فصل: (بَابُ عَزْلِ الْوَكِيلِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.(بَابُ عَزْلِ الْوَكِيلِ):

قَالَ (وَلِلْمُوَكِّلِ أَنْ يَعْزِلَ الْوَكِيلَ عَنْ الْوَكَالَةِ) لِأَنَّ الْوَكَالَةَ حَقُّهُ فَلَهُ أَنْ يُبْطِلَهُ، إلَّا إذَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ بِأَنْ كَانَ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ يُطْلَبُ مِنْ جِهَةِ الطَّالِبِ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ، وَصَارَ كَالْوَكَالَةِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا عَقْدُ الرَّهْنِ.
الشَّرْحُ:
بَابُ عَزْلِ الْوَكِيلِ: وَجْهُ تَأْخِيرِ بَابِ الْعَزْلِ ظَاهِرٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى بَيَانٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَكِيلَ إنْ كَانَ لِلطَّالِبِ فَعَزْلُهُ صَحِيحٌ حَضَرَ الْمَطْلُوبُ أَوْ لَا، لِأَنَّ الطَّالِبَ بِالْعَزْلِ يَبْطُلُ حَقُّهُ وَهُوَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى حُضُورِ غَيْرِهِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ أَوَّلًا وَإِنْ كَانَ لِلْمَطْلُوبِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِطَلَبٍ مِنْ جِهَةِ الطَّالِبِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ مِثْلُ الْقَاضِي فَكَذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَ، فَأَمَّا إنْ عَلِمَ الْوَكِيلُ بِالْوَكَالَةِ أَوْ لَا: فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَكَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا نَفَاذَ لِلْوَكَالَةِ قَبْلَ عِلْمِ الْوَكِيلِ فَكَانَ الْعَزْلُ امْتِنَاعًا وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ، وَإِنْ عَلِمَ وَلَمْ يَرُدَّهَا لَمْ يَصِحَّ فِي غَيْبَةِ الطَّالِبِ لِأَنَّ بِالتَّوْكِيلِ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ إحْضَارِهِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَإِثْبَاتُ الْحَقِّ عَلَيْهِ، وَبِالْعَزْلِ حَالَ غَيْبَتِهِ يُبْطِلُ ذَلِكَ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ مُسْتَثْنًى، وَصَحَّ بِحَضْرَتِهِ لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَبْطُلُ، لِأَنَّهُ إنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ الْخُصُومَةُ مَعَ الْوَكِيلِ يُمْكِنُهُ الْخُصُومَةُ مَعَ الْمُوَكِّلِ وَيُمْكِنُهُ طَلَبُ نَصْبِ وَكِيلٍ آخَرَ مِنْهُ، وَلَمْ يَذْكُرْهَا الْمُصَنِّفُ لِأَنَّ دَلِيلَهُ يُلَوِّحُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ قَالَ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ وَهَاهُنَا لَا إبْطَالَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ (قَوْلُهُ فَصَارَ) أَيْ فَصَارَ التَّوْكِيلُ مِنْ جِهَةِ الْمَطْلُوبِ إذَا كَانَ بِطَلَبٍ مِنْ جِهَةِ الطَّالِبِ (كَالْوَكَالَةِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا عَقْدُ الرَّهْنِ) بِأَنْ وَضَعَ الرَّهْنَ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ وَشَرَطَ فِي الرَّهْنِ أَنْ يَكُونَ الْعَدْلُ مُسَلَّطًا عَلَى الْبَيْعِ ثُمَّ أَرَادَ الرَّاهِنُ أَنْ يَعْزِلَ الْعَدْلَ عَنْ الْبَيْعِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْبَيْعَ صَارَ حَقًّا لِلْمُرْتَهِنِ وَبِالْعَزْلِ يَبْطُلُ هَذَا الْحَقُّ.
فَإِنْ قِيلَ: عَزْلُ الرَّاهِنِ الْعَدْلَ عَنْ الْبَيْعِ لَا يَصِحُّ وَإِنْ كَانَ بِحَضْرَةِ الْمُرْتَهِنِ مَا لَمْ يَرْضَ بِهِ، بِخِلَافِ عَزْلِ الْمُوَكِّلِ وَكِيلَهُ بِالْخُصُومَةِ فَإِنَّهُ صَحِيحٌ إذَا كَانَ بِحَضْرَةِ الطَّالِبِ رَضِيَ بِهِ أَوْ لَا، وَلَوْ كَانَتَا مُتَشَابِهَتَيْنِ لَمَا وَقَعَتْ بَيْنَهُمَا هَذِهِ التَّفْرِقَةُ.
أُجِيبَ بِأَنَّ مَدَارَ جَوَازِ الْعَزْلِ وَعَدَمِهِ عَلَى بُطْلَانِ الْحَقِّ وَعَدَمِهِ فَإِذَا بَطَلَ الْحَقُّ بَطَلَ الْعَزْلُ، وَفِي الْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ لَمْ يَبْطُلْ الْحَقُّ بِالْعَزْلِ بِحَضْرَتِهِ لِمَا تَقَدَّمَ فَكَانَ جَائِزًا، وَأَمَّا فِي مَسْأَلَةِ الرَّهْنِ فَلَوْ صَحَّ الْعَزْلُ بِحَضْرَةِ الْمُرْتَهِنِ بَطَلَ حَقُّهُ فِي الْبَيْعِ أَصْلًا إذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُطَالَبَ الرَّاهِنُ بِالْبَيْعِ. قَالَ (فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْهُ الْعَزْلُ فَهُوَ عَلَى وَكَالَتِهِ وَتَصَرُّفُهُ جَائِزٌ حَتَّى يَعْلَمَ) لِأَنَّ فِي الْعَزْلِ إضْرَارًا بِهِ مِنْ حَيْثُ إبْطَالُ وِلَايَتِهِ أَوْ مِنْ حَيْثُ رُجُوعُ الْحُقُوقِ إلَيْهِ فَيَنْقُدُ مِنْ مَالِ الْمُوَكِّلِ وَيُسَلِّمُ الْمَبِيعَ فَيَضْمَنُهُ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ، وَيَسْتَوِي الْوَكِيلُ بِالنِّكَاحِ وَغَيْرُهُ لِلْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا اشْتِرَاطَ الْعَدَدِ أَوْ الْعَدَالَةِ فِي الْمُخْبِرِ فَلَا نُعِيدُهُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْهُ الْعَزْلُ فَهُوَ عَلَى وَكَالَتِهِ إلَخْ) إذَا عَزَلَ الْوَكِيلَ وَلَمْ يَبْلُغْهُ عَزْلُهُ فَهُوَ عَلَى وَكَالَتِهِ وَتَصَرُّفُهُ جَائِزٌ حَتَّى يَعْلَمَ لِأَنَّ فِي عَزْلِهِ إضْرَارًا بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا مِنْ حَيْثُ بُطْلَانُ وِلَايَتِهِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَتَصَرَّفُ عَلَى ادِّعَاءِ أَنَّ لَهُ وِلَايَةَ ذَلِكَ، وَفِي الْعَزْلِ مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ تَكْذِيبٌ لَهُ فِيمَا ادَّعَاهُ لِبُطْلَانِ وِلَايَتِهِ، وَضَرَرُ التَّكْذِيبِ ظَاهِرٌ لَا مَحَالَةَ.
وَالثَّانِي مِنْ حَيْثُ رُجُوعُ الْحُقُوقِ إلَيْهِ فَإِنَّهُ يَنْقُدُ مِنْ مَالِ الْمُوَكِّلِ إنْ كَانَ وَكِيلًا بِالشِّرَاءِ وَيُسَلِّمُ الْمَبِيعَ إنْ كَانَ وَكِيلًا بِالْبَيْعِ، فَإِذَا كَانَ مَعْزُولًا كَانَ التَّصَرُّفُ وَاقِعًا لَهُ بَعْدَ الْعَزْلِ فَيَضْمَنُهُ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ، وَالْوَكِيلُ بِالنِّكَاحِ وَغَيْرِهِ سِيَّانِ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا اشْتِرَاطَ الْعَدَدِ أَوْ الْعَدَالَةِ فِي الْمُخْبِرِ فِي فَصْلِ الْقَضَاءِ بِالْمَوَارِيثِ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْإِعَادَةِ..
قَالَ (وَتَبْطُلُ الْوَكَالَةُ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ وَجُنُونِهِ جُنُونًا مُطْبِقًا وَلَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا) لِأَنَّ التَّوْكِيلَ تَصَرُّفٌ غَيْرُ لَازِمٍ فَيَكُونُ لِدَوَامِهِ حُكْمُ ابْتِدَائِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ الْأَمْرِ وَقَدْ بَطَلَ بِهَذِهِ الْعَوَارِضِ، وَشَرْطٌ أَنْ يَكُونَ الْجُنُونُ مُطْبِقًا لِأَنَّ قَلِيلَهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِغْمَاءِ، وَحَدُّ الْمُطْبِقِ شَهْرٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ اعْتِبَارًا بِمَا يَسْقُطُ بِهِ الصَّوْمُ.
وَعَنْهُ أَكْثَرُ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِأَنَّهُ تَسْقُطُ بِهِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ فَصَارَ كَالْمَيِّتِ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: حَوْلٌ كَامِلٌ لِأَنَّهُ يَسْقُطُ بِهِ جَمِيعُ الْعِبَادَاتِ فَقَدَّرَ بِهِ احْتِيَاطًا.
قَالُوا: الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ فِي اللَّحَاقِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَهُ فَكَذَا وَكَالَتُهُ، فَإِنْ أَسْلَمَ نَفَذَ، وَإِنْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ، فَأَمَّا عِنْدَهُمَا تَصَرُّفَاتُهُ نَافِذَةٌ فَلَا تَبْطُلُ وَكَالَتُهُ إلَّا أَنْ يَمُوتَ أَوْ يُقْتَلَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ يُحْكَمَ بِلَحَاقِهِ وَقَدْ مَرَّ فِي السِّيَرِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَتَبْطُلُ الْوَكَالَةُ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ إلَخْ) قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مِنْ الْوَكَالَةِ مَا يَجُوزُ لِلْمُوَكِّلِ فِيهِ أَنْ يَعْزِلَ الْوَكِيلَ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى رِضَا أَحَدٍ، وَمِنْهَا مَا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِيهِ إلَّا بِرِضَا الطَّالِبِ، فَفِي الْأَوَّلِ تَبْطُلُ الْوَكَالَةُ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ وَجُنُونِهِ جُنُونًا مُطْبِقًا وَلِحَاقُهُ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا، لِأَنَّ التَّوْكِيلَ تَصَرُّفٌ غَيْرُ لَازِمٍ، إذْ اللُّزُومُ عِبَارَةٌ عَمَّا يَتَوَقَّفُ وُجُودُهُ عَلَى الرِّضَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَنْفَرِدُ فِي فَسْخِهَا، فَإِنَّ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَمْنَعَ نَفْسَهُ عَنْ الْوَكَالَةِ وَلِلْمُوَكِّلِ أَنْ يَمْنَعَ الْوَكِيلَ عَنْهَا، وَكُلُّ تَصَرُّفٍ غَيْرُ لَازِمٍ لِدَوَامِهِ حُكْمُ ابْتِدَائِهِ، لِأَنَّ الْمُتَصَرِّفَ بِسَبِيلٍ مِنْ نَقْضِهِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ فَصَارَ كَأَنَّهُ يَتَجَدَّدُ عَقْدُ الْوَكَالَةِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ فَيَنْتَهِي فَكَانَ كُلُّ جُزْءٍ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ، وَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَمْرِ فَكَذَا فِيمَا هُوَ بِمَنْزِلَتِهِ، وَقَدْ بَطَلَ الْأَمْرُ بِهَذِهِ الْعَوَارِضِ فَلَا تَبْقَى الْوَكَالَةُ مِنْ هَؤُلَاءِ كَمَا لَا تَنْعَقِدُ مِنْهُمْ ابْتِدَاءً، وَنُوقِضَ بِالْبَيْعِ بِالْخِيَارِ فَإِنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ وَيَتَقَرَّرُ بِالْمَوْتِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْبَيْعِ اللُّزُومُ وَعَدَمُهُ لِعَارِضِ الْخِيَارِ، فَإِذَا مَاتَ بَطَلَ الْعَارِضُ وَتَقَرَّرَ الْأَصْلُ، وَفِي الثَّانِي لَا تَبْطُلُ فَلَا تَبْطُلُ فِي صُورَةِ تَسْلِيطِ الْعَدْلِ عَلَى بَيْعِ الرَّهْنِ، وَفِيمَا إذَا جَعَلَ أَمْرَ امْرَأَتِهِ بِيَدِهَا لِأَنَّ التَّوْكِيلَ فِي هَذَا النَّوْعِ صَارَ لَازِمًا لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ فَلَا يَكُونُ لِدَوَامِهِ حُكْمُ ابْتِدَائِهِ فَلَا يَلْزَمُ بَقَاءُ الْأَمْرِ.
وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ عَنْ بَيَانِ التَّقْسِيمِ سَاكِتٌ وَهُوَ مِمَّا لابد مِنْهُ.
وَالْجُنُونُ الْمُطْبِقُ بِكَسْرِ الْبَاءِ هُوَ الدَّائِمُ، وَشَرَطَ الْإِطْبَاقَ فِي الْجُنُونِ لِأَنَّ قَلِيلَهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِغْمَاءِ فَلَا تَبْطُلُ بِهِ الْوَكَالَةُ.
وَحَدُّ الْمُطْبِقِ شَهْرٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَرَوَى ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ اعْتِبَارًا بِمَا يَسْقُطُ بِهِ الصَّوْمُ، وَعَنْهُ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِأَنَّهُ تَسْقُطُ بِهِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ فَصَارَ كَالْمَيِّتِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ آخِرًا: حَوْلٌ كَامِلٌ لِأَنَّهُ يَسْقُطُ بِهِ جَمِيعُ الْعِبَادَاتِ فَقُدِّرَ بِهِ احْتِيَاطًا.
قَالَ الْمَشَايِخُ: الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ فِي اللِّحَاقِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ عِنْدَهُ مَوْقُوفَةٌ وَالْوَكَالَةُ مِنْ جُمْلَتِهَا فَتَكُونُ مَوْقُوفَةً، فَإِنْ أَسْلَمَ نَفَذَتْ، وَإِنْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَتْ، فَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَتَصَرُّفَاتُهُ جَائِزَةٌ فَلَا تَبْطُلُ وَكَالَتُهُ إلَّا أَنْ يَمُوتَ أَوْ يُقْتَلَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ يُحْكَمُ بِلِحَاقِهِ حَتَّى يَسْتَقِرَّ أَمْرُ اللِّحَاقِ، وَقَدْ مَرَّ فِي السِّيَرِ: أَيْ كَوْنُ تَصَرُّفِ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفًا أَوْ نَافِذًا فِي بَابِ أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّينَ، وَإِنْ كَانَ الْمُوَكِّلُ امْرَأَةً فَارْتَدَّتْ فَالْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ حَتَّى تَمُوتَ أَوْ تَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّ رِدَّتَهَا لَا تُؤَثِّرُ فِي عُقُودِهَا عَلَى مَا عُرِفَ.
الشَّرْحُ:
وَإِنْ كَانَ الْمُوَكِّلُ امْرَأَةً فَارْتَدَّتْ فَالْوَكِيلُ وَكِيلٌ حَتَّى تَمُوتَ أَوْ تَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، لِأَنَّ رِدَّتَهَا لَا تُؤَثِّرُ فِي عُقُودِهَا لِأَنَّهَا لَا تُقْتَلُ، مَا خَلَا التَّوْكِيلِ بِالتَّزْوِيجِ فَإِنَّ رِدَّتَهَا تُخْرِجُ الْوَكِيلَ بِهِ مِنْ الْوَكَالَةِ، لِأَنَّهَا حِينَ كَانَتْ مَالِكَةً لِلْعَقْدِ وَقْتَ التَّوْكِيلِ تَثْبُتُ الْوَكَالَةُ فِي الْحَالِ ثُمَّ بِرِدَّتِهَا تَخْرُجُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَالِكَةً لِلْعَقْدِ فَيَكُونُ ذَلِكَ عَزْلًا مِنْهَا لِوَكِيلِهَا، فَبَعْدَمَا انْعَزَلَ لَا يَعُودُ وَكِيلًا إلَّا بِالتَّجْدِيدِ. قَالَ (وَإِذَا وَكَّلَ الْمُكَاتَبُ ثُمَّ عَجَزَ أَوْ الْمَأْذُونُ لَهُ ثُمَّ حُجِرَ عَلَيْهِ أَوْ الشَّرِيكَانِ فَافْتَرَقَا، فَهَذِهِ الْوُجُوهُ تُبْطِلُ الْوَكَالَةَ عَلَى الْوَكِيلِ، عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ بَقَاءَ الْوَكَالَةِ يَعْتَمِدُ قِيَامَ الْأَمْرِ وَقَدْ بَطَلَ بِالْحَجْرِ وَالْعَجْزِ وَالِافْتِرَاقِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَعَدَمِهِ لِأَنَّ هَذَا عَزْلٌ حُكْمِيٌّ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا بَاعَهُ الْمُوَكِّلُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِذَا وَكَّلَ الْمُكَاتَبُ ثُمَّ عَجَزَ إلَخْ) وَإِذَا وَكَّلَ الْمُكَاتَبُ ثُمَّ عَجَزَ أَوْ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ ثُمَّ حُجِرَ عَلَيْهِ وَكَانَ التَّوْكِيلُ بِالْبَيْعِ أَوْ الشِّرَاءِ بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ، عَلِمَ بِذَلِكَ الْوَكِيلُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ.
وَإِذَا وَكَّلَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ ثَالِثًا بِشَيْءٍ مِمَّا لَمْ يَلِهِ بِنَفْسِهِ فَافْتَرَقَا فَكَذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ بَقَاءَ الْوَكَالَةِ يَعْتَمِدُ قِيَامَ الْأَمْرِ وَقَدْ بَطَلَ بِالْعَجْزِ وَالْحَجْرِ وَالِافْتِرَاقِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَعَدَمِهِ لِأَنَّهُ عَزْلٌ حُكْمِيٌّ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ، كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا بَاعَهُ الْمُوَكِّلُ، وَأَمَّا إذَا وَكَّلَ الْمُكَاتَبُ أَوْ الْمَأْذُونُ لَهُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ أَوْ التَّقَاضِي فَإِنَّهَا لَا تَبْطُلُ بِالْعَجْزِ وَالْحَجْرِ لِأَنَّ الْعَبْدَ مُطَالَبٌ بِإِيفَاءِ مَا وَلِيَهُ، وَلَهُ وِلَايَةُ مُطَالَبَةِ اسْتِيفَاءِ مَا وَجَبَ لَهُ لِأَنَّ وُجُوبَهُ كَانَ بِعَقْدِهِ، فَإِذَا بَقِيَ حَقُّهُ بَقِيَ وَكِيلُهُ عَلَى الْوَكَالَةِ كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ ابْتِدَاءً بَعْدَ الْحَجْرِ بَعْدَ انْعِقَادِ الْعَقْدِ بِمُبَاشَرَتِهِ، وَكَذَا إذَا وَكَّلَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ وَكِيلًا بِشَيْءٍ هُوَ وَلِيُّهُ ثُمَّ افْتَرَقَا وَاقْتَسَمَا وَأَشْهَدَا أَنَّهُ لَا شَرِكَةَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ أَمْضَى الْوَكِيلُ مَا وَكَّلَ بِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَوْ لَا يَعْلَمُ جَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا، لِأَنَّ تَوْكِيلَ أَحَدِهِمَا فِي حَالِ بَقَاءِ عَقْدِ الْمُفَاوَضَةِ كَتَوْكِيلِهِمَا فَصَارَ وَكِيلًا مِنْ جِهَتِهِمَا جَمِيعًا فَلَا يَنْعَزِلُ بِنَقْضِهِمَا الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمَا، وَكَذَا فِي الْمَبْسُوطِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا لَا يَفْصِلُ بَيْنَ مَا وَلِيَهُ وَبَيْنَ مَا لَمْ يَلِهِ، فَمَا الْفَارِقُ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ أَحَدَ الْمُتَفَاوِضَيْنِ إذَا وَكَّلَ فِيمَا وَلِيَهُ كَانَ لِتَوْكِيلِهِ جِهَتَانِ: جِهَةُ مُبَاشَرَتِهِ، وَجِهَةُ كَوْنِهِ شَرِيكًا، فَإِنْ بَطَلَتْ جِهَةُ كَوْنِهِ شَرِيكًا بِفَسْخِ الشَّرِكَةِ لَمْ تَبْطُلْ الْأُخْرَى وَهِيَ مُسْتَنِدَةٌ إلَى حَالِ الْمُفَاوَضَةِ، وَتَوْكِيلُ أَحَدِهِمَا فِيهَا كَتَوْكِيلِهِمَا فَتَبْقَى فِي حَقِّهِمَا، وَإِذَا وَكَّلَ فِيمَا لَمْ يَلِهِ كَانَ لِتَوْكِيلِهِ جِهَةُ كَوْنِهِ شَرِيكًا لَا غَيْرُ وَقَدْ بَطَلَتْ بِفَسْخِ الشَّرِكَةِ فَتَبْطُلُ فِي حَقِّهِمَا جَمِيعًا، وَإِذَا وَكَّلَ أَحَدُ شَرِيكَيْ الْعَنَانِ وَكِيلًا بِبَيْعِ شَيْءٍ مِنْ شَرِكَتِهِمَا جَازَ عَلَيْهِ وَعَلَى صَاحِبِهِ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حَقِّ صَاحِبِهِ كَوَكِيلٍ مَأْذُونٍ بِالتَّوْكِيلِ لِتَحْصِيلِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الرِّبْحُ فَإِنَّهُ قَدْ لَا يَحْصُلُ بِتَصَرُّفِ وَاحِدٍ وَحُصُولُهُ بِاثْنَيْنِ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ سَاكِتٌ عَنْ التَّفْصِيلِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ جَمِيعًا كَمَا تَرَى، وَفِيهِ مَا فِيهِ.
وَقَدْ أَوَّلَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ كَلَامَ الْقُدُورِيِّ فِي افْتِرَاقِ الشَّرِيكَيْنِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُوَ الْوَكَالَةُ الَّتِي كَانَتْ فِي ضِمْنِ عَقْدِ الشَّرِكَةِ، فَإِنَّهُمَا إذَا افْتَرَقَا بَطَلَتْ الشَّرِكَةُ الْمُتَضَمَّنَةُ لَهَا فَتَبْطُلُ مَا كَانَتْ فِي ضِمْنِهَا، هَذَا عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ يَخْتَصُّ بِمَسْأَلَةِ الشَّرِكَةِ لَا غَيْرُ عَلَى أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِعِبَارَةِ الْكِتَابِ. قَالَ (وَإِذَا مَاتَ الْوَكِيلُ أَوْ جُنَّ جُنُونًا مُطْبِقًا بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ) لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَمْرُهُ بَعْدَ جُنُونِهِ وَمَوْتِهِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَإِذَا مَاتَ الْوَكِيلُ أَوْ جُنَّ جُنُونًا مُطْبِقًا إلَخْ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ الْعَوَارِضِ الْمُبْطِلَةِ لِلْوَكَالَةِ مِنْ جَانِبِ الْمُوَكِّلِ شَرَعَ فِيهَا مِنْ جَانِبِ الْوَكِيلِ، فَإِذَا مَاتَ الْوَكِيلُ أَوْ جُنَّ جُنُونًا مُطْبِقًا بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَمْرُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَجُنُونِهِ، وَالْأَمْرُ مَصْدَرٌ مُضَافٌ إلَى الْمَفْعُولِ، وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ الَّذِي كَانَ مَأْمُورًا بِهِ لَمْ يَبْقَ صَحِيحًا، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ لِدَوَامِهِ حُكْمَ الِابْتِدَاءِ، (وَإِنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا) لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّصَرُّفُ إلَّا أَنْ يَعُودَ مُسْلِمًا قَالَ: وَهَذَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا تَعُودُ الْوَكَالَةُ.
لِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْوَكَالَةَ إطْلَاقٌ لِأَنَّهُ رُفِعَ الْمَانِعُ.
أَمَّا الْوَكِيلُ يَتَصَرَّفُ بِمَعَانٍ قَائِمَةٍ بِهِ وَإِنَّمَا عَجَزَ بِعَارِضِ اللَّحَاقِ لِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ، فَإِذَا زَالَ الْعَجْزُ وَالْإِطْلَاقُ بَاقٍ عَادَ وَكِيلًا.
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إثْبَاتُ وِلَايَةِ التَّنْفِيذِ، لِأَنَّ وِلَايَةَ أَصْلِ التَّصَرُّفِ بِأَهْلِيَّتِهِ وَوِلَايَةُ التَّنْفِيذِ بِالْمِلْكِ وَبِاللَّحَاقِ لَحِقَ بِالْأَمْوَاتِ وَبَطَلَتْ الْوِلَايَةُ فَلَا تَعُودُ كَمِلْكِهِ فِي أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ.
الشَّرْحُ:
وَإِنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيمَا وُكِّلَ بِهِ إلَّا أَنْ يَعُودَ مُسْلِمًا.
قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَهَذَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَلَا تَعُودُ الْوَكَالَةُ وَإِنْ عَادَ مُسْلِمًا.
لِمُحَمَّدٍ أَنَّ التَّوْكِيلَ إطْلَاقٌ لِأَنَّهُ رَفَعَ الْمَانِعَ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْوَكِيلَ كَانَ مَمْنُوعًا شَرْعًا أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي شَيْءٍ لِمُوَكِّلِهِ، فَإِذَا وَكَّلَهُ رَفَعَ الْمَانِعَ، وَأَمَّا أَنْ يَحْدُثُ فِيهِ أَهْلِيَّةٌ وَوِلَايَةٌ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَتَصَرَّفُ بِمَعَانٍ قَائِمَةٍ بِهِ وَهِيَ الْعَقْلُ وَالْقَصْدُ إلَى ذَلِكَ التَّصَرُّفِ وَالذِّمَّةُ الصَّالِحَةُ لَهُ، وَالْإِطْلَاقُ بَاقٍ مِنْ جِهَةِ الْمُوَكِّلِ بَعْدَ عُرُوضِ هَذَا الْعَارِضِ.
وَإِنَّمَا عَجَزَ الْوَكِيلُ عَنْ التَّصَرُّفِ بِعَارِضِ اللِّحَاقِ لِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ، فَإِذَا زَالَ الْعَجْزُ وَالْإِطْلَاقُ بَاقٍ عَادَ وَكِيلًا، وَهَذَا يَنْزِعُ إلَى تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَمُخَلِّصُهُ مَعْرُوفٌ.
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إثْبَاتُ وِلَايَةِ التَّنْفِيذِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ التَّوْكِيلَ تَمْلِيكُ وِلَايَةِ التَّنْفِيذِ، فَإِنَّ الْوَكِيلَ إنَّمَا يَمْلِكُ تَنْفِيذَ تَصَرُّفِهِ عَلَى مُوَكِّلِهِ بِالْوَكَالَةِ، وَوِلَايَةُ التَّنْفِيذِ بِالْمِلْكِ: أَيْ تَمْلِيكُ وِلَايَةِ التَّنْفِيذِ مُلْصَقٌ بِالْمِلْكِ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ بِلَا مِلْكٍ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ، فَكَانَ الْوَكِيلُ مَالِكًا لِلتَّنْفِيذِ بِالْوَكَالَةِ وَقَدْ بَطَلَ الْمِلْكُ بِاللِّحَاقِ لِأَنَّهُ لَحِقَ بِهِ بِالْأَمْوَاتِ فَصَارَ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ، وَإِذَا بَطَلَ الْمِلْكُ بَطَلَتْ الْوِلَايَةُ، وَإِذَا بَطَلَتْ الْوِلَايَةُ بَطَلَ التَّوْكِيلُ لِئَلَّا تَتَخَلَّفَ الْعِلَّةُ عَنْ الْمَعْلُولِ، وَإِذَا بَطَلَتْ لَا تَعُودُ كَمِلْكِهِ فِي الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ لَحِقَ بِالْأَمْوَاتِ إلَى أَنَّ فَرْضَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا قَضَى الْقَاضِي بِلِحَاقِهِ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْضِ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ الْوَكَالَةِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا.
بَقِيَ الْكَلَامُ فِي قَوْلِهِ لِأَنَّ وِلَايَةَ أَصْلِ التَّصَرُّفِ بِأَهْلِيَّتِهِ فَإِنَّهُ بَعِيدُ التَّعَلُّقِ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ أَنَّهُ إثْبَاتُ وِلَايَةِ التَّنْفِيذِ إلَّا أَنْ يَتَكَلَّفَ فَيُقَالُ الْوَكِيلُ لَهُ وِلَايَتَانِ وِلَايَةُ أَصْلِ التَّصَرُّفِ وَوِلَايَةُ التَّنْفِيذِ، وَالْأُولَى ثَابِتَةٌ لَهُ قَبْلَ التَّوْكِيلِ وَبَعْدَهُ، وَالثَّانِيَةُ لَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً قَبْلَهُ، وَإِنَّمَا حَدَثَتْ بَعْدَهُ وَلَمْ يَتَجَدَّدْ عَلَيْهِ شَيْءٌ سِوَى التَّوْكِيلِ فَكَانَتْ ثَابِتَةً بِهِ، وَلَوْ عَادَ الْمُوَكِّلُ مُسْلِمًا وَقَدْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا لَا تَعُودُ الْوَكَالَةُ فِي الظَّاهِرِ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا تَعُودُ كَمَا قَالَ فِي الْوَكِيلِ.
وَالْفَرْقُ لَهُ عَلَى الظَّاهِرِ أَنَّ مَبْنَى الْوَكَالَةِ فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ عَلَى الْمِلْكِ وَقَدْ زَالَ وَفِي حَقِّ الْوَكِيلِ عَلَى مَعْنًى قَائِمٍ بِهِ وَلَمْ يَزَلْ بِاللَّحَاقِ.
الشَّرْحُ:
وَلَوْ عَادَ الْمُوَكِّلُ مُسْلِمًا بَعْدَ الْقَضَاءِ بِلِحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا لَا تَعُودُ الْوَكَالَةُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا تَعُودُ كَمَا فِي الْوَكِيلِ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ إذَا عَادَ مُسْلِمًا عَادَ إلَيْهِ مَالُهُ عَلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ، وَقَدْ تَعَلَّقَتْ الْوَكَالَةُ بِقَدِيمِ مِلْكِهِ فَيَعُودُ الْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ، كَمَا لَوْ وَكَّلَ بِبَيْعِ عَبْدِهِ ثُمَّ بَاعَهُ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ وَرُدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ بِقَضَاءِ الْقَاضِي عَادَ الْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ.
وَالْفَرْقُ لَهُ عَلَى الظَّاهِرِ أَنَّ مَبْنَى الْوَكَالَةِ فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ عَلَى الْمِلْكِ وَقَدْ زَالَ بِرِدَّتِهِ وَالْقَضَاءِ بِلِحَاقِهِ، وَفِي حَقِّ الْوَكِيلِ عَلَى مَعْنًى قَائِمٍ بِهِ وَلَمْ يَزُلْ بِاللِّحَاقِ وَأَبُو يُوسُفَ سَوَّى فِي عَدَمِ الْعَوْدِ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ، وَلَعَلَّ إيرَادَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ عُرُوضِ الْعَوَارِضِ الْمَذْكُورَةِ لِلْمُوَكِّلِ كَانَ أَنْسَبَ، لَكِنْ لَمَّا ذَكَرَ الْعَوْدَ هَاهُنَا جَرَّدَ ذِكْرَهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ (وَمَنْ وَكَّلَ آخَرَ بِشَيْءٍ ثُمَّ تَصَرَّفَ بِنَفْسِهِ فِيمَا وَكَّلَ بِهِ بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ) وَهَذَا اللَّفْظُ يَنْتَظِمُ وُجُوهًا: مِثْلَ أَنْ يُوَكِّلَهُ بِإِعْتَاقِ عَبْدِهِ أَوْ بِكِتَابَتِهِ فَأَعْتَقَهُ أَوْ كَاتَبَهُ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ أَوْ يُوَكِّلَهُ بِتَزْوِيجِ امْرَأَةٍ أَوْ بِشِرَاءِ شَيْءٍ فَفَعَلَهُ بِنَفْسِهِ أَوْ يُوَكِّلَهُ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ فَطَلَّقَهَا الزَّوْجُ ثَلَاثًا أَوْ وَاحِدَةً وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا أَوْ بِالْخُلْعِ فَخَالَعَهَا، بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا تَصَرَّفَ بِنَفْسِهِ تَعَذَّرَ عَلَى الْوَكِيلِ التَّصَرُّفُ فَبَطَلَتْ الْوَكَالَةُ، حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَهَا بِنَفْسِهِ وَأَبَانَهَا لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْهُ لِأَنَّ الْحَاجَةَ قَدْ انْقَضَتْ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَزَوَّجَهَا الْوَكِيلُ وَأَبَانَهَا لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ الْمُوَكِّلَ لِبَقَاءِ الْحَاجَةِ، وَكَذَا لَوْ وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَبْدِهِ فَبَاعَهُ بِنَفْسِهِ، فَلَوْ رُدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ بِقَضَاءِ قَاضٍ؛ فَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَبِيعَهُ مَرَّةً أُخْرَى لِأَنَّ بَيْعَهُ بِنَفْسِهِ مَنْعٌ لَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ فَصَارَ كَالْعَزْلِ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مَرَّةً أُخْرَى لِأَنَّ الْوَكَالَةَ بَاقِيَةٌ لِأَنَّهُ إطْلَاقٌ وَالْعَجْزُ قَدْ زَالَ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَكَّلَهُ بِالْهِبَةِ فَوَهَبَ بِنَفْسِهِ ثُمَّ رَجَعَ لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَهَبَ لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ فِي الرُّجُوعِ فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلُ عَدَمِ الْحَاجَةِ.
أَمَّا الرَّدُّ بِقَضَاءٍ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَلَمْ يَكُنْ دَلِيلُ زَوَالِ الْحَاجَةِ، فَإِذَا عَادَ إلَيْهِ قَدِيمُ مِلْكِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ وَكَّلَ آخَرَ بِشَيْءٍ ثُمَّ تَصَرَّفَ بِنَفْسِهِ فِيمَا وَكَّلَ بِهِ إلَخْ) وَمَنْ وَكَّلَ آخَرَ بِشَيْءٍ مِنْ الْإِثْبَاتَاتِ أَوْ الْإِسْقَاطَاتِ ثُمَّ تَصَرَّفَ فِيهِ بِنَفْسِهِ بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ، فَإِذَا وَكَّلَهُ بِإِعْتَاقِ عَبْدِهِ أَوْ بِكِتَابَتِهِ فَأَعْتَقَهُ أَوْ كَاتَبَهُ بِنَفْسِهِ بَطَلَتْ.
وَكَذَا لَوْ وَكَّلَهُ بِتَزْوِيجِ امْرَأَةٍ مُعَيَّنَةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بِنَفْسِهِ حَتَّى لَوْ أَبَانَهَا لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْهُ لِانْقِضَاءِ الْحَاجَةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ تَزَوَّجَهَا الْوَكِيلُ فَأَبَانَهَا فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا لِمُوَكِّلِهِ لِبَقَاءِ الْحَاجَةِ، وَكَذَا لَوْ وَكَّلَ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ فَاشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ حَتَّى لَوْ بَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ الْمَأْمُورُ لِلْآمِرِ لَمْ يَجُزْ، وَكَذَا لَوْ وَكَّلَهُ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ فَطَلَّقَهَا بِنَفْسِهِ ثَلَاثًا أَوْ وَاحِدَةً وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بَطَلَتْ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمَأْمُورِ أَنْ يُطَلِّقَهَا، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ ثَلَاثًا أَوْ وَاحِدَةً وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا لِأَنَّهُ إذَا وَكَّلَهُ بِالطَّلَاقِ ثُمَّ طَلَّقَهَا بِنَفْسِهِ وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ بَائِنَةً كَانَتْ أَوْ رَجْعِيَّةً فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ.
وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ مَا كَانَ الْمُوَكِّلُ فِيهِ قَادِرًا عَلَى الطَّلَاقِ كَانَ وَكِيلُهُ كَذَلِكَ وَمَا لَا فَلَا، وَكَذَا إذَا وَكَّلَ بِالْخُلْعِ فَخَالَطَهَا (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَمَّا تَصَرَّفَ بِنَفْسِهِ تَعَذَّرَ عَلَى الْوَكِيلِ التَّصَرُّفُ فَبَطَلَتْ الْوَكَالَةُ) مُتَعَلِّقٌ بِجَمِيعِ مَا ذُكِرَ وَمَبْنَاهُ انْقِضَاءُ الْحَاجَةِ، وَكَذَا لَوْ وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَبْدِهِ فَبَاعَهُ بِنَفْسِهِ بَطَلَتْ، فَلَوْ رُدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ بِالْقَضَاءِ؛ فَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَبِيعَهُ لِأَنَّ بَيْعَهُ بِنَفْسِهِ مَنْعٌ لَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ فَصَارَ كَالْعَزْلِ.
وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ بِقَضَاءِ قَاضٍ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ إذَا قَبِلَهُ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْبَيْعِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَبِيعَهُ مَرَّةً أُخْرَى بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ كَالْعَقْدِ الْمُبْتَدَإِ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَالْوَكِيلُ غَيْرُهُمَا فَكَانَ فِي حَقِّ الْوَكِيلِ كَأَنَّ الْمُوَكِّلَ اشْتَرَاهُ ابْتِدَاءً.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مَرَّةً أُخْرَى، لِأَنَّ الْوَكَالَةَ بَاقِيَةٌ لِأَنَّهُ إطْلَاقٌ وَهُوَ بَاقٍ، وَالِامْتِنَاعُ كَانَ لِعَجْزِ الْوَكِيلِ وَقَدْ زَالَ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَكَّلَهُ بِالْهِبَةِ فَوَهَبَ بِنَفْسِهِ ثُمَّ رَجَعَ لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَهَبَ، لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ مُخْتَارٌ فِي الرُّجُوعِ فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلُ عَدَمِ الْحَاجَةِ: أَمَّا الرَّدُّ بِقَضَاءٍ فَبِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَلَمْ يَكُنْ دَلِيلَ زَوَالِ الْحَاجَةِ، فَإِذَا عَادَ إلَيْهِ قَدِيمُ مِلْكِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.(كِتَابُ الدَّعْوَى):

قَالَ (الْمُدَّعِي مَنْ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْخُصُومَةِ إذَا تَرَكَهَا وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يُجْبَرُ عَلَى الْخُصُومَةِ) وَمَعْرِفَةُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ أَهَمِّ مَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ مَسَائِلُ الدَّعْوَى، وَقَدْ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِيهِ، فَمِنْهَا مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ حَدٌّ عَامٌّ صَحِيحٌ.
وَقِيلَ الْمُدَّعِي مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا بِحُجَّةٍ كَالْخَارِجِ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يَكُونُ مُسْتَحِقًّا بِقَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ كَذِي الْيَدِ، وَقِيلَ الْمُدَّعِي مَنْ يَتَمَسَّكُ بِغَيْرِ الظَّاهِرِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يَتَمَسَّكُ بِالظَّاهِرِ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأَصْلِ: الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ الْمُنْكِرُ، وَهَذَا صَحِيحٌ لَكِنَّ الشَّأْنَ فِي مَعْرِفَتِهِ وَالتَّرْجِيحُ بِالْفِقْهِ عِنْدَ الْحُذَّاقِ مِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ لِلْمَعَانِي دُونَ الصُّوَرِ، فَإِنَّ الْمُودَعَ إذَا قَالَ رَدَدْت الْوَدِيعَةَ فَالْقَوْلُ لَهُ مَعَ الْيَمِينِ وَإِنْ كَانَ مُدَّعِيًا لِلرَّدِّ صُورَةً لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الضَّمَانَ.
الشَّرْحُ:
كِتَابُ الدَّعْوَى:
لَمَّا كَانَتْ الْوَكَالَةُ بِالْخُصُومَةِ لِأَجْلِ الدَّعْوَى ذَكَرَ الدَّعْوَى عَقِيبَ الْوَكَالَةِ.
وَهِيَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ قَوْلٍ يَقْصِدُ بِهِ الْإِنْسَانُ إيجَابَ حَقٍّ عَلَى غَيْرِهِ، وَفِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ مَا تَقَدَّمَ وَهِيَ مُطَالَبَةُ حَقٍّ فِي مَجْلِسِ مَنْ لَهُ الْخَلَاصُ عِنْدَ ثُبُوتِهِ.
وَسَبَبُهَا تَعَلُّقُ الْبَقَاءِ الْمُقَدَّرِ بِتَعَاطِي الْمُعَامَلَاتِ، لِأَنَّ الْمُدَّعَى بِهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إلَى النَّوْعِ أَوْ الشَّخْصِ.
وَشَرْطُهَا حُضُورُ خَصْمِهِ وَمَعْلُومِيَّةُ الْمُدَّعَى بِهِ وَكَوْنُهُ مُلْزِمًا عَلَى الْخَصْمِ، فَإِنْ ادَّعَى عَلَى الْغَائِبِ لَمْ تَسَعْ، وَكَذَا إذَا كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ مَجْهُولًا لِعَدَمِ إمْكَانِ الْقَضَاءِ.
وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ وَكِيلُ هَذَا الْحَاضِرِ وَهُوَ مُنْكِرٌ فَكَذَلِكَ لِإِمْكَانِ عَزْلِهِ فِي الْحَالِ.
وَحُكْمُ الصَّحِيحَةِ مِنْهَا وُجُوبُ الْجَوَابِ عَلَى الْخَصْمِ بِالنَّفْيِ أَوْ الْإِثْبَاتِ.
وَشَرْعِيَّتُهَا لَيْسَتْ لِذَاتِهَا بَلْ مِنْ حَيْثُ انْقِطَاعُهَا بِالْقَضَاءِ دَفْعًا لِلْفَسَادِ الْمَظْنُونِ بِبَقَائِهَا، وَفِي دَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى شَرْعِيَّتِهَا كَثْرَةٌ.
قَالَ (الْمُدَّعِي مَنْ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْخُصُومَةِ إذَا تَرَكَهَا وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يُجْبَرُ عَلَى الْخُصُومَةِ إلَخْ) الدَّعْوَى لَا تَحْصُلُ إلَّا مِنْ مُدَّعٍ عَلَى مُدَّعًى عَلَيْهِ؛ فَمَعْرِفَةُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ أَهَمِّ مَا يَبْتَنِي عَلَيْهِ مَسَائِلُ الدَّعْوَى، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهِمَا.
وَقَدْ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْمَشَايِخِ فِيهِ.
فَمِنْهَا مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ: يَعْنِي الْقُدُورِيَّ: الْمُدَّعِي مَنْ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْخُصُومَةِ إذَا تَرَكَهَا، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يُجْبَرُ عَلَى الْخُصُومَةِ، وَهُوَ حَدٌّ عَامٌّ صَحِيحٌ.
وَقِيلَ: الْمُدَّعِي مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا بِحُجَّةٍ: يَعْنِي الْبَيِّنَةَ أَوْ الْإِقْرَارَ كَالْخَارِجِ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يَكُونُ مُسْتَحِقًّا بِقَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ كَذِي الْيَدِ، وَهُوَ لَيْسَ بِعَامٍّ: أَيْ جَامِعٍ لِعَدَمِ تَنَاوُلِهِ صُورَةَ الْمُودَعِ إذَا ادَّعَى رَدَّ الْوَدِيعَةِ، وَلَعَلَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يَدْفَعُ اسْتِحْقَاقَ غَيْرِهِ.
وَقِيلَ: الْمُدَّعِي مَنْ يَلْتَمِسُ غَيْرَ الظَّاهِرِ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يَتَمَسَّكُ بِالظَّاهِرِ، وَبِمَعْنَاهُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: الْمُدَّعِي كُلُّ مَنْ ادَّعَى بَاطِنًا لِيُزِيلَ بِهِ ظَاهِرًا، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ ادَّعَى ظَاهِرًا وَقَرَارُ الشَّيْءِ عَلَى مَاهِيَّتِه، وَالظَّاهِرُ كَوْنُ الْأَمْلَاكِ فِي يَدِ الْمُلَّاكِ وَبَرَاءَةِ الذِّمَمِ، فَالْمُدَّعِي هُوَ مَنْ يُرِيدُ إزَالَةَ الظَّاهِرِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يُرِيدُ قَرَارَهُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَلَعَلَّهُ مَنْقُوضٌ بِالْمُودَعِ، فَإِنَّهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ وَلَيْسَ بِمُتَمَسِّكٍ بِالظَّاهِرِ، إذْ رَدُّ الْوَدِيعَةَ لَيْسَ بِظَاهِرٍ لِأَنَّ الْفَرَاغَ لَيْسَ بِأَصْلٍ بَعْدَ الِاشْتِغَالِ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إذَا ادَّعَى الْمَدْيُونُ بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ بِدَفْعِ الدَّيْنِ إلَى وَكِيلِ رَبِّ الْمَالِ وَهُوَ يُنْكِرُ الْوَكَالَةَ فَالْقَوْلُ لِرَبِّ الْمَالِ، لِأَنَّ الْمَدْيُونَ يَدَّعِي بَرَاءَةً بَعْدَ الشَّغْلِ فَكَانَتْ عَارِضَةً وَالشُّغْلُ أَصْلًا، وَيَجُوزُ أَنْ يُورِدَ بِالْعَكْسِ بِأَنَّهُ مُدَّعٍ وَيَتَمَسَّكُ بِالظَّاهِرِ وَهُوَ عَدَمُ الضَّمَانِ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: فِي الْأَصْلِ: الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ الْمُنْكِرُ وَهَذَا صَحِيحٌ لِمَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» وَرُوِيَ «الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» لَكِنَّ الشَّأْنَ فِي مَعْرِفَةِ مَنْ أَنْكَرَ وَالتَّرْجِيحُ بِالْفِقْهِ عِنْدَ الْحُذَّاقِ مِنْ أَصْحَابِنَا: يَعْنِي إذَا تَعَارَضَ الْجِهَتَانِ فِي صُورَةٍ فَالتَّرْجِيحُ لِإِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى يَكُونُ بِالْفِقْهِ: أَيْ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى دُونَ الصُّورَةِ، فَإِنَّ الْمُودَعَ إذَا قَالَ رَدَدْت الْوَدِيعَةَ فَهُوَ يَدَّعِي الرَّدَّ صُورَةً، فَلَوْ أَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً قُبِلَتْ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ أَيْضًا فَكَانَ مُدَّعًى عَلَيْهِ، فَإِذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ اعْتَبَرَ الصُّورَةَ، وَإِذَا عَجَزَ عَنْهَا اعْتَبَرَ مَعْنَاهَا، فَإِنَّهُ يُنْكِرُ الضَّمَانَ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ. قَالَ (وَلَا تُقْبَلُ الدَّعْوَى حَتَّى يَذْكُرَ شَيْئًا مَعْلُومًا فِي جِنْسِهِ وَقَدْرِهِ) لِأَنَّ فَائِدَةَ الدَّعْوَى الْإِلْزَامُ بِوَاسِطَةِ إقَامَةِ الْحُجَّةِ، وَالْإِلْزَامُ فِي الْمَجْهُولِ لَا يَتَحَقَّقُ (فَإِنْ كَانَ عَيْنًا فِي يَدِ الْمُدَّعَى) عَلَيْهِ كُلِّفَ إحْضَارَهَا لِيُشِيرَ إلَيْهَا بِالدَّعْوَى، وَكَذَا فِي الشَّهَادَةِ وَالِاسْتِحْلَافِ، لِأَنَّ الْإِعْلَامَ بِأَقْصَى مَا يُمْكِنُ شَرْطٌ وَذَلِكَ بِالْإِشَارَةِ فِي الْمَنْقُولِ لِأَنَّ النَّقْلَ مُمْكِنٌ وَالْإِشَارَةُ أَبْلَغُ فِي التَّعْرِيفِ، وَيَتَعَلَّقُ بِالدَّعْوَى وُجُوبُ الْحُضُورِ، وَعَلَى هَذَا الْقُضَاةُ مِنْ آخِرِهِمْ فِي كُلِّ عَصْرٍ، وَوُجُوبُ الْجَوَابِ إذَا حَضَرَ لِيُفِيدَ حُضُورُهُ وَلُزُومُ إحْضَارِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ لِمَا قُلْنَا وَالْيَمِينِ إذَا أَنْكَرَهُ، وَسَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَا تُقْبَلُ الدَّعْوَى حَتَّى يَذْكُرَ شَيْئًا مَعْلُومًا فِي جِنْسِهِ وَقَدْرِهِ إلَخْ) قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَعْلُومِيَّةَ الْمُدَّعِي بِهِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الدَّعْوَى فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ مَا يُعَيِّنُهُ مِنْ بَيَانِ جِنْسِهِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْحِنْطَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْرِهِ مِثْلُ كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا أَوْ دِينَارًا أَوْ كُرًّا، لِأَنَّ فَائِدَةَ الدَّعْوَى الْإِلْزَامُ بِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ، وَالْإِلْزَامُ فِي الْمَجْهُولِ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ، فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ عَيْنًا فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كُلِّفَ إحْضَارَهَا إلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ لِلْإِشَارَةِ إلَيْهَا فِي الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ وَالِاسْتِحْلَافِ لِأَنَّ الْإِعْلَامَ بِأَقْصَى مَا يُمْكِنُ شَرْطٌ نَفْيًا لِلْجَهَالَةِ، وَذَلِكَ فِي الْمَنْقُولِ بِالْإِشَارَةِ لِأَنَّ النَّقْلَ مُمْكِنٌ، وَالْإِشَارَةُ أَبْلَغُ فِي التَّعْرِيفِ لِكَوْنِهَا بِمَنْزِلَةِ وَضْعِ الْيَدِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ ذِكْرِ الْأَوْصَافِ فَإِنَّ اشْتِرَاكَ شَخْصَيْنِ فِيهَا مُمْكِنٌ، فَإِذَا حَضَرَ شَخْصٌ عِنْدَ حَاكِمٍ وَقَالَ لِي عَلَى فُلَانٍ كَذَا دِرْهَمًا مَثَلًا أَشْخَصَ إلَيْهِ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَعَلُوا كَذَلِكَ، فَيَجِبُ عَلَى الْمَطْلُوبِ حُضُورُهُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ، عَلَى هَذَا الْقُضَاةُ مِنْ أَوَّلِهِمْ إلَى آخِرِهِمْ: أَيْ أَجْمَعُوا.
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} إلَى قَوْلِهِ {بَلْ أُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} سَمَّاهُمْ ظَالِمِينَ لِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ الطَّلَبِ، فَإِذَا حَضَرَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْجَوَابُ بِالْإِقْرَارِ أَوْ الْإِنْكَارِ لِيُفِيدَ حُضُورَهُ، وَلَزِمَ عَلَيْهِ إحْضَارُ الْمُدَّعَى بِهِ لِمَا قُلْنَا مِنْ الْإِشَارَةِ إلَيْهَا، وَلَزِمَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ إذَا أَنْكَرَهُ وَعَجَزَ الْمُدَّعِي عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، وَسَنَذْكُرُهُ: أَيْ وُجُوبَ الْيَمِينِ عَلَيْهِ فِي آخِرِ هَذَا الْبَابِ. قَالَ (وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَاضِرَةً ذَكَرَ قِيمَتَهَا لِيَصِيرَ الْمُدَّعَى مَعْلُومًا) لِأَنَّ الْعَيْنَ لَا تُعْرَفُ بِالْوَصْفِ، وَالْقِيمَةُ تُعْرَفُ بِهِ وَقَدْ تَعَذَّرَ مُشَاهَدَةُ الْعَيْنِ.
وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: يُشْتَرَطُ مَعَ بَيَانِ الْقِيمَةِ ذِكْرُ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِذَا لَمْ تَكُنْ حَاضِرَةً لَزِمَهُ ذِكْرُ قِيمَتِهَا) يَعْنِي إذَا وَقَعَ الدَّعْوَى فِي عَيْنٍ غَائِبَةٍ لَا يَدْرِي مَكَانَهَا لَزِمَ الْمُدَّعِي ذِكْرُ قِيمَتِهَا (لِيَصِيرَ الْمُدَّعَى بِهِ مَعْلُومًا) وَذِكْرُ الْوَصْفِ لَيْسَ بِكَافٍ (لِأَنَّ الْعَيْنَ لَا تُعْرَفُ بِالْوَصْفِ) وَإِنْ بُولِغَ فِيهِ لِإِمْكَانِ الْمُشَارَكَةِ فِيهِ كَمَا مَرَّ، فَذِكْرُهُ فِي تَعْرِيفِهَا غَيْرُ مُفِيدٍ (وَالْقِيمَةُ) شَيْءٌ (تُعْرَفُ بِهِ) الْعَيْنُ فَذِكْرُهَا يَكُونُ مُفِيدًا، وَقَوْلُهُ (وَقَدْ تَعَذَّرَ مُشَاهَدَةُ الْعَيْنِ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مِنْ قَوْلِهِ لِأَنَّ الْعَيْنَ لَا تُعْرَفُ بِالْوَصْفِ: يَعْنِي وَالْحَالُ أَنَّ الْمُشَاهَدَةَ تَعَذَّرَتْ وَإِغْلَاقُ تَرْكِيبِهِ لَا يَخْفَى (وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: يُشْتَرَطُ مَعَ بَيَانِ الْقِيمَةِ ذِكْرُ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ) بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ بِقِيمَةِ الْمُسْتَهْلَكِ بِنَاءً عَلَى الْقَضَاءِ بِمِلْكِ الْمُسْتَهْلِكِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّ حَقَّ الْمَالِكِ قَائِمٌ فِي الْعَيْنِ الْمُسْتَهْلَكَةِ عِنْدَهُ، فَإِنَّهُ صَحَّحَ الصُّلْحَ عَنْ الْمَغْصُوبِ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ قِيمَتِهِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَيَّنَ الْمُسْتَهْلِكُ مِلْكًا لَهُ لَمَا جَازَ ذَلِكَ لِكَوْنِ الْوَاجِبِ حِينَئِذٍ فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَهْلِكِ قِيمَةَ الْمَغْصُوبِ وَهِيَ دَيْنٌ فِي الذِّمَّةِ، وَالصُّلْحُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ لَا يَجُوزُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لابد مِنْ بَيَانِ الْمُسْتَهْلَكِ فِي الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ لِيَعْلَمَ الْقَاضِي بِمَاذَا يَقْضِي، فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ.
وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ أَبَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِي دَعْوَى الدَّابَّةِ الْمُسْتَهْلَكَةِ الْقِيمَةُ، فَلَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ. قَالَ (وَإِنْ ادَّعَى عَقَارًا حَدَّدَهُ وَذَكَرَ أَنَّهُ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَأَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِهِ) لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ التَّعْرِيفُ بِالْإِشَارَةِ لِتَعَذُّرِ النَّقْلِ فَيُصَارُ إلَى التَّجْدِيدِ فَإِنَّ الْعَقَارَ يُعْرَفُ بِهِ، وَيَذْكُرُ الْحُدُودَ الْأَرْبَعَةَ، وَيَذْكُرُ أَسْمَاءَ أَصْحَابِ الْحُدُودِ وَأَنْسَابَهُمْ، وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْجَدِّ لِأَنَّ تَمَامَ التَّعْرِيفِ بِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا عُرِفَ هُوَ الصَّحِيحُ، وَلَوْ كَانَ الرَّجُلُ مَشْهُورًا يَكْتَفِي بِذِكْرِهِ، فَإِنْ ذَكَرَ ثَلَاثَةً مِنْ الْحُدُودِ يُكْتَفَى بِهَا عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ لِوُجُودِ الْأَكْثَرِ، بِخِلَافِ مَا إذَا غَلِطَ فِي الرَّابِعَةِ لِأَنَّهُ يُخْتَلَفُ بِهِ الْمُدَّعَى وَلَا كَذَلِكَ بِتَرْكِهَا، وَكَمَا يُشْتَرَطُ التَّحْدِيدُ فِي الدَّعْوَى يُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَةِ.
وَقَوْلُهُ (فِي الْكِتَابِ) وَذَكَرَ أَنَّهُ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لابد مِنْهُ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَنْتَصِبُ خَصْمًا إذَا كَانَ فِي يَدِهِ، وَفِي الْعَقَارِ لَا يُكْتَفَى بِذِكْرِ الْمُدَّعِي وَتَصْدِيقِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ فِي يَدِهِ بَلْ لَا تَثْبُتُ الْيَدُ فِيهِ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ، أَوْ عِلْمِ الْقَاضِي هُوَ الصَّحِيحُ نَفْيًا لِتُهْمَةِ الْمُوَاضَعَةِ إذْ الْعَقَارُ عَسَاهُ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا، بِخِلَافِ الْمَنْقُولِ لِأَنَّ الْيَدَ فِيهِ مُشَاهَدَةٌ.
وَقَوْلُهُ (وَأَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِهِ) لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ حَقُّهُ فَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِهِ، وَلِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَرْهُونًا فِي يَدِهِ أَوْ مَحْبُوسًا بِالثَّمَنِ فِي يَدِهِ، وَبِالْمُطَالَبَةِ يَزُولُ هَذَا الِاحْتِمَالُ، وَعَنْ هَذَا قَالُوا فِي الْمَنْقُولِ يَجِبُ أَنْ يَقُولَ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِنْ ادَّعَى عَقَارًا حَدَّدَهُ إلَخْ) إذَا كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ عَقَارًا فَلَا بُدَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: تَحْدِيدُهُ، وَذِكْرُ الْمُدَّعِي أَنَّهُ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِهِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِلْإِعْلَامِ بِأَقْصَى مَا يُمْكِنُ فِيهِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِذِكْرِ الْبَلْدَةِ، ثُمَّ الْمَوْضِعُ الَّذِي هُوَ فِيهِ ثُمَّ بِذِكْرِ حُدُودِهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ التَّعْرِيفُ بِالْإِشَارَةِ لِتَعَذُّرِ النَّقْلِ صِيرَ إلَى ذَلِكَ لِلتَّعْرِيفِ، وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ أَسْمَاءِ أَصْحَابِ الْحُدُودِ وَأَنْسَابِهِمْ، إلَّا إذَا كَانَ مَعْرُوفًا مِثْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى فَإِنَّهُ يُسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِمَا، وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْحَدِّ لِأَنَّ تَمَامَ التَّعْرِيفِ بِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا عَرَفَ هُوَ الصَّحِيحُ، فَإِنَّ ذِكْرَ ثَلَاثَةٍ مِنْ الْحُدُودِ يُكْتَفَى بِهَا عِنْدَنَا، خِلَافًا لِزُفَرَ لِوُجُودِ الْأَكْثَرِ، وَمِنْ هَذَا يُعْلَمُ أَنَّ ذِكْرَ الِاثْنَيْنِ لَا يَكْفِي، بِخِلَافِ مَا إذَا غَلَطَ فِي الْحَدِّ الرَّابِعِ وَأَنَّثَ فِي الْكِتَابِ بِاعْتِبَارِ الْجِهَةِ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِهِ: أَيْ بِالْغَلَطِ فِي الْحَدِّ الْمُدَّعَى، وَلَا كَذَلِكَ بِتَرْكِهَا، كَمَا لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ بِالْبَيْعِ وَقَبْضِ الثَّمَنِ وَتَرَكَا ذِكْرَ الثَّمَنِ جَازَ، وَلَوْ غَلِطَا فِي الثَّمَنِ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّهُ صَارَ عَقْدًا آخَرَ بِالْغَلَطِ، وَبِهَذَا الْفَرْقِ بَطَلَ قِيَاسُ زُفَرُ التَّرْكَ عَلَى الْغَلَطِ، وَكَمَا يُشْتَرَطُ التَّحْدِيدُ فِي الدَّعْوَى يُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَةِ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَلَا بُدَّ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَنْتَصِبُ خَصْمًا إذَا كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ فِي يَدِهِ، وَفِي الْعَقَارِ لَا يُكْتَفَى بِذِكْرِ الْمُدَّعِي وَتَصْدِيقِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ فِي يَدِهِ، بَلْ لَا تَثْبُتُ الْيَدُ فِيهِ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ بِأَنْ يَشْهَدُوا أَنَّهُمْ عَايَنُوا أَنَّهُ فِي يَدِهِ، حَتَّى لَوْ قَالُوا سَمِعْنَا ذَلِكَ لَمْ تُقْبَلْ، وَكَذَا فِي غَيْرِ هَذِهِ الصُّورَةِ لابد فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْيَدِ مِنْ ذَلِكَ أَوْ يَعْلَمُ الْقَاضِي أَنَّهُ فِي يَدِهِ نَفْيًا لِتُهْمَةِ الْمُوَاضَعَةِ لِأَنَّ الْعَقَارَ قَدْ يَكُونُ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا وَهُمَا تَوَاضَعَا عَلَى أَنْ يُصَدِّقَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْمُدَّعِيَ بِأَنَّ الْعَقَارَ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِيَحْكُمَ الْقَاضِي بِالْيَدِ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَتَّى يَتَصَرَّفَ فِيهِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَكَانَ الْقَضَاءُ فِيهِ قَضَاءً بِالتَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْغَيْرِ وَذَلِكَ يُفْضِي إلَى نَقْضِ الْقَضَاءِ عِنْدَ ظُهُورِهِ فِي يَدِ ثَالِثٍ، بِخِلَافِ الْمَنْقُولِ فَإِنَّ الْيَدَ فِيهِ مُشَاهَدَةٌ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ حَقُّهُ فَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِ حَقِّهِ، وَفِي عِبَارَتِهِ تَسَامُحٌ لِأَنَّهُ يَئُولُ إلَى تَقْدِيرٍ فَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِ الْمُطَالَبَةِ فَتَأَمَّلْ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ فَكَانَ مَعْنَاهُ الْمُطَالَبُ حَقَّهُ فَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِهِ وَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَرْهُونًا فِي يَدِهِ أَوْ مَحْبُوسًا بِالثَّمَنِ فِي يَدِهِ، وَبِالْمُطَالَبَةِ تَزُولُ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتُ وَعَنْ هَذَا: أَيْ بِسَبَبِ هَذَا الِاحْتِمَالِ قَالَ الْمَشَايِخُ فِي الْمَنْقُولِ: يَجِبُ أَنْ يَقُولَ وَهُوَ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، لِأَنَّ الْعَيْنَ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ بِحَقٍّ، وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ حَقًّا فِي الذِّمَّةِ ذَكَرَ الْمُدَّعِي أَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِهِ لِمَا قُلْنَا: يَعْنِي قَوْلَهُ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ حَقُّهُ فَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ صَاحِبَ الذِّمَّةِ قَدْ حَضَرَ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْمُطَالَبَةُ، لَكِنْ لابد مِنْ تَعْرِيفِهِ بِالْوَصْفِ بِأَنْ قَالَ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً، فَإِنْ كَانَ مَضْرُوبًا يَقُولُ كَذَا كَذَا دِينَارًا أَوْ دِرْهَمًا جَيِّدٌ أَوْ رَدِيءٌ أَوْ وَسَطٌ إذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ نُقُودٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَأَمَّا إذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ نَقْدٌ وَاحِدٌ فَلَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ.
وَبِالْجُمْلَةِ: لابد فِي كُلِّ جِنْسٍ مِنْ الْإِعْلَامِ بِأَقْصَى مَا يُمْكِنُ بِهِ التَّعْرِيفُ. قَالَ (وَإِنْ كَانَ حَقًّا فِي الذِّمَّةِ ذُكِرَ أَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِهِ) لِمَا قُلْنَا، وَهَذَا لِأَنَّ صَاحِبَ الذِّمَّةِ قَدْ حَضَرَ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْمُطَالَبَةُ لَكِنْ لابد مِنْ تَعْرِيفِهِ بِالْوَصْفِ لِأَنَّهُ يُعْرَفُ بِهِ قَالَ (وَإِذَا صَحَّتْ الدَّعْوَى سَأَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْهَا) لِيَنْكَشِفَ لَهُ وَجْهُ الْحُكْمِ (فَإِنْ اعْتَرَفَ قُضِيَ عَلَيْهِ بِهَا) لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُوجِبٌ بِنَفْسِهِ فَيَأْمُرُهُ بِالْخُرُوجِ عَنْهُ (وَإِنْ أَنْكَرَ سَأَلَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «أَلَك بَيِّنَةٌ؟ فَقَالَ لَا، فَقَالَ: لَك يَمِينُهُ» سَأَلَ وَرَتَّبَ الْيَمِينَ عَلَى فَقْدِ الْبَيِّنَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ السُّؤَالِ لِيُمْكِنَهُ الِاسْتِحْلَافُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَإِذَا صَحَّتْ الدَّعْوَى إلَخْ) إذَا صَحَّتْ الدَّعْوَى بِشُرُوطِهَا سَأَلَ الْقَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْهَا لِيَنْكَشِفَ لَهُ وَجْهُ الْحُكْمِ، فَإِنَّهُ عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ أَمْرًا بِالْخُرُوجِ عَمَّا لَزِمَهُ بِالْحُجَّةِ، أَوْ يَصِيرُ مَا هُوَ بِعَرَبِيَّةٍ أَنْ يَصِيرَ حُجَّةً حُجَّةً، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَعْتَرِفَ بِمَا ادَّعَاهُ أَوْ يُنْكِرَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَالْحُكْمُ فِيهِ أَنْ يَأْمُرَهُ بِأَنْ يَخْرُجَ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ بِنَفْسِهِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَضَاءِ الْقَاضِي لِكَمَالِ وِلَايَةِ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ، فَكَانَ الْحُكْمُ مِنْ الْقَاضِي أَمْرًا بِالْخُرُوجِ عَلَى مُوجِبِ مَا أَقَرَّ بِهِ، وَلِهَذَا قَالُوا: إطْلَاقُ الْحُكْمِ تَوَسُّعٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَالْحُكْمُ فِيهِ أَنْ يَجْعَلَ الْقَاضِي الشَّهَادَةَ الْمُحْتَمِلَةَ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ الَّتِي هِيَ بِعَرْضِيَّةٍ أَنْ تَصِيرَ حُجَّةً إذَا قَضَى الْقَاضِي بِهَا حُجَّةً فِي حَقِّ الْعَمَلِ مُسْقِطًا احْتِمَالَ الْكَذِبِ فِيهَا، فَإِذًا لابد مِنْ السُّؤَالِ لِيَنْكَشِفَ لَهُ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ؛ فَإِذَا سَأَلَ، فَإِنْ اعْتَرَفَ بِهِ أَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ عَنْهُ، وَإِنْ أَنْكَرَ سَأَلَ الْمُدَّعِيَ الْبَيِّنَةَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَك بَيِّنَةٌ؟ فَقَالَ لَا، فَقَالَ: لَك يَمِينُهُ» سَأَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَتَّبَ الْيَمِينَ عَلَى فَقْدِ الْبَيِّنَةِ،.
قَالَ (فَإِنْ أَحْضَرَهَا قُضِيَ بِهَا) لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ عَنْهَا (وَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ وَطَلَبَ يَمِينَ خَصْمِهِ) اسْتَحْلَفَهُ (عَلَيْهَا) لِمَا رَوَيْنَا، وَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِهِ لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقُّهُ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ كَيْفَ أُضِيفَ إلَيْهِ بِحَرْفِ اللَّامِ فَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِهِ.
الشَّرْحُ:
فَإِنْ أَحْضَرَهَا قَضَى بِهَا لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ عَنْ الدَّعْوَى لِتَرَجُّحِ جَانِبِ الصِّدْقِ عَلَى الْكَذِبِ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا وَطَلَبَ يَمِينَ خَصْمِهِ اسْتَحْلَفَهُ عَلَيْهَا لِمَا رَوَيْنَا، يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَك يَمِينُهُ» وَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِهِ الِاسْتِحْلَافَ لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقُّهُ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ كَيْفَ أُضِيفَ إلَيْهِ بِحَرْفِ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ «لَك يَمِينُهُ».
قِيلَ إنَّمَا جَعَلَ يَمِينَ الْمُنْكِرِ حَقَّ الْمُدَّعِي لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ خَصْمَهُ أَتْوَى حَقَّهُ بِإِنْكَارِهِ، فَالشَّرْعُ جَعَلَ لَهُ حَقَّ اسْتِحْلَافِهِ، حَتَّى إذَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَ فَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ مُهْلِكَةٌ لِخَصْمِهِ فَيَكُونُ إتْوَاءً بِمُقَابَلَةِ إتْوَاءٍ وَهُوَ مَشْرُوعٌ كَالْقِصَاصِ، وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ بِخِلَافِ مَا زَعَمَ فَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَنَالُ الثَّوَابَ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى صَادِقًا، ثُمَّ إنَّمَا رَتَّبَ الْيَمِينَ عَلَى الْبَيِّنَةِ لَا عَلَى الْعَكْسِ لِأَنَّ نَفْسَ الدَّعْوَى لَيْسَتْ بِمُوجِبَةٍ اسْتِحْقَاقَ الْمُدَّعِي لِمَا ادَّعَاهُ، لِأَنَّ فِيهِ إسَاءَةَ الظَّنِّ بِالْآخَرِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، فَوَجَبَ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُدَّعِي لِإِثْبَاتِ اسْتِحْقَاقِهِ بِهَا فَيُطَالِبُهُ الْقَاضِي بِذَلِكَ لَا عَلَى وَجْهِ الْإِلْزَامِ عَلَيْهِ بَلْ عَلَى وَجْهِ التَّذْكِيرِ لَهُ، فَلَوْ قَدَّمْنَا الْيَمِينَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ نَظَرٌ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ، إذْ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ مَشْرُوعَةٌ بَعْدَ الْيَمِينِ، فَمِنْ الْجَائِزِ إقَامَتُهَا بَعْدَهَا، وَفِي ذَلِكَ افْتِضَاحُهُ بِالْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ.

.(بَابُ الْيَمِينِ):

(وَإِذَا قَالَ الْمُدَّعِي لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ وَطَلَبَ الْيَمِينَ لَمْ يُسْتَحْلَفْ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، مَعْنَاهُ حَاضِرَةٌ فِي الْمِصْرِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُسْتَحْلَفُ لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقُّهُ بِالْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ، فَإِذَا طَالَبَهُ بِهِ يُجِيبُهُ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ ثُبُوتَ الْحَقِّ فِي الْعَيْنِ مُرَتَّبٌ عَلَى الْعَجْزِ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لِمَا رَوَيْنَا فَلَا يَكُونُ حَقُّهُ دُونَهُ، كَمَا إذَا كَانَتْ الْبَيِّنَةُ حَاضِرَةً فِي الْمَجْلِسِ.
وَمُحَمَّدٌ مَعَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِيمَا ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ، وَمَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ.
قَالَ (وَلَا تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» قَسَمَ وَالْقِسْمَةُ تُنَافِي الشَّرِكَةَ، وَجَعَلَ جِنْسَ الْأَيْمَانِ عَلَى الْمُنْكِرِينَ وَلَيْسَ وَرَاءَ الْجِنْسِ شَيْءٌ، وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّرْحُ:
بَابُ الْيَمِينِ:
لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الْخَصْمَ إذَا أَنْكَرَ الدَّعْوَى وَعَجَزَ الْمُدَّعِي عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَطَلَبَ الْيَمِينَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْلِفَ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ الْأَحْكَامَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْيَمِينِ.
قَالَ (وَإِذَا قَالَ الْمُدَّعِي لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ إلَخْ) إذَا قَالَ الْمُدَّعِي لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ فِي الْمِصْرِ وَطَلَبَ يَمِينَ خَصْمِهِ لَمْ يُسْتَحْلَفْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَسْتَحْلِفُ لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقُّهُ بِالْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَك يَمِينُهُ» فَإِذَا طَالَبَهُ بِهِ يُجِيبُهُ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ ثُبُوتَ الْحَقِّ فِي الْيَمِينِ مُرَتَّبٌ عَلَى الْعَجْزِ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ «قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْمُدَّعِي أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ فَقَالَ لَا، فَقَالَ: لَك يَمِينُهُ» فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَكَرَ الْيَمِينَ بَعْدَمَا عَجَزَ الْمُدَّعِي عَنْ الْبَيِّنَةِ فَلَا يَكُونُ حَقُّهُ دُونَهُ كَمَا إذَا كَانَتْ الْبَيِّنَةُ حَاضِرَةً فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ، وَمُحَمَّدٌ مَعَ أَبِي يُوسُفَ فِيمَا ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ، وَمَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ، وَلَا تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَمَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فَجَعَلَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ، وَالْقِسْمَةُ تُنَافِي الشَّرِكَةَ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي عَدَمَ التَّمْيِيزِ وَالْقِسْمَةُ تَقْتَضِيهِ (قَوْلُهُ وَجَعَلَ جِنْسَ الْأَيْمَانِ عَلَى الْمُنْكِرِينَ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «وَالْيَمِينُ عَلَى مَا أَنْكَرَ» وَلَيْسَ وَرَاءَ الْجِنْسِ شَيْءٌ) اسْتِدْلَالٌ آخَرُ بِالْحَدِيثِ، وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ وَسَيَأْتِي. قَالَ (وَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ صَاحِبِ الْيَدِ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ، وَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى).
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُقْضَى بِبَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ لِاعْتِضَادِهَا بِالْيَدِ فَيَتَقَوَّى الظُّهُورُ وَصَارَ كَالنِّتَاجِ وَالنِّكَاحِ وَدَعْوَى الْمِلْكِ مَعَ الْإِعْتَاقِ وَالِاسْتِيلَادِ وَالتَّدْبِيرِ.
وَلَنَا أَنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ أَكْثَرُ إثْبَاتًا أَوْ إظْهَارًا لِأَنَّ قَدْرَ مَا أَثْبَتَهُ الْيَدُ لَا يُثْبِتُهُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ، إذْ الْيَدُ دَلِيلُ مُطْلَقِ الْمِلْكِ، بِخِلَافِ النِّتَاجِ لِأَنَّ الْيَدَ لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَكَذَا عَلَى الْإِعْتَاقِ وَأُخْتَيْهِ وَعَلَى الْوَلَاءِ الثَّابِتِ بِهَا.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ صَاحِبِ الْيَدِ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ إلَخْ) وَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لِأَنَّهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ لِمَا رَوَيْنَا، وَقَيَّدَ بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ احْتِرَازًا عَنْ الْمُقَيَّدِ بِدَعْوَى النِّتَاجِ، وَعَنْ الْمُقَيَّدِ بِمَا إذَا ادَّعَيَا تَلَقِّيَ الْمِلْكِ مِنْ وَاحِدٍ وَأَحَدُهُمَا قَابِضٌ، وَبِمَا إذَا ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ اثْنَيْنِ وَتَارِيخُ أَحَدِهِمَا أَسْبَقُ فَإِنَّ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ تُقْبَلُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ بِالْإِجْمَاعِ.
فَإِنْ قِيلَ: أَمَا انْتَقَضَ مُقْتَضَى الْقِسْمَةِ حَيْثُ قُبِلَتْ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ وَهُوَ مُدَّعًى عَلَيْهِ.
قُلْت: نَعَمْ لِأَنَّ قَبُولَهَا مِنْ حَيْثُ مَا ادَّعَى مِنْ الزِّيَادَةِ مِنْ النِّتَاجِ وَالْقَبْضِ وَسَبْقِ التَّارِيخِ فَهُوَ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ مُدَّعٍ وَالْبَيِّنَةُ لِلْمُدَّعِي.
فَإِنْ قُلْت: فَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْخَارِجِ الْيَمِينُ لِكَوْنِهِ إذْ ذَاكَ مُدَّعًى عَلَيْهِ قُلْت لَا، لِأَنَّ الْيَمِينَ إنَّمَا تَجِبُ عِنْدَ عَجْزِ الْمُدَّعِي عَنْ الْبَيِّنَةِ وَهَاهُنَا لَمْ يَعْجِزْ، وَإِذَا تَعَارَضَتْ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ وَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ فِي الْمِلْكِ.
الْمُطْلَقِ فَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى لِعَدَمِ زِيَادَةٍ يَصِيرُ بِهَا ذُو الْيَدِ مُدَّعِيًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُقْضَى بِبَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ لِأَنَّهَا اعْتَضَدَتْ بِالْيَدِ وَالْمُعْتَمَدُ أَقْوَى، فَصَارَ كَمَا إذَا أَقَامَاهَا عَلَى نِتَاجِ دَابَّةٍ وَهِيَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا، أَوْ أَقَامَاهَا عَلَى نِكَاحٍ وَلِأَحَدِهِمَا يَدٌ، فَإِنَّهُ يُقْضَى لِذِي الْيَدِ، وَصَارَ كَدَعْوَى الْمِلْكِ مَعَ الْإِعْتَاقِ بِأَنْ يَكُونَ عَبْدٌ فِي يَدِ رَجُلٍ أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ أَعْتَقَهُ، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ وَهُوَ يَمْلِكُهُ، فَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ أَوْلَى مِنْ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ عَلَى الْعِتْقِ، وَكَذَلِكَ فِي دَعْوَى الِاسْتِيلَادِ وَالتَّدْبِيرِ.
وَلَنَا أَنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ أَكْثَرُ إثْبَاتًا: يَعْنِي فِي عِلْمِ الْقَاضِي، أَوْ إظْهَارًا: يَعْنِي فِي الْوَاقِعِ، فَإِنَّ بَيِّنَتَهُ تُظْهِرُ مَا كَانَ ثَابِتًا فِي الْوَاقِعِ لِأَنَّ قَدْرَ مَا أَثْبَتَتْهُ الْيَدُ لَا تُثْبِتُهُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ، لِأَنَّ الْيَدَ دَلِيلُ مُطْلَقِ الْمِلْكِ فَبَيِّنَتُهُ لَا تُثْبِتُهُ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ، بِخِلَافِ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ فَإِنَّهَا تُثْبِتُ الْمِلْكَ أَوْ تُظْهِرُهُ، وَمَا هُوَ أَكْثَرُ إثْبَاتًا فِي الْبَيِّنَاتِ فَهُوَ أَوْلَى لِتَوَفُّرِ مَا شُرِعَتْ الْبَيِّنَاتُ لِأَجْلِهِ فِيهِ.
فَإِنْ قِيلَ: بَيِّنَةُ الْخَارِجِ تُزِيلُ مَا أَثْبَتَهُ بِالْيَدِ مِنْ الْمِلْكِ فَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ تُفِيدُ الْمِلْكَ وَلَا يَلْزَمُ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ.
أُجِيبَ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ مُوجِبَةً بِنَفْسِهَا حَتَّى تُزِيلَ مَا ثَبَتَ بِالْيَدِ، وَإِنَّمَا تَصِيرُ مُوجِبَةً عِنْدَ اتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهَا كَمَا تَقَدَّمَ، فَقَبْلَهُ يَكُونُ الْمِلْكُ ثَابِتًا لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِثْبَاتُ الثَّابِتِ لَا يُتَصَوَّرُ فَلَا تَكُونُ بَيِّنَتُهُ مُثْبِتَةً بَلْ مُؤَكِّدَةً لِمِلْكٍ ثَابِتٍ، وَالتَّأْسِيسُ أَوْلَى مِنْ التَّأْكِيدِ، بِخِلَافِ النِّتَاجِ وَالنِّكَاحِ، لِأَنَّ الْيَدَ لَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَكَانَتْ الْبَيِّنَةُ مُثْبِتَةً لَا مُؤَكِّدَةً، فَكَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ لِلْإِثْبَاتِ فَتُرَجَّحُ إحْدَاهُمَا بِالْيَدِ.
فَإِنْ قِيلَ: كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ تَكُونَ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى لِكَوْنِهَا أَكْثَرَ إثْبَاتًا لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الْيَدَ وَالنِّتَاجَ، وَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ تُثْبِتُ النِّتَاجَ لَا غَيْرُ.
أُجِيبَ بِأَنَّ بَيِّنَةَ النِّتَاجِ لَا تُوجِبُ إلَّا أَوَّلِيَّةَ الْمِلْكِ وَهُمَا تَسَاوَيَا فِي ذَلِكَ وَيَتَرَجَّحُ ذُو الْيَدِ بِالْيَدِ فَيُقْضَى لَهُ (قَوْلُهُ وَكَذَا عَلَى الْإِعْتَاقِ) أَيْ الْيَدُ لَا تَدُلُّ عَلَى الْإِعْتَاقِ وَالِاسْتِيلَادِ وَالتَّدْبِيرِ، فَتَعَارَضَتْ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ وَذِي الْيَدِ ثُمَّ تَرَجَّحَتْ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ (قَوْلُهُ وَعَلَى الْوَلَاءِ الثَّابِتِ بِهَا) أَيْ بِالْإِعْتَاقِ وَالِاسْتِيلَادِ وَالتَّدْبِيرِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ فِي الْإِعْتَاقِ وَأُخْتَيْهِ تَدُلَّانِ عَلَى الْوَلَاءِ، إذْ الْوَلَاءُ حَاصِلٌ لِلْعَبْدِ بِتَصَادُقِهِمَا وَهَا قَدْ اسْتَوَيَا فِي ذَلِكَ وَتَرَجَّحَ صَاحِبُ الْيَدِ بِحُكْمِ يَدِهِ.
قَالَ (وَإِذَا نَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ الْيَمِينِ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ وَأَلْزَمَهُ مَا ادَّعَى عَلَيْهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُقْضَى بِهِ بَلْ يَرُدُّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِي، فَإِذَا حَلَفَ يَقْضِي بِهِ لِأَنَّ النُّكُولَ يَحْتَمِلُ التَّوَرُّعَ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ وَالتَّرَفُّعَ عَنْ الصَّادِقَةِ وَاشْتِبَاهَ الْحَالِ فَلَا يَنْتَصِبُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ، وَيَمِينُ الْمُدَّعِي دَلِيلُ الظُّهُورِ فَيُصَارُ إلَيْهِ.
وَلَنَا أَنَّ النُّكُولَ دَلَّ عَلَى كَوْنِهِ بَاذِلًا أَوْ مُقِرًّا، إذْ لَوْلَا ذَلِكَ لَأَقْدَمَ عَلَى الْيَمِينِ إقَامَةً لِلْوَاجِبِ وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ فَتَرَجَّحَ هَذَا الْجَانِبُ، وَلَا وَجْهَ لِرَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي لِمَا قَدَّمْنَاهُ.
الشَّرْحُ:
(قَالَ: وَإِذَا نَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ الْيَمِينِ إلَخْ) وَإِذَا نَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ الْيَمِينِ قَضَى الْحَاكِمُ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ وَأَلْزَمَهُ مَا ادَّعَاهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُقْضَى عَلَيْهِ بَلْ تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي، فَإِنْ حَلَفَ قَضَى بِهِ، وَإِنْ نَكَلَ انْقَطَعَتْ الْمُنَازَعَةُ، لِأَنَّ نُكُولَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَحْتَمِلُ التَّوَرُّعَ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ وَالتَّرَفُّعَ عَنْ الصَّادِقَةِ وَيَحْتَمِلُ اشْتِبَاهَ الْحَالِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَنْتَصِبُ حُجَّةً، بِخِلَافِ يَمِينِ الْمُدَّعِي لِأَنَّهُ دَلِيلُ الظُّهُورِ فَيُصَارُ إلَيْهِ.
وَلَنَا أَنَّ النُّكُولَ دَلَّ عَلَى كَوْنِهِ بَاذِلًا إنْ كَانَ النُّكُولُ بَذْلًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، أَوْ مُقِرًّا إنْ كَانَ إقْرَارًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُمَا، إذْ لَوْلَا ذَلِكَ لَأَقْدَمَ عَلَى الْيَمِينِ إقَامَةً لِلْوَاجِبِ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» وَكَلِمَةُ عَلَى لِلْوُجُوبِ، وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ فَتَرَجَّحَ هَذَا الْجَانِبُ: أَيْ جَانِبُ كَوْنِهِ بَاذِلًا إنْ تَرَفَّعَ، أَوْ مُقِرًّا إنْ تَوَرَّعَ، لِأَنَّ التَّرَفُّعَ أَوْ التَّوَرُّعَ إنَّمَا يَحِلُّ إذَا لَمْ يُفْضِ إلَى الضَّرَرِ بِالْغَيْرِ.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْإِلْزَامَ بِالنُّكُولِ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ «وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ» فَالْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ يُخَالِفُهُ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» وَلَمْ يَذْكُرْ النُّكُولَ وَالْيَمِينَ فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الِابْتِدَاءِ لِكَوْنِ الظَّاهِرِ شَاهِدًا لَهُ، وَبِنُكُولِهِ صَارَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْمُدَّعِي فَتَعُودُ الْيَمِينُ إلَى جَانِبِ الْمُدَّعِي، وَلِهَذَا بَدَأْنَا فِي اللِّعَانِ بِالْأَيْمَانِ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ لِشَهَادَةِ الظَّاهِرِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُلَوِّثُ فِرَاشَهُ كَاذِبًا وَإِنْ كَانَ مُدَّعِيًا.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ لَيْسَ فِيهِمَا مَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْقَضَاءِ بِالنُّكُولِ، لِأَنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ، وَالْإِجْمَاعُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ، فَإِنَّهُ رُوِيَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ حَلَّفَ الْمُدَّعِيَ بَعْدَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ خِلَافُ ذَلِكَ.
رُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّ الْمُنْكِرَ طَلَبَ مِنْهُ رَدَّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي، فَقَالَ: لَيْسَ لَك إلَيْهِ سَبِيلٌ، وَقُضِيَ بِالنُّكُولِ بَيْنَ يَدَيْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: قالون، وَهُوَ بِلُغَةِ أَهْلِ الرُّومِ أَصَبْت.
وَإِذَا ثَبَتَ الْإِجْمَاعُ بَطَلَ الْقِيَاسُ، عَلَى أَنَّ اللِّعَانَ عِنْدَنَا شَهَادَاتٌ مُؤَكَّدَاتٌ بِالْأَيْمَانِ مَقْرُونَةٌ بِاللَّعْنِ قَائِمَةٌ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ، فَكَانَ مَعْنَى الْيَمِينِ فِيهَا غَيْرَ مَقْصُودٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النُّكُولُ لِاشْتِبَاهِ الْحَالِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي الِاسْتِمْهَالَ مِنْ الْقَاضِي لِيَنْكَشِفَ الْحَالُ لَا رَدُّ الْيَمِينِ، فَإِنَّ رَدَّ الْيَمِينِ لَا وَجْهَ لَهُ لِمَا قَدَّمْنَاهُ فِي قَوْلِهِ وَلَا تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي قَالَ (وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ لَهُ إنِّي أَعْرِضُ عَلَيْك الْيَمِينَ ثَلَاثًا، فَإِنْ حَلَفْت وَإِلَّا قَضَيْت عَلَيْك بِمَا ادَّعَاهُ) وَهَذَا الْإِنْذَارُ لِإِعْلَامِهِ بِالْحُكْمِ إذْ هُوَ مَوْضِعُ الْخَفَاءِ.
الشَّرْحُ:
(قَالَ: وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ لَهُ إلَخْ) وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ إنِّي أَعْرِضُ عَلَيْك الْيَمِينَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَإِنْ حَلَفْت وَإِلَّا قَضَيْت عَلَيْك بِمَا ادَّعَاهُ، لِأَنَّ الْإِنْذَارَ لِإِعْلَامِهِ بِالْحُكْمِ، إذْ هُوَ مَوْضِعُ الْخَفَاءِ لِعَدَمِ دَلَالَةِ نَصٍّ عَلَى ذَلِكَ فَيَجُوزُ أَنْ يَلْتَبِسَ عَلَيْهِ مَا يَلْزَمُهُ بِالنُّكُولِ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِمْ لِكَوْنِهِ مُجْتَهِدًا فِيهِ، فَإِنَّ لِلشَّافِعِيِّ خِلَافًا فِيهِ لِمَا مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ..
قَالَ (فَإِذَا كَرَّرَ الْعَرْضَ عَلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ) وَهَذَا التَّكْرَارُ ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ رَحِمَهُ اللَّهُ لِزِيَادَةِ الِاحْتِيَاطِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي إبْلَاءِ الْعُذْرِ، فَأَمَّا الْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَوْ قُضِيَ بِالنُّكُولِ بَعْدَ الْعَرْضِ مَرَّةً جَازَ لِمَا قَدَّمْنَاهُ هُوَ الصَّحِيحُ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، ثُمَّ النُّكُولُ قَدْ يَكُونُ حَقِيقِيًّا كَقَوْلِهِ لَا أَحْلِفُ، وَقَدْ يَكُونُ حُكْمِيًّا بِأَنْ يَسْكُتَ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْأَوَّلِ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا آفَةَ بِهِ مِنْ طَرَشٍ أَوْ خَرَسٍ هُوَ الصَّحِيحُ.
الشَّرْحُ:
ثُمَّ الْعَرْضُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَوْلَى لَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الْقَضَاءِ بِالنُّكُولِ، بَلْ الْمَذْهَبُ فِيهِ أَنَّهُ لَوْ قَضَى بِهِ بَعْدَ مَرَّةٍ جَازَ لِمَا قَدَّمْنَا أَنَّ النُّكُولَ بَذْلٌ أَوْ إقْرَارٌ وَلَيْسَ التَّكْرَارُ بِشَرْطٍ فِي شَيْءٍ مِنْهُمَا.
وَالْخَصَّافُ ذَكَرَهُ لِزِيَادَةِ الِاحْتِيَاطِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي إبْلَاءِ الْأَعْذَارِ فَصَارَ كَإِمْهَالِ الْمُرْتَدِّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنَّهُ أَوْلَى، وَإِنْ قُتِلَ بِغَيْرِ إمْهَالٍ جَازَ لِأَنَّ الْكُفْرَ مُبِيحٌ وَقَوْلُهُ (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَمَّا قِيلَ لَوْ قَضَى بِالنُّكُولِ مَرَّةً وَاحِدَةً لَا يَنْفُذُ لِأَنَّهُ أَضْعَفُ مِنْ الْبَذْلِ وَالْإِقْرَارِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ التَّكْرَارُ، وَصُورَةُ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ الْقَاضِي احْلِفْ بِاَللَّهِ مَا لِهَذَا عَلَيْك مَا يَدَّعِيهِ وَهُوَ كَذَا وَكَذَا وَلَا شَيْءَ مِنْهُ، فَإِنْ نَكَلَ يَقُولُ لَهُ ذَلِكَ ثَانِيًا: فَإِنْ نَكَلَ يَقُولُ لَهُ بَقِيَتْ الثَّالِثَةُ ثُمَّ أَقْضِي عَلَيْك إنْ لَمْ تَحْلِفْ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ ثَالِثًا فَإِنْ نَكَلَ قَضَى عَلَيْهِ بِدَعْوَى الْمُدَّعِي قَالَ (وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى نِكَاحًا لَمْ يُسْتَحْلَفْ الْمُنْكِرُ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَلَا يُسْتَحْلَفُ عِنْدَهُ فِي النِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ وَالْفَيْءِ فِي الْإِيلَاءِ وَالرِّقِّ وَالِاسْتِيلَادِ وَالنَّسَبِ وَالْوَلَاءِ وَالْحُدُودِ وَاللِّعَانِ.
وَقَالَا: يُسْتَحْلَفُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إلَّا فِي الْحُدُودِ وَاللِّعَانِ.
وَصُورَةُ الِاسْتِيلَادِ أَنْ تَقُولَ الْجَارِيَةُ أَنَا أُمُّ وَلَدٍ لِمَوْلَايَ وَهَذَا ابْنِي مِنْهُ وَأَنْكَرَ الْمَوْلَى، لِأَنَّهُ لَوْ ادَّعَى الْمَوْلَى ثَبَتَ الِاسْتِيلَادُ بِإِقْرَارِهِ وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى إنْكَارِهَا.
لَهُمَا أَنَّ النُّكُولَ إقْرَارٌ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ كَاذِبًا فِي الْإِنْكَارِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ، إذْ لَوْلَا ذَلِكَ لَأَقْدَمَ عَلَى الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ إقَامَةً لِلْوَاجِبِ فَكَانَ إقْرَارًا أَوْ بَدَلًا عَنْهُ، وَالْإِقْرَارُ يَجْرِي فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَكِنَّهُ إقْرَارٌ فِيهِ شُبْهَةٌ، وَالْحُدُودُ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَاللِّعَانُ فِي مَعْنَى الْحَدِّ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ بَذْلٌ لِأَنَّ مَعَهُ لَا تَبْقَى الْيَمِينُ وَاجِبَةً لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَإِنْزَالُهُ بَاذِلًا أَوْلَى كَيْ لَا يَصِيرَ كَاذِبًا فِي الْإِنْكَارِ، وَالْبَذْلُ لَا يَجْرِي فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ.
وَفَائِدَةُ الِاسْتِحْلَافِ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ فَلَا يُسْتَحْلَفُ، إلَّا أَنَّ هَذَا بَذْلٌ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ فَيَمْلِكُهُ الْمُكَاتَبُ وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ بِمَنْزِلَةِ الضِّيَافَةِ الْيَسِيرَةِ، وَصِحَّتُهُ فِي الدَّيْنِ بِنَاءً عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي وَهُوَ مَا يَقْبِضُهُ حَقًّا لِنَفْسِهِ، وَالْبَذْلُ مَعْنَاهُ هَاهُنَا تَرْكُ الْمَنْعِ وَأَمْرُ الْمَالِ هَيِّنٌ.
الشَّرْحُ:
(قَالَ: وَإِذَا كَانَ الدَّعْوَى نِكَاحًا إلَخْ) ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى امْرَأَةٍ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَأَنْكَرَتْ أَوْ بِالْعَكْسِ، أَوْ ادَّعَى بَعْدَ الطَّلَاقِ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَنَّهُ رَاجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ وَأَنْكَرَتْ أَوْ بِالْعَكْسِ، أَوْ ادَّعَى بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ أَنَّهُ فَاءَ إلَيْهَا فِي الْمُدَّةِ وَأَنْكَرَتْ أَوْ بِالْعَكْسِ، أَوْ ادَّعَى عَلَى مَجْهُولٍ أَنَّهُ عَبْدُهُ أَوْ ادَّعَى الْمَجْهُولُ ذَلِكَ أَوْ اخْتَصَمَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ أَوْ الْمُوَالَاةِ، أَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ وَلَدُهُ أَوْ وَالِدُهُ، أَوْ ادَّعَتْ عَلَى مَوْلَاهَا أَنَّهَا وَلَدَتْ مِنْهُ وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا مِنْ جَانِبِ الْأَمَةِ، لِأَنَّ الْمَوْلَى إذَا ادَّعَى ذَلِكَ ثَبَتَ الِاسْتِيلَادُ بِإِقْرَارِهِ وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى إنْكَارِهَا، أَوْ ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى زَوْجِهَا أَنَّهُ قَذَفَهَا بِمَا يُوجِبُ اللِّعَانَ وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ، أَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَأَنْكَرَهُ فَإِنَّهُ لَا يُسْتَحْلَفُ فِي هَذِهِ كُلِّهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَا: يُسْتَحْلَفُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَإِذَا نَكَلَ يُقْضَى بِالنُّكُولِ إلَّا فِي الْحُدُودِ وَاللِّعَانِ.
لَهُمَا أَنَّ النُّكُولَ إقْرَارٌ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ كَاذِبًا فِي الْإِنْكَارِ السَّابِقِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ: يَعْنِي قَوْلَهُ إذْ لَوْلَا ذَلِكَ لَأَقْدَمَ عَلَى الْيَمِينِ إقَامَةً لِلْوَاجِبِ وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّ فِيهِ تَحْصِيلَ الثَّوَابِ بِإِجْرَاءِ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ عَلَى لِسَانِهِ مُعَظِّمًا لَهُ وَدَفْعَ تُهْمَةِ الْكَذِبِ عَنْ نَفْسِهِ وَإِبْقَاءَ مَالِهِ عَلَى مِلْكِهِ، فَلَوْلَا هُوَ كَاذِبٌ فِي يَمِينِهِ لَمَا تَرَكَ هَذِهِ الْفَوَائِدَ الثَّلَاثَ، وَالْإِقْرَارُ يَجْرِي فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَيَعْمَلُ بِالنُّكُولِ فِيهَا إلَّا أَنَّهُ إقْرَارٌ فِيهِ شُبْهَةٌ لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ سُكُوتٌ فَكَانَ حُجَّةً فِيمَا لَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَلَا يَجْرِي فِي الْحُدُودِ وَاللِّعَانِ فِي مَعْنَى الْحُدُودِ فَلَا يَجْرِي فِيهِ أَيْضًا، وَعَلَيْهِ نُقُوضٌ إجْمَالِيَّةٌ الْأَوَّلُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ: رَجُلٌ اشْتَرَى نِصْفَ عَبْدٍ ثُمَّ اشْتَرَى النِّصْفَ الْبَاقِيَ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَخَاصَمَهُ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ فَأَنْكَرَ الْبَائِعُ وَنَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فَرَدَّ عَلَيْهِ ثُمَّ خَاصَمَهُ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي فَأَنْكَرَ لَمْ يَلْزَمْهُ وَيَسْتَحْلِفُ، وَلَوْ كَانَ النُّكُولُ إقْرَارًا لَزِمَهُ النِّصْفُ الْآخَرُ بِنُكُولِهِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى كَمَا لَوْ أَقَرَّ فِي تِلْكَ الْمَرَّةِ.
الثَّانِي: الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ إذَا ادَّعَى عَلَيْهِ عَيْبًا فِي الْمَبِيعِ وَاسْتُحْلِفَ فَنَكَلَ لَزِمَ الْمُوَكِّلَ، وَلَوْ كَانَ إقْرَارًا لَزِمَ الْوَكِيلَ.
الثَّالِثُ: مَا ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ تَكَلَّفْت لَك بِمَا يُقِرُّ لَك بِهِ فُلَانٌ فَادَّعَى الْمَكْفُولُ لَهُ عَلَى فُلَانٍ مَالًا فَأَنْكَرَ وَنَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فَقَضَى عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ لَا يُقْضَى بِهِ عَلَى الْكَفِيلِ، وَلَوْ كَانَ النُّكُولُ إقْرَارًا لَقُضِيَ بِهِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ النُّكُولَ إمَّا إقْرَارٌ أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ فَوْجُهُ الْإِقْرَارِ مَا تَقَدَّمَ.
وَوَجْهُ كَوْنِهِ بَدَلًا أَنَّ الْمُدَّعِيَ يَسْتَحِقُّ بِدَعْوَاهُ جَوَابًا يَفْصِلُ الْخُصُومَةَ، وَذَلِكَ بِالْإِقْرَارِ أَوْ الْإِنْكَارِ فَإِنْ أَقَرَّ فَقَدْ انْقَطَعَتْ، وَإِنْ أَنْكَرَ لَمْ تَنْقَطِعْ إلَّا بِيَمِينٍ، فَإِذَا نَكَلَ كَانَ بَدَلًا عَنْ الْإِقْرَارِ بِقَطْعِ الْخُصُومَةِ، فَالنُّقُوضُ الْمَذْكُورَة إنْ وَرَدَتْ عَلَى اعْتِبَارِ كَوْنِهِ إقْرَارًا لَا تُرَدُّ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ بَدَلًا مِنْهُ، وَمِثْلُ هَذَا يُسَمَّى فِي عِلْمِ النَّظَرِ تَغْيِيرُ الْمُدَّعِي.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ النُّكُولَ بَذْلٌ وَهُوَ قَطْعُ الْخُصُومَةِ بِدَفْعِ مَا يَدَّعِيهِ الْخَصْمُ، لِأَنَّ الْيَمِينَ لَا تَبْقَى وَاجِبَةً مَعَ النُّكُولِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ إمَّا بَذْلٌ أَوْ إقْرَارٌ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ، لَكِنَّ إنْزَالَهُ بَاذِلًا أَوْلَى كَيْ لَا يَصِيرَ كَاذِبًا فِي الْإِنْكَارِ السَّابِقِ، وَالْبَذْلُ لَا يَجْرِي فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، فَإِنَّهُ إذَا قَالَ مَثَلًا أَنَا حُرٌّ وَهَذَا الرَّجُلُ يُؤْذِينِي فَدَفَعْت إلَيْهِ نَفْسِي أَنْ يَسْتَرِقَّنِي، أَوْ قَالَ أَنَا ابْنُ فُلَانٍ وَلَكِنْ أَبَحْت لِهَذَا أَنْ يَدَّعِيَ نَسَبِي، أَوْ قَالَتْ أَنَا لَسْت بِامْرَأَتِهِ لَكِنْ دَفَعْت إلَيْهِ نَفْسِي وَأَبَحْت لَهُ الْإِمْسَاكَ لَا يَصِحُّ.
وَعَلَيْهِ نُقُوضٌ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ بَذْلًا لَمَا ضَمِنَ شَيْئًا آخَرَ إذَا اسْتَحَقَّ مَا أَدَّى بِقَضَاءٍ كَمَا لَوْ صَالَحَ عَنْ إنْكَارٍ وَاسْتَحَقَّ بَدَلَ الصُّلْحِ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا، وَلَكِنَّ الْمُدَّعِيَ يَرْجِعُ إلَى الدَّعْوَى.
الثَّانِي: لَوْ كَانَ بَذْلًا كَانَ إيجَابًا فِي الذِّمَّةِ ابْتِدَاءً وَهُوَ لَا يَصِحُّ.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْحُكْمَ وَاجِبٌ عَلَى الْحَاكِمِ بِالنُّكُولِ وَالْبَذْلُ لَا يَجِبُ بِهِ الْحُكْمُ فَلَمْ يَكُنْ النُّكُولُ بَذْلًا.
الرَّابِعُ أَنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ يُقْضَى عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ، وَلَوْ كَانَ بَذْلًا لَمَا قُضِيَ لِأَنَّ بَذْلَهُ بَاطِلٌ.
الْخَامِسُ يُقْضَى بِالْقِصَاصِ فِي الْأَطْرَافِ بِالنُّكُولِ، وَلَوْ كَانَ بَذْلًا لَمَا قُضِيَ لِأَنَّ الْبَذْلَ لَا يُتَحَمَّلُ فِيهَا.
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ بَدَلَ الصُّلْحِ وَجَبَ بِالْعَقْدِ، فَإِذَا اُسْتُحِقَّ بَطَلَ الْعَقْدُ فَعَادَ الْحُكْمُ إلَى الْأَصْلِ وَهُوَ الدَّعْوَى، فَأَمَّا هَاهُنَا فَالْمُدَّعِي يَقُولُ أَنَا آخُذُ هَذَا بِإِزَاءِ مَا وَجَبَ لِي فِي ذِمَّتِهِ بِالْقَضَاءِ فَإِذَا اسْتَحَقَّ رَجَعْت بِمَا فِي الذِّمَّةِ، وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ عَدَمَ الصِّحَّةِ مَمْنُوعٌ بَلْ هُوَ صَحِيحٌ كَمَا فِي الْحَوَالَاتِ وَسَائِرِ الْمُدَايَنَاتِ.
وَعَنْ الثَّالِثِ بِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَجِبُ بِالْبَدَلِ الصَّرِيحِ، وَأَمَّا مَا كَانَ بَذْلًا بِحُكْمِ الشَّرْعِ كَالنُّكُولِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يُوجِبُهُ بَلْ هُوَ مُوجَبٌ قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ.
وَعَنْ الرَّابِعِ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ صِحَّةِ الْبَذْلِ مِنْ الْمَأْذُونِ بِمَا دَخَلَ تَحْتَ الْإِذْنِ كَإِهْدَاءِ الْمَأْكُولِ وَالْإِعَارَةِ وَالضِّيَافَةِ الْيَسِيرَةِ وَنَحْوِهَا.
وَعَنْ الْخَامِسِ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْبَذْلَ فِيهَا غَيْرُ عَامِلٍ، بَلْ هُوَ عَامِلٌ إذَا كَانَ مُفِيدًا، نَحْوُ أَنْ يَقُولَ اقْطَعْ يَدِي وَبِهَا آكِلَةٌ لَمْ يَأْثَمْ بِقَطْعِهَا، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ النُّكُولُ مُفِيدٌ لِأَنَّهُ يُحْتَرَزُ بِهِ عَنْ الْيَمِينِ، وَلَهُ وِلَايَةُ الِاحْتِرَازِ عَنْ الْيَمِينِ.
لَا يُقَالُ: أَبُو حَنِيفَةَ تَرَكَ الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» بِالرَّأْيِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَمْ يَنْفِ وُجُوبَ الْيَمِينِ فِيهَا، لَكِنَّهُ يَقُولُ: لَمَّا لَمْ يُفِدْ الْيَمِينُ فَائِدَتَهَا وَهُوَ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ لِكَوْنِهِ بَذْلًا لَا يَجْرِي فِيهَا سَقَطَتْ كَسُقُوطِ الْوُجُوبِ عَنْ مَعْذُورٍ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ (قَوْلُهُ وَفَائِدَةُ الِاسْتِحْلَافِ) يَعْنِي أَنَّ الْبَذْلَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا يَجْرِي فَفَاتَ فَائِدَةُ الِاسْتِحْلَافِ، لِأَنَّ فَائِدَتَهُ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ وَالنُّكُولُ بَذْلٌ وَالْبَذْلُ فِيهَا لَا يَجْرِي فَلَا يُسْتَحْلَفُ فِيهَا لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ.
وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنَّ هَذَا بَذْلٌ) جَوَابُ سُؤَالٍ تَقْرِيرُهُ لَوْ كَانَ بَذْلًا لَمَا مَلَكَهُ الْمُكَاتَبُ، وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى التَّبَرُّعِ وَهُمَا لَا يَمْلِكَانِهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَهُ آنِفًا أَنَّهُمَا يَمْلِكَانِ مَا لابد لَهُ مِنْ التِّجَارَةِ وَبَذْلُهُمَا بِالنُّكُولِ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ (وَصِحَّتُهُ فِي الدَّيْنِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إنَّهُ لَوْ كَانَ بَذْلًا لَمَا جَرَى فِي الدَّيْنِ لِأَنَّهُ وَصْفٌ فِي الذِّمَّةِ وَالْبَذْلُ لَا يَجْرِي فِيهَا.
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْبَذْلَ فِي الدَّيْنِ إنْ لَمْ يَصِحَّ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جِهَةِ الْقَابِضِ أَوْ مِنْ جِهَةِ الدَّافِعِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَلَا مَانِعَ ثَمَّةَ لِأَنَّهُ يَقْبِضُهُ حَقًّا لِنَفْسِهِ بِنَاءً عَلَى زَعْمِهِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَالْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا أَيْ فِي الدَّيْنِ تَرْكُ الْمَنْعِ وَجَازَ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ الْمَنْعَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا جُعِلَ فِي الْأَشْيَاءِ السَّبْعَةِ أَيْضًا تَرْكًا لِلْمَنْعِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهَا.
أُجِيبَ بِأَنَّ أَمْرَ الْمَالِ هَيِّنٌ تَجْرِي فِيهِ الْإِبَاحَةُ، بِخِلَافِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ فَإِنَّ أَمْرَهَا لَيْسَ بِهَيِّنٍ حَيْثُ لَا تَجْرِي فِيهَا الْإِبَاحَةُ، وَجَعْلُهُ هَاهُنَا تَرْكُ الْمَنْعِ، وَفِي قَوْلِهِ إلَّا أَنَّ هَذَا بَذْلٌ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ غَيْرِ التَّرْكِ وَفِي ذَلِكَ تَسَامُحٌ فِي الْعِبَارَةِ.
وَاَلَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي مَطْلَعِ الْبَحْثِ مِنْ تَعْرِيفِهِ وَهُوَ قَوْلُنَا قَطْعُ الْخُصُومَةِ بِدَفْعِ مَا يَدَّعِيهِ الْخَصْمُ لَعَلَّهُ أَوْلَى. قَالَ (وَيُسْتَحْلَفُ السَّارِقُ، فَإِنْ نَكَلَ ضَمِنَ وَلَمْ يُقْطَعْ) لِأَنَّ الْمَنُوطَ بِفِعْلِهِ شَيْئَانِ: الضَّمَانُ وَيَعْمَلُ فِيهِ النُّكُولُ.
وَالْقَطْعُ وَلَا يَثْبُتُ بِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا شَهِدَ عَلَيْهَا رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَيُسْتَحْلَفُ السَّارِقُ إلَخْ) إذَا كَانَ مُرَادُ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ أَخْذَ الْمَالِ يُسْتَحْلَفُ السَّارِقُ بِاَللَّهِ مَا لَهُ عَلَيْك هَذَا الْمَالُ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ بِالنُّكُولِ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: الْقَاضِي يَقُولُ لِلْمُدَّعِي مَاذَا تُرِيدُ؟ فَإِنْ قَالَ أُرِيدُ الْقَطْعَ يَقُولُ الْقَاضِي الْحُدُودُ لَا يُسْتَحْلَفُ فِيهَا فَلَيْسَ لَك يَمِينٌ، وَإِنْ قَالَ أُرِيدُ الْمَالَ يَقُولُ لَهُ دَعْ دَعْوَى السَّرِقَةِ وَانْبَعِثْ عَلَى دَعْوَى الْمَالِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (فَإِنْ نَكَلَ ضَمِنَ وَلَمْ يَقْطَعْ لِأَنَّ الْمَنُوطَ بِفِعْلِهِ) يُرِيدُ بِهِ النُّكُولَ (شَيْئَانِ): الضَّمَانُ وَيَعْمَلُ النُّكُولُ فِيهِ، وَالْقَطْعُ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا شَهِدَ عَلَيْهَا رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، يُرِيدُ بِذَلِكَ اشْتِمَالَ الْحُجَّةِ عَلَى الشُّبْهَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِقَوْلِهِ بِفِعْلِهِ فِعْلَ السَّرِقَةِ.
قَالَ (وَإِذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ طَلَاقًا قَبْلَ الدُّخُولِ اُسْتُحْلِفَ الزَّوْجُ، فَإِنْ نَكَلَ ضَمِنَ نِصْفَ الْمَهْرِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا) لِأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ يَجْرِي فِي الطَّلَاقِ عِنْدَهُمْ لاسيما إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْمَالُ، وَكَذَا فِي النِّكَاحِ إذَا ادَّعَتْ هِيَ الصَّدَاقَ لِأَنَّ ذَلِكَ دَعْوَى الْمَالِ، ثُمَّ يَثْبُتُ الْمَالُ بِنُكُولِهِ وَلَا يَثْبُتُ النِّكَاحُ، وَكَذَا فِي النَّسَبِ إذَا ادَّعَى حَقًّا كَالْإِرْثِ وَالْحِجْرِ فِي اللَّقِيطِ، وَالنَّفَقَةِ وَامْتِنَاعِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هَذِهِ الْحُقُوقُ، وَإِنَّمَا يُسْتَحْلَفُ فِي النَّسَبِ الْمُجَرَّدِ عِنْدَهُمَا إذَا كَانَ يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ كَالْأَبِ وَالِابْنِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ وَالْأَبِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ، لِأَنَّ فِي دَعْوَاهَا الِابْنَ تَحْمِيلَ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ وَالْمَوْلَى وَالزَّوْجِ فِي حَقِّهِمَا.
الشَّرْحُ:
(وَإِذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ طَلَاقًا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا اُسْتُحْلِفَ الزَّوْجُ، فَإِنْ نَكَلَ ضَمِنَ نِصْفَ الْمَهْرِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا لِأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ يَجْرِي فِي الطَّلَاقِ عِنْدَهُمْ، لاسيما إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْمَالَ) فَإِنْ قُلْت: هَلْ فِي تَخْصِيصِ ذِكْرِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَائِدَةٌ؟ قُلْت: هِيَ تَعْلِيمُ أَنَّ دَعْوَى الْمَهْرِ لَا تَتَفَاوَتُ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ فِي كُلِّ الْمَهْرِ أَوْ نِصْفٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ يُغْنِي عَنْ ذَلِكَ، وَلَيْسَ فِيهِ تَوَهُّمُ التَّقْيِيدِ بِذَلِكَ (وَكَذَا فِي النِّكَاحِ إذَا ادَّعَتْ الصَّدَاقَ لِأَنَّ ذَلِكَ دَعْوَى الْمَالِ ثُمَّ يَثْبُتُ الْمَالُ بِنُكُولِهِ وَلَا يَثْبُتُ النِّكَاحُ) فَإِنْ قُلْت: وَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ النِّكَاحُ أَيْضًا لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ.
قُلْت: الْبَذْلُ لَا يَجْرِي فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ (وَكَذَا فِي النَّسَبِ إذَا ادَّعَى حَقًّا كَالْإِرْثِ) بِأَنْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَخُو الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَاتَ أَبُوهُمَا وَتَرَكَ مَالًا فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ طَلَبَ مِنْ الْقَاضِي فَرْضَ النَّفَقَةِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْأُخُوَّةِ فَإِنَّهُ يُسْتَحْلَفُ عَلَى النَّسَبِ، فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ، وَإِنْ نَكَلَ يُقْضَى بِالْمَالِ وَالنَّفَقَةِ دُونَ النَّسَبِ (وَ) كَذَا إذَا ادَّعَى (الْحَجْرَ فِي اللَّقِيطِ) بِأَنْ كَانَ صَبِيًّا لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ فِي يَدِ مُلْتَقِطٍ فَادَّعَتْ أُخُوَّتَهُ حُرَّةٌ تُرِيدُ قَصْرَ يَدِ الْمُلْتَقِطِ لِحَقِّ حَضَانَتِهَا وَأَرَادَتْ اسْتِحْلَافَهُ فَنَكَلَ يَثْبُتُ لَهَا الْحَجْرُ دُونَ النَّسَبِ، وَكَذَا إذَا وَهَبَ لِإِنْسَانٍ عَيْنًا ثُمَّ أَرَادَ الرُّجُوعَ فِيهَا فَقَالَ الْمَوْهُوبُ لَهُ أَنْتَ أَخِي يُرِيدُ بِذَلِكَ إبْطَالَ حَقِّ الرُّجُوعِ اسْتَحْلَفَ الْوَاهِبُ، فَإِنْ نَكَلَ ثَبَتَ امْتِنَاعُ الرُّجُوعِ وَلَا تَثْبُتُ الْأُخُوَّةُ قَوْلُهُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هَذِهِ الْحُقُوقُ دَلِيلٌ لِلْمَجْمُوعِ: أَيْ دُونَ النَّسَبِ الْمُجَرَّدِ، فَإِنَّ فِيهِ تَحْمِيلَهُ عَلَى الْغَيْرِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ، وَلِهَذَا إنَّمَا يَسْتَحْلِفُ فِي النَّسَبِ الْمُجَرَّدِ عِنْدَهُمَا إذَا كَانَ يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ كَالْأَبِ وَالِابْنِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ وَالْأَبِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ دُونَ الِابْنِ، لِأَنَّ فِي دَعْوَاهَا الِابْنَ تَحْمِيلَ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ، وَأَمَّا الْمَوْلَى وَالزَّوْجُ فَإِنَّ دَعْوَاهُمَا تَصِحُّ مِنْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ إذْ لَيْسَ فِيهِ تَحْمِيلٌ عَلَى أَحَدٍ فَيُسْتَحْلَفُ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ النُّكُولَ بَدَلٌ مِنْ الْإِقْرَارِ فَلَا يَعْمَلُ إلَّا فِي مَوْضِعٍ يَعْمَلُ فِيهِ الْإِقْرَارُ. قَالَ (وَمَنْ ادَّعَى قِصَاصًا عَلَى غَيْرِهِ فَجَحَدَهُ اُسْتُحْلِفَ) بِالْإِجْمَاعِ (ثُمَّ إنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ، وَإِنْ نَكَلَ فِي النَّفْسِ حُبِسَ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يُقِرَّ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَا: لَزِمَهُ الْأَرْشُ فِيهِمَا لِأَنَّ النُّكُولَ إقْرَارٌ فِيهِ شُبْهَةٌ عِنْدَهُمَا فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْقِصَاصُ وَيَجِبُ بِهِ الْمَالُ، خُصُوصًا إذَا كَانَ امْتِنَاعُ الْقِصَاصِ لِمَعْنًى مِنْ جِهَةِ مَنْ عَلَيْهِ، كَمَا إذَا أَقَرَّ بِالْخَطَأِ وَالْوَلِيُّ يَدَّعِي الْعَمْدَ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْأَطْرَافَ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ فَيَجْرِي فِيهَا الْبَذْلُ، بِخِلَافِ الْأَنْفُسِ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ اقْطَعْ يَدِي فَقَطَعَهَا لَا يَجِبُ الضَّمَانُ، وَهَذَا إعْمَالٌ لِلْبَذْلِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُبَاحُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ، وَهَذَا الْبَذْلُ مُفِيدٌ لِانْدِفَاعِ الْخُصُومَةِ بِهِ فَصَارَ كَقَطْعِ الْيَدِ لِلْآكِلَةِ وَقَلْعِ السِّنِّ لِلْوَجَعِ، وَإِذَا امْتَنَعَ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ وَالْيَمِينُ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ يُحْبَسُ بِهِ كَمَا فِي الْقَسَامَةِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ ادَّعَى قِصَاصًا عَلَى غَيْرِهِ فَجَحَدَ إلَخْ) وَمَنْ ادَّعَى قِصَاصًا عَلَى غَيْرِهِ فَجَحَدَهُ وَلَيْسَ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ يُسْتَحْلَفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ سَوَاءٌ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي النَّفْسِ أَوْ فِيمَا دُونَهَا، ثُمَّ إنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ لَزِمَهُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ الْقِصَاصُ، وَفِي النَّفْسِ يُحْبَسُ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يَحْلِفَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: لَزِمَهُ الْأَرْشُ فِيهِمَا لِأَنَّ النُّكُولَ إقْرَارٌ فِيهِ شُبْهَةٌ عِنْدَهُمَا فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْقِصَاصُ، وَيَجِبُ بِهِ الْمَالُ إذَا كَانَ امْتِنَاعُ الْقِصَاصِ لِمَعْنًى مِنْ جِهَةِ مَنْ عَلَيْهِ خَاصَّةً، كَمَا إذَا أَقَرَّ بِالْخَطَإِ وَالْوَلِيُّ يَدَّعِي الْعَمْدَ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِالْإِقْرَارِ فَأَشْبَهَ الْخَطَأَ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الِامْتِنَاعُ مِنْ جَانِبِ مَنْ لَهُ كَمَا إذَا أَقَامَ مُدَّعِي الْقِصَاصِ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ أَوْ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ لَا يُقْضَى بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْحُجَّةَ قَامَتْ بِالْقِصَاصِ لَكِنْ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ وَلَمْ يُشْبِهْ الْخَطَأَ فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ، وَلَا تَفَاوُتَ فِي هَذَا الْمَعْنَى بَيْنَ النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا.
فَإِنْ قِيلَ: مِنْ أَيْنَ وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَالسَّرِقَةِ حَيْثُ يَثْبُتُ الْمَالُ فِيهَا بَعْدَ انْتِفَاءِ الْقَطْعِ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ كَمَا يَجِبُ بِالنُّكُولِ وَهَاهُنَا يَثْبُتُ بِالنُّكُولِ دُونَ الشَّهَادَةِ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْمَالَ ثَمَّةَ أَصْلٌ وَيَتَعَدَّى إلَى الْقَطْعِ، وَإِذَا قُصِرَ لَمْ يَتَعَدَّ فَبَقِيَ الْأَصْلُ، وَهَاهُنَا الْأَصْلُ الْمَشْهُودُ بِهِ هُوَ الْقِصَاصُ، ثُمَّ يَتَعَدَّى إلَى الْمَالِ إذَا وُجِدَ شَرْطُهُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا بِطَرِيقِ الْمِنَّةِ لِلْخَصْمَيْنِ لِلْقَاتِلِ بِسَلَامَةِ نَفْسِهِ وَالْمَقْتُولِ بِصِيَانَةِ دَمِهِ عَنْ الْهَدَرِ وَلَمْ يُوجَدْ فِي صُورَةِ الشَّهَادَةِ لِعَدَمِ شَبَهِهَا بِالْخَطَإِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَطْرَافَ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ لِأَنَّهَا خُلِقَتْ وِقَايَةً لِلنَّفْسِ كَالْأَمْوَالِ فَيَجْرِي فِيهَا الْبَذْلُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ اقْطَعْ يَدِي فَقَطَعَهَا لَا يَجِبُ الضَّمَانُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا مِنْ حَيْثُ إعْمَالُ الْبَذْلِ، بِخِلَافِ الْأَنْفُسِ حَيْثُ لَا يَجْرِي فِيهَا الْبَذْلُ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ اُقْتُلْنِي فَقَتَلَهُ يُؤْخَذُ بِالْقِصَاصِ فِي رِوَايَةٍ وَبِالدِّيَةِ فِي أُخْرَى.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَتْ الْأَطْرَافُ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ لَجَازَ قَطْعُ يَدِهِ مِنْ غَيْرِ إثْمٍ إذَا قَالَ اقْطَعْ يَدِي، كَمَا يُبَاحُ لَهُ أَخْذُ مَالِهِ إذَا قَالَ خُذْ مَالِي.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُبَاحُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْقَطْعُ مُفِيدًا كَالْقَطْعِ لِلْآكِلَةِ وَقَلْعِ السِّنِّ لِلْوَجَعِ لَمْ يَأْثَمْ بِفِعْلِهِ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْبَذْلِ: أَيْ الَّذِي بِالنُّكُولِ مُفِيدٌ لِانْدِفَاعِ الْخُصُومَةِ بِهِ فَيَكُونُ مُبَاحًا، وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مُنَاقِضٌ لِمَا قَالَ فِي السَّرِقَةِ إنَّ الْقَطْعَ لَا يَثْبُتُ بِالنُّكُولِ.
وَالثَّانِي أَنَّ الْخُصُومَةَ تَنْدَفِعُ بِالْأَرْشِ وَهُوَ أَهْوَنُ فَالْمَصِيرُ إلَيْهِ أَوْلَى.
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْأَطْرَافَ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ، لِأَنَّهُمْ الْمُحْتَاجُونَ إلَيْهَا، فَتَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْأَمْوَالِ، وَالْقَطْعُ فِي السَّرِقَةِ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ وَهُوَ لَا يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ.
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ دَفْعَ الْخُصُومَةِ بِالْأَرْشِ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ بَعْدَ تَعَذُّرِ مَا هُوَ الْأَصْلُ وَهُوَ الْقِصَاصُ وَلَمْ يَتَعَذَّرْ فَلَا يُعْدَلُ عَنْهُ، فَظَهَرَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْبَذْلَ فِي الْأَطْرَافِ جَائِزٌ فَيَثْبُتُ الْقَطْعُ بِهِ وَفِي الْأَنْفُسِ لَيْسَ بِجَائِزٍ فَيَمْتَنِعُ الْقِصَاصُ، وَإِذَا امْتَنَعَ وَالْيَمِينُ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ يُحْبَسُ بِهِ فِيهَا كَمَا فِي الْقَسَامَةِ فَإِنَّهُمْ إذَا نَكَلُوا عَنْ الْيَمِينِ يُحْبَسُونَ حَتَّى يُقِرُّوا أَوْ يَحْلِفُوا..
قَالَ (وَإِذَا قَالَ الْمُدَّعِي لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ قِيلَ، لِخَصْمِهِ أَعْطِهِ كَفِيلًا بِنَفْسِك ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) كَيْ لَا يَغِيبَ نَفْسُهُ فَيَضِيعَ حَقُّهُ وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ جَائِزَةٌ عِنْدَنَا وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ، وَأَخْذُ الْكَفِيلِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى اسْتِحْسَانٌ عِنْدَنَا لِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا لِلْمُدَّعِي وَلَيْسَ فِيهِ كَثِيرُ ضَرَرٍ بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَهَذَا لِأَنَّ الْحُضُورَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى حَتَّى يُعَدَّى عَلَيْهِ وَيُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَشْغَالِهِ فَصَحَّ التَّكْفِيلُ بِإِحْضَارِهِ وَالتَّقْدِيرُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَلَا فَرْقَ فِي الظَّاهِرِ بَيْنَ الْخَامِلِ وَالْوَجِيهِ وَالْحَقِيرِ مِنْ الْمَالِ وَالْخَطِيرِ، ثُمَّ لابد مِنْ قَوْلِهِ لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ لِلتَّكْفِيلِ وَمَعْنَاهُ فِي الْمِصْرِ، حَتَّى لَوْ قَالَ الْمُدَّعِي لَا بَيِّنَةَ لِي أَوْ شُهُودِي غُيَّبٌ لَا يُكْفَلُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ.
قَالَ (فَإِنْ فَعَلَ وَإِلَّا أُمِرَ بِمُلَازَمَتِهِ) كَيْ لَا يَذْهَبَ حَقُّهُ (إلَّا أَنْ يَكُونَ غَرِيبًا فَيُلَازِمَ مِقْدَارَ مَجْلِسِ الْقَاضِي) وَكَذَا لَا يُكْفَلُ إلَّا إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ، فَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْصَرِفٌ إلَيْهِمَا لِأَنَّ فِي أَخْذِ الْكَفِيلِ وَالْمُلَازَمَةِ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ إضْرَارًا بِهِ بِمَنْعِهِ عَنْ السَّفَرِ وَلَا ضَرَرَ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ ظَاهِرًا، وَكَيْفِيَّةُ الْمُلَازَمَةِ نَذْكُرُهَا فِي كِتَابِ الْحَجْرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِذَا قَالَ الْمُدَّعِي لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ إلَخْ) وَإِذَا قَالَ الْمُدَّعِي لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ فِي الْمِصْرِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُقِيمًا أَوْ مُسَافِرًا، فَإِنْ كَانَ مُقِيمًا قِيلَ لَهُ أَعْطِهِ كَفِيلًا عَنْ نَفْسِك ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ فَعَلَ وَإِلَّا أُمِرَ بِمُلَازَمَتِهِ.
أَمَّا جَوَازُ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ عِنْدَنَا فَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَأَمَّا جَوَازُ التَّكْفِيلِ فَهُوَ اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ يَأْبَاهُ قَبْلَ إقَامَةِ الْحُجَّةِ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْحُضُورَ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ عَنْهُ يُعْدَى عَلَيْهِ وَيُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَشْغَالِهِ فَيَصِحُّ التَّكْفِيلُ بِإِحْضَارِهِ نَظَرًا لِلْمُدَّعِي وَضَرَرُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِهِ يَسِيرٌ فَيُتَحَمَّلُ كَالْإِعْدَاءِ وَالْحَيْلُولَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَشْغَالِهِ.
وَأَمَّا التَّقْدِيرُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَمَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الْوَجِيهِ وَالْخَامِلِ وَالْخَطِيرِ مِنْ الْمَالِ وَالْحَقِيرِ مِنْهُ هُوَ الصَّحِيحُ.
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: إذَا كَانَ مَعْرُوفًا وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَخْفَى شَخْصُهُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ لَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ سَمَحَتْ نَفْسُهُ بِذَلِكَ يُؤْخَذُ، وَكَذَا إذَا كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ حَقِيرًا لَا يُخْفِي الْمَرْءُ نَفْسَهُ بِذَلِكَ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْأَمْرُ بِالْمُلَازَمَةِ فَلِئَلَّا يَضِيعَ حَقُّهُ، فَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي لَا بَيِّنَةَ لِي أَوْ شُهُودِي غُيَّبٌ لَا يَكْفُلُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ، لِأَنَّ الْفَائِدَةَ هُوَ الْحُضُورُ عِنْدَ حُضُورِ الشُّهُودِ وَذَلِكَ فِي الْهَالِكِ مُحَالٌ، وَالْغَائِبُ كَالْهَالِكِ مِنْ وَجْهٍ، إذْ لَيْسَ كُلُّ غَائِبٍ يَئُوبُ، وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا فَالْكَفَالَةُ وَالْمُلَازَمَةُ يُقَدَّرَانِ بِمِقْدَارِ مَجْلِسِ الْقَاضِي، إذْ لَيْسَ فِيهِ كَبِيرُ ضَرَرٍ، وَفِي الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ زِيَادَةُ ضَرَرٍ لِمَنْعِهِ عَنْ السَّفَرِ، وَكَيْفِيَّةُ الْمُلَازَمَةِ سَتُذْكَرُ فِي كِتَابِ الْحَجْرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.