فصل: كِتَابُ الْأَيْمَانِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.بَابُ الِاسْتِيلَادِ:

(وَإِذَا وَلَدَتْ الْأَمَةُ مِنْ مَوْلَاهَا فَقَدْ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَلَا تَمْلِيكُهَا) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا» أَخْبَرَ عَنْ إعْتَاقِهَا فَيَثْبُتُ بَعْضُ مَوَاجِبِهِ وَهُوَ حُرْمَةُ الْبَيْعِ، وَلِأَنَّ الْجُزْئِيَّةَ قَدْ حَصَلَتْ بَيْنَ الْوَاطِئِ وَالْمَوْطُوءَةِ بِوَاسِطَةِ الْوَلَدِ فَإِنَّ الْمَاءَيْنِ قَدْ اخْتَلَطَا بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ الْمَيْزُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا عُرِفَ فِي حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ، إلَّا أَنَّ بَعْدَ الِانْفِصَالِ تَبْقَى الْجُزْئِيَّةُ حُكْمًا لَا حَقِيقَةً فَضَعُفَ السَّبَبُ فَأَوْجَبَ حُكْمًا مُؤَجَّلًا إلَى مَا بَعْدِ الْمَوْتِ، وَبَقَاءُ الْجُزْئِيَّةِ حُكْمًا بِاعْتِبَارِ النَّسَبِ وَهُوَ مِنْ جَانِبِ الرِّجَالِ.
فَكَذَا الْحُرِّيَّةُ تَثْبُتُ فِي حَقِّهِمْ لَا فِي حَقِّهِنَّ، حَتَّى إذَا مَلَكَتْ الْحُرَّةُ زَوْجَهَا وَقَدْ وَلَدَتْ مِنْهُ لَمْ يُعْتَقْ الزَّوْجُ الَّذِي مَلَكَتْهُ بِمَوْتِهَا، وَبِثُبُوتِ عِتْقٍ مُؤَجَّلٍ يَثْبُتُ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ فِي الْحَالِ فَيُمْنَعُ جَوَازُ الْبَيْعِ وَإِخْرَاجُهَا لَا إلَى الْحُرِّيَّةِ فِي الْحَالِ وَيُوجِبُ عِتْقَهَا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَكَذَا إذَا كَانَ بَعْضُهَا مَمْلُوكًا لَهُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ لَا يَتَجَزَّأُ فَإِنَّهُ فَرْعُ النَّسَبِ فَيُعْتَبَرُ بِأَصْلِهِ.
الشَّرْحُ:
بَابُ الِاسْتِيلَادِ: لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ التَّدْبِيرِ شَرَعَ فِي بَيَانِ الِاسْتِيلَادِ عَقِيبَهُ لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقَّ الْحُرِّيَّةِ لَا حَقِيقَتَهَا.
وَالِاسْتِيلَادُ: طَلَبُ الْوَلَدِ، فَأُمُّ الْوَلَدِ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْغَالِبَةِ كَالصَّغِيرَةِ فِي الصِّفَاتِ الْغَالِبَةِ (إذَا وَلَدَتْ الْأَمَةُ مِنْ مَوْلَاهَا فَقَدْ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا) وَلَا هِبَتُهَا (وَلَا تَمْلِيكُهَا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَمَّا وَلَدَتْ مَارِيَةُ إبْرَاهِيمَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ لَهُ أَلَا تُعْتِقُهَا أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا» أَخْبَرَ عَنْ إعْتَاقِهَا فَيَثْبُتُ بَعْضُ مُوجَبِهِ وَهُوَ حُرْمَةُ الْبَيْعِ) لِأَنَّ الْحَدِيثَ وَإِنْ دَلَّ عَلَى تَنْجِيزِ الْحُرِّيَّةِ لَكِنْ عَارَضَهُ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَيُّمَا رَجُلٍ وَلَدَتْ أَمَتُهُ مِنْهُ فَهِيَ مُعْتَقَةٌ عَنْ دُبُرٍ مِنْهُ» فَعَلِمْنَا بِهِمَا جَمِيعًا وَمَنَعْنَا الْبَيْعَ بِالْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَالتَّنْجِيزَ بِالْحَدِيثِ الثَّانِي.
وَلَا يُقَالُ مَحَلِّيَّةُ الْبَيْعِ مَعْلُومَةٌ فِيهَا بِيَقِينٍ فَلَا تَرْتَفِعُ إلَّا بِيَقِينٍ مِثْلِهِ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُهُ.
لِأَنَّا نَقُولُ: الْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى عِتْقِهَا مِنْ الْمَشَاهِيرِ، وَقَدْ انْضَمَّ إلَيْهَا الْإِجْمَاعُ اللَّاحِقُ فَرَفَعَتْهَا.
وَلِأَنَّ الْجُزْئِيَّةَ قَدْ حَصَلَتْ بَيْنَ الْوَاطِئِ وَالْمَوْطُوءَةِ بِوَاسِطَةِ الْوَلَدِ فَإِنَّ الْمَاءَيْنِ قَدْ اخْتَلَطَا بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا عُرِفَ فِي حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ وَهِيَ تَمْنَعُ بَيْعَهَا وَهِبَتَهَا لِأَنَّ بَيْعَ جُزْءِ الْحُرِّ وَهِبَتَهُ حَرَامٌ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْجُزْئِيَّةُ مُعْتَبَرَةً لَتَنَجَّزَ الْعِتْقُ لِأَنَّ الْجُزْئِيَّةَ تُوجِبُهُ وَلَسْتُمْ بِقَائِلِينَ بِهِ.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ (إلَّا أَنَّ بَعْدَ الِانْفِصَالِ) يَعْنِي أَنَّ الْوَلَدَ إنَّمَا يَعْلَمُ بَعْدَ الِانْفِصَالِ، وَبَعْدَ الِانْفِصَالِ (تَبْقَى الْجُزْئِيَّةُ حُكْمًا لَا حَقِيقَةً فَضَعُفَ السَّبَبُ فَأَوْجَبَ حُكْمًا مُؤَجَّلًا إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ) فَتَعَاضَدَ الْمَنْقُولُ بِالْمَعْقُولِ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ الْمُؤَجَّلِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَهُوَ الْعِتْقُ فَيَحْرُمُ بَيْعُهَا فِي الْحَالِ لِثُبُوتِ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ فِيهَا.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَتْ الْجُزْئِيَّةُ بَاقِيَةً حُكْمًا لَعَتَقَ مَنْ مَلَكَتْهُ امْرَأَتُهُ الَّتِي وَلَدَتْ مِنْهُ بَعْدَ مَوْتِهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَبَقَاءُ الْجُزْئِيَّةِ حُكْمًا) وَمَعْنَاهُ أَنَّ بَقَاءَ الْجُزْئِيَّةِ حُكْمًا عِبَارَةٌ عَنْ ثَبَاتِ النَّسَبِ، وَالْأَصْلُ فِي ثَبَاتِ النَّسَبِ هُوَ الْأَبُ لِأَنَّ الْوَلَدَ يُنْسَبُ إلَيْهِ وَالْأُمُّ أَيْضًا بِوَاسِطَةِ الْوَلَدِ يُقَالُ أُمُّ وَلَدِ فُلَانٍ (فَكَذَلِكَ الْحُرِّيَّةُ تَثْبُتُ فِي حَقِّهِمْ لَا فِي حَقِّهِنَّ).
وَقَوْلُهُ (وَكَذَا إذَا كَانَ بَعْضُهَا مَمْلُوكًا لَهُ) يَعْنِي لَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَاسْتَوْلَدَهَا أَحَدُهُمَا كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ لَا يَتَجَزَّأُ لِأَنَّهُ فَرْعُ مَا لَا يَتَجَزَّأُ وَهُوَ النَّسَبُ فَيُعْتَبَرُ بِأَصْلِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ ذَكَرَ فِي بَابِ الْعَبْدِ يُعْتَقُ بَعْضُهُ وَالِاسْتِيلَادُ مُتَجَزِّئٌ عِنْدَهُ حَتَّى لَوْ اسْتَوْلَدَ نَصِيبَهُ مِنْ مُدَبَّرَةٍ يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ إلَخْ فَمَا وَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ كَلَامَيْهِ؟.
أُجِيبَ بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ لَا يَتَجَزَّأُ يَتَمَلَّكُ نَصِيبَ صَاحِبِهِ بِالضَّمَانِ مَعَ مِلْكِ نَصِيبِهِ فَيَكْمُلُ الِاسْتِيلَادُ عَلَى مَا يَجِيءُ بَعْدَ هَذَا فِي هَذَا الْبَابِ لِأَنَّ نَصِيبَ صَاحِبِهِ قَابِلٌ لِلنَّقْلِ بِضَمَانِ الْمُسْتَوْلِدِ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ وَقَعَ فِي الْقِنَّةِ وَهِيَ قَابِلَةٌ لِلِانْتِقَالِ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ وَمَا ذَكَرَهُ هُنَاكَ مِنْ تَجَزُّؤِ الِاسْتِيلَادِ فَإِنَّمَا فَرَضَ الْمَسْأَلَةَ فِي الْمُدَبَّرَةِ وَهِيَ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلنَّقْلِ فَكَانَ الِاسْتِيلَادُ مُقْتَصِرًا عَلَى نَصِيبِهِ فَيَتَجَزَّأُ الِاسْتِيلَادُ ضَرُورَةً فَكَانَ دَفْعُ التَّنَاقُضِ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ الْمَوْضُوعِ وَالْمُحَالِ وَبِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا جَعَلَا الِاسْتِيلَادَ مَقِيسًا عَلَيْهِ فِي أَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ فَكَانَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ.
ثُمَّ أَجَابَ عَنْهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنَّهُ مُتَجَزِّئٌ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ الْبَابِ، وَمِثْلُ هَذَا كَانَ لِاخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ. قَالَ: (وَلَهُ وَطْؤُهَا وَاسْتِخْدَامُهَا وَإِجَارَتُهَا وَتَزْوِيجُهَا) لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهَا قَائِمٌ فَأَشْبَهَتْ الْمُدَبَّرَةَ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَلَهُ وَطْؤُهَا وَاسْتِخْدَامُهَا وَإِجَارَتُهَا وَتَزْوِيجُهَا) قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الِاسْتِيلَادَ يُوجِبُ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ لَا حَقِيقَتَهَا، فَكَانَ الْمِلْكُ فِيهَا قَائِمًا كَالْمُدَبَّرَةِ فَجَازَ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا وَيَسْتَخْدِمَهَا وَيُؤَجِّرَهَا وَيُزَوِّجَهَا قَبْلَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا.
فَإِنْ قِيلَ: شَغْلُ الرَّحِمِ بِمَائِهِ مُحْتَمَلٌ وَاحْتِمَالُ ذَلِكَ يَمْنَعُ جَوَازَ النِّكَاحِ كَمَا فِي الْمُعْتَدَّةِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ مَحَلِّيَّةَ جَوَازِ النِّكَاحِ كَانَتْ ثَابِتَةً قَبْلَ الْوَطْءِ وَقَدْ وَقَعَ الشَّكُّ فِي زَوَالِهَا فَلَا تَرْتَفِعُ بِهِ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّ الْمَنْكُوحَةَ خَرَجَتْ عَنْ مَحَلِّيَّةِ نِكَاحِ الْغَيْرِ فَلَا تَعُودُ إلَيْهَا إلَّا بَعْدَ الْفَرَاغِ حَقِيقَةً وَذَلِكَ بَعْدَ الْعِدَّةِ. (وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا إلَّا أَنْ يَعْتَرِفَ بِهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ؛ لِأَنَّهُ لَمَا ثَبَّتَ النَّسَبُ بِالْعَقْدِ فَلَأَنْ يَثْبُتَ بِالْوَطْءِ وَأَنَّهُ أَكْثَرُ إفْضَاءً أَوْلَى.
وَلَنَا أَنَّ وَطْءَ الْأَمَةِ يُقْصَدُ بِهِ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ دُونَ الْوَلَدِ؛ لِوُجُودِ الْمَانِعِ عَنْهُ فَلَا بُدَّ مِنْ الدَّعْوَةِ بِمَنْزِلَةِ مَالِكِ الْيَمِينِ مِنْ غَيْرِ وَطْءٍ، بِخِلَافِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتَعَيَّنُ مَقْصُودًا مِنْهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى الدَّعْوَةِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا) أَيْ وَلَدِ الْأَمَةِ رُجُوعٌ إلَى مَا ابْتَدَأَ بِهِ أَوَّلَ الْبَابِ بِقَوْلِهِ: إذَا وَلَدَتْ الْأَمَةُ مِنْ مَوْلَاهَا لِمَا أَنَّ وَلَدَ أُمِّ الْوَلَدِ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ عَلَى مَا يَجِيءُ فِي قَوْلِهِ فَإِنْ جَاءَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِوَلَدٍ يَثْبُتُ نَسَبُهُ بِغَيْرِ إقْرَارٍ، وَحُكْمُ الْمُدَبَّرَةِ كَحُكْمِ الْأَمَةِ فِي أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهَا بِدُونِ دَعْوَةِ الْمَوْلَى.
وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنْ يَعْتَرِفَ بِهِ) أَيْ بِالْوَلَدِ وَالِاعْتِرَافُ بِالْوَطْءِ غَيْرُ مُلْزِمٍ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ النَّسَبُ بِالْعَقْدِ) أَيْ بِالنِّكَاحِ الَّذِي هُوَ مُفْضٍ إلَى الْوَطْءِ (فَلَأَنْ يَثْبُتَ بِهِ وَهُوَ أَكْثَرُ إفْضَاءً أَوْلَى.
وَلَنَا أَنَّ وَطْءَ الْأَمَةِ يُقْصَدُ بِهِ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ دُونَ الْوَلَدِ لِوُجُودِ الْمَانِعِ عَنْهُ) أَيْ عَنْ طَلَبِ الْوَلَدِ وَهُوَ سُقُوطُ التَّقَوُّمِ عِنْدَهُ وَنُقْصَانُ الْقِيمَةِ عِنْدَهُمَا أَوْ عَدَمُ نَجَابَةِ أَوْلَادِ الْإِمَاءِ عِنْدَهُمْ (فَلَا بُدَّ مِنْ الدَّعْوَةِ بِمَنْزِلَةِ الْيَمِينِ مِنْ غَيْرِ وَطْءٍ) فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ فِيهِ بِغَيْرِ الدَّعْوَةِ (بِخِلَافِ الْعَقْدِ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتَعَيَّنُ مَقْصُودًا مِنْهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى الدَّعْوَةِ) لَا يُقَالُ: النَّسَبُ بِاعْتِبَارِ الْجُزْئِيَّةِ أَوْ بِمَا وُضِعَ لَهَا وَالْقَصْدُ وَعَدَمُهُ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي ذَلِكَ.
لِأَنَّا نَقُولُ: لَوْ كَانَ ذَلِكَ مَدَارَهُ لَثَبَتَ مِنْ الزَّانِي وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا النَّظَرُ إلَى الْمَوْضُوعَاتِ الْأَصْلِيَّةِ وَالْعَقْدُ مَوْضُوعٌ لِذَلِكَ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الدَّعْوَةِ وَوَطْءُ الْأَمَةِ لَيْسَ بِمَوْضُوعٍ لَهَا فَيَحْتَاجُ إلَيْهَا. (فَإِنْ) (جَاءَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِوَلَدٍ ثَبَتَ نَسَبُهُ بِغَيْرِ إقْرَارِ) مَعْنَاهُ بَعْدَ اعْتِرَافٍ مِنْهُ بِالْوَلَدِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ بِدَعْوَى الْوَلَدِ الْأَوَّلِ تَعَيَّنَ الْوَلَدُ مَقْصُودًا مِنْهَا فَصَارَتْ فِرَاشًا كَالْمَعْقُودَةِ (إلَّا أَنَّهُ إذَا نَفَاهُ يَنْتَفِي بِقَوْلِهِ)؛ لِأَنَّ فِرَاشَهَا ضَعِيفٌ حَتَّى يَمْلِكَ نَقْلَهُ بِالتَّزْوِيجِ، بِخِلَافِ الْمَنْكُوحَةِ حَيْثُ لَا يَنْتَفِي الْوَلَدُ بِنَفْيِهِ إلَّا بِاللِّعَانِ؛ لِتَأَكُّدِ الْفِرَاشِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ إبْطَالَهُ بِالتَّزْوِيجِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ حُكْمٌ.
فَأَمَّا الدَّيَّانَةُ، فَإِنْ كَانَ وَطِئَهَا وَحَصَّنَهَا وَلَمْ يَعْزِلْ عَنْهَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَعْتَرِفَ بِهِ وَيَدَّعِي؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْوَلَدَ مِنْهُ، وَإِنْ عَزَلَ عَنْهَا أَوْ لَمْ يُحَصِّنْهَا جَازَ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الظَّاهِرَ يُقَابِلُهُ ظَاهِرٌ آخَرُ، هَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَفِيهِ رِوَايَتَانِ أُخْرَيَانِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ذَكَرْنَاهُمَا فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى.
الشَّرْحُ:
فَإِنْ جَاءَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِوَلَدٍ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ غَيْرِ إقْرَارٍ إذَا كَانَ قَدْ اعْتَرَفَ بِالْوَلَدِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ بِدَعْوَى الْأَوَّلِ تَعَيَّنَ الْوَلَدُ مَقْصُودًا مِنْهَا فَصَارَتْ فِرَاشًا كَالْمَعْقُودَةِ إلَّا أَنَّهُ إذَا نَفَاهُ يَنْتَفِي بِقَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ لِعَانٍ مَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِهِ أَوْ لَمْ تَتَطَاوَلْ الْمُدَّةُ، فَأَمَّا بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي فَقَدْ أَلْزَمَهُ بِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَهُ، وَكَذَلِكَ بَعْدَ التَّطَاوُلِ لِأَنَّهُ يُوجَدُ مِنْهُ دَلِيلُ الْإِقْرَارِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ مِنْ قَبُولِ التَّهْنِئَةِ وَنَحْوِهِ، وَذَلِكَ كَالتَّصْرِيحِ بِالْإِقْرَارِ، وَاخْتِلَافُهُمْ فِي مُدَّةِ التَّطَاوُلِ قَدْ سَبَقَ فِي اللِّعَانِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ فِرَاشَهَا ضَعِيفٌ) وَاضِحٌ.
قَوْلُهُ (وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ) أَيْ عَدَمَ ثُبُوتِ نَسَبِ وَلَدِ الْأَمَةِ بِدُونِ الدَّعْوَةِ (حُكْمُ) قَضَاءِ الْقَاضِي (فَأَمَّا الدِّيَانَةُ) يَعْنِي فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَالِاعْتِرَافُ بِهِ وَالدَّعْوَى إنْ وَطِئَهَا وَحَصَّنَهَا وَلَمْ يَعْزِلْ عَنْهَا، وَالْمُرَادُ بِالتَّحْصِينِ هُوَ أَنْ يَحْفَظَهَا عَمَّا يُوجِبُ رِيبَةَ الزِّنَا.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ هَذَا الظَّاهِرَ) وَهُوَ أَنَّ الْوَلَدَ مِنْهُ عِنْدَ التَّحْصِينِ وَعَدَمِ الْعَزْلِ (يُقَابِلُهُ) أَيْ يُعَارِضُهُ (ظَاهِرٌ آخَرُ) وَهُوَ الْعَزْلُ أَوْ تَرْكُ التَّحْصِينِ.
وَقَوْلُهُ (وَفِيهِ رِوَايَتَانِ أُخْرَيَانِ) فِي بَعْضِ النُّسَخِ أَخْرَوَانِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ.
وَقَوْلُهُ (عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَعَنْ مُحَمَّدٍ) قِيلَ فَائِدَةُ تَكْرَار (عَنْ) دَفْعُ وَهْمِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُمَا بِاتِّفَاقِهِمَا فَإِنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رِوَايَةٌ تُخَالِفُ رِوَايَةَ الْآخَرِ، فَأَمَّا رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ فَهِيَ أَنَّهُ إذَا وَطِئَهَا وَلَمْ يَسْتَبْرِئْهَا بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَدَّعِيَهُ سَوَاءٌ عَزَلَ عَنْهَا أَوْ لَمْ يَعْزِلْ، حَصَّنَهَا أَوْ لَمْ يُحْصِنْهَا تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِهَا وَحَمْلًا لِأَمْرِهَا عَلَى الصَّلَاحِ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ خِلَافُهُ، وَأَمَّا رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ فَهِيَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَدَّعِيَهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مِنْهُ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعْتِقَ الْوَلَدَ وَيَسْتَمْتِعَ بِهَا وَيُعْتِقَهَا بَعْدَ مَوْتِهِ لِأَنَّ اسْتِلْحَاقَ نَسَبٍ لَيْسَ مِنْهُ لَا يَحِلُّ شَرْعًا فَيُحْتَاطُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَذَلِكَ فِي أَنْ لَا يَدَّعِيَ النَّسَبَ، وَلَكِنْ يُعْتَقُ الْوَلَدُ وَيُعْتِقُهَا بَعْدَ مَوْتِهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ.
وَمَا ذَكَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ هُوَ الْأَصْلُ لِأَنَّهُ إذَا وَطِئَهَا وَلَمْ يَعْزِلْ وَحَصَّنَهَا فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوَلَدَ مِنْهُ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَدَّعِيَ، وَإِنْ لَمْ يُحْصِنْ أَوْ عَزَلَ فَقَدْ وَقَعَ الِاحْتِمَالُ فَلَا يَلْزَمُهُ الِاعْتِرَافُ بِالشَّكِّ. (فَإِنْ زَوَّجَهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَهُوَ فِي حُكْمِ أُمِّهِ)؛ لِأَنَّ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ كَالتَّدْبِيرِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ وَلَدَ الْحُرَّةِ حُرٌّ وَوَلَدَ الْقِنَّةِ رَقِيقٌ وَالنَّسَبُ يَثْبُتُ مِنْ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْفِرَاشَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ النِّكَاحُ فَاسِدًا إذْ الْفَاسِدُ مُلْحَقٌ بِالصَّحِيحِ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ، وَلَوْ ادَّعَاهُ الْمَوْلَى لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْ غَيْرِهِ، وَيُعْتَقُ الْوَلَدُ وَتَصِيرُ أُمُّهُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لِإِقْرَارِهِ.
الشَّرْحُ:
(فَإِنْ زَوَّجَهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَهُوَ فِي حُكْمِ أُمِّهِ) لِأَنَّ الْأَوْصَافَ الْقَارَّةَ فِي الْأُمَّهَاتِ تَسْرِي إلَى الْأَوْلَادِ وَالنَّسَبُ يَثْبُتُ مِنْ الزَّوْجِ لِأَنَّ الْفِرَاشَ لَهُ بِالنِّكَاحِ وَإِنْ كَانَ النِّكَاحُ فَاسِدًا بَعْدَمَا اتَّصَلَ بِهِ الدُّخُولُ لِأَنَّ الْفَاسِدَ مُلْحَقٌ بِالصَّحِيحِ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ، وَمِنْ الْأَحْكَامِ ثُبُوتُ النَّسَبِ وَعَدَمُ جَوَازِ الْبَيْعِ وَالْوَصِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ الْفَاسِدُ مِنْهُ مُلْحَقًا بِالصَّحِيحِ كَانَ أَقْوَى مِنْ فِرَاشِ أُمِّ الْوَلَدِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ ادَّعَاهُ الْمَوْلَى) مَعْنَاهُ إذَا زَوَّجَ الْمَوْلَى أَمَتَهُ فَوَلَدَتْ فَادَّعَاهُ الْمَوْلَى لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ لِأَنَّهُ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْ غَيْرِهِ، وَيُعْتَقُ الْوَلَدُ وَتَصِيرُ أُمُّهُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لِإِقْرَارِهِ، وَإِنَّمَا فَسَّرْنَا كَلَامَهُ بِذَلِكَ لِيَسْتَقِيمَ قَوْلُهُ وَتَصِيرُ أُمُّهُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لِأَنَّ أُمُومِيَّةَ أُمِّ الْوَلَدِ ثَابِتَةٌ قَبْلَ هَذِهِ الدَّعْوَةِ فَلَا يَسْتَقِيمُ حِينَئِذٍ قَوْلُهُ وَتَصِيرُ أُمُّهُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، هَكَذَا نُقِلَ عَنْ فَوَائِدِ مَوْلَانَا حُمَيْدِ الدِّينِ الضَّرِيرِ.
فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا تَصِيرَ أُمُّهُ أُمَّ وَلَدٍ لِمَوْلَاهُ لِأَنَّ أُمِّيَّةَ الْوَلَدِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى ثُبُوتِ النَّسَبِ بِدَعْوَةِ الْوَلَدِ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الْأَصْلُ مِنْهُ كَيْفَ يَثْبُتُ الْفَرْعُ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ مُجَرَّدَ الْإِقْرَارِ بِالِاسْتِيلَادِ كَافٍ لِثُبُوتِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْإِقْرَارُ فِي ضِمْنِ شَيْءٍ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ الشَّيْءُ لِمُصَادَفَةِ إقْرَارِ الْمَوْلَى فِي مَحَلِّهِ وَهُوَ الْمِلْكُ، وَهَذَا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْ الْمَوْلَى بِعُلُوقٍ سَبَقَ النِّكَاحَ أَوْ بِشُبْهَةٍ بَعْدَ النِّكَاحِ، إلَّا أَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي حَقِّ النَّسَبِ لِثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْ الزَّوْجِ وَاسْتِغْنَائِهِ عَنْ النَّسَبِ فَبَقِيَ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ الْأُمِّ لِاحْتِيَاجِهَا إلَى أَنْ تَصِيرَ أُمَّ وَلَدٍ. (وَإِذَا مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَتْ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ) لِحَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِعِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَأَنْ لَا يُبَعْنَ فِي دَيْنٍ وَلَا يُجْعَلْنَ مِنْ الثُّلُثِ».
وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْوَلَدِ أَصْلِيَّةٌ فَتُقَدَّمُ عَلَى حَقِّ الْوَرَثَةِ وَالدَّيْنِ كَالتَّكْفِينِ، بِخِلَافِ التَّدْبِيرِ؛ لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ بِمَا هُوَ مِنْ زَوَائِدِ الْحَوَائِجِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَإِذَا مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَتْ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ) سَوَاءٌ كَانَ زَوْجُهَا أَوْ لَا لِمَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِعِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَأَنْ لَا يُبَعْنَ فِي دَيْنٍ وَلَا يُجْعَلْنَ مِنْ الثُّلُثِ» وَمَعْنَى قَوْلِهِ أَمَرَ حَكَمَ لَا الْأَمْرُ الْمُصْطَلَحُ فَإِنَّهُنَّ يُعْتَقْنَ بَعْدَ الْمَوْتِ كَمَا تَقَدَّمَ وَإِنَّمَا نَكَّرَ الدَّيْنَ نَفْيًا لِلسِّعَايَةِ لِلْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ وَلَا يُجْعَلُ مِنْ الثُّلُثِ تَأْكِيدٌ لِأَنَّهُ فُهِمَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ وَأَنْ لَا يُبَعْنَ فِي دَيْنٍ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْوَلَدِ أَصْلِيَّةٌ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَحْتَاجُ إلَى إبْقَاءِ نَسْلِهِ كَمَا أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى إبْقَاءِ نَفْسِهِ، وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ يُقَدَّمُ عَلَى حَقِّ الْوَرَثَةِ وَالْغُرَمَاءِ كَالتَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ (بِخِلَافِ التَّدْبِيرِ لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ بِمَا هُوَ مِنْ زَوَائِدِ الْحَوَائِجِ). (وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهَا فِي دَيْنِ الْمَوْلَى لِلْغُرَمَاءِ) لَمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ حَتَّى لَا تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ الْغُرَمَاءِ كَالْقِصَاصِ، بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهَا) أَيْ عَلَى أُمِّ الْوَلَدِ (فِي دَيْنِ الْمَوْلَى لِلْغُرَمَاءِ لِمَا بَيَّنَّا) أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْوَلَدِ أَصْلِيَّةٌ إلَخْ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ لِمَا رَوَيْنَا يَعْنِي مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: وَلَا يُبَعْنَ ,دَلَّ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَالِيَّةِ، وَإِذَا عُدِمَتْ مَالِيَّتُهَا لَمْ يَبْقَ عَلَيْهَا سِعَايَةٌ.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّهَا) يَعْنِي أُمَّ الْوَلَدِ (لَيْسَتْ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ) حَتَّى لَوْ غَصَبَهَا رَجُلٌ وَمَاتَتْ عِنْدَهُ لَا يَضْمَنُهَا الْغَاصِبُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ مَالِيَّتَهَا غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ عِنْدَهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ (فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ الْغُرَمَاءِ كَالْقِصَاصِ) فَإِنَّ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ إذَا مَاتَ وَهُوَ مَدْيُونٌ لَيْسَ لِأَرْبَابِ الدُّيُونِ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصَ بِدَيْنِهِمْ وَيَسْتَوْفُوا مِنْهُ دُيُونَهُمْ بِمُقَابَلَةِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ مِنْ مَدْيُونِهِمْ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ حَتَّى يَأْخُذُوا مِنْهُ بِمُقَابَلَتِهِ شَيْئًا مُتَقَوِّمًا، وَكَذَا إذَا قَتَلَ الْمَدْيُونُ شَخْصًا لَا يَقْدِرُ الْغُرَمَاءُ عَلَى مَنْعِ وَلِيِّ الْقِصَاصِ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ، وَكَذَا إذَا قَتَلَ رَجُلٌ مَدْيُونًا وَالْمَدْيُونُ قَدْ عَفَا لَا يَقْدِرُ الْغُرَمَاءُ عَلَى مَنْعِ الْمَدْيُونِ عَنْ الْعَفْوِ. (وَإِذَا أَسْلَمَتْ أُمُّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ فَعَلَيْهَا أَنْ تَسْعَى فِي قِيمَتِهَا) وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ لَا تُعْتَقُ حَتَّى تُؤَدِّيَ السِّعَايَةَ.
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: تُعْتَقُ فِي الْحَالِ وَالسِّعَايَةُ دَيْنٌ عَلَيْهَا، وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا عُرِضَ عَلَى الْمَوْلَى الْإِسْلَامُ فَأَبَى، فَإِنْ أَسْلَمَ تَبْقَى عَلَى حَالِهَا.
لَهُ أَنَّ إزَالَةَ الذُّلِّ عَنْهَا بَعْدَمَا أَسْلَمَتْ وَاجِبَةٌ وَذَلِكَ بِالْبَيْعِ أَوْ الْإِعْتَاقِ وَقَدْ تَعَذَّرَ الْبَيْعُ فَتَعَيَّنَ الْإِعْتَاقُ.
وَلَنَا أَنَّ النَّظَرَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِي جَعْلِهَا مُكَاتَبَةً؛ لِأَنَّهُ يَنْدَفِعُ الذُّلُّ عَنْهَا بِصَيْرُورَتِهَا حُرَّةً يَدًا وَالضَّرَرُ عَنْ الذِّمِّيِّ لِانْبِعَاثِهَا عَلَى الْكَسْبِ نَيْلًا لِشَرَفِ الْحُرِّيَّةِ فَيَصِلُ الذِّمِّيُّ إلَى بَدَلِ مِلْكِهِ، أَمَّا لَوْ أُعْتِقَتْ وَهِيَ مُفْلِسَةٌ تَتَوَانَى فِي الْكَسْبِ وَمَالِيَّةُ أُمُّ الْوَلَدِ يَعْتَقِدُهَا الذِّمِّيُّ مُتَقَوِّمَةً فَيُتْرَكُ وَمَا يَعْتَقِدُهُ، وَلِأَنَّهَا إنْ لَمْ تَكُنْ مُتَقَوِّمَةً فَهِيَ مُحْتَرَمَةٌ، وَهَذَا يَكْفِي لِوُجُوبِ الضَّمَانِ كَمَا فِي الْقِصَاصِ الْمُشْتَرَكِ إذَا عَفَا أَحَدُ الْأَوْلِيَاءِ يَجِبُ الْمَالُ لِلْبَاقِينَ.
الشَّرْحُ:
(وَإِذَا أَسْلَمَتْ أُمُّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ فَعَلَيْهَا أَنْ تَسْعَى فِي قِيمَتِهَا) وَهِيَ ثُلُثُ قِيمَتِهَا قِنَّةً عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ.
وَاسْتَشْكَلَ الْقَوْلَ بِالسِّعَايَةِ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ أَنَّ مَالِيَّةَ أُمِّ الْوَلَدِ غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ عِنْدَهُ، فَإِنَّ الْقَوْلَ بِالسِّعَايَةِ قَوْلٌ بِالتَّقَوُّمِ إذْ السِّعَايَةُ بَدَلُ مَا ذَهَبَ مِنْ مَالِيَّتِهَا.
قَوْلُهُ (وَمَالِيَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ يَعْتَقِدُهَا الذِّمِّيُّ مُتَقَوِّمَةً فَيُتْرَكُ وَمَا يَعْتَقِدُهُ) جَوَابٌ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّهَا) يَعْنِي مَالِيَّةَ أُمِّ الْوَلَدِ (إنْ لَمْ تَكُنْ مُتَقَوِّمَةً فَهِيَ مُحْتَرَمَةٌ وَهَذَا) أَيْ كَوْنُهَا مُحْتَرَمَةً (يَكْفِي لِوُجُوبِ الضَّمَانِ) جَوَابٌ آخَرُ لِذَلِكَ الْإِشْكَالِ.
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الِاحْتِرَامَ لَوْ كَانَ كَافِيًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ لَوَجَبَ عَلَى غَاصِبِ أُمِّ الْوَلَدِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَبْنَى الضَّمَانِ فِي الْغَصْبِ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ، وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ مَالِيَّتِهَا لِانْتِفَاءِ تَقَوُّمِهَا وَبَيْنَ مَا يَضْمَنُ بِهِ مِنْ الْمَالِ الْمُتَقَوِّمِ، وَهَذَا عَلَى طَرِيقَةِ تَخْصِيصِ الْعِلَلِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي مِثْلِهِ.
وَقَوْلُهُ (كَمَا فِي الْقِصَاصِ الْمُشْتَرَكِ) يَعْنِي إذَا كَانَ الْقِصَاصُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ جَمَاعَةٍ وَعَفَا أَحَدُهُمْ يَجِبُ الْمَالُ لِلْبَاقِينَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْقِصَاصُ مَالًا مُتَقَوِّمًا لَكِنَّهُ حَقٌّ مُحْتَرَمٌ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ لِاحْتِبَاسِ نَصِيبِ الْآخَرِينَ عِنْدَهُ بِعَفْوِ أَحَدِهِمْ. (وَلَوْ مَاتَ مَوْلَاهَا عَتَقَتْ بِلَا سِعَايَةٍ)؛ لِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ لَهُ، وَلَوْ عَجَزَتْ فِي حَيَاتِهِ لَا تُرَدُّ قِنَّةً؛ لِأَنَّهَا لَوْ رُدَّتْ قِنَّةً أُعِيدَتْ مُكَاتَبَةً لِقِيَامِ الْمُوجِبِ.
الشَّرْحُ:
(وَلَوْ مَاتَ مَوْلَاهَا) وَهُوَ النَّصْرَانِيُّ (عَتَقَتْ بِلَا سِعَايَةٍ لِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ وَلَوْ عَجَزَتْ فِي حَيَاتِهِ لَا تُرَدُّ قِنَّةً، لِأَنَّهَا لَوْ رُدَّتْ قِنَّةً أُعِيدَتْ مُكَاتَبَةً لِقِيَامِ الْمُوجِبِ) وَهُوَ إسْلَامُهَا مَعَ كُفْرِ مَوْلَاهَا. (وَمَنْ اسْتَوْلَدَ أَمَةَ غَيْرِهِ بِنِكَاحٍ ثُمَّ مَلَكهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَلَوْ اسْتَوْلَدَهَا بِمِلْكِ يَمِينٍ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ ثُمَّ مَلَكَهَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ عِنْدَنَا، وَلَهُ فِيهِ قَوْلَانِ وَهُوَ وَلَدُ الْمَغْرُورِ.
لَهُ أَنَّهَا عَلِقَتْ بِرَقِيقٍ فَلَا تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ كَمَا إذَا عَلِقْت مِنْ الزِّنَا ثُمَّ مَلَكَهَا الزَّانِي، وَهَذَا؛ لِأَنَّ أُمُومِيَّةَ الْوَلَدِ بِاعْتِبَارِ عُلُوقِ الْوَلَدِ حُرًّا؛ لِأَنَّهُ جُزْءُ الْأُمِّ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَالْجُزْءُ لَا يُخَالِفُ الْكُلَّ.
وَلَنَا أَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْجُزْئِيَّةُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ، وَالْجُزْئِيَّةُ إنَّمَا تَثْبُتُ بَيْنَهُمَا بِنِسْبَةِ الْوَلَدِ الْوَاحِدِ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمُلَا وَقَدْ ثَبَتَ النَّسَبُ فَتَثْبُتُ الْجُزْئِيَّةُ بِهَذِهِ الْوَاسِطَةِ، بِخِلَافِ الزِّنَا؛ لِأَنَّهُ لَا نَسَبَ فِيهِ لِلْوَلَدِ إلَى الزَّانِي، وَإِنَّمَا يُعْتَقُ عَلَى الزَّانِي إذَا مَلَكَهُ؛ لِأَنَّهُ جُزْؤُهُ حَقِيقَةً بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ.
نَظِيرُهُ مَنْ اشْتَرَى أَخَاهُ مِنْ الزِّنَا لَا يُعْتَقُ؛ لِأَنَّهُ يُنْسَبُ إلَيْهِ بِوَاسِطَةِ نِسْبَتِهِ إلَى الْوَالِدِ وَهِيَ غَيْرُ ثَابِتَةٍ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ اسْتَوْلَدَهَا) صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ ظَاهِرَةٌ.
وَتَقْرِيرُ وَجْهِ الشَّافِعِيِّ هَذِهِ عَلِقَتْ بِرَقِيقٍ وَهُوَ ظَاهِرٌ: وَمَنْ عَلِقَتْ بِرَقِيقٍ لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لِمَنْ عَلِقَتْ مِنْهُ، لِأَنَّ أُمُومِيَّةَ الْوَلَدِ بِاعْتِبَارِ عُلُوقِ الْوَلَدِ حُرًّا لِأَنَّهُ جُزْءُ الْأُمِّ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ: أَيْ فِي حَالَةِ الْعُلُوقِ وَالْجُزْءُ لَا يُخَالِفُ الْكُلَّ.
وَفِي صُورَةِ النِّزَاعِ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْأُمَّ رَقِيقَةٌ لِمَوْلَاهَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ: أَيْ فِي حَالَةِ الْعُلُوقِ، فَلَوْ انْعَلَقَ الْوَلَدُ حُرًّا كَانَ الْجُزْءُ مُخَالِفًا لِلْكُلِّ.
وَقَوْلُهُ (كَمَا إذَا عَلِقَتْ مِنْ الزِّنَا ثُمَّ مَلَكَهَا الزَّانِي) أَنَّهَا لَا تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ لِكَوْنِ الْعُلُوقِ لَيْسَ مِنْ مَوْلَاهَا، قِيلَ فِي كَلَامِهِ تَسَامُحٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ الِاسْتِيلَادِ كَوْنُ الْعُلُوقِ مِنْ مَوْلَاهَا وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ إذَا عَلِقَتْ مِنْ الزِّنَا.
وَقَوْلُهُ (وَهَذَا لِأَنَّ أُمُومِيَّةَ الْوَلَدِ بِاعْتِبَارِ عُلُوقِ الْوَلَدِ حُرًّا) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْعِلَّةُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ وَذَلِكَ مُغَايِرٌ لِلْأَوَّلِ، وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ الْعِلَّةَ هُوَ عُلُوقُ الْوَلَدِ حُرًّا عِنْدَهُ لَيْسَ إلَّا، وَفِي صُورَةِ الزِّنَا إنَّمَا لَمْ تَثْبُتْ أُمُومِيَّةُ الْوَلَدِ لِأَنَّ الْوَلَدَ انْعَلَقَ رَقِيقًا لِأَنَّ الْمَزْنِيَّ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مِلْكُ مَوْلَاهَا (وَلَنَا أَنَّ سَبَبَ الِاسْتِيلَادِ هُوَ الْجُزْئِيَّةُ الْحَاصِلَةُ بَيْنَ الْوَالِدَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ) أَوَّلَ الْبَابِ حَيْثُ قَالَ وَلِأَنَّ الْجُزْئِيَّةَ قَدْ حَصَلَتْ بَيْنَ الْوَاطِئِ وَالْمَوْطُوءَةِ، وَالْجُزْئِيَّةُ إنَّمَا تَثْبُتُ بَيْنَهُمَا بِنِسْبَةِ الْوَلَدِ إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا كَمَلًا، وَقَدْ ثَبَتَ النَّسَبُ بِالنِّكَاحِ فَثَبَتَتْ الْجُزْئِيَّةُ بِهَذِهِ الْوَاسِطَةِ، وَإِذَا ثَبَتَتْ الْجُزْئِيَّةُ ثَبَتَتْ أُمُومِيَّةُ الْوَلَدِ.
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الزِّنَا) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ كَمَا إذَا عَلِقَتْ بِالزِّنَا لِأَنَّهُ لَا نَسَبَ فِيهِ: أَيْ فِي الزِّنَا (لِلْوَلَدِ إلَى الزَّانِي) فَلَا تَثْبُتُ الْجُزْئِيَّةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْبَابِ وَهُوَ الْجُزْئِيَّةُ الْحُكْمِيَّةُ فَلَا تَثْبُتُ أُمُومِيَّةُ الْوَلَدِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ مِنْ الزَّانِي فَعَلَامَ يُعْتَقُ عَلَيْهِ الْوَلَدُ مِنْ الزِّنَا إذَا مَلَكَهُ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَإِنَّمَا يُعْتَقُ عَلَى الزَّانِي إذَا مَلَكَهُ لِأَنَّهُ جُزْؤُهُ حَقِيقَةً بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ)، بِخِلَافِ أُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ فَإِنَّهَا تَثْبُتُ بِوَاسِطَةِ نِسْبَةِ الْوَلَدِ وَالنِّسْبَةُ عَنْ الزَّانِي مُنْقَطِعَةٌ فَكَانَ أُمُومِيَّةُ الْوَلَدِ مِنْ الزِّنَا (نَظِيرُ مَنْ اشْتَرَى أَخَاهُ مِنْ الزِّنَا لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ) أَيْ الْأَخُ (يُنْسَبُ إلَيْهِ بِوَاسِطَةِ نِسْبَتِهِ إلَى الْوَالِدِ وَهِيَ غَيْرُ ثَابِتَةٍ) وَالْمُرَادُ بِالْأَخِ الْأَخُ لِأَبٍ، وَأَمَّا الْأَخُ لِأُمٍّ فَإِنَّهُ يُعْتَقُ عَلَيْهِ إذَا مَلَكَهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ الزِّنَا لِأَنَّ النِّسْبَةَ بَيْنَهُمَا ثَابِتَةٌ. (وَإِذَا وَطِئَ جَارِيَةَ ابْنِهِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا وَلَيْسَ عَلَيْهِ عُقْرُهَا وَلَا قِيمَةُ وَلَدِهَا) وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ بِدَلَائِلِهَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا لَا يَضْمَنُ قِيمَةَ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ انْعَلَقَ حُرَّ الْأَصْلِ لِاسْتِنَادِ الْمِلْكِ إلَى مَا قَبْلَ الِاسْتِيلَادِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا وَطِئَ جَارِيَةَ ابْنِهِ) ظَاهِرٌ. (وَإِنْ وَطِئَ أَبُو الْأَبِ مَعَ بَقَاءِ الْأَبِ لَمْ يَثْبُتُ النَّسَبُ)؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْجَدِّ حَالَ قِيَامِ الْأَبِ (وَلَوْ كَانَ الْأَبُ مَيِّتًا ثَبَتَ مِنْ الْجَدِّ كَمَا يَثْبُتُ مِنْ الْأَبِ)؛ لِظُهُورِ وِلَايَتِهِ عِنْدَ فَقْدِ الْأَبِ، وَكُفْرُ الْأَبِ وَرِقُهُ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّهُ قَاطِعٌ لِلْوِلَايَةِ (وَإِذَا كَانَتْ الْجَارِيَةُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا ثَبَتَ نَسُبُّهُ مِنْهُ)؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ النَّسَبُ فِي نِصْفِهِ لِمُصَادَفَتِهِ مِلْكَهُ ثَبَتَ فِي الْبَاقِي ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ؛ لِمَا أَنَّ سَبَبَهُ لَا يَتَجَزَّأُ وَهُوَ الْعُلُوقُ إذْ الْوَلَدُ الْوَاحِدُ لَا يَنْعَلِقُ مِنْ مَاءَيْنِ.
(وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ)؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ لَا يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُمَا (وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَصِيرُ نَصِيبُهُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ثُمَّ يَتَمَلَّكُ نَصِيبَ صَاحِبَهُ إذْ هُوَ قَابِلٌ لِلْمِلْكِ وَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهَا)؛ لِأَنَّهُ تَمَلَّكَ نَصِيبَ صَاحِبِهِ لَمَّا اسْتَكْمَلَ الِاسْتِيلَادَ وَيَضْمَنُ نِصْفَ عُقْرِهَا؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ جَارِيَةً مُشْتَرَكَةً، إذْ الْمِلْكُ يَثْبُتُ حُكْمًا لِلِاسْتِيلَادِ فَيَتَعَقَّبُهُ الْمِلْكُ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ بِخِلَافِ الْأَبِ إذَا اسْتَوْلَدَ جَارِيَةَ ابْنِهِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ هُنَالِكَ يَثْبُتُ شَرْطًا لِلِاسْتِيلَادِ فَيَتَقَدَّمُهُ فَصَارَ وَاطِئًا مِلْكَ نَفْسِهِ (وَلَا يَغْرَمُ قِيمَةَ وَلَدِهَا)؛ لِأَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ شَيْءٌ مِنْهُ عَلَى مِلْكِ الشَّرِيكِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا كَانَتْ الْجَارِيَةُ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ مَرَّ ذِكْرُهَا فِي أَوَّلِ الْبَابِ حَيْثُ قَالَ: وَكَذَا إذَا كَانَ بَعْضُهَا مَمْلُوكًا، وَلَكِنْ كَانَ ذِكْرُهَا هُنَاكَ مِنْ حَيْثُ إنَّ الِاسْتِيلَادَ يُخْرِجُ الْأَمَةَ إلَى حَقِّ الْحُرِّيَّةِ قَبْلَ الْمَوْتِ وَإِلَى حَقِيقَتِهَا بَعْدَهُ، وَذِكْرُهَا هُنَا بِاعْتِبَارِ ثُبُوتِ النَّسَبِ وَبَيَانُ مَا أُرِيدَ بِعَدَمِ تَجَزِّي الِاسْتِيلَادِ الْمَذْكُورِ هُنَاكَ وَتَمَلُّكِ نَصِيبِ صَاحِبِهِ وَضَمَانِ نِصْفِ الْعُقْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرَهُ فَلَا يُعَدُّ تَكْرَارًا وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ خَلَا مَا نُنَبِّهُ عَلَيْهِ (قَوْلُهُ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا) لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ فِي نِصْفِهِ إلَخْ) يَرِدُ عَلَيْهِ الْقَلْبُ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: لِمَا لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ مِنْهُ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ لِمُصَادَفَتِهِ مِلْكَ غَيْرِهِ لَا يَثْبُتُ فِي الْبَاقِي ضَرُورَةً أَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ إلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ.
وَيُجَابُ عَنْهُ بِتَغْلِيبِ جَانِبِ الْمُثْبِتِ لِلنَّسَبِ احْتِيَاطًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَيَجِبُ الْعُقْرُ، فَكَذَلِكَ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ بِالدَّعْوَةِ.
وَقَوْلُهُ (فَيَتَعَقَّبُهُ الْمِلْكُ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: هَذَا عَلَى اخْتِيَارِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ، وَأَمَّا الْأَصَحُّ مِنْ الْمَذْهَبِ فَالْحُكْمُ مَعَ عِلَّتِهِ يَفْتَرِقَانِ لِمَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.
وَأَقُولُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِالتَّعَقُّبِ التَّعَقُّبَ الذَّاتِيَّ دُونَ الزَّمَانِيِّ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ وَارِدًا عَلَى الْأَصَحِّ مِنْ الْمَذْهَبِ.
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الْأَبِ إذَا اسْتَوْلَدَ جَارِيَةَ ابْنِهِ لِأَنَّ الْمِلْكَ هُنَاكَ يَثْبُتُ شَرْطًا لِلِاسْتِيلَادِ فَيَتَقَدَّمُهُ) وَهَذِهِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الشَّرِيكِ وَالْوَالِدِ مِنْ حَيْثُ إنَّ مِلْكَ الشَّرِيكِ فِي النِّصْفِ قَائِمٌ وَقْتَ الْعُلُوقِ، وَذَلِكَ يَكْفِي فِي الِاسْتِيلَادِ فَيَجْعَلُ تَمَلُّكَ نَصِيبِ صَاحِبِهِ حُكْمًا لِلِاسْتِيلَادِ فَيَكُونُ الْوَطْءُ وَاقِعًا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْحَدَّ لَكِنَّهُ سَقَطَ بِشُبْهَةِ الشَّرِيكِ فَيَجِبُ الْعُقْرُ، وَأَمَّا الْأَبُ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِلْكٌ فِي الْجَارِيَةِ وَقَدْ اسْتَوْلَدَهَا فَيَجْعَلُ مِلْكَهُ فِيهَا شَرْطًا لِلِاسْتِيلَادِ فِي مِلْكِهِ حَمْلًا لِأَمْرِهِ عَلَى الصَّلَاحِ فَيَكُونُ الْوَطْءُ فِي مِلْكِهِ وَالْوَطْءُ فِيهِ لَا يُوجِبُ الْعُقْرَ.
وَالْمُرَادُ بِالْعُقْرِ مَهْرُ الْمِثْلِ فَيَكُونُ الشَّرِيكُ ضَامِنًا لِنِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا، هَكَذَا فِي مَبْسُوطِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ.
وَفِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ وَالْمُحِيطِ: الْعُقْرُ قَدْرُ مَا تُسْتَأْجَرُ هَذِهِ الْمَرْأَةُ لَوْ كَانَ الِاسْتِئْجَارُ لِلزِّنَا حَلَالًا.
وَقَوْلُهُ (فَلَمْ يَنْعَلِقْ مِنْهُ شَيْءٌ عَلَى مِلْكِ الشَّرِيكِ) لِأَنَّهُ كَمَا عَلِقَ انْعَلَقَ حُرُّ الْأَصْلِ لِأَنَّ نِصْفَهُ انْعَلَقَ عَلَى مِلْكِهِ وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ ثُبُوتُ الرِّقِّ فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَرْجِيحِ مُثْبَتِ النَّسَبِ. (وَإِنْ ادَّعَيَاهُ مَعًا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُمَا) مَعْنَاهُ إذَا حَمَلَتْ عَلَى مِلْكِهِمَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُرْجَعُ إلَى قَوْلِ الْقَافَةِ؛ لِأَنَّ إثْبَاتَ النَّسَبِ مِنْ شَخْصَيْنِ مَعَ عِلْمِنَا أَنَّ الْوَلَدَ لَا يَتَخَلَّقُ مِنْ مَاءَيْنِ مُتَعَذِّرٌ فَعَمِلْنَا بِالشَّبَهِ، وَقَدْ سُرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِ الْقَائِفِ فِي أُسَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ.
وَلَنَا كِتَابُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إلَى شُرَيْحٍ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ: لَبَّسَا فَلُبِّسَ عَلَيْهِمَا، وَلَوْ بَيَّنَا لَبُيِّنَ لَهُمَا، هُوَ ابْنُهُمَا يَرِثُهُمَا وَيَرِثَانِهِ وَهُوَ لِلْبَاقِي مِنْهُمَا، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلُ ذَلِكَ.
وَلِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فَيَسْتَوِيَانِ فِيهِ، وَالنَّسَبُ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَجَزَّأُ وَلَكِنْ تَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ مُتَجَزِّئَةٌ، فَمَا يَقْبَلُ التَّجْزِئَةَ يَثْبُتُ فِي حَقِّهِمَا عَلَى التَّجْزِئَةِ، وَمَا لَا يَقْبَلُهَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمُلَا كَأَنْ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ إلَّا إذَا كَانَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ أَبًا لِلْآخِرِ، أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا وَالْآخَرُ ذِمِّيًّا لِوُجُودِ الْمُرَجِّحِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ وَفِي حَقِّ الْأَبِ وَهُوَ مَا لَهُ مِنْ الْحَقِّ فِي نَصِيبِ الِابْنِ، وَسُرُورُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رُوِيَ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَطْعَنُونَ فِي نَسَبِ أُسَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَكَانَ قَوْلُ الْقَائِفِ مُقْطِعًا لِطَعْنِهِمْ فَسُرَّ بِهِ (وَكَانَتْ الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُمَا)؛ لِصِحَّةِ دَعْوَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَصِيبِهِ فِي الْوَلَدِ فَيَصِيرُ نَصِيبُهُ مِنْهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ تَبَعًا لِوَالِدِهَا (وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الْعُقْرِ قِصَاصًا بِمَا لَهُ عَلَى الْآخَرِ، وَيَرِثُ الِابْنُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِيرَاثَ ابْنٍ كَامِلٍ)؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِمِيرَاثِهِ كُلِّهِ وَهُوَ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ (وَيَرِثَانِ مِنْهُ مِيرَاثَ أَبٍ وَاحِدٍ) لِاسْتِوَائِهِمَا فِي النَّسَبِ كَمَا إذَا أَقَامَا الْبَيِّنَةَ.
الشَّرْحُ:
وَإِنْ ادَّعَيَاهُ مَعًا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ (مَعْنَاهُ إذَا حَمَلَتْ عَلَى مِلْكِهِمَا) وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْحَمْلُ عَلَى مِلْكِ أَحَدِهِمَا نِكَاحًا ثُمَّ اشْتَرَاهَا هُوَ وَآخَرُ فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ لِأَنَّ نَصِيبَهُ مِنْهَا صَارَ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَالِاسْتِيلَادُ لَا يَتَجَزَّأُ فَيَثْبُتُ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ أَيْضًا (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَرْجِعُ إلَى قَوْلِ الْقَافَةِ) وَهِيَ جَمْعُ الْقَائِفِ كَالْبَاعَةِ فِي جَمْعِ الْبَائِعِ، وَهُوَ الَّذِي يَتْبَعُ آثَارَ الْآبَاءِ فِي الْأَبْنَاءِ، مِنْ قَافَ أَثَرَهُ: إذَا اتَّبَعَهُ، وَالْقِيَافَةُ فِي بَنِي مُدْلِجٍ مِنْهُمْ الْمُجَزِّزُ (لِأَنَّ إثْبَاتَ النَّسَبِ مِنْ شَخْصَيْنِ مَعَ عِلْمِنَا أَنَّ الْوَلَدَ لَا يَتَخَلَّقُ مِنْ مَاءَيْنِ) أَيْ مِنْ مَاءِ فَحْلَيْنِ (مُتَعَذَّرٌ، فَعَمِلْنَا بِالشَّبَهِ وَقَدْ سُرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِ الْقَائِفِ فِي أُسَامَةَ) رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ وَأَسَارِيرُ وَجْهِهِ تَبْرُقُ مِنْ السُّرُورِ فَقَالَ: أَمَا عَلِمْت أَنَّ مُجَزِّزًا الْمُدْلِجِيَّ مَرَّ بِأُسَامَةَ وَزَيْدٍ وَهُمَا تَحْتَ قَطِيفَةٍ قَدْ غَطَّيَا وُجُوهَهُمَا وَأَرْجُلُهُمَا بَادِيَةٌ فَقَالَ: إنَّ هَذِهِ الْأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ» وَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ بِالشَّبَهِ بَاطِلًا لَمَا جَازَ إظْهَارُ السُّرُورِ وَلَوَجَبَ عَلَيْهِ الرَّدُّ وَالْإِنْكَارُ وَلَنَا كِتَابُ عُمَرَ إلَى شُرَيْحٍ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ: لَبَّسَا فَلُبِّسَ عَلَيْهِمَا، وَلَوْ بَيَّنَا لَبُيِّنَا لَهُمَا، هُوَ ابْنُهُمَا يَرِثَانِهِ وَيَرِثُهُمَا، وَهُوَ لِلْبَاقِي مِنْهُمَا أَيْ الْوَلَدُ يَكُونُ لِلْأَبِ الْبَاقِي مِنْ الْأَبَوَيْنِ اللَّذَيْنِ كَانَا إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا حَتَّى يَكُونَ كُلُّ الْمِيرَاثِ لِلْأَبِ الْحَيِّ دُونَ أَنْ يَكُونَ نِصْفُهُ لِوَرَثَةِ الْأَبِ الْمَيِّتِ.
وَقَوْلُهُ (وَكَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ) يَرُومُ بِهِ إبْرَازُهُ فِي مُبْرَزِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ (فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ) يَعْنِي الْمِلْكَ، وَقِيلَ: الدَّعْوَةُ.
وَقَوْلُهُ (أَحْكَامٌ مُتَجَزِّئَةٌ) يُرِيدُ بِهَا مِثْلَ النَّفَقَةِ وَوِلَايَةَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ وَالْحَضَانَةَ وَالْمِيرَاثَ، فَمَا يَقْبَلُ التَّجْزِئَةَ كَالْمِيرَاثِ يَثْبُتُ عَلَى التَّجْزِئَةِ فِي حَقِّهِمَا، وَمَا لَا يَقْبَلُهَا كَثُبُوتِ النَّسَبِ وَوِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ يَثْبُتُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَلًا كَأَنْ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ.
وَقَوْلُهُ (إلَّا إذَا كَانَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَمَا لَا يَقْبَلُهَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ كُلٍّ مِنْهُمَا كَمَلًا.
وَقَوْلُهُ (وَسُرُورُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَقَدْ سُرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا ادَّعَى الْوَلَدَ أَكْثَرُ مِنْ اثْنَيْنِ، فَجَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَنَفَاهُ أَبُو يُوسُفَ، وَجَوَّزَهُ مُحَمَّدٌ إلَى الثَّلَاثَةِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَثْبُتُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ بِقَضِيَّةِ عُمَرَ فَلَا يَتَعَدَّاهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: الثَّلَاثَةُ قَرِيبَةٌ مِنْ اثْنَيْنِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: سَبَبُ الْجَوَازِ الْمِلْكُ وَالدَّعْوَةُ وَقَدْ وُجِدَا.
وَقَوْلُهُ (فَيَصِيرُ نَصِيبُهُ مِنْهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ تَبَعًا لِوَلَدِهَا) يَعْنِي تَخْدُمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَوْمًا كَمَا كَانَتْ تَفْعَلُهُ قَبْلَ هَذَا لِأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلِاسْتِيلَادِ فِي إبْطَالِ مِلْكِ الْخِدْمَةِ، وَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا عَتَقَتْ وَلَا ضَمَانَ لِلشَّرِيكِ فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ بِالِاتِّفَاقِ لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْهُمَا بِعِتْقِهِمَا عِنْدَ الْمَوْتِ، وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَتَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا لِلشَّرِيكِ الْحَيِّ عِنْدَهُمَا، وَلَوْ أَعْتَقَهَا أَحَدُهُمَا فِي حَالِ حَيَاتِهِ عَتَقَتْ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُعْتِقِ لِشَرِيكِهِ وَلَا سِعَايَةَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ الْمُعْتِقُ نِصْفَ قِيمَتِهَا أُمَّ وَلَدٍ لِشَرِيكِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا، وَتَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا إنْ كَانَ مُعْسِرًا (وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الْعُقْرِ قِصَاصًا بِمَا لَهُ عَلَى الْآخَرِ) بِفَتْحِ اللَّامِ: أَيْ بِاَلَّذِي لَهُ.
وَقَوْلُهُ (كَمَا إذَا أَقَامَا الْبَيِّنَةَ) يَعْنِي إذَا أَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى شَيْءٍ يَكُونُ ذَلِكَ الشَّيْءُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا عَلَى السَّوَاءِ فَكَذَلِكَ هُنَا.
وَإِذَا أَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى ابْنٍ مَجْهُولِ النَّسَبِ كَانَ الْحُكْمُ هَكَذَا فَكَذَا هَاهُنَا. (وَإِذَا وَطِئَ الْمَوْلَى جَارِيَةَ مُكَاتَبِهِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُكَاتَبُ ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ تَصْدِيقُهُ اعْتِبَارًا بِالْأَبِ يَدَّعِي وَلَدَ جَارِيَةِ ابْنِهِ.
وَوَجْهُ الظَّاهِرِ وَهُوَ الْفَرْقُ أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي أَكْسَابِ مُكَاتَبِهِ حَتَّى لَا يَتَمَلَّكَهُ وَالْأَبُ يَمْلِكُ تَمَلُّكَهُ فَلَا مُعْتَبَرَ بِتَصْدِيقِ الِابْنِ.
قَالَ: (وَعَلَيْهِ عُقْرُهَا)؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَقَدَّمُهُ الْمِلْكُ؛ لِأَنَّ مَا لَهُ مِنْ الْحَقِّ كَافٍ لِصِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ لَمَا نَذْكُرُهُ.
قَالَ: (وَقِيمَةُ وَلَدِهَا)؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَغْرُورِ حَيْثُ إنَّهُ اعْتَمَدَ دَلِيلًا وَهُوَ أَنَّهُ كَسْبُ كَسْبِهِ فَلَمْ يَرْضَ بِرِقِّهِ فَيَكُونُ حُرًّا بِالْقِيمَةِ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْهُ (وَلَا تَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ)؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فِيهَا حَقِيقَةً كَمَا فِي وَلَدِ الْمَغْرُورِ (وَإِنْ كَذَّبَهُ الْمَكَاتِبُ فِي النَّسَبِ لَمْ يَثْبُتْ)؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لابد مِنْ تَصْدِيقِهِ (فَلَوْ مَلَكَهُ يَوْمًا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ)؛ لِقِيَامِ الْمُوجِبِ وَزَوَالِ حَقِّ الْمُكَاتَبِ إذْ هُوَ الْمَانِعُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الشَّرْحُ:
وَمَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ مُكَاتَبِهِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ فَإِمَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ الْمُكَاتَبُ أَوْ لَا، فَإِنْ صَدَّقَهُ ثَبَتَ النَّسَبُ وَلَا تَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لِلْمَوْلَى، وَإِنْ كَذَّبَهُ فَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ أَيْضًا (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ تَصْدِيقُهُ بَلْ يَثْبُتُ) نَسَبُهُ مِنْهُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَةِ الْمَوْلَى النَّسَبَ كَمَا فِي الْأَبِ.
وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ جَارِيَةَ الْمُكَاتَبِ كَسْبُ كَسْبِ الْمَوْلَى، وَجَارِيَةَ الِابْنِ كَسْبُ كَسْبُ الْأَبِ (وَوَجْهُ الظَّاهِرِ وَهُوَ الْفَرْقُ) بَيْنَ اسْتِيلَادِ جَارِيَةِ الِابْنِ حَيْثُ يَثْبُتُ فِيهِ النَّسَبُ بِغَيْرِ تَصْدِيقٍ وَجَارِيَةِ الْمُكَاتَبِ حَيْثُ يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّصْدِيقُ أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي أَكْسَابِ مُكَاتَبِهِ بِحَجْرِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ كَسْبَ الْمُكَاتَبِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَالدَّعْوَةُ تَصَرُّفٌ فَلَا يَمْلِكُهَا الْمَوْلَى إلَّا بِتَصْدِيقِهِ، وَالْأَبُ يَمْلِكُ تَمَلُّكَ مَالِ ابْنِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْجُرْ عَلَى نَفْسِهِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِتَصْدِيقِهِ، وَإِنَّمَا لَا تَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدِهِ إذَا صَدَّقَهُ الْمُكَاتَبُ لِأَنَّ حَقَّ الْمِلْكِ ثَابِتٌ لَهُ فِي كَسْبِهِ، وَذَلِكَ كَافٍ لِإِثْبَاتِ نَسَبِ الْوَلَدِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ بِعَجْزِهِ يَنْقَلِبُ حَقِيقَةَ مِلْكٍ فَلَا حَاجَةَ بِهِ إلَى التَّمَلُّكِ، وَلَيْسَ لِلْأَبِ فِي مَالِ الْوَلَدِ مِلْكٌ وَلَا حَقُّ مِلْكٍ، وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ النَّسَبِ مِنْهُ إلَّا بِاعْتِبَارِ تَمَلُّكِ الْجَارِيَةِ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ سَابِقًا وَوَقَعَ الْوَطْءُ فِي مِلْكِهِ وَوَلَدَتْ مِنْهُ فَكَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ.
وَقَوْلُهُ (وَعَلَيْهِ عُقْرُهَا) أَيْ عَلَى الْمَوْلَى عُقْرُ جَارِيَةِ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَتَقَدَّمُ الْوَطْءَ لِأَنَّ مَا لَهُ مِنْ حَقِّ الْمِلْكِ كَافٍ لِصِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ فَكَانَ الْوَطْءُ وَاقِعًا فِي غَيْرِ الْمِلْكِ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ الْحَدَّ أَوْ الْعُقْرَ وَقَدْ سَقَطَ الْأَوَّلُ بِالشُّبْهَةِ فَتَعَيَّنَ الثَّانِي.
وَقَوْلُهُ (لِمَا نَذْكُرُهُ) أَيْ نَذْكُرُ الْحَقَّ الَّذِي لِلْمَوْلَى عَلَى الْمُكَاتَبِ فِي كِتَابِ الْمُكَاتَبِ، قِيلَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ قَالَ مَا لَهُ مِنْ الْحَقِّ كَافٍ لِصِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ، وَالْمَفْهُومُ مِنْهُ ثُبُوتُ اسْتِيلَادِ جَارِيَةِ الْمُكَاتَبِ وَالْمَنْصُوصُ فِي الْكُتُبِ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الِاسْتِيلَادَ لَا يَثْبُتُ وَهُوَ نَفْسُهُ يُصَرِّحُ بِهَذَا بَعْدَ خَطَّيْنِ بِقَوْلِهِ وَلَا تَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ: أَيْ لِلْمَوْلَى، فَإِذَا لَمْ تَصِرْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فَمِنْ أَيْنَ يَصِحُّ الِاسْتِيلَادُ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ دَلَالَةَ لَفْظِ الِاسْتِيلَادِ عَلَى طَلَبِ نَسَبِ الْوَلَدِ أَقْوَى مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى كَوْنِهَا أُمَّ وَلَدٍ فَكَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ لِصِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ لِصِحَّةِ نَسَبِ الْوَلَدِ بِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ فَإِنَّ الْمُصَنِّفَ أَجَلُّ قَدْرًا مِنْ أَنْ يَقَعَ بَيْنَ كَلَامَيْهِ فِي سَطْرَيْنِ تَنَاقُضٌ.
وَقَوْلُهُ (وَقِيمَةُ وَلَدِهَا) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ عُقْرُهَا.
وَقَوْلُهُ (وَهُوَ أَنَّهُ) قِيلَ أَيْ الْوَلَدُ: يَعْنِي أَنَّ الْوَلَدَ حَصَلَ لَهُ (مِنْ كَسْبِ كَسْبِهِ) فَإِنَّ الْمُكَاتَبَ كَسْبُهُ، وَجَارِيَةَ الْمُكَاتَبِ كَسْبُ كَسْبِهِ، وَفِيهِ نَوْعُ تَكَلُّفٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَنَّهُ: أَيْ الْجَارِيَةُ كَسْبُ كَسْبِهِ، وَذَكَرَ الضَّمِيرَ نَظَرًا إلَى الْخَبَرِ وَهُوَ كَسْبُ الضَّمِيرِ فِي رِقِّهِ يَعُودُ إلَى الْوَلَدِ.
قِيلَ فِي قَوْلِهِ كَمَا فِي وَلَدِ الْمَغْرُورِ نَظَرٌ، وَحَقُّ الْكَلَامِ كَمَا فِي الْمَغْرُورِ بِدُونِ ذِكْرِ الْوَلَدِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْجَارِيَةَ لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لِلْمَوْلَى لِعَدَمِ الْمِلْكِ فِيهَا حَقِيقَةً كَمَا أَنَّ الْجَارِيَةَ لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدِ الْمَغْرُورِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ فِيهَا.
وَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ كَمَا فِي وَلَدِ الْمَغْرُورِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ فَيَكُونُ حُرًّا بِالْقِيمَةِ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْهُ وَحِينَئِذٍ لابد مِنْ ذِكْرِ الْوَلَدِ وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ وَلَا تَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فِيهَا حَقِيقَةً، فَتَقْدِيرُهُ كَمَا فِي أُمِّ وَلَدِ الْمَغْرُورِ.
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ كَذَّبَهُ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُكَاتَبُ.
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ مَلَكَهُ) يَعْنِي وَلَدَ الْجَارِيَةِ الَّذِي ادَّعَاهُ وَكَذَّبَهُ الْمُكَاتَبُ (يَوْمًا) مِنْ الدَّهْرِ (ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ لِقِيَامِ الْمُوجِبِ) وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِالِاسْتِيلَادِ (وَزَوَالُ الْمَانِعِ) وَهُوَ حَقُّ الْمُكَاتَبِ.
قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: وَإِذَا مَلَكَ الْمَوْلَى.
الْجَارِيَةَ: أَيْ فِي صُورَةِ التَّصْدِيقِ يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا وَلَهُ مِنْهَا وَلَدٌ ثَابِتُ النَّسَبِ، وَإِنْ كَذَّبَهُ الْمُكَاتَبُ ثُمَّ مَلَكَهُ يَوْمًا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ لِأَنَّ حَقَّ الْمِلْكِ لَهُ فِي الْمَحَلِّ كَانَ مُثْبِتًا لِلنَّسَبِ مِنْهُ عِنْدَ صِحَّةِ الدَّعْوَةِ: إلَّا أَنَّ بِمُعَارَضَةِ الْمُكَاتَبِ إيَّاهُ بِالتَّكْذِيبِ امْتَنَعَ صِحَّةُ دَعْوَتِهِ، وَقَدْ زَالَتْ هَذِهِ الْمُعَارَضَةُ حِينَ مَلَكَهُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَآبُ.

.كِتَابُ الْأَيْمَانِ:

قَالَ: (الْأَيْمَانُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ) الْيَمِينُ الْغَمُوسُ وَيَمِينٌ مُنْعَقِدَةٌ، وَيَمِينُ لَغْوٍ.
(فَالْغَمُوسُ هُوَ الْحَلِفُ عَلَى أَمْرٍ مَاضٍ يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ فِيهِ، فَهَذِهِ الْيَمِينُ يَأْثَمُ فِيهَا صَاحِبُهَا) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ حَلَفَ كَاذِبًا أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ» (وَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا إلَّا التَّوْبَةَ وَالِاسْتِغْفَارَ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ: فِيهَا الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِرَفْعِ ذَنْبٍ هَتَكَ حُرْمَةَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ تَحَقَّقَ بِالِاسْتِشْهَادِ بِاَللَّهِ كَاذِبًا فَأَشْبَهَ الْمَعْقُودَةَ.
وَلَنَا أَنَّهَا كَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ، وَالْكَفَّارَةُ عِبَادَةٌ تَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ، وَيُشْتَرَطُ فِيهَا النِّيَّةُ فَلَا تُنَاطُ بِهَا، بِخِلَافِ الْمَعْقُودَةِ لِأَنَّهَا مُبَاحَةٌ، وَلَوْ كَانَ فِيهَا ذَنْبٌ فَهُوَ مُتَأَخِّرٌ مُتَعَلِّقٌ بِاخْتِيَارٍ مُبْتَدَإٍ، وَمَا فِي الْغَمُوسِ مُلَازِمٌ فَيَمْتَنِعُ الْإِلْحَاقُ.
الشَّرْحُ:
كِتَابُ الْأَيْمَانِ: الْمُنَاسَبَاتُ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا بَيْنَ الْكُتُبِ إلَى هَاهُنَا اقْتَضَتْ التَّرْتِيبَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَذَكَرَ الْأَيْمَانَ عَقِيبَ الْعَتَاقِ لِمُنَاسَبَتِهَا لَهُ فِي عَدَمِ تَأْثِيرِ الْهَزْلِ وَالْإِكْرَاهِ فِيهِمَا.
وَالْيَمِينُ فِي اللُّغَةِ الْقُوَّةُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} وَفِي الشَّرِيعَةِ: عَقْدٌ قَوِيَ بِهِ عَزْمُ الْحَالِفِ عَلَى الْفِعْلِ أَوْ التَّرْكِ.
وَشَرْطُهَا كَوْنُ الْحَالِفِ مُكَلَّفًا.
وَسَبَبُهَا إرَادَةُ تَحْقِيقِ مَا قَصَدَهُ.
وَرُكْنُهَا اللَّفْظُ الَّذِي يَنْعَقِدُ بِهِ الْيَمِينُ.
وَحُكْمُهُ الْبَرُّ فِيمَا يَجِبُ فِيهِ الْبَرُّ وَالْكَفَّارَةُ عِنْدَ فَوَاتِهِ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ فِيمَا يَجِبُ الْبَرُّ فِيهِ لِأَنَّ مِنْ الْأَيْمَانِ مَا يَجِبُ فِيهِ الْحِنْثُ عَلَى مَا سَيَأْتِي (وَالْأَيْمَانُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ) لِأَنَّ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِيهَا مُؤَاخَذَةٌ أَوْ لَا؛ فَإِنْ كَانَتْ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ دُنْيَوِيَّةً فَهِيَ الْمُنْعَقِدَةُ، أَوْ أُخْرَوِيَّةً فَهِيَ الْغَمُوسُ؛ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَهِيَ اللَّغْوُ (فَالْغَمُوسُ هِيَ الْحَلِفُ عَلَى أَمْرٍ مَاضٍ يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ فِيهِ) وَذِكْرُ الْمُضِيِّ لَيْسَ بِشَرْطٍ بَلْ هُوَ بِنَاءٌ عَلَى الْغَالِبِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا قَالَ وَاَللَّهِ إنَّهُ لَزَيْدٌ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِزَيْدٍ كَانَ غَمُوسًا (فَهَذِهِ الْيَمِينُ يَأْثَمُ فِيهَا صَاحِبُهَا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلَفَ كَاذِبًا أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ») وَلَوْلَا الْإِثْمُ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ، وَاسْمُهُ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَاهُ لِأَنَّهُ مَا سُمِّيَ غَمُوسًا إلَّا لِأَنَّهَا تَغْمِسُ صَاحِبَهَا فِي الْإِثْمِ ثُمَّ فِي النَّارِ.
وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ: الْيَمِينُ الْغَمُوسُ لَيْسَتْ بِيَمِينٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّ الْيَمِينَ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ وَهَذِهِ كَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ، وَالْكَبِيرَةُ ضِدُّ الْمَشْرُوعِ، وَلَكِنْ سَمَّاهُ يَمِينًا مَجَازًا لِأَنَّ ارْتِكَابَ هَذِهِ الْكَبِيرَةِ بِاسْتِعْمَالِ صُورَةِ الْيَمِينِ كَمَا سَمَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَ الْحُرِّ بَيْعًا مَجَازًا لِأَنَّ ارْتِكَابَ تِلْكَ الْكَبِيرَةِ بِاسْتِعْمَالِ صُورَةِ الْبَيْعِ وَالتَّعْرِيفُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ (وَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا، لَكِنْ فِيهَا التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِيهَا الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ شُرِعَتْ لِرَفْعِ ذَنْبِ هَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ تَحَقَّقَ) ذَلِكَ الذَّنْبُ (بِالِاسْتِشْهَادِ بِاَللَّهِ كَاذِبًا) فَلَا بُدَّ مِنْ رَفْعِهِ وَذَلِكَ بِالْكَفَّارَةِ كَمَا فِي الْمَعْقُودَةِ (وَلَنَا أَنَّهَا) أَيْ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ (كَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «خَمْسٌ مِنْ الْكَبَائِرِ لَا كَفَّارَةَ فِيهِنَّ» وَذَكَرَ مِنْهَا الْغَمُوسَ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ لَا تُنَاطُ بِهَا الْعِبَادَةُ لِمَا أَنَّ أَسْبَابَ الْعِبَادَاتِ لابد وَأَنْ تَكُونَ أُمُورًا مُبَاحَةً كَمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ (وَالْكَفَّارَةُ عِبَادَةٌ حَتَّى تَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ، وَيُشْتَرَطُ فِيهَا النِّيَّةُ فَلَا تُنَاطُ الْغَمُوسُ بِهَا، بِخِلَافِ الْمَعْقُودَةِ لِأَنَّهَا مُبَاحَةٌ) فَجَازَ أَنْ تُنَاطَ بِهَا الْعِبَادَةُ.
وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلِ لَوْ كَانَ مَا ذَكَرْتُمْ صَحِيحًا لَمَا وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْمُظَاهِرِ لِكَوْنِ الظِّهَارِ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا وَهَذَا نَقْضٌ إجْمَالِيٌّ.
الثَّانِي لَمَّا وَجَبَتْ بِالْأَدْنَى وَجَبَتْ بِالْأَعْلَى بِطَرِيقِ الْأَوْلَى الثَّالِثِ الْكَبِيرَةُ سَيِّئَةٌ وَالْعِبَادَةُ حَسَنَةٌ وَاتِّبَاعُهَا إيَّاهَا مُبَاحٌ لَهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا» وَهَاتَانِ مُعَارَضَتَانِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَمْ تَجِبْ بِالظِّهَارِ بَلْ بِالْعَوْدِ الَّذِي هُوَ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ وَهُوَ مُبَاحٌ.
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ رَفْعِ الْأَضْعَفِ بِشَيْءٍ رَفْعُ الْأَقْوَى بِهِ وَعَنْ الثَّالِثِ بِأَنَّ الْحَسَنَةَ تَمْحُو السَّيِّئَةَ الْمُقَابِلَةَ لَهَا، وَمُقَابَلَةُ هَذِهِ الْحَسَنَةِ لِهَذِهِ السَّيِّئَةِ مَمْنُوعَةٌ بَلْ الْمَظْنُونُ خِلَافُ الْمُقَابَلَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «خَمْسٌ مِنْ الْكَبَائِرِ لَا كَفَّارَةَ فِيهِنَّ» الْحَدِيثَ.
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ كَانَ فِيهَا ذَنْبٌ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الْمُبَاحُ هُوَ مَا لَا يَكُونُ فِيهِ ذَنْبٌ وَالْمُنْعَقِدَةُ فِيهَا ذَنْبٌ فَلَا تَكُونُ مُبَاحَةً فَلَا تُنَاطُ بِهَا الْعِبَادَةُ كَمَا ذَكَرْتُمْ.
وَتَقْرِيرُهُ: لَوْ كَانَ فِي الْمُنْعَقِدَةِ ذَنْبٌ لَهَتَكَ حُرْمَةَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ وَقْتِ الِانْعِقَادِ بِاخْتِيَارٍ مُبْتَدَإٍ لَمْ يَدْخُلْ فِي السَّيِّئَةِ وَيَرْفَعُهَا عِنْدَ الطَّرَيَانِ، بِخِلَافِ الْغَمُوسِ فَإِنَّ الذَّنْبَ فِيهَا لَازِمٌ لَا يُفَارِقُهُ لَا ابْتِدَاءً وَلَا انْتِهَاءً (فَيَمْتَنِعُ الْإِلْحَاقُ) أَيْ إلْحَاقُ الْغَمُوسِ بِالْمُنْعَقِدَةِ.
وَفِي هَذَا الْجَوَابِ تَلْوِيحٌ إلَى الْجَوَابِ عَنْ قَوْلِهِ فَأَشْبَهَ الْمَعْقُودَةَ. (وَالْمُنْعَقِدَةُ مَا يَحْلِفُ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَنْ يَفْعَلَهُ أَوْ لَا يَفْعَلَهُ وَإِذَا حَنِثَ فِي ذَلِكَ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَدْتُمْ الْأَيْمَانَ} وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا.
الشَّرْحُ:
(وَالْمُنْعَقِدَةُ مَا يَحْلِفُ عَلَى أَمْرِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ) وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ. (وَالْيَمِينُ اللَّغْوُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى أَمْرٍ مَاضٍ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ كَمَا قَالَ وَالْأَمْرُ بِخِلَافِهِ فَهَذِهِ الْيَمِينُ نَرْجُو أَنْ لَا يُؤَاخِذَ اللَّهُ بِهِ صَاحِبَهَا) وَمِنْ اللَّغْوِ أَنْ يَقُولَ: وَاَللَّهِ إنَّهُ لَزَيْدٌ وَهُوَ يَظُنُّهُ زَيْدًا وَإِنَّمَا هُوَ عَمْرٌو، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ} الْآيَةَ، إلَّا أَنَّهُ عَلَّقَهُ بِالرَّجَاءِ لِلِاخْتِلَافِ فِي تَفْسِيرِهِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنَّهُ عَلَّقَهُ بِالرَّجَاءِ) إشَارَةٌ إلَى مَا قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى تَعْلِيقِ مُحَمَّدٍ نَفْيَ الْمُؤَاخَذَةِ فِي هَذَا النَّوْعِ بِالرَّجَاءِ بِقَوْلِهِ نَرْجُو أَنْ لَا يُؤَاخِذَ اللَّهُ بِهَا صَاحِبَهَا وَعَدَمُ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْيَمِينِ اللَّغْوِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ وَمَا عُرِفَ بِالنَّصِّ فَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ؟ قُلْنَا نَعَمْ، وَلَكِنْ صُورَةُ تِلْكَ الْيَمِينِ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، وَإِنَّمَا عَلَّقَ بِالرَّجَاءِ نَفْيَ الْمُؤَاخَذَةِ فِي اللَّغْوِ بِالصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا، وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ بِالنَّصِّ، وَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ تَفْسِيرِ اللَّغْوِ مَرْوِيٌّ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَبِي أَوْفَى، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ.
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ فِي كَلَامِهِ لَا وَاَللَّهِ وَبَلَى وَاَللَّهِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِنَّ عِنْدَهُ اللَّغْوَ مَا يَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْمَاضِي أَوْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ اللَّغْوِ: لَا وَاَللَّهِ وَبَلَى وَاَللَّهِ.
وَتَأْوِيلُهُ عِنْدَنَا فِيمَا يَكُونُ خَبَرًا عَنْ الْمَاضِي، فَإِنَّ اللَّغْوَ مَا يَكُونُ خَالِيًا عَنْ الْفَائِدَةِ وَالْخَبَرُ فِي الْمَاضِي خَالٍ عَنْ فَائِدَةِ الْيَمِينِ لِأَنَّ فَائِدَتَهَا الْمَنْعُ أَوْ الْحَمْلُ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمَاضِي فَكَانَ لَغْوًا، أَمَّا فِي الْخَبَرِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَعَدَمُ الْقَصْدِ لَا يَعْدَمُ فَائِدَةَ الْيَمِينِ، وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِأَنَّ الْهَزْلَ وَالْجِدَّ فِي الْيَمِينِ سَوَاءٌ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ فِي حَصْرِ الْأَيْمَانِ عَلَى الثَّلَاثَةِ عَلَى التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ نَظَرٌ، لِأَنَّ قَوْلَ الرَّجُلِ وَاَللَّهِ إنِّي لَقَائِمٌ الْآنَ فِي حَالِ قِيَامِهِ مَثَلًا يَمِينٌ، وَلَيْسَ مِنْ الضُّرُوبِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ عَلَى التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يَلْتَزِمَ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِيَمِينٍ عَلَى هَذَا الِاصْطِلَاحِ لِمَا مَرَّ مِنْ تَعْرِيفِهَا، وَإِنَّمَا هَذَا قَسَمٌ وَهُوَ جُمْلَةٌ إنْشَائِيَّةٌ أُكِّدَتْ بِهَا جُمْلَةٌ أُخْرَى. قَالَ: (وَالْقَاصِدُ فِي الْيَمِينِ وَالْمُكْرَهِ وَالنَّاسِي سَوَاءٌ) حَتَّى تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالْيَمِينُ» وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُخَالِفُنَا فِي ذَلِكَ، وَسَنُبَيِّنُ فِي الْإِكْرَاهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّرْحُ:
(وَالْقَاصِدُ فِي الْيَمِينِ وَالْمُكْرَهُ وَالنَّاسِي) وَهُوَ أَنْ يَذْهَلَ عَنْ التَّلَفُّظِ بِالْيَمِينِ ثُمَّ يَتَذَكَّرَ أَنَّهُ تَلَفَّظَ بِالْيَمِينِ نَاسِيًا.
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ ذِكْرُ الْخَاطِئِ مَكَانَ النَّاسِي، وَهُوَ أَنْ يُرِيدَ أَنْ يُسَبِّحَ مَثَلًا فَيَجْرِيَ عَلَى لِسَانِهِ الْيَمِينُ (سَوَاءٌ حَتَّى تَجِبَ الْكَفَّارَةُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالْيَمِينُ») فَإِنْ قُلْت: الْيَمِينُ عَقْدٌ يَقْوَى بِهَا عَزْمُ الْحَالِفِ عَلَى الْفِعْلِ أَوْ التَّرْكِ فَهُوَ مِنْ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ فَكَيْفَ يَكُونُ النَّاسِي فِيهِ كَالْقَاصِدِ؟ قُلْت: ذَلِكَ هُوَ الْقِيَاسُ وَقَدْ تُرِكَ بِالنَّصِّ.
لَا يُقَالُ: النَّصُّ مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» الْحَدِيثَ لِأَنَّهُ مُجْمَلٌ وَنَصُّ الْيَمِينِ مُفَسِّرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُنَا فِي ذَلِكَ) يَعْنِي فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْمُكْرَهِ وَالنَّاسِي (وَسَنُبَيِّنُ فِي الْإِكْرَاهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى). (وَمَنْ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ مُكْرَهًا أَوْ نَاسِيًا فَهُوَ سَوَاءٌ)؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْحَقِيقِيَّ لَا يَنْعَدِمُ بِالْإِكْرَاهِ وَهُوَ الشَّرْطُ، وَكَذَا إذَا فَعَلَهُ وَهُوَ مَغْمِيٌّ عَلَيْهِ أَوْ مَجْنُونٌ لِتَحَقُّقِ الشَّرْطِ حَقِيقَةً، وَلَوْ كَانَتْ الْحِكْمَةُ رَفْعَ الذَّنْبِ فَالْحُكْمُ يُدَارُ عَلَى دَلِيلِهِ وَهُوَ الْحِنْثُ لَا عَلَى حَقِيقَةِ الذَّنْبِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الشَّرْحُ:
(وَمَنْ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ نَاسِيًا أَوْ مُكْرَهًا فَهُوَ سَوَاءٌ) أَيْ فَهُوَ وَمَنْ فَعَلَهُ مُخْتَارًا سَوَاءٌ.
تَرَكَهُ لِدَلَالَةِ فَحْوَى الْكَلَامِ عَلَيْهِ لِأَنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ وُجُودُ الْفِعْلِ حَقِيقَةً وَقَدْ وُجِدَ لِأَنَّهُ لَا يَنْعَدِمُ بِالْإِكْرَاهِ، (وَكَذَا إذَا فَعَلَهُ وَهُوَ مُغْمًى عَلَيْهِ أَوْ مَجْنُونٌ لِتَحَقُّقِ الشَّرْطِ حَقِيقَةً) وَهُوَ وُجُودُ الْفِعْلِ الْحِسِّيِّ.
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ كَانَتْ الْحِكْمَةُ رَفْعَ الذَّنْبِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الْحِكْمَةُ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ رَفْعُ الذَّنْبِ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالْمَجْنُونُ لَا ذَنْبَ لَهُمَا لِعَدَمِ فَهْمِ الْخِطَابِ فَكَيْفَ تَجِبُ عَلَيْهِمَا الْكَفَّارَةُ.
وَتَقْرِيرُهُ: الْحُكْمُ وَهُوَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ دَائِرٌ مَعَ دَلِيلِ الذَّنْبِ وَهُوَ الْحِنْثُ لَا مَعَ حَقِيقَةِ الذَّنْبِ، كَوُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ دَائِرٌ مَعَ دَلِيلِ شَغْلِ الرَّحِمِ وَهُوَ اسْتِحْدَاثُ الْمِلْكِ لَا مَعَ حَقِيقَةِ الشَّغْلِ حَتَّى أَنَّهُ يَجِبُ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الشَّغْلُ أَصْلًا بِأَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِكْرًا أَوْ اشْتَرَاهَا مِنْ امْرَأَةٍ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إقَامَةُ الدَّلِيلِ مَقَامَ الْمَدْلُولِ لِدَوَرَانِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ الْمَدْلُولُ أَمْرًا خَفِيًّا فِي الْأَصْلِ فَيَدُورُ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يُتَصَوَّرْ الْمَدْلُولُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ كَمَا ذَكَرْت مِنْ شَغْلِ الرَّحِمِ، وَالْمَدْلُولُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَهُوَ الذَّنْبُ عِنْدَ الْحِنْثِ مُحَقَّقٌ ظَاهِرٌ فَلَا يَصِحُّ إقَامَةُ الدَّلِيلِ مَقَامَ الْمَدْلُولِ.