فصل: كِتَابُ الْوَقْفِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.(فَصْلٌ فِي الشَّرِكَةِ الْفَاسِدَةِ)

(وَلَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ فِي الِاحْتِطَابِ وَالِاصْطِيَادِ، وَمَا اصْطَادَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْ احْتَطَبَهُ فَهُوَ لَهُ دُونَ صَاحِبِهِ)، وَعَلَى هَذَا الِاشْتِرَاكُ فِي أَخْذِ كُلِّ شَيْءٍ مُبَاحً؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ مُتَضَمِّنَةٌ مَعْنَى الْوَكَالَةِ، وَالتَّوْكِيلُ فِي أَخْذِ الْمَالِ الْمُبَاحِ بَاطِلٌ لِأَنَّ أَمْرَ الْمُوَكِّلِ بِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَالْوَكِيلُ يَمْلِكُهُ بِدُونِ أَمْرِهِ فَلَا يَصْلُحُ نَائِبًا عَنْهُ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لَهُمَا بِالْأَخْذِ وَإِحْرَازِ الْمُبَاحِ، فَإِنْ أَخَذَاهُ مَعًا فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَإِنْ أَخَذَهُ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَعْمَلْ الْآخَرُ شَيْئًا فَهُوَ لِلْعَامِلِ، وَإِنْ عَمِلَ أَحَدُهُمَا وَأَعَانَهُ الْآخَرُ فِي عَمَلِهِ بِأَنْ قَلَعَهُ أَحَدُهُمَا وَجَمَعَهُ الْآخَرُ، أَوْ قَلَعَهُ وَجَمَعَهُ وَحَمَلَهُ الْآخَرُ فَلِلْمُعِينِ أَجْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يُجَاوَزُ بِهِ نِصْفُ ثَمَنِ ذَلِكَ، وَقَدْ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ فِي الشَّرِكَةِ الْفَاسِدَةِ) وَجْهُ فَصْلِ الْفَاسِدِ عَنْ الصَّحِيحِ وَتَأْخِيرُهُ عَنْهُ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ.
قَوْلُهُ لِأَنَّ أَمْرَ الْمُوَكَّلِ بِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ وَالْوَكِيلُ يَمْلِكُهُ دَلِيلَانِ عَلَى الْمَطْلُوبِ.
تَقْرِيرُ الْأَوَّلِ الْمُدَّعِي أَنَّ التَّوْكِيلَ فِي أَخْذِ الْمُبَاحِ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي صِحَّةَ أَمْرِ الْمُوَكِّلِ بِمَا وُكِّلَ بِهِ وَهُوَ أَخْذُ الْمُبَاحِ، وَأَمْرُ الْمُوَكِّلِ بِأَخْذِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ صَادَفَ غَيْرَ مَحَلِّ وِلَايَتِهِ.
وَتَقْرِيرُ الثَّانِي التَّوْكِيلَ بِأَخْذِ الْمُبَاحِ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَمْلِكُهُ بِدُونِ أَمْرِ الْمُوَكِّلِ، وَمَنْ تَمَلَّكَ شَيْئًا بِدُونِ أَمْرِ الْمُوَكِّلِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ نَائِبًا عَنْهُ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ إثْبَاتُ وِلَايَةِ التَّصَرُّفِ فِيمَا هُوَ ثَابِتٌ لِلْمُوَكِّلِ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ لِلْوَكِيلِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَنْ يَمْلِكُ بِدُونِ أَمْرِهِ لِئَلَّا يَلْزَمَ إثْبَاتُ الثَّابِتِ.
وَنُوقِضَ الثَّانِي بِالتَّوْكِيلِ بِشِرَاءِ عَبْدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، فَإِنَّ الْوَكِيلَ يَمْلِكُهُ بِدُونِ أَمْرِ الْمُوَكِّلِ بِالشِّرَاءِ لِنَفْسِهِ قَبْلَ التَّوْكِيلِ وَبَعْدَهُ وَمَعَ ذَلِكَ صَلُحَ أَنْ يَكُونَ نَائِبًا عَنْ الْمُوَكِّلِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ مَعْنَاهُ يَمْلِكُهُ بِدُونِ أَمْرِ الْمُوَكِّلِ بِلَا عَقْدٍ، وَصُورَةُ النَّقْضِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ إلَّا بِالشِّرَاءِ.
وَقَوْلُهُ (فَلِلْمُعَيَّنِ أَجْرُ مِثْلِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَتَجَاوَزُ بِهِ نِصْفَ ثَمَنِ ذَلِكَ وَقَدْ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ) أَيْ فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ مِنْ الْمَبْسُوطِ.
قِيلَ تَقْدِيمُ ذِكْرِ مُحَمَّدٍ عَلَى أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي الْكِتَابِ، وَكَذَا تَقْدِيمُ دَلِيلِ أَبِي يُوسُفَ عَلَى دَلِيلِ مُحَمَّدٍ فِي الْمَبْسُوطِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ اخْتَارُوا قَوْلَ مُحَمَّدٍ.
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ رَضِيَ بِنِصْفِ الْمَجْمُوعِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَجْهُولًا فِي الْحَالِ لِأَنَّهُ يُعْلَمُ فِي الْمَآلِ وَكَانَتْ جَهَالَتُهُ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ فَإِنَّهُ بِعَرْضِيَّةِ أَنْ يَصِيرَ مَعْلُومًا عِنْدَ الْجَمْعِ، فَإِذَا كَانَ رَاضِيًا فِي الِابْتِدَاءِ بِنِصْفِ الْمَجْمُوعِ وَقَدْ فَسَدَ الْعَقْدُ كَانَ رَاضِيًا بِنِصْفِ ثَمَنِ الْمَجْمُوعِ فِي الِانْتِهَاءِ فَلَا يُجَاوِزُ بِهِ نِصْفَهُ لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ رِضَاهُ فِي إسْقَاطِ حَقِّهِ عَنْ مُطَالَبَةِ الزِّيَادَةِ.
وَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَقْرِيرُهُ أَيْ تَقْرِيرُ أَجْرِ الْمِثْلِ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْمَجْمُوعِ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ جَهَالَةً مُتَفَاحِشَةً جِنْسًا وَقَدْرًا حَيْثُ لَا يُدْرَى أَيَّ نَوْعٍ مِنْ الْحَطَبِ يُصِيبَانِ وَأَيَّ قَدْرٍ مِنْهُ يَجْمَعَانِ، وَلَا يَدْرِيَانِ أَيْضًا هَلْ يَجِدَانِ مَا عَقَدَا عَلَيْهِ عَقْدَ الشَّرِكَةِ أَوْ لَا يَجِدَانِهِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْمُعَيَّنَ رَضِيَ بِنِصْفِ الْمُسَمَّى مِنْ الْحَطَبِ أَوْ غَيْرِهِ لِأَنَّ الرِّضَا بِالْمَجْهُولِ لَا يَتَحَقَّقُ فَيَجِبُ الْأَجْرُ بَالِغًا مَا بَلَغَ، أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَوْ أَعَانَهُ عَلَيْهِ فَلَمْ يُصِيبَا شَيْئًا كَانَ لَهُ الْأَجْرُ بَالِغًا مَا بَلَغَ فَهَاهُنَا أَوْلَى لِأَنَّهُمَا أَصَابَا. قَالَ (وَإِذَا اشْتَرَكَا وَلِأَحَدِهِمَا بَغْلٌ وَلِلْآخَرِ رَاوِيَةٌ يَسْتَقِي عَلَيْهَا الْمَاءَ فَالْكَسْبُ بَيْنَهُمَا لَمْ تَصِحَّ الشَّرِكَةُ، وَالْكَسْبُ كُلُّهُ لِلَّذِي اسْتَقَى، وَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ الرَّاوِيَةِ إنْ كَانَ الْعَامِلُ صَاحِبَ الْبَغْلِ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبَ الرَّاوِيَةِ فَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ الْبَغْلِ) أَمَّا فَسَادُ الشَّرِكَةِ فَلِانْعِقَادِهَا عَلَى إحْرَازِ الْمُبَاحِ وَهُوَ الْمَاءُ، وَأَمَّا وُجُوبُ الْأَجْرِ فَلِأَنَّ الْمُبَاحَ إذَا صَارَ مِلْكًا لِلْمُحْرِزِ وَهُوَ الْمُسْتَقِي، وَقَدْ اسْتَوْفَى مَنَافِعَ مِلْكِ الْغَيْرِ وَهُوَ الْبَغْلُ أَوْ الرَّاوِيَةُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَيَلْزَمُهُ أَجْرُهُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا اشْتَرَكَا وَلِأَحَدِهِمَا بَغْلٌ وَلِلْآخَرِ رَاوِيَةٌ) الرَّاوِيَةُ فِي الْأَصْلِ بَعِيرُ السِّقَاءِ لِأَنَّهُ يَرْوِي الْمَاءَ: أَيْ يَحْمِلُهُ ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى اُسْتُعْمِلَ فِي الْمَزَادَةِ وَهِيَ الْمُرَادَةُ هُنَا.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمَزَادَةُ لَا تَكُونُ إلَّا مِنْ جِلْدَيْنِ يُقَامُ بِجِلْدٍ ثَالِثٍ بَيْنَهُمَا لِيَتَّسِعَ وَالْجَمْعُ مَزَادٌ وَمَزَايِدُ. (وَكُلُّ شَرِكَةٍ فَاسِدَةٍ فَالرِّبْحُ فِيهِمَا عَلَى قَدْرِ الْمَالِ، وَيَبْطُلُ شَرْطُ التَّفَاضُلِ) لِأَنَّ الرِّبْحَ فِيهِ تَابِعٌ لِلْمَالِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ، كَمَا أَنَّ الرِّيعَ تَابِعٌ لِلْبَذْرِ فِي الزِّرَاعَةِ، وَالزِّيَادَةُ إنَّمَا تُسْتَحَقُّ بِالتَّسْمِيَةِ، وَقَدْ فَسَدَتْ فَبَقِيَ الِاسْتِحْقَاقُ عَلَى قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الرِّبْحَ فِيهِ تَابِعٌ لِلْمَالِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ) فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الرِّبْحَ عِنْدَنَا فَرْعٌ لِلْعَقْدِ كَمَا مَرَّ، وَكُلُّ فَرْعٍ تَابِعٌ، وَكَوْنُهُ تَابِعًا لِلْمَالِ إنَّمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا تَقَدَّمَ فَكَانَ الْكَلَامُ مُتَنَاقِضًا.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ تَابِعٌ لِلْعَقْدِ إذَا كَانَ الْعَقْدُ مَوْجُودًا، وَهَاهُنَا قَدْ فَسَدَ الْعَقْدُ فَيَكُونُ تَابِعًا لِلْمَالِ لِأَنَّهُ شَرْطٌ، فَإِنَّ الْعِلَّةَ إذَا لَمْ تَصْلُحْ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا تُضَافُ إلَى الشَّرْطِ.
وَالرِّيعُ عِبَارَةٌ عَنْ الزِّيَادَةِ، يُقَالُ: أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ رِيعًا: أَيْ غَلَّةً لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ. (وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ أَوْ ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَتْ الشَّرِكَةُ) لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ، وَلَا بُدَّ مِنْهَا لِتَتَحَقَّقَ الشَّرِكَةُ عَلَى مَا مَرَّ، وَالْوَكَالَةُ تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ، وَكَذَا بِالِالْتِحَاقِ مُرْتَدًّا إذَا قَضَى الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا عَلِمَ الشَّرِيكُ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ؛ لِأَنَّهُ عَزْلٌ حُكْمِيٌّ، وَإِذَا بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ بَطَلَتْ الشَّرِكَةُ، بِخِلَافِ مَا إذَا فَسَخَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الشَّرِكَةَ وَمَالُ الشَّرِكَةِ دَرَاهِمُ وَدَنَانِيرُ حَيْثُ يَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِ الْآخَرِ لِأَنَّهُ عَزْلٌ قَصْدِيٌّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ) إشَارَةٌ إلَى مَا ذَكَرَهُ فِي بَابِ أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّينَ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا وَحُكِمَ بِلِحَاقِهِ إلَى قَوْلِهِ وَلَنَا أَنَّهُ بِاللِّحَاقِ صَارَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَهْم أَمْوَاتٌ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ إلَخْ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْمَوْتَ (عَزْلٌ حُكْمِيٌّ) لِكَوْنِ مَوْتِ الْمُوَكِّلِ يُوجِبُ عَزْلَ الْوَكِيلِ حُكْمًا لِتَحْوِيلِ مِلْكِهِ إلَى وَرَثَتِهِ فَلَا يَتَوَقَّفُ حُكْمُهُ عَلَى ثُبُوتِ الْعِلْمِ بِهِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَكِيلَ يَنْعَزِلُ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ بِمَوْتِهِ.
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ بَطَلَتْ الشَّرِكَةُ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ وَالْوَكَالَةُ تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْوَكَالَةَ تَثْبُتُ فِي ضِمْنِ الشَّرِكَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتْ تَابِعَةً لَهَا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ بُطْلَانِ التَّابِعِ بُطْلَانُ الْمَتْبُوعِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَابِعَةٌ لِلشَّرِكَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا شَرْطُهَا لَا تَصِحُّ الشَّرِكَةُ بِدُونِ الْوَكَالَةِ، أَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى ذَلِكَ آنِفًا بِقَوْلِهِ وَلَا بُدَّ مِنْهَا أَيْ الْوَكَالَةِ لِتَتَحَقَّقَ الشَّرِكَةُ، وَإِذَا كَانَتْ شَرْطًا لَا يَتَحَقَّقُ بَقَاءُ الْمَشْرُوطِ بِدُونِهِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْفَسْخَ (عَزْلٌ قَصْدِيٌّ) فَيَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ.

.(فَصْلٌ) كيفة إخراج الزكاة في الشركة:

وَلَيْسَ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يُؤَدِّيَ زَكَاةَ مَالِ الْآخَرِ إلَّا بِإِذْنِهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ التِّجَارَةِ، فَإِنْ أَذِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ أَنْ يُؤَدِّيَ زَكَاتَهُ.
فَإِنْ أَدَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَالثَّانِي ضَامِنٌ عَلِمَ بِأَدَاءِ الْأَوَّلِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةِ.
وَقَالَا: لَا يَضْمَنُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ وَهَذَا إذَا أَدَّيَا عَلَى التَّعَاقُبِ، أَمَّا إذَا أَدَّيَا مَعًا ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَصِيبَ صَاحِبِهِ.
وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ الْمَأْمُورُ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ إذَا تَصَدَّقَ عَلَى الْفَقِيرِ بَعْدَمَا أَدَّى الْآمِرُ بِنَفْسِهِ.
لَهُمَا أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّمْلِيكِ مِنْ الْفَقِيرِ، وَقَدْ أَتَى بِهِ فَلَا يَضْمَنُ لِلْمُوَكِّلِ، وَهَذَا لِأَنَّ فِي وُسْعِهِ التَّمْلِيكَ لَا وُقُوعَهُ زَكَاةً لِتَعَلُّقِهِ بِنِيَّةِ الْمُوَكِّلِ، وَإِنَّمَا يَطْلُبُ مِنْهُ مَا فِي وُسْعِهِ وَصَارَ كَالْمَأْمُورِ بِذَبْحِ دَمِ الْإِحْصَارِ إذَا ذَبَحَ بَعْدَمَا زَالَ الْإِحْصَارُ وَحَجَّ الْآمِرُ لَمْ يَضْمَنْ الْمَأْمُورُ عَلِمَ أَوْ لَا.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ وَالْمُؤَدَّى لَمْ يَقَعْ زَكَاةً فَصَارَ مُخَالِفًا، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْأَمْرِ إخْرَاجُ نَفْسِهِ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَلْتَزِمُ الضَّرَرَ إلَّا لِدَفْعِ الضَّرَرِ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ حَصَلَ بِأَدَائِهِ وَعَرَّى أَدَاءَ الْمَأْمُورِ عَنْهُ فَصَارَ مَعْزُولًا عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ؛ لِأَنَّهُ عَزْلٌ حُكْمِيٌّ.
وَأَمَّا دَمُ الْإِحْصَارِ فَقَدْ قِيلَ هُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ، وَقِيلَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ الدَّمَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَصْبِرَ حَتَّى يَزُولَ الْإِحْصَارُ.
وَفِي مَسْأَلَتِنَا الْأَدَاءُ وَاجِبٌ فَاعْتُبِرَ الْإِسْقَاطُ مَقْصُودًا فِيهِ دُونَ دَمِ الْإِحْصَارِ.
الشَّرْحُ:
فَصْلٌ.
وَلَمَّا كَانَتْ أَحْكَامُ هَذَا الْفَصْلِ أَبْعَدَ عَنْ مَسَائِلِ الشَّرِكَةِ مِنْ قَبِيلِ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ مَسَائِلِ التِّجَارَةِ أَخَّرَهَا فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى شَرْحٍ سِوَى مَا نَذْكُرُهُ.
وَقَوْلُهُ (أَمَّا إذَا أَدَّيَا مَعًا ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَصِيبَ صَاحِبِهِ) يَعْنِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَلْتَزِمُ الضَّرَرَ) يَعْنِي أَدَاءَ بَعْضِ مَالِهِ عَلَى يَدِ الْوَكِيلِ إلَّا لِدَفْعِ الضَّرَرِ: أَيْ بَقَاءِ الْوَاجِبِ فِي ذِمَّتِهِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ عَزْلٌ حُكْمِيٌّ) اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يُشْكِلُ بِالْوَكِيلِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ، فَإِنَّ هُنَاكَ إذَا قَضَى الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ قَضَى الْوَكِيلُ، فَإِنْ عَلِمَ بِأَدَاءِ الْمُوَكِّلِ فَهُوَ ضَامِنٌ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا، فَقَدْ فَرَّقَ هُنَاكَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَعَدَمِهِ مَعَ أَنَّهُ حَصَلَ الْعَزْلُ الْحُكْمِيُّ هُنَاكَ أَيْضًا بِأَدَاءِ الْمُوَكِّلِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْوَكِيلَ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ مَأْمُورٌ بِأَنْ يُجْعَلَ الْمُؤَدَّى مَضْمُونًا عَلَى الْقَابِضِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ، لِأَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا، وَذَلِكَ يُتَصَوَّرُ بَعْدَ أَدَاءِ الْمُوَكِّلِ فَلَمْ يَكُنْ أَدَاؤُهُ مُوجِبًا عَزْلَ الْوَكِيلِ حُكْمًا فَوَضَحَ الْفَرْقُ أَنَّ هُنَاكَ لَوْ لَمْ يُوجِبْ الضَّمَانَ عَلَى الْوَكِيلِ بِجَهْلِهِ بِأَدَاءِ الْمُوَكِّلِ لَلَحِقَ الْمُوَكِّلَ فِيهِ ضَرَرٌ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِرْدَادِ الْمَقْبُوضِ مِنْ الْقَابِضِ وَتَضْمِينِهِ إنْ كَانَ هَالِكًا، وَهَاهُنَا لَوْ لَمْ يُوجِبْ الضَّمَانَ أَدَّى إلَى لِحَاقِ الضَّرَرِ بِالْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِرْدَادِ الصَّدَقَةِ مِنْ الْفَقِيرِ وَلَا تَضْمِينِهِ، وَالضَّرَرُ مَدْفُوعٌ فَلِهَذَا وَجَبَ الضَّمَانُ بِكُلِّ حَالٍ.
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ أَيْضًا بِأَنَّ زَكَاةَ كُلِّ وَاحِدٍ تَسْقُطُ عَنْهُ بَعْدَ أَدَائِهِ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ عَزْلُ وَكِيلِهِ، وَحَالَ مَا يُؤَدِّي عَنْهُ الْوَكِيلُ لَمْ يَحْكُمْ بِسُقُوطِ الزَّكَاةِ عَنْ مُوَكِّلِهِ فَلَمْ يُوجِبْ عَزْلَ الْوَكِيلِ عَنْ الْأَدَاءِ.
وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ عَنْهُ فِي حَالِ اسْتِقْرَارِ الزَّكَاةِ عَلَى الْآمِرِ، وَعِنْدَمَا يُؤَدِّي الْمُوَكِّلُ عَنْ نَفْسِهِ الزَّكَاةَ الْحَالَّةَ حَالَةَ زَوَالِ الزَّكَاةِ وَسُقُوطِهَا عَنْهُ فَلَا تُوصَفُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنَّهَا حَالَةُ اسْتِقْرَارِ الزَّكَاةِ فَكَانَ أَدَاؤُهَا عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمَأْذُونِ فَكَانَ مُخَالِفًا لِمَا أَمَرَهُ فَلِذَلِكَ ضَمِنَ.
وَقَوْلُهُ (وَأَمَّا دَمُ الْإِحْصَارِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ فَصَارَ كَالْمَأْمُورِ بِذَبْحِ دَمِ الْإِحْصَارِ، وَتَقْدِيرُهُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِذَبْحِ دَمِ الْإِحْصَارِ لَا يَضْمَنُ إذَا ذَبَحَ بَعْدَ زَوَالِ الْإِحْصَارِ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ بِالِاتِّفَاقِ لَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ أَلْبَتَّةَ لِأَنَّهُ لَوْ صَبَرَ إلَى أَنْ يَزُولَ الْإِحْصَارُ لَمْ يُطَالَبْ بِدَمِ الْإِحْصَارِ فَلَمْ يَكُنْ أَمْرًا مَقْصُودًا فَلَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْمَقْصُودَ حَصَلَ بِفِعْلِ الْمُحْصَرِ قَبْلَ فِعْلِ الْمَأْمُورِ فَعَرِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورِ عَنْ الْمَقْصُودِ، بِخِلَافِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ وَكَانَ إسْقَاطُ الْوَاجِبِ أَمْرًا مَقْصُودًا، وَقَدْ حَصَلَ هَذَا الْمَقْصُودُ بِأَدَاءِ الْآمِرِ نَفْسِهِ فَعَرِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورِ عَنْ الْمَقْصُودِ فَيَضْمَنُ. قَالَ (وَإِذَا أَذِنَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَشْتَرِيَ جَارِيَةً فَيَطَأَهَا فَفَعَلَ فَهِيَ لَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ) لِأَنَّهُ أَدَّى دَيْنًا عَلَيْهِ خَاصَّةً مِنْ مَالٍ مُشْتَرَكٍ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ بِنَصِيبِهِ كَمَا فِي شِرَاءِ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ (وَهَذَا) لِأَنَّ الْمِلْكَ وَاقِعٌ لَهُ خَاصَّةً وَالثَّمَنُ بِمُقَابَلَةِ الْمِلْكِ.
وَلَهُ أَنَّ الْجَارِيَةَ دَخَلَتْ فِي الشَّرِكَةِ عَلَى الْبَتَاتِ جَرْيًا عَلَى مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ إذْ هُمَا لَا يَمْلِكَانِ تَغْيِيرَهُ فَأَشْبَهَ حَالَ عَدَمِ الْإِذْنِ، غَيْرَ أَنَّ الْإِذْنَ يَتَضَمَّنُ هِبَةَ نَصِيبِهِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَحِلُّ إلَّا بِالْمِلْكِ، وَلَا وَجْهَ إلَى إثْبَاتِهِ بِالْبَيْعِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مُخَالِفٌ مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ فَأَثْبَتْنَاهُ بِالْهِبَةِ الثَّابِتَةِ فِي ضِمْنِ الْإِذْنِ، بِخِلَافِ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَثْنًى عَنْهَا لِلضَّرُورَةِ فَيَقَعُ الْمِلْكُ لَهُ خَاصَّةً بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَكَانَ مُؤَدِّيًا دَيْنًا عَلَيْهِ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ.
وَفِي مَسْأَلَتِنَا قَضَى دَيْنًا عَلَيْهِمَا لِمَا بَيَّنَّا (وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ بِالثَّمَنِ أَيَّهُمَا شَاءَ) بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ دَيْنٌ وَجَبَ بِسَبَبِ التِّجَارَةِ، وَالْمُفَاوَضَةُ تَضَمَّنَتْ الْكَفَالَةَ فَصَارَ كَالطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا أَذِنَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ) صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ ظَاهِرَةٌ، وَتَقْرِيرُ دَلِيلِهِمَا أَنَّهُ أَدَّى دَيْنًا عَلَيْهِ خَاصَّةً مِنْ مَالٍ مُشْتَرَكٍ، وَكُلُّ مَنْ فَعَلَ كَذَلِكَ يَرْجِعُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ بِنَصِيبِهِ كَمَا فِي شِرَاءِ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ.
وَقَوْلُهُ (وَهَذَا) بَيَانٌ لِقَوْلِهِ إنَّهُ أَدَّى دَيْنًا عَلَيْهِ خَاصَّةً لِأَنَّ الْمِلْكَ وَاقِعٌ لَهُ خَاصَّةً بِدَلِيلِ حِلِّ وَطْئِهَا، وَالثَّمَنُ بِمُقَابَلَةِ الْمِلْكِ فَكَانَ الدَّيْنُ عَلَيْهِ خَاصَّةً.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْجَارِيَةَ دَخَلَتْ فِي الشَّرِكَةِ عَلَى الْبَتَاتِ وَأَدَّى الْمُشْتَرِي ثَمَنَهَا مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ، وَكُلُّ مَا دَخَلَ فِي الشَّرِكَةِ وَأَدَّى الْمُشْتَرِي ثَمَنَهَا مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ بِشَيْءٍ، كَمَا لَوْ اشْتَرَاهَا قَبْلَ الْإِذْنِ وَأَدَّى ثَمَنَهَا مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، وَبَيَّنَ دُخُولَهَا فِي الشَّرِكَةِ بِقَوْلِهِ (جَرْيًا عَلَى مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ) أَيْ شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي دُخُولَ مَا لَيْسَ بِمُسْتَثْنًى كَالطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ تَحْتَهَا، وَشِرَاءُ الْجَارِيَةِ لَيْسَ بِمُسْتَثْنًى فَيَدْخُلُ تَحْتَهَا لِأَنَّهُمَا لَا يَمْلِكَانِ تَغْيِيرَ مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ مَعَ بَقَائِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ شَرَطَا التَّفَاوُتَ بَيْنَهُمَا فِي مِلْكِ الْمُشْتَرَى لَمْ يُعْتَبَرْ مَعَ بَقَاءِ عَقْدِ الشَّرِكَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَتْ وَاقِعَةً عَلَى الشَّرِكَةِ كَيْفَ كَانَ يَحِلُّ وَطْؤُهَا؟ أُجِيبَ بِأَنَّهُ كَانَ يَحِلُّ وَطْؤُهَا كَمَا يَحِلُّ إذَا وَهَبَهُ نَصِيبَهُ بَعْدَ الشِّرَاءِ بِغَيْرِ إذْنٍ، وَقَوْلُهُ (غَيْرَ أَنَّ الْإِذْنَ يَتَضَمَّنُ هِبَةَ نَصِيبِهِ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ فَأَشْبَهَ حَالَ عَدَمِ الْإِذْنِ فَإِنَّهُ كَانَ مِمَّا يُوهِمُ أَنْ يُقَالَ كَيْفَ يُشْبِهُ حَالَ عَدَمِ الْإِذْنِ وَهُنَاكَ لَمْ يَحِلَّ وَطْؤُهَا وَبَعْدَ الْإِذْنِ يَحِلُّ، فَأَزَالَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ غَيْرَ أَنَّ الْإِذْنَ يَتَضَمَّنُ هِبَةَ نَصِيبِهِ مِنْهُ، لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَحِلُّ إلَّا بِالْمِلْكِ، وَلَا وَجْهَ إلَى إثْبَاتِهِ بِالْبَيْعِ: يَعْنِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ حَلَّ الْوَطْءُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ اشْتَرَى جَمِيعَهَا لِنَفْسِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ يُرِيدُ بِهِ مَا ذَكَرَهُ آنِفًا مِنْ قَوْلِهِ جَرْيًا عَلَى مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ فَأَثْبَتْنَاهُ بِالْهِبَةِ الثَّابِتَةِ فِي ضِمْنِ الْإِذْنِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ اشْتَرِ جَارِيَةً بَيْنَنَا وَقَدْ وَهَبْت نَصِيبِي مِنْهَا لَك فَجَازَتْ الْهِبَةُ فِي الشَّائِعِ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ مِمَّا لَا تُقْسَمُ، بِخِلَافِ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ حَيْثُ يَقَعُ لِلْمُشْتَرِي خَاصَّةً لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَثْنًى عَنْهَا لِلضَّرُورَةِ فَيَقَعُ الْمِلْكُ لَهُ خَاصَّةً بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَكَانَ مُؤَدِّيًا دَيْنًا عَلَيْهِ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا قَضَى دَيْنًا عَلَيْهِمَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهَا دَخَلَتْ فِي الشَّرِكَةِ.
وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ مَنْ قَالَ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي وَلَمْ يَذْكُرْ الْمَالَ فَفَعَلَ لَا يَصِيرُ هِبَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَالْعِتْقُ يَقَعُ عَنْ الْمَأْمُورِ لِانْتِفَاءِ الْقَبْضِ الَّذِي هُوَ شَرْطُ الْهِبَةِ فَكَيْفَ صَارَ هِبَةً فِيمَا نَحْنُ فِيهِ.
وَالثَّانِي أَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ فِي نَصِيبِ الشَّرِكَةِ بِالْهِبَةِ حُكْمًا لِلْإِذْنِ بِالْوَطْءِ، وَالْمِلْكُ لَا يَثْبُتُ فِي الْجَارِيَةِ بِالْهِبَةِ حُكْمًا لِلْإِحْلَالِ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ أَحْلَلْت لَك وَطْءَ هَذِهِ الْجَارِيَةِ لَا تَصِيرُ مِلْكًا لِلْمُخَاطَبِ حُكْمًا لِلْهِبَةِ بِالْإِحْلَالِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا لَا يَصِيرُ هِبَةً لِانْتِفَاءِ الْقَبْضِ الَّذِي هُوَ شَرْطُهَا، وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَقْبِضُ بَعْدَ الشِّرَاءِ عَلَى الشَّرِكَةِ وَهُوَ وَكِيلٌ ثُمَّ يَقْبِضُهُ لِنَفْسِهِ.
وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ الْمُصَنِّفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَشَارَ إلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي ضِمْنِ الْإِذْنِ، وَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ الشَّيْءُ ضِمْنًا وَلَا يَثْبُتُ قَصْدًا.
قَوْلُهُ (وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ بِالثَّمَنِ أَيَّهمَا شَاءَ) ظَاهِرٌ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.

.كِتَابُ الْوَقْفِ:

قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَزُولُ مِلْكُ الْوَاقِفِ عَنْ الْوَقْفِ إلَّا أَنْ يَحْكُمَ بِهِ الْحَاكِمُ أَوْ يُعَلِّقَهُ بِمَوْتِهِ فَيَقُولَ إذَا مِتُّ فَقَدْ وَقَفْت دَارِي عَلَى كَذَا.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ (يَزُولُ مِلْكُهُ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَزُولُ حَتَّى يَجْعَلَ لِلْوَقْفِ وَلِيًّا وَيُسَلِّمَهُ إلَيْهِ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْوَقْفُ لُغَةً.
هُوَ الْحَبْسُ تَقُولُ وَقَفْت الدَّابَّةَ وَأَوْقَفْتهَا بِمَعْنًى.
وَهُوَ فِي الشَّرْعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: حَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ وَالتَّصَدُّقُ بِالْمَنْفَعَةِ بِمَنْزِلَةِ الْعَارِيَّةِ.
ثُمَّ قِيلَ الْمَنْفَعَةُ مَعْدُومَةٌ فَالتَّصَدُّقُ بِالْمَعْدُومِ لَا يَصِحُّ، فَلَا يَجُوزُ الْوَقْفُ أَصْلًا عِنْدَهُ، وَهُوَ الْمَلْفُوظُ فِي الْأَصْلِ.
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَهُ إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ بِمَنْزِلَةِ الْعَارِيَّةِ، وَعِنْدَهُمَا حَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى حُكْمِ مُلْكِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَزُولُ مِلْكُ الْوَاقِفِ عَنْهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهٍ تَعُودُ مَنْفَعَتُهُ إلَى الْعِبَادِ فَيَلْزَمُ وَلَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ.
وَاللَّفْظُ يَنْتَظِمُهُمَا وَالتَّرْجِيحُ بِالدَّلِيلِ.
لَهُمَا «قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِأَرْضٍ لَهُ تُدْعَى ثَمْغًا: تَصَدَّقْ بِأَصْلِهَا لَا يُبَاعُ وَلَا يُورَثُ وَلَا يُوهَبُ» وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ مَاسَّةٌ إلَى أَنْ يَلْزَمَ الْوَقْفُ مِنْهُ لِيَصِلَ ثَوَابُهُ إلَيْهِ عَلَى الدَّوَامِ، وَقَدْ أَمْكَنَ دَفْعُ حَاجَتِهِ بِإِسْقَاطِ الْمِلْكِ وَجَعْلِهِ لِلَّهِ تَعَالَى.
إذْ لَهُ نَظِيرٌ فِي الشَّرْعِ وَهُوَ الْمَسْجِدُ فَيُجْعَلُ كَذَلِكَ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا حَبْسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى» وَعَنْ شُرَيْحٍ: جَاءَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِبَيْعِ الْحَبِيسِ لِأَنَّ الْمِلْكَ بَاقٍ فِيهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ زِرَاعَةً وَسُكْنَى وَغَيْرَ ذَلِكَ وَالْمِلْكُ فِيهِ لِلْوَاقِفِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ وِلَايَةَ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِصَرْفِ غَلَّاتِهِ إلَى مَصَارِفِهَا وَنَصْبِ الْقَوَّامِ فِيهَا إلَّا أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِمَنَافِعِهِ فَصَارَ شَبِيهَ الْعَارِيَّةِ، وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى التَّصَدُّقِ بِالْغَلَّةِ دَائِمًا وَلَا تَصَدُّقَ عَنْهُ إلَّا بِالْبَقَاءِ عَلَى مِلْكِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُزَالَ مِلْكُهُ، لَا إلَى مَالِكٍ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ مَعَ بَقَائِهِ كَالسَّائِبَةِ.
بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ لِأَنَّهُ إتْلَافٌ، وَبِخِلَافِ الْمَسْجِدِ لِأَنَّهُ جُعِلَ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَهُنَا لَمْ يَنْقَطِعْ حَقُّ الْعَبْدِ عَنْهُ فَلَمْ يَصِرْ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى.
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ فِي الْكِتَابِ: لَا يَزُولُ مِلْكُ الْوَاقِفِ إلَّا أَنْ يَحْكُمَ بِهِ الْحَاكِمُ أَوْ يُعَلِّقَهُ بِمَوْتِهِ، وَهَذَا فِي حُكْمِ الْحَاكِمِ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ قَضَاءٌ فِي مُجْتَهَدٍ فِيهِ، أَمَّا فِي تَعْلِيقِهِ بِالْمَوْتِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَزُولُ مِلْكُهُ إلَّا أَنَّهُ تَصَدُّقٌ بِمَنَافِعِهِ مُؤَبَّدًا فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالْمَنَافِعِ مُؤَبَّدًا فَيَلْزَمُ، وَالْمُرَادُ بِالْحَاكِمِ الْمَوْلَى، فَأَمَّا الْمُحَكِّمُ فَفِيهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ.
الشَّرْحُ:
كِتَابُ الْوَقْفِ: مُنَاسَبَةُ ذِكْرِ الْوَقْفِ بَعْدَ الشَّرِكَةِ هِيَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِكُلٍّ مِنْهُمَا الِانْتِفَاعُ بِمَا يَزِيدُ عَلَى أَصْلِ الْمَالِ، وَهُوَ مَصْدَرُ وَقَفْت الدَّابَّةِ وُقُوفًا وَوَقَفْتهَا أَنَا يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى، وَوَقَفْت الدَّارَ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَقْفًا وَأَوْقَفْتهَا لُغَةٌ رَدِيئَةٌ، وَعَرَّفَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأَنَّهُ حَبْسُ الْمَمْلُوكِ التَّمْلِيكَ عَنْ الْغَيْرِ.
وَسَبَبُهُ طَلَبُ الزُّلْفَى.
وَشَرْطُهُ كَوْنُ الْوَاقِفِ حُرًّا بَالِغًا عَاقِلًا وَكَوْنُ الْمَحَلِّ غَيْرَ مَنْقُولٍ.
وَرُكْنُهُ أَرْضِي هَذِهِ صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ مُؤَبَّدَةٌ عَلَى الْمَسَاكِينِ.
وَحُكْمُهُ خُرُوجُ الْوَقْفِ: أَيْ الْمَوْقُوفِ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ وَعَدَمُ دُخُولِهِ فِي مِلْكِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ، وَمَا عَرَّفَهُ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَصِحَّ الْوَقْفُ لِأَنَّهُ قَالَ: وَالتَّصَدُّقُ بِالْمَنْفَعَةِ وَالتَّصَدُّقُ بِالْمَعْدُومِ لَا يَصِحُّ.
وَقَوْلُهُ (وَهُوَ) رَاجِعٌ إلَى قَوْلِهِ (فَلَا يَجُوزُ الْوَقْفُ أَصْلًا عِنْدَهُ وَهُوَ الْمَلْفُوظُ فِي الْأَصْلِ) يَعْنِي الْمَبْسُوطَ، وَلَكِنَّهُ نَقَلَهُ بِالْمَعْنَى لَا بِعَيْنِ لَفْظِهِ، فَإِنَّ لَفْظَ الْمَبْسُوطِ: فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَكَانَ لَا يُجِيزُ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: فَمُرَادُهُ أَنَّهُ لَا يَجْعَلُهُ لَازِمًا، فَأَمَّا أَصْلُ الْجَوَازِ فَثَابِتٌ عِنْدَهُ كَالْعَارِيَّةِ تُصْرَفُ الْمَنْفَعَةُ إلَى جِهَةِ الْوَقْفِ وَتَبْقَى الْعَيْنُ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَيُورَثُ عَنْهُ، وَلَا يَلْزَمُ إلَّا بِطَرِيقَيْنِ: قَضَاءُ الْقَاضِي بِلُزُومِهِ لِكَوْنِهِ مُجْتَهَدًا فِيهِ، وَإِخْرَاجُهُ مَخْرَجَ الْوَصِيَّةِ بِأَنْ يَقُولَ: أَوْصَيْت بِغَلَّةِ دَارِي، فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ.
وَعِنْدَهُمَا هُوَ حَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَزُولُ مِلْكُ الْوَاقِفِ عَنْهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهٍ تَعُودُ الْمَنْفَعَةُ إلَى الْعِبَادِ فَيَلْزَمُ وَلَا يُبَاعُ وَلَا يُورَثُ (قَوْلُهُ وَاللَّفْظُ) أَيْ لَفْظُ الْوَقْفِ (يَنْتَظِمُهُمَا): أَيْ يَتَنَاوَلُ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ هُوَ حَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ، وَمَا قَالَاهُ وَهُوَ حَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ اللَّهِ تَعَالَى انْتِظَامًا وَاحِدًا مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ مُرَجَّحٍ.
ثُمَّ ابْتَدَأَ بِبَيَانِ دَلِيلِهِمَا بِقَوْلِهِ: لَهُمَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
رَوَى صَخْرُ بْنُ جُوَيْرِيَةَ عَنْ نَافِعٍ: «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ تُدْعَى ثَمْغًا وَكَانَتْ نَخْلًا نَفِيسًا، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي اسْتَفَدْت مَالًا وَهُوَ عِنْدِي نَفِيسٌ أَفَأَتَصَدَّقُ بِهِ؟ قَالَ: تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ، لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ، وَلَكِنْ لِيُنْفَقْ مِنْ ثَمَرَتِهِ»، فَتَصَدَّقَ بِهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَفِي الرِّقَابِ وَالضَّيْفِ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَلِذِي الْقُرْبَى مِنْهُ وَلَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ أَنْ يَأْكُلَ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ يُؤْكِلَ صَدِيقًا لَهُ غَيْرَ مُتَمَوَّلٍ عَنْهُ، وَهَذِهِ الْأَرْضُ كَانَتْ سَهْمَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِخَيْبَرَ حِينَ قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ، وَثَمْغٌ لَقَبٌ لَهَا وَهِيَ بِفَتْحِ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ.
وَقَوْلُهُ (إذْ لَهُ نَظِيرٌ فِي الشَّرْعِ وَهُوَ الْمَسْجِدُ) لِبَيَانِ نَفْيِ اسْتِبْعَادِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ وَلَا تَدْخُلَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، فَإِنَّ اتِّخَاذَ الْمَسْجِدِ لَازِمٌ بِالِاتِّفَاقِ وَهُوَ إخْرَاجٌ لِتِلْكَ الْبُقْعَةِ عَنْ مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَدْخُلَ فِي مِلْكِ أَحَدٍ وَلَكِنَّهَا تَصِيرُ مَحْبُوسَةً لِنَوْعِ قُرْبَةٍ قَصَدَهَا فَكَذَلِكَ فِي الْوَقْفِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا حَبْسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ» أَيْ لَا مَالَ يُحْبَسُ بَعْدَ مَوْتِ صَاحِبِهِ عَنْ الْقِسْمَةِ بَيْنَ وَرَثَتِهِ، لَكِنَّهُمْ يَحْمِلُونَ هَذَا الْأَثَرَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِي، وَيَقُولُونَ الشَّرْعُ أَبْطَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: النَّكِرَةُ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ تَعُمُّ فَتَتَنَاوَلُ كُلَّ طَرِيقٍ يَكُونُ فِيهِ حَبْسٌ عَنْ الْمِيرَاثِ إلَّا مَا قَامَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ.
وَقَوْلُهُ (جَاءَ مُحَمَّدٌ بِبَيْعِ الْحَبِيسِ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لُزُومَ الْوَقْفِ كَانَ فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا وَأَنَّ شَرِيعَتَنَا نَاسِخَةٌ لِذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ (كَالسَّائِبَةِ) هِيَ النَّاقَةُ الَّتِي تُسَيَّبُ لِنَذْرٍ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ: إذَا قَدِمْت مِنْ سَفَرِي أَوْ بَرِئْت مِنْ مَرَضِي فَنَاقَتِي سَائِبَةٌ.
وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْوَقْفَ بِمَنْزِلَةِ تَسْيِيبِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْعَيْنَ لَا تَخْرُجُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَمْلُوكَةً لَهُ مُنْتَفَعًا بِهَا، فَإِنَّهُ لَوْ سَيَّبَ دَابَّتَهُ لَمْ تَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ، فَكَذَا إذَا وَقَفَ أَرْضَهُ أَوْ دَارِهِ.
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَوْ كَانَ إزَالَةُ الْمِلْكِ لَا إلَى مَالِكٍ غَيْرَ مَشْرُوعٍ لَمَا جَازَ الْعِتْقُ فَإِنَّهُ إزَالَةُ الْمِلْكِ الثَّابِتِ فِي الْعَبْدِ مِنْ غَيْرِ تَمْلِيكٍ لِأَحَدٍ.
وَقَوْلُهُ (وَبِخِلَافِ الْمَسْجِدِ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِهِمْ الْوَقْفَ عَلَى الْمَسْجِدِ.
وَقَوْلُهُ (قَالَ فِي الْكِتَابِ) يَعْنِي مُخْتَصَرَ الْقُدُورِيِّ: لَا يَزُولُ مِلْكُ الْوَاقِفِ إلَّا أَنْ يَحْكُمَ بِهِ الْحَاكِمُ أَوْ يُعَلِّقَهُ بِمَوْتِهِ.
صُورَةُ الْحُكْمِ أَنْ يُسَلِّمَ الْوَاقِفُ مَا وَقَفَهُ إلَى الْمُتَوَلِّي ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ فَيُنَازِعَهُ بَعْدَ اللُّزُومِ فَيَخْتَصِمَانِ إلَى الْقَاضِي فَيَقْضِي بِلُزُومِهِ.
وَقَوْلُهُ (فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَزُولُ مِلْكُهُ) يَعْنِي أَنَّ الْمَشَايِخَ اخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَقِيلَ يَزُولُ الْمِلْكُ بِالتَّعْلِيقِ بِالْمَوْتِ لِأَنَّهُ وَقْتُ خُرُوجِ الْأَمْلَاكِ عَنْ مِلْكِهِ فَالتَّعْلِيقُ بِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ الْخُرُوجُ مِنْ الْمِلْكِ.
وَقِيلَ لَا يَزُولُ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ الْوَاقِفَ تَصَدَّقَ بِالْغَلَّةِ وَهُوَ لَا يَسْتَدْعِي زَوَالَ أَصْلِ الْمِلْكِ، وَلِأَنَّهُ تَصَدَّقَ بِالْغَلَّةِ دَائِمًا، وَلَا يُمْكِنُ التَّصَدُّقُ بِهَا هَكَذَا إلَّا إذَا بَقِيَ أَصْلُ الْمَوْقُوفِ عَلَى مِلْكِهِ، إلَّا أَنَّهُ تَصَدَّقَ بِمَنَافِعِهِ مُؤَبَّدًا فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالْمَنَافِعِ مُؤَبَّدًا فَيَلْزَمُهُ.
وَالْمُرَادُ بِالْحَاكِمِ الْمُوَلَّى أَيْ الَّذِي وَلَّاهُ الْخَلِيفَةُ عَمَلَ الْقَضَاءِ.
وَأَمَّا الْمُحَكَّمُ وَهُوَ الَّذِي يُفَوَّضُ إلَيْهِ الْحُكْمُ فِي حَادِثَةٍ مُعَيَّنَةٍ بِاتِّفَاقِ الْمُتَخَاصِمَيْنِ فَفِيهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ.
قَالَ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ مِنْ خُلَاصَةِ الْفَتَاوَى: وَأَمَّا حُكْمُ الْمُحَكَّمِ فِي الْيَمِينِ الْمُضَافَةِ وَسَائِرِ الْمُجْتَهَدَاتِ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُنَفَّذُ وَلَكِنْ لَا يُفْتَى بِهِ وَلَوْ وَقَفَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ قَالَ الطَّحَاوِيُّ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَلْزَمُهُ إلَّا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ وَالْوَقْفُ فِي الصِّحَّةِ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَإِذَا كَانَ الْمِلْكُ يَزُولُ عِنْدَهُمَا يَزُولُ بِالْقَوْلِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ لِأَنَّهُ إسْقَاطُ الْمِلْكِ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لابد مِنْ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُتَوَلِّي لِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ فِيهِ فِي ضِمْنِ التَّسْلِيمِ إلَى الْعَبْدِ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مَالِكُ الْأَشْيَاءِ لَا يَتَحَقَّقُ مَقْصُودًا، وَقَدْ يَكُونُ تَبَعًا لِغَيْرِهِ فَيَأْخُذُ حُكْمَهُ فَيَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ.
قَالَ (وَإِذَا صَحَّ الْوَقْفُ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: وَإِذَا اُسْتُحِقَّ مَكَانَ قَوْلِهِ إذَا صَحَّ (خَرَجَ مِنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ وَلَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ لَوْ دَخَلَ فِي مِلْكِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ بَلْ يَنْفُذُ بَيْعُهُ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ مَلَكَهُ لَمَا انْتَقَلَ عَنْهُ بِشَرْطِ الْمَالِكِ الْأَوَّلِ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ.
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَوْلُهُ خَرَجَ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي سَبَقَ تَقْرِيرُهُ.
الشَّرْحُ:
(قَوْلُهُ وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ) يَعْنِي يَلْزَمُ الْوَقْفُ حِينَئِذٍ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، بِخِلَافِ الْوَقْفِ فِي الصِّحَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ عِنْدَهُ.
ثُمَّ قَالَ الطَّحَاوِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ مِنْهُ فِي مَرَضِهِ كَمَا لَا يَجُوزُ فِي صِحَّتِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ الصَّحِيحُ عَلَى أُصُولِهِ.
وَقَالَ الْمُصَنِّفُ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ فِي الْمَرَضِ كَالْمُبَاشَرَةِ فِي الصِّحَّةِ حَتَّى لَا يَلْزَمَ وَلَا يَمْنَعَ الْإِرْثَ كَالْعَارِيَّةِ، وَعِنْدَهُمَا يَلْزَمُ إلَّا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ وَالْوَقْفُ فِي الصِّحَّةِ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ (قَوْلُهُ وَقَدْ يَكُونُ تَبَعًا لِغَيْرِهِ فَيَأْخُذُ حُكْمَهُ) أَيْ يَثْبُتُ التَّمْلِيكُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ضِمْنًا لِلتَّمْلِيكِ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ التَّمْلِيكُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى قَصْدًا فَيَأْخُذُ التَّمْلِيكُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى حُكْمَ التَّمْلِيكِ مِنْ غَيْرِهِ حَتَّى يُشْتَرَطَ فِيهِ التَّسْلِيمُ وَالْقَبْضُ (قَوْلُهُ فَيُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ) يَعْنِي يُنَزَّلُ التَّمْلِيكُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْوَقْفِ فِي ضِمْنِ التَّسْلِيمِ إلَى الْعَبْدِ مَنْزِلَةَ تَمْلِيكِ الْمَالِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي الزَّكَاةِ حَيْثُ يَتَحَقَّقُ التَّمْلِيكُ مِنْهُ فِي ضِمْنِ التَّسْلِيمِ إلَى الْفَقِيرِ.
قَالَ (وَإِذَا صَحَّ الْوَقْفُ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ) أَيْ إذَا صَحَّ الْوَقْفُ عَلَى مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْمَشَايِخُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَصِحُّ عِنْدَهُمَا وَلَا يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا هُوَ الْمَلْفُوظُ فِي الْأَصْلِ، وَالْأَصَحُّ الصِّحَّةُ عِنْدَ الْكُلِّ خَرَجَ مِنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ: يَعْنِي عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَلَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَوْ دَخَلَ فِي مِلْكِهِ جَازَ لَهُ إخْرَاجُهُ مِنْ مِلْكِهِ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ، وَلَمَا انْتَقَلَ إلَى مَنْ بَعْدَهُ مِمَّنْ شَرَطَهُ الْوَاقِفُ لَكِنْ لَيْسَ كَذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ.
وَقَوْلُهُ (يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي سَبَقَ تَقْرِيرُهُ) اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ ذَكَرَ قَبْلَ هَذَا لَا يَزُولُ مِلْكُ الْوَاقِفِ إلَّا أَنْ يَحْكُمَ بِهِ الْحَاكِمُ، وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي حَقِّ زَوَالِ الْوَقْفِ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَإِنَّ الْمِلْكَ يَزُولُ بِدُونِ حُكْمِ الْحَاكِمِ، ثُمَّ الدَّلِيلُ الصَّحِيحُ يَقْتَضِي عَدَمَ جَوَازِ الْخُرُوجِ عَنْ الْمِلْكِ لِأَنَّ الْخُرُوجَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَصِحَّ شَرْطُهُ فِي صَرْفِ الْغَلَّةِ كَمَا إذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ بِشَرْطِ أَنْ يَصْرِفَ غَلَّتَهُ إلَى كَذَا أَوْ جَعَلَ أَرْضَهُ مَسْجِدًا بِشَرْطِ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ فُلَانٌ دُونَ فُلَانٍ، فَإِنَّ التَّصَرُّفَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ.
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ إنَّمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ هَاهُنَا إنَّمَا هُوَ فِي الصِّحَّةِ، وَمَا ذَكَرَهُ قَبْلَ هَذَا فَإِنَّمَا هُوَ فِي اللُّزُومِ، وَالصِّحَّةُ لَا تَسْتَلْزِمُ اللُّزُومَ فَكَانَ الْقَوْلُ بِخُرُوجِ الْوَقْفِ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ إذَا صَحَّ الْوَقْفُ قَوْلَهُمَا لَا قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ، إلَّا إذَا حَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ خُرُوجُ الْوَقْفِ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ قَوْلَ الْكُلِّ.
سَلَّمْنَا أَنَّ الصِّحَّةَ هَاهُنَا بِمَعْنَى اللُّزُومِ وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ اللُّزُومِ الْخُرُوجُ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْوَقْفَ عِنْدَهُ مُعَرَّفٌ بِحَبْسِ الْعَيْنِ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ وَالتَّصَدُّقِ بِالْمَنْفَعَةِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ عَنْ الْخُرُوجِ لَا مَحَالَةَ.
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ خُرُوجَ الْمِلْكِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى قُرْبَةٌ لَا يَمْنَعُ التَّصَرُّفَ فِيهِ مِمَّنْ خَرَجَ عَنْهُ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْقُرُبَاتِ تَصِيرُ بِالْإِرَاقَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ إنَّ صَاحِبَهُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِالْأَكْلِ وَالْإِطْعَامِ وَالتَّصَدُّقِ بِهِ بِتَوْلِيَةِ الشَّرْعِ لِكَوْنِهِ الْمُتَقَرَّبَ بِهِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ أَمْرُ الْوَاقِفِ كَذَلِكَ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مَالِكًا لِمَنَافِعِهِ فَلَا يَعْمَلُ فِيهِ تَصَرُّفُ غَيْرِهِ، وَأَمَّا الْمَسْجِدُ فَالْأَصْلُ الْكَعْبَةُ وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ فِيهِ سَوَاءٌ الْعَاكِفُ وَالْبَادِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُوَلِّ التَّخْصِيصَ إلَى الَّذِي جَعَلَهُ مَسْجِدًا، وَإِنَّمَا أَلْحَقَهُ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْكَعْبَةِ قَالَ (وَوَقْفُ الْمُشَاعِ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ) لِأَنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ وَالْقَبْضُ عِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَكَذَا تَتِمَّتُهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ أَصْلَ الْقَبْضِ عِنْدَهُ شَرْطٌ فَكَذَا مَا يَتِمُّ بِهِ، وَهَذَا فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ، وَأَمَّا فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ فَيَجُوزُ مَعَ الشُّيُوعِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ أَيْضًا لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ بِالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ وَالْمَقْبَرَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَتِمُّ مَعَ الشُّيُوعِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، لِأَنَّ بَقَاءَ الشَّرِكَةِ يَمْنَعُ الْخُلُوصَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلِأَنَّ الْمُهَايَأَةَ فِيهِمَا فِي غَايَةِ الْقُبْحِ بِأَنْ يُقْبَرَ فِيهِ الْمَوْتَى سَنَةً، وَيُزْرَعَ سَنَةً وَيُصَلَّى فِيهِ فِي وَقْتٍ وَيُتَّخَذَ إصْطَبْلًا فِي وَقْتٍ، بِخِلَافِ الْوَقْفِ لِإِمْكَانِ الِاسْتِغْلَالِ وَقِسْمَةِ الْغَلَّةِ.
وَلَوْ وَقَفَهُ الْكُلَّ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ جُزْءٌ مِنْهُ بَطَلَ فِي الْبَاقِي عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ الشُّيُوعَ مُقَارَنٌ كَمَا فِي الْهِبَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا رَجَعَ الْوَاهِبُ فِي الْبَعْضِ أَوْ رَجَعَ الْوَارِثُ فِي الثُّلُثَيْنِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَرِيضِ وَقَدْ وَهَبَهُ أَوْ أَوْقَفَهُ فِي مَرَضِهِ وَفِي الْمَالِ ضِيقٌ، لِأَنَّ الشُّيُوعَ فِي ذَلِكَ طَارِئٌ.
وَلَوْ اُسْتُحِقَّ جُزْءٌ مُمَيَّزٌ بِعَيْنِهِ لَمْ يَبْطُلْ فِي الْبَاقِي لِعَدَمِ الشُّيُوعِ وَلِهَذَا جَازَ فِي الِابْتِدَاءِ، وَعَلَى هَذَا الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ الْمَمْلُوكَةُ.
قَالَ: وَلَا يَتِمُّ الْوَقْفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ حَتَّى يَجْعَلَ آخِرَهُ بِجِهَةٍ لَا تَنْقَطِعُ أَبَدًا.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا سَمَّى فِيهِ جِهَةً تَنْقَطِعُ جَازَ وَصَارَ بَعْدَهَا لِلْفُقَرَاءِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِمْ.
لَهُمَا أَنَّ مُوجَبَ الْوَقْفِ زَوَالُ الْمِلْكِ بِدُونِ التَّمْلِيكِ وَأَنَّهُ يَتَأَبَّدُ كَالْعِتْقِ، فَإِذَا كَانَتْ الْجِهَةُ يُتَوَهَّمُ انْقِطَاعُهَا لَا يَتَوَفَّرُ عَلَيْهِ مُقْتَضَاهُ، فَلِهَذَا كَانَ التَّوْقِيتُ مُبْطِلًا لَهُ كَالتَّوْقِيتِ فِي الْبَيْعِ.
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مُوَفَّرٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّ التَّقَرُّبَ تَارَةً يَكُونُ فِي الصَّرْفِ إلَى جِهَةٍ تَنْقَطِعُ وَمَرَّةً بِالصَّرْفِ إلَى جِهَةٍ تَتَأَبَّدُ فَيَصِحُّ فِي الْوَجْهَيْنِ وَقِيلَ إنَّ التَّأْبِيدَ شَرْطٌ بِالْإِجْمَاعِ، إلَّا أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يُشْتَرَطُ ذِكْرُ التَّأْبِيدِ لِأَنَّ لَفْظَةَ الْوَقْفِ وَالصَّدَقَةِ مُنْبِئَةٌ عَنْهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ إزَالَةُ الْمِلْكِ بِدُونِ التَّمْلِيكِ كَالْعِتْقِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الْكِتَابِ فِي بَيَانِ قَوْلِهِ وَصَارَ بَعْدَهَا لِلْفُقَرَاءِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِمْ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ذِكْرُ التَّأْبِيدِ شَرْطٌ لِأَنَّ هَذَا صَدَقَةٌ بِالْمَنْفَعَةِ أَوْ بِالْغَلَّةِ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مُؤَقَّتًا وَقَدْ يَكُونُ مُؤَبَّدًا فَمُطْلَقُهُ لَا يَنْصَرِفُ إلَى التَّأْبِيدِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّنْصِيصِ.
الشَّرْحُ:
(قَوْلُهُ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ) بَيَانُهُ أَنَّ الْقَبْضَ لِلْحِيَازَةِ وَالْحِيَازَةُ فِيمَا يُقْسَمُ إنَّمَا هِيَ بِالْقِسْمَةِ (قَوْلُهُ وَوَقْفُ الْمُشَاعِ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ) لَا خِلَافَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْقِسْمَةَ فِيمَا يُقْسَمُ مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمَا فِي أَنَّ أَصْلَ الْقَبْضِ شَرْطٌ أَوْ لَا، عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَكَذَا تَمَامُهُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ شَرْطٌ فَكَذَا تَمَامُهُ، وَأَمَّا فِيمَا لَا يُقْسَمُ فَمُحَمَّدٌ أَيْضًا يُجَوِّزُهُ وَيَعْتَبِرُهُ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ: أَيْ الصَّدَقَةِ الْخَاضِعَةِ الْمُسَلَّمَةِ إلَى الْفَقِيرِ وَهُوَ احْتِرَازٌ عَنْ الصَّدَقَةِ الْمَوْقُوفَةِ وَهِيَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ (قَوْلُهُ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ وَالْمَقْبَرَةِ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَوَقْفُ الْمُشَاعِ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، فَإِنَّهُ لَا يَتِمُّ مَعَ الشُّيُوعِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ بِأَنْ كَانَ الْمَوْضِعُ صَغِيرًا لَا يَصْلُحُ لِمَا أَرَادَهُ الْوَاقِفُ مِنْ اتِّخَاذِ الْمَسْجِدِ وَالْمَقْبَرَةِ عَلَى تَقْدِيرِ الْقِسْمَةِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ جَعْلَ الْمَسْجِدِ وَالْمَقْبَرَةِ فِي الْمُشَاعِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ لَا يَجُوزُ أَصْلًا لَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَهُوَ حَالَ كَوْنِهِ مُشَاعًا وَلَا بَعْدَهَا، أَمَّا قَبْلَهَا فَإِنَّ بَقَاءَ الشَّرِكَةِ يَمْنَعُ الْخُلُوصَ عَلَى مَا سَيَجِيءُ، وَأَمَّا بَعْدَهَا فَلِأَنَّ فَرْضَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا كَانَ الْوَضْعُ غَيْرَ صَالِحٍ لِذَلِكَ لِصِغَرِهِ فَبَقِيَ أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ الْمُهَايَأَةِ، وَالْمُهَايَأَةُ فِيهِمَا فِي غَايَةِ الْقُبْحِ إلَخْ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ ظَاهِرٌ.
قَالَ (وَلَا يَتِمُّ الْوَقْفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ حَتَّى يَجْعَلَ آخِرَهُ لِجِهَةٍ لَا تَنْقَطِعُ) مِثْلُ أَنْ يَقُولَ عَلَيَّ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ حَيْثُمَا وُجِدُوا مَثَلًا.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا سَمَّى جِهَةً تَنْقَطِعُ مِثْلُ أَنْ يَقِفَ عَلَى أَوْلَادِهِ أَوْ عَلَى أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ جَازَ وَصَارَ بَعْدَهَا لِلْفُقَرَاءِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِمْ.
لَهُمَا أَنَّ مُوجَبَ الْوَقْفِ زَوَالُ الْمِلْكِ بِدُونِ التَّمْلِيكِ: يَعْنِي لَا إلَى مَالِكٍ، وَكُلُّ مَا كَانَ زَوَالَ الْمِلْكِ بِدُونِ التَّمْلِيكِ فَإِنَّهُ يَتَأَبَّدُ كَالْعِتْقِ فَمُوجَبُ الْوَقْفِ يَتَأَبَّدُ، وَإِذَا كَانَتْ الْجِهَةُ يُتَوَهَّمُ انْقِطَاعُهَا لَا يَتَوَفَّرُ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى الْوَقْفِ مُقْتَضَاهُ، وَلِهَذَا كَانَ التَّوْقِيتُ مُبْطِلًا لَهُ لِأَنَّهُ يُنَافِي مُوجَبَهُ كَالتَّوْقِيتِ فِي الْبَيْعِ.
قِيلَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَنَاقُضٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْوَقْفِ أَنَّ الْوَقْفَ عِنْدَهُ حَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ فَكَانَ مُوجَبُهُ عَدَمَ زَوَالِ الْمِلْكِ عَنْ الْوَاقِفِ، ثُمَّ قَالَ هُنَا: مُوجَبُهُ زَوَالُ الْمِلْكِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْمَذْكُورُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أُخْرَى، فَيَكُونُ عَنْهُ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ.
وَقِيلَ أَرَادَ هَاهُنَا مَا إذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ وَلُزُومِهِ فَحِينَئِذٍ يَخْرُجُ الْوَقْفُ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ بِالِاتِّفَاقِ وَهَذَا أَوْفَقُ.
وَأَقُولُ: هَذَا لَيْسَ بِمُنَاسِبٍ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي سَبَقَ تَقْرِيرُهُ.
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْوَقْفِ هُوَ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مُوَفَّرٌ عَلَيْهِ فِيمَا إذَا جُعِلَ عَلَى جِهَةٍ تَنْقَطِعُ لِأَنَّ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى تَارَةً فِي الصَّرْفِ إلَى جِهَةٍ تَنْقَطِعُ وَأُخْرَى إلَى جِهَةٍ تَتَأَبَّدُ فَيَصِحُّ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ انْقَطَعَتْ الْجِهَةُ عَادَ الْوَقْفُ إلَى مِلْكِهِ إنْ كَانَ حَيًّا، وَإِلَى مِلْكِ وَرَثَتِهِ إنْ كَانَ مَيِّتًا.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا التَّعْلِيلُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِمَا ذُكِرَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ قَالَ وَصَارَ بَعْدَهَا لِلْفُقَرَاءِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِمْ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّأْبِيدَ شَرْطٌ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَرْوِيَّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ التَّأْبِيدُ أَصْلًا.
وَالثَّانِي أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لَكِنْ لَا يُشْتَرَطُ ذِكْرُهُ بِاللِّسَانِ.
وَالْمُصَنِّفُ أَشَارَ إلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِالتَّعْلِيلِ، وَإِلَى الثَّانِي بِذِكْرِ الْمَذْهَبِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَقِيلَ إنَّ التَّأْبِيدَ شَرْطٌ بِالْإِجْمَاعِ إلَخْ، وَفِي كَلَامِهِ تَعْقِيدٌ لَا مَحَالَةَ. قَالَ (وَيَجُوزُ وَقْفُ الْعَقَارِ) لِأَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَقَفُوهُ (وَلَا يَجُوزُ وَقْفُ مَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذَا عَلَى الْإِرْسَالِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا وَقَفَ ضَيْعَةً بِبَقَرِهَا وَأُكْرَتِهَا وَهُمْ عَبِيدُهُ جَازَ) وَكَذَا سَائِرُ آلَاتِ الْحِرَاسَةِ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلْأَرْضِ فِي تَحْصِيلِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ، وَقَدْ يَثْبُتُ مِنْ الْحُكْمِ تَبَعًا مَا لَا يَثْبُتُ مَقْصُودًا كَالشُّرْبِ فِي الْبَيْعِ وَالْبِنَاءِ فِي الْوَقْفِ، وَمُحَمَّدٌ مَعَهُ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ إفْرَادُ بَعْضِ الْمَنْقُولِ بِالْوَقْفِ عِنْدَهُ فَلَأَنْ يَجُوزَ الْوَقْفُ فِيهِ تَبَعًا أَوْلَى.
(وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَجُوزُ حَبْسُ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ) وَمَعْنَاهُ وَقْفُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَبُو يُوسُفَ مَعَهُ فِيهِ عَلَى مَا قَالُوا، وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ.
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ الْآثَارُ الْمَشْهُورَةُ فِيهِ: مِنْهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «وَأَمَّا خَالِدٌ فَقَدْ حَبَسَ أَدْرُعًا وَأَفْرَاسًا لَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَطَلْحَةُ حَبَسَ دُرُوعَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى» وَيُرْوَى أَكْرَاعَهُ.
وَالْكُرَاعُ: الْخَيْلُ.
وَيَدْخُلُ فِي حُكْمِهِ الْإِبِلُ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ يُجَاهِدُونَ عَلَيْهَا، وَكَذَا السِّلَاحُ يُحْمَلُ عَلَيْهَا وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجُوزُ وَقْفُ مَا فِيهِ تَعَامُلٌ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ كَالْفَأْسِ وَالْمَرِّ وَالْقَدُومِ وَالْمِنْشَارِ وَالْجِنَازَةِ وَثِيَابِهَا وَالْقُدُورِ وَالْمَرَاجِلِ وَالْمَصَاحِفِ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ إنَّمَا يُتْرَكُ بِالنَّصِّ، وَالنَّصُّ وَرَدَ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ.
وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ: الْقِيَاسُ قَدْ يُتْرَكُ بِالتَّعَامُلِ كَمَا فِي الِاسْتِصْنَاعِ، وَقَدْ وُجِدَ التَّعَامُلُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ.
وَعَنْ نُصَيْرِ بْنِ يَحْيَى أَنَّهُ وَقَفَ كُتُبَهُ إلْحَاقًا لَهَا بِالْمَصَاحِفِ، وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُمْسَكُ لِلدِّينِ تَعْلِيمًا وَتَعَلُّمًا وَقِرَاءَةً، وَأَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَمَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا وَقْفُهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: كُلُّ مَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهِ وَيَجُوزُ بَيْعُهُ يَجُوزُ وَقْفُهُ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، فَأَشْبَهَ الْعَقَارَ وَالْكُرَاعَ وَالسِّلَاحَ.
وَلَنَا أَنَّ الْوَقْفَ فِيهِ لَا يَتَأَبَّدُ، وَلَا بُدَّ مِنْهُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فَصَارَ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، بِخِلَافِ الْعَقَارِ، وَلَا مُعَارِضَ مِنْ حَيْثُ السَّمْعُ وَلَا مِنْ حَيْثُ التَّعَامُلُ فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ.
وَهَذَا لِأَنَّ الْعَقَارَ يَتَأَبَّدُ، وَالْجِهَادُ سَنَامُ الدِّينِ، فَكَانَ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِيهِمَا أَقْوَى فَلَا يَكُونُ غَيْرُهُمَا فِي مَعْنَاهُمَا.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَهَذَا عَلَى الْإِرْسَالِ) أَيْ مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ مِنْ قَوْلِهِ (وَلَا يَجُوزُ وَقْفُ مَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ) عَلَى الْإِطْلَاقِ مَقْصُودًا أَوْ تَبَعًا، كُرَاعًا أَوْ غَيْرَهُ، تَعَامَلُوا فِيهِ أَوْ لَا.
قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَالْأَكَرَةُ جَمْعُ أَكَّارٍ وَهُوَ الذِّرَاعُ كَأَنَّهَا جَمْعُ آكِرٍ تَقْدِيرًا.
وَقَوْلُهُ (وَالْبِنَاءُ فِي الْوَقْفِ) أَيْ فِي وَقْفِ الْأَرْضِ الَّتِي عَلَيْهَا ذَلِكَ الْبِنَاءُ كَوَقْفِ الْخَانَاتِ وَالرِّبَاطَاتِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ إفْرَادُ بَعْضِ الْمَنْقُولِ) يَعْنِي مِنْ غَيْرِ أَنْ يُجْعَلَ تَبَعًا لِشَيْءٍ كَمَا فِي الْمُتَعَارَفِ مِثْلِ الْفَأْسِ وَالْقَدُومِ وَالْمَرَاجِلِ (عِنْدَهُ) أَيْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ (فَلَأَنْ يَجُوزَ الْوَقْفُ) أَيْ وَقْفُ الْمَنْقُولِ (تَبَعًا أَوْلَى) وَالْمُرَادُ بِالْكُرَاعِ هُنَا هُوَ الْخَيْلُ لِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ السِّلَاحِ.
وَقَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ) يَعْنِي مَا مَرَّ أَنَّ مِنْ شَرْطِهِ التَّأْبِيدَ، وَالتَّأْبِيدُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمَنْقُولِ وَالْمَرَاجِلُ: قُدُورُ النُّحَاسِ.
وَقَوْلُهُ (إلْحَاقًا لَهَا بِالْمَصَاحِفِ) يَعْنِي أَنَّ وَقْفَ الْمَصَاحِفِ صَحِيحٌ، فَكَذَا الْكُتُبُ.
ذَكَرَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي وَقْفِ الْكُتُبِ جَوَّزَهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.
وَقَوْلُهُ (كُلُّ مَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهِ) احْتِرَازٌ عَنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، فَإِنَّ الِانْتِفَاعَ الَّذِي خُلِقَتْ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ لِأَجْلِهِ وَهُوَ الثَّمَنِيَّةُ لَا يُمْكِنُ بِهِمَا مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهِ فِي مِلْكِهِ.
وَقَوْلُهُ (وَيَجُوزُ بَيْعُهُ) احْتِرَازٌ عَنْ حَمْلِ النَّاقَةِ وَالْجَارِيَةِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فَكَذَا وَقْفُهُ عِنْدَهُ أَيْضًا.
وَلَنَا أَنَّ الْوَقْفَ فِي الْمَنْقُولِ لَا يَتَأَبَّدُ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَمَا لَا يَتَأَبَّدُ لَا يَجُوزُ وَقْفُهُ لِأَنَّ التَّأْبِيدَ لابد مِنْهُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فَصَارَتْ الْمَنْقُولَاتُ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ.
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الْعَقَارِ) جَوَابٌ عَنْ اعْتِبَارِهِ بِالْعَقَارِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا مُعَارِضَ مِنْ حَيْثُ السَّمْعُ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ فَأَشْبَهَ الْكُرَاعَ وَالسِّلَاحَ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَجُوزَ وَقْفُ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ أَيْضًا كَالدَّرَاهِمِ، إلَّا أَنَّا تَرَكْنَاهُ بِمُعَارِضٍ رَاجِحٍ مِنْ حَيْثُ السَّمْعُ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا مِنْ حَيْثُ التَّعَامُلُ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ تَرْكُ الْأَصْلِ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ بِمُعَارِضٍ مِنْ حَيْثُ السَّمْعُ وَهُوَ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي الْمَرَاجِلِ وَالْقَدُومِ وَغَيْرِهِمَا، فَلْتَكُنْ صُورَةُ النِّزَاعِ مَقِيسَةً عَلَى ذَلِكَ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ لَهُمَا مُعَارِضًا مِنْ حَيْثُ التَّعَامُلُ وَلَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي صُورَةِ النِّزَاعِ كَالْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ وَالثِّيَابِ وَالْبُسُطِ وَأَمْثَالِهَا فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ.
وَقَوْلُهُ (وَهَذَا) اسْتِظْهَارٌ عَلَى أَنَّ إلْحَاقَ غَيْرِ الْعَقَارِ وَالْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ بِهِمَا غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّ غَيْرَهُمَا لِقُوَّتِهِمَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُمَا، وَلَمْ يَذْكُرْ التَّعَامُلَ اعْتِمَادًا عَلَى شُهْرَةِ كَوْنِ التَّعَامُلِ أَقْوَى مِنْ الْقِيَاسِ فَجَازَ أَنْ يُتْرَكَ بِهِ. قَالَ (وَإِذَا صَحَّ الْوَقْفُ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ وَلَا تَمْلِيكُهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَشَاعًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَيَطْلُبُ الشَّرِيكُ الْقِسْمَةَ فَيَصِحُّ مُقَاسَمَتُهُ) أَمَّا امْتِنَاعُ التَّمْلِيكِ فَلِمَا بَيَّنَّا.
وَأَمَّا جَوَازُ الْقِسْمَةِ فَلِأَنَّهَا تَمْيِيزٌ وَإِفْرَازٌ، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْغَالِبَ فِي غَيْرِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ، إلَّا أَنَّ فِي الْوَقْفِ جَعَلْنَا الْغَالِبَ مَعْنَى الْإِفْرَازِ نَظَرًا لِلْوَقْفِ فَلَمْ تَكُنْ بَيْعًا وَتَمْلِيكًا؛ ثُمَّ إنْ وَقَفَ نَصِيبَهُ مِنْ عَقَارٍ مُشْتَرَكٍ فَهُوَ الَّذِي يُقَاسِمُ شَرِيكَهُ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لِلْوَاقِفِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ إلَى وَصِيَّةٍ، وَإِنْ وَقَفَ نِصْفَ عَقَارٍ خَالِصٍ لَهُ فَاَلَّذِي يُقَاسِمُهُ الْقَاضِي أَوْ يَبِيعُ نَصِيبَهُ الْبَاقِي مِنْ رَجُلٍ، ثُمَّ يُقَاسِمُهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ يَشْتَرِي ذَلِكَ مِنْهُ لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُقَاسِمًا وَمُقَاسَمًا، وَلَوْ كَانَ فِي الْقِسْمَةِ فَضْلُ دَرَاهِمَ إنْ أَعْطَى الْوَاقِفَ لَا يَجُوزُ لِامْتِنَاعِ بَيْعِ الْوَقْفِ، وَإِنْ أَعْطَى الْوَاقِفَ جَازَ وَيَكُونُ بِقَدْرِ الدَّرَاهِمِ شِرَاءً.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِذَا صَحَّ الْوَقْفُ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ) أَيْ إذَا لَزِمَ الْوَقْفُ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ وَلَا تَمْلِيكُهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مُشَاعًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَيَطْلُبَ الشَّرِيكُ الْقِسْمَةَ فَتَصِحَّ مُقَاسَمَتُهُ، فَقَوْلُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُشَاعًا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ أَوْ مُتَّصِلٌ، لِأَنَّ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ فِي قِسْمَةِ الْعَقَارِ رَاجِحٌ فَجُعِلَ كَأَنَّهُ بَيْعٌ اتِّسَاعًا، أَمَّا امْتِنَاعُ التَّمْلِيكِ فَلِمَا بَيَّنَّا: يَعْنِي مَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «تَصَدَّقْ بِأَصْلِهَا لَا تُبَاعُ وَلَا تُوهَبُ» وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ مَاسَّةٌ إلَخْ.
وَقَوْلُهُ (وَأَمَّا جَوَازُ الْقِسْمَةِ) فَظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (فَهُوَ الَّذِي يُقَاسِمُ) أَيْ الْوَاقِفُ هُوَ الَّذِي يُقَاسِمُ شَرِيكَهُ لَا الْقَاضِي.
وَقَوْلُهُ (خَالِصٌ) صِفَةُ عَقَارٍ: أَيْ لَوْ كَانَ لَهُ عَقَارٌ مِائَةُ ذِرَاعٍ وَهُوَ خَالِصٌ لَهُ لَا شَرِكَةَ لِغَيْرِهِ فِيهِ فَوَقَفَ مِنْهُ خَمْسِينَ ذِرَاعًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَاسِمُ هَاهُنَا غَيْرَ الْوَاقِفِ لِئَلَّا يَلْزَمَ أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ مُطَالَبًا وَمُطَالِبًا، فَإِنَّ مُقَاسِمَ النِّصْفِ الَّذِي هُوَ الْوَقْفُ مُطَالَبٌ مِنْ مَالِكِ النِّصْفِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ وَقْفٍ وَمَالِكُ النِّصْفِ مُطَالَبٌ وَهُوَ الْوَاقِفُ بِعَيْنِهِ الْمُقَاسِمُ لِنِصْفِ الْوَقْفِ فَكَانَ مُطَالَبًا وَمُطَالِبًا، وَهُوَ لَا يَجُوزُ فَيُرْفَعُ أَمْرُهُ إلَى الْقَاضِي لِيُقَاسِمَهُ، أَوْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ الْبَاقِيَ مِنْ رَجُلٍ ثُمَّ يُقَاسِمَ الْمُشْتَرِيَ ثُمَّ يَشْتَرِيَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ فِي الْقِسْمَةِ فَضْلُ دَرَاهِمَ بِأَنْ كَانَ أَحَدُ النَّصِيبَيْنِ أَجْوَدَ فَدَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى إدْخَالِ الدَّرَاهِمِ فِي الْقِسْمَةِ أَوْ تَرَاضَيَا عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ إدْخَالَ الدَّرَاهِمِ فِي الْقِسْمَةِ لَا يَجُوزُ إلَّا لِضَرُورَةٍ أَوْ بِالتَّرَاضِي عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْوَاقِفُ يَأْخُذُ الدَّرَاهِمَ أَوْ يُعْطِيهَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ يُعْطِي بِمُقَابَلَةِ الدَّرَاهِمِ شَيْئًا مِنْ الْوَقْفِ، وَبَيْعُ الْوَقْفِ لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ جَازَ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَشْتَرِي شَيْئًا بِمُقَابَلَةِ الدَّرَاهِمِ وَيَقِفُهُ وَهُوَ جَائِزٌ. قَالَ (وَالْوَاجِبُ أَنْ يُبْتَدَأَ مِنْ ارْتِفَاعِ الْوَقْفِ بِعِمَارَتِهِ شَرَطَ ذَلِكَ الْوَاقِفُ أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ) لِأَنَّ قَصْدَ الْوَاقِفِ صَرْفُ الْغَلَّةِ مُؤَبَّدًا، وَلَا تَبْقَى دَائِمَةً إلَّا بِالْعِمَارَةِ فَيَثْبُتُ شَرْطُ الْعِمَارَةِ اقْتِضَاءً وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ وَصَارَ كَنَفَقَةِ الْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ، فَإِنَّهَا عَلَى الْمُوصَى لَهُ بِهَا.
ثُمَّ إنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى الْفُقَرَاءِ لَا يَظْفَرُ بِهِمْ، وَأَقْرَبُ أَمْوَالِهِمْ هَذِهِ الْغَلَّةُ فَتَجِبُ فِيهَا.
وَلَوْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ وَآخِرُهُ لِلْفُقَرَاءِ فَهُوَ فِي مَالِهِ: أَيِّ مَالٍ شَاءَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ.
وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ الْغَلَّةِ؛ لِأَنَّهُ مُعَيَّنٌ يُمْكِنُ مُطَالَبَتُهُ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْعِمَارَةَ عَلَيْهِ بِقَدْرِ مَا يَبْقَى الْمَوْقُوفُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي وَقَفَهُ، وَإِنْ خَرِبَ يَبْنِي عَلَى ذَلِكَ الْوَصْفِ؛ لِأَنَّهَا بِصِفَتِهَا صَارَتْ غَلَّتُهَا مَصْرُوفَةً إلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ.
فَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ فَلَيْسَتْ بِمُسْتَحَقَّةٍ عَلَيْهِ وَالْغَلَّةُ مُسْتَحَقَّةٌ فَلَا يَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى شَيْءٍ آخَرَ إلَّا بِرِضَاهُ، وَلَوْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى الْفُقَرَاءِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ الْبَعْضِ، وَعِنْدَ الْآخَرِينَ يَجُوزُ ذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ الصَّرْفَ إلَى الْعِمَارَةِ ضَرُورَةُ إبْقَاءِ الْوَقْفِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي الزِّيَادَةِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ«الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ») هَذَا لَفْظُ الْحَدِيثِ، وَهُوَ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ، وَلِإِحْرَازِهِ مَعَانِيَ جَمَّةً جَرَى مَجْرَى الْمِثْلِ وَاسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ مَضَرَّةٍ بِمُقَابَلَةِ مَنْفَعَةٍ، وَمَعْنَاهُ هَاهُنَا: أَنَّ غَلَّةَ الْوَقْفِ لَمَّا كَانَتْ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ كَانَتْ الْعِمَارَةُ عَلَيْهِمْ أَيْضًا.
ثُمَّ إنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى الْفُقَرَاءِ لَا يَظْفَرُ بِهِمْ: أَيْ لَا يَفُوزُ الْمُتَوَلِّي بِهِمْ لِعَدَمِ تَعَيُّنِهِمْ وَعُسْرَتِهِمْ، وَأَقْرَبُ أَمْوَالِهِمْ إلَى الْمُتَوَلِّي هَذِهِ الْغَلَّةُ فَتَجِبُ فِيهَا.
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ الْغَلَّةِ) يَعْنِي حَتْمًا لِأَنَّهُ قَالَ فَهُوَ فِي مَالِهِ أَيَّ مَالٍ شَاءَ، وَهَذِهِ الْغَلَّةُ أَيْضًا مِنْ مَالِهِ، فَلَوْ لَمْ يُقَيَّدْ بِذَلِكَ تَنَاقَضَ كَلَامُهُ.
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى الْفُقَرَاءِ) يَعْنِي لَا عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ الْبَعْضِ: أَيْ لَا تُصْرَفُ غَلَّةُ الْوَقْفِ إلَى زِيَادَةِ عِمَارَةٍ لَمْ تَكُنْ فِي ابْتِدَاءِ الْوَقْفِ بَلْ تُصْرَفُ إلَى الْفُقَرَاءِ.
وَعِنْدَ آخَرِينَ يَجُوزُ ذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْبِنَاءُ الثَّانِي مِثْلَ الْأَوَّلِ لَا زَائِدًا عَلَيْهِ أَصَحُّ لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ. قَالَ (فَإِنْ وَقَفَ دَارًا عَلَى سُكْنَى وَلَدِهِ فَالْعِمَارَةُ عَلَى مَنْ لَهُ سُكْنَى) لِأَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ عَلَى مَا مَرَّ فَصَارَ كَنَفَقَةِ الْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ (فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ كَانَ فَقِيرًا آجَرَهَا الْحَاكِمُ وَعَمَّرَهَا بِأُجْرَتِهَا، وَإِذَا عَمَّرَهَا رَدَّهَا إلَى مَنْ لَهُ السُّكْنَى) لِأَنَّ فِي ذَلِكَ رِعَايَةَ الْحَقَّيْنِ حَقِّ الْوَاقِفِ وَحَقِّ صَاحِبِ السُّكْنَى، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعَمِّرْهَا تَفُوتُ السُّكْنَى أَصْلًا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَلَا يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ عَلَى الْعِمَارَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ إتْلَافِ مَالِهِ فَأَشْبَهَ امْتِنَاعَ صَاحِبِ الْبَذْرِ فِي الْمُزَارَعَةِ فَلَا يَكُونُ امْتِنَاعُهُ رِضًا مِنْهُ بِبُطْلَانِ حَقِّهِ لِأَنَّهُ فِي حَيِّزِ التَّرَدُّدِ، وَلَا تَصِحُّ إجَارَةُ مَنْ لَهُ السُّكْنَى لِأَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ وَقَفَ دَارًا عَلَى سُكْنَى وَلَدِهِ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَالْأَوَّلُ أَوْلَى) يُرِيدُ بِهِ إجَارَةَ الْحَاكِمِ وَعِمَارَتَهَا بِأُجْرَتِهَا ثُمَّ رَدَّهَا إلَى مَنْ لَهُ السُّكْنَى.
وَالثَّانِي هُوَ تَرْكُ الْعِمَارَةِ.
وَاسْتُفِيدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْمُرْهَا تَفُوتُ السُّكْنَى أَصْلًا.
وَقَوْلُهُ (فِي حَيِّزِ التَّرَدُّدِ) بَيَانُهُ أَنَّ الِامْتِنَاعَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِبُطْلَانِ حَقِّهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نُقْصَانُ مَالِهِ فِي الْحَالِ وَلِرَجَائِهِ إصْلَاحَ الْقَاضِي وَعِمَارَتَهُ ثُمَّ رَدَّهُ إلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا تَصِحُّ إجَارَةُ مَنْ لَهُ السُّكْنَى) إضَافَةُ الْمَصْدَرِ إلَى فَاعِلِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ وَلَا تَمْلِيكَ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ، وَمَنْ لَهُ السُّكْنَى لَيْسَ بِمَالِكٍ.
وَنُوقِضَ بِالْمُسْتَأْجِرِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُؤَجِّرَ الدَّارَ وَلَيْسَ بِمَالِكِهَا.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مَالِكُ الْمَنْفَعَةِ وَلِهَذَا أُقِيمَتْ الْعَيْنُ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ الْمَعْدُومَةِ، وَمَنْ لَهُ السُّكْنَى أُبِيحَتْ لَهُ الْمَنْفَعَةُ وَلِهَذَا لَمْ تَقُمْ الْعَيْنُ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ فِي ابْتِدَاءِ الْوَقْفِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ تَمْلِيكِ الْمَالِكِ جَوَازُ تَمْلِيكِ غَيْرِهِ. قَالَ (وَمَا انْهَدَمَ مِنْ بِنَاءِ الْوَقْفِ وَآلَتِهِ) صَرَفَهُ الْحَاكِمُ فِي عِمَارَةِ الْوَقْفِ إنْ احْتَاجَ إلَيْهِ، وَإِنْ اسْتَغْنَى عَنْهُ أَمْسَكَهُ حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى عِمَارَتِهِ فَيَصْرِفَهُ فِيهِمَا؛ لِأَنَّهُ لابد مِنْ الْعِمَارَةِ لِيَبْقَى عَلَى التَّأْبِيدِ فَيَحْصُلَ مَقْصُودُ الْوَاقِفِ.
فَإِنْ مَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ فِي الْحَالِ صَرَفَهَا فِيهَا، وَإِلَّا أَمْسَكَهَا حَتَّى لَا يَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ أَوَانَ الْحَاجَةِ فَيَبْطُلُ الْمَقْصُودُ، وَإِنْ تَعَذَّرَ إعَادَةُ عَيْنِهِ إلَى مَوْضِعِهِ بِيعَ وَصُرِفَ ثَمَنُهُ إلَى الْمَرَمَّةِ صَرْفًا لِلْبَدَلِ إلَى مَصْرِفِ الْمُبْدَلِ (وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْسِمَهُ) يَعْنِي النَّقْضَ (بَيْنَ مُسْتَحَقِّي الْوَقْفِ) لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْعَيْنِ وَلَا حَقَّ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ فِيهِ: وَإِنَّمَا حَقُّهُمْ فِي الْمَنَافِعِ، وَالْعَيْنُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَصْرِفُ إلَيْهِمْ غَيْرَ حَقِّهِمْ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَمَا انْهَدَمَ مِنْ بِنَاءِ الْوَقْفِ وَآلَتِهِ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: قَوْلُهُ وَآلَتِهِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَجْرُورًا بِالْعَطْفِ عَلَى الْبِنَاءِ: يَعْنِي مَا انْهَدَمَ مِنْ آلَةِ الْوَقْفِ بِأَنْ بَلِيَ خَشَبُ الْوَقْفِ وَفَسَدَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا بِالْعَطْفِ عَلَى مَا الْمَوْصُولَةِ وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ الثِّقَاتِ، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ انْهَدَمَتْ الْآلَةُ، وَالنَّقْضُ بِضَمِّ النُّونِ الْبِنَاءُ الْمَنْقُوضُ، وَفِي الصِّحَاحِ ذَكَرَهُ بِكَسْرِ النُّونِ لَا غَيْرُ. قَالَ (وَإِذَا جَعَلَ الْوَاقِفُ غَلَّةَ الْوَقْفِ لِنَفْسِهِ أَوْ جَعَلَ الْوِلَايَةَ إلَيْهِ جَازَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ذَكَرَ فَصْلَيْنِ شَرْطَ الْغَلَّةِ لِنَفْسِهِ وَجَعْلَ الْوِلَايَةِ إلَيْهِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ هِلَالٍ الرَّازِيِّ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.
وَقِيلَ إنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمَا بِنَاءً عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ وَالْإِفْرَازِ.
وَقِيلَ هِيَ مَسْأَلَةٌ مُبْتَدَأَةٌ، وَالْخِلَافُ فِيمَا إذَا شَرَطَ الْبَعْضَ لِنَفْسِهِ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ لِلْفُقَرَاءِ، وَفِيمَا إذَا شَرَطَ الْكُلَّ لِنَفْسِهِ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ لِلْفُقَرَاءِ سَوَاءٌ؛ وَلَوْ وَقَفَ وَشَرَطَ الْبَعْضَ أَوْ الْكُلَّ لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرِيهِ مَا دَامُوا أَحْيَاءً، فَإِذَا مَاتُوا فَهُوَ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، فَقَدْ قِيلَ يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ، وَقَدْ قِيلَ هُوَ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ اشْتِرَاطَهُ لَهُمْ فِي حَيَاتِهِ كَاشْتِرَاطِهِ لِنَفْسِهِ.
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْوَقْفَ تَبَرُّعٌ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ بِالطَّرِيقِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ، فَاشْتِرَاطُهُ الْبَعْضَ أَوْ الْكُلَّ لِنَفْسِهِ يُبْطِلُهُ؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْ نَفْسِهِ لَا يَتَحَقَّقُ فَصَارَ كَالصَّدَقَةِ الْمُنَفِّذَةِ، وَشَرْطَ بَعْضِ بُقْعَةِ الْمَسْجِدِ لِنَفْسِهِ.
وَلِأَبِي يُوسُفَ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ صَدَقَتِهِ» وَالْمُرَادُ مِنْهَا صَدَقَتُهُ الْمَوْقُوفَةُ، وَلَا يَحِلُّ الْأَكْلُ مِنْهَا إلَّا بِالشَّرْطِ، فَدَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ، وَلِأَنَّ الْوَقْفَ إزَالَةُ الْمِلْكِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، فَإِذَا شَرَطَ الْبَعْضَ أَوْ الْكُلَّ لِنَفْسِهِ، فَقَدْ جَعَلَ مَا صَارَ مَمْلُوكًا لِلَّهِ تَعَالَى لِنَفْسِهِ لَا أَنَّهُ يَجْعَلُ مِلْكَ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ، وَهَذَا جَائِزٌ، كَمَا إذَا بَنَى خَانًا أَوْ سِقَايَةً أَوْ جَعَلَ أَرْضَهُ مَقْبَرَةً، وَشَرَطَ أَنْ يَنْزِلَهُ أَوْ يَشْرَبَ مِنْهُ أَوْ يُدْفَنَ فِيهِ، وَلِأَنَّ مَقْصُودَهُ الْقُرْبَةُ وَفِي الصَّرْفِ إلَى نَفْسِهِ ذَلِكَ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ صَدَقَةٌ».
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَا يَجُوزُ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ) بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّسْلِيمَ إلَى الْمُتَوَلِّي شَرْطٌ عِنْدَهُ وَلَمْ يُوجَدْ.
قَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ: وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ تَرْغِيبًا لِلنَّاسِ فِي الْوَقْفِ.
وَقَوْلُهُ (فَقَدْ قِيلَ يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ) وَهُوَ رِوَايَةُ الْمَبْسُوطِ وَالذَّخِيرَةِ وَالتَّتِمَّةِ وَفَتَاوَى قَاضِي خَانْ، وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ، فَإِنَّهُ لَوْ شَرَطَ بَعْضَ الْغَلَّةِ أَوْ كُلَّهَا لِنَفْسِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ جَازَ فَلِأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ أَوْلَى، وَإِنَّمَا الْإِشْكَالُ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ وَاشْتِرَاطُهُ لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ فِي حَيَاتِهِ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِهِ لِنَفْسِهِ، وَلَكِنْ جَوَّزَ ذَلِكَ اسْتِحْسَانًا لِلْعُرْفِ، وَلِأَنَّهُ لابد مِنْ تَصْحِيحِ هَذَا الشَّرْطِ لَهُنَّ لِأَنَّهُنَّ يَعْتِقْنَ بِمَوْتِهِ، فَاشْتِرَاطُهُ لَهُنَّ كَاشْتِرَاطِهِ لِسَائِرِ الْأَجَانِبِ فَيَجُوزُ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ أَيْضًا تَبَعًا لِمَا بَعْدَ الْوَفَاةِ، وَقَدْ قِيلَ هُوَ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ اشْتِرَاطَهُ لَهُمْ فِي حَيَاتِهِ: أَيْ اشْتِرَاطُ صَرْفِ الْغَلَّةِ فِي ابْتِدَاءِ الْوَقْفِ لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرِيهِ، وَذَكَّرَ الضَّمِيرَ تَغْلِيبًا لِلْمُدَبَّرِينَ عَلَى أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ كَاشْتِرَاطِهِ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ اشْتِرَاطُ صَرْفِ الْغَلَّةِ لِنَفْسِهِ فِي ابْتِدَاءِ الْوَقْفِ جَائِزٌ بِدُونِ وَاسِطَةٍ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، فَكَذَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ صَرْفِ الْغَلَّةِ إلَى نَفْسِهِ انْتِهَاءً بِوَاسِطَةِ اشْتِرَاطِ صَرْفِ الْغَلَّةِ إلَى أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرِيهِ.
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْوَقْفَ تَبَرُّعٌ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ بِالطَّرِيقِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ: أَيْ بِطَرِيقِ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَاشْتِرَاطُهُ الْكُلَّ أَوْ الْبَعْضَ لِنَفْسِهِ يُبْطِلُهُ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْ نَفْسِهِ لَا يَتَحَقَّقُ فَصَارَ كَالصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسَلِّمَ قَدْرًا مِنْ مَالِهِ لِلْفَقِيرِ عَلَى وَجْهِ الصَّدَقَةِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ لَهُ وَشَرْطِ بَعْضِ بُقْعَةِ الْمَسْجِدِ لِنَفْسِهِ، فَقَوْلُهُ وَشَرْطِ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ كَالصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ، وَمَعْنَاهُ أَنْ يَجْعَلَ بَعْضَ الْمَسْجِدِ لِنَفْسِهِ كَانَ مَانِعًا عَنْ الْجَوَازِ فِي الْكُلِّ، فَكَذَا إذَا جَعَلَ بَعْضَ الْغَلَّةِ لِنَفْسِهِ.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَبِي يُوسُفَ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ صَدَقَتِهِ») ذَكَرَ الْحَدِيثَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي مَبْسُوطِهِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الصَّدَقَةُ الْمَوْقُوفَةُ، وَلَا يَحِلُّ الْأَكْلُ مِنْهُ إلَّا بِالشَّرْطِ بِالْإِجْمَاعِ فَدَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ.
وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ) إشَارَةٌ إلَى مَا ذُكِرَ عِنْدَ قَوْلِهِ وَلَا يَتِمُّ الْوَقْفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ حَتَّى يَجْعَلَ آخِرَهُ إلَى جِهَةٍ لَا تَنْقَطِعُ أَبَدًا بِقَوْلِهِ لَهُمَا إنَّ مُوجَبَ الْوَقْفِ زَوَالُ الْمِلْكِ بِدُونِ التَّمْلِيكِ، وَإِلَى قَوْلِهِ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ التَّقَرُّبُ، فَعُلِمَ مِنْ هَذَا الْمَجْمُوعِ أَنَّ الْوَقْفَ إزَالَةُ الْمِلْكِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ. وَلَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ أَنْ يَسْتَبْدِلَ بِهِ أَرْضًا أُخْرَى إذَا شَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْوَقْفُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ.
الشَّرْحُ:
وَلَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ أَنْ يَسْتَبْدِلَ بِهِ أَرْضًا أُخْرَى إذَا شَاءَ ذَلِكَ جَازَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ فِي التَّوَسُّعِ فِي الْوَقْفِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْوَقْفُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَنْعِ مِنْ زَوَالِهِ، وَالْوَقْتُ يَتِمُّ بِذَلِكَ وَلَا يَنْعَدِمُ بِهِ مَعْنَى التَّأْبِيدِ فِي أَصْلِ الْوَقْفِ، فَيَتِمُّ الْوَقْفُ بِشُرُوطِهِ وَيَبْقَى الِاسْتِبْدَالُ شَرْطًا فَاسِدًا فَيَكُونُ بَاطِلًا فِي نَفْسِهِ كَالْمَسْجِدِ إذَا شُرِطَ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ أَوْ شُرِطَ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ قَوْمٌ دُونَ قَوْمٍ فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ وَاِتِّخَاذُ الْمَسْجِدِ صَحِيحٌ فَهَذَا مِثْلُهُ. وَلَوْ شَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ فِي الْوَقْفِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ جَازَ الْوَقْفُ وَالشَّرْطُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْوَقْفُ بَاطِلٌ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا.
الشَّرْحُ:
وَلَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ فِي الْوَقْفِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ جَازَ الْوَقْفُ، وَالْخِيَارُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ بِنَاءً عَلَى التَّوْسِعَةِ كَمَا مَرَّ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْوَقْفُ بَاطِلٌ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِتَكُونَ مُدَّةُ الْخِيَارِ مَعْلُومَةً، حَتَّى لَوْ كَانَتْ مَجْهُولَةً لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا قَوْلُهُ وَهَذَا أَيْ الْخِلَافُ (بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ) إشَارَةٌ إلَى أَنَّ جَعْلَ غَلَّةِ الْوَقْفِ لِنَفْسِهِ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَسْتَثْنِيَ الْوَاقِفُ الْغَلَّةَ لِنَفْسِهِ مَا دَامَ حَيًّا فَكَذَلِكَ يَجُوزُ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ لِنَفْسِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِيُرَوَّى النَّظَرُ فِيهِ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَمَّا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ لِنَفْسِهِ أَيْضًا، وَبِهَذَا الْبِنَاءِ صَرَّحَ فِي الْمَبْسُوطِ.
ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ الْوَقْفُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لَمْ يَنْقَلِبْ الْوَقْفُ جَائِزًا بِإِبْطَالِ الْخِيَارِ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْوَقْفَ لَا يَجُوزُ إلَّا مُؤَبَّدًا وَشَرْطُ الْخِيَارِ يَمْنَعُ التَّأْبِيدَ فَكَانَ شَرْطُ الْخِيَارِ شَرْطًا فَاسِدًا فِي نَفْسِ الْعَقْدِ فَكَانَ الْمُفْسِدُ قَوِيًّا. وَأَمَّا فَصْلُ الْوِلَايَةِ فَقَدْ نَصَّ فِيهِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ قَوْلُ هِلَالٍ أَيْضًا وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ.
وَذَكَرَ هِلَالٌ فِي وَقْفِهِ وَقَالَ أَقْوَامٌ: إنْ شَرَطَ الْوَاقِفُ الْوِلَايَةَ لِنَفْسِهِ كَانَتْ لَهُ وِلَايَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ لَمْ تَكُنْ لَهُ وِلَايَةٌ.
قَالَ مَشَايِخُنَا: الْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ، لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ التَّسْلِيمَ إلَى الْقَيِّمِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْوَقْفِ، فَإِذَا سَلَّمَ لَمْ يَبْقَ لَهُ وِلَايَةٌ فِيهِ.
وَلَنَا أَنَّ الْمُتَوَلِّي إنَّمَا يَسْتَفِيدُ الْوِلَايَةَ مِنْ جِهَتِهِ بِشَرْطِهِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ الْوِلَايَةُ وَغَيْرُهُ يَسْتَفِيدُ الْوِلَايَةَ مِنْهُ، وَلِأَنَّهُ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَى هَذَا الْوَقْفِ فَيَكُونُ أَوْلَى بِوِلَايَتِهِ، كَمَنْ اتَّخَذَ مَسْجِدًا يَكُونُ أَوْلَى بِعِمَارَتِهِ وَنَصْبِ الْمُؤَذِّنِ فِيهِ، وَكَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا كَانَ الْوَلَاءُ لَهُ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَيْهِ.
وَلَوْ أَنَّ الْوَاقِفَ شَرَطَ وِلَايَتَهُ لِنَفْسِهِ وَكَانَ الْوَاقِفُ غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَى الْوَقْفِ فَلِلْقَاضِي أَنْ يَنْزِعَهَا مِنْ يَدِهِ نَظَرًا لِلْفُقَرَاءِ، كَمَا لَهُ أَنْ يُخْرِجَ الْوَصِيَّ نَظَرًا لِلصِّغَارِ، وَكَذَا إذَا شَرَطَ أَنْ لَيْسَ لِلسُّلْطَانِ وَلَا لِقَاضٍ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ يَدِهِ وَيُوَلِّيَهَا غَيْرَهُ لِأَنَّهُ شَرْطٌ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الشَّرْعِ فَبَطَلَ.
الشَّرْحُ:
(قَوْلُهُ وَأَمَّا فَصْلُ الْوِلَايَةِ فَقَدْ نَصَّ فِيهِ) أَيْ فَقَدْ نَصَّ الْقُدُورِيُّ فِي فَصْلِ الْوِلَايَةِ بِالْجَوَازِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ بِقَوْلِهِ وَإِذَا جَعَلَ الْوَاقِفُ إلَى قَوْلِهِ جَازَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ هِلَالٍ أَيْضًا، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، وَذَكَرَ هِلَالٌ فِي وَقْفِهِ، وَقَالَ أَقْوَامٌ: إنَّ شَرْطَ الْوَاقِفِ الْوِلَايَةَ لِنَفْسِهِ كَانَتْ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَشْرِطْ لَمْ تَكُنْ لَهُ وِلَايَةٌ، وَهَذَا بِظَاهِرِهِ لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ لَهُ الْوِلَايَةَ شَرَطَ أَوْ سَكَتَ، وَلَا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ إلَى الْمُتَوَلِّي شَرْطُ صِحَّةِ الْوَقْفِ فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِطَ الْوَاقِفُ الْوِلَايَةَ لِنَفْسِهِ وَهُوَ يَمْنَعُ التَّسْلِيمَ إلَى الْمُتَوَلِّي، فَلِهَذَا أَوَّلَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا وَقَالُوا: الْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَوْلَ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ التَّسْلِيمَ إلَخْ، وَمَعْنَاهُ إذَا سَلَّمَهُ إلَى الْمُتَوَلِّي وَقَدْ شَرَطَ الْوِلَايَةَ لِنَفْسِهِ حِينَ وَقَفَهُ كَانَ لَهُ الْوِلَايَةُ بَعْدَمَا سَلَّمَهُ إلَى الْمُتَوَلِّي، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي السِّيَرِ إذَا وَقَفَ ضَيْعَةً وَأَخْرَجَهَا إلَى الْقَيِّمِ لَا تَكُونُ لَهُ الْوِلَايَةُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْوِلَايَةَ لِنَفْسِهِ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَشْتَرِطْ فِي ابْتِدَاءِ الْوَقْفِ فَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةٌ بَعْدَ التَّسْلِيمِ.
قَالَ قَاضِي خَانْ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ التَّسْلِيمُ إلَى الْمُتَوَلِّي شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْوَقْفِ فَلَا تَبْقَى لَهُ وِلَايَةٌ بَعْدَ التَّسْلِيمِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْوِلَايَةَ لِنَفْسِهِ، أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَالتَّسْلِيمُ إلَى الْمُتَوَلِّي لَيْسَ بِشَرْطٍ فَكَانَتْ الْوِلَايَةُ لِلْوَاقِفِ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ الْوِلَايَةَ لِنَفْسِهِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَنَا أَنَّ الْمُتَوَلِّيَ إنَّمَا يَسْتَفِيدُ الْوِلَايَةَ مِنْ جِهَتِهِ) اسْتِدْلَالٌ لِأَبِي يُوسُفَ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلِه ِوَلَنَا: إشَارَةً إلَى أَنَّهُ الْمُخْتَارُ، وَكَلَامُهُ الْبَاقِي ظَاهِرٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى شَرْحٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ): في خروج المسجد عن ملك صاحبه:
(وَإِذَا بَنَى مَسْجِدًا لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ حَتَّى يَفْرِزَهُ عَنْ مِلْكِهِ بِطَرِيقِهِ وَيَأْذَنَ لِلنَّاسِ بِالصَّلَاةِ فِيهِ، فَإِذَا صَلَّى فِيهِ وَاحِدٌ زَالَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ مِلْكِهِ) أَمَّا الْإِفْرَازُ فَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُصُ لِلَّهِ تَعَالَى إلَّا بِهِ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ فِيهِ فَلِأَنَّهُ لابد مِنْ التَّسْلِيمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَيُشْتَرَطُ تَسْلِيمُ نَوْعِهِ، وَذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ بِالصَّلَاةِ فِيهِ، أَوْ لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ الْقَبْضُ فَقَامَ تَحَقُّقُ الْمَقْصُودِ مَقَامَهُ ثُمَّ يُكْتَفَى بِصَلَاةِ الْوَاحِدِ فِيهِ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْجِنْسِ مُتَعَذِّرٌ فَيُشْتَرَطُ أَدْنَاهُ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الصَّلَاةُ بِالْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ بُنِيَ لِذَلِكَ فِي الْغَالِبِ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَزُولُ مِلْكُهُ بِقَوْلِهِ جَعَلْته مَسْجِدًا) لِأَنَّ التَّسْلِيمَ عِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ لِمِلْكِ الْعَبْدِ فَيَصِيرُ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى بِسُقُوطِ حَقِّ الْعَبْدِ وَصَارَ كَالْإِعْتَاقِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ.
الشَّرْحُ:
فَصْلٌ.
فَصَلَ أَحْكَامَ الْمَسْجِدِ عَمَّا قَبْلَهُ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ لِمُخَالَفَةِ أَحْكَامِهِ لِمَا قَبْلَهُ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُتَوَلِّي عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَمَنْعِ الشُّيُوعِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَخُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ لَمْ يَحْكُمْ بِهِ الْحَاكِمُ فَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ الْوَقْفِ وَالْمَسْجِدِ، فَإِنَّ الْوَقْفَ إذَا لَمْ يَحْكُمْ بِهِ حَاكِمٌ وَلَمْ يَكُنْ مُوصًى بِهِ وَلَا مُضَافًا إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ، وَأَمَّا الْمَسْجِدُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ وَلَا يَبِيعَهُ، وَلَا يُورَثُ عَنْهُ لِأَنَّ الْوَقْفَ اجْتَمَعَ فِيهِ مَعْنَيَانِ: الْحَبْسُ، وَالصَّدَقَةُ، فَإِذَا قَالَ وَقَفْت فَكَأَنَّهُ قَالَ حَبَسْت الْعَيْنَ عَلَى مِلْكِي وَتَصَدَّقْت بِالْغَلَّةِ، وَلَوْ صَرَّحَ بِذَلِكَ لَا يَصِحُّ مَا لَمْ يُوصِ بِهِ لِأَنَّ التَّصَدُّقَ بِالْغَلَّةِ الْمَعْدُومَةِ لَا يَصِحُّ، فَإِذَا أَوْصَى بِهِ أَوْ أَضَافَهُ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ كَانَ لَازِمًا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَأَمَّا إذَا قَالَ جَعَلْت أَرْضِي مَسْجِدًا فَلَيْسَ فِيهِ مَا يُوجِبُ الْبَقَاءَ عَلَى مِلْكِهِ، فَلَوْ أَزَالَهُ لِلَّهِ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ كَمَا لَوْ أَزَالَهُ بِالْإِعْتَاقِ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الصَّلَاةُ فِيهِ بِالْجَمَاعَةِ) وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا، وَيُشْتَرَطُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ جَهْرِيَّةً بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، حَتَّى لَوْ صَلَّى جَمَاعَةٌ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَإِقَامَةٍ سِرًّا لَا يَصِيرُ مَسْجِدًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، فَإِنْ أَذَّنَ رَجُلٌ وَاحِدٌ وَأَقَامَ وَصَلَّى وَحْدَهُ صَارَ مَسْجِدًا بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ صَلَاتَهُ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ كَالْجَمَاعَةِ.
وَقَوْلُهُ (وَقَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ) إشَارَةٌ إلَى مَا قَالَ عِنْدَ قَوْلِهِ وَلَا يُتَمَّمُ الْوَقْفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ بِقَوْلِهِ لَهُمَا أَنَّ مُوجِبَ الْوَقْفِ زَوَالُ الْمِلْكِ بِدُونِ التَّمْلِيكِ وَأَنَّهُ يَتَأَبَّدُ كَالْعِتْقِ، وَالسِّرْدَابُ بِكَسْرِ السِّينِ مُعَرَّبُ سِرْدَابَةَ.
وَهُوَ بَيْتٌ يُتَّخَذُ تَحْتَ الْأَرْضِ لِلتَّبْرِيدِ. قَالَ: وَمَنْ جَعَلَ مَسْجِدًا تَحْتَهُ سِرْدَابٌ أَوْ فَوْقَهُ بَيْتٌ وَجَعَلَ بَابَ الْمَسْجِدِ إلَى الطَّرِيقِ، وَعَزَلَهُ عَنْ مِلْكِهِ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ، وَإِنْ مَاتَ يُورَثُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْلُصْ لِلَّهِ تَعَالَى لِبَقَاءِ حَقِّ الْعَبْدِ مُتَعَلِّقًا بِهِ، وَلَوْ كَانَ السِّرْدَابُ لِمَصَالِحِ الْمَسْجِدِ جَازَ كَمَا فِي مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إذَا جَعَلَ السُّفْلَ مَسْجِدًا وَعَلَى ظَهْرِهِ مَسْكَنٌ فَهُوَ مَسْجِدٌ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مِمَّا يَتَأَبَّدُ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي السُّفْلِ دُونَ الْعُلُوِّ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ عَلَى عَكْسِ هَذَا؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مُعَظَّمٌ، وَإِذَا كَانَ فَوْقَهُ مَسْكَنٌ أَوْ مُسْتَغَلٌّ يَتَعَذَّرُ تَعْظِيمُهُ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ جَوَّزَ فِي الْوَجْهَيْنِ حِينَ قَدِمَ بَغْدَادَ وَرَأَى ضِيقَ الْمَنَازِلِ فَكَأَنَّهُ اعْتَبَرَ الضَّرُورَةَ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ حِينَ دَخَلَ الرَّيَّ أَجَازَ ذَلِكَ كُلَّهُ لِمَا قُلْنَا.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ) أَيْ لَا يَكُونُ مَسْجِدًا وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مَا يَكُونُ خَالِصًا لَهُ تَعَالَى، قَالَ تَعَالَى {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} أَضَافَ الْمَسَاجِدَ إلَى ذَاتِهِ مَعَ أَنَّ جَمِيعَ الْأَمَاكِنِ لَهُ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ خُلُوصَ الْمَسَاجِدِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَمَعَ بَقَاءِ حَقِّ الْعِبَادِ فِي أَسْفَلِهِ أَوْ فِي أَعْلَاهُ لَا يَتَحَقَّقُ الْخُلُوصُ (قَوْلُهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ جَوَّزَ فِي الْوَجْهَيْنِ) يَعْنِي فِيمَا إذَا كَانَ تَحْتَهُ سِرْدَابٌ أَوْ فَوْقَهُ بَيْتٌ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ أَجَازَ ذَلِكَ كُلَّهُ: أَيْ مَا تَحْتَهُ سِرْدَابٌ وَفَوْقَهُ بَيْتٌ مُسْتَغَلٌّ أَوْ دَكَاكِينُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ قَوْلَ مُحَمَّدٍ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَلَمْ يَقُلْ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مَعَ أَنَّ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ مِنْهُمَا فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ لِيَتَهَيَّأَ لَهُ مَا ذُكِرَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ دُخُولٍ مَخْصُوصٍ فِي مِصْرٍ مَخْصُوصٍ، وَلِأَنَّهُ ذَكَرَ زِيَادَةَ التَّعْمِيمِ بِلَفْظِ الْكُلِّ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَقَوْلُهُ (لِمَا قُلْنَا) يَعْنِي مِنْ الضَّرُورَةِ. قَالَ (وَكَذَلِكَ إنْ اتَّخَذَ وَسَطَ دَارِهِ مَسْجِدًا وَأَذِنَ لِلنَّاسِ بِالدُّخُولِ فِيهِ) يَعْنِي لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ وَيُورَثُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مَا لَا يَكُونُ لِأَحَدٍ فِيهِ حَقُّ الْمَنْعِ، وَإِذَا كَانَ مِلْكُهُ مُحِيطًا بِجَوَانِبِهِ كَانَ لَهُ حَقُّ الْمَنْعِ فَلَمْ يَصِرْ مَسْجِدًا، وَلِأَنَّهُ أَبْقَى الطَّرِيقَ لِنَفْسِهِ فَلَمْ يَخْلُصْ لِلَّهِ تَعَالَى (وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُورَثُ وَلَا يُوهَبُ) اعْتَبَرَهُ مَسْجِدًا، وَهَكَذَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَصِيرُ مَسْجِدًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا رَضِيَ بِكَوْنِهِ مَسْجِدًا وَلَا يَصِيرُ مَسْجِدًا إلَّا بِالطَّرِيقِ دَخَلَ فِيهِ الطَّرِيقُ وَصَارَ مُسْتَحَقًّا كَمَا يَدْخُلُ فِي الْإِجَارَةِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَكَذَلِكَ إنْ اتَّخَذَ وَسْطَ دَارِهِ مَسْجِدًا) وَسْطَ بِالسُّكُونِ لِأَنَّهُ اسْمٌ مُبْهَمٌ لِدَاخِلِ صَحْنِ الدَّارِ لَا لِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ بَيْنَ طَرَفَيْ الصَّحْنِ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّهُ أَبْقَى الطَّرِيقَ لِنَفْسِهِ) فَلَمْ يَخْلُصْ لِلَّهِ تَعَالَى، حَتَّى لَوْ عُزِلَ بَابُهُ إلَى الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ صَارَ مَسْجِدًا. قَالَ (وَمَنْ اتَّخَذَ أَرْضَهُ مَسْجِدًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ وَلَا يَبِيعَهُ وَلَا يُورَثُ عَنْهُ) لِأَنَّهُ تَجَرَّدَ عَنْ حَقِّ الْعِبَادِ وَصَارَ خَالِصًا لِلَّهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا أَسْقَطَ الْعَبْدُ مَا ثَبَتَ لَهُ مِنْ الْحَقِّ رَجَعَ إلَى أَصْلِهِ فَانْقَطَعَ تَصَرُّفُهُ عَنْهُ كَمَا فِي الْإِعْتَاقِ. وَلَوْ خَرِبَ مَا حَوْلَ الْمَسْجِدِ وَاسْتُغْنِيَ عَنْهُ يَبْقَى مَسْجِدًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ مِنْهُ فَلَا يَعُودُ إلَى مِلْكِهِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَعُودُ إلَى مِلْكِ الْبَانِي، أَوْ إلَى وَارِثِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّهُ عَيَّنَهُ لِنَوْعِ قُرْبَةٍ، وَقَدْ انْقَطَعَتْ فَصَارَ كَحَصِيرِ الْمَسْجِدِ وَحَشِيشِهِ إذَا اُسْتُغْنِيَ عَنْهُ، إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ فِي الْحَصِيرِ وَالْحَشِيشِ إنَّهُ يُنْقَلُ إلَى مَسْجِدٍ آخَرَ.
الشَّرْحُ:
(قَوْلُهُ وَلَوْ خَرِبَ مَا حَوْلَ الْمَسْجِدِ وَاسْتُغْنِيَ عَنْهُ) عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ (يَبْقَى مَسْجِدًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ) إلَى أَنْ قَالَ: وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَعُودُ إلَى مِلْكِ الْبَانِي.
قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَفِي الْحَقِيقَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، فَإِنَّ أَبَا يُوسُفَ لَا يَشْتَرِطُ فِي الِابْتِدَاءِ إقَامَةَ الصَّلَاةِ فِيهِ لِيَصِيرَ مَسْجِدًا فَكَذَلِكَ فِي الِانْتِهَاءِ، وَإِنْ تَرَكَ النَّاسُ الصَّلَاةَ فِيهِ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَسْجِدًا وَمُحَمَّدٌ يَشْتَرِطُ فِي الِابْتِدَاءِ إقَامَةَ الصَّلَاةِ فِيهِ بِالْجَمَاعَةِ لِيَصِيرَ مَسْجِدًا فَكَذَلِكَ فِي الِانْتِهَاءِ، وَإِذَا تَرَكَ النَّاسُ الصَّلَاةَ فِيهِ بِالْجَمَاعَةِ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَسْجِدًا.
وَحُكِيَ أَنَّ مُحَمَّدًا مَرَّ بِمَزْبَلَةٍ فَقَالَ: هَذَا مَسْجِدُ أَبِي يُوسُفَ، يُرِيدُ بِهِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَقُلْ بِعَوْدِهِ إلَى مِلْكِ الْبَانِي يَصِيرُ مَزْبَلَةً عِنْدَ تَطَاوُلِ الْمُدَّةِ، وَمَرَّ أَبُو يُوسُفَ بِإِصْطَبْلٍ فَقَالَ: هَذَا مَسْجِدُ مُحَمَّدٍ: يَعْنِي أَنَّهُ لَمَّا قَالَ يَعُودُ مِلْكًا فَرُبَّمَا يَجْعَلُهُ الْمَالِكُ إصْطَبْلًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مَسْجِدًا، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْتَبْعَدَ مَذْهَبَ صَاحِبِهِ لِمَا أَشَارَ إلَيْهِ.
اسْتَدَلَّ أَبُو يُوسُفَ بِأَنَّهُ سَقَطَ مِلْكُهُ فِي ذَلِكَ الْمِقْدَارِ فَلَا يَعُودُ إلَى مِلْكِهِ وَاسْتُظْهِرَ بِالْكَعْبَةِ، فَإِنَّ فِي زَمَانِ الْفَتْرَةِ قَدْ كَانَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ عَبَدَةُ الْأَصْنَامِ، ثُمَّ لَمْ يَخْرُجْ مَوْضِعُ الْكَعْبَةِ بِهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعًا لِلطَّاعَةِ وَالْقُرْبَةِ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى، فَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ.
وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ: عُيِّنَ هَذَا الْجُزْءُ مِنْ مِلْكِهِ مَصْرُوفًا إلَى قُرْبَةٍ بِعَيْنِهَا، فَإِذَا انْقَطَعَ ذَلِكَ عَادَ إلَى مِلْكِهِ أَوْ مِلْكِ وَارِثِهِ وَصَارَ كَحَشِيشِ الْمَسْجِدِ وَحَصِيرِهِ إذَا اُسْتُغْنِيَ عَنْهُ.
إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ فِي الْحَصِيرِ وَالْحَشِيشِ يُنْقَلُ إلَى مَسْجِدٍ آخَرَ. قَالَ (وَمَنْ بَنَى سِقَايَةً لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ خَانًا يَسْكُنُهُ بَنُو السَّبِيلِ أَوْ رِبَاطًا أَوْ جَعَلَ أَرْضَهُ مَقْبَرَةً لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى يَحْكُمَ بِهِ الْحَاكِمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ)؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْقَطِعْ عَنْ حَقِّ الْعَبْدِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ فَيَسْكُنَ فِي الْخَانِ وَيَنْزِلَ فِي الرِّبَاطِ وَيَشْرَبَ مِنْ السِّقَايَةِ، وَيُدْفَنَ فِي الْمَقْبَرَةِ فَيُشْتَرَطُ حُكْمُ الْحَاكِمِ أَوْ الْإِضَافَةُ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ كَمَا فِي الْوَقْفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، بِخِلَافِ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ حَقُّ الِانْتِفَاعِ بِهِ فَخَلَصَ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ حُكْمِ الْحَاكِمِ (وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَزُولُ مِلْكُهُ بِالْقَوْلِ) كَمَا هُوَ أَصْلُهُ، إذْ التَّسْلِيمُ عِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَالْوَقْفُ لَازِمٌ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ إذَا اسْتَقَى النَّاسُ مِنْ السِّقَايَةِ وَسَكَنُوا الْخَانَ وَالرِّبَاطَ وَدُفِنُوا فِي الْمَقْبَرَةِ زَالَ الْمِلْكُ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ عِنْدَهُ شَرْطٌ وَالشَّرْطُ تَسْلِيمُ نَوْعِهِ، وَذَلِكَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ.
وَيُكْتَفَى بِالْوَاحِدِ لِتَعَذُّرِ فِعْلِ الْجِنْسِ كُلِّهِ، وَعَلَى هَذَا الْبِئْرُ الْمَوْقُوفَةُ وَالْحَوْضُ، وَلَوْ سُلِّمَ إلَى الْمُتَوَلِّي صَحَّ التَّسْلِيمُ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، وَفِعْلُ النَّائِبِ كَفِعْلِ الْمَنُوبِ عَنْهُ، وَأَمَّا فِي الْمَسْجِدِ فَقَدْ قِيلَ لَا يَكُونُ تَسْلِيمًا؛ لِأَنَّهُ لَا تَدْبِيرَ لِلْمُتَوَلِّي فِيهِ، وَقِيلَ يَكُونُ تَسْلِيمًا؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مَنْ يَكْنُسُهُ وَيُغْلِقُ بَابَهُ، فَإِذَا سُلِّمَ إلَيْهِ صَحَّ التَّسْلِيمُ، وَالْمَقْبَرَةُ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمَسْجِدِ عَلَى مَا قِيلَ؛ لِأَنَّهُ لَا مُتَوَلِّيَ لَهُ عُرْفًا.
وَقِيلَ هِيَ بِمَنْزِلَةِ السِّقَايَةِ وَالْخَانِ فَيَصِحُّ التَّسْلِيمُ إلَى الْمُتَوَلِّي؛ لِأَنَّهُ لَوْ نُصِّبَ الْمُتَوَلِّي يَصِحُّ، وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ الْعَادَةِ، وَلَوْ جَعَلَ دَارًا لَهُ بِمَكَّةَ سُكْنَى لِحَاجِّ بَيْتِ اللَّهِ وَالْمُعْتَمِرِينَ، أَوْ جَعَلَ دَارِهِ فِي غَيْرِ مَكَّةَ سُكْنَى لِلْمَسَاكِينِ، أَوْ جَعَلَهَا فِي ثَغْرٍ مِنْ الثُّغُورِ سُكْنَى لِلْغُزَاةِ وَالْمُرَابِطِينَ.
أَوْ جَعَلَ غَلَّةَ أَرْضِهِ لِلْغُزَاةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَدَفَعَ ذَلِكَ إلَى وَالٍ يَقُومُ عَلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَلَا رُجُوعَ فِيهِ لِمَا بَيَّنَّا إلَّا أَنَّ فِي الْغَلَّةِ تَحِلُّ لِلْفُقَرَاءِ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ، وَفِيمَا سِوَاهُ مِنْ سُكْنَى الْخَانِ وَالِاسْتِقَاءِ مِنْ الْبِئْرِ وَالسِّقَايَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ يَسْتَوِي فِيهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ، وَالْفَارِقُ هُوَ الْعُرْفُ فِي الْفَصْلَيْنِ.
فَإِنَّ أَهْلَ الْعُرْفِ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ فِي الْغَلَّةِ الْفُقَرَاءَ، وَفِي غَيْرِهَا التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَشْمَلُ الْغَنِيَّ وَالْفَقِيرَ فِي الشُّرْبِ وَالنُّزُولِ.
وَالْغَنِيُّ لَا يَحْتَاجُ إلَى صَرْفِ هَذَا الْغَلَّةِ لِغِنَاهُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ بَنَى سِقَايَةً أَوْ خَانًا) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الْمَسْجِدِ) يَعْنِي أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ وَالْإِضَافَةَ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ لَيْسَا بِشَرْطٍ فِي الْمَسْجِدِ.
وَقَوْلُهُ (وَذَلِكَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ) يَعْنِي أَنَّ التَّسْلِيمَ يَحْصُلُ بِالِاسْتِقَاءِ وَالسُّكْنَى وَالنُّزُولِ وَالدَّفْنِ فِي السِّقَايَةِ وَالْخَانِ وَالرِّبَاطِ وَالْمَقْبَرَةِ وَقَوْلُهُ (فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ) أَيْ فِي السِّقَايَةِ وَالْخَانِ وَالرِّبَاطِ وَالْمَقْبَرَةِ.
وَقَوْلُهُ (وَيُكْتَفَى بِالْوَاحِدِ) ظَاهِرٌ، وَقَوْلُهُ (سُكْنَى الْحَاجِّ بَيْتُ اللَّهِ تَعَالَى) الْحَاجُّ اسْمُ جَمْعٍ بِمَعْنَى الْحُجَّاجِ كَالسَّامِرِ بِمَعْنَى السُّمَّارِ فِي قَوْله تَعَالَى {سَامِرًا تَهْجُرُونَ} وَالثَّغْرُ مَوْضِعُ الْمَخَافَةِ مِنْ فُرُوجِ الْبُلْدَانِ، وَيُقَالُ رَابِطُ الْجَيْشِ: أَقَامَ فِي الثَّغْرِ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ مُرَابَطَةً وَرِبَاطًا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.