فصل: فَصْلٌ فِي التَّعْزِيرِ.

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.فَصْلٌ فِي التَّعْزِيرِ.

الشَّرْحُ:
فَصْلٌ: فِي التَّعْزِيرِ.
لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ الزَّوَاجِرِ الْمُقَدَّرَةِ الثَّابِتَةِ بِالْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ ذَكَرَ فِي هَذَا الْفَصْلِ الزَّوَاجِرَ الَّتِي دُونَهَا فِي الْقَدْرِ وَقُوَّةِ الدَّلِيلِ وَهُوَ التَّعْزِيرُ، وَهُوَ تَأْدِيبٌ دُونَ الْحَدِّ، وَأَصْلُهُ مِنْ الْعَزْرِ بِمَعْنَى الرَّدِّ وَالرَّدْعِ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ مَنْ قَذَفَ غَيْرَهُ بِكَبِيرَةٍ لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ يَجِبُ التَّعْزِيرُ.
قَالَ فِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ: اعْلَمْ أَنَّ التَّعْزِيرَ قَدْ يَكُونُ بِالْحَبْسِ وَقَدْ يَكُونُ بِالصَّفْعِ وَتَعْرِيكِ الْأُذُنِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْكَلَامِ الْعَنِيفِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالضَّرْبِ، وَقَدْ يَكُونُ بِنَظَرِ الْقَاضِي إلَيْهِ بِوَجْهٍ عَبُوسٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ التَّعْزِيرَ بِأَخْذِ الْمَالِ، وَقَدْ قِيلَ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ التَّعْزِيرَ مِنْ السُّلْطَانِ بِأَخْذِ الْمَالِ جَائِزٌ، وَذَكَرَ الْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ أَنَّ التَّعْزِيرَ الَّذِي يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى يَلِي إقَامَتَهُ كُلُّ أَحَدٍ بِعِلَّةِ النِّيَابَةِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى. (وَمَنْ قَذَفَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ أَوْ كَافِرًا بِالزِّنَا عُزِّرَ) لِأَنَّهُ جِنَايَةُ قَذْفٍ، وَقَدْ امْتَنَعَ وُجُوبُ الْحَدِّ لِفَقْدِ الْإِحْصَانِ فَوَجَبَ التَّعْزِيرُ (وَكَذَا إذَا قَذَفَ مُسْلِمًا بِغَيْرِ الزِّنَا فَقَالَ يَا فَاسِقُ أَوْ يَا كَافِرُ أَوْ يَا خَبِيثُ أَوْ يَا سَارِقُ) لِأَنَّهُ آذَاهُ وَأَلْحَقَ الشَّيْنَ بِهِ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي الْحُدُودِ فَوَجَبَ التَّعْزِيرُ، إلَّا أَنَّهُ يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ غَايَتَهُ فِي الْجِنَايَةِ الْأُولَى لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ مَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ، وَفِي الثَّانِيَةِ: الرَّأْيُ إلَى الْإِمَامِ (وَلَوْ قَالَ يَا حِمَارُ أَوْ يَا خِنْزِيرُ لَمْ يُعَزَّرْ) لِأَنَّهُ مَا أُلْحِقَ الشَّيْنُ بِهِ لِلتَّيَقُّنِ بِنَفْيِهِ.
وَقِيلَ فِي عُرْفِنَا يُعَزَّرُ لِأَنَّهُ يُعَدُّ شَيْنًا، وَقِيلَ إنْ كَانَ الْمَسْبُوبُ مِنْ الْأَشْرَافِ كَالْفُقَهَاءِ وَالْعَلَوِيَّةِ يُعَزَّرُ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُمْ الْوَحْشَةُ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعَامَّةِ لَا يُعَزَّرُ، وَهَذَا أَحْسَنُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ قَذَفَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (فِي الْجِنَايَةِ الْأُولَى) يَعْنِي مَا إذَا قَذَفَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ بِالزِّنَا (لِأَنَّهُ) أَيْ الْقَذْفَ بِالزِّنَا (مِنْ جِنْسِ مَا يَجِبُ فِيهِ الْحَدُّ) وَقَوْلُهُ (فِي الثَّانِيَةِ) يَعْنِي قَوْلَهُ يَا فَاسِقُ إلَخْ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ مَا أَلْحَقَ الشَّيْنَ بِهِ لِلتَّيَقُّنِ بِنَفْيِهِ) قِيلَ بَلْ يَلْحَقُ الشَّيْنُ بِالْقَاذِفِ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ أَنَّهُ آدَمِيٌّ، وَأَنَّ الْقَاذِفَ كَاذِبٌ، وَقَوْلُهُ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ«مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ») نُقِلَ بِتَخْفِيفِ بَلَغَ مِنْ الْبُلُوغِ وَهُوَ السَّمَاعُ.
وَأَمَّا مَا يَجْرِي عَلَى أَلْسِنَةِ الْفُقَهَاءِ مِنْ التَّثْقِيلِ إنْ صَحَّ فَعَلَى حَذْفِ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ، وَالتَّقْدِيرُ مَنْ بَلَّغَ التَّعْزِيرَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ، وَفِيهِ نَبْوَةٌ تُعْرَفُ بِالتَّأَمُّلِ الصَّحِيحِ، وَأَرَى أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُهُ مَنْ بَلَّغَ الضَّرْبَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ. وَالتَّعْزِيرُ أَكْثَرُهُ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ سَوْطًا وَأَقَلُّهُ ثَلَاثُ جَلَدَاتٍ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ سَوْطًا.
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ» وَإِذَا تَعَذَّرَ تَبْلِيغُهُ حَدًّا فَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ نَظَرَا إلَى أَدْنَى الْحَدِّ وَهُوَ حَدُّ الْعَبْدِ فِي الْقَذْفِ فَصَرَفَاهُ إلَيْهِ وَذَلِكَ أَرْبَعُونَ سَوْطًا فَنَقَصَا مِنْهُ سَوْطًا.
وَأَبُو يُوسُفَ اعْتَبَرَ أَقَلَّ الْحَدِّ فِي الْأَحْرَارِ إذْ الْأَصْلُ هُوَ الْحُرِّيَّةُ ثُمَّ نَقَصَ سَوْطًا فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ نَقَصَ خَمْسَةً وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ عَلِيٍّ فَقَلَّدَهُ ثُمَّ قَدَّرَ الْأَدْنَى فِي الْكِتَابِ بِثَلَاثِ جَلَدَاتٍ لِأَنَّ مَا دُونَهَا لَا يَقَعُ بِهِ الزَّجْرُ، وَذَكَرَ مَشَايِخُنَا أَنَّ أَدْنَاهُ عَلَى مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ فَيُقَدَّرُ بِقَدْرِ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ يَنْزَجِرُ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ عَلَى قَدْرِ عِظَمِ الْجُرْمِ وَصِغَرِهِ، وَعَنْهُ أَنْ يُقَرَّبَ كُلُّ نَوْعٍ مِنْ بَابِهِ؛ فَيُقَرَّبُ الْمَسُّ وَالْقُبْلَةُ مِنْ حَدِّ الزِّنَا، وَالْقَذْفُ بِغَيْرِ الزِّنَا مِنْ حَدِّ الْقَذْفِ.
الشَّرْحُ:
(فَإِذَا تَعَذَّرَ تَبْلِيغُهُ حَدًّا فَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ نَظَرَا إلَى أَدْنَى الْحَدِّ) وَهُوَ حَدُّ الْعَبْدِ فِي الْقَذْفِ (فَصَرَفَاهُ إلَيْهِ وَذَلِكَ أَرْبَعُونَ فَنَقَصَا مِنْهُ سَوْطًا) وَهَذَا حَقٌّ لِأَنَّ مَنْ اعْتَبَرَ حَدَّ الْأَحْرَارِ فَقَدْ بَلَغَ حَدًّا وَهُوَ حَدُّ الْعَبْدِ، وَالتَّنْكِيرُ فِي الْحَدِيثِ يُنَافِيهِ.
وَوَجْهُ نُقْصَانِ السَّوْطِ الْوَاحِدِ فِي الْمَذْهَبَيْنِ جَمِيعًا هُوَ أَنَّ الْبُلُوغَ إلَى تَمَامِ الْحَدِّ تَعَذَّرَ وَلَيْسَ بَعْدَهُ قَدْرٌ مُعَيَّنٌ كَرُبُعٍ أَوْ ثُلُثٍ أَوْ عُشْرٍ فَيُصَارُ إلَى أَقَلِّ مَا يُمْكِنُ لِلتَّيَقُّنِ بِهِ وَنَظِيرُهُ وَقْتُ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ الْكُلَّ لَمَّا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا وَلَيْسَ بَعْدَهُ جُزْءٌ مُعَيَّنٌ صُيِّرَ إلَى أَقَلَّ مَا يُمْكِنُ وَهُوَ الْجُزْءُ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (فَيَقْرَبُ اللَّمْسُ وَالْقُبْلَةُ مِنْ حَدِّ الزِّنَا) يَعْنِي فَيَكُونُ فِيهِ أَكْثَرُ الْجَلَدَاتِ.
وَقَوْلُهُ (وَالْقَذْفُ بِغَيْرِ الزِّنَا مِنْ حَدِّ الْقَذْفِ) يَعْنِي فَيَكُونُ فِيهِ أَقَلُّ الْجَلَدَاتِ. قَالَ (وَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَضُمَّ إلَى الضَّرْبِ فِي التَّعْزِيرِ الْحَبْسَ فَعَلَ) لِأَنَّهُ صَلُحَ تَعْزِيرًا وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ حَتَّى جَازَ أَنْ يَكْتَفِيَ بِهِ فَجَازَ أَنْ يُضَمَّ إلَيْهِ، وَلِهَذَا لَمْ يُشْرَعْ فِي التَّعْزِيرِ بِالتُّهْمَةِ قَبْلَ ثُبُوتِهِ كَمَا شُرِعَ فِي الْحَدِّ لِأَنَّهُ مِنْ التَّعْزِيرِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ) يَعْنِي الْحَبْسَ (صَلَحَ تَعْزِيرًا) وَقَوْلُهُ (وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ) أَيْ بِالْحَبْسِ وَهُوَ مَا رُوِيَ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبَسَ رَجُلًا لِلتَّعْزِيرِ» وَقَوْلُهُ (وَلِهَذَا لَمْ يَشْرَعْ فِي التَّعْزِيرِ بِالتُّهْمَةِ) لِإِيضَاحِ أَنَّ الْحَبْسَ يَصْلُحُ لِلتَّعْزِيرِ فِيمَا يَجِبُ فِيهِ التَّعْزِيرُ: أَيْ لَمْ يُشْرَعْ الْحَبْسُ بِسَبَبِ التُّهْمَةِ فِي الشَّيْءِ الَّذِي يُوجِبُ التَّعْزِيرَ لَوْ ثَبَتَ قَبْلَ ثُبُوتِهِ بِأَنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ مَسْتُورَانِ عَلَى أَنَّهُ قَذَفَ مُحْصَنًا فَقَالَ يَا فَاسِقُ أَوْ يَا كَافِرُ فَلَا يُحْبَسُ الْمُتَّهَمُ قَبْلَ تَعْدِيلِ الشُّهُودِ.
وَفِي فَصْلِ الْحَدِّ يُحْبَسُ بِالتُّهْمَةِ لِأَنَّ فِي بَابِ الْحَدِّ شَيْئًا آخَرَ فَوْقَ الْحَبْسِ وَهُوَ إقَامَةُ الْحَدِّ عِنْدَ وُجُودِ مُوجِبِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يُحْبَسَ فِي تُهْمَتِهِ لِتَنَاسُبِ إقَامَةِ الْعُقُوبَةِ الْأَدْنَى بِمُقَابَلَةِ الذَّنْبِ الْأَدْنَى.
وَفِي بَابِ الْأَمْوَالِ وَالتَّعْزِيرِ لَا يُحْبَسُ بِالتُّهْمَةِ لِأَنَّ الْأَقْصَى فِيهِمَا عُقُوبَةُ الْحَبْسِ، فَلَوْ حُبِسَا بِالتُّهْمَةِ فِيهِمَا لَكَانَ إقَامَةُ الْعُقُوبَةِ الْأَعْلَى بِمُقَابَلَةِ الذَّنْبِ الْأَدْنَى وَهُوَ مِمَّا يَأْبَاهُ الشَّرْعُ، وَلَمَّا لَمْ يُشْرَعْ الْحَبْسُ عِنْدَ تُهْمَةِ مُوجِبِ التَّعْزِيرِ عُلِمَ أَنَّ الْحَبْسَ مِنْ التَّعْزِيرِ، إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْحَبْسُ مِنْ التَّعْزِيرِ لَحُبِسَ عِنْدَ تُهْمَةِ مُوجِبِ التَّعْزِيرِ كَمَا يُحْبَسُ عِنْدَ تُهْمَةِ مُوجِبِ الزِّنَا فَلَمَّا كَانَ الْحَبْسُ مِنْ التَّعْزِيرِ بِهَذَا الدَّلِيلِ جَازَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَضُمَّهُ إلَى الضَّرْبِ إنْ رَأَى ذَلِكَ، كَمَا أَنَّ لِلْإِمَامِ الرَّأْيَ فِي تَقْدِيرِ الضَّرَبَاتِ فَكَذَلِكَ فِي ضَمِّ الْحَبْسِ إلَى الضَّرْبِ.
قَالَ: وَأَشَدُّ الضَّرْبِ التَّعْزِيرُ.
قَالَ الْحَاكِمُ فِي الْكَافِي: وَضَرْبُ التَّعْزِيرِ أَشَدُّ مِنْ ضَرْبِ الزَّانِي، وَضَرْبُ الزَّانِي أَشَدُّ مِنْ ضَرْبِ الشَّارِبِ، وَضَرْبُ الشَّارِبِ أَشَدُّ مِنْ ضَرْبِ الْقَاذِفِ، وَضَرْبُ الْقَاذِفِ أَخَفُّ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانَ ضَرْبُ التَّعْزِيرِ أَشَدَّ لِأَنَّهُ نَاقِصُ الْمِقْدَارِ وَهُوَ تَخْفِيفٌ. قَالَ (وَأَشَدُّ الضَّرْبِ التَّعْزِيرُ) لِأَنَّهُ جَرَى التَّخْفِيفُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ فَلَا يُخَفَّفُ مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى فَوَاتِ الْمَقْصُودِ، وَلِهَذَا لَمْ يُخَفَّفْ مِنْ حَيْثُ التَّفْرِيقُ عَلَى الْأَعْضَاءِ قَالَ (ثُمَّ حَدُّ الزِّنَا) لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ، وَحَدُّ الشُّرْبِ ثَبَتَ بِقَوْلِ الصَّحَابَةِ، وَلِأَنَّهُ أَعْظَمُ جِنَايَةً حَتَّى شُرِعَ فِيهِ الرَّجْمُ (ثُمَّ حَدُّ الشُّرْبِ) لِأَنَّ سَبَبَهُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ (ثُمَّ حَدُّ الْقَذْفِ) لِأَنَّ سَبَبَهُ مُحْتَمِلٌ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ صَادِقًا وَلِأَنَّهُ جَرَى فِيهِ التَّغْلِيظُ مِنْ حَيْثُ رَدُّ الشَّهَادَةِ فَلَا يُغَلَّظُ مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ.
الشَّرْحُ:
(فَلَا يُخَفَّفُ ثَانِيًا فِي وَصْفِهِ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى تَفْوِيتِ الْمَقْصُودِ) وَهُوَ الزَّجْرُ.
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي شِدَّتِهِ، قَالَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الْجَمْعُ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ بِجَمْعِ الْأَسْوَاطِ بِعُضْوٍ وَاحِدٍ وَلَا يُفَرَّقُ عَلَى الْأَعْضَاءِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُدُودِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا بَلْ شِدَّتُهُ فِي الضَّرْبِ لَا فِي الْجَمْعِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَى أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ أَنَّ رَجُلًا أَقْسَمَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَضَرَبَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثَلَاثِينَ سَوْطًا كُلُّهَا يُبْضِعُ وَيَحْدُرُ: أَيْ يَشُقُّ وَيُوَرِّمُ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ضَرَبَهُ بِطَرِيقِ التَّعْزِيرِ، وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ رَحِمَهُ اللَّهُ اخْتَارَهُ يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ وَلِهَذَا لَمْ يُخَفَّفْ مِنْ حَيْثُ التَّفْرِيقُ عَلَى الْأَعْضَاءِ، فَلَوْ كَانَ الشِّدَّةُ عِبَارَةً عَنْ عَدَمِ التَّفْرِيقِ لَزِمَ تَوْضِيحُ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ.
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ حَدُّ الزِّنَا) ظَاهِرٌ. (وَمَنْ حَدَّهُ الْإِمَامُ أَوْ عَزَّرَهُ فَمَاتَ فَدَمُهُ هَدَرٌ) لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا فَعَلَ بِأَمْرِ الشَّرْعِ، وَفِعْلُ الْمَأْمُورِ لَا يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ كَالْفِصَادِ وَالْبَزَّاغِ، بِخِلَافِ الزَّوْجِ إذَا عَزَّرَ زَوْجَتَهُ لِأَنَّهُ مُطْلَقٌ فِيهِ، وَالْإِطْلَاقَاتُ تَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ كَالْمُرُورِ فِي الطَّرِيقِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَجِبُ الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ خَطَأٌ فِيهِ، إذْ التَّعْزِيرُ لِلتَّأْدِيبِ غَيْرَ أَنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ نَفْعَ عَمَلِهِ يَرْجِعُ عَلَى عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَيَكُونُ الْغُرْمُ فِي مَالِهِمْ.
قُلْنَا لَمَّا اسْتَوْفَى حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى بِأَمْرِهِ صَارَ كَأَنَّ اللَّهَ أَمَاتَهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ حَدَّهُ الْإِمَامُ أَوْ عَزَّرَهُ فَمَاتَ فَدَمُهُ هَدَرٌ) ذَكَرَ مَسْأَلَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْأَمْرِ وَهُوَ لَا يَقْتَضِي السَّلَامَةَ فِي إتْيَانِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَالْأُخْرَى عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهُوَ نَقِيضُهَا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَمْرَ لِطَلَبِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَهُوَ مِنْ الْإِثْبَاتَاتِ وَهِيَ لَا تَقْبَلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يُشْبِهُ الْقِمَارَ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ عَلَى الْمَأْمُورِ ذَلِكَ الْفِعْلُ بِالْأَمْرِ فَيَأْتِي الْمَأْمُورُ بِمَا فِي وُسْعِهِ غَيْرَ مُرَاقِبٍ لِلسَّلَامَةِ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَتَحَقَّقُ بِوَصْفِ السَّلَامَةِ فَيَبْقَى الْمَأْمُورُ فِي ضَرْبِ الْوُجُوبِ، وَأَمَّا الْإِطْلَاقُ فَإِسْقَاطٌ لِكَوْنِهِ رَفْعُ الْقَيْدِ وَهُوَ قَابِلٌ لِلتَّعْلِيقِ فَيَتَقَيَّدُ بِوَصْفِ السَّلَامَةِ، وَلِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُطْلَقَ فِي اخْتِيَارِ فَاعِلِهِ لِأَنَّهُ حَقُّ الْفَاعِلِ إنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَقَيَّدَ بِوَصْفِ السَّلَامَةِ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ فِي تَرْكِ وَصْفِ السَّلَامَةِ كَالْمُرُورِ فِي الطَّرِيقِ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي التَّعْزِيرِ: تَجِبُ الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ خَطَأٌ فِيهِ إذْ التَّعْزِيرُ لِلتَّأْدِيبِ، غَيْرَ أَنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ نَفْعَ عَمَلِهِ يَعُودُ إلَى عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَيَكُونُ الْغُرْمُ فِي مَالِهِمْ.
قُلْنَا: إنَّهُ لَمَّا اسْتَوْفَى حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى بِأَمْرِهِ صَارَ كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَاتَهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ) وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.كِتَابُ السَّرِقَةِ:

السَّرِقَةُ فِي اللُّغَةِ أَخْذُ الشَّيْءِ مِنْ الْغَيْرِ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ وَالِاسْتِسْرَارِ، وَمِنْهُ اسْتِرَاقُ السَّمْعِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إلَّا مَنْ اسْتَرَقَ السَّمْعَ} وَقَدْ زِيدَتْ عَلَيْهِ أَوْصَافٌ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى مَا يَأْتِيك بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَالْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ مُرَاعًى فِيهَا ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً أَوْ ابْتِدَاءً لَا غَيْرَ، كَمَا إذَا نَقَبَ الْجِدَارَ عَلَى الِاسْتِسْرَارِ وَأَخَذَ الْمَالَ مِنْ الْمَالِكِ مُكَابَرَةً عَلَى الْجِهَارِ.
وَفِي الْكُبْرَى: أَعْنِي قَطْعَ الطَّرِيقِ مُسَارَقَةُ عَيْنِ الْإِمَامِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَصَدِّي لِحِفْظِ الطَّرِيقِ بِأَعْوَانِهِ.
وَفِي الصُّغْرَى: مُسَارَقَةُ عَيْنِ الْمَالِكِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ.
الشَّرْحُ:
كِتَابُ السَّرِقَةِ: لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ الزَّوَاجِرِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِصِيَانَةِ النُّفُوسِ شَرَعَ فِي ذِكْرِ الزَّوَاجِرِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِصِيَانَةِ الْأَمْوَالِ، لِأَنَّ صِيَانَةَ النَّفْسِ أَقْدَمُ مِنْ صِيَانَةِ الْمَالِ، وَالسَّرِقَةُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَمَّا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وقَوْله تَعَالَى {إلَّا مَنْ اسْتَرَقَ السَّمْعَ} مَعْنَاهُ اسْتَمَعَ إلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الْخُفْيَةِ.
وَقَوْلُهُ (وَقَدْ زِيدَتْ عَلَيْهِ أَوْصَافٌ فِي الشَّرِيعَةِ) هِيَ أَنْ يُقَالَ: السَّرِقَةُ أَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ نِصَابًا مُحْرَزًا لِلتَّمَوُّلِ غَيْرَ مُتَسَارِعٍ إلَيْهِ الْفَسَادُ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ وَلَا شُبْهَةٍ (وَالْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ) وَهُوَ أَخْذُ الشَّيْءِ مِنْ الْغَيْرِ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ وَالِاسْتِسْرَارِ أَمْرٌ (مُرَاعًى فِيهَا) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: اعْلَمْ أَنَّ مَا نَقَلَهُ الشَّارِعُ إلَيْنَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا مَا هُوَ الْمُقَرَّرُ عَلَى مَا أَنْبَأَنَا بِهِ اللُّغَةُ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَجَاءَ إخْوَةُ يُوسُفَ} {وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} وَالثَّانِي مَا هُوَ الْمَعْدُولُ عَمَّا أَنْبَأَنَا بِهِ اللُّغَةُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ شَرْعًا عِبَارَةٌ عَنْ الْأَرْكَانِ الْمَعْهُودَةِ وَلَيْسَ لَهَا إنْبَاءٌ لُغَوِيٌّ وَكَذَلِكَ فِي غَيْرِهَا.
وَالثَّالِثُ مَا أَنْبَأَنَا بِهِ اللُّغَةُ مُقَرَّرٌ مَعَ زِيَادَةِ شَيْءٍ فِيهِ شَرْعًا كَالسَّرِقَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الصَّلَاةَ فِي اللُّغَةِ الدُّعَاءُ وَهِيَ مُقَرَّرَةٌ فِي الشَّرْعِ مَعَ زِيَادَةِ أَوْصَافٍ، وَكَذَلِكَ الصَّوْمُ هُوَ الْإِمْسَاكُ وَالزَّكَاةُ هُوَ النَّمَاءُ وَالْحَجُّ هُوَ الْقَصْدُ، وَالْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةُ فِي كُلِّ ذَلِكَ مَوْجُودَةٌ مَعَ زِيَادَةِ أَوْصَافٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ نَظَرٌ عَلَى الْمِثَالِ وَهُوَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ عِنْدَ الْمُحَصِّلِينَ وَقَوْلُهُ (كَمَا إذَا نَقَبَ الْجِدَارَ عَلَى الِاسْتِسْرَارِ) نَظِيرُ مَا يَكُونُ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ مَوْجُودًا فِيهِ ابْتِدَاءً وَتَرَكَ نَظِيرَ الْأَوَّلِ لِظُهُورِهِ، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَقْطَعَ فِيمَا إذَا نَقَبَ الْجِدَارَ عَلَى الِاسْتِسْرَارِ وَأَخَذَ الْمَالَ مِنْ الْمَالِكِ مُكَابَرَةً: أَيْ مُقَاتَلَةً بِسِلَاحٍ لِأَنَّ رُكْنَ السَّرِقَةِ الْأَخْذُ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ وَالِاسْتِسْرَارِ، وَالْخُفْيَةُ إنْ وُجِدَتْ وَقْتَ الدُّخُولِ لَمْ تُوجَدْ وَقْتَ الْأَخْذِ فَإِنَّ الْأَخْذَ حَصَلَ بِطَرِيقِ الْمُغَالَبَةِ لَكِنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا وَقَالُوا بِوُجُوبِ الْقَطْعِ لِأَنَّهُمْ لَوْ اعْتَبَرُوا الْخُفْيَةَ وَقْتَ الْأَخْذِ لَامْتَنَعَ الْقَطْعُ فِي أَكْثَرِ السَّرِقَاتِ لِأَنَّ أَكْثَرَهَا فِي اللَّيَالِيِ يَصِيرُ مُغَالَبَةً فِي الِانْتِهَاءِ لِأَنَّهُ وَقْتٌ لَا يَلْحَقُ الْغَوْثُ وَقَوْلُهُ (أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ) يَعْنِي الْمُودِعَ وَالْمُسْتَعِيرَ وَالْمُضَارِبَ وَالْغَاصِبَ وَالْمُرْتَهِنَ. قَالَ (وَإِذَا سَرَقَ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ مَا يَبْلُغُ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةً مِنْ حِرْزٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ وَجَبَ الْقَطْعُ) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} الْآيَةَ وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ لَا تَتَحَقَّقُ دُونَهُمَا وَالْقَطْعُ جَزَاءُ الْجِنَايَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ التَّقْدِيرِ بِالْمَالِ الْخَطِيرِ لِأَنَّ الرَّغَبَاتِ تَفْتُرُ فِي الْحَقِيرِ، وَكَذَا أَخْذُهُ لَا يَخْفَى فَلَا يَتَحَقَّقُ رُكْنُهُ وَلَا حِكْمَةُ الزَّجْرِ لِأَنَّهَا فِيمَا يَغْلِبُ، وَالتَّقْدِيرُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ مَذْهَبُنَا.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ التَّقْدِيرُ بِرُبْعِ دِينَارٍ.
وَعِنْدَ مَالِكٍ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ.
لَهُمَا أَنَّ الْقَطْعَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ إلَّا فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ، وَأَقَلُّ مَا نُقِلَ فِي تَقْدِيرِهِ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ، وَالْأَخْذُ بِالْأَقَلِّ الْمُتَيَقَّنِ بِهِ أَوْلَى، غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: «كَانَتْ قِيمَةُ الدِّينَارِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا» وَالثَّلَاثَةُ رُبْعُهَا.
وَلَنَا أَنَّ الْأَخْذَ بِالْأَكْثَرِ فِي هَذَا الْبَابِ أَوْلَى احْتِيَالًا لِدَرْءِ الْحَدِّ.
وَهَذَا لِأَنَّ فِي الْأَقَلِّ شُبْهَةَ عَدَمِ الْجِنَايَةِ وَهِيَ دَارِئَةٌ لِلْحَدِّ، وَقَدْ تَأَيَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا قَطْعَ إلَّا فِي دِينَارٍ، أَوْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ» وَاسْمُ الدَّرَاهِمِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْمَضْرُوبَةِ عُرْفًا فَهَذَا يُبَيِّنُ لَك اشْتِرَاطَ الْمَضْرُوبِ كَمَا قَالَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ رِعَايَةً لِكَمَالِ الْجِنَايَةِ، حَتَّى لَوْ سَرَقَ عَشَرَةً تِبْرًا قِيمَتُهَا أَنْقَصُ مِنْ عَشَرَةٍ مَضْرُوبَةٍ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ، وَالْمُعْتَبَرُ وَزْنُ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي عَامَّةِ الْبِلَادِ.
وَقَوْلُهُ (أَوْ مَا يَبْلُغُ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ) إشَارَةٌ إلَى أَنَّ غَيْرَ الدَّرَاهِمِ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ بِهَا وَإِنْ كَانَ ذَهَبًا، وَلَا بُدَّ مِنْ حِرْزٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ دَارِئَةٌ، وَسَنُبَيِّنُهُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِذَا سَرَقَ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ مَا يَبْلُغُ قِيمَتُهُ ذَلِكَ مَضْرُوبَةً مِنْ حِرْزٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ) عَلَى مَا سَيَظْهَرُ لَك مَعْنَاهُ, وَجَبَ الْقَطْعُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} فَإِنَّ الْحُكْمَ إذَا تَرَتَّبَ عَلَى صِفَةٍ كَانَ مَصْدَرُهَا عِلَّةً لَهُ كَمَا عُرِفَ، وَالْآيَةُ كَمَا تَرَى عَامٌّ، لَكِنَّهُ لَمْ يَتَنَاوَلْ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ لِأَنَّهُ خِطَابُ الشَّرْعِ فَهُوَ تَكْلِيفٌ، وَلَا تَكْلِيفَ إلَّا مَعَ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِهِمَا لِتَحَقُّقِ الْجِنَايَةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِلْجَزَاءِ.
وَأَمَّا تَقْدِيرُ الْمَالِ فَلِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ.
وَأَمَّا أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ فَلَا يَعْتَبِرُونَ النِّصَابَ وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُسْتَدِلًّا بِظَاهِرِ الْآيَةِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى النِّصَابِ أَصْلًا، بِخِلَافِ كَوْنِهِ مَالًا مُحْرَزًا فَإِنَّ لَفْظَ السَّرِقَةِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الْمُبَاحِ يُسَمَّى اصْطِيَادًا أَوْ احْتِطَابًا لَا سَرِقَةً، وَكَذَلِكَ مَا لَيْسَ بِمُحْرَزٍ فَأَخْذُهُ لَا يُسَمَّى سَرِقَةً لِانْعِدَامِ مُسَارَقَةِ عَيْنِ الْحَافِظِ.
وَقُلْنَا: مَعْنَى اسْمِ السَّارِقِ يَدُلُّ عَلَى خَطَرِ الْمَأْخُوذِ لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ السَّرِقَةِ وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنْ الْحَرِيرِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّقْدِيرِ بِالْمَالِ الْخَطِيرِ مُحَافَظَةً عَلَى الْمَفْهُومِ اللُّغَوِيِّ، وَالتَّقْدِيرُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا قَطْعَ إلَّا فِي دِينَارٍ أَوْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ.
وَقَوْلُهُ (وَاسْمُ الدَّرَاهِمِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْمَضْرُوبَةِ عُرْفًا) بَيَانٌ لِقَوْلِهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةٌ.
وَاسْتِدْلَالٌ عَلَيْهِ بِلَفْظِ الدَّرَاهِمِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ، وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْقُدُورِيُّ.
وَقَوْلُهُ (وَهُوَ الْأَصَحُّ) احْتِرَازٌ عَمَّا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَضْرُوبَةَ وَغَيْرَهَا سَوَاءٌ، وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ.
فَإِنْ قُلْت: رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا «أَنَّ يَدَ السَّارِقِ لَمْ تُقْطَعْ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا فِي ثَمَنِ مِجَنِّ حَجَفَةٍ أَوْ تُرْسٍ»، وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «قَطَعَ سَارِقًا فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ».
وَقَدْ أَخَذَ بِهِ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَرَوَتْ عَمْرَةُ عَنْ عَائِشَةَ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْطَعُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا»، وَبِهِ أَخَذَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَمَا وَجْهُ دَفْعِ ذَلِكَ؟ قُلْت: مَدْلُولُ الْحَدِيثَيْنِ وَاحِدٌ لِأَنَّ قِيمَةَ الدِّينَارِ كَانَتْ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا وَثَلَاثُ دَرَاهِمَ كَانَتْ رُبُعَ دِينَارٍ، وَيُعَارِضُهُمَا مَا رُوِيَ فِي السُّنَنِ وَشَرْحِ الْآثَارِ مُسْنَدًا إلَى عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ رَجُلًا فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ دِينَارٌ أَوْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ»، وَلَمَّا تَعَارَضَا وَلَا مُرَجِّحَ صِرْنَا إلَى إطْلَاقِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا قَطَعَ إلَّا فِي دِينَارٍ» الْحَدِيثَ، وَإِلَى الْمَعْقُولِ وَهُوَ أَنَّ الْعَمَلَ بِمَذْهَبِنَا يَسْتَلْزِمُ الْعَمَلَ بِمَذْهَبِهِمَا مَعَ اشْتِمَالِهِ عَلَى الِاحْتِيَالِ لِلدَّرْءِ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ. قَالَ (وَالْعَبْدُ وَالْحُرُّ فِي الْقَطْعِ سَوَاءٌ) لِأَنَّ النَّصَّ لَمْ يُفَصِّلْ، وَلِأَنَّ التَّنْصِيفَ مُتَعَذِّرٌ فَيَتَكَامَلُ صِيَانَةً لِأَمْوَالِ النَّاسِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَالْعَبْدُ وَالْحُرُّ فِي الْقَطْعِ سَوَاءٌ) قَدَّمَ ذِكْرَ الْعَبْدِ عَلَى الْحُرِّ لِكَوْنِهِ أَهَمَّ لِأَنَّ عَدَمَ التَّسَاوِي إنَّمَا يُتَوَهَّمُ مِنْ جِهَتِهِ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ وَبَيَانٌ. (وَيَجِبُ الْقَطْعُ بِإِقْرَارِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يُقْطَعُ إلَّا بِالْإِقْرَارِ مَرَّتَيْنِ) وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُمَا فِي مَجْلِسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لِأَنَّهُ إحْدَى الْحُجَّتَيْنِ فَيُعْتَبَرُ بِالْأُخْرَى وَهِيَ الْبَيِّنَةُ كَذَلِكَ اعْتَبَرْنَا فِي الزِّنَا.
وَلَهُمَا أَنَّ السَّرِقَةَ قَدْ ظَهَرَتْ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً فَيُكْتَفَى بِهِ كَمَا فِي الْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ وَلَا اعْتِبَارَ بِالشَّهَادَةِ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تُفِيدُ فِيهَا تَقْلِيلَ تُهْمَةِ الْكَذِبِ وَلَا تُفِيدُ فِي الْإِقْرَارِ شَيْئًا لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ.
وَبَابُ الرُّجُوعِ فِي حَقِّ الْحَدِّ لَا يَنْسَدُّ بِالتَّكْرَارِ وَالرُّجُوعُ فِي حَقِّ الْمَالِ لَا يَصِحُّ أَصْلًا لِأَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ يُكَذِّبُهُ، وَاشْتِرَاطُ الزِّيَادَةِ فِي الزِّنَا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَوْرِدِ الشَّرْعِ.
قَالَ (وَيَجِبُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ) لِتَحَقُّقِ الظُّهُورِ كَمَا فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْأَلَهُمَا الْإِمَامُ عَنْ كَيْفِيَّةِ السَّرِقَةِ وَمَاهِيَّتِهَا وَزَمَانِهَا وَمَكَانِهَا لِزِيَادَةِ الِاحْتِيَاطِ كَمَا مَرَّ فِي الْحُدُودِ، وَيَحْبِسُهُ إلَى أَنْ يَسْأَلَ عَنْ الشُّهُودِ لِلتُّهْمَةِ.
الشَّرْحُ:
قَوْلُهُ (أَنَّ السَّرِقَةَ، قَدْ ظَهَرَتْ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً) السَّرِقَةُ ظَهَرَتْ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً لِأَنَّهَا تَظْهَرُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ، وَكُلُّ مَا يَظْهَرُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ يَظْهَرُ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ وَغَيْرِهِمَا، وَكُلُّ مَا يَظْهَرُ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً يُكْتَفَى بِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الزِّيَادَةِ، وَإِذَا تَلَمَّحْتَ هَذَا الْبَيَانَ وَجَدْت الِاعْتِرَاضَ بِأَنَّ الزِّنَا أَيْضًا يَظْهَرُ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً سَاقِطًا قَوْلُهُ وَلَا اعْتِبَارَ بِالشَّهَادَةِ جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ إحْدَى الْحُجَّتَيْنِ بِالْأُخْرَى بِبَيَانِ الْفَارِقِ، وَهُوَ مَا ذُكِرَ أَنَّ الزِّيَادَةَ تُفِيدُ فِيهَا تَقْلِيلُ تُهْمَةِ الْكَذِبِ وَلَا تُفِيدُ فِي الْإِقْرَارِ شَيْئًا لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِيهِ.
وَقَوْلُهُ (وَبَابُ الرُّجُوعِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إنَّمَا يُشْتَرَطُ التَّكْرَارُ لِقَطْعِ احْتِمَالِ الرُّجُوعِ كَمَا فِي الزِّنَا.
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ مِرَارًا كَثِيرَةً ثُمَّ رَجَعَ صَحَّ رُجُوعُهُ فِي حَقِّ الْحَدِّ لِأَنَّهُ لَا مُكَذِّبَ لَهُ فِيهِ، بِخِلَافِ الرُّجُوعِ عَنْ الْمَالِ فَإِنَّ لَهُ فِيهِ مُكَذِّبًا وَهُوَ صَاحِبُ الْمَالِ فَلَا يَصِحُّ، فَظَهَرَ بِهَذَا أَنْ لَا فَائِدَةَ فِي تَكْرَارِ الْإِقْرَارِ لَا فِي حَقِّ الْقَطْعِ وَلَا فِي حَقِّ إسْقَاطِ ضَمَانِ الْمَالِ بِالْإِقْرَارِ.
وَقَوْلُهُ (وَاشْتِرَاطُ الزِّيَادَةِ فِي الزِّنَا) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَكَذَلِكَ اعْتَبَرْنَا فِي الزِّنَا، (وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْأَلَهُمَا الْإِمَامُ عَنْ كَيْفِيَّةِ السَّرِقَةِ) فَيَقُولَ لَهُ كَيْفَ سَرَقْت لِجَوَازِ أَنَّهُ نَقَبَ الْبَيْتَ وَأَدْخَلَ يَدَهُ وَأَخْرَجَ الْمَتَاعَ فَإِنَّهُ لَا يُقْطَعُ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ (وَعَنْ مَاهِيَّتِهَا) لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ شَيْئًا تَافِهًا وَلَا قَطْعَ فِيهِ، وَهَذَا مُشْكِلٌ لِأَنَّ مَاهِيَّةَ السَّرِقَةِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا لَا يَذْكُرُهَا إلَّا آحَادُ الْفُقَهَاءِ فَيَحْتَاجُ إلَى حُضُورِ الْفُقَهَاءِ شَرْطًا لِظُهُورِهِ، وَفِي ذَلِكَ سَدُّ بَابِ الْقَطْعِ (وَعَنْ زَمَانِهَا) فِيمَا يَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ لِجَوَازِ تَقَادُمِ الْعَهْدِ الْمَانِعِ عَنْ الْقَطْعِ لِوُجُودِ التُّهْمَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ، فَإِنَّ التَّقَادُمَ فِيهِ لَيْسَ بِمَانِعٍ لِعَدَمِهَا فَلَا يَسْأَلُ عَنْ الزَّمَانِ.
فَإِنْ قِيلَ: الشَّاهِدُ فِي تَأْخِيرِ الشَّهَادَةِ هُنَا غَيْرُ مُتَّهَمٍ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ شَهَادَتَهُ بِدُونِ الدَّعْوَى فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْأَلَ فِيمَا إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ كَمَا لَا يَسْأَلُ فِيمَا إذَا ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ.
قُلْنَا: إنَّ الْجَوَابَ قَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا (وَعَنْ مَكَانِهَا) لِجَوَازِ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ الْحِرْزِ أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ.
وَقَالَ فِي الْمُحِيطِ: وَيَسْأَلُهُمَا عَنْ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ أَيْضًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ أَوْ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ، وَلَعَلَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنْهُ لِأَنَّ الْمَسْرُوقَ مِنْهُ حَاضِرٌ يُخَاصِمُ وَالشُّهُودُ تَشْهَدُ بِالسَّرِقَةِ مِنْهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى السُّؤَالِ عَنْ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ (وَيَحْبِسُهُ) أَيْ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ صَارَ مُتَّهَمًا بِالسَّرِقَةِ فَيُحْبَسُ لِمَا رَوَيْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «حَبَسَ رَجُلًا بِالتُّهْمَةِ». (قَالَ وَإِذَا اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي سَرِقَةٍ فَأَصَابَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ قُطِعَ، وَإِنْ أَصَابَهُ أَقَلُّ لَا يُقْطَعُ) لِأَنَّ الْمُوجِبَ سَرِقَةُ النِّصَابِ وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِجِنَايَتِهِ فَيُعْتَبَرُ كَمَالُ النِّصَابِ فِي حَقِّهِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ) ظَاهِرٌ.
وَاسْتُشْكِلَ بِمَا إذَا قَتَلَ جَمَاعَةٌ وَاحِدًا فَإِنَّهُمْ يُقْتَلُونَ كُلُّهُمْ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْقَتْلُ عَلَى الْكَمَالِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْقِصَاصَ يَتَعَلَّقُ بِإِخْرَاجِ الرُّوحِ وَهُوَ لَا يَتَجَزَّأُ فَيُضَافُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَمَلًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.بَابُ مَا يُقْطَعُ فِيهِ وَمَا لَا يُقْطَعُ:

(وَلَا قَطْعَ فِيمَا يُوجَدُ تَافِهًا مُبَاحًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَالْخَشَبِ وَالْحَشِيشِ وَالْقَصَبِ وَالسَّمَكِ وَالطَّيْرِ وَالصَّيْدِ وَالزِّرْنِيخِ وَالْمَغَرَةِ وَالنُّورَةِ) وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ «عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَتْ الْيَدُ لَا تُقْطَعُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ»، أَيْ الْحَقِيرِ، وَمَا يُوجَدُ جِنْسُهُ مُبَاحًا، فِي الْأَصْلِ بِصُورَتِهِ غَيْرُ مَرْغُوبٍ فِيهِ حَقِيرٌ تَقِلُّ الرَّغَبَاتُ فِيهِ وَالطِّبَاعُ لَا تَضَنُّ بِهِ، فَقَلَّمَا يُوجَدُ أَخْذُهُ عَلَى كُرْهٍ مِنْ الْمَالِكِ فَلَا حَاجَةَ إلَى شَرْعِ الزَّاجِرِ، وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ الْقَطْعُ فِي سَرِقَةِ مَا دُونَ النِّصَابِ وَلِأَنَّ الْحِرْزَ فِيهَا نَاقِصٌ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ الْخَشَبَ يُلْقَى عَلَى الْأَبْوَابِ وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِي الدَّارِ لِلْعِمَارَةِ لَا لِلْإِحْرَازِ وَالطَّيْرُ يَطِيرُ وَالصَّيْدُ يَفِرُّ وَكَذَا الشَّرِكَةُ الْعَامَّةُ الَّتِي كَانَتْ فِيهِ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ تُورِثُ الشُّبْهَةَ، وَالْحَدُّ يَنْدَرِئُ بِهَا.
وَيَدْخُلُ فِي السَّمَكِ الْمَالِحُ وَالطَّرِيُّ، وَفِي الطَّيْرِ الدَّجَاجُ وَالْبَطُّ وَالْحَمَامُ لِمَا ذَكَرْنَا وَلِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا قَطْعَ فِي الطَّيْرِ» وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجِبُ الْقَطْعُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا الطِّينَ وَالتُّرَابَ وَالسِّرْقِينَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِمَا مَا ذَكَرْنَا.
الشَّرْحُ:
بَابُ مَا يُقْطَعُ فِيهِ وَمَا لَا يُقْطَعُ: لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ تَفْسِيرِ السَّرِقَةِ وَشُرُوطِهَا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ مَسْرُوقًا يُوجِبُ الْقَطْعَ وَمَسْرُوقًا لَا يُوجِبُهُ وَإِنْ وُجِدَ فِيهِ النِّصَابُ، وَلَا يَرِدُ مَا قِيلَ كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَذْكُرَ قَوْلَهُ وَإِذَا اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي سَرِقَةٍ فِي هَذَا الْبَابِ، لِأَنَّهُ.
إنْ أَصَابَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابٌ كَانَ مِمَّا يُقْطَعُ فِيهِ، وَإِنْ أَصَابَهُ أَقَلُّ كَانَ مِمَّا لَا يُقْطَعُ فِيهِ لِأَنَّ هَذَا الْبَابَ لِبَيَانِ مَا يُقْطَعُ فِيهِ وَمَا لَا يُقْطَعُ بَعْدَ وُجُودِ النِّصَابِ (قَوْلُهُ لَا قَطْعَ فِيمَا يُوجَدُ تَافِهًا) ظَاهِرٌ، وَالْمَغَرَةُ بِالْفَتَحَاتِ الثَّلَاثِ الطِّينُ الْأَحْمَرُ، وَتَسْكِينُ الْغَيْنِ فِيهِ لُغَةٌ.
وَقَوْلُهُ (وَمَا يُوجَدُ جِنْسُهُ) مُبْتَدَأٌ، وَقَوْلُهُ (حَقِيرٌ) خَبَرُهُ.
وَقَوْلُهُ (بِصُورَتِهِ) احْتِرَازٌ عَنْ الْأَبْوَابِ وَالْأَوَانِي الْمُتَّخَذَةِ مِنْ الْخَشَبِ وَالْحُصْرِ الْبَغْدَادِيَّةِ، فَإِنَّ فِي سَرِقَتِهَا الْقَطْعَ وَإِنْ كَانَ أَصْلُهَا مِنْ الْخَشَبِ، وَأَصْلُ الْحَصِيرِ يُوجَدُ مُبَاحًا لِتَغَيُّرِهَا عَنْ صُورَتِهَا الْأَصْلِيَّةِ بِالصَّنْعَةِ الْمُتَقَوِّمَةِ.
وَقَوْلُهُ (غَيْرَ مَرْغُوبٍ فِيهِ) نُصِبَ عَلَى الْحَالِ وَهُوَ احْتِرَازٌ عَنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَاللُّؤْلُؤِ وَالْجَوَاهِرِ فَإِنَّهَا تُوجَدُ مُبَاحًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَكِنَّهَا مَرْغُوبٌ فِيهَا وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ.
وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ: إذَا سَرَقَهَا عَلَى الصُّورَةِ الَّتِي تُوجَدُ مُبَاحَةً وَهِيَ أَنْ تَكُونَ مُخْتَلِطَةً بِالْحَجَرِ وَالتُّرَابِ لَا يُقْطَعُ.
وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِتَافِهٍ جِنْسًا، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهِ لَا يَتْرُكُهُ عَادَةً.
وَقَوْلُهُ (تَقِلُّ الرَّغَبَاتُ فِيهِ) جُمْلَةٌ اسْتِئْنَافِيَّةٌ.
وَقَوْلُهُ (وَالطِّبَاعُ لَا تَضَنُّ بِهِ) أَيْ لَا تَبْخَلُ بِفَتْحِ الضَّادِ وَهُوَ الْأَصْلُ وَجَاءَ بِالْكَسْرِ أَيْضًا.
وَقَوْلُهُ (فَقَلَّمَا يُوجَدُ أَخْذُهُ عَلَى كُرْهٍ مِنْ الْمَالِكِ) أَيْ قَلِيلٌ وُجُودُ لُحُوقِ الْمَلَالَةِ بِالْمَالِكِ عِنْدَ أَخْذِ الْأَشْيَاءِ مِنْهُ، بَلْ يَرْضَى بِالْأَخْذِ تَوَقِّيًا عَنْ لُحُوقِ سِمَةِ خَسَاسَةِ الْهِمَّةِ وَتَفَادِيًا عَنْ نِسْبَتِهِ إلَى دَنَاءَةِ الطَّبِيعَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى شَرْعِ الزَّوَاجِرِ.
وَقَوْلُهُ (وَالطَّيْرُ يَطِيرُ وَالصَّيْدُ يَفِرُّ) يَعْنِي لَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ قَلَّتْ الرَّغْبَةُ فَلَا تُشْرَعُ الزَّوَاجِرُ فِي مِثْلِهِ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ الْخَشَبُ يُلْقَى عَلَى الْأَبْوَابِ.
وَقَوْلُهُ (وَكَذَا الشَّرِكَةُ الْعَامَّةُ الَّتِي كَانَتْ فِيهِ) أَيْ فِيمَا يُوجَدُ جِنْسُهُ مُبَاحًا (وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ) أَيْ الصِّفَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا وَهِيَ مُشْتَرَكَةٌ يُحْتَرَزُ بِهِ عَنْ الْأَبْوَابِ وَالْأَوَانِي الْمُتَّخَذَةِ مِنْ الْخَشَبِ كَمَا ذَكَرْنَا (تُورِثُ الشُّبْهَةَ) أَيْ شُبْهَةَ الْإِبَاحَةِ بَعْدَ إحْرَازِهِ (وَالْحَدُّ يَنْدَرِئُ بِهَا) وَفِي التَّعْبِيرِ بِالشَّرِكَةِ الْعَامَّةِ إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثَةٍ: فِي الْكَلَأِ، وَالْمَاءِ، وَالنَّارِ» وَقَوْلُهُ (لِمَا ذَكَرْنَا) يَعْنِي قَوْلَهُ وَالطَّيْرُ يَطِيرُ وَالصَّيْدُ يَفِرُّ وَالسَّمَكُ الْمَالِحُ هُوَ الْمُقَدَّدُ الَّذِي فِيهِ الْمِلْحُ.
وَقَوْلُهُ (وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِمَا مَا ذَكَرْنَا) يَعْنِي حَدِيثَ عَائِشَةَ وَمَا ذُكِرَ بَعْدَهُ وَالْجِمَارُ شَحْمُ النَّخْلِ وَهُوَ شَيْءٌ أَبْيَضُ يُقْطَعُ مِنْ رُءُوسِ النَّخْلِ وَيُؤْكَلُ، وَالْوَدْيُ صِغَارُ النَّخْلِ. قَالَ: (وَلَا قَطْعَ فِيمَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ كَاللَّبَنِ وَاللَّحْمِ وَالْفَوَاكِهِ الرَّطْبَةِ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا فِي كَثَرٍ» وَالْكَثَرُ الْجُمَّارُ، وَقِيلَ الْوَدِيُّ.
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا قَطْعَ فِي الطَّعَامِ» وَالْمُرَادُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ كَالْمُهَيَّإِ لِلْأَكْلِ مِنْهُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ كَاللَّحْمِ وَالثَّمَرِ لِأَنَّهُ يُقْطَعُ فِي الْحِنْطَةِ وَالسُّكَّرِ إجْمَاعًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُقْطَعُ فِيهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ فَإِذَا آوَاهُ الْجَرِينُ أَوْ الْجِرَانُ قُطِعَ» قُلْنَا: أَخْرَجَهُ عَنْ وِفَاقِ الْعَادَةِ، وَاَلَّذِي يُؤْوِيهِ الْجَرِينُ فِي عَادَتِهِمْ هُوَ الْيَابِسُ مِنْ الثَّمَرِ وَفِيهِ الْقَطْعُ.
قَالَ (وَلَا قَطْعَ فِي الْفَاكِهَةِ عَلَى الشَّجَرِ وَالزَّرْعِ الَّذِي لَمْ يُحْصَدْ) لِعَدَمِ الْإِحْرَازِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (كَالْمُهَيَّإِ لِلْأَكْلِ) يَعْنِي مِثْلَ الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ وَأَمْثَالَهُمَا لِأَنَّهُ يُقْطَعُ فِي الْحِنْطَةِ وَالسُّكَّرِ بِالْإِجْمَاعِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْعَامُ عَامَ مَجَاعَةٍ وَقَحْطٍ، أَمَّا إذَا كَانَ فَلَا قَطْعَ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ أَوْ لَا.
وَقَوْلُهُ (كَاللَّحْمِ وَالثَّمَرِ) اللَّحْمُ رَاجِعٌ إلَى قَوْلِهِ كَالْمُهَيَّإِ لِلْأَكْلِ مِنْهُ، وَالثَّمَرُ رَاجِعٌ إلَى قَوْلِهِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ فَكَانَ كَلَامُهُ لَفًّا وَنَشْرًا (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يُقْطَعُ فِيهَا) أَيْ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ اللَّبَنِ وَاللَّحْمِ وَالْفَوَاكِهِ الرَّطْبَةِ وَالطَّعَامِ (وَالْجَرِينُ) الْمِرْبَدُ: وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُلْقَى فِيهِ الرُّطَبُ لِيَجِفَّ، وَقِيلَ هُوَ مَوْضِعٌ يُدَّخَرُ فِيهِ التَّمْرُ (وَالْجِرَانُ) مُقَدَّمُ عُنُقِ الْبَعِيرِ مِنْ مَذْبَحِهِ إلَى مَنْخَرِهِ، وَالْجَمْعُ جُرُنٌ فَجَازَ أَنْ يُسَمَّى الْجِرَابُ الْمُتَّخَذُ مِنْهُ فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَحَدَ الظَّرْفَيْنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ مِنْ الرَّاوِي قُلْنَا: أَخْرَجَهُ عَلَى وِفَاقِ الْعَادَةِ فَإِنَّ فِي عَادَتِهِمْ أَنَّ الْجَرِينَ لَا يُؤْوِي إلَّا الْيَابِسَ مِنْ الثَّمَرِ وَفِيهِ الْقَطْعُ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ.
قَالَ (وَلَا قَطْعَ فِي الْفَاكِهَةِ عَلَى الشَّجَرِ وَالزَّرْعِ) وَكَانَ هَذَا مَعْلُومًا مِنْ قَوْلِهِ وَالْفَاكِهَةُ الرَّطْبَةُ، لَكِنْ أَعَادَهُ تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ وَالزَّرْعُ الَّذِي لَمْ يُحْصَدْ لِعَدَمِ الْإِحْرَازِ فِيهَا. (وَلَا قَطْعَ فِي الْأَشْرِبَةِ الْمُطْرِبَةِ) لِأَنَّ السَّارِقَ يَتَأَوَّلُ فِي تَنَاوُلِهَا الْإِرَاقَةَ، وَلِأَنَّ بَعْضَهَا لَيْسَ بِمَالٍ، وَفِي مَالِيَّةِ بَعْضِهَا اخْتِلَافٌ فَتَتَحَقَّقُ شُبْهَةُ عَدَمِ الْمَالِيَّةِ.
قَالَ (وَلَا فِي الطُّنْبُورِ) لِأَنَّهُ مِنْ الْمَعَازِفِ (وَلَا فِي سَرِقَةِ الْمُصْحَفِ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ حِلْيَةٌ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُقْطَعُ لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ حَتَّى يَجُوزُ بَيْعُهُ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ مِثْلُهُ.
وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ يُقْطَعُ إذَا بَلَغَتْ الْحِلْيَةُ نِصَابًا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْمُصْحَفِ فَتُعْتَبَرُ بِانْفِرَادِهَا.
وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْآخِذَ يَتَأَوَّلُ فِي أَخْذِهِ الْقِرَاءَةَ وَالنَّظَرَ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ لَا مَالِيَّةَ لَهُ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَكْتُوبِ وَإِحْرَازُهُ لِأَجْلِهِ لَا لِلْجِلْدِ وَالْأَوْرَاقِ وَالْحِلْيَةِ وَإِنَّمَا هِيَ تَوَابِعُ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالتَّبَعِ، كَمَنْ سَرَقَ آنِيَةً فِيهَا خَمْرٌ وَقِيمَةُ الْآنِيَةِ تَرْبُو عَلَى النِّصَابِ.
الشَّرْحُ:
وَلَا قَطْعَ فِي الْأَشْرِبَةِ الْمُطْرِبَةِ أَيْ الْمُسْكِرَةِ: قَالَ فِي الصِّحَاحِ: الطَّرَبُ خِفَّةٌ تُصِيبُ الْإِنْسَانَ لِشِدَّةِ حُزْنٍ أَوْ سُرُورٍ، وَفَسَّرَ السُّكْرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ بِأَنَّهُ غَلَبَةُ سُرُورٍ فِي الْعَقْلِ فَالْتَقَيَا فِي مَعْنَى السُّرُورِ فَلِذَلِكَ اُسْتُعِيرَ الْإِطْرَابُ لِلْإِسْكَارِ.
قَالَ الْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ: لَا قَطْعَ فِي الْأَشْرِبَةِ الْمُطْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ وَهُوَ يُؤْذِنُ بِصِحَّةِ تَفْسِيرِ الْمُطْرِبَةِ بِالْمُسْكِرَةِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ بَعْضَهَا لَيْسَ بِمَالٍ) أَيْ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ كَالْخَمْرِ (وَفِي مَالِيَّةِ بَعْضِهَا اخْتِلَافٌ) يَعْنِي كَالْمُنَصَّفِ وَالْبَاذِقِ وَمَاءِ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ لِأَنَّهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُتَقَوِّمَةٌ خِلَافًا لَهُمَا، وَإِنَّمَا قَيَّدَ الْأَشْرِبَةَ بِكَوْنِهَا مُطْرِبَةً لِمَا أَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْإِيضَاحِ، وَيُقْطَعُ فِي الْخَلِّ لِأَنَّهُ لَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ.
وَنَقَلَ النَّاطِفِيُّ عَنْ كِتَابِ الْمُجَرَّدِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا قَطْعَ فِي الْخَلِّ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ خَمْرًا مَرَّةً (وَلَا فِي الطُّنْبُورِ لِأَنَّهُ مِنْ الْمَعَازِفِ) وَالْمَعَازِفُ آلَاتُ اللَّهْوِ الَّتِي يُضْرَبُ بِهَا الْوَاحِدُ عَزْفٌ رِوَايَةٌ عَنْ الْعَرَبِ.
قَوْلُهُ (وَلَا فِي سَرِقَةِ الْمُصْحَفِ) ظَاهِرٌ. (وَلَا قَطْعَ فِي أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ) لِعَدَمِ الْإِحْرَازِ فَصَارَ كَبَابِ الدَّارِ بَلْ أَوْلَى، لِأَنَّهُ يُحَرَّزُ بِبَابِ الدَّارِ مَا فِيهَا وَلَا يُحَرَّزُ بِبَابِ الْمَسْجِدِ مَا فِيهِ حَتَّى لَا يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَةِ مَتَاعِهِ.
قَالَ (وَلَا الصَّلِيبِ مِنْ الذَّهَبِ وَلَا الشِّطْرَنْجِ وَلَا النَّرْدِ) لِأَنَّهُ يَتَأَوَّلُ مَنْ أَخَذَهَا الْكَسْرَ نَهْيًا عَنْ الْمُنْكَرِ، بِخِلَافِ الدِّرْهَمِ الَّذِي عَلَيْهِ التِّمْثَالُ لِأَنَّهُ مَا أُعِدَّ لِلْعِبَادَةِ فَلَا تَثْبُتُ شُبْهَةُ إبَاحَةِ الْكَسْرِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ كَانَ الصَّلِيبُ فِي الْمُصَلَّى لَا يُقْطَعُ لِعَدَمِ الْحِرْزِ، وَإِنْ كَانَ فِي بَيْتٍ آخَرَ يُقْطَعُ لِكَمَالِ الْمَالِيَّةِ وَالْحِرْزِ.
الشَّرْحُ:
وَالصَّلِيبُ شَيْءٌ مُثَلَّثٌ كَالتِّمْثَالِ يَعْبُدُهُ النَّصَارَى (وَالشِّطْرَنْجُ) بِكَسْرِ الشِّينِ (وَالنَّرْدُ) مَعْرُوفَانِ، وَلَا قَطْعَ فِيهَا وَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ.
وَقَوْلُهُ (إنْ كَانَ الصَّلِيبُ فِي الْمُصَلَّى) أَيْ فِي مَوْضِعِ صَلَاةِ النَّصَارَى وَهُوَ مَعْبَدُهُمْ. (وَلَا قَطْعَ عَلَى سَارِقِ الصَّبِيِّ الْحُرِّ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ حُلِيٌّ) لِأَنَّ الْحُرَّ لَيْسَ بِمَالٍ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ الْحُلِيِّ تَبَعٌ لَهُ، وَلِأَنَّهُ يَتَأَوَّلُ فِي أَخْذِهِ الصَّبِيَّ إسْكَاتَهُ أَوْ حَمْلَهُ إلَى مُرْضِعَتِهِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُقْطَعُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ حُلِيٌّ هُوَ نِصَابٌ لِأَنَّهُ يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ وَحْدَهُ فَكَذَا مَعَ غَيْرِهِ، وَعَلَى هَذَا إذَا سَرَقَ إنَاءَ فِضَّةٍ فِيهِ نَبِيذٌ أَوْ ثَرِيدٌ.
وَالْخِلَافُ فِي الصَّبِيِّ لَا يَمْشِي وَلَا يَتَكَلَّمُ كَيْ لَا يَكُونَ فِي يَدِ نَفْسِهِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَا عَلَيْهِ مِنْ الْحُلِيِّ تَابِعٌ) لَا يُقَالُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ مِنْ الْأَخْذِ هُوَ الْحُلِيُّ فَلَا يَكُونُ تَابِعًا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مَقْصُودَهُ لَأَخَذَ الْحُلِيَّ وَتَرَكَ الصَّبِيَّ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ وَحْدَهُ فَكَذَا مَعَ غَيْرِهِ) مَعْنَاهُ سَرَقَ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ وَمَا لَا يَجِبُ، وَضَمُّ مَا لَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ إلَى مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ لَا يُسْقِطُهُ، كَمَا لَوْ سَرَقَ ثَوْبًا خَلَقًا لَا يُسَاوِي نِصَابًا وَفِيهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةٌ.
وَقَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا إذَا سَرَقَ إنَاءَ فِضَّةٍ) ظَاهِرٌ. (وَلَا قَطْعَ فِي سَرِقَةِ الْعَبْدِ الْكَبِيرِ) لِأَنَّهُ غَصْبٌ أَوْ خِدَاعٌ (وَيُقْطَعُ فِي سَرِقَةِ الْعَبْدِ الصَّغِيرِ) لِتَحَقُّقِهَا بِحَدِّهَا إلَّا إذَا كَانَ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ هُوَ وَالْبَالِغُ سَوَاءٌ فِي اعْتِبَارِ يَدِهِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يُقْطَعُ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا لَا يَعْقِلُ وَلَا يَتَكَلَّمُ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّهُ آدَمِيٌّ مِنْ وَجْهٍ مَالٌ مِنْ وَجْهٍ، وَلَهُمَا أَنَّهُ مَالٌ مُطْلَقٌ لِكَوْنِهِ مُنْتَفَعًا بِهِ أَوْ بِعَرْضِ أَنْ يَصِيرَ مُنْتَفَعًا بِهِ إلَّا أَنَّهُ انْضَمَّ إلَيْهِ مَعْنَى الْآدَمِيَّةِ. (وَلَا قَطْعَ فِي الدَّفَاتِرِ كُلِّهَا) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَا فِيهَا وَذَلِكَ لَيْسَ بِمَالٍ (إلَّا فِي دَفَاتِرِ الْحِسَابِ) لِأَنَّ مَا فِيهَا لَا يُقْصَدُ بِالْأَخْذِ فَكَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْكَوَاغِدَ.
قَالَ (وَلَا فِي سَرِقَةِ كَلْبٍ وَلَا فَهْدٍ) لِأَنَّ مِنْ جِنْسِهَا يُوجَدُ مُبَاحُ الْأَصْلِ غَيْرُ مَرْغُوبٍ فِيهِ وَلِأَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ظَاهِرٌ فِي مَالِيَّةِ الْكَلْبِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً.
الشَّرْحُ:
(وَالدَّفَاتِرُ) جَمْعُ دَفْتَرٍ وَهِيَ الْكَرَارِيسُ، وَلَا قَطْعَ فِيهَا كُلِّهَا سَوَاءٌ كَانَتْ لِلتَّفْسِيرِ أَوْ لِلْحَدِيثِ أَوْ لِلْفِقْهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا مَا فِيهَا وَذَلِكَ لَيْسَ بِمَالٍ إلَّا فِي دَفَاتِرِ الْحِسَابِ؛ لِأَنَّ مَا فِيهَا لَا يُقْصَدُ بِالْأَخْذِ فَكَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْأَوْرَاقُ وَهُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ، فَإِذَا بَلَغَ قِيمَتُهُ نِصَابًا يُقْطَعُ.
وَعُمُومُ كَلَامِهِ يُشْعِرُ بِأَنَّ دَفَاتِرَ الْأَشْعَارِ كَدَفَاتِرِ الْفِقْهِ فِي عَدَمِ وُجُوبِ الْقَطْعِ لِكَوْنِهَا مُحْتَاجًا إلَيْهَا لِمَعْرِفَةِ اللُّغَةِ وَمَعَانِي الْقُرْآنِ، وَالْحَاجَةُ وَإِنْ قَلَّتْ كَفَتْ لِإِيرَاثِ الشُّبْهَةِ.
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ أَلْحَقَهَا بِدَفَاتِرِ الْحِسَابِ لِكَوْنِهَا غَيْرَ مُحْتَاجٍ إلَيْهَا فِي مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ (وَلَا قَطْعَ فِي سَرِقَةِ كَلْبٍ وَلَا فَهْدٍ) وَهُوَ ظَاهِرٌ. (وَلَا قَطْعَ فِي دُفٍّ وَلَا طَبْلٍ وَلَا بِرَبْطٍ وَلَا مِزْمَارٍ) لِأَنَّ عِنْدَهُمَا لَا قِيمَةَ لَهَا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ آخِذُهَا يَتَأَوَّلُ الْكَسْرَ فِيهَا.
الشَّرْحُ:
(وَلَا فِي دُفٍّ وَلَا طَبْلٍ) وَالدُّفُّ بِضَمِّ الدَّالِ وَفَتْحِهَا الَّذِي يُلْعَبُ بِهِ، وَهُوَ نَوْعَانِ مُدَوَّرٌ وَمُرَبَّعٌ، وَالْمُرَادُ بِالطَّبْلِ طَبْلُ اللَّهْوِ، وَأَمَّا طَبْلُ الْغُزَاةِ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ الْمَشَايِخُ.
وَاخْتَارَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ عَدَمَ وُجُوبِ الْقَطْعِ لِأَنَّهُ كَمَا يَصْلُحُ لِلْغَزْوِ يَصْلُحُ لِغَيْرِهِ فَتَتَمَكَّنُ فِيهِ الشُّبْهَةُ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ عِنْدَهُمَا لَا قِيمَةَ لَهَا) بِدَلِيلِ أَنَّ مُتْلِفَهُ لَا يَضْمَنُهُ (وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَإِنْ كَانَ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُتْلِفِ فَهِيَ مُتَقَوِّمَةٌ، لَكِنْ (آخِذُهَا يَتَأَوَّلُ الْكَسْرَ فِيهَا) فَكَانَ ذَلِكَ شُبْهَةً. (وَيُقْطَعُ فِي السَّاجِ وَالْقَنَا وَالْآبَنُوسِ وَالصَّنْدَلِ) لِأَنَّهَا أَمْوَالٌ مُحَرَّزَةٌ لِكَوْنِهَا عَزِيزَةً عِنْدَ النَّاسِ وَلَا تُوجَدُ بِصُورَتِهَا مُبَاحَةً فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.
قَالَ (وَيُقْطَعُ فِي الْفُصُوصِ الْخُضْرِ وَالْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ) لِأَنَّهَا مِنْ أَعَزِّ الْأَمْوَالِ وَأَنْفَسِهَا وَلَا تُوجَدُ مُبَاحَةَ الْأَصْلِ بِصُورَتِهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ غَيْرَ مَرْغُوبٍ فِيهَا فَصَارَتْ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.
الشَّرْحُ:
(وَالسَّاجُ) خَشَبٌ يُجْلَبُ مِنْ الْهِنْدِ (وَالْقِنَاءُ) بِالْكَسْرِ جَمْعُ قَنَاةٍ وَهِيَ خَشَبَةُ الرُّمْحِ (وَالْآبَنُوسُ) بِمَدِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْبَاءِ مَعْرُوفٌ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا تُوجَدُ بِصُورَتِهَا مُبَاحَةً فِي دَارِ الْإِسْلَامِ) وَإِنَّمَا قَيَّدَهُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ كُلَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ. (وَإِذَا اتَّخَذَ مِنْ الْخَشَبِ أَوَانِيَ وَأَبْوَابًا قُطِعَ فِيهَا) لِأَنَّهُ بِالصَّنْعَةِ الْتَحَقَ بِالْأَمْوَالِ النَّفِيسَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهَا تُحَرَّزُ بِخِلَافِ الْحَصِيرِ لِأَنَّ الصَّنْعَةَ فِيهِ لَمْ تَغْلِبْ عَلَى الْجِنْسِ حَتَّى يُبْسَطُ فِي غَيْرِ الْحِرْزِ، وَفِي الْحُصْرِ الْبَغْدَادِيَّةِ قَالُوا يَجِبُ الْقَطْعُ فِي سَرِقَتِهَا لِغَلَبَةِ الصَّنْعَةِ عَلَى الْأَصْلِ وَإِنَّمَا يَجِبُ الْقَطْعُ فِي غَيْرِ الْمُرَكَّبِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ إذَا كَانَ خَفِيفًا لَا يَثْقُلُ عَلَى الْوَاحِدِ حَمْلُهُ لِأَنَّ الثَّقِيلَ مِنْهُ لَا يُرْغَبُ فِي سَرِقَتِهِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا اُتُّخِذَ مِنْ الْخَشَبِ أَوَانٌ) فَرَّقَ بَيْنَ الْعَمَلِ الْمُتَّصِلِ بِالْخَشَبِ وَالْعَمَلِ الْمُتَّصِلِ بِالْحَشِيشِ بِغَلَبَةِ الصَّنْعَةِ عَلَى الْأَصْلِ فَفِي الْخَشَبِ تَغْلِبُ الصَّنْعَةُ عَلَى الْجِنْسِ فَتُخْرِجُهُ عَنْ الْجِنْسِ الْمُبَاحِ بِازْدِيَادٍ يَحْصُلُ فِي قِيمَتِهِ وَيُعَزِّزُهُ بِحَيْثُ إنَّهُمْ يُدْخِلُونَهُ فِي الْحِرْزِ.
وَأَمَّا فِي الْحَشِيشِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ وَلِهَذَا يَفْرِشُونَهُ فِي غَيْرِ الْحِرْزِ، حَتَّى لَوْ غَلَبَ الصَّنْعَةُ عَلَى الْأَصْلِ كَالْحُصْرِ الْبَغْدَادِيَّةِ يَجِبُ الْقَطْعُ.
وَقَوْلُهُ (وَإِنَّمَا يَجِبُ الْقَطْعُ) أَيْ فِي الْأَبْوَابِ (فِي غَيْرِ الْمُرَكَّبِ) بِالْجِدَارِ، أَمَّا إذَا كَانَتْ مُرَكَّبَةً فِي الْجِدَارِ فَقَلَعَهَا فَأَخَذَهَا فَإِنَّهُ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ الْقَطْعَ إنَّمَا يَكُونُ فِي مَالٍ مُحْرَزٍ لَا فِيمَا يُحْرَزُ بِهِ، وَمَا فِي الْبَيْتِ مِنْ الْمَتَاعِ فَإِنَّمَا يُحْرَزُ بِالْأَبْوَابِ الْمُرَكَّبَةِ فَلَا تَكُونُ مُحْرَزَةً، قِيلَ هَذَا فِي الْبَابِ الْبَرَانِيِّ، وَأَمَّا فِي الْبَابِ الثَّانِي فِي الدَّاخِلِ فَفِيهِ الْقَطْعُ لِأَنَّهُ مُحْرَزٌ بِالْبَرَانِيِّ.
وَقَوْلُهُ (وَإِنَّمَا يَجِبُ إذَا كَانَ خَفِيفًا) ظَاهِرٌ. (وَلَا قَطْعَ عَلَى خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ) لِقُصُورٍ فِي الْحِرْزِ (وَلَا مُنْتَهِبٍ وَلَا مُخْتَلِسٍ) لِأَنَّهُ يُجَاهِرُ بِفِعْلِهِ، كَيْفَ وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا قَطْعَ فِي مُخْتَلِسٍ وَلَا مُنْتَهِبٍ وَلَا خَائِنٍ»
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَا قَطْعَ عَلَى خَائِنٍ) الْخِيَانَةُ هُوَ أَنْ يَخُونَ الْمُودِعُ مَا فِي يَدِهِ مِنْ الشَّيْءِ الْمَأْمُونِ.
وَالِانْتِهَابُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى وَجْهِ الْعَلَانِيَةِ قَهْرًا مِنْ ظَاهِرِ بَلْدَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ.
وَالِاخْتِلَاسُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْبَيْتِ سُرْعَةً جَهْرًا، وَالْوَجْهُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ. (وَلَا قَطْعَ عَلَى النَّبَّاشِ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ: عَلَيْهِ الْقَطْعُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ نَبَشَ قَطَعْنَاهُ» وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ مُحْرَزٌ يُحْرَزُ مِثْلُهُ فَيُقْطَعُ فِيهِ.
وَلَهُمَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا قَطْعَ عَلَى الْمُخْتَفِي» وَهُوَ النَّبَّاشُ بِلُغَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَلِأَنَّ الشُّبْهَةَ تَمَكَّنَتْ فِي الْمِلْكِ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْمَيِّتِ حَقِيقَةً وَلَا لِلْوَارِثِ لِتَقَدُّمِ حَاجَةِ الْمَيِّتِ، وَقَدْ تَمَكَّنَ الْخَلَلُ فِي الْمَقْصُودِ وَهُوَ الِانْزِجَارُ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ فِي نَفْسِهَا نَادِرَةُ الْوُجُودِ وَمَا رَوَاهُ غَيْرُ مَرْفُوعٍ أَوْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى السِّيَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ الْقَبْرُ فِي بَيْتٍ مُقْفَلٍ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ فِي الصَّحِيحِ لِمَا قُلْنَا وَكَذَا إذَا سَرَقَ مِنْ تَابُوتٍ فِي الْقَافِلَةِ وَفِيهِ الْمَيِّتُ لِمَا بَيَّنَّاهُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَا قَطْعَ عَلَى النَّبَّاشِ) اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِي مَسْأَلَةِ النَّبَّاشِ؛ فَقَالَ عُمَرُ وَعَائِشَةُ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِوُجُوبِ الْقَطْعِ عَلَى النَّبَّاشِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا قَطْعَ عَلَيْهِ، وَقَدْ اتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ مَنْ بَقِيَ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي عَهْدِ مَرْوَانَ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ نَبَّاشًا أَتَى بِهِ مَرْوَانُ.
فَسَأَلَ الصَّحَابَةَ عَنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَثْبُتُوا فِيهِ شَيْئًا، فَعَزَّرَهُ أَسْوَاطًا وَلَمْ يَقْطَعْهُ.
وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ.
وَبِالْأَوَّلِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ (لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَمَنْ نَبَشَ قَطَعْنَاهُ» وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ مُحْرَزٌ بِحِرْزٍ مِثْلِهِ فَيُقْطَعُ فِيهِ) أَمَّا أَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فَلَا شُبْهَةَ فِيهِ، فَإِنَّ إلْبَاسَ الثَّوْبِ لِلْمَيِّتِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ التَّقَوُّمِ، وَأَمَّا أَنَّهُ مُحْرَزٌ فَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُضَيِّعٍ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَبَ وَالْوَصِيَّ إذَا كَفَّنَا الصَّبِيَّ مِنْ مَالِهِ لَا يَضْمَنَانِ، وَمَا لَا يَكُونُ مُحْرَزًا يَكُونُ مُضَيَّعًا وَفِيهِ الضَّمَانُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ (بِحِرْزٍ مِثْلِهِ) بِحَرْفِ الْجَرِّ، فَلِمَا بَيَّنَهُ الطَّحَاوِيُّ: حِرْزُ كُلِّ شَيْءٍ مُعْتَبَرٌ بِحِرْزِ مِثْلِهِ، حَتَّى أَنَّهُ إذَا سَرَقَ دَابَّةً مِنْ إصْطَبْلٍ يُقْطَعُ، وَلَوْ سَرَقَ لُؤْلُؤَةً مِنْ الْإِصْطَبْلِ لَمْ يُقْطَعْ.
وَإِذَا سَرَقَ شَاةً مِنْ الْحَظِيرَةِ يُقْطَعُ، وَلَوْ كَانَ فِيهَا ثَوْبٌ فَسَرَقَهُ لَمْ يُقْطَعْ لِأَنَّ الشَّاةَ لَا تُحْرَزُ بِأَحْصَنَ مِنْهَا إذَا كَانَ بَابُهَا بِحَيْثُ يَمْنَعُ إخْرَاجَ الشَّاةِ دُونَ دُخُولِ الْآدَمِيِّ وَإِخْرَاجِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَهُمَا) أَيْ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى شَرْحٍ.
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ كَانَ الْقَبْرُ فِي بَيْتٍ مُقْفَلٍ) بِسُكُونِ الْقَافِ مِنْ أَقْفَلَ الْبَابَ.
وَقَوْلُهُ (فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ فِي الصَّحِيحِ) بَيَانُهُ مَا قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيمَا إذَا كَانَ الْقَبْرُ فِي بَيْتٍ مُقْفَلٍ ثُمَّ قَالَ: وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ سَوَاءٌ كَانَ نَبْشُ الْقَبْرِ لِلْكَفَنِ أَوْ سَرَقَ مَالًا آخَرَ مِنْ ذَلِكَ الْبَيْتِ لِأَنَّ بِوَضْعِ الْقَبْرِ فِيهِ اخْتَلَّ صِفَةُ الْحِرْزِ فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ، فَإِنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ تَأْوِيلًا بِالدُّخُولِ فِيهِ لِزِيَارَةِ الْقَبْرِ.
وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا سَرَقَ مِنْ تَابُوتٍ فِي الْقَافِلَةِ وَفِيهِ الْمَيِّتُ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يُقْطَعُ لِأَنَّهُ مُحْرَزٌ بِالْقَافِلَةِ.
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ لِاخْتِلَالِ صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْمَمْلُوكِيَّة فِي الْكَفَنِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ.
وَقَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّاهُ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا قَطْعَ عَلَى الْمُخْتَفِي» وَالْمَعْقُولُ وَهُوَ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْمَيِّتِ حَقِيقَةً. (وَلَا يُقْطَعُ السَّارِقُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ) لِأَنَّهُ مَالُ الْعَامَّةِ وَهُوَ مِنْهُمْ.
قَالَ (وَلَا مِنْ مَالٍ لِلسَّارِقِ فِيهِ شَرِكَةٌ) لِمَا قُلْنَا.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَا يُقْطَعُ السَّارِقُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (لِمَا قُلْنَا) إشَارَةٌ إلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ لِأَنَّهُ مَالُ الْعَامَّةِ وَهُوَ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ لِلسَّارِقِ فِيهِ حَقًّا وَلِمَا قُلْنَا إشَارَةٌ إلَيْهِ. (وَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ دَرَاهِمُ فَسَرَقَ مِنْهُ مِثْلَهَا لَمْ يُقْطَعْ لِأَنَّهُ اسْتِيفَاءٌ لِحَقِّهِ)، وَالْحَالُّ وَالْمُؤَجَّلُ فِيهِ سَوَاءٌ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ التَّأْجِيلَ لِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ، وَكَذَا إذَا سَرَقَ زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِ لِأَنَّهُ بِمِقْدَارِ حَقِّهِ يَصِيرُ شَرِيكًا فِيهِ (وَإِنْ سَرَقَ مِنْهُ عُرُوضًا قُطِعَ) لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الِاسْتِيفَاءِ مِنْهُ إلَّا بَيْعًا بِالتَّرَاضِي.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ قَضَاءً مِنْ حَقِّهِ أَوْ رَهْنًا بِحَقِّهِ.
قُلْنَا: هَذَا قَوْلٌ لَا يَسْتَنِدُ إلَى دَلِيلٍ ظَاهِرٍ فَلَا يُعْتَبَرُ بِدُونِ اتِّصَالِ الدَّعْوَى بِهِ، حَتَّى لَوْ ادَّعَى ذَلِكَ دُرِئَ عَنْهُ الْحَدُّ لِأَنَّهُ ظَنٌّ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ، وَلَوْ كَانَ حَقُّهُ دَرَاهِمَ فَسَرَقَ مِنْهُ دَنَانِيرَ قِيلَ يُقْطَعُ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ، وَقِيلَ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ النُّقُودَ جِنْسٌ وَاحِدٌ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَالْحَالُّ وَالْمُؤَجَّلُ فِيهِ) أَيْ فِي عَدَمِ الْقَطْعِ (سَوَاءٌ) أَمَّا إذَا كَانَ حَالًّا فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا إذَا كَانَ مُؤَجَّلًا فَلِأَنَّ التَّأْجِيلَ لَيْسَ إلَّا لِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ، وَأَمَّا نَفْسُ وُجُوبِ الدَّيْنِ فَثَابِتٌ قَبْلَ الْمُطَالَبَةِ أَيْضًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ يُقْطَعَ لِأَنَّهُ سَرَقَ مَا لَا يُبَاحُ لَهُ الْأَخْذُ كَمَا لَوْ سَرَقَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ.
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْأَخْذَ إنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا لِمَكَانِ الْأَجَلِ كَانَ لَهُ شُبْهَةُ الْأَخْذِ وَهِيَ كَافِيَةٌ لِلدَّرْءِ.
وَقَوْلُهُ (وَكَذَا إذَا سَرَقَ زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ) يُرِيدُ بِهِ ابْنَ أَبِي لَيْلَى فَإِنَّهُ يَقُولُ: وَإِنْ ظَفِرَ بِخِلَافِ جِنْسِ حَقِّهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ لِوُجُودِ الْمُجَانَسَةِ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ.
وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ: لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ رَهْنًا بِحَقِّهِ، وَاخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ يُورِثُ الشُّبْهَةَ (قُلْنَا: هَذَا الْقَوْلُ لَا يَسْتَنِدُ إلَى دَلِيلٍ ظَاهِرٍ) الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَأْخُذَ جِنْسَ حَقِّهِ فِي الدَّيْنِ الْحَالِّ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْوَصْفِ فِي الْحَقِيقَةِ.
وَهَذَا عَيْنٌ لَكِنْ تَرَكْنَاهُ فِيهِ لِقِلَّةِ التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا، وَلَا كَذَلِكَ خِلَافُ الْجِنْسِ لِفُحْشِ التَّفَاوُتِ فَلَا يُتْرَكُ الْقِيَاسُ (وَلَا يُعْتَبَرُ بِدُونِ اتِّصَالِ الدَّعْوَى بِهِ، حَتَّى لَوْ ادَّعَى ذَلِكَ) أَيْ أَنَّهُ أَخَذَهُ قَضَاءً لِحَقِّهِ أَوْ رَهْنًا بِهِ (دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُ) لِأَنَّ فِعْلَهُ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ شُبْهَةٍ وَإِنْ كَانَ هُوَ مُخْطِئًا فِي ذَلِكَ التَّأْوِيلِ عِنْدَنَا.
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ كَانَ حَقُّهُ دَرَاهِمَ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَقِيلَ لَا يُقْطَعُ) قِيلَ: هُوَ الْأَصَحُّ (لِأَنَّ النُّقُودَ جِنْسٌ وَاحِدٌ) كَمَا فِي الزَّكَاةِ وَالشُّفْعَةِ. (وَمَنْ سَرَقَ عَيْنًا فَقُطِعَ فِيهَا فَرَدَّهَا ثُمَّ عَادَ فَسَرَقَهَا وَهِيَ بِحَالِهَا لَمْ يُقْطَعْ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يُقْطَعَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوهُ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَلِأَنَّ الثَّانِيَةَ مُتَكَامِلَةٌ كَالْأُولَى بَلْ أَقْبَحُ لِتَقَدُّمِ الزَّاجِرِ، وَصَارَ كَمَا إذَا بَاعَهُ الْمَالِكُ مِنْ السَّارِقِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ مِنْهُ ثُمَّ كَانَتْ السَّرِقَةُ.
وَلَنَا أَنَّ الْقَطْعَ أَوْجَبَ سُقُوطَ عِصْمَةِ الْمَحَلِّ عَلَى مَا يُعْرَفُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبِالرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ إنْ عَادَتْ حَقِيقَةُ الْعِصْمَةِ بَقِيَتْ شُبْهَةُ السُّقُوطِ نَظَرًا إلَى اتِّحَادِ الْمِلْكِ وَالْمَحَلِّ، وَقِيَامُ الْمُوجِبِ وَهُوَ الْقَطْعُ فِيهِ، بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ لِأَنَّ الْمِلْكَ قَدْ اخْتَلَفَ بِاخْتِلَافِ سَبَبِهِ، وَلِأَنَّ تَكْرَارَ الْجِنَايَةِ مِنْهُ نَادِرٌ لِتَحَمُّلِهِ مَشَقَّةَ الزَّاجِرِ فَتُعَرَّى الْإِقَامَةُ عَنْ الْمَقْصُودِ وَهُوَ تَقْلِيلُ الْجِنَايَةِ، وَصَارَ كَمَا إذَا قَذَفَ الْمَحْدُودُ فِي قَذْفٍ الْمَقْذُوفَ الْأَوَّلَ.
قَالَ (فَإِنْ تَغَيَّرَتْ عَنْ حَالِهَا مِثْلُ أَنْ يَكُونَ غَزْلًا فَسَرَقَهُ وَقُطِعَ فَرَدَّهُ ثُمَّ نُسِجَ فَعَادَ فَسَرَقَهُ قُطِعَ) لِأَنَّ الْعَيْنَ قَدْ تَبَدَّلَتْ وَلِهَذَا يَمْلِكُهُ الْغَاصِبُ بِهِ، وَهَذَا هُوَ عَلَامَةُ التَّبَدُّلِ فِي كُلِّ مَحَلٍّ، وَإِذَا تَبَدَّلَتْ انْتَفَتْ الشُّبْهَةُ النَّاشِئَةُ مِنْ اتِّحَادِ الْمَحَلِّ، وَالْقَطْعُ فِيهِ فَوَجَبَ الْقَطْعُ ثَانِيًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ سَرَقَ عَيْنًا) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الثَّانِيَةَ مُتَكَامِلَةٌ كَالْأُولَى) وَجْهُ التَّشْبِيهِ هُوَ أَنَّ الْمَتَاعَ بَعْدَ رَدِّهِ عَلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ فِي حَقِّ السَّارِقِ كَعَيْنٍ أُخْرَى فِي حُكْمِ الضَّمَانِ، حَتَّى لَوْ غَصَبَهَا أَوْ أَتْلَفَهَا كَانَ ضَامِنًا، فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْقَطْعِ لِمَا أَنَّهُ مَالٌ مَعْصُومٌ كَامِلُ الْمِقْدَارِ أُخِذَ مِنْ حِرْزٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ.
وَبِهَذِهِ الْأَوْصَافِ لَزِمَهُ الْقَطْعُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى فَكَذَلِكَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ.
وَأَمَّا كَوْنُهُ أَقْبَحَ فَظَاهِرٌ لِتَقَدُّمِ الزَّاجِرِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَنَا أَنَّ الْقَطْعَ أَوْجَبَ سُقُوطَ عِصْمَةِ الْمَحَلِّ عَلَى مَا يُعْرَفُ مِنْ بَعْدُ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ بَعْدَ أَوْرَاقٍ.
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا غُرْمَ عَلَى السَّارِقِ بَعْدَمَا قُطِعَتْ يَمِينُهُ» إلَخْ.
وَسُقُوطُ عِصْمَةِ الْمَحَلِّ يُوجِبُ انْتِفَاءَ الْقَاطِعِ، فَإِنْ قِيلَ: الْعِصْمَةُ وَإِنْ سَقَطَتْ بِالْقَطْعِ لَكِنَّهَا عَادَتْ بِالرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ، أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَبِالرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ إنْ عَادَتْ حَقِيقَةُ الْعِصْمَةِ بَقِيَتْ شُبْهَةُ السُّقُوطِ نَظَرًا إلَى اتِّحَادِ الْمِلْكِ وَالْمَحَلِّ وَقِيَامِ الْمُوجِبِ وَهُوَ الْقَطْعُ فِيهِ) فَقَوْلُهُ نَظَرًا إلَى اتِّحَادِ الْمِلْكِ احْتِرَازٌ عَمَّا لَوْ تَبَدَّلَ الْمِلْكُ فِي ذَلِكَ وَهُوَ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ كَمَا إذَا بَاعَهُ الْمَالِكُ مِنْ السَّارِقِ إلَخْ.
وَقَوْلُهُ (وَالْمَحَلُّ) احْتِرَازٌ عَمَّا إذَا تَبَدَّلَ الْمَحَلُّ كَمَا فِي صُورَةِ الْغَزْلِ وَهُوَ قَوْلُهُ فِيمَا يَجِيءُ بِقَوْلِهِ فَإِنْ تَغَيَّرَتْ عَنْ حَالِهَا مِثْلَ أَنْ يَكُونَ غَزْلًا إلَخْ وَقَوْلُهُ (وَقِيَامُ الْمُوجِبِ) أَيْ مُوجِبُ سُقُوطِ الْعِصْمَةِ وَهُوَ احْتِرَازٌ عَمَّا كَانَ قَبْلَ الْقَطْعِ.
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ مَا ذَكَرَهُ) يَعْنِي أَبَا يُوسُفَ مِنْ صُورَةِ الْبَيْعِ (لِأَنَّ الْمِلْكَ قَدْ اخْتَلَفَ بِاخْتِلَافِ سَبَبِهِ)، وَأَصْلُهُ حَدِيثُ بَرِيرَةَ وَهُوَ مَعْرُوفٌ.
وَقَوْلُهُ (أَوْ لِأَنَّ تَكْرَارَ الْجِنَايَةِ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَلَنَا أَنَّ الْقَطْعَ فَهُوَ دَلِيلٌ آخَرُ.
وَتَقْرِيرُهُ تَكْرَارُ الْجِنَايَةِ مِنْهُ بِالْعَوْدِ إلَى سَرِقَةِ مَا قُطِعَ فِيهِ نَادِرٌ جِدًّا لِتَحَمُّلِهِ مَشَقَّةَ الزَّاجِرِ، وَالنَّادِرُ يَعْرَى عَنْ مَقْصُودِ الْإِقَامَةِ وَهُوَ تَقْلِيلُ الْجِنَايَةِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا (وَصَارَ كَمَا إذَا قَذَفَ الْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ الْمَقْذُوفَ الْأَوَّلَ) بِالزِّنَا الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ لَا يُحَدُّ نَظَرًا إلَى عَرَائِهِ عَنْ مَقْصُودِ الْإِقَامَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: نَظِيرُ مَسْأَلَتِنَا حَدُّ الزِّنَا فِي كَوْنِ الْحَدِّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ حَدُّ الزِّنَا يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْفِعْلِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، حَتَّى أَنَّ مَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ فَحُدَّ ثُمَّ زَنَى بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ مَرَّةً أُخْرَى يُحَدُّ ثَانِيًا، بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ فَإِنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ خُصُوصًا عَلَى أَصْلِ الْخَصْمِ، وَخُصُومَةُ الْمَقْذُوفِ فِي الْحَدِّ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إظْهَارُ كَذِبِ الْقَاذِفِ وَدَفْعُ الْعَارِ عَنْ نَفْسِهِ وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِالْمَرَّةِ الْأُولَى.
أُجِيبَ بِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ نَظِيرُ مَسْأَلَتِنَا مِنْ حَيْثُ إنَّ هَذَا حَدٌّ لَا يُسْتَوْفَى إلَّا بِخُصُومَةٍ فَلَا يَتَكَرَّرُ إلَّا بِتَكْرَارِ الْخُصُومَةِ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ كَحَدِّ الْقَذْفِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ وَصُورَةِ الزِّنَا أَنَّ الْحَدَّ فِي الزِّنَا إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ الْمُسْتَوْفَى، وَالْمُسْتَوْفَى فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ غَيْرُ الْمُسْتَوْفَى فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، لِأَنَّ الْأَوَّلَ تَلَاشَى وَاضْمَحَلَّ.
وَالْمَسْرُوقُ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ هُوَ بِعَيْنِهِ الْمَسْرُوقُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى.
وَقَوْلُهُ (فَإِنْ تَغَيَّرَتْ عَنْ حَالِهَا) ظَاهِرٌ، وَالْقَطْعِ بِالْجَرِّ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ مِنْ اتِّحَادِ.