُكْرَهًا وَسَلَّمَ مُكْرَهًا يَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَثْبُتُ لِأَنَّهُ بَيْعٌ مَوْقُوفٌ عَلَى الْإِجَازَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَجَازَ جَازَ وَالْمَوْقُوفُ قَبْلَ الْإِجَازَةِ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ، وَلَنَا أَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحَلِّهِ وَالْفَسَادُ لِفَقْدِ شَرْطِهِ وَهُوَ التَّرَاضِي فَصَارَ كَسَائِرِ الشُّرُوطِ الْمُفْسِدَةِ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ عِنْدَ الْقَبْضِ، حَتَّى لَوْ قَبَضَهُ وَأَعْتَقَهُ أَوْ تَصَرَّفَ فِيهِ تَصَرُّفًا لَا يُمْكِنُ نَقْضُهُ جَازَ، وَيَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ كَمَا فِي سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ وَبِإِجَازَةِ الْمَالِكِ يَرْتَفِعُ الْمُفْسِدُ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ وَعَدَمُ الرِّضَا فَيَجُوزُ إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ بِهِ حَقُّ اسْتِرْدَادِ الْبَائِعِ وَإِنْ تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي وَلَمْ يَرْضَ الْبَائِعُ بِذَلِكَ بِخِلَافِ سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ لِأَنَّ الْفَسَادَ فِيهَا لِحَقِّ الشَّرْعِ وَقَدْ تَعَلَّقَ بِالْبَيْعِ الثَّانِي حَقُّ الْعَبْدِ وَحَقُّهُ مُقَدَّمٌ لِحَاجَتِهِ، أَمَّا هَاهُنَا الرَّدُّ لِحَقِّ الْعَبْدِ وَهُمَا سَوَاءٌ فَلَا يَبْطُلُ حَقُّ الْأَوَّلِ لِحَقِّ الثَّانِي.
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: وَمَنْ جَعَلَ الْبَيْعَ الْجَائِزَ الْمُعْتَادَ بَيْعًا فَاسِدًا يَجْعَلُهُ كَبَيْعِ الْمُكْرَهِ حَتَّى يَنْقَضِ بَيْعُ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّ الْفَسَادَ لِفَوَاتِ الرِّضَا، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ رَهْنًا لِقَصْدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ بَاطِلًا اعْتِبَارًا بِالْهَازِلِ وَمَشَايِخُ سَمَرْقَنْدَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ جَعَلُوهُ بَيْعًا جَائِزًا مُفِيدًا بَعْضَ الْأَحْكَامِ عَلَى مَا هُوَ الْمُعْتَادُ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ.
الشَّرْحُ:
فَإِذَا (أُكْرِهَ عَلَى بَيْعِ مَا لَهُ أَوْ شِرَاءِ سِلْعَةٍ أَوْ الْإِقْرَارِ بِمَالِهِ أَوْ إجَارَةِ دَارِهِ بِالْقَتْلِ أَوْ قَطْعِ عُضْوٍ أَوْ بِالضَّرْبِ الشَّدِيدِ أَوْ بِالْحَبْسِ) فَهُوَ إكْرَاهٌ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ، فَإِنْ فَعَلَ مَا دُعِيَ إلَيْهِ ثُمَّ زَالَ الْإِكْرَاهُ (فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَمْضَى وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ، لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ هَذِهِ الْعُقُودِ التَّرَاضِي، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وَالْإِكْرَاهُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَعْدَمُ الرِّضَا) وَانْتِفَاءُ الشَّرْطِ يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ الْمَشْرُوطِ (فَيَفْسُدُ، وَإِنْ أُكْرِهَ بِضَرْبِ سَوْطٍ أَوْ حَبْسِ يَوْمٍ أَوْ قَيْدِ يَوْمٍ لَمْ يَكُنْ إكْرَاهًا لِأَنَّهُ لَا يُبَالِي بِهِ نَظَرًا إلَى الْعَادَةِ إلَّا إنْ كَانَ الْمُكْرِهُ صَاحِبَ مَنْصِبٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسْتَضِرُّ بِهِ) فَهُوَ إكْرَاهٌ (لِ) وُجُودِ الْعِلَّةِ حِينَئِذٍ وَهُوَ (فَوَاتُ الرِّضَا) (قَوْلُهُ وَكَذَا الْإِقْرَارُ حُجَّةٌ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَالْإِكْرَاهُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَعْدَمُ الرِّضَا فَيَفْسُدُ: أَيْ وَالْإِقْرَارُ أَيْضًا يَفْسُدُ بِالْإِكْرَاهِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إنَّمَا صَارَ حُجَّةً فِي غَيْرِ الْإِكْرَاهِ لِتَرَجُّحِ جَنَبَةِ الصِّدْقِ، وَعِنْدَ الْإِكْرَاهِ يَحْتَمِلُ الْكَذِبَ لِدَفْعِ الْمَضَرَّةِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً، بِخِلَافِ مَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِأَلْفٍ بِضَرْبِ سَوْطٍ أَوْ حَبْسِ يَوْمٍ فَأَقَرَّ بِهِ فَهُوَ إقْرَارٌ كَمَا فِي الْبَيْعِ، إلَّا إذَا كَانَ الْمُكْرِهُ صَاحِبَ مَنْصِبٍ: أَيْ عِزٍّ وَمَرْتَبَةٍ، فَإِنَّ الشُّرَفَاءَ وَالْأَجِلَّاءَ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْكُبَرَاءِ يَسْتَنْكِفُونَ عَنْ ضَرْبِ سَوْطٍ وَاحِدٍ وَحَبْسِ يَوْمٍ وَاحِدٍ أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَنْكِفُ غَيْرُهُمْ مِنْ ضَرْبِ سِيَاطٍ وَحَبْسِ أَيَّامٍ، وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَيْسَ فِي ذَلِكَ تَقْدِيرٌ لَازِمٌ، بَلْ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى الْحَاكِمُ مِنْ حَالِ مَنْ اُبْتُلِيَ بِهِ (ثُمَّ إذَا بَاعَ مُكْرَهًا وَسَلَّمَ مُكْرَهًا يَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ عِنْدَنَا.
وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَثْبُتُ لِأَنَّهُ بَيْعٌ مَوْقُوفٌ عَلَى الْإِجَازَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَجَازَ جَازَ وَالْمَوْقُوفُ) عَلَى الْإِجَارَةِ (قَبْلَ الْإِجَازَةِ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ) كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ (وَلَنَا أَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحَلِّهِ) لِأَنَّ الْإِيجَابَ وَالْقَبُولَ صَدَرَ مِنْ الْمَالِكِ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ وَصَادَفَ مَحَلَّهُ وَهُوَ الْمِلْكُ (وَالْفَسَادُ لِفَقْدِ شَرْطِهِ وَهُوَ التَّرَاضِي) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وَتَأْثِيرُ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ فِي فَسَادِ الْعَقْدِ لَا غَيْرُ كَانْتِفَاءِ الْمُسَاوَاةِ فِي بَابِ الرِّبَا (فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ عِنْدَ الْقَبْضِ) وَالْبَيْعُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، إنَّمَا لَا يُفِيدُهُ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْعَقْدَ فِي حَقِّ حُكْمِهِ كَالْمُتَعَلِّقِ بِالشَّرْطِ، وَالْمُتَعَلِّقُ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ قَبْلَ الشَّرْطِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يُفِيدُ الْمِلْكَ عِنْدَ الْقَبْضِ.
(فَلَوْ قَبَضَهُ وَأَعْتَقَهُ أَوْ تَصَرَّفَ فِيهِ تَصَرُّفًا لَا يُمْكِنُ نَقْضُهُ) كَالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ (جَازَ وَلَزِمَهُ الْقِيمَةُ كَمَا فِي سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ) فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ كَسَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ لَمَا عَادَ جَائِزًا بِالْإِجَازَةِ كَهُوَ.
أَجَابَ بِأَنَّ بِإِجَازَةِ الْمَالِكِ يَرْتَفِعُ الْمُفْسِدُ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ وَعَدَمُ الرِّضَا فَيَجُوزُ، بِخِلَافِ سَائِرِهَا فَإِنَّ الْمُفْسِدَ فِيهِ بَاقٍ (قَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ بِهِ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ كَمَا فِي سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ فَإِنَّ فِيهِ إذَا بَاعَ الْمُشْتَرِي مَا اشْتَرَاهُ بِشِرَاءٍ فَاسِدٍ لَمْ يَبْقَ لِلْبَائِعِ الْأَوَّلِ حَقُّ اسْتِرْدَادِهِ وَهَاهُنَا لَا يَنْقَطِعُ بِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ لِلْبَائِعِ وَإِنْ تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي وَلَمْ يَرْضَ الْبَائِعُ بِذَلِكَ، لِأَنَّ الْفَسَادَ فِي الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ لِحَقِّ الشَّرْعِ وَقَدْ تَعَلَّقَ بِالْبَيْعِ الثَّانِي حَقُّ الْعَبْدِ وَحَقُّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لِحَاجَتِهِ، أَمَّا هَاهُنَا فَالرَّدُّ لِحَقِّ الْعَبْدِ وَهُمَا سَوَاءٌ فَلَا يَبْطُلُ حَقُّ الْأَوَّلِ لِحَقِّ الثَّانِي.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ (وَمَنْ جَعَلَ الْبَيْعَ الْجَائِزَ الْمُعْتَادَ) يُرِيدُ بِهِ بَيْعَ الْوَفَاءِ، وَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي: بِعْت مِنْك هَذَا الْعَيْنَ بِمَا لَك عَلَيَّ مِنْ الدَّيْنِ عَلَى أَنِّي مَتَى قَضَيْت الدَّيْنَ فَهُوَ لِي، أَوْ يَقُولُ بِعْت مِنْك هَذَا الْعَيْنَ بِكَذَا عَلَى أَنِّي إنْ دَفَعْت إلَيْك ثَمَنَك تَدْفَعُ الْعَيْنَ إلَيَّ وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ، وَمَشَايِخُ سَمَرْقَنْدَ جَعَلُوهُ بَيْعًا جَائِزًا مُفِيدًا بَعْضَ الْأَحْكَامِ وَهُوَ الِانْتِفَاعُ بِهِ دُونَ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ عَلَى مَا هُوَ الْمُعْتَادُ بَيْنَ النَّاسِ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَاخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ الْبَيْعُ الْجَائِزُ الْمُعْتَادُ.
وَمِنْ الْمَشَايِخِ (مَنْ جَعَلَهُ بَيْعًا فَاسِدًا وَجَعَلَهُ كَالْبَيْعِ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ حَتَّى يُنْقَضَ بَيْعُ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِهِ لِأَنَّ الْفَسَادَ لِفَوَاتِ الرِّضَا) كَمَا فِي الْبَيْعِ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ (وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ رَهْنًا لِقَصْدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ) لِأَنَّهُمَا وَإِنْ سَمَّيَا بَيْعًا لَكِنَّ غَرَضَهُمَا الرَّهْنُ وَالْعِبْرَةُ لِلْمَقَاصِدِ وَالْمَعَانِي، وَلَا يَمْلِكُهُ الْمُرْتَهِنُ وَلَا يُطْلَقُ لَهُ الِانْتِفَاعُ إلَّا بِإِذْنِ مَالِكِهِ وَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَكَلَ مِنْ ثَمَرِهِ وَاسْتَهْلَكَهُ مِنْ عَيْنِهِ، وَالدَّيْنُ سَاقِطٌ بِهَلَاكِهِ فِي يَدِهِ إذَا كَانَ وَفَّى بِالدَّيْنِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الزِّيَادَةِ إذَا هَلَكَ بِغَيْرِ صُنْعِهِ، وَلِلْبَائِعِ اسْتِرْدَادُهُ إذَا قَضَى دَيْنَهُ لَا فَرْقَ عِنْدَنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّهْنِ.
(وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ بَيْعًا بَاطِلًا اعْتِبَارًا بِالْهَازِلِ) لِأَنَّهُمَا تَكَلَّمَا بِلَفْظِ الْبَيْعِ وَلَيْسَ قَصْدَهُمَا، فَكَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يَفْسَخَ بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِهِ، وَلَوْ أَجَازَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَجُزْ عَلَى صَاحِبِهِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ (هُوَ الْمُعْتَادُ) أَنَّهُمْ فِي عُرْفِهِمْ لَا يَفْهَمُونَ لُزُومَ الْبَيْعِ بِهَذَا الْوَجْهِ، بَلْ يُجَوِّزُونَهُ إلَى أَنْ يَرُدَّ الْبَائِعُ الثَّمَنَ إلَى الْمُشْتَرِي وَبَقِيَ الْمُشْتَرِي يَرُدُّ الْمَبِيعَ عَلَى الْبَائِعِ مِنْ غَيْرِ امْتِنَاعٍ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا إذَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ، وَلِهَذَا سَمَّوْهُ بَيْعَ الْوَفَاءِ لِأَنَّهُ وَفَّى بِمَا عَهِدَ مِنْ رَدِّ الْمَبِيعِ. قَالَ (فَإِنْ كَانَ قَبَضَ الثَّمَنَ طَوْعًا فَقَدْ أَجَازَ الْبَيْعَ) لِأَنَّهُ دَلِيلُ الْإِجَازَةِ كَمَا فِي الْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ وَكَذَا إذَا سَلَّمَ طَائِعًا، بِأَنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْبَيْعِ لَا عَلَى الدَّفْعِ لِأَنَّهُ دَلِيلُ الْإِجَازَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَكْرَهَهُ عَلَى الْهِبَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ الدَّفْعَ فَوَهَبَ وَدَفَعَ حَيْثُ يَكُونُ بَاطِلًا، لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُكْرِهِ الِاسْتِحْقَاقُ لَا مُجَرَّدُ اللَّفْظِ، وَذَلِكَ فِي الْهِبَةِ بِالدَّفْعِ وَفِي الْبَيْعِ بِالْعَقْدِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ، فَدَخَلَ الدَّفْعُ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْهِبَةِ دُونَ الْبَيْعِ.
قَالَ (وَإِنْ قَبَضَهُ مُكْرَهًا فَلَيْسَ ذَلِكَ بِإِجَازَةٍ وَعَلَيْهِ رَدُّهُ إنْ كَانَ قَائِمًا فِي يَدِهِ) لِفَسَادِ الْعَقْدِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (فَإِنْ كَانَ قَبَضَ الثَّمَنَ طَوْعًا إلَخْ) إذَا قَبَضَ الْبَائِعُ الثَّمَنَ طَوْعًا فَقَدْ أَجَازَ الْبَيْعَ لِأَنَّهُ دَلَالَةُ الْإِجَازَةِ كَمَا فِي الْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ إذَا قَبَضَ الثَّمَنَ كَانَ إجَازَةً، وَدَلَالَةُ الْإِجَازَةِ تَقُومُ مَقَامَ الْإِجَازَةِ فَكَذَا إذَا سَلَّمَ الْمَبِيعَ طَائِعًا بِأَنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْبَيْعِ لَا عَلَى الدَّفْعِ لِأَنَّهُ دَلَالَةُ الْإِجَازَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْهِبَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ الدَّفْعَ فَوَهَبَ كُرْهًا وَدَفَعَ طَائِعًا حَيْثُ يَكُونُ الْعَقْدُ بَاطِلًا: أَيْ فَاسِدًا يُوجِبُ الْمِلْكَ بَعْدَ الْقَبْضِ كَالْهِبَةِ الصَّحِيحَةِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِنَا أَنَّ فَسَادَ السَّبَبِ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَ الْمِلْكِ بِالْقَبْضِ، فَإِنْ تَصَرَّفَ فِيهِ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ وَعَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ مَقْصُودَ الْمُكْرَهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الِاسْتِحْقَاقُ لَا مُجَرَّدُ اللَّفْظِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الِاسْتِحْقَاقُ فِي الْهِبَةِ بِالْقَبْضِ وَفِي الْبَيْعِ بِالْعَقْدِ فَكَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْهِبَةِ إكْرَاهًا عَلَى الدَّفْعِ دُونَ الْبَيْعِ (وَإِنْ قَبَضَهُ) أَيْ الثَّمَنَ (مُكْرَهًا فَلَيْسَ ذَلِكَ بِإِجَازَةٍ، وَعَلَى الْمُكْرَهِ رَدُّهُ إنْ كَانَ قَائِمًا فِي يَدِهِ لِفَسَادِ الْعَقْدِ) فَيَكُونُ الثَّمَنُ أَمَانَةً عِنْدَ الْمُكْرَهِ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِإِذْنِ الْمُشْتَرِي وَالْقَبْضُ مَتَى كَانَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ إنَّمَا يُوجِبُ الضَّمَانَ إذَا كَانَ لِلتَّمَلُّكِ، وَهَاهُنَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى قَبْضِهِ. قَالَ (وَإِنْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَهُوَ غَيْرِ مُكْرَهٍ ضَمِنَ قِيمَتَهُ لِلْبَائِعِ) مَعْنَاهُ وَالْبَائِعُ مُكْرَهٌ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ.
الشَّرْحُ:
(وَإِنْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَهُوَ غَيْرُ مُكْرَهٍ، وَالْبَائِعُ مُكْرَهٌ ضَمِنَ قِيمَتَهُ لِلْبَائِعِ) لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ لِعَدَمِ الرِّضَا.
كَمَا تَقَدَّمَ، وَمَا هُوَ كَذَلِكَ فَهُوَ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ. (وَلِلْمُكْرَهِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُكْرِهَ إنْ شَاءَ) لِأَنَّهُ آلَةٌ لَهُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْإِتْلَافِ، فَكَأَنَّهُ دَفَعَ مَالَ الْبَائِعِ إلَى الْمُشْتَرِي فَيُضَمِّنُ أَيَّهمَا شَاءَ كَالْغَاصِبِ وَغَاصِبِ الْغَاصِبِ، فَلَوْ ضَمِنَ الْمُكْرَهُ رَجَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْقِيمَةِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْبَائِعِ، وَإِنْ ضَمِنَ الْمُشْتَرِي نَفَذَ كُلُّ شِرَاءٍ كَانَ بَعْدَ شِرَائِهِ لَوْ تَنَاسَخَتْهُ الْعُقُودُ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ فَظَهَرَ أَنَّهُ بَاعَ مِلْكَهُ، وَلَا يَنْفُذُ مَا كَانَ لَهُ قَبْلَهُ لِأَنَّ الِاسْتِنَادَ إلَى وَقْتِ قَبْضِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَجَازَ الْمَالِكُ الْمُكْرَهَ عَقْدًا مِنْهَا حَيْثُ يَجُوزُ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ وَهُوَ الْمَانِعُ فَعَادَ الْكُلُّ إلَى الْجَوَازِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
(وَالْمُكْرَهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُكْرِهَ لِأَنَّ الْمُكْرِهَ آلَةٌ لَهُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْإِتْلَافِ) وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ آلَةً لَهُ مِنْ حَيْثُ الْكَلَامُ فَإِنَّ التَّكَلُّمَ بِلِسَانِ الْغَيْرِ لَا يُتَصَوَّرُ (فَكَأَنَّ الْمُكْرِهَ دَفَعَ مَالَ الْبَائِعِ إلَى الْمُشْتَرِي وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِيَ) لِأَنَّ الْهَلَاكَ حَصَلَ عِنْدَهُ فَكَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَحْدَثَ سَبَبًا لِلضَّمَانِ (كَالْغَاصِبِ وَغَاصِبِ الْغَاصِبِ، فَلَوْ ضَمَّنَ الْمُكْرِهَ رَجَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِقِيمَتِهِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْبَائِعِ) بِأَدَاءِ الضَّمَانِ (وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِيَ) يَعْنِي أَيَّ مُشْتَرٍ كَانَ بَعْدَ الْأَوَّلِ (نَفَذَ كُلُّ شِرَاءٍ كَانَ بَعْدَ شِرَائِهِ لَوْ تَنَاسَخَتْهُ الْعُقُودُ) أَيْ تَدَاوَلَتْهُ (لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ فَظَهَرَ أَنَّهُ بَاعَ مِلْكَهُ، وَلَا يَنْفُذُ مَا كَانَ لَهُ قَبْلَهُ لِأَنَّ الِاسْتِنَادَ إلَى وَقْتِ قَبْضِهِ) وَقَالَ الشَّارِحُونَ: وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِيَ: يَعْنِي فِي صُورَةِ الْغَصْبِ وَمَا عَرَفْت الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا لَكِنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ إنَّمَا هُوَ عَلَى شِقَّيْ التَّرْدِيدِ مِنْ تَضْمِينِ الْمُكْرِهِ وَالْمُشْتَرِي، وَكَلَامُهُ فِي الْغَاصِبِ مِنْ جِهَةِ التَّمْثِيلِ لَا مِنْ حَيْثُ الْأَصَالَةُ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ تَضْمِينِهِ مُشْتَرِيًا وَإِجَازَتِهِ عَقْدًا مِنْهَا حَيْثُ اقْتَصَرَ النَّفَاذُ هَاهُنَا عَلَى مَا كَانَ بَعْدَهُ وَعَمَّ الْجَمِيعَ هُنَالِكَ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ) يَعْنِي فِي صُورَةِ الْإِجَازَةِ (وَهُوَ) أَيْ حَقُّهُ هُوَ (الْمَانِعُ فَعَادَ الْكُلُّ إلَى الْجَوَازِ) فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ إجَازَةِ الْمُكْرَهِ وَإِجَازَةِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، فَإِنَّهُ إذَا أَجَازَ بَيْعًا مِنْ الْبُيُوعِ نَفَذَ مَا أَجَازَهُ خَاصَّةً؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْغَصْبَ لَا يُزِيلُ مِلْكَهُ، فَكُلُّ بَيْعٍ مِنْ هَذِهِ الْبُيُوعِ تَوَقَّفَ عَلَى إجَازَتِهِ بِهِ لِمُصَادَفَتِهِ مِلْكَهُ فَتَكُونُ إجَازَتُهُ أَحَدَ الْبُيُوعِ تَمْلِيكًا لِلْغَيْرِ مِنْ الْمُشْتَرِي بِحُكْمِ ذَلِكَ الْبَيْعِ فَلَا يَنْفُذُ مَا سِوَاهُ.
وَأَمَّا الْمُشْتَرِي مِنْ الْمُكْرَهِ فَقَدْ مَلَكَهُ، فَالْبَيْعُ مِنْ كُلِّ مُشْتَرٍ صَادَفَ مِلْكَهُ، وَإِنَّمَا تَوَقَّفَ نُفُوذُهُ عَلَى سُقُوطِ حَقِّ الْمُكْرَهِ فِي الِاسْتِرْدَادِ، وَفِي هَذَا لَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ بَيْنَ إجَازَتِهِ الْبَيْعَ الْأَوَّلَ وَالْآخَرَ، فَلِهَذَا نَفَذَ الْبُيُوعُ كُلُّهَا بِإِجَازَتِهِ عَقْدًا مِنْهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.