فصل: فروع: في النظر إلى الفرج:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.فروع: في النظر إلى الفرج:

(وَمَنْ مَسَّتْهُ امْرَأَةٌ بِشَهْوَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَابْنَتُهَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا تَحْرُمُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ مَسُّهُ امْرَأَةً بِشَهْوَةٍ وَنَظَرُهُ إلَى فَرْجِهَا وَنَظَرُهَا إلَى ذَكَرِهِ عَنْ شَهْوَةٍ.
لَهُ أَنَّ الْمَسَّ وَالنَّظَرَ لَيْسَا فِي مَعْنَى الدُّخُولِ، وَلِهَذَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا فَسَادُ الصَّوْمِ وَالْإِحْرَامِ وَوُجُوبُ الِاغْتِسَالِ فَلَا يَلْحَقَانِ بِهِ.
وَلَنَا أَنَّ الْمَسَّ وَالنَّظَرَ سَبَبٌ دَاعٍ إلَى الْوَطْءِ فَيُقَامُ مُقَامَهُ فِي مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ، ثُمَّ الْمَسُّ بِشَهْوَةٍ أَنْ تَنْتَشِرَ الْآلَةُ أَوْ تَزْدَادَ انْتِشَارًا هُوَ الصَّحِيحُ، وَالْمُعْتَبَرُ النَّظَرُ إلَى الْفَرْجِ الدَّاخِلِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا عِنْدَ اتِّكَائِهَا، وَلَوْ مَسَّ فَأَنْزَلَ فَقَدْ قِيلَ إنَّهُ يُوجِبُ الْحُرْمَةَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُوجِبُهَا لِأَنَّهُ بِالْإِنْزَالِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ غَيْرُ مُفْضٍ إلَى الْوَطْءِ، وَعَلَى هَذَا إتْيَانُ الْمَرْأَةِ فِي الدُّبُرِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ مَسَّتْهُ امْرَأَةٌ بِشَهْوَةٍ) بَيَانُ أَنَّ الْأَسْبَابَ الدَّاعِيَةَ إلَى الْوَطْءِ فِي إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ كَالْوَطْءِ فِي إثْبَاتِهَا.
قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: تَأْوِيلُ الْمَسْأَلَةِ إذَا صَدَّقَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ أَنَّهَا مَسَّتْهُ عَنْ شَهْوَةٍ وَلَوْ كَذَّبَهَا وَلَمْ يَقَعْ فِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ أَنَّهَا فَعَلَتْ ذَلِكَ عَنْ شَهْوَةٍ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَحْرُمَ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَبِنْتُهَا.
فَإِنْ قِيلَ: ذِكْرُ مَسْأَلَةِ الدَّوَاعِي تَكْرَارٌ لِأَنَّ نَفْسَ الْوَطْءِ الْحَرَامِ إذَا لَمْ يُوجِبْ الْحُرْمَةَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَلَأَنْ لَا يُوجِبَهَا دَوَاعِيهِ أَوْلَى.
أُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا كَانَتْ تَكْرَارًا أَنْ لَوْ كَانَتْ مُصَوَّرَةً فِي الْحَرَامِ فَقَطْ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هِيَ فِي الْحَلَالِ مِثْلُ أَنْ مَسَّتْ أَمَةٌ مَوْلَاهَا كَذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّا لَمْ نُمَيِّزْ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فِي شُمُولِ وُجُوبِ الْحُرْمَةِ وَالشَّافِعِيُّ فِي شُمُولِ الْعَدَمِ (لَهُ) فِي الْحَلَالِ مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ (أَنَّ الْمَسَّ وَالنَّظَرَ لَيْسَا فِي مَعْنَى الدُّخُولِ وَلِهَذَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا فَسَادُ الصَّوْمِ وَالْإِحْرَامِ وَوُجُوبُ الِاغْتِسَالِ) وَكُلُّ مَا لَيْسَ فِي مَعْنَى الدُّخُولِ لَا يُلْحَقُ بِالدُّخُولِ، لِأَنَّ الْمُلْحَقَ لابد وَأَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَى الْمُلْحَقِ (وَلَنَا أَنَّ الْمَسَّ وَالنَّظَرَ سَبَبٌ دَاعٍ إلَى الْوَطْءِ) وَالسَّبَبُ الدَّاعِي إلَى الشَّيْءِ يُقَامُ مَقَامَهُ فِي مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ، وَهَذَا لِأَنَّا وَجَدْنَا لِصَاحِبِ الشَّرْعِ مَزِيدَ اعْتِنَاءٍ فِي حُرْمَةِ الْأَبْضَاعِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَقَامَ شُبْهَةَ الْبَعْضِيَّةِ بِسَبَبِ الرَّضَاعِ مَقَامَ حَقِيقَتِهَا فِي إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ دُونَ سَائِرِ الْأَحْكَامِ مِنْ التَّوَارُثِ وَمَنَعَ وَضْعَ الزَّكَاةِ وَمَنَعَ قَبُولَ الشَّهَادَةِ فَأَقَمْنَا السَّبَبَ الدَّاعِيَ مَقَامَ الْمَدْعُوِّ احْتِيَاطًا، وَفَسَادُ الصَّوْمِ وَالْإِحْرَامِ وَوُجُوبُ الِاغْتِسَالِ لَيْسَ مِنْ بَابِ حُرْمَةِ الْأَبْضَاعِ حَتَّى يَقُومَ السَّبَبُ فِيهِ مَقَامَ الْوَطْءِ.
وَنُوقِضَ بِأَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ إنْ كَانَ صَحِيحًا قَامَ النَّظَرُ إلَى جَمَالِ الْمَرْأَةِ مَقَامَ الْوَطْءِ فِي ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ لِكَوْنِهِ سَبَبًا دَاعِيًا إلَيْهِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ النَّظَرَ إلَى الْفَرْجِ الْمُحَرَّمِ هُوَ مَا يَكُونُ نَظَرًا إلَى دَاخِلِ الْفَرْجِ بِأَنْ كَانَتْ مُتَّكِئَةً وَهُوَ لَا يَحِلُّ إلَّا فِي الْمِلْكِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا لَا تَكُونُ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ إلَّا فِي خَلْوَةٍ عَنْ الْأَجَانِبِ، فَانْظُرْ بَعْدَ هَذَا فِي أَنَّ النَّظَرَ إلَى الْجَمَالِ فِي الْحَلَالِ فِي الْمِلْكِ وَغَيْرِهِ خَلَاءٌ وَمَلَأٌ هَلْ يَكُونُ دَاعِيًا إلَى الْوَطْءِ دَعْوَةَ النَّظَرِ إلَيْهِ أَوْ لَا؟ لَا أَرَاك قَائِلًا بِذَلِكَ إلَّا مُكَذِّبًا.
وَعَرَّفَ الْمَسَّ بِشَهْوَةٍ بِأَنْ تَنْتَشِرَ الْآلَةُ: يَعْنِي إذَا لَمْ تَكُنْ مُنْتَشِرَةً قَبْلَ النَّظَرِ وَالْمَسِّ (أَوْ تَزْدَادُ انْتِشَارًا) إذَا كَانَتْ مُنْتَشِرَةً قَبْلَ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ كَثِيرٍ مِنْ الْمَشَايِخِ قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: وَكَثِيرٌ مِنْ الْمَشَايِخِ لَمْ يَشْتَرِطُوا الِانْتِشَارَ، وَجَعَلُوا حَدَّ الشَّهْوَةِ أَنْ يَمِيلَ قَلْبُهُ إلَيْهَا وَيَشْتَهِيَ جِمَاعَهَا، وَاخْتَارَ الْمُصَنِّفُ قَوْلَ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ وَشَيْخِ الْإِسْلَامِ.
قَالَ فِي النِّهَايَةِ: هَذَا إذَا كَانَ شَابًّا قَادِرًا عَلَى الْجِمَاعِ، فَإِنْ كَانَ شَيْخًا أَوْ عِنِّينًا فَحَدُّ الشَّهْوَةِ أَنْ يَتَحَرَّك قَلْبُهُ بِالِاشْتِهَاءِ إنْ لَمْ يَكُنْ مُتَحَرِّكًا قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ يَزْدَادُ الِاشْتِهَاءُ إنْ كَانَ مُتَحَرِّكًا وَهَذَا إفْرَاطٌ.
وَكَانَ الْفَقِيهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ لَا يَعْتَبِرُ تَحَرُّكَ الْقَلْبِ وَإِنَّمَا يَعْتَبِرُ تَحَرُّكُ الْآلَةِ، وَكَانَ لَا يُفْتِي بِثُبُوتِ الْحُرْمَةِ فِي الشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَالْعِنِّينِ الَّذِي مَاتَتْ شَهْوَتُهُ حَتَّى لَمْ يَتَحَرَّكْ عُضْوُهُ بِالْمُلَامَسَةِ وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى الْفِقْهِ.
وَقَوْلُهُ (وَالْمُعْتَبَرُ النَّظَرُ) ظَاهِرٌ (وَلَوْ مَسَّ فَأَنْزَلَ فَقَدْ قِيلَ يُوجِبُ الْحُرْمَةَ) وَبِهِ كَانَ يُفْتِي شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْأُوزْجَنْدِيُّ. وَوَجْهُهُ أَنَّ مُجَرَّدَ الْمَسِّ بِشَهْوَةٍ يُثْبِتُ الْحُرْمَةَ، فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ إنْ كَانَتْ لَا تُوجِبُ زِيَادَةَ الْحُرْمَةِ لَا تُوجِبُ خِلَافَهَا.
وَاَلَّذِي اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْكِتَابِ هُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ وَالْإِمَامِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ.
وَقَدْ نَصَّ مُحَمَّدٌ فِي بَابِ إتْيَانِ الْمَرْأَةِ فِي غَيْرِ مَأْتَاهَا مِنْ الزِّيَادَاتِ أَنَّ الْجِمَاعَ فِي الدُّبُرِ لَا يُثْبِتُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ، وَكَذَا النَّظَرُ إلَى مَوْضِعِ الْجِمَاعِ مِنْ الدُّبُرِ بِشَهْوَةٍ (وَهَذَا أَصَحُّ لِمَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ) أَيْ الْمَسَّ (بِالْإِنْزَالِ غَيْرُ مُفْضٍ إلَى الْوَطْءِ) وَالْمَسُّ الْمُفْضِي إلَيْهِ هُوَ الْمُحَرَّمُ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ الْمَسُّ بِشَهْوَةٍ لَا يُوجِبُ الْحُرْمَةَ بِالْإِنْزَالِ: هُوَ أَنَّ الْحُرْمَةَ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْمَسِّ بِشَهْوَةٍ كَانَ حُكْمُهَا مَوْقُوفًا إلَى أَنْ تَبَيَّنَ بِالْإِنْزَالِ، فَإِنْ أَنْزَلَ لَمْ تَثْبُتْ وَإِلَّا ثَبَتَتْ، لَا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ تَثْبُتُ بِالْمَسِّ، ثُمَّ بِالْإِنْزَالِ سَقَطَ مَا يَثْبُتُ مِنْ الْحُرْمَةِ لِأَنَّ مُوجِبَ الْمُصَاهَرَةِ إذَا ثَبَتَ لَا يَسْقُطُ أَبَدًا. (وَإِذَا طَلَّقَ امْرَأَةً طَلَاقًا بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُخْتِهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ كَانَتْ الْعِدَّةُ عَنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ أَوْ ثَلَاثٍ يَجُوزُ لِانْقِطَاعِ النِّكَاحِ بِالْكُلِّيَّةِ إعْمَالًا لِلْقَاطِعِ، وَلِهَذَا لَوْ وَطِئَهَا مَعَ الْعِلْمِ بِالْحُرْمَةِ يَجِبُ الْحَدُّ.
وَلَنَا أَنَّ نِكَاحَ الْأُولَى قَائِمٌ لِبَقَاءِ بَعْضِ أَحْكَامِهِ كَالنَّفَقَةِ وَالْمَنْعِ وَالْفِرَاشِ وَالْقَاطِعُ تَأَخَّرَ عَمَلُهُ وَلِهَذَا بَقِيَ الْقَيْدُ، وَالْحَدُّ لَا يَجِبُ عَلَى إشَارَةِ كِتَابِ الطَّلَاقِ، وَعَلَى عِبَارَةِ كِتَابِ الْحُدُودِ يَجِبُ لِأَنَّ الْمِلْكَ قَدْ زَالَ فِي حَقِّ الْمِلْكِ فَيَتَحَقَّقُ الزِّنَا وَلَمْ يَرْتَفِعْ فِي حَقِّ مَا ذَكَرْنَا فَيَصِيرُ جَامِعًا.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ طَلَاقًا بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُخْتِهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ كَانَتْ الْعِدَّةُ عَنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ) كَالطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ (أَوْ ثَلَاثٍ جَازَ لِانْقِطَاعِ النِّكَاحِ بِالْكُلِّيَّةِ) لِأَنَّ الْقَاطِعَ وَهُوَ الطَّلَاقُ مَوْجُودٌ عَلَى الْكَمَالِ إذْ لَيْسَ فِيهِ شَائِبَةُ الرُّجُوعِ فَلَا بُدَّ مِنْ إعْمَالِهِ، وَإِعْمَالُ الْقَاطِعِ الْكَامِلِ يَقْتَضِي الْقَطْعَ بِالْكُلِّيَّةِ لِيَثْبُتَ الْحُكْمُ بِقَدْرِ دَلِيلِهِ (وَلِهَذَا لَوْ وَطِئَهَا مَعَ الْعِلْمِ بِالْحُرْمَةِ وَجَبَ الْحَدُّ.
وَلَنَا) أَنَّا لَا نُسَلِّمُ انْقِطَاعَ النِّكَاحِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَإِنَّ (النِّكَاحَ الْأَوَّلَ قَائِمٌ لِبَقَاءِ بَعْضِ أَحْكَامِهِ كَالنَّفَقَةِ وَالْمَنْعِ) عَنْ الْخُرُوجِ (وَالْفِرَاشِ) وَهُوَ صَيْرُورَةُ الْمَرْأَةِ بِحَالٍ لَوْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ فَإِنَّ هَذِهِ كَذَلِكَ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ لَا نِزَاعَ فِي بَقَاءِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ سِوَى النَّفَقَةِ وَلَا فِي كَوْنِهَا مُرَتَّبَةً عَلَى النِّكَاحِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ النِّكَاحُ قَائِمًا حَالَ الْعِدَّةِ تَخَلَّفَ الْحُكْمُ عَنْ عِلَّتِهِ وَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِذَا كَانَ النِّكَاحُ قَائِمًا كَانَ عَمَلُ الْقَاطِعِ مُتَأَخِّرًا كَمَا فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ وَلِهَذَا بَقِيَ الْقَيْدُ، فَلَوْ جَازَ نِكَاحُ الْأُخْتِ فِي الْعِدَّةِ لَزِمَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَهُوَ حَرَامٌ.
وَقَوْلُهُ (وَالْحَدُّ لَا يَجِبُ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَلِهَذَا لَوْ وَطِئَهَا مَعَ الْعِلْمِ بِالْحُرْمَةِ وَجَبَ الْحَدُّ.
وَوَجْهُهُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ وُجُوبَهُ عَلَى إشَارَةِ كِتَابِ الطَّلَاقِ.
قَالَ: مُعْتَدَّةٌ عَنْ طَلَاقٍ ثَلَاثٍ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ يَوْمِ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا لَمْ يَكُنْ الْوَلَدُ لِلزَّوْجِ إذَا أَنْكَرَهُ، فَفِي قَوْلِهِ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ إذَا أَنْكَرَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ فَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْوَطْءَ فِي الْعِدَّةِ مِنْ طَلَاقٍ ثَلَاثٍ لَا يَكُونُ زِنًا، إذْ لَوْ كَانَ زِنًا لَمَا ثَبَتَ بِهِ النَّسَبُ وَإِنْ ادَّعَى.
وَلَئِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ عِبَارَةُ كِتَابِ الْحُدُودِ وَهِيَ مَا قَالَ: إنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ وَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ إذَا لَمْ يَدَّعِ الشُّبْهَةَ فَذَاكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمِلْكَ فِي حَقِّ الْحِلِّ قَدْ زَالَ فَيَتَحَقَّقُ الزِّنَا لِوُقُوعِ الْوَطْءِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ، وَلَمْ يَزُلْ فِي حَقِّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ النَّفَقَةِ وَالْمَنْعِ وَالْفِرَاشِ لِأَنَّا قَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى بَقَاءِ الْمَنْعِ مِنْ الْخُرُوجِ وَالْفِرَاشِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَاكَ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْحُكْمِ بِقِيَامِ النِّكَاحِ فَقُلْنَا بِقِيَامِهِ فِي حَقِّ التَّزَوُّجِ بِالْأُخْتِ احْتِيَاطًا فِي التَّفَادِي عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ. (وَلَا يَتَزَوَّجُ الْمَوْلَى أَمَتَهُ وَلَا الْمَرْأَةُ عَبْدَهَا) لِأَنَّ النِّكَاحَ مَا شُرِعَ إلَّا مُثْمِرًا ثَمَرَاتٍ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْمُتَنَاكِحَيْنِ، وَالْمَمْلُوكِيَّة تُنَافِي الْمَالِكِيَّةَ فَيَمْتَنِعُ وُقُوعُ الثَّمَرَةِ عَلَى الشَّرِكَةِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَا يَتَزَوَّجُ الْمَوْلَى أَمَتَهُ وَلَا الْمَرْأَةُ عَبْدَهَا) خِلَافًا لِنُفَاةِ الْقِيَاسِ، اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ} وقَوْله تَعَالَى {فَمِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ} (وَلَنَا أَنَّ النِّكَاحَ مَا شُرِعَ إلَّا مُثْمِرًا ثَمَرَاتٍ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْمُتَنَاكِحَيْنِ) يَعْنِي أَنَّهُ كَمَا يَجِبُ لِلزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ حَقٌّ يَقْتَضِي مَالِكِيَّةَ الزَّوْجِ عَلَيْهَا كَطَلَبِ تَمْكِينِهِ مِنْ وَطْئِهَا وَدَوَاعِيهِ شَرْعًا وَالْمَنْعِ عَنْ الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ وَالتَّحْصِينِ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ لَهَا عَلَيْهِ حَقٌّ يَقْتَضِي مَالِكِيَّتَهَا عَلَيْهِ كَطَلَبِ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ جَبْرًا وَالسُّكْنَى وَالْقَسْمِ وَالْمَنْعِ عَنْ الْعَزْلِ وَالْقِيَامِ بِمَصَالِحِهَا الرَّاجِعَةِ إلَى الزَّوْجِيَّةِ، فَكَانَ النِّكَاحُ مَشْرُوعًا لِإِيجَابِ هَذِهِ الثَّمَرَاتِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَهُمَا، فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالِكًا وَمَمْلُوكًا، وَبَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ لِأَنَّ الْمَالِكِيَّةَ تَقْتَضِي الْقَاهِرِيَّةَ وَالْمَمْلُوكِيَّة تَقْتَضِي الْمَقْهُورِيَّةَ وَلَا خَفَاءَ فِي التَّنَافِي بَيْنَهُمَا.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُمَا مِنْ جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، وَلَا تَنَافِيَ حِينَئِذٍ.
وَأُجِيبَ بِمَنْعِ اخْتِلَافِ الْجِهَةِ بِأَنَّ كَوْنَ الْمَرْأَةِ مَالِكَةً لِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَبْدِ، وَكَوْنَهَا مَمْلُوكَةً أَيْضًا إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَبْدِ فَلَمْ تَخْتَلِفْ الْجِهَةُ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْمَرْأَةُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا مَالِكَةً لِلْعَبْدِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ وَلَيْسَتْ بِمَالِكَةِ لِمَنَافِعِ بُضْعِهِ، فَجَازَ أَنْ يَمْلِكَ الْعَبْدُ بِالنِّكَاحِ عَلَى سَيِّدَتِهِ مَنَافِعَ بُضْعِهَا لِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ عَلَى مِلْكِ مَنَافِعِ الْبُضْعِ وَهُوَ لَمْ يَكُنْ مِنْ حَيْثُ مَنَافِعُ بُضْعِهِ مَمْلُوكًا، وَلَا الْمَوْلَاةُ مِنْ حَيْثُ مَنَافِعُ بُضْعِهَا مَالِكَةٌ بَلْ مِنْ حَيْثُ أَجْزَائِهَا فَاخْتَلَفَتْ الْجِهَةُ وَانْتَفَى التَّنَافِي.
وَالْجَوَابُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا لَا تَمْلِكُ مَنَافِعَ بُضْعِهِ فَإِنَّهَا تَقْدِرُ عَلَى إتْلَافِهِ بِالْإِخْصَاءِ وَالْجَبِّ مِنْ غَيْرِ ضَمَانٍ يَلْحَقُهَا، فَكَانَ الْعَبْدُ مَمْلُوكًا مِنْ حَيْثُ فَرَضْته مَالِكًا فَاتَّحَدَتْ الْجِهَةُ وَتَحَقَّقَ التَّنَافِي.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ نُفَاةُ الْقِيَاسِ مِنْ الْآيَةِ فَبِأَنَّهَا يُعَارِضُهَا قَوْله تَعَالَى {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} خَاطَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَوَالِيَ بِإِنْكَاحِ الْإِمَاءِ لَا بِنِكَاحِهِنَّ.
فَإِنْ قِيلَ: الْآيَةُ سَاكِتَةٌ عَنْ بَيَانِ نِكَاحِهِنَّ وَالسَّاكِتُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ بَيَانٍ مَا يَحْتَجْنَ إلَيْهِ مِنْ أَمْرِ النِّكَاحِ، وَالسُّكُوتُ عَنْ الْبَيَانِ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ إلَى الْبَيَانِ بَيَانٌ (وَيَجُوزُ تَزْوِيجُ الْكِتَابِيَّاتِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} أَيْ الْعَفَائِفُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْكِتَابِيَّةِ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّرْحُ:
وَيَجُوزُ تَزْوِيجُ الْكِتَابِيَّاتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} قَالَ الْمُصَنِّفُ (أَيْ الْعَفَائِفُ) فَسَّرَهُ بِذَلِكَ احْتِرَازًا عَنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ فَإِنَّهُ فَسَّرَهَا بِالْمُسْلِمَاتِ، وَلَيْسَتْ الْعِفَّةُ شَرْطًا لِجَوَازِ النِّكَاحِ وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا بِنَاءً عَلَى الْعَادَةِ بِدَلَالَةِ الْغَرَضِ.
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ، وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ، وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}؛ أَيْ وَأُحِلَّ لَكُمْ الْمُحْصَنَاتُ، وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ فَلَا خَفَاءَ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى الْحِلِّ (وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْكِتَابِيَّةِ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ مِنْ بَعْدُ) يَعْنِي بَعْدَ أَسْطُرٍ حَيْثُ قَالَ: وَيَجُوزُ تَزْوِيجُ الْأَمَةِ. وَلَا يَجُوزُ تَزْوِيجُ الْمَجُوسِيَّاتِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ غَيْرَ نَاكِحِي نِسَائِهِمْ وَلَا آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ» قَالَ (وَلَا الْوَثَنِيَّاتِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ}.
الشَّرْحُ:
(وَلَا يَجُوزُ تَزْوِيجُ الْمَجُوسِيَّاتِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ») أَيْ اُسْلُكُوا بِهِمْ طَرِيقَتَهُمْ: يَعْنِي عَامِلُوهُمْ مُعَامَلَةَ هَؤُلَاءِ فِي إعْطَاءِ الْأَمَانِ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ، رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَا يَجُوزُ تَزْوِيجُ الْوَثَنِيَّاتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} وَهُوَ بِعُمُومِهِ يَتَنَاوَلُ الْوَثَنِيَّةَ وَهِيَ مَنْ تَعَبَّدَ الصَّنَمَ وَغَيْرَهَا.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ مُشْرِكُونَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} إلَى قَوْلِهِ {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} وَقَدْ ذُكِرَ فِي التَّيْسِيرِ وَالْكَشَّافِ أَنَّ اسْمَ أَهْلِ الشِّرْكِ يَقَعُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ فَيَكُونُونَ دَاخِلِينَ تَحْتَ الْمُشْرِكِينَ وَذَلِكَ يَقْتَضِي عَدَمَ جَوَازِ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّاتِ، وَقَدْ بَيَّنَ الْمُصَنِّفُ جَوَازَهُ مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} وَالْجَوَابُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَطَفَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} وَفِي قَوْلِهِ {لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} وَالْمَعْطُوفُ غَيْرُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ لَا مَحَالَةَ.
وَقَوْلُهُ ({عَمَّا يُشْرِكُونَ}) اسْتِعَارَةٌ تَصْرِيحِيَّةٌ تَبَعِيَّةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ شَبَّهَ اتِّخَاذَهُمْ الْأَحْبَارَ وَالرُّهْبَانَ أَرْبَابًا بِإِشْرَاكِ الْمُشْرِكِينَ، وَسَرَى ذَلِكَ إلَى الْفِعْلَيْنِ ثُمَّ تَرَكَ الْمُشَبَّهَ وَذَكَرَ الْمُشَبَّهَ بِهِ كَمَا عُرِفَ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ.
فَإِنْ قِيلَ: اتِّخَاذُهُمْ ذَلِكَ أَرْبَابًا عَيْنُ الشِّرْكِ لَا مُشَبَّهَ بِهِ.
قُلْت: فِيهِ الِاسْتِعَارَةُ التَّصْرِيحِيَّةُ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَجْعَلُوهُمْ أَرْبَابًا حَقِيقَةً وَإِنَّمَا كَانُوا يُعَظِّمُونَهَا تَعْظِيمَ الْأَرْبَابِ.
فَإِنْ قُلْت: فَمَا تَقُولُ فِي تَأْوِيلِ ابْنِ عُمَرَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ} بِالْآتِي أَسْلَمْنَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ؟ قُلْت: لَسْنَا نَأْخُذُ بِهِ لِعَرَائِهِ إذْ ذَاكَ عَنْ الْفَائِدَةِ، فَإِنَّ غَيْرَ الْكِتَابِيَّةِ أَيْضًا إذَا أَسْلَمْت حَلَّ نِكَاحُهَا، وَقَدْ جَاءَ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ تَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً، وَكَذَا عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ. (وَيَجُوزُ تَزْوِيجُ الصَّابِئَاتِ إنْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِدِينِ نَبِيٍّ وَيُقِرُّونَ بِكِتَابٍ) لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ (وَإِنْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَلَا كِتَابَ لَهُمْ لَمْ تَجُزْ مُنَاكَحَتُهُمْ) لِأَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ، وَالْخِلَافُ الْمَنْقُولُ فِيهِ مَحْمُولٌ عَلَى اشْتِبَاهِ مَذْهَبِهِمْ، فَكُلٌّ أَجَابَ عَلَى مَا وَقَعَ عِنْدَهُ، وَعَلَى هَذَا حِلُّ ذَبِيحَتِهِمْ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَيَجُوزُ تَزْوِيجُ الصَّابِئَاتِ إنْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِدِينِ نَبِيٍّ) الصَّابِئَاتُ، مِنْ صَبَأَ: إذَا خَرَجَ مِنْ الدِّينِ، وَهُمْ قَوْمٌ عَدَلُوا عَنْ دِينِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّة وَعَبَدُوا الْكَوَاكِبَ.
وَذُكِرَ فِي الصِّحَاحِ أَنَّهُمْ جِنْسٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالتَّفْصِيلُ الْمَذْكُورُ فِي حُكْمِهِمْ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذَيْنِ التَّفْسِيرَيْنِ.
وَقَوْلُهُ (وَالْخِلَافُ الْمَنْقُولُ فِيهِ) يَعْنِي بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ أَنَّ أَنْكِحَتَهُمْ صَحِيحَةٌ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا (مَحْمُولٌ عَلَى اشْتِبَاهِ مَذْهَبِهِمْ، فَكُلٌّ أَجَابَ بِمَا وَقَعَ عِنْدَهُ) وَقَعَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ الزَّبُورَ وَلَا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ لَكِنَّهُمْ يُعَظِّمُونَهَا كَتَعْظِيمِنَا الْقِبْلَةَ فِي الِاسْتِقْبَالِ إلَيْهَا.
وَوَقَعَ عِنْدَهُمَا أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَلَا كِتَابَ لَهُمْ فَصَارُوا كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، فَإِذًا لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّهُمْ إنْ كَانُوا كَمَا قَالَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ جَازَتْ مُنَاكَحَتُهُمْ عِنْدَهُمَا أَيْضًا، وَإِنْ كَانُوا كَمَا قَالَا فَلَا تَجُوزُ مُنَاكَحَتُهُمْ عِنْدَهُ أَيْضًا.
وَحُكْمُ ذَبِيحَتِهِمْ عَلَى هَذَا. قَالَ (وَيَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ وَالْمُحْرِمَةِ أَنْ يَتَزَوَّجَا فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَجُوزُ، وَتَزْوِيجُ الْوَلِيِّ الْمُحْرِمِ وَلِيَّتَهُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ.
لَهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكِحُ» وَلَنَا مَا رُوِيَ: «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ بِمَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ» وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْوَطْءِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَيَجُوزُ تَزْوِيجُ الْمُحْرِمِ وَالْمُحْرِمَةِ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ، وَتَزْوِيجُ الْوَلِيِّ الْمُحْرِمِ وَلِيَّتَهُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ) لَهُ مَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكِحُ وَلَا يَخْطُبُ» (وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ») قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
فَإِنْ قُلْت: النِّكَاحُ مِمَّا يَثْبُتُ بِهِ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَجُوزَ عَلَى الْمُحْرِمِ قِيَاسًا عَلَى الْوَطْءِ إذَا كَانَ الْحَدِيثَانِ مُتَعَارِضَيْنِ.
قُلْت: مَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْوَطْءِ: أَيْ لَا يَطَأُ وَلَا تُمَكِّنُهُ الْمَرْأَةُ أَنْ يَطَأَهَا كَمَا هُوَ فِعْلُ الْبَعْضِ، وَكَانَ الْقِيَاسُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ وَهُوَ فَاسِدٌ (وَيَجُوزُ تَزْوِيجُ الْأَمَةِ مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ كِتَابِيَّةً) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَجُوزُ لِلْحُرِّ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأَمَةٍ كِتَابِيَّةٍ لِأَنَّ جَوَازَ نِكَاحِ الْإِمَاءِ ضَرُورِيٌّ عِنْدَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيضِ الْجُزْءِ عَلَى الرِّقِّ، وَقَدْ انْدَفَعَتْ الضَّرُورَةُ بِالْمُسْلِمَةِ وَلِهَذَا جَعَلَ طَوْلَ الْحُرَّةِ مَانِعًا مِنْهُ.
وَعِنْدَنَا الْجَوَازُ مُطْلَقٌ لِإِطْلَاقِ الْمُقْتَضَى، وَفِيهِ امْتِنَاعٌ عَنْ تَحْصِيلِ الْجُزْءِ الْحُرِّ لَا إرْقَاقُهُ وَلَهُ أَنْ لَا يُحَصِّلَ الْأَصْلَ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ لَا يُحَصِّلَ الْوَصْفَ.
الشَّرْحُ:
(وَيَجُوزُ تَزْوِيجُ الْأَمَةِ مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ كِتَابِيَّةً.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ لِلْحُرِّ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأَمَةٍ كِتَابِيَّةٍ لِأَنَّ جَوَازَ نِكَاحِ الْإِمَاءِ ضَرُورِيٌّ عِنْدَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيضِ الْجُزْءِ عَلَى الرِّقِّ) إذْ الْوَلَدُ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الرِّقِّ وَمَا يَثْبُتُ لِضَرُورَةٍ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، وَالضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ بِالْمُسْلِمَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْكِتَابِيَّةِ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِكَوْنِهِ ضَرُورِيًّا عِنْدَهُ (جَعَلَ طُولَ الْحُرَّةِ مَانِعًا مِنْهُ) أَيْ تَزَوُّجِ الْأَمَةِ لِانْدِفَاعِ الضَّرُورَةِ بِالْقُدْرَةِ عَلَى تَزَوُّجِ الْحُرَّةِ (وَعِنْدَنَا جَوَازُ نِكَاحِ الْأَمَةِ مُطْلَقٌ) مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ كِتَابِيَّةً (لِإِطْلَاقِ الْمُقْتَضِي) وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ} وَقَوْلُهُ {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} وَانْتِفَاءُ الْمَانِعِ الَّذِي هُوَ أَبْدَاهُ وَهُوَ تَعْرِيضُ الْجُزْءِ عَلَى الرِّقِّ (لِأَنَّ فِيهِ) أَيْ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى نِكَاحِ الْأَمَةِ (امْتِنَاعًا عَنْ تَحْصِيلِ الْجُزْءِ الْحُرِّ لَا إرْقَاقُهُ) لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ بَعْدُ، وَبَعْدَ وُجُودِ الْمَاءِ فَهُوَ مَوَاتٌ لَا يُوصَفُ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ إلَّا بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ، وَالِامْتِنَاعُ عَنْهُ لَيْسَ بِمَانِعٍ شَرْعًا لِأَنَّ لَهُ أَنْ لَا يُحَصِّلَ الْأَصْلَ بِالْعَزْلِ بِرِضَا الْمَرْأَةِ وَبِتَزَوُّجِ الْعَجُوزِ وَالْعَقِيمِ فَلَأَنْ يَكُونَ لَهُ أَنْ لَا يُحَصِّلَ وَصْفَ الْحُرِّيَّةِ بِتَزَوُّجِ الْأَمَةِ أَوْلَى (وَلَا يَتَزَوَّجُ أَمَةً عَلَى حُرَّةٍ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا تُنْكَحُ الْأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ» وَهُوَ بِإِطْلَاقِهِ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَجْوِيزِهِ ذَلِكَ لِلْعَبْدِ، وَعَلَى مَالِكٍ فِي تَجْوِيزِهِ ذَلِكَ بِرِضَا الْحُرَّةِ، وَلِأَنَّ لِلرِّقِّ أَثَرًا فِي تَنْصِيفِ النِّعْمَةِ عَلَى مَا نُقَرِّرُهُ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَيَثْبُتُ بِهِ حِلُّ الْمَحَلِّيَّةِ فِي حَالَةِ الِانْفِرَادِ دُونَ حَالَةِ الِانْضِمَامِ (وَيَجُوزُ تَزْوِيجُ الْحُرَّةِ عَلَيْهَا) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَتُنْكَحُ الْحُرَّةُ عَلَى الْأَمَةِ» وَلِأَنَّهَا مِنْ الْمُحَلَّلَاتِ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ إذْ لَا مُنَصِّفَ فِي حَقِّهَا.
الشَّرْحُ:
(وَلَا يَتَزَوَّجُ أَمَةً عَلَى حُرَّةٍ) سَوَاءٌ كَانَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْعَبْدِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ بِرِضَا الْحُرَّةِ.
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ تَزَوُّجَ الْأَمَةِ مَمْنُوعٌ لِمَعْنًى فِي الْمُتَزَوِّجِ إذَا كَانَ حُرًّا وَهُوَ تَعْرِيضُ جُزْئِهِ عَلَى الرِّقِّ مَعَ الْغَنِيَّةِ عَنْهُ وَهُوَ لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ رَقِيقٌ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ.
وَوَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ الْمَنْعَ لِحَقِّ الْحُرَّةِ فَإِذَا رَضِيَتْ فَقَدْ أَسْقَطَتْ حَقَّهَا.
وَلَنَا مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي مَبْسُوطِهِ: بَلَغَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «لَا تُنْكَحُ الْأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ» وَهُوَ بِإِطْلَاقِهِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ الرَّأْيَ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ.
فَإِنْ قُلْت: جَوَّزْتُمْ نِكَاحَ الْأَمَةِ مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ كِتَابِيَّةً بِإِطْلَاقِ الْمُقْتَضَى عَلَى مَا تَلَوْتُمْ فَهَلَّا جَوَّزْتُمْ نِكَاحَهَا عَلَى الْحُرَّةِ بِذَلِكَ؟ قُلْت: جَوَّزْنَا هُنَاكَ لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ وَهَاهُنَا وَإِنْ كَانَ الْمُقْتَضِي مَوْجُودًا لَكِنَّ الْمَانِعَ غَيْرُ مُنْتَفٍ، وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (وَلِأَنَّ لِلرِّقِّ أَثَرًا فِي تَنْصِيفِ النِّعْمَةِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي الطَّلَاقِ فَيَثْبُتُ بِهِ حِلُّ الْمَحَلِّيَّةِ فِي حَالَةِ الِانْفِرَادِ دُونَ حَالَةِ الِانْضِمَامِ) وَلَا عَلَيْنَا أَنْ نُقَرِّرَهُ هَاهُنَا.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْحِلَّ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَيْهِ عَقْدُ النِّكَاحِ نِعْمَةٌ جَدِيدَةٌ فِي جَانِبِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا، وَكَمَا يَتَنَصَّفُ ذَلِكَ الْحِلُّ بِرِقِّ الرَّجُلِ حَتَّى يَتَزَوَّجَ الْعَبْدُ ثِنْتَيْنِ وَالْحُرُّ أَرْبَعًا فَكَذَلِكَ يَتَنَصَّفُ بِرِقِّ الْمَرْأَةِ لِأَنَّ الرِّقَّ هُوَ الْمُنَصِّفُ وَهُوَ يَشْمَلُهُمَا، وَلَا يُمْكِنُ إظْهَارُ هَذَا التَّنْصِيفِ فِي جَانِبِهَا بِنُقْصَانِ الْعَدَدِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَحِلُّ إلَّا لِوَاحِدٍ، فَظَهَرَ التَّنْصِيفُ بِاعْتِبَارِ الْحَالَةِ، فَبَعْدَ ذَلِكَ نَقُولُ: الْأَحْوَالُ ثَلَاثٌ: حَالُ مَا قَبْلَ نِكَاحِ الْحُرَّةِ، وَحَالُ مَا بَعْدَهُ، وَحَالُ الْمُقَارَنَةِ، وَلَكِنَّ الْحَالَ الْوَاحِدَةَ لَا تَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ فَتُغَلَّبُ الْحُرْمَةُ عَلَى الْحِلِّ فَتُجْعَلُ مُحَلَّلَةً سَابِقَةً عَلَى الْحُرَّةِ وَمُحَرَّمَةً مُقْتَرِنَةً بِالْحُرَّةِ أَوْ مُتَأَخِّرَةً عَنْهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ بُطْلَانُ التَّنْصِيفِ بِالرِّقِّ الثَّابِتِ بِالدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ مَانِعٌ عَنْ الْعَمَلِ بِإِطْلَاقِ الْمُقْتَضِي فَتَأَمَّلْ فَإِنَّهُ غَرِيبٌ وَيَجُوزُ تَزْوِيجُ الْحُرَّةِ عَلَيْهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «وَتُنْكَحُ الْحُرَّةُ عَلَى الْأَمَةِ» وَلِأَنَّهَا مِنْ الْمُحَلَّلَاتِ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ لِعَدَمِ الْمُنَصِّفِ فِي حَقِّهَا فَجَازَ الْعَمَلُ بِإِطْلَاقِ الْمُقْتَضِي عِنْدَ انْتِفَاءِ الْمَانِعِ (فَإِنْ تَزَوَّجَ أَمَةً عَلَى حُرَّةٍ فِي عِدَّةٍ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ أَوْ ثَلَاثٍ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَيَجُوزُ عِنْدَهُمَا) لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِتَزَوُّجٍ عَلَيْهَا وَهُوَ الْمُحَرَّمُ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ عَلَيْهَا لَمْ يَحْنَثْ بِهَذَا.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ نِكَاحَ الْحُرَّةِ بَاقٍ مِنْ وَجْهٍ لِبَقَاءِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ فَيَبْقَى الْمَنْعُ احْتِيَاطًا، بِخِلَافِ الْيَمِينِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ لَا يُدْخِلَ غَيْرَهَا فِي قَسْمِهَا.
الشَّرْحُ:
(فَإِنْ تَزَوَّجَ أَمَةً عَلَى حُرَّةٍ فِي عِدَّةٍ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ أَوْ ثَلَاثٍ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَجُوزُ عِنْدَهُمَا) وَوَجْهُ الْجَانِبَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ، وَلَا بُدَّ لَهُمَا مِنْ فَرْقٍ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ مَا إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي عِدَّةِ أُخْتِهَا مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ فَإِنَّهُمَا لَمْ يُجَوِّزَاهُ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَقَالُوا فِي الْفَرْقِ لَهُمَا: إنَّ الْمُحَرَّمَ هُنَاكَ الْجَمْعُ فَإِذَا تَزَوَّجَهَا فِي عِدَّةِ أُخْتِهَا صَارَ جَامِعًا بَيْنَهُمَا فِي حُقُوقِ النِّكَاحِ فَلَا يَجُوزُ، وَأَمَّا هَذَا الْمَنْعُ فَلَيْسَ لِأَجْلِ الْجَمْعِ، فَإِنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ الْأَمَةَ ثُمَّ الْحُرَّةَ صَحَّ نِكَاحُهُمَا، وَلَكِنَّهُ بِاعْتِبَارِ إدْخَالِ نَاقِصَةِ الْحَالِ عَلَى كَامِلَةِ الْحَالِ وَهَذَا لَا يُوجَدُ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: نِكَاحُ الْأُولَى قَائِمٌ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ أَوْ لَا؟ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ وَرَدَ عَلَيْهِمَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَتِلْكَ الْمَسْأَلَةُ.
وَقَدْ نُقِلَ فِي النِّهَايَةِ عَنْ الْمَبْسُوطِ وَالْأَسْرَارِ فَرْقٌ آخَرُ أَضْعَفُ مِنْ هَذَا فَلَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِهِ. (وَلِلْحُرِّ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا مِنْ الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} وَالتَّنْصِيصُ عَلَى الْعَدَدِ يَمْنَعُ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَتَزَوَّجُ إلَّا أَمَةً وَاحِدَةً لِأَنَّهُ ضَرُورِيٌّ عِنْدَهُ: وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا تَلَوْنَا إذْ الْأَمَةُ الْمَنْكُوحَةُ يَنْتَظِمُهَا اسْمُ النِّسَاءِ كَمَا فِي الظِّهَارِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلِلْحُرِّ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا مِنْ الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ) أَوْ مِنْهُمَا إذَا قَدَّمَ الْأَمَةَ عَلَى الْحُرَّةِ وَلَا يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} نَصَّ عَلَى الْعَدَدِ (وَالتَّنْصِيصُ عَلَى الْعَدَدِ يَمْنَعُ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ) وَفِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّ هَذَا مَعْدُولٌ وَهُوَ وَصْفٌ وَلِهَذَا مُنِعَ عَنْ الصَّرْفِ لِلْعَدْلِ وَالْوَصْفِ فَكَانَ مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ، وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ فَتَثْبُتُ الزِّيَادَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} سَلَّمْنَا أَنَّهُ عَدَدٌ وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَيْهِ يَمْنَعُ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ «إنَّمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْ خَمْسٍ: مِنْ بَوْلٍ، وَغَائِطٍ، وَقَيْءٍ، وَمَنِيٍّ، وَدَمٍ» وَبِالِاتِّفَاقِ يُغْسَلُ مِنْ الْخَمْرِ أَيْضًا مَعَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَصَّ عَلَى الْعَدَدِ مَعَ كَلِمَةِ الْحَصْرِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّهُ بِحَسَبِ الْأَصْلِ مِنْ الْأَعْدَادِ وَإِنْ اُسْتُعْمِلَ وَصْفًا، وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ مَعْنَاهُ إنَّمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْ خَمْسٍ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْ بَدَنِ الْآدَمِيِّ، لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ خَرَجَ جَوَابًا لِسُؤَالِ مَنْ سَأَلَ عَنْ النَّجَاسَةِ وَهُوَ مُنْحَصِرٌ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ.
فَإِنْ قِيلَ: سَلَّمْنَاهُ لَكِنْ مُقْتَضَاهُ التِّسْعُ أَوْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ لِمَا أَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا الْوَهْمَ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَ الرَّافِضَةَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَفْضَلِ الْمَوْجُودَاتِ مَعَ اخْتِصَاصِهِ بِذَلِكَ بِفَضِيلَةِ النُّبُوَّةِ أَوْ ازْدِيَادِهِمْ عَلَيْهِ، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إلَى جَوَازِ التِّسْعِ، وَعَنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إلَى جَوَازِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ نَظَرًا إلَى مَعْنَى الْعُدُولِ وَحِرَفِ الْجَمْعِ، وَلَكِنْ لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا تَوَهَّمُوا لِأَنَّ الْمُرَادَ بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ أَحَدُ هَذِهِ الْأَعْدَادِ.
قَالَ الْفَرَّاءُ: لَا وَجْهَ لِحَمْلِ هَذَا عَلَى الْجَمْعِ لِأَنَّ الْعِبَارَةَ عَنْ التِّسْعِ بِهَذَا اللَّفْظِ مِنْ الْعِيِّ فِي الْكَلَامِ وَالْكَلَامُ الْمَجِيدُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ بَيْنَ غَيْلَانَ الثَّقَفِيِّ وَبَيْنَ مَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ مِنْ النِّسْوَةِ حِينَ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ» وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا بَعْدَهُ إلَى يَوْمِنَا هَذَا أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ نِكَاحًا (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَتَزَوَّجُ إلَّا أَمَةً وَاحِدَةً لِأَنَّهُ) أَيْ نِكَاحَ الْأَمَةِ (ضَرُورِيٌّ) فِي حَقِّ الْحُرِّ (عِنْدَهُ) كَمَا تَقَدَّمَ وَالضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ بِالْوَاحِدَةِ (وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا تَلَوْنَا) يَعْنِي قَوْله تَعَالَى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ} فَإِنَّ اسْمَ النِّسَاءِ يَنْتَظِمُ الْأَمَةَ الْمَنْكُوحَةَ، كَمَا فِي الظِّهَارِ فَإِنَّ آيَتَهُ مَذْكُورَةٌ بِلَفْظِ النِّسَاءِ وَيَتَنَاوَلُ الْأَمَةَ الْمَنْكُوحَةَ (وَلَا يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَكْثَرَ مِنْ اثْنَتَيْنِ) وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ النِّكَاحِ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ عِنْدَهُ حَتَّى مَلَّكَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى.
وَلَنَا أَنَّ الرِّقَّ مُنَصِّفٌ فَيَتَزَوَّجُ الْعَبْدُ اثْنَتَيْنِ وَالْحُرُّ أَرْبَعًا إظْهَارًا لِشَرَفِ الْحُرِّيَّةِ.

الشَّرْحُ:
(وَلَا يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَكْثَرَ مِنْ ثِنْتَيْنِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ النِّكَاحِ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ عِنْدَهُ) لِأَنَّهُ يَمْلِكُ أَصْلَ النِّكَاحِ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ فِي حَقِّ النِّكَاحِ لِمَا مَلَكَهُ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْمَالَ وَلِهَذَا قَالَ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ كَمَا أَنَّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَ بِغَيْرِ إذْنِهِ (وَلَنَا أَنَّ الرِّقَّ مُنَصَّفٌ) عَلَى مَا سَيَجِيءُ فِي الطَّلَاقِ كَمَا وَعَدَهُ الْمُصَنِّفُ (فَيَتَزَوَّجُ الْعَبْدُ اثْنَتَيْنِ وَالْحُرُّ أَرْبَعًا إظْهَارًا لِشَرَفِ الْحُرِّيَّةِ) وَتَمَلُّكُهُ أَصْلَ النِّكَاحِ لَا يَمْنَعُ التَّنْصِيفَ بِالرِّقِّ كَالْأَمَةِ الْمَنْكُوحَةِ فَإِنَّهَا تَمْلِكُ طَلَبَ الْقَسْمِ وَيَتَنَصَّفُ قَسْمُهَا. قَالَ (فَإِنْ طَلَّقَ الْحُرُّ إحْدَى الْأَرْبَعِ طَلَاقًا بَائِنًا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ رَابِعَةً حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا) وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ نَظِيرُ نِكَاحِ الْأُخْتِ فِي عِدَّةِ الْأُخْتِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (فَإِنْ طَلَّقَ الْحُرُّ) ظَاهِرٌ قَالَ (فَإِنْ تَزَوَّجَ حُبْلَى مِنْ زِنًا جَازَ النِّكَاحُ وَلَا يَطَؤُهَا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: النِّكَاحُ فَاسِدٌ (وَإِنْ كَانَ الْحَمْلُ ثَابِتَ النَّسَبِ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ) لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الِامْتِنَاعَ فِي الْأَصْلِ لِحُرْمَةِ الْحَمْلِ، وَهَذَا الْحَمْلُ مُحْتَرَمٌ لِأَنَّهُ لَا جِنَايَةَ مِنْهُ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ إسْقَاطُهُ.
وَلَهُمَا أَنَّهَا مِنْ الْمُحَلَّلَاتِ بِالنَّصِّ وَحُرْمَةُ الْوَطْءِ كَيْ لَا يَسْقِيَ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ، وَالِامْتِنَاعُ فِي ثَابِتِ النَّسَبِ لِحَقِّ صَاحِبِ الْمَاءِ وَلَا حُرْمَةَ لِلزَّانِي.
الشَّرْحُ:
قَالَ (فَإِنْ تَزَوَّجَ حُبْلَى مِنْ الزِّنَا) الْحَامِلُ إذَا تَزَوَّجَتْ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْحَمْلُ ثَابِتَ النَّسَبِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: جَازَ النِّكَاحُ، وَلَا يَطَؤُهَا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: النِّكَاحُ فَاسِدٌ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ فِي الْأَصْلِ أَيْ فِي الْحَمْلِ الثَّابِتِ بِالنَّسَبِ إنَّمَا كَانَ (لِحُرْمَةِ الْحَمْلِ، وَهَذَا الْحَمْلُ مُحْتَرَمٌ لِأَنَّهُ لَا جِنَايَةَ مِنْهُ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ إسْقَاطُهُ).
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ قَاسَ حَمْلَ الزِّنَا عَلَى الْحَمْلِ الثَّابِتِ النَّسَبِ بِعِلَّةِ حُرْمَةِ الْحَمْلِ (وَلَهُمَا أَنَّهَا مِنْ الْمُحَلَّلَاتِ بِالنَّصِّ) وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} وَكُلُّ مَنْ كَانَتْ كَذَلِكَ جَازَ نِكَاحُهَا.
فَإِنْ قُلْت: مَا بَالُ الْحَمْلِ الثَّابِتِ النَّسَبِ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ هَذَا النَّصِّ؟ قُلْت: لِمَكَانِ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَتْ مِنْ الْمُحَلَّلَاتِ لَحَلَّ وَطْؤُهَا بَعْدَ وُرُودِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَحُرْمَةُ الْوَطْءِ لَا يَسْقِي مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ) وَحُرْمَةُ الْوَطْءِ لِعَارِضٍ يَحْتَمِلُ الزَّوَالَ لَا يَسْتَلْزِمُ فَسَادَ النِّكَاحِ كَمَا فِي حَالَةِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ.
وَقَوْلُهُ (وَالِامْتِنَاعُ فِي ثَابِتِ النَّسَبِ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ أَبِي يُوسُفَ.
وَتَقْرِيرُهُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ فَسَادَ النِّكَاحِ لِحُرْمَةِ الْحَمْلِ بَلْ إنَّمَا هُوَ (لِحَقِّ صَاحِبِ الْمَاءِ وَلَا حُرْمَةَ لِمَاءِ الزَّانِي) (فَإِنْ تَزَوَّجَ حَامِلًا مِنْ السَّبْيِ فَالنِّكَاحُ فَاسِدٌ) لِأَنَّهُ ثَابِتُ النَّسَبِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (فَإِنْ تَزَوَّجَ حَامِلًا مِنْ السَّبْيِ) صُورَتُهُ أَنْ تُسْبَى الْحَرْبِيَّةُ حَامِلًا فَيُرِيدَ السَّابِي أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لَا يَجُوزُ مَا لَمْ تَضَعْ الْحَمْلَ، لِأَنَّ النَّسَبَ مِنْ زَوْجِهَا ثَابِتٌ فَكَانَ الْمَاءُ مُحْتَرَمًا وَاجِبَ الصِّيَانَةِ وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْمُهَاجِرَةِ. (وَإِنْ زَوَّجَ أُمَّ وَلَدِهِ وَهِيَ حَامِلٌ مِنْهُ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ) لِأَنَّهَا فِرَاشٌ لِمَوْلَاهَا حَتَّى يَثْبُتَ نَسَبُ وَلَدِهَا مِنْهُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ، فَلَوْ صَحَّ النِّكَاحُ لَحَصَلَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْفِرَاشَيْنِ، إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُتَأَكِّدٍ حَتَّى يَنْتَفِيَ الْوَلَدُ بِالنَّفْيِ مِنْ غَيْرِ لِعَانٍ فَلَا يُعْتَبَرُ مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْحَمْلُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ زَوَّجَ أُمَّ وَلَدِهِ وَهِيَ حَامِلٌ مِنْهُ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ لِأَنَّهَا فِرَاشٌ لِمَوْلَاهَا) لِوُجُودِ حَدِّهِ وَهُوَ صَيْرُورَةُ الْمَرْأَةِ مُتَعَيِّنَةً لِثُبُوتِ نَسَبِ الْوَلَدِ مِنْهُ، وَكُلُّ مَنْ كَانَتْ فِرَاشًا لِشَخْصٍ لَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا لِئَلَّا يَحْصُلَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْفِرَاشَيْنِ فَإِنَّهُ سَبَبُ الْحُرْمَةِ فِي الْمُحْصَنَاتِ مِنْ النِّسَاءِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَتْ فِرَاشًا لَبَطَلَ نِكَاحُهَا حَائِلًا أَيْضًا.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ (إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُتَأَكِّدٍ حَتَّى يَنْتَفِيَ الْوَلَدُ بِالنَّفْيِ مِنْ غَيْرِ لِعَانٍ) وَكَانَ فِرَاشًا ضَعِيفًا (فَلَا يُعْتَبَرُ مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْحَمْلُ) لِأَنَّ الْحَمْلَ مَانِعٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَكَذَلِكَ الْفِرَاشُ، فَعِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا يَحْصُلُ التَّأَكُّدُ.
فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ غَيْرَ مُتَأَكِّدٍ وَيَنْتَفِي الْوَلَدُ بِالنَّفْيِ مِنْ غَيْرِ لِعَانٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِقْدَامُ عَلَى النِّكَاحِ نَفْيًا لِلنَّسَبِ فَإِنَّهُ يَقْبَلُ النَّفْيَ دَلَالَةً، كَمَا إذَا قَالَ لِجَارِيَةٍ لَهُ وَلَدَتْ ثَلَاثَةَ أَوْلَادٍ فِي بُطُونٍ مُخْتَلِفَةٍ هَذَا الْأَكْبَرُ مِنِّي، فَإِنَّهُ يَنْتَفِي نَسَبُ الْبَاقِينَ، وَإِذَا انْتَفَى نَسَبُهُ كَانَ حَمْلًا غَيْرَ ثَابِتِ النَّسَبِ، وَفِي مِثْلِهِ يَجُوزُ النِّكَاحُ كَمَا تَقَدَّمَ.
أُجِيبَ بِأَنَّ هَذِهِ دَلَالَةٌ، وَالدَّلَالَةُ إنَّمَا تُعْمَلُ إذَا لَمْ يُخَالِفْهَا صَرِيحٌ، وَالصَّرِيحُ هَاهُنَا مَوْجُودٌ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا إذَا كَانَ الْحَمْلُ مِنْهُ فَإِنَّهُ قَالَ رَجُلٌ زَوَّجَ أُمَّ وَلَدِهِ وَهِيَ حَامِلٌ مِنْهُ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْحَمْلُ مِنْهُ إذَا أَقَرَّ بِهِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ لَفْظُ الْفَاسِدِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ وَلَفْظُ الْبَاطِلِ هَاهُنَا وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْفَاسِدِ هُنَاكَ الْبَاطِلَ أَيْضًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَقَالَ: لِأَنَّ ثُبُوتَ الْمِلْكِ فِي بَابِ النِّكَاحِ مَعَ الْمُنَافِي إنَّمَا هُوَ لِضَرُورَةِ تَحَقُّقِ الْمَقَاصِدِ مِنْ حِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ لِلتَّوَالُدِ وَالتَّنَاسُلِ، فَلَا حَاجَةَ إلَى عَقْدٍ لَا يَتَضَمَّنُ الْمَقَاصِدَ وَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ فِي الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ أَهْوَنُ، أَمَّا فِي الْحَمْلِ مِنْ الزِّنَا فَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ فِيهَا مُخْتَلَفٌ فِيهَا وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا فِي الْمَسْبِيَّةِ فَكَذَلِكَ عَلَى مَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا إذَا تَزَوَّجَتْ جَازَ النِّكَاحُ وَلَكِنْ لَا يَقْرَبُهَا زَوْجُهَا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا قَالَ (وَمَنْ وَطِئَ جَارِيَتَهُ ثُمَّ زَوَّجَهَا جَازَ النِّكَاحُ) لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِفِرَاشٍ لِمَوْلَاهَا فَإِنَّهَا لَوْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ إلَّا أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا صِيَانَةً لِمَائِهِ، وَإِذَا جَازَ النِّكَاحُ (فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَطَأَهَا قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا أُحِبُّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا لِأَنَّهُ احْتَمَلَ الشَّغْلَ بِمَاءِ الْمَوْلَى فَوَجَبَ التَّنَزُّهُ كَمَا فِي الشِّرَاءِ.
وَلَهُمَا أَنَّ الْحُكْمَ بِجَوَازِ النِّكَاحِ أَمَارَةُ الْفَرَاغِ فَلَا يُؤْمَرُ بِالِاسْتِبْرَاءِ لَا اسْتِحْبَابًا وَلَا وُجُوبًا.
بِخِلَافِ الشِّرَاءِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ مَعَ الشَّغْلِ.
الشَّرْحُ:
(وَمَنْ وَطِئَ جَارِيَتَهُ ثُمَّ زَوَّجَهَا جَازَ النِّكَاحُ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِفِرَاشٍ لِمَوْلَاهَا) لِعَدَمِ حَدِّ الْفِرَاشِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ (فَإِنَّهَا لَوْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ إلَّا أَنَّ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْمَوْلَى أَنْ (يَسْتَبْرِئَهَا) قَالَ الشَّارِحُونَ: مَعْنَى عَلَيْهِ الِاسْتِحْبَابُ دُونَ الْوُجُوبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّفْظَ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فَيُقَالُ: إنَّهُ أَرَادَ بِهِ الِاسْتِحْبَابَ صِيَانَةً لِمَائِهِ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي فَتَاوَى الْوَلْوَالِجِيِّ بِالِاسْتِحْبَابِ (وَإِذَا جَازَ النِّكَاحُ جَازَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَطَأَهَا قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا أُحِبُّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا لِأَنَّهُ احْتَمَلَ الشُّغْلَ بِمَاءِ الْوَلِيِّ) وَلَوْ تَحَقَّقَ الِاشْتِغَالُ بِمَاءِ الْغَيْرِ كَانَ الْوَطْءُ حَرَامًا، فَإِذَا احْتَمَلَ ذَلِكَ ثَبَتَ التَّنَزُّهُ (كَمَا فِي الشِّرَاءِ) فَإِنَّ الْمُوجِبَ فِيهِ احْتِمَالُ الشُّغْلِ، لَكِنَّ جَوَازَ الْإِقْدَامِ عَلَى النِّكَاحِ أَوْرَثَ ضَعْفًا فِي السَّبَبِ فَيَكُونُ مُسْتَحَبًّا.
وَلَهُمَا أَنَّا قَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى جَوَازِ النِّكَاحِ مِنْ غَيْرِ حَبَلِ زَانٍ، وَالْحُكْمُ بِجَوَازِ النِّكَاحِ فِي مِثْلِهِ أَمَارَةُ فَرَاغِ الرَّحِمِ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا عَلَى رَحِمٍ فَارِغٍ عَنْ شَاغِلٍ مُحْتَرَمٍ، وَإِنْ كَانَ الرَّحِمُ فَارِغًا لَا يُؤْمَرُ بِالِاسْتِبْرَاءِ لَا اسْتِحْبَابًا وَلَا وُجُوبًا إذْ الْحُكْمُ لَا يَثْبُتُ بِلَا سَبَبٍ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ الِاسْتِحْبَابُ وَكَانَ حَقُّهُ التَّأْخِيرَ لِأَنَّ نَفْيَهُ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْوُجُوبِ فَكَانَ تَقْدِيمُهُ يُوجِبُ الِاسْتِغْنَاءَ عَنْ نَفْيِ الْوُجُوبِ، إمَّا لِأَنَّ الْخَصْمَ يَقُولُ بِهِ فَكَانَ نَفْيُهُ أَهَمَّ، وَإِمَّا لِيَتَّصِلَ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ الشِّرَاءِ فَإِنَّ الِاسْتِبْرَاءَ فِيهِ وَاجِبٌ.
وَمَنْ تَذَكَّرَ مَا سَلَفَ مِنْ الْمَسَائِلِ يَفْطِنُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْقُيُودِ الَّتِي لَمْ يُصَرِّحْ بِذِكْرِهَا الْمُصَنِّفُ اسْتِغْنَاءً عَنْهَا بِمَا تَضَمَّنَ كَلَامُهُ فِيمَا سَلَفَ، وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الشِّرَاءِ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ مُحَمَّدٍ صُورَةُ النِّزَاعِ عَلَى الشِّرَاءِ بِالْفَارِقِ وَهُوَ أَنَّ الشِّرَاءَ مَعَ الشُّغْلِ جَائِزٌ دُونَ النِّكَاحِ، فَالْحُكْمُ بِجَوَازِ النِّكَاحِ أَمَارَةُ الْفَرَاغِ وَإِلَّا لَكَانَ حُكْمًا بِمَا لَا يَجُوزُ وَلَا كَذَلِكَ فِي الشِّرَاءِ فَيَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ. (وَكَذَا إذَا رَأَى امْرَأَةً تَزْنِي فَتَزَوَّجَهَا حَلَّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا قَبْلَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا عِنْدَهُمَا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا أُحِبُّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا مَا لَمْ يَسْتَبْرِئْهَا) وَالْمَعْنَى مَا ذَكَرْنَا.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَكَذَا إذَا رَأَى امْرَأَةً تَزْنِي) ظَاهِرٌ.
وَقِيلَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَحِلَّ لِأَنَّ احْتِمَالَ الشُّغْلِ قَائِمٌ، وَدَلِيلُ الْحُرْمَةِ عِنْدَ مُعَارَضَةِ دَلِيلِ الْحِلِّ رَاجِحٌ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ تَعَارَضَ الِاحْتِمَالُ لِأَنَّ احْتِمَالَ وُجُودِ الْحِلِّ وَعَدَمِهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ رَجَّحْنَا جَانِبَ الْعَدَمِ لِأَصَالَتِهِ وَلِتَقَوِّي الْأَصَالَةِ هُنَا بِعَدَمِ حُرْمَةِ صَاحِبِ الْمَاءِ. قَالَ (وَنِكَاحُ الْمُتْعَةِ بَاطِلٌ) وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَةٍ أَتَمَتَّعُ بِك كَذَا مُدَّةً بِكَذَا مِنْ الْمَالِ وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ كَانَ مُبَاحًا فَيَبْقَى إلَى أَنْ يَظْهَرَ نَاسِخُهُ.
قُلْنَا: ثَبَتَ النَّسْخُ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا صَحَّ رُجُوعُهُ إلَى قَوْلِهِمْ فَتَقَرَّرَ الْإِجْمَاعُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَنِكَاحُ الْمُتْعَةِ بَاطِلٌ) صُورَةُ الْمُتْعَةِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ (أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِامْرَأَةٍ أَتَمَتَّعُ بِك كَذَا مُدَّةً بِكَذَا مِنْ الْمَالِ) أَوْ يَقُولُ خُذِي مِنِّي هَذِهِ الْعَشَرَةَ لِأَسْتَمْتِعَ بِك أَيَّامًا، أَوْ مَتِّعِينِي نَفْسَك أَيَّامًا أَوْ عَشَرَةَ أَيَّامٍ أَوْ لَمْ يَقُلْ أَيَّامًا، وَهَذَا عِنْدَنَا بَاطِلٌ (وَقَالَ مَالِكٌ هُوَ جَائِزٌ) وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ (لِأَنَّهُ كَانَ مُبَاحًا) بِالِاتِّفَاقِ (فَيَبْقَى إلَى أَنْ يَظْهَرَ نَاسِخُهُ.
قُلْنَا: قَدْ ظَهَرَ نَاسِخُهُ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ) وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ وَرَدَتْ الْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى نَسْخِهَا: مِنْهَا مَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ «أَنَّ مُنَادِيَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَادَى يَوْمَ خَيْبَرَ: أَلَا إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ الْمُتْعَةِ».
وَمِنْهَا حَدِيثُ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ قَالَ: «أَحَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتْعَةَ عَامَ الْفَتْحِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَجِئْت مَعَ ابْنِ عَمٍّ لِي إلَى بَابِ امْرَأَةٍ وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا بُرْدَةٌ، وَكَانَتْ بُرْدَةُ ابْنِ عَمِّي أَحْسَنَ مِنْ بُرْدَتِي، فَخَرَجَتْ امْرَأَةٌ كَأَنَّهَا دُمْيَةُ عَيْطَاءَ فَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إلَى شَبَابِي وَإِلَى بُرْدَتِهِ، فَقَالَتْ: هَلَّا بُرْدَةٌ كَبُرْدَةِ هَذَا أَوْ شَبَابًا كَشَبَابِ هَذَا؟ ثُمَّ آثَرَتْ شَبَابِي عَلَى بُرْدَتِهِ، فَبِتّ عِنْدَهَا، فَلَمَّا أَصْبَحْت إذَا مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَادِي: أَلَا إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ الْمُتْعَةِ، فَانْتَهَى النَّاسُ عَنْهَا» ثُمَّ أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى أَنَّ الْمُتْعَةَ قَدْ انْتَسَخَتْ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَتْ الْأَحَادِيثُ نَاسِخَةً وَالْإِجْمَاعُ مُظْهِرًا لِأَنَّ نَسْخَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِالْإِجْمَاعِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ عَلَى مَذْهَبِ الصَّحِيحِ.
فَإِنْ قِيلَ: أَيْنَ الْإِجْمَاعُ وَقَدْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ مُخَالِفًا؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَابْنُ عَبَّاسٍ صَحَّ رُجُوعُهُ إلَى قَوْلِهِمْ) رَوَى جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ مَا خَرَجَ مِنْ الدُّنْيَا حَتَّى رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ فِي الصَّرْفِ وَالْمُتْعَةِ (فَتَقَرَّرَ الْإِجْمَاعُ) وَقِيلَ فِي نِسْبَةِ جَوَازِ الْمُتْعَةِ إلَى مَالِكٍ نَظَرٌ لِأَنَّهُ رَوَى الْحَدِيثَ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِمَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ يَوْمَ خَيْبَرَ، وَعَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ».
وَقَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَلَا يَجُوزُ النِّكَاحُ إلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ وَإِنْ سَمَّى صَدَاقًا وَهَذِهِ الْمُتْعَةُ.
وَأَقُولُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الَّذِي أَخَذَ مِنْهُ الْمُصَنِّفُ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى قَوْلٍ لَهُ عَلَى خِلَافِ مَا فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ يَرْوِي حَدِيثًا يَكُونُ وَاجِبَ الْعَمَلِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ مَا يُعَارِضُهُ أَوْ يُرَجَّحُ عَلَيْهِ (وَالنِّكَاحُ الْمُؤَقَّتُ بَاطِلٌ) مِثْلُ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ إلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ.
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ صَحِيحٌ لَازِمٌ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ.
وَلَنَا أَنَّهُ أَتَى بِمَعْنَى الْمُتْعَةِ وَالْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ لِلْمَعَانِي، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا طَالَتْ مُدَّةُ التَّأْقِيتِ أَوْ قَصُرَتْ لِأَنَّ التَّأْقِيتَ هُوَ الْمُعَيِّنُ لِجِهَةِ الْمُتْعَةِ وَقَدْ وُجِدَ.
الشَّرْحُ:
(وَالنِّكَاحُ الْمُؤَقَّتُ بَاطِلٌ مِثْلُ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ إلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ).
وَاَلَّذِي يُفْهَمُ مِنْ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا وُجُودُ لَفْظٍ يُشَارِكُ الْمُتْعَةَ فِي الِاشْتِقَاقِ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ.
وَالثَّانِي شُهُودُ الشَّاهِدَيْنِ فِي النِّكَاحِ الْمُوَقَّتِ مَعَ ذِكْرِ لَفْظِ التَّزْوِيجِ أَوْ النِّكَاحِ وَأَنْ تَكُونَ الْمُدَّةُ مُعَيَّنَةً (وَقَالَ زُفَرُ هُوَ صَحِيحٌ لَازِمٌ) لِأَنَّ التَّوْقِيتَ شَرْطٌ فَاسِدٌ لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِمُقْتَضَى عَقْدِ النِّكَاحِ، وَالنِّكَاحُ لَا يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ (وَلَنَا أَنَّهُ أَتَى بِمَعْنَى الْمُتْعَةِ) بِلَفْظِ النِّكَاحِ لِأَنَّ مَعْنَى الْمُتْعَةِ هُوَ الِاسْتِمْتَاعُ بِالْمَرْأَةِ لَا لِقَصْدِ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّهَا لَا تَحْصُلُ فِي مُدَّةٍ قَلِيلَةٍ (وَالْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ لِلْمَعَانِي) دُونَ الْأَلْفَاظِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَفَالَةَ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْأَصِيلِ حَوَالَةٌ وَالْحَوَالَةُ بِشَرْطِ مُطَالَبَةِ الْأَصِيلِ كَفَالَةٌ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا طَالَتْ مُدَّةُ التَّأْقِيتِ أَوْ قَصُرَتْ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ إنَّهُمَا إنْ ذَكَرَا مِنْ الْوَقْتِ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُمَا لَا يَعِيشَانِ إلَيْهِ كَمِائَةِ سَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ كَانَ النِّكَاحُ صَحِيحًا لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى التَّأْبِيدِ.
وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ التَّأْقِيتَ مُعَيِّنٌ لِجِهَةِ الْمُتْعَةِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ تَزَوَّجْتُك لِلنِّكَاحِ وَمُقْتَضَاهُ التَّأْبِيدُ لِأَنَّهُ لَمْ يُوضَعْ شَرْعًا إلَّا لِذَلِكَ وَلَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ الْمُتْعَةَ؛ فَإِذَا قَالَ إلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ عَيَّنَ التَّوْقِيتَ جِهَةَ كَوْنِهِ مُتْعَةً مَعْنًى، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى الْمُدَّةُ الْقَلِيلَةُ وَالْكَثِيرَةُ سَوَاءٌ وَاسْتَشْكَلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِمَا إذَا شَرَطَ وَقْتَ الْعَقْدِ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ شَهْرٍ فَإِنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ وَالشَّرْطَ بَاطِلٌ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَاطِعٌ لِلنِّكَاحِ فَاشْتِرَاطُهُ بَعْدَ شَهْرٍ لِيَنْقَطِعَ بِهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُودِ الْعَقْدِ مُؤَبَّدًا، وَلِهَذَا لَوْ مَضَى الشَّهْرُ لَمْ يَبْطُلْ النِّكَاحُ فَكَانَ النِّكَاحُ صَحِيحًا وَالشَّرْطُ بَاطِلًا.
وَأَمَّا صُورَةُ النِّزَاعِ فَالشَّرْطُ إنَّمَا هُوَ فِي النِّكَاحِ لَا فِي قَاطِعِهِ، وَلِهَذَا لَوْ صَحَّ التَّوْقِيتُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ عَقْدٌ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ. (وَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِحْدَاهُمَا لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا صَحَّ نِكَاحُ الَّتِي يَحِلُّ نِكَاحُهَا وَبَطَلَ نِكَاحُ الْأُخْرَى) لِأَنَّ الْمُبْطِلَ فِي إحْدَاهُمَا، بِخِلَافِ مَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ فِي الْبَيْعِ لِأَنَّهُ يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، وَقَبُولُ الْعَقْدِ فِي الْحُرِّ شَرْطٌ فِيهِ، ثَمَّ جَمِيعُ الْمُسَمَّى لِلَّتِي يَحِلُّ نِكَاحُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَعِنْدَهُمَا يُقْسَمُ عَلَى مَهْرِ مِثْلَيْهِمَا وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْأَصْلِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ الْأَصْلِ أَيْ مِنْ الْمَبْسُوطِ وَصُورَتُهَا ظَاهِرَةٌ، وَمَسْأَلَةُ الْبَيْعِ تَأْتِي فِي الْبُيُوعِ.
وَقَوْلُهُ (وَعِنْدَهُمَا يُقْسَمُ عَلَى مَهْرِ مِثْلَيْهِمَا) يَعْنِي إذَا كَانَ الْمُسَمَّى أَلْفًا مَثَلًا يُنْظَرُ إلَى مَهْرِ مِثْلِهِمَا وَيُقْسَمُ الْمُسَمَّى عَلَيْهِمَا.
فَمَا أَصَابَ حِصَّةَ الَّتِي لَا تَحِلُّ يَسْقُطُ عَنْ الزَّوْجِ، وَمَا أَصَابَ حِصَّةَ الْأُخْرَى يَثْبُتُ عَلَيْهِ.
لَهُمَا أَنَّهُ قَابِلُ الْمُسَمَّى بِالْبُضْعَيْنِ وَكُلُّ مَا كَانَ مُقَابِلًا بِشَيْئَيْنِ فَإِنَّمَا يَلْزَمُ إذَا سُلِّمَا لِمَنْ قَابَلَ وَلَمْ يُسَلِّمْ هَاهُنَا إلَّا أَحَدُهُمَا فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا حِصَّتُهُ كَمَا لَوْ خَاطَبَ امْرَأَتَيْنِ بِالنِّكَاحِ عَلَى أَلْفٍ فَأَجَابَتْ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ ضَمَّ مَا لَا يَحِلُّ إلَى مَا يَحِلُّ فِي النِّكَاحِ كَضَمِّ الْجِدَارِ إلَى الْمَرْأَةِ فِيهِ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلنِّكَاحِ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ وَسَمَّى كَانَ الْمُسَمَّى كُلُّهُ لِلْمَرْأَةِ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا لِمَنْ تَحِلُّ، بِخِلَافِ مَا إذَا خَاطَبَهُمَا بِالنِّكَاحِ لِأَنَّهُمَا قَدْ اسْتَوَيَا فِي الْإِيجَابِ، حَتَّى لَوْ أَجَابَتَا صَحَّ نِكَاحُهُمَا جَمِيعًا فَيَثْبُتُ انْقِسَامُ الْبَدَلِ بِالْمُسَاوَاةِ فِي الْإِيجَابِ.
فَإِنْ قِيلَ: إذَا لَمْ تَكُنْ مَحَلًّا لِلنِّكَاحِ أَصْلًا وَلَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ الْعَقْدِ وَجَبَ أَنْ يُحَدَّ إنْ دَخَلَ بِهَا وَلَا يُحَدُّ عِنْدَهُ.
أُجِيبَ بِأَنَّ عَدَمَ الْحَدِّ بِاعْتِبَارِ ظَاهِرِ صُورَةِ الْعَقْدِ. (وَمَنْ ادَّعَتْ عَلَيْهِ امْرَأَةٌ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَأَقَامَتْ بَيِّنَةً فَجَعَلَهَا الْقَاضِي امْرَأَتَهُ وَلَمْ يَكُنْ تَزَوَّجَهَا وَسِعَهَا الْمُقَامُ مَعَهُ وَأَنْ تَدَعَهُ يُجَامِعُهَا) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَوَّلًا، وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ لَا يَسَعُهُ أَنْ يَطَأَهَا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الْقَاضِيَ أَخْطَأَ الْحُجَّةَ إذْ الشُّهُودُ كَذَبَةٌ فَصَارَ كَمَا إذَا ظَهَرَ أَنَّهُمْ عَبِيدٌ أَوْ كُفَّارٌ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الشُّهُودَ صَدَقَةٌ عِنْدَهُ وَهُوَ الْحُجَّةُ لِتَعَذُّرِ الْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَةِ الصِّدْقِ، بِخِلَافِ الْكُفْرِ وَالرِّقِّ لِأَنَّ الْوُقُوفَ عَلَيْهِمَا مُتَيَسِّرٌ، وَإِذَا ابْتَنَى الْقَضَاءُ عَلَى الْحُجَّةِ وَأَمْكَنَ تَنْفِيذُهُ بَاطِنًا بِتَقْدِيمِ النِّكَاحِ نَفَذَ قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ، بِخِلَافِ الْأَمْلَاكِ الْمُرْسَلَةِ لِأَنَّ فِي الْأَسْبَابِ تَزَاحُمًا فَلَا إمْكَانَ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ ادَّعَتْ عَلَيْهِ امْرَأَةٌ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَهِيَ مُلَقَّبَةٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِشَهَادَةِ الزُّورِ فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.
وَمَعْنَى نُفُوذِهِ ظَاهِرًا نُفُوذُهُ فِيمَا بَيْنَنَا بِثُبُوتِ التَّمْكِينِ وَالنَّفَقَةِ وَالْقَسْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَعْنَى نُفُوذِهِ بَاطِنًا ثُبُوتُ الْحِلِّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَأَمَّا فِي الْأَمْلَاكِ الْمُرْسَلَةِ وَالْمِيرَاثِ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا بِالْإِجْمَاعِ.
وَأَمَّا فِي الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ؛ فَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيهِ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ أَلْحَقَهَا بِالْأَشْرِبَةِ وَالْأَنْكِحَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَفِي أُخْرَى أَلْحَقَهَا بِالْأَمْلَاكِ الْمُرْسَلَةِ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ مِنْ تَحْرِيرِ الْمَذَاهِبِ وَاضِحٌ.
قَالُوا (الْقَاضِي أَخْطَأَ الْحُجَّةَ إذْ الشُّهُودُ كَذَبَةٌ) وَالْخَطَأُ فِي الْحُجَّةِ يَمْنَعُ مِنْ النُّفُوذِ بَاطِنًا كَمَا إذَا ظَهَرَ أَنَّهُمْ عَبِيدٌ أَوْ كُفَّارٌ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الشُّهُودَ صَدَقَةٌ عِنْدَ الْقَاضِي) لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا يَجْرَحُهُمْ وَمِثْلُ هَذِهِ الشُّهُودِ هُوَ الْحُجَّةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الشَّرْعِ (لِتَعَذُّرِ الْوُقُوفِ عَلَى الصِّدْقِ حَقِيقَةً) لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ بَاطِنِيٌّ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ، فَلَوْ اُشْتُرِطَ ذَلِكَ لِلْقَضَاءِ لَمَا أَمْكَنَ الْقَضَاءُ أَصْلًا، وَإِذَا وُجِدَتْ الْحُجَّةُ الشَّرْعِيَّةُ نَفَذَ الْحُكْمُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا (بِخِلَافِ الْكُفْرِ وَالرِّقِّ لِأَنَّ الْوُقُوفَ عَلَيْهِمَا مُتَيَسِّرٌ) بِالْأَمَارَاتِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْقَضَاءُ إظْهَارُ مَا كَانَ ثَابِتًا لَا إثْبَاتُ مَا لَمْ يَكُنْ وَالنِّكَاحُ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فَكَيْفَ يَنْفُذُ الْقَضَاءُ بَاطِنًا؟ أَشَارَ إلَى الْجَوَابِ بِقَوْلِهِ (بِتَقْدِيمِ النِّكَاحِ) يَعْنِي تَقْدِيمَ النِّكَاحِ عَلَى الْقَضَاءِ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ كَأَنَّهُ قَالَ أَنْكَحْتُك إيَّاهُ وَحَكَمْت بَيْنَكُمَا بِذَلِكَ (قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ) فَيَحِلُّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا لِئَلَّا تُنَازِعَهُ طَلَبَ الْوَطْءِ ثَانِيًا.
وَسَأَلَنِي بَعْضُ أَذْكِيَاءِ الْمَغَارِبَةِ حِينَ قَدِمَ مِصْرَ حَاجًّا سَنَةَ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةِ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ طَاعِنًا فِي الْمَذْهَبِ.
فَأَجَبْته بِقَوْلِهِمْ هَذَا قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ، فَقَالَ: قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ لَمْ يَنْحَصِرْ فِي الْوَطْءِ فَيُطَلِّقُهَا فَإِنَّهُ مُخَلِّصٌ عَنْ الْمُنَازَعَةِ مَعَ الْبَرَاءَةِ عَنْ عُهْدَةِ وَطْءٍ لَمْ يَسْبِقْهُ مُحَلِّلٌ، فَقُلْت: تَعْنِي بِالطَّلَاقِ طَلَاقًا مَشْرُوعًا أَوْ غَيْرَ مَشْرُوعٍ، لَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِمَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ وَهُوَ يَقْتَضِي النِّكَاحَ لَا مَحَالَةَ، وَإِمَامُنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلِيٌّ.
فَإِنَّهُ رَوَى أَنَّ رَجُلًا ادَّعَى عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا بَيْنَ يَدَيْ عَلِيٍّ وَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ فَقَضَى بِالنِّكَاحِ بَيْنَهُمَا فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: إنْ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَزَوِّجْنِي مِنْهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ: شَاهِدَاك زَوَّجَاك.
وَلَوْ لَمْ يَنْعَقِدْ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا بِقَضَائِهِ لَمَا امْتَنَعَ مِنْ الْعَقْدِ عِنْدَ طَلَبِهَا وَرَغْبَةِ الزَّوْجِ فِيهَا، وَقَدْ كَانَ فِي ذَلِكَ تَحْصِينُهَا مِنْ الزِّنَا وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ قَضَاءً بِشَهَادَةِ الزُّورِ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا إنَّمَا يَتِمُّ إذَا جُعِلَ قَضَاؤُهُ بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءِ الْعَقْدِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يُشْتَرَطَ حُضُورُ الشُّهُودِ عِنْدَ قَوْلِهِ قَضَيْت عَمَلًا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ».
أُجِيبَ بِأَنَّ بَعْضَ مَشَايِخِنَا ذَهَبُوا إلَى ذَلِكَ وَإِلَيْهِ مَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَآخَرُونَ مِنْهُمْ قَالُوا: إنْشَاءُ النِّكَاحِ لَا يُثْبِتُ مَقْصُودًا وَإِنَّمَا يُثْبِتُ مُقْتَضَى صِحَّةِ قَضَائِهِ فِي الْبَاطِنِ وَالْمُقْتَضَى لَا تُرَاعَى شَرَائِطُهُ الَّتِي يَثْبُتُ بِهَا لَوْ كَانَ مَقْصُودًا كَمَا فِي قَوْلِهِ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ سُقُوطِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ.
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الْأَمْلَاكِ الْمُرْسَلَةِ) أَيْ الْمُطْلَقَةِ عَنْ إثْبَاتِ سَبَبِ الْمِلْكِ بِأَنْ ادَّعَى مِلْكًا مُطْلَقًا فِي الْجَارِيَةِ أَوْ الطَّعَامِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ بِشِرَاءٍ أَوْ أَوْ إرْثٍ حَيْثُ لَا يَنْفُذُ الْقَضَاءُ إلَّا ظَاهِرًا بِالِاتِّفَاقِ حَتَّى لَا يَحِلُّ لِلْمَقْضِيِّ لَهُ وَطْؤُهَا (لِأَنَّ فِي الْأَسْبَابِ تَزَاحُمًا) فَلَا يُمْكِنُ تَنْفِيذُهُ.
بَيَانُهُ أَنَّ فِي الْأَسْبَابِ كَثْرَةً وَلَا يُمْكِنُ الْقَاضِيَ تَعْيِينُ شَيْءٍ مِنْهَا بِدُونِ الْحُجَّةِ فَلَمْ يَكُنْ مُخَاطَبًا بِالْقَضَاءِ بِالْمِلْكِ وَإِنَّمَا هُوَ مُخَاطَبٌ بِقَصْرِ يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ الْمُدَّعِي وَذَلِكَ نَافِذٌ مِنْهُ ظَاهِرًا، فَأَمَّا أَنْ يَنْفُذَ بَاطِنًا بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءٍ جَدِيدٍ فَلَيْسَ بِقَادِرٍ عَلَيْهِ بِلَا سَبَبٍ شَرْعِيٍّ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّ طَرِيقَهُ مُتَعَيِّنٌ فِي الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا فَيُمْكِنُهُ إثْبَاتُهُ وَتَنْفِيذُهُ.