فصل: (بَابُ جِنَايَةِ الْبَهِيمَةِ وَالْجِنَايَةِ عَلَيْهَا):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.(فَصْلٌ فِي الْحَائِطِ الْمَائِلِ).

قَالَ: (وَإِذَا مَالَ الْحَائِطُ إلَى طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَطُولِبَ صَاحِبُهُ بِنَقْضِهِ وَأُشْهِدَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَنْقُضْهُ فِي مُدَّةٍ يَقْدِرُ عَلَى نَقْضِهِ حَتَّى سَقَطَ ضَمِنَ مَا تَلِفَ بِهِ مِنْ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَضْمَنَ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ مِنْهُ مُبَاشَرَةً، وَالْمُبَاشَرَةُ شَرْطٌ هُوَ مُتَعَدٍّ فِيهِ، لِأَنَّ أَصْلَ الْبِنَاءِ كَانَ فِي مِلْكِهِ، وَالْمَيَلَانُ وَشَغْلُ الْهَوَاءِ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ فَصَارَ كَمَا قَبْلَ الْإِشْهَادِ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْحَائِطَ لَمَّا مَالَ إلَى الطَّرِيقِ فَقَدْ اشْتَمَلَ هَوَاءَ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ بِمِلْكِهِ وَرَفْعُهُ فِي يَدِهِ، فَإِذَا تَقَدَّمَ إلَيْهِ وَطُولِبَ بِتَفْرِيغِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ فَإِذَا امْتَنَعَ صَارَ مُتَعَدِّيًا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَقَعَ ثَوْبُ إنْسَانٍ فِي حِجْرِهِ يَصِيرُ مُتَعَدِّيًا بِالِامْتِنَاعِ عَنْ التَّسْلِيمِ إذَا طُولِبَ بِهِ كَذَا هَذَا، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْإِشْهَادِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ هَلَاكِ الثَّوْبِ قَبْلَ الطَّلَبِ، وَلِأَنَّا لَوْ لَمْ نُوجِبْ عَلَيْهِ الضَّمَانَ يَمْتَنِعُ عَنْ التَّفْرِيغِ فَيَنْقَطِعُ الْمَارَّةُ حَذَرًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَيَتَضَرَّرُونَ بِهِ، وَدَفْعُ الضَّرَرِ الْعَامِّ مِنْ الْوَاجِبِ وَلَهُ تَعَلُّقٌ بِالْحَائِطِ فَيَتَعَيَّنُ لِدَفْعِ هَذَا الضَّرَرِ، وَكَمْ مِنْ ضَرَرٍ خَاصٍّ يُتَحَمَّلُ لِدَفْعِ الْعَامِّ مِنْهُ، ثُمَّ فِيمَا تَلِفَ بِهِ مِنْ النُّفُوسِ تَجِبُ الدِّيَةُ وَتَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ، لِأَنَّهُ فِي كَوْنِهِ جِنَايَةً دُونَ الْخَطَأِ فَيُسْتَحَقُّ فِيهِ التَّخْفِيفُ بِالطَّرِيقِ الْأُولَى كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى اسْتِئْصَالِهِ وَالْإِجْحَافِ بِهِ، وَمَا تَلِفَ بِهِ مِنْ الْأَمْوَالِ كَالدَّوَابِّ وَالْعُرُوضِ يَجِبُ ضَمَانُهَا فِي مَالِهِ، لِأَنَّ الْعَوَاقِلَ لَا تَعْقِلُ الْمَالَ وَالشَّرْطُ التَّقَدُّمُ إلَيْهِ وَطَلَبُ النَّقْضِ مِنْهُ دُونَ الْإِشْهَادِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْإِشْهَادَ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ إثْبَاتِهِ عِنْدَ إنْكَارِهِ فَكَانَ مِنْ بَابِ الِاحْتِيَاطِ.
وَصُورَةُ الْإِشْهَادِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ تَقَدَّمْت إلَى هَذَا الرَّجُلِ فِي هَدْمِ حَائِطِهِ هَذَا، وَلَا يَصِحُّ الْإِشْهَادُ قَبْلَ أَنْ يَهِيَ الْحَائِطُ لِانْعِدَامِ التَّعَدِّي.
الشَّرْحُ:
فَصْلٌ فِي الْحَائِطِ الْمَائِلِ:
لَمَّا كَانَ الْحَائِطُ الْمَائِلُ يُنَاسَبُ الْجُرْصُنَ وَالرَّوْشَنَ وَالْجَنَاحَ وَالْكَنِيفَ وَغَيْرَهَا أَلْحَقَ مَسَائِلَهُ بِهَا فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ.
قَالَ (وَإِذَا مَالَ حَائِطٌ إلَى طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ إلَخْ) أَخَذَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِوَجْهِ الْقِيَاسِ وَلَمْ يُوجِبْ الضَّمَانَ، وَعُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ اسْتَحْسَنُوا إيجَابَ الضَّمَانِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَشُرَيْحٍ وَالنَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِنْ التَّابِعِينَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَالْوَجْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ.
وَقَوْلُهُ (وَكَمْ مِنْ ضَرَرٍ خَاصٍّ يُتَحَمَّلُ لِدَفْعِ الْعَامِّ) كَالرَّامِي إلَى الْكُفَّارِ وَإِنْ تَتَرَّسُوا بِالْمُسْلِمِينَ وَقَطْعِ الْعُضْوِ لِلْأَكْلَةِ عِنْدَ خَوْفِ هَلَاكِ النَّفْسِ.
وَقَوْلُهُ (وَتَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ) قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: إنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَتَحَمَّلُ حَتَّى يَشْهَدَ الشُّهُودُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: عَلَى التَّقَدُّمِ إلَيْهِ فِي النَّقْدِ، وَعَلَى أَنَّهُ مَاتَ مِنْ سُقُوطِهِ عَلَيْهِ، وَعَلَى أَنَّ الدَّارَ لَهُ، لِأَنَّ كَوْنَ الدَّارِ فِي يَدِهِ ظَاهِرٌ وَالظَّاهِرُ لَا يُسْتَحَقُّ بِهِ حَقٌّ عَلَى الْغَيْرِ.
وَقَوْلُهُ (وَالشَّرْطُ التَّقَدُّمُ إلَيْهِ) وَهُوَ أَنْ يَقُولَ صَاحِبُ الْحَقِّ لِصَاحِبِ الْحَائِطِ إنَّ حَائِطَك هَذَا مَخُوفٌ أَوْ يَقُولُ مَائِلٌ فَانْقُضْهُ أَوْ اهْدِمْهُ حَتَّى لَا يَسْقُطَ وَلَا يُتْلِفَ شَيْئًا.
وَلَوْ قَالَ يَنْبَغِي أَنْ تَهْدِمَهُ فَذَاكَ مَشُورَةٌ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ التَّقَدُّمُ مِنْ صَاحِبِ حَقٍّ كَوَاحِدٍ مِنْ الْعَامَّةِ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ صَبِيًّا أَوْ امْرَأَةً إنْ مَالَ إلَى طَرِيقِهِمْ وَوَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ السِّكَّةِ الْخَاصَّةِ إنْ مَالَ إلَيْهَا وَصَاحِبِ الدَّارِ أَوْ سُكَّانِهَا إنْ مَالَ إلَيْهَا، وَأَنْ يَكُونَ إلَى مَنْ لَهُ وِلَايَةُ التَّفْرِيغِ حَتَّى لَوْ تَقَدَّمَ إلَى مَنْ يَسْكُنُ الدَّارَ بِإِجَارَةٍ أَوْ إعَارَةٍ فَلَمْ يُنْقَضْ حَتَّى سَقَطَ عَلَى إنْسَانٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ.
وَقَوْلُهُ (وَالشَّرْطُ هُوَ التَّقَدُّمُ دُونَ الْإِشْهَادِ) حَتَّى لَوْ اعْتَرَفَ صَاحِبُهُ أَنَّهُ طُولِبَ بِنَقْضِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ قَالَ: (وَلَوْ بَنَى الْحَائِطَ مَائِلًا فِي الِابْتِدَاءِ قَالُوا: يَضْمَنُ مَا تَلِفَ بِسُقُوطِهِ مِنْ غَيْرِ إشْهَادٍ) لِأَنَّ الْبِنَاءَ تَعَدٍّ ابْتِدَاءً كَمَا فِي إشْرَاعِ الْجَنَاحِ.
قَالَ: (وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ عَلَى التَّقَدُّمِ) لِأَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ بِشَهَادَةٍ عَلَى الْقَتْلِ، وَشَرْطُ التَّرْكِ فِي مُدَّةٍ يَقْدِرُ عَلَى نَقْضِهِ فِيهَا لِأَنَّهُ لابد مِنْ إمْكَانِ النَّقْضِ لِيَصِيرَ بِتَرْكِهِ جَانِيًا، وَيَسْتَوِي أَنْ يُطَالِبَهُ بِنَقْضِهِ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ، لِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ شُرَكَاءُ فِي الْمُرُورِ فَيَصِحُّ التَّقَدُّمُ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً حُرًّا كَانَ أَوْ مُكَاتَبًا، وَيَصِحُّ التَّقَدُّمُ إلَيْهِ عِنْدَ السُّلْطَانِ وَغَيْرِهِ لِأَنَّهُ مُطَالَبَةٌ بِالتَّفْرِيغِ فَيَتَفَرَّدُ كُلُّ صَاحِبِ حَقٍّ بِهِ. قَالَ: (وَإِنْ مَالَ إلَى دَارِ رَجُلٍ فَالْمُطَالَبَةُ إلَى مَالِكِ الدَّارِ خَاصَّةً) لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ عَلَى الْخُصُوصِ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا سُكَّانٌ لَهُمْ أَنْ يُطَالِبُوهُ لِأَنَّ لَهُمْ الْمُطَالَبَةَ بِإِزَالَةِ مَا شَغَلَ الدَّارَ فَكَذَا بِإِزَالَةِ مَا شَغَلَ هَوَاءَهَا، وَلَوْ أَجَّلَهُ صَاحِبُ الدَّارِ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهَا أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ سَاكِنُوهَا فَذَلِكَ جَائِزٌ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا تَلِفَ بِالْحَائِطِ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَالَ إلَى الطَّرِيقِ فَأَجَّلَهُ الْقَاضِي أَوْ مَنْ أَشْهَدَ عَلَيْهِ حَيْثُ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ الْحَقَّ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ إلَيْهِمَا إبْطَالُ حَقِّهِمْ. وَلَوْ بَاعَ الدَّارَ بَعْدَمَا أَشْهَدَ عَلَيْهِ وَقَبَضَهَا الْمُشْتَرِي بَرِئَ مِنْ ضَمَانِهِ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ بِتَرْكِ الْهَدْمِ مَعَ تَمَكُّنِهِ وَقَدْ زَالَ تَمَكُّنُهُ بِالْبَيْعِ، بِخِلَافِ إشْرَاعِ الْجَنَاحِ لِأَنَّهُ كَانَ جَانِيًا بِالْوَضْعِ وَلَمْ يَنْفَسِخْ بِالْبَيْعِ فَلَا يَبْرَأُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ لَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَشْهَدَ عَلَيْهِ بَعْدَ شِرَائِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِتَرْكِهِ التَّفْرِيغَ مَعَ تَمَكُّنِهِ بَعْدَمَا طُولِبَ بِهِ، وَالْأَصْلُ أَنَّهُ يَصِحُّ التَّقَدُّمُ إلَى كُلِّ مَنْ يَتَمَكَّنُ مِنْ نَقْضِ الْحَائِطِ وَتَفْرِيغِ الْهَوَاءِ، وَمَنْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ لَا يَصِحُّ التَّقَدُّمُ إلَيْهِ كَالْمُرْتَهِنِ وَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُودَعِ وَسَاكِنِ الدَّارِ، وَيَصِحُّ التَّقَدُّمُ إلَى الرَّاهِنِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ الْفِكَاكِ وَإِلَى الْوَصِيِّ وَإِلَى أَبِي الْيَتِيمِ أَوْ أُمِّهِ فِي حَائِطِ الصَّبِيِّ لِقِيَامِ الْوِلَايَةِ، وَذَكَرَ الْأُمَّ فِي الزِّيَادَاتِ وَالضَّمَانُ فِي مَالِ الْيَتِيمِ لِأَنَّ فِعْلَ هَؤُلَاءِ كَفِعْلِهِ، وَإِلَى الْمُكَاتَبِ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لَهُ، وَإِلَى الْعَبْدِ التَّاجِرِ سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ لِأَنَّ وِلَايَةَ النَّقْضِ لَهُ، ثُمَّ التَّلَفُ بِالسُّقُوطِ إنْ كَانَ مَا لَا فَهُوَ فِي عِتْقِ الْعَبْدِ، وَإِنْ كَانَ نَفْسًا فَهُوَ عَلَى عَاقِلَةِ الْمَوْلَى لِأَنَّ الْإِشْهَادَ مِنْ وَجْهٍ عَلَى الْمَوْلَى وَضَمَانُ الْمَالِ أَلْيَقُ بِالْعَبْدِ وَضَمَانُ النَّفْسِ بِالْمَوْلَى، وَيَصِحُّ التَّقَدُّمُ إلَى أَحَدِ الْوَرَثَةِ فِي نَصِيبِهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ نَقْضِ الْحَائِطِ وَحْدَهُ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ إصْلَاحِ نَصِيبِهِ بِطَرِيقِهِ وَهُوَ الْمُرَافَعَةُ إلَى الْقَاضِي.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ فِعْلَ هَؤُلَاءِ كَفِعْلِهِ) أَيْ فِعْلُ الْوَصِيِّ وَالْأَبِ وَالْأُمِّ كَفِعْلِ الصَّبِيِّ، وَالتَّقَدُّمُ إلَيْهِمْ كَالتَّقَدُّمِ عَلَى الصَّبِيِّ بَعْدَ بُلُوغِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا هَدَرَ الْقَتِيلُ بِسُقُوطِ الْحَائِطِ إذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ بَعْدَ التَّقَدُّمِ إلَى الْأَبِ وَالْوَصِيِّ.
أُجِيبَ بِأَنَّ التَّقَدُّمَ إلَيْهِمَا جُعِلَ كَالتَّقَدُّمِ إلَى الصَّغِيرَةِ مَا دَامَتْ وِلَايَتُهُمَا بَاقِيَةً وَقَدْ زَالَتْ بِالْبُلُوغِ فَصَارَ كَأَنَّ التَّقَدُّمَ لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ، ثُمَّ إنَّهُمَا فِي تَرْكِ الْهَدْمِ يَعْمَلَانِ لِلصَّبِيِّ وَيَنْظُرَانِ لَهُ فَكَانَ الضَّمَانُ فِي مَالِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْوَصِيُّ إذَا تَرَكَ النَّقْضَ بَعْدَ التَّقَدُّمِ إلَيْهِ أَلْحَقَ ضَرَرًا بِمَالِ الْيَتِيمِ فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ فِي تَرْكِ النَّقْضِ دَفْعَ مَضَرَّةٍ مُتَحَقِّقَةٍ وَهِيَ مَضَرَّةُ مُؤْنَةِ النَّقْضِ وَبِنَائِهِ ثَانِيًا، وَفِي نَقْضِهِ دَفْعَ مَضَرَّةٍ مَوْهُومَةٍ لِجَوَازِ أَنْ لَا يَسْقُطَ وَإِنْ سَقَطَ لَا يَهْلِكُ بِهِ شَيْءٌ فَكَانَ تَرْكُهُ أَنْظَرَ لِلصَّبِيِّ فَلَا يَلْزَمُ الْوَصِيَّ ضَمَانٌ.
وَقَوْلُهُ (فِي عِتْقِ الْعَبْدِ) يَعْنِي يُبَاعُ فِيهِ كَمَا يُبَاعُ فِي دُيُونِ تِجَارَتِهِ، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى الْمَوْلَى كَضَمَانِ النَّفْسِ، وَلَكِنَّا اسْتَحْسَنَّا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فَقُلْنَا: الْعَبْدُ فِي ضَمَانِ الْتِزَامِ الْمَالِ كَالْحُرِّ فَإِنَّهُ يَنْفَكُّ الْحَجْرُ عَنْهُ فِي اكْتِسَابِ سَبَبِ ذَلِكَ، وَفِي الْتِزَامِ ضَمَانِ الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ كَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِأَنَّ فَكَّ الْحَجْرِ بِالْإِذْنِ لَمْ يَتَنَاوَلْ ذَلِكَ فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمَوْلَى.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الْإِشْهَادَ عَلَى الْمَوْلَى مِنْ وَجْهٍ) أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الدَّارِ لِلْمَوْلَى رَقَبَةً وَتَصَرُّفًا وَالْعَبْدُ خَصْمٌ مِنْ جِهَتِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى إنْسَانٌ حَقًّا فِي دَارٍ بِيَدِ مَأْذُونٍ لَهُ يَنْتَصِبُ خَصْمًا فَكَانَ الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ إشْهَادًا عَلَى الْمَوْلَى مِنْ وَجْهٍ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَعِنْدَهُمَا ظَاهِرٌ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِلْمَوْلَى أَنْ يَسْتَخْلِصَهُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ فَكَانَ هَذَا تَقَدُّمًا إلَى الْمَوْلَى مِنْ وَجْهٍ وَتَقَدُّمًا إلَى الْعَبْدِ مِنْ وَجْهٍ، فَاعْتُبِرَ فِي ضَمَانِ الْأَنْفُسِ تَقَدُّمًا إلَى الْمَوْلَى لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ فَكَّ الْحَجْرِ بِالْإِذْنِ لَمْ يَتَنَاوَلْ ذَلِكَ، وَفِي ضَمَانِ الْأَمْوَالِ تَقَدُّمًا إلَى الْعَبْدِ لِأَنَّهُ كَالْحُرِّ فِيهِ كَمَا مَرَّ.
وَقَوْلُهُ (وَيَصِحُّ التَّقَدُّمُ إلَى أَحَدِ الْوَرَثَةِ فِي نَصِيبِهِ) يَعْنِي لَوْ هَلَكَ أَحَدٌ بِسُقُوطِهِ بَعْدَ ذَلِكَ ضَمِنَ ذَلِكَ الْوَاحِدُ بِقَدْرِ نَصِيبِهِ فِيهِ، وَهَذَا جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ، وَوَجْهُهُ مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ.
وَأَمَّا جَوَابُ الْقِيَاسِ فَهُوَ أَنْ لَا يَضْمَنَ أَحَدٌ مِنْهُمْ شَيْئًا، أَمَّا الَّذِي تَقَدَّمَ إلَيْهِ فَلِعَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِنْ النَّقْضِ فَلَمْ يَكُنْ التَّقَدُّمُ إلَيْهِ مُفِيدًا، وَأَمَّا غَيْرُهُ مِنْ الْوَرَثَةِ فَلِعَدَمِ التَّقَدُّمِ إلَيْهِمْ فَلَمْ يُوجَدْ التَّعَدِّي مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي تَرْكِ التَّفْرِيغِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْإِشْهَادَ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ يَتَعَذَّرُ عَادَةً، فَلَوْ لَمْ يَصِحَّ الْإِشْهَادُ عَلَى بَعْضِهِمْ فِي نَصِيبِهِ أَدَّى إلَى الضَّرَرِ وَهُوَ مَدْفُوعٌ. (وَلَوْ سَقَطَ الْحَائِطُ الْمَائِلِ عَلَى إنْسَانٍ بَعْدَ الْإِشْهَادِ فَقَتَلَهُ فَتَعَثَّرَ بِالْقَتِيلِ غَيْرُهُ فَعَطِبَ لَا يَضْمَنُهُ) لِأَنَّ التَّفْرِيغَ عَنْهُ إلَى الْأَوْلِيَاءِ لَا إلَيْهِ (وَإِنْ عَطِبَ بِالنَّقْضِ ضَمِنَهُ) لِأَنَّ التَّفْرِيغَ إلَيْهِ إذْ النَّقْضُ مِلْكُهُ وَالْإِشْهَادُ عَلَى الْحَائِطِ إشْهَادٌ عَلَى النَّقْضِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ امْتِنَاعُ الشَّغْلِ (وَلَوْ عَطِبَ بِجَرَّةِ كَانَتْ عَلَى الْحَائِطِ فَسَقَطَتْ بِسُقُوطِهِ وَهِيَ مِلْكُهُ ضَمِنَهُ) لِأَنَّ التَّفْرِيغَ إلَيْهِ (وَإِنْ كَانَ مِلْكَ غَيْرِهِ لَا يَضْمَنُهُ) لِأَنَّ التَّفْرِيغَ إلَى مَالِكِهَا قَالَ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (فَعَطِبَ لَا يَضْمَنُهُ) أَيْ لَا يَضْمَنُ صَاحِبُ الْحَائِطِ الْقَتِيلَ الثَّانِيَ (لِأَنَّ التَّفْرِيغَ عَنْهُ) أَيْ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ بِرَفْعِهِ مُفَوَّضٌ إلَى أَوْلِيَائِهِ لِأَنَّهُمْ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ دَفْنَهُ، وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ مَا إذَا وَقَعَ الْجَنَاحُ فِي الطَّرِيقِ فَتَعَثَّرَ إنْسَانٌ بِنَقْضِهِ وَمَاتَ ثُمَّ تَعَثَّرَ رَجُلٌ بِالْقَتِيلِ وَمَاتَ فَإِنَّ دِيَةَ الْقَتِيلَيْنِ جَمِيعًا عَلَى صَاحِبِ الْجَنَاحِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ إشْرَاعَ الْجَنَاحِ فِي نَفْسِهِ جِنَايَةٌ وَهُوَ فِعْلُهُ فَصَارَ كَأَنَّهُ أَلْقَاهُ بِيَدِهِ عَلَيْهِ فَكَانَ حُصُولُ الْقَتِيلِ فِي الطَّرِيقِ مُضَافًا إلَى فِعْلِهِ كَحُصُولِ نَقْضِ الْجَنَاحِ فِي الطَّرِيقِ وَمَنْ أَلْقَى شَيْئًا فِي الطَّرِيقِ كَانَ ضَامِنًا لِمَا عَطِبَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ تَفْرِيغَ الطَّرِيقِ عَنْهُ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْحَائِطِ فَإِنَّ نَفْسَ الْبِنَاءِ لَيْسَ بِجِنَايَةٍ وَبَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ فِعْلٌ يَصِيرُ بِهِ جَانِيًا لَكِنْ جُعِلَ كَالْفَاعِلِ بِتَرْكِ النَّقْضِ فِي الطَّرِيقِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّفْرِيغِ، وَالتَّرْكُ مَعَ الْقُدْرَةِ وُجِدَ فِي حَقِّ النَّقْضِ لَا فِي حَقِّ الْقَتِيلِ فَلِذَلِكَ جُعِلَ فَاعِلًا فِي حَقِّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ لَا فِي حَقِّ الْقَتِيلِ الثَّانِي وَبِهَذَا يُعْلَمُ حُكْمُ مَا عَطِبَ بِالنَّقْضِ وَقَدْ ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَاضِحًا.
وَقَوْلُهُ (فَسَقَطَتْ) يَعْنِي الْجَرَّةُ بِسُقُوطِ الْحَائِطِ، يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَوْ وَقَعَتْ الْجَرَّةُ وَحْدَهَا فَأَصَابَتْ إنْسَانًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ وَضَعَهَا عَلَى مِلْكِهِ وَهُوَ لَا يَكُونُ مُتَعَدِّيًا فِيمَا يُحْدِثُهُ فِي مِلْكِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْحَائِطُ مَائِلًا أَوْ غَيْرَ مَائِلٍ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ (وَإِنْ كَانَ الْحَائِطُ بَيْنَ خَمْسَةِ رِجَالٍ أَشْهَدَ عَلَى أَحَدِهِمْ فَقَتَلَ إنْسَانًا ضَمِنَ خُمُسَ الدِّيَةِ وَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَإِنْ كَانَتْ دَارٌ بَيْنَ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ فَحَفَرَ أَحَدُهُمْ فِيهَا بِئْرًا وَالْحَفْرُ كَانَ بِغَيْرِ رِضَا الشَّرِيكَيْنِ الْآخَرِينَ أَوْ بَنَى حَائِطًا فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ فَعَلَيْهِ ثُلُثَا الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ فِي الْفَصْلَيْنِ) لَهُمَا أَنَّ التَّلَفَ بِنَصِيبِ مَنْ أَشْهَدَ عَلَيْهِ مُعْتَبَرٌ، وَبِنَصِيبِ مَنْ لَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهِ هَدَرٌ، فَكَانَا قِسْمَيْنِ فَانْقَسَمَ نِصْفَيْنِ كَمَا مَرَّ فِي عَقْرِ الْأَسَدِ وَنَهْشِ الْحَيَّةِ وَجَرْحِ الرَّجُلِ.
وَلَهُ أَنَّ الْمَوْتَ حَصَلَ بِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ الثِّقَلُ الْمُقَدَّرُ وَالْعُمْقُ الْمُقَدَّرُ، لِأَنَّ أَصْلَ ذَلِكَ لَيْسَ بِعِلَّةٍ وَهُوَ الْقَلِيلُ حَتَّى يُعْتَبَرُ كُلُّ جُزْءٍ عِلَّةً فَتَجْتَمِعُ الْعِلَلُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يُضَافُ إلَى الْعِلَّةِ الْوَاحِدَةِ ثُمَّ تُقْسَمُ عَلَى أَرْبَابِهَا بِقَدْرِ الْمِلْكِ، بِخِلَافِ الْجِرَاحَاتِ فَإِنَّ كُلَّ جِرَاحَةٍ عِلَّةٌ لِلتَّلَفِ بِنَفْسِهَا صَغُرَتْ أَوْ كَبِرَتْ عَلَى مَا عُرِفَ، إلَّا أَنَّ عِنْدَ الْمُزَاحِمَةِ أُضِيفَ إلَى الْكُلِّ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (فَعَلَيْهِ) أَيْ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ حَافِرِ الْبِئْرِ وَبَانِي الْحَائِطِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَهُ) أَيْ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْمَوْتَ حَصَلَ بِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ الثِّقَلُ الْمُقَدَّرُ: يَعْنِي فِي الْحَائِطِ، وَالْعُمْقُ الْمُقَدَّرُ: يَعْنِي فِي الْبِئْرِ (لِأَنَّ أَصْلَ ذَلِكَ) أَيْ أَصْلَ الثِّقَلِ وَالْعُمْقِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} (وَهُوَ الْقَلِيلُ) أَيْ ذَلِكَ الْأَصْلُ: يَعْنِي أَنَّ الْجُزْءَ الْيَسِيرَ لَيْسَ بِمُهْلِكٍ (حَتَّى يُعْتَبَرَ كُلُّ جُزْءٍ عِلَّةً فَتَجْتَمِعُ الْعِلَلُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يُضَافُ إلَى الْعِلَّةِ الْوَاحِدَةِ ثُمَّ تُقْسَمُ عَلَى أَرْبَابِهَا بِقَدْرِ الْمِلْكِ) أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَشْهَدَ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا ثُمَّ سَقَطَ عَلَى إنْسَانٍ كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خُمُسُ الدِّيَةِ فَيُتْرَكُ الْإِشْهَادُ فِي حَقِّ الْبَاقِينَ لَا يَزْدَادُ الْوَاجِبُ عَلَى مَنْ أَشْهَدَ عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا تَخْرُجُ مَسْأَلَةُ الْبِئْرِ فَيُقَالُ لَهُمَا اجْتَمَعَ فِي حَقِّهِ مَعْنَيَانِ.
أَحَدُهُمَا مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ وَهُوَ التَّعَدِّي بِالْحَفْرِ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، وَالْآخَرُ مَانِعٌ عَنْهُ وَهُوَ عَدَمُ التَّعَدِّي مِنْ حَيْثُ الْحَفْرُ فِي مِلْكِهِ فَيُجْعَلُ الْمُعْتَبَرُ جِنْسًا وَالْمُهْدَرُ جِنْسًا فَيَلْزَمُهُ نِصْفُ الضَّمَانِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ صِفَةَ التَّعَدِّي تَحَقَّقَتْ فِي الثُّلُثَيْنِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ الثُّلُثَيْنِ.
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الْجِرَاحَاتِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا كَمَا مَرَّ فِي عَقْرِ الْأَسَدِ وَنَهْشِ الْحَيَّةِ وَجَرْحِ الرَّجُلِ.
وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنَّ عِنْدَ الْمُزَاحَمَةِ أُضِيفَ إلَى الْكُلِّ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ) يُضَافُ إلَيْهِ وَإِذَا أُضِيفَ إلَى الْكُلِّ وَبَعْضُهَا مُعْتَبَرٌ فِي إضَافَةِ الضَّمَانِ إلَيْهِ وَبَعْضُهَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَجُعِلَ غَيْرُ الْمُعْتَبَرِ شَيْئًا وَاحِدًا وَإِنْ تَعَدَّدَ فَلِذَلِكَ صَارَ الضَّمَانُ نِصْفَيْنِ فَاعْتُبِرَ أَحَدُهُمَا وَأُهْدِرَ الْآخِرُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

.(بَابُ جِنَايَةِ الْبَهِيمَةِ وَالْجِنَايَةِ عَلَيْهَا):

قَالَ (الرَّاكِبُ ضَامِنٌ لِمَا أَوْطَأَتْ الدَّابَّةُ مَا أَصَابَتْ بِيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا أَوْ رَأْسِهَا أَوْ كَدَمَتْ أَوْ خَبَطَتْ، وَكَذَا إذَا صَدَمَتْ وَلَا يَضْمَنُ مَا نَفَحَتْ بِرِجْلِهَا أَوْ ذَنَبِهَا) وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُرُورَ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ مُبَاحٌ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ لِأَنَّهُ يُتَصَرَّفُ فِي حَقِّهِ مِنْ وَجْهٍ وَفِي حَقِّ غَيْرِهِ مِنْ وَجْهٍ لِكَوْنِهِ مُشْتَرَكًا بَيْنَ كُلِّ النَّاسِ فَقُلْنَا بِالْإِبَاحَةِ مُقَيَّدًا بِمَا ذَكَرْنَا لِيَعْتَدِلَ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، ثُمَّ إنَّمَا يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ فِيمَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ وَلَا يَتَقَيَّدُ بِهَا فِيمَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَنْعِ عَنْ التَّصَرُّفِ وَسَدِّ بَابِهِ وَهُوَ مَفْتُوحٌ، وَالِاحْتِرَازُ عَنْ الْإِيطَاءِ وَمَا يُضَاهِيهِ مُمْكِنٌ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَاتِ التَّيْسِيرِ فَقَيَّدْنَاهُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ عَنْهُ، وَالنَّفْحَةُ بِالرِّجْلِ وَالذَّنَبِ لَيْسَ يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ مَعَ السَّيْرِ عَلَى الدَّابَّةِ فَلَمْ يَتَقَيَّدْ بِهِ (فَإِنْ أَوْقَفَهَا فِي الطَّرِيقِ ضَمِنَ النَّفْحَةَ أَيْضًا) لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَنْ الْإِيقَافِ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ عَنْ النَّفْحَةِ فَصَارَ مُتَعَدِّيًا فِي الْإِيقَافِ وَشَغْلِ الطَّرِيقِ بِهِ فَيَضْمَنُهُ.
قَالَ (وَإِنْ أَصَابَتْ بِيَدِهَا أَوْ بِرِجْلِهَا حَصَاةً أَوْ نَوَاةً أَوْ أَثَارَتْ غُبَارًا أَوْ حَجَرًا صَغِيرًا فَفَقَأَ عَيْنَ إنْسَانٍ أَوْ أَفْسَدَ ثَوْبَهُ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ كَانَ حَجَرًا كَبِيرًا ضَمِنَ) لِأَنَّهُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ، إذْ سَيْرُ الدَّوَابِّ لَا يَعْرَى عَنْهُ، وَفِي الثَّانِي مُمْكِنٌ لِأَنَّهُ يَنْفَكُّ عَنْ السَّيْرِ عَادَةً، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِتَعْنِيفِ الرَّاكِبِ، وَالْمُرْتَدِفُ فِيمَا ذَكَرْنَا كَالرَّاكِبِ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا يَخْتَلِفُ.
قَالَ (فَإِنْ رَاثَتْ أَوْ بَالَتْ فِي الطَّرِيقِ وَهِيَ تَسِيرُ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ لَمْ يَضْمَنْ) لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِ السَّيْرِ فَلَا يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ (وَكَذَا إذَا أَوْقَفَهَا لِذَلِكَ) لِأَنَّ مِنْ الدَّوَابِّ مَا لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا بِالْإِيقَافِ، وَإِنْ أَوْقَفَهَا لِغَيْرِ ذَلِكَ فَعَطِبَ إنْسَانٌ بِرَوْثِهَا أَوْ بَوْلِهَا ضَمِنَ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا الْإِيقَافِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَاتِ السَّيْرِ، ثُمَّ هُوَ أَكْثَرُ ضَرَرًا بِالْمَارَّةِ مِنْ السَّيْرِ لِمَا أَنَّهُ أَدْوَمُ مِنْهُ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ (وَالسَّائِقُ ضَامِنٌ لِمَا أَصَابَتْ بِيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا وَالْقَائِدُ ضَامِنٌ لِمَا أَصَابَتْ بِيَدِهَا دُونَ رِجْلِهَا) وَالْمُرَادُ النَّفْحَةُ.
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَكَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ، وَإِلَيْهِ مَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ النَّفْحَةَ بِمَرْأَى عَيْنِ السَّائِقِ فَيُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ وَغَائِبٌ عَنْ بَصَرِ الْقَائِدِ فَلَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ.
وَقَالَ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ: إنَّ السَّائِقَ لَا يَضْمَنُ النَّفْحَةَ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ يَرَاهَا، إذْ لَيْسَ عَلَى رِجْلِهَا مَا يَمْنَعُهَا بِهِ فَلَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ، بِخِلَافِ الْكَدْمِ لِإِمْكَانِهِ كَبْحَهَا بِلِجَامِهَا.
وَبِهَذَا يَنْطِقُ أَكْثَرُ النُّسَخِ وَهُوَ الْأَصَحُّ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَضْمَنُونَ النَّفْحَةَ كُلُّهُمْ لِأَنَّ فِعْلَهَا مُضَافٌ إلَيْهِمْ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَقَوْلُهُ (عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الرِّجْلُ جُبَارٌ») وَمَعْنَاهُ النَّفْحَةُ بِالرِّجْلِ، وَانْتِقَالُ الْفِعْلِ بِتَخْوِيفِ الْقَتْلِ كَمَا فِي الْمُكْرَهِ وَهَذَا تَخْوِيفٌ بِالضَّرْبِ.
قَالَ (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَكُلُّ شَيْءٍ ضَمِنَهُ الرَّاكِبُ ضَمِنَهُ السَّائِقُ وَالْقَائِدُ) لِأَنَّهُمَا مُسَبِّبَانِ بِمُبَاشَرَتِهِمَا شَرْطَ التَّلَفِ وَهُوَ تَقْرِيبُ الدَّابَّةِ إلَى مَكَانِ الْجِنَايَةِ فَيَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ فِيمَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ كَالرَّاكِبِ (إلَّا أَنَّ عَلَى الرَّاكِبِ الْكَفَّارَةَ) فِيمَا أَوْطَأْتُهُ الدَّابَّةُ بِيَدِهَا أَوْ بِرِجْلِهَا (وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا) وَلَا عَلَى الرَّاكِبِ فِيمَا وَرَاءَ الْإِبْطَاءِ، لِأَنَّ الرَّاكِبَ مُبَاشِرٌ فِيهِ لِأَنَّ التَّلَفَ بِثِقَلِهِ وَثِقَلِ الدَّابَّةِ تَبَعٌ لَهُ، لِأَنَّ سَيْرَ الدَّابَّةِ مُضَافٌ إلَيْهِ وَهِيَ آلَةٌ لَهُ وَهُمَا مُسَبَّبَانِ لِأَنَّهُ لَا يَتَّصِلُ مِنْهُمَا إلَى الْمَحَلِّ شَيْءٌ، وَكَذَا الرَّاكِبُ فِي غَيْرِ الْإِيطَاءِ، وَالْكَفَّارَةُ حُكْمُ الْمُبَاشَرَةِ لَا حُكْمُ التَّسَبُّبِ، وَكَذَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِيطَاءِ فِي حَقِّ الرَّاكِبِ حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ دُونَ السَّائِقِ وَالْقَائِدِ لِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْمُبَاشَرَةِ (وَلَوْ كَانَ رَاكِبٌ وَسَائِقٌ قِيلَ: لَا يَضْمَنُ السَّائِقُ مَا أَوْطَأَتْ الدَّابَّةُ) لِأَنَّ الرَّاكِبَ مُبَاشِرٌ فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَالسَّائِقُ مُسَبِّبٌ، وَالْإِضَافَةُ إلَى الْمُبَاشِرِ أَوْلَى.
وَقِيلَ: الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ سَبَبُ الضَّمَانِ.
الشَّرْحُ:
(بَابُ جِنَايَةِ الْبَهِيمَةِ) ذَكَرَ جِنَايَةَ الْبَهِيمَةِ وَالْجِنَايَةَ عَلَيْهَا عَقِيبَ جِنَايَةِ الْإِنْسَانِ وَالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ فِي بَابٍ عَلَى حِدَةٍ مِمَّا لَا يَحْتَاجُ إلَى بَيَانٍ.
وَقَوْلُهُ (لَمَّا أَوْطَأَتْ الدَّابَّةُ) الصَّحِيحُ: لَمَّا وَطِئَتْ الدَّابَّةُ.
وَقِيلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولَا الْإِيطَاءِ مَحْذُوفَيْنِ، وَتَقْدِيرُهُ: أَوْطَأَتْ الدَّابَّةُ يَدَهَا أَوْ رِجْلَهَا إنْسَانًا فَيَكُونُ مِنْ بَابِ فُلَانٌ يُعْطِي.
وَقَوْلُهُ (مَا أَصَابَتْ) بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ لَمَّا أَوْطَأَتْ الدَّابَّةُ، وَالْكَدْمُ: الْعَضُّ بِمُقْدِمِ الْأَسْنَانِ.
وَالْخَبْطُ: الضَّرْبُ بِالْيَدِ.
وَالصَّدْمُ: هُوَ أَنْ تَضْرِبَ الشَّيْءَ بِجَسَدِك، وَمِنْهُ اصْطَدَمَ الْفَارِسَانِ إذَا ضَرَبَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ بِنَفْسِهِ وَيُقَالُ نَفَحَتْ الدَّابَّةُ الشَّيْءَ إذَا ضَرَبَتْهُ بِحَدِّ حَافِرِهَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ جِنَايَةَ الدَّابَّةِ لَا تَخْلُو مِنْ أَوْجُهٍ ثَلَاثَةٍ: لِأَنَّهَا إمَّا أَنْ تَكُونَ فِي مِلْكِ صَاحِبِهَا، أَوْ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، أَوْ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَتْ فِي مِلْكِ صَاحِبِهَا مِلْكًا كَامِلًا أَوْ مُشْتَرَكًا مُتَسَاوِيًا أَوْ مُتَفَاضِلًا؛ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهَا مَعَهَا أَوْ لَا يَكُونُ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَمْ يَضْمَنْ صَاحِبُهَا وَاقِفَةً كَانَتْ الدَّابَّةُ أَوْ سَائِرَةً وَطِئَتْ بِيَدِهَا أَوْ بِرِجْلِهَا أَوْ نَفَحَتْ أَوْ كَدَمَتْ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ سَائِقًا لَهَا أَوْ قَائِدًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ رَاكِبًا عَلَيْهَا أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ يَضْمَنْ صَاحِبُهَا فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا أَتْلَفَتْ نَفْسًا أَوْ مَالًا، لِأَنَّ صَاحِبَهَا فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ مُتَسَبِّبٌ لِاتِّصَالِ أَثَرِ فِعْلِهِ بِالْمُتْلَفِ بِوَاسِطَةِ فِعْلِ مُخْتَارٍ وَهُوَ الدَّابَّةُ، وَالْمُتَسَبِّبُ إنَّمَا يَضْمَنُ إذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا، وَلَا تَعَدِّيَ فِي إيقَافِ الدَّابَّةِ أَوْ تَسْيِيرِهَا فِي مِلْكِهِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي وَهُوَ يَسِيرُ فَإِنْ وَطِئَتْ بِيَدِهَا أَوْ بِرِجْلِهَا ضَمِنَ، وَإِنْ كَدَمَتْ أَوْ نَفَحَتْ بِيَدِهَا أَوْ بِرِجْلِهَا أَوْ ضَرَبَتْ بِذَنَبِهَا فَلَا ضَمَانَ لِأَنَّ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ صَاحِبُ الدَّابَّةِ مُبَاشِرٌ لِلْإِتْلَافِ لِأَنَّ ثِقَلَهُ وَثِقَلَ الدَّابَّةِ اتَّصَلَا بِالْمُتْلَفِ فَكَأَنَّهُمَا وَطِئَا جَمِيعًا، الْمُبَاشِرُ ضَامِنٌ مُتَعَدِّيًا كَانَ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَفِي الثَّانِي مُتَسَبِّبٌ غَيْرَ مُتَعَدٍّ وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ فِي مِلْكِ غَيْرِ صَاحِبِهَا، فَإِمَّا أَنْ أَدْخَلَهَا صَاحِبُهَا فِيهِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَسَبِّبٍ وَلَا مُبَاشِرٍ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ عَلَى كُلِّ حَالٍ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهَا سَائِقُهَا أَوْ قَائِدُهَا أَوْ لَا وَاقِفَةً أَوْ سَائِرَةً، لِأَنَّ صَاحِبَهَا إمَّا مُبَاشِرٌ أَوْ مُتَسَبِّبٌ مُتَعَدٍّ، إذْ لَيْسَ لَهُ إيقَافُ الدَّابَّةِ وَتَسْيِيرُهَا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ أَوْقَفَهَا صَاحِبُهَا فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا تَلِفَ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا لِأَنَّهُ بِالْإِيقَافِ مُتَسَبِّبٌ مُتَعَدٍّ، إذْ لَيْسَ لَهُ شَغْلُ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ بِإِيقَافِ الدَّابَّةِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَتْ سَائِرَةً، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهَا مَعَهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَأَمَّا إنْ سَارَتْ بِإِرْسَالِهِ أَوْ انْفَلَتَتْ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ ضَمِنَ مَا أَتْلَفَتْ مَا لَمْ تَتَحَوَّلْ عَنْ جِهَةِ الْإِرْسَالِ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً لِأَنَّ إرْسَالَهَا بِلَا حَافِظٍ سَبَبٌ لِلْإِتْلَافِ وَهُوَ فِيهِ مُتَعَدٍّ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا مَعَهَا ضَمِنَ مَا أَتْلَفَتْ رَاكِبًا كَانَ أَوْ سَائِقًا أَوْ قَائِدًا إلَّا النَّفْحَةَ بِالرِّجْلِ أَوْ الذَّنَبِ لِأَنَّهُ مُبَاشِرٌ أَوْ مُتَسَبِّبٌ مُتَعَدٍّ.
وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْإِسْهَابِ بَيَانُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ: الرَّاكِبُ ضَامِنٌ لِمَا أَوْطَأَتْ الدَّابَّةُ، إلَى قَوْلِهِ: وَكَذَا إذَا صَدَمَتْ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَكُنْ الرَّاكِبُ فِي مِلْكِهِ، لِأَنَّ هَذَا الْجَوَابَ إنْ اسْتَقَامَ فِي قَوْلِهِ مَا أَصَابَتْ بِيَدِهَا أَوْ بِرِجْلِهَا لَا يَسْتَقِيمُ فِي قَوْلِهِ أَوْ كَدَمَتْ أَوْ خَبَطَتْ أَوْ صَدَمَتْ فِيمَا إذَا كَانَ فِي مِلْكِهِ عَلَى مَا مَرَّ آنِفًا، وَذَكَرَ الْأَصْلَ الَّذِي يَنُبْنِي عَلَيْهِ هَذِهِ الْفُرُوعُ فَقَالَ (وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُرُورَ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ مُبَاحٌ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي حَقِّهِ مِنْ وَجْهٍ وَفِي حَقِّ غَيْرِهِ مِنْ وَجْهٍ لِكَوْنِهِ مُشْتَرَكًا بَيْنَ كُلِّ النَّاسِ) أَمَّا أَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي حَقِّهِ فَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ لابد لَهُ مِنْ طَرِيقٍ يَمْشِي فِيهِ لِتَرْتِيبِ مُهِمَّاتِهِ، فَالْحَجْرُ عَنْ ذَلِكَ حَرَجٌ وَهُوَ مَدْفُوعٌ.
وَأَمَّا أَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَلِأَنَّ غَيْرَهُ فِيهِ كَهُوَ فِي الِاحْتِيَاجِ، فَبِالنَّظَرِ إلَى حَقِّهِ يَسْتَدْعِي الْإِبَاحَةَ مُطْلَقًا، وَبِالنَّظَرِ إلَى حَقِّ غَيْرِهِ يَسْتَدْعِي الْحَجْرَ مُطْلَقًا، فَقُلْنَا بِإِبَاحَةٍ مُقَيَّدَةٍ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ عَمَلًا بِالْوَجْهَيْنِ وَبَقِيَّةُ كَلَامِهِ وَاضِحَةٌ.
وَقَوْلُهُ (وَالْمُرْتَدِفُ فِيمَا ذَكَرْنَا) يَعْنِي فِي مُوجَبِ الْجِنَايَةِ (كَالرَّاكِبِ لِأَنَّ الْمَعْنَى) أَيْ الْمَعْنَى الْمُوجِبَ وَهُوَ الْمُبَاشَرَةُ وَالتَّصَرُّفُ فِي الدَّابَّةِ بِالتَّسْيِيرِ عَلَى مَا أَرَادَ (لَا يَخْتَلِفُ) لِأَنَّهَا فِي أَيْدِيهِمْ وَتَحْتَ تَصَرُّفِهِمْ.
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ هُوَ) يَعْنِي الْإِيقَافَ (أَكْثَرُ ضَرَرًا بِالْمَارَّةِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ: سَلَّمْنَا أَنَّ الْإِيقَافَ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَاتِ السَّيْرِ لَكِنَّهُ مِثْلُهُ فِي كَوْنِهِ تَصَرُّفًا فِي الدَّابَّةِ فَلْيَلْتَحِقْ بِهِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ أَضَرُّ مِنْهُ (لِمَا أَنَّهُ) أَيْ الْإِيقَافَ (أَدْوَمُ مِنْ السَّيْرِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ) وَقَوْلُهُ (وَالسَّائِقُ ضَامِنٌ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ الرَّاكِبِ بَيَّنَ أَحْكَامَ السَّائِقِ وَالْقَائِدِ، وَقَوْلُهُ (وَالْمُرَادُ النَّفْحَةُ) أَيْ مِنْ قَوْلِهِ لِمَا أَصَابَتْ بِيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا، وَإِنَّمَا فَسَّرَ بِذَلِكَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْوَطْءُ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى السَّائِقِ وَالْقَائِدِ بِلَا خِلَافٍ لِأَحَدٍ فِيهِ.
وَقَوْلُهُ (وَإِلَيْهِ مَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ) يَعْنِي الْعِرَاقِيِّينَ.
وَقَوْلُهُ (فَيُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ) يَعْنِي بِإِبْعَادِ الدَّابَّةِ عَنْ الْمُتْلَفِ أَوْ بِإِبْعَادِهِ عَنْهَا.
وَقَوْلُهُ (وَقَالَ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ) يُرِيدُ مَشَايِخَ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَقَوْلُهُ (مَا ذَكَرْنَاهُ) يَعْنِي قَوْلَهُ فَلَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ.
وَقَوْلُهُ (عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الرِّجْلُ جُبَارٌ») مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ.
وَمَعْنَى جُبَارٌ: هَدَرٌ وَمَعْنَاهُ النَّفْحَةُ بِالرِّجْلِ لِأَنَّ الْوَطْءَ مَضْمُونٌ بِالْإِجْمَاعِ.
وَقَوْلُهُ (وَانْتِقَالُ الْفِعْلِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ فِعْلَهَا مُضَافٌ إلَيْهِمْ: يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْإِكْرَاهِ، وَلَا يَكَادُ يَصِحُّ لِأَنَّ هُنَاكَ الِانْتِقَالَ بِتَخْوِيفِ الْقَتْلِ وَهُنَا تَخْوِيفٌ بِالضَّرْبِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ، قِيلَ وَفِيهِ ضَعْفٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ قِيَاسًا عَلَى الْإِكْرَاهِ، وَإِنَّمَا قَالَ بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ سَيْرَ الدَّابَّةِ مُضَافٌ إلَى رَاكِبِهَا وَلَا كَلَامَ فِيهِ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي النَّفْحَةِ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَخْلُو عَنْ ضَعْفٍ.
وَالْجَوَابُ الْقَوِيُّ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَقَوْلُهُ (عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الرِّجْلُ جُبَارٌ») وَأَتَى بِرِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الضَّابِطِ الْكُلِّيِّ وَبَيَانِ الْكَفَّارَةِ.
وَقَوْلُهُ (لِمَا ذَكَرْنَاهُ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ التَّلَفَ بِثِقَلِهِ.
وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا ذَكَرْنَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ لَا يَتَّصِلُ مِنْهُمَا إلَى الْمَحَلِّ شَيْءٌ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ سَبَبُ الضَّمَانِ) يَعْنِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ عَامِلٌ فِي الْإِتْلَافِ فَإِنَّ السَّوْقَ لَوْ انْفَرَدَ عَنْ الرُّكُوبِ أَوْجَبَ ضَمَانَ مَا أَتْلَفَتْ بِالْوَطْءِ، وَكَذَلِكَ الرُّكُوبُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُضَافَ عَمَلُ السَّوْقِ فِي الْإِتْلَافِ إلَى الرُّكُوبِ، بَلْ كَانَ التَّلَفُ مُضَافًا إلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ، وَالْمُسَبِّبُ إنَّمَا لَا يَضْمَنُ مَعَ الْمُبَاشِرِ إذَا كَانَ سَبَبًا لَا يَعْمَلُ فِي التَّلَفِ عِنْدَ انْفِرَادِهِ، كَالْحَفْرِ فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ التَّلَفَ مُنْفَرِدًا عَنْ الدَّفْعِ الَّذِي هُوَ مُبَاشَرَةٌ، وَتَذَكَّرْ تَخْصِيصَ الْعِلَلِ وَمُخَلِّصَهُ فَإِنَّهُ مِنْ مَظَانِّهِ قَالَ (وَإِذَا اصْطَدَمَ فَارِسَانِ فَمَاتَا فَعَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دِيَةُ الْآخَرِ) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: يَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ دِيَةِ الْآخَرِ لِمَا رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَاتَ بِفِعْلِهِ وَفِعْلِ صَاحِبِهِ، لِأَنَّهُ بِصَدْمَتِهِ آلَمَ نَفْسَهُ وَصَاحِبَهُ فَيُهْدَرُ نِصْفُهُ وَيُعْتَبَرُ نِصْفُهُ، كَمَا إذَا كَانَ الِاصْطِدَامُ عَمْدًا، أَوْ جَرَحَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَفْسَهُ وَصَاحِبَهُ جِرَاحَةً أَوْ حَفَرَا عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ بِئْرًا فَانْهَارَ عَلَيْهِمَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفُ فَكَذَا هَذَا.
وَلَنَا أَنَّ الْمَوْتَ يُضَافُ إلَى فِعْلِ صَاحِبِهِ لِأَنَّ فِعْلَهُ فِي نَفْسِهِ مُبَاحٌ وَهُوَ الْمَشْيُ فِي الطَّرِيقِ فَلَا يَصْلُحُ مُسْتَنَدًا لِلْإِضَافَةِ فِي حَقِّ الضَّمَانِ، كَالْمَاشِي إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِالْبِئْرِ وَوَقَعَ فِيهَا لَا يُهْدَرُ شَيْءٌ مِنْ دَمِهِ، وَفِعْلُ صَاحِبِهِ وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا، لَكِنَّ الْفِعْلَ الْمُبَاحَ فِي غَيْرِهِ سَبَبٌ لِلضَّمَانِ كَالنَّائِمِ إذَا انْقَلَبَ عَلَى غَيْرِهِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كُلَّ الدِّيَةِ فَتَعَارَضَتْ رِوَايَتَاهُ فَرَجَّحْنَا بِمَا ذَكَرْنَا، وَفِيمَا ذُكِرَ مِنْ الْمَسَائِلِ الْفِعْلَانِ مَحْظُورَانِ فَوَضَحَ الْفَرْقُ.
هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا كَانَا حُرَّيْنِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ، وَلَوْ كَانَا عَبْدَيْنِ يَهْدُرُ الدَّمُ فِي الْخَطَإِ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ تَعَلَّقَتْ بِرَقَبَتِهِ دَفْعًا وَفِدَاءً، وَقَدْ فَاتَتْ لَا إلَى خُلْفٍ مِنْ غَيْرِ فِعْلِ الْمَوْلَى فَهُدِرَ ضَرُورَةً، وَكَذَا فِي الْعَمْدِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هَلَكَ بَعْدَمَا جَنَى وَلَمْ يَخْلُفْ بَدَلًا، وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا حُرًّا وَالْآخَرُ عَبْدًا فَفِي الْخَطَإِ تَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ الْحُرِّ الْمَقْتُولِ قِيمَةُ الْعَبْدِ فَيَأْخُذُهَا وَرَثَةُ الْمَقْتُولِ الْحُرِّ، وَيَبْطُلُ حَقُّ الْحُرِّ الْمَقْتُولِ فِي الدِّيَةِ فِيمَا زَادَ عَلَى الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ تَجِبُ الْقِيمَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِأَنَّهُ ضَمَانُ الْآدَمِيِّ فَقَدْ أَخْلَفَ بَدَلًا بِهَذَا الْقَدْرِ فَيَأْخُذُهُ وَرَثَةُ الْحُرِّ الْمَقْتُولِ وَيَبْطُلُ مَا زَادَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الْخُلْفِ، وَفِي الْعَمْدِ يَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ الْحُرِّ نِصْفُ قِيمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ هُوَ النِّصْفُ فِي الْعَمْدِ، وَهَذَا الْقَدْرُ يَأْخُذُهُ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ، وَمَا عَلَى الْعَبْدِ فِي رَقَبَتِهِ وَهُوَ نِصْفُ دِيَةِ الْحُرِّ يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ إلَّا قَدْرَ مَا أَخْلَفَ مِنْ الْبَدَلِ وَهُوَ نِصْفُ الْقِيمَةِ.
الشَّرْحُ:

وَقَالَ (إذَا اصْطَدَمَ فَارِسَانِ إلَخْ) أَيْ ضَرَبَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ بِنَفْسِهِ، وَحُكْمُ الْمَاشِيَيْنِ حُكْمُ الْفَارِسَيْنِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ مَوْتُ الْمُصْطَدِمَيْنِ غَالِبًا فِي الْفَارِسَيْنِ خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ، وَمَا ذَكَرَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَجْهُ الْقِيَاسِ، وَمَا قُلْنَا وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَتَعَارَضَتْ رِوَايَتَاهُ فَرَجَّحْنَا قَوْلَنَا بِمَا ذَكَرْنَاهُ: يَعْنِي قَوْلَهُ لِأَنَّ فِعْلَهُ فِي نَفْسِهِ مُبَاحٌ وَهُوَ الْمَشْيُ فِي الطَّرِيقِ إلَخْ، وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْخَصْمَ أَيْضًا تَرَجَّحَ جَانِبُهُ بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمَعْنَى فَتَعَارَضَتْ جِهَتَا التَّرْجِيحِ.
وَالثَّانِي أَنَّ مَا ذُكِرَ ثَمَّ قِيَاسٌ، وَالْقِيَاسُ يَصْلُحُ حُجَّةً، وَمَا صَلَحَ حُجَّةً لَمْ يَصْلُحْ مُرَجِّحًا.
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مَنْقُوضٌ بِالْوَاقِعِ فِي الْبِئْرِ بِمَشْيِهِ فَيَكُونُ فَاسِدًا، وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ الْقِيَاسَ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً.
وَقَوْلُهُ (وَفِيمَا ذُكِرَ) جَوَابٌ عَنْ الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي جِهَتِهِمَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَمَّا كَانَ مَحْظُورًا كَانَ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ، وَلَكِنْ لَمْ يَظْهَرْ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فَسَقَطَ إيجَابُهُ الضَّمَانَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَاعْتُبِرَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَلِذَلِكَ وَجَبَ عَلَى عَاقِلَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ، وَأَمَّا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَالْمَشْيُ مُبَاحٌ مَحْضٌ فَلَمْ يَنْعَقِدْ مُوجَبًا لِلضَّمَانِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ أَصْلًا فَكَانَ صَاحِبُهُ قَاتِلًا لَهُ مِنْ غَيْرِ مُعَارَضَةِ أَحَدٍ لَهُ فِي قَتْلِهِ، فَيَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا تَمَامُ دِيَةِ الْآخَرِ، كَمَنْ مَشَى حَتَّى سَقَطَ فِي الْبِئْرِ ضَمِنَ الْحَافِرُ وَإِنْ كَانَ السُّقُوطُ بِالْحَفْرِ وَالْمَشْيِ جَمِيعًا، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمَشْيُ مُبَاحًا لَمْ يُعْتَبَرْ.
وَقَوْلُهُ (هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا كَانَا حُرَّيْنِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ) أَيْ وُجُوبُ تَنْصِيفِ الدِّيَةِ فِي الْعَمْدِ عَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَفِي الْخَطَأِ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ عَلَى مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ، إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ الْخَطَأَ فِي وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ وَالْعَمْدَ فِي بَيَانِ قَوْلِ الْخَصْمِ.
وَقَوْلُهُ (فَيَأْخُذُهَا) أَيْ قِيمَةَ الْعَبْدِ وَرَثَةُ الْمَقْتُولِ الْحُرِّ، قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ تَسْقُطَ عَنْ الْعَاقِلَةِ لِأَنَّ الدِّيَةَ أَوَّلًا تَثْبُتُ لِلْمَيِّتِ لَا مَحَالَةَ وَالْوَرَثَةُ يَخْلُفُونَهُ وَالْعَاقِلَةُ يَتَحَمَّلُونَ هَاهُنَا مُوجَبَ جِنَايَتِهِ، فَلَمَّا مَلَكَ الْمَيِّتُ مَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ سَقَطَ عَنْهُمْ، كَمَا قُلْنَا فِي امْرَأَةٍ قَطَعَتْ يَدَ رَجُلٍ خَطَأً فَتَزَوَّجَهَا عَلَى الْيَدِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهُ فَإِنَّ الدِّيَةَ تَصِيرُ مَهْرًا وَتَسْقُطُ عَنْ الْعَاقِلَةِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ السُّقُوطَ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا إذَا كَانَ الرَّاجِعُ هُوَ الْجَانِي وَهَاهُنَا الرَّاجِعُ وَارِثُهُ فَبِالنَّظَرِ إلَى أَنَّ الْمُسْتَحِقَّ أَوَّلًا هُوَ الْجَانِي يَسْقُطُ وَبِالنَّظَرِ إلَى أَنَّ الرَّاجِعَ غَيْرُهُ لَا يَسْقُطُ فَلَا يَسْقُطُ بِالشَّكِّ، وَالْبَاقِي وَاضِحٌ. قَالَ (وَمَنْ سَاقَ دَابَّةً فَوَقَعَ السَّرْجُ عَلَى رَجُلٍ فَقَتَلَهُ ضَمِنَ، وَكَذَا عَلَى هَذَا سَائِرُ أَدَوَاتِهِ كَاللِّجَامِ وَنَحْوِهِ، وَكَذَا مَا يَحْمِلُ عَلَيْهَا) لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا التَّسْبِيبِ، لِأَنَّ الْوُقُوعَ بِتَقْصِيرٍ مِنْهُ وَهُوَ تَرْكُ الشَّدِّ أَوْ الْإِحْكَامِ فِيهِ، بِخِلَافِ الرِّدَاءِ لِأَنَّهُ لَا يُشَدُّ فِي الْعَادَةِ، وَلِأَنَّهُ قَاصِدٌ لِحِفْظِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَمَا فِي الْمَحْمُولِ عَلَى عَاتِقِهِ دُونَ اللِّبَاسِ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ فَيُقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ قَاصِدٌ لِحِفْظِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ) يَعْنِي السَّرْجَ وَسَائِرَ الْأَدَوَاتِ كَمَا فِي الْمَحْمُولِ عَلَى عَاتِقِهِ إذَا وَقَعَ عَلَى شَيْءٍ فَأَتْلَفَهُ فَإِنَّهُ يَجِبُ الضَّمَانُ، بِخِلَافِ اللِّبَاسِ فَإِنَّهُ لَا يَقْصِدُ حِفْظَهُ.
وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ) أَيْ فِي بَابِ مَا يُحْدِثُهُ الرَّجُلُ فِي الطَّرِيقِ. قَالَ (وَمَنْ قَادَ قِطَارًا فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَوْطَأَ)، فَإِنْ وَطِئَ بَعِيرٌ إنْسَانًا ضَمِنَ بِهِ الْقَائِدُ وَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِأَنَّ الْقَائِدَ عَلَيْهِ حِفْظُ الْقِطَارِ كَالسَّائِقِ وَقَدْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ وَقَدْ صَارَ مُتَعَدِّيًا بِالتَّقْصِيرِ فِيهِ، وَالتَّسَبُّبِ بِوَصْفِ التَّعَدِّي سَبَبٌ لِلضَّمَانِ، إلَّا أَنَّ ضَمَانَ النَّفْسِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِيهِ وَضَمَانُ الْمَالِ فِي مَالِهِ (وَإِنْ كَانَ مَعَهُ سَائِقٌ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا) لِأَنَّ قَائِدَ الْوَاحِدِ قَائِدٌ لِلْكُلِّ، وَكَذَا سَائِقُهُ لِاتِّصَالِ الْأَزِمَّةِ، وَهَذَا إذَا كَانَ السَّائِقُ فِي جَانِبٍ مِنْ الْإِبِلِ، أَمَّا إذَا كَانَ تَوَسَّطَهَا وَأَخَذَ بِزِمَامٍ وَاحِدٍ يَضْمَنُ مَا عَطِبَ بِمَا هُوَ خَلْفَهُ، وَيَضْمَنَانِ مَا تَلِفَ بِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ لِأَنَّ الْقَائِدَ لَا يَقُودُ مَا خَلْفَ السَّائِقِ لِانْفِصَامِ الزِّمَامِ، وَالسَّائِقُ يَسُوقُ مَا يَكُونُ قُدَّامَهُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ قَادَ قِطَارًا) الْقِطَارُ: الْإِبِلُ تُقْطَرُ عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ وَالْجَمْعُ قُطُرٌ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ. قَالَ (وَإِنْ رَبَطَ رَجُلٌ بَعِيرًا إلَى الْقِطَارِ وَالْقَائِدُ لَا يَعْلَمُ فَوَطِئَ الْمَرْبُوطُ إنْسَانًا فَقَتَلَهُ فَعَلَى عَاقِلَةِ الْقَائِدِ الدِّيَةُ) لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ صِيَانَةُ الْقِطَارِ عَنْ رَبْطِ غَيْرِهِ، فَإِذَا تَرَكَ الصِّيَانَةَ صَارَ مُتَعَدِّيًا، وَفِي التَّسْبِيبِ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ كَمَا فِي الْقَتْلِ الْخَطَإِ (ثُمَّ يَرْجِعُونَ بِهَا عَلَى عَاقِلَةِ الرَّابِطِ) لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَهُمْ فِي هَذِهِ الْعُهْدَةِ، وَإِنَّمَا لَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا فِي الِابْتِدَاءِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُسَبِّبٌ لِأَنَّ الرَّبْطَ مِنْ الْقَوْدِ بِمَنْزِلَةِ التَّسَيُّبِ مِنْ الْمُبَاشَرَةِ لِاتِّصَالِ التَّلَفِ بِالْقَوْدِ دُونَ الرَّبْطِ.
قَالُوا: هَذَا إذَا رَبَطَ وَالْقِطَارُ يَسِيرُ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالْقَوْدِ دَلَالَةً، فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ لَا يُمْكِنُهُ التَّحَفُّظُ مِنْ ذَلِكَ فَيَكُونُ قَرَارُ الضَّمَانِ عَلَى الرَّابِطِ، أَمَّا إذَا رَبَطَ وَالْإِبِلُ قِيَامٌ ثُمَّ قَادَهَا ضَمِنَهَا الْقَائِدُ لِأَنَّهُ قَادَ بَعِيرَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَا صَرِيحًا وَلَا دَلَالَةً فَلَا يَرْجِعُ بِمَا لَحِقَهُ عَلَيْهِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِنْ رَبَطَ رَجُلٌ بَعِيرًا إلَى الْقِطَارِ إلَخْ) رَجُلٌ رَبَطَ بَعِيرًا إلَى قِطَارٍ يَقُودُهُ رَجُلٌ.
فَإِمَّا أَنْ يَعْلَمَ بِرَبْطِهِ الْقَائِدُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي وَقَدْ وَطِئَ الْمَرْبُوطُ إنْسَانًا فَقَتَلَهُ فَعَلَى عَاقِلَةِ الْقَائِدِ الدِّيَةُ لِإِمْكَانِ تَحْرُزْهُ عَنْ رَبْطِ الْغَيْرِ، فَإِذَا تَرَكَ ذَلِكَ صَارَ مُتَسَبِّبًا مُتَعَدِّيًا وَالدِّيَةُ فِي مِثْلِهِ عَلَى الْعَاقِلَةِ كَمَا فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ ثُمَّ تَرْجِعُ عَاقِلَةُ الْقَائِدِ بِمَا ضَمِنُوا مِنْ الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الرَّابِطِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَهُمْ فِي هَذِهِ الْعُهْدَةِ، كَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمَبْسُوطِ: ضَمِنَ الْقَائِدُ ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى الَّذِي رَبَطَ الْبَعِيرَ، وَوَفَّقَ الْإِمَامُ الْمَحْبُوبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ اعْتَبَرَ فِي الْمَبْسُوطِ حَقِيقَةَ الضَّمَانِ.
فَإِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى الْقَائِدِ وَالرَّابِطِ، إلَّا أَنَّ الْعَوَاقِلَ تَعْقِلُ عَنْهُمَا.
وَاعْتَبَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ حَالَ الضَّمَانِ وَقَرَارَهُ وَهُوَ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ يَرْجِعُوا لِأَنَّ الْقَائِدَ حِينَ عَلِمَ بِالرَّبْطِ فَقَدْ رَضِيَ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّمَانِ فَلَا يَرْجِعُونَ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ وَلَمْ يَذْكُرْهُ لِظُهُورِهِ.
وَقَوْلُهُ (وَإِنَّمَا لَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا ابْتِدَاءً) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (قَالُوا) يَعْنِي أَنَّ لَفْظَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ غَيْرُ مُتَعَرِّضٍ لِلسَّيْرِ وَالْوُقُوفِ، وَالْمَشَايِخُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ قَالُوا هَذَا: أَيْ رُجُوعَ عَاقِلَةِ الْقَائِدِ عَلَى عَاقِلَةِ الرَّابِطِ إذَا رَبَطَ وَالْقِطَارُ يَسِيرُ.
أَمَّا إذَا رَبَطَ وَالْإِبِلُ قِيَامٌ ثُمَّ قَادَهَا فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا الْقَائِدُ بِلَا رُجُوعٍ عَلَى أَحَدٍ، وَالْوَجْهُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ. قَالَ (وَمَنْ أَرْسَلَ بَهِيمَةً وَكَانَ لَهَا سَائِقًا فَأَصَابَتْ فِي فَوْرِهَا يَضْمَنُهُ) لِأَنَّ الْفِعْلَ انْتَقَلَ إلَيْهِ بِوَاسِطَةِ السَّوْقِ.
قَالَ (وَلَوْ أَرْسَلَ طَيْرًا وَسَاقَهُ فَأَصَابَ فِي فَوْرِهِ لَمْ يَضْمَنْ) وَالْفَرْقُ أَنَّ بَدَنَ الْبَهِيمَةِ يَحْتَمِلُ السَّوْقَ فَاعْتُبِرَ سَوْقُهُ وَالطَّيْرُ لَا يَحْتَمِلُ السَّوْقَ فَصَارَ وُجُودُ السَّوْقِ وَعَدَمِهِ بِمَنْزِلَةٍ، وَكَذَا لَوْ أَرْسَلَ كَلْبًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ سَائِقًا لَمْ يَضْمَنْ، وَلَوْ أَرْسَلَهُ إلَى صَيْدٍ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ سَائِقًا فَأَخَذَ الصَّيْدَ وَقَتَلَهُ حَلَّ.
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْبَهِيمَةَ مُخْتَارَةٌ فِي فِعْلِهَا وَلَا تَصْلُحُ نَائِبَةً عَنْ الْمُرْسِلِ فَلَا يُضَافُ فِعْلُهَا إلَى غَيْرِهَا، هَذَا هُوَ الْحَقِيقَةُ، إلَّا أَنَّ الْحَاجَةَ مَسَّتْ فِي الِاصْطِيَادِ فَأُضِيفَ إلَى الْمُرْسِلِ لِأَنَّ الِاصْطِيَادَ مَشْرُوعٌ وَلَا طَرِيقَ لَهُ سِوَاهُ وَلَا حَاجَةَ فِي حَقِّ ضَمَانِ الْعُدْوَانِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ أَوْجَبَ الضَّمَانَ فِي هَذَا كُلِّهِ احْتِيَاطًا صِيَانَةً لِأَمْوَالِ النَّاسِ.
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ إذَا أَرْسَلَ دَابَّةً فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَأَصَابَتْ فِي فَوْرِهَا فَالْمُرْسِلُ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّ سَيْرَهَا مُضَافٌ إلَيْهِ مَا دَامَتْ تَسِيرُ عَلَى سَنَنِهَا، وَلَوْ انْعَطَفَتْ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً انْقَطَعَ حُكْمُ الْإِرْسَالِ إلَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ آخَرُ سِوَاهُ وَكَذَا إذَا وَقَفَتْ ثُمَّ سَارَتْ بِخِلَافِ مَا إذَا وَقَفَتْ بَعْدَ الْإِرْسَالِ فِي الِاصْطِيَادِ ثُمَّ سَارَتْ فَأَخَذَتْ الصَّيْدَ، لِأَنَّ تِلْكَ الْوَقْفَةَ تَحَقُّقُ مَقْصُودِ الْمُرْسِلِ لِأَنَّهُ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الصَّيْدِ، وَهَذِهِ تُنَافِي مَقْصُودَ الْمُرْسِلِ وَهُوَ السَّيْرُ فَيَنْقَطِعُ حُكْمُ الْإِرْسَالِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا أَرْسَلَهُ إلَى صَيْدٍ فَأَصَابَ نَفْسًا أَوْ مَالًا فِي فَوْرِهِ لَا يَضْمَنُهُ مَنْ أَرْسَلَهُ، وَفِي الْإِرْسَالِ فِي الطَّرِيقِ يَضْمَنُهُ لِأَنَّ شَغْلَ الطَّرِيقِ تَعَدٍّ فَيَضْمَنُ مَا تَوَلَّدَ مِنْهُ، أَمَّا الْإِرْسَالُ لِلِاصْطِيَادِ فَمُبَاحٌ وَلَا تَسْبِيبَ إلَّا بِوَصْفِ التَّعَدِّي.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ أَرْسَلَ بَهِيمَةً) يُرِيدُ كَلْبًا لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ وَكَذَا لَوْ أَرْسَلَ كَلْبًا، وَمَعْنَى سَوْقِهِ إيَّاهُ أَنْ يَمْشِيَ خَلْفَهُ (وَلَوْ أَرْسَلَ طَيْرًا) أَيْ بَازِيًا وَسَاقَهُ فَأَصَابَ فِي فَوْرِهِ بِأَنْ قَتَلَ صَيْدًا مَمْلُوكًا لَمْ يُضَمِّنْ الْمُرْسِلُ السَّائِقَ لِعَدَمِ اعْتِبَارِ السَّوْقِ وَالْإِرْسَالِ فِيهِ فِي حَقِّ الضَّمَانِ، حَتَّى لَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْحَرَمِ وَقَتَلَ صَيْدَ الْحَرَمِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ.
وَقَوْلُهُ (انْقَطَعَ حُكْمُ الْإِرْسَالِ إلَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ سِوَاهُ) أَيْ سِوَى طَرِيقِ الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى بِأَنْ كَانَ عَلَى الْجَادَّةِ مَاءٌ أَوْ وَحْلٌ فَحِينَئِذٍ لَا يَنْقَطِعُ حُكْمُ الْإِرْسَالِ كَمَا لَوْ لَمْ يَنْعَطِفْ يَمْنَةً وَيَسْرَةً.
وَقَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ إذَا وَقَفَتْ ثُمَّ سَارَتْ) أَيْ يَنْقَطِعُ حُكْمُ الْإِرْسَالِ.
وَقَوْلُهُ (وَهَذِهِ) أَيْ وَقْفَةُ الدَّابَّةِ تُنَافِي مَقْصُودَ الْمُرْسِلِ وَهُوَ السَّيْرُ، فَإِنَّ مَقْصُودَهُ مِنْ الْإِرْسَالِ هُوَ السَّيْرُ لَا الْوُقُوفُ.
وَقَوْلُهُ (وَبِخِلَافِ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أُوقِفَتْ لِأَنَّ حُكْمَهَا مُخَالِفٌ لِحُكْمِ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، وَتَبَيَّنَ بِهِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِرْسَالَيْنِ كَمَا بَيَّنَ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا وَقَفَتْ الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَقْفَتَيْنِ. قَالَ (وَلَوْ أَرْسَلَ بَهِيمَةً فَأَفْسَدَتْ زَرْعًا عَلَى فَوْرِهِ ضَمِنَ الْمُرْسِلُ، وَإِنْ مَالَتْ يَمِينًا أَوْ شِمَالًا) وَلَهُ طَرِيقٌ آخَرُ لَا يَضْمَنُ لِمَا مَرَّ، وَلَوْ انْفَلَتَتْ الدَّابَّةُ فَأَصَابَتْ مَالًا أَوْ آدَمِيًّا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا (لَا ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِهَا) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «جُرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ» وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: هِيَ الْمُنْفَلِتَةُ، وَلِأَنَّ الْفِعْلَ غَيْرُ مُضَافٍ إلَيْهِ لِعَدَمِ مَا يُوجِبُ النِّسْبَةَ إلَيْهِ مِنْ الْإِرْسَالِ وَأَخَوَاتِهِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (عَلَى فَوْرِهِ) أَيْ فَوْرِ الْإِرْسَالِ وَهُوَ أَنْ لَا تَمِيلَ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا.
وَقَوْلُهُ (لِمَا مَرَّ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ انْقَطَعَ حُكْمُ الْإِرْسَالِ.
وَقَوْلُهُ (قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: هِيَ الْمُنْفَلِتَةُ) أَيْ الْعَجْمَاءُ الَّتِي أَهْدَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعْلَهَا هِيَ الْمُنْفَلِتَةُ لَا الَّتِي أُرْسِلَتْ، فَإِنَّ إفْسَادَهَا إذَا كَانَ فِي فَوْرِ الْإِرْسَالِ لَيْسَ بِجُبَارٍ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا فَكَانَ تَفْسِيرُهُ احْتِرَازًا عَنْ الْأُجَرَاءِ عَلَى عُمُومِهِ.
وَقَوْلُهُ (مِنْ الْإِرْسَالِ وَأَخَوَاتِهِ) يَعْنِي السَّوْقَ وَالْقَوْدَ وَالرُّكُوبَ.
قَالَ فِي النِّهَايَةِ: كَانَ مِنْ حَقِّ الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ مِنْ الْإِرْسَالِ وَأَمْثَالِهِ أَوْ يَقُولَ مِنْ الْإِرْسَالِ وَأَخَوَاتِهَا بِتَأْوِيلِ الْكَلِمَةِ إذْ السَّوْقُ وَالْقَوْدُ لَمَّا كَانَ أُخْتًا لَا أَخًا لِلْإِرْسَالِ كَانَ الْإِرْسَالُ أُخْتًا أَيْضًا، وَإِلَّا يَلْزَمُ جَعْلُ بَعْضِ أَسْبَابِ التَّعَدِّي أَخًا وَبَعْضِهَا أُخْتًا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ هَاهُنَا مُؤَنَّثٌ مَعْنَوِيٌّ خُولِفَ فِيمَا يَقْتَضِيهِ حَتَّى يُنَاقِشَ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ (شَاةٌ لِقَصَّابٍ فُقِئَتْ عَيْنُهَا فَفِيهَا مَا نَقَصَهَا) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا هُوَ اللَّحْمُ فَلَا يُعْتَبَرُ إلَّا النُّقْصَانُ (وَفِي عَيْنِ بَقَرَةِ الْجَزَّارِ وَجَزُورِهِ رُبْعُ الْقِيمَةِ، وَكَذَا فِي عَيْنِ الْحِمَارِ وَالْبَغْلِ وَالْفَرَسِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِيهِ النُّقْصَانُ أَيْضًا اعْتِبَارًا بِالشَّاةِ.
وَلَنَا مَا رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَضَى فِي عَيْنِ الدَّابَّةِ بِرُبْعِ الْقِيمَةِ» وَهَكَذَا قَضَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلِأَنَّ فِيهَا مَقَاصِدَ سِوَى اللَّحْمِ كَالْحَمْلِ وَالرُّكُوبِ وَالزِّينَةِ وَالْجَمَالِ وَالْعَمَلِ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ تُشْبِهُ الْآدَمِيَّ وَقَدْ تُمْسَكُ لِلْأَكْلِ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ تُشْبِهُ الْمَأْكُولَاتِ فَعَمِلْنَا بِالشَّبَهَيْنِ بِشَبَهِ الْآدَمِيِّ فِي إيجَابِ الرُّبْعِ وَبِالشَّبَهِ الْآخَرِ فِي نَفْيِ النِّصْفِ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْعَمَلِ بِهَا بِأَرْبَعَةِ أَعْيُنٍ عَيْنَاهَا وَعَيْنَا الْمُسْتَعْمِلِ فَكَأَنَّهَا ذَاتُ أَعْيُنٍ أَرْبَعَةٍ فَيَجِبُ الرُّبْعُ بِفَوَاتِ إحْدَاهَا.
الشَّرْحُ:
قَالَ (شَاةٌ لِقَصَّابٍ فُقِئَتْ عَيْنُهَا) الْجَزْرُ: الْقَطْعُ، وَجَزَرَ الْجَزُورَ: نَحَرَهَا، وَالْجَزُورُ مَا أُعِدَّ مِنْ الْإِبِلِ لِلنَّحْرِ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَهِيَ مُؤَنَّثٌ، وَإِنَّمَا قَالَ: وَجَزُورُهُ رُبْعُ الْقِيمَةِ وَلَمْ يَقُلْ وَبَعِيرُهُ لِيَتَبَيَّنَ أَنَّ الْبَقَرَ وَالْإِبِلَ وَإِنْ أُعِدَّ اللَّحْمُ كَالشَّاةِ لَا يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ فِيهِمَا، بَلْ سَوَاءٌ كَانَا مُعَدَّيْنِ لِلَّحْمِ أَوْ لِلْحَرْثِ وَالْحَمْلِ وَالرُّكُوبِ فَفِيهِ رُبْعُ الْقِيمَةِ كَمَا فِي الَّذِي لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ كَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فِيهِ النُّقْصَانُ وَاعْتِبَارُهُ بِالشَّاةِ عَمَلٌ بِالظَّاهِرِ.
وَلَنَا مَا رَوَى خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْجَبَ ذَلِكَ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَضَى بِذَلِكَ فَتَرَكْنَا الْقِيَاسَ.
فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَضَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي أَوْجَبَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمَأْكُولِ مِنْ الْحَمْلِ وَالرُّكُوبِ وَالزِّينَةِ وَالْجَمَالِ، وَالْعَمَلُ مَوْجُودٌ فِي مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَيَلْحَقُ بِهِ.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ فِيهَا مَقَاصِدَ سِوَى اللَّحْمِ) دَلِيلٌ مَعْقُولٌ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ وَاضِحٌ.
وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَنْ الْقِيَاسِ عَلَى الشَّاةِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا اللَّحْمُ وَفَقْءُ الْعَيْنِ لَا يُفَوِّتُهُ بَلْ هُوَ عَيْبٌ يَسِيرٌ فَيَلْزَمُ نُقْصَانُ الْمَالِيَّةِ.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْعَمَلِ بِهَا) دَلِيلٌ آخَرُ.
وَهُوَ أَيْضًا وَاضِحٌ لَكِنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى الْأَوَّلِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَيْنَيْنِ لَا يُضْمَنَانِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ، كَذَا قَالَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْمُولَ بِهِ فِي هَذَا الْبَابِ النَّصُّ وَهُوَ وَرَدَ فِي عَيْنٍ وَاحِدَةٍ فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ. قَالَ (وَمَنْ سَارَ عَلَى دَابَّةٍ فِي الطَّرِيقِ فَضَرَبَهَا رَجُلٌ أَوْ نَخَسَهَا فَنَفَحَتْ رَجُلًا أَوْ ضَرَبَتْهُ بِيَدِهَا أَوْ نَفَرَتْ فَصَدَمَتْهُ فَقَتَلَتْهُ كَانَ ذَلِكَ عَلَى النَّاخِسِ دُونَ الرَّاكِبِ) هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَلِأَنَّ الرَّاكِبَ وَالْمَرْكَبَ مَدْفُوعَانِ بِدَفْعِ النَّاخِسِ فَأُضِيفَ فِعْلُ الدَّابَّةِ إلَيْهِ كَأَنَّهُ فَعَلَهُ بِيَدِهِ، وَلِأَنَّ النَّاخِسَ مُتَعَدٍّ فِي تَسْبِيبِهِ وَالرَّاكِبُ فِي فِعْلِهِ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فَيَتَرَجَّحُ جَانِبُهُ فِي التَّغْرِيمِ لِلتَّعَدِّي، حَتَّى لَوْ كَانَ وَاقِفًا دَابَّتَهُ عَلَى الطَّرِيقِ يَكُونُ الضَّمَانُ عَلَى الرَّاكِبِ وَالنَّاخِسِ نِصْفَيْنِ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي الْإِيقَافِ أَيْضًا.
قَالَ (وَإِنْ نَفَحَتْ النَّاخِسَ كَانَ دَمُهُ هَدَرًا) لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْجَانِي عَلَى نَفْسِهِ (وَإِنْ أَلْقَتْ الرَّاكِبَ فَقَتَلَتْهُ كَانَ دِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ النَّاخِسِ) لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي تَسْبِيبِهِ وَفِيهِ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ.
قَالَ (وَلَوْ وَثَبَتْ بِنَخْسِهِ عَلَى رَجُلٍ أَوْ وَطِئَتْهُ فَقَتَلَتْهُ كَانَ ذَلِكَ عَلَى النَّاخِسِ دُونَ الرَّاكِبِ) لِمَا بَيَّنَّاهُ، وَالْوَاقِفُ فِي مِلْكِهِ وَاَلَّذِي يَسِيرُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى النَّاخِسِ وَالرَّاكِبِ نِصْفَيْنِ، لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِثِقَلِ الرَّاكِبِ وَوَطْءِ الدَّابَّةِ، وَالثَّانِي مُضَافٌ إلَى النَّاخِسِ فَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ نَخَسَهَا بِإِذْنِ الرَّاكِبِ كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ الرَّاكِبِ لَوْ نَخَسَهَا، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي نَفْحَتِهَا لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِمَا يَمْلِكُهُ، إذْ النَّخْسُ فِي مَعْنَى السَّوْقِ فَصَحَّ أَمْرُهُ بِهِ، وَانْتَقَلَ إلَيْهِ لِمَعْنَى الْأَمْرِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (أَوْ نَخَسَهَا) يَعْنِي بِغَيْرِ إذْنِ الرَّاكِبِ وَالنَّخْسُ هُوَ الطَّعْنُ، وَمِنْهُ نَخَّاسُ الدَّوَابِّ دَلَّالُهَا.
فَإِنْ قِيلَ: الْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الضَّمَانُ عَلَى الرَّاكِبِ لِكَوْنِهِ مُبَاشِرًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا لِأَنَّ التَّعَدِّيَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ، فَإِنْ لَمْ يَخْتَصَّ بِهِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ الشَّرِكَةِ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْقِيَاسَ يُتْرَكُ بِالْأَثَرِ، وَفِيهِ أَثَرُ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَقَدْ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَى الْجَوَابِ بِقَوْلِهِ وَلِأَنَّ الرَّاكِبَ وَالْمُرْكَبَ مَدْفُوعَانِ بِدَفْعِ النَّاخِسِ، لِأَنَّ فِعْلَ الرَّاكِبِ قَدْ انْتَقَلَ إلَى الدَّابَّةِ لِأَنَّ الْوَثْبَةَ الْمُهْلِكَةَ إنَّمَا كَانَتْ مِنْهَا فَكَانَ مُضْطَرًّا فِي حَرَكَتِهِ، وَفِعْلُ الدَّابَّةِ قَدْ انْتَقَلَ إلَى النَّاخِسِ لِكَوْنِهِ الْحَامِلَ لَهَا عَلَى ذَلِكَ مُلْجِئًا فَكَانَ النَّاخِسُ بِمَنْزِلَةِ الدَّافِعِ لِلدَّابَّةِ وَالرَّاكِبِ مَعًا عَلَى مَا فَعَلَ فِي الدَّابَّةِ، وَالْمَدْفُوعُ إلَى الشَّيْءِ وَإِنْ كَانَ مُبَاشِرًا لَا يُعْتَبَرُ مُبَاشِرًا كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ الْكَامِلِ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ جَزَاءُ الْمُبَاشَرَةِ إنْ فُرِضَ مُبَاشِرًا وَلَا التَّسْبِيبُ أَيْضًا لِأَنَّهُ يَعْتَمِدُ التَّعَدِّيَ وَهُوَ مَفْقُودٌ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا بَالُ النَّفْحَةِ أَوْجَبَتْ الضَّمَانَ عَلَى النَّاخِسِ دُونَ الرَّاكِبِ وَالسَّائِقِ أَيْضًا عِنْدَ أَكْثَرِ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَهِيَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهَا؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهَا لَا تُوجِبُهُ عَلَى السَّائِقِ إذَا كَانَ بِالْإِذْنِ وَهَاهُنَا بِلَا إذْنٍ، فَلَوْ نَخَسَ وَهُوَ مَأْذُونٌ كَانَ سَائِقًا، وَإِمْكَانُ التَّحَرُّزِ إنَّمَا يُمْكِنُ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُتَعَدِّي وَغَيْرُ الْمَأْذُونِ بِذَلِكَ مُتَعَدٍّ فَلَا يُعْتَبَرُ.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ النَّاخِسَ مُتَعَدٍّ فِي تَسْبِيبِهِ) دَلِيلٌ آخَرُ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الرَّاكِبَ إنْ كَانَ فِعْلُهُ مُعْتَبَرًا فَهُوَ مُبَاشِرٌ وَالتَّعَدِّي لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَبَرًا لِكَوْنِهِ مَدْفُوعًا فَقَدْ اسْتَغْنَى عَنْ ذَكَرَهُ بِذِكْرِ الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الرَّاكِبَ مُبَاشِرٌ فِيمَا إذَا أَتْلَفَتْ بِالْوَطْءِ لِأَنَّهُ يُحْمَلُ التَّلَفُ بِالثِّقَلِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَيْسَ الْكَلَامُ هَاهُنَا فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي النَّفْحِ بِالرِّجْلِ وَالضَّرْبِ بِالْيَدِ وَالصَّدْمَةِ فَكَانَا مُتَسَبِّبَيْنِ، وَتَرَجَّحَ النَّاخِسُ فِي التَّغْرِيمِ لِلتَّعَدِّي، وَفِي اسْتِعْمَالِ التَّرْجِيحِ هَاهُنَا تَسَامُحٌ، لِأَنَّ شَرْطَهُ إذَا كَانَ مَفْقُودًا لَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى التَّرْجِيحِ، وَلَعَلَّ مَعْنَاهُ اُعْتُبِرَ مُوجِبًا فِي التَّغْرِيمِ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ سَبَبُ الِاعْتِبَارِ فَكَانَ ذِكْرُ السَّبَبِ وَإِرَادَةُ الْمُسَبَّبِ، وَقَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّاهُ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَلِأَنَّ الرَّاكِبَ وَالْمُرْكَبَ مَدْفُوعَانِ، وَفِي النِّهَايَةِ هُوَ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي تَسْبِيبِهِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ فَتَأَمَّلْ.
وَقَوْلُهُ (وَالْوَاقِفُ فِي مِلْكِهِ وَاَلَّذِي يَسِيرُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ) يَعْنِي يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى النَّاخِسِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَقَيَّدَ بِمِلْكِهِ احْتِرَازًا عَمَّا تَقَدَّمَ مِنْ الْإِيقَافِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ فَإِنَّهُ يَتَنَصَّفُ الضَّمَانُ هُنَاكَ عَلَى عَاقِلَتِهِمَا، وَقَوْلُهُ (وَالثَّانِي) أَيْ الْوَطْءُ (مُضَافٌ إلَى النَّاخِسِ) لِأَنَّهُ كَالسَّائِقِ لَهَا وَالسَّائِقُ مَعَ الرَّاكِبِ يَضْمَنَانِ مَا وَطِئَتْهُ الدَّابَّةُ، وَهَذِهِ رِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. قَالَ (وَلَوْ وَطِئَتْ رَجُلًا فِي سَيْرِهَا وَقَدْ نَخَسَهَا النَّاخِسُ بِإِذْنِ الرَّاكِبِ فَالدِّيَةُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ جَمِيعًا إذَا كَانَتْ فِي فَوْرِهَا الَّذِي نَخَسَهَا) لِأَنَّ سَيْرَهَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مُضَافٌ إلَيْهِمَا، وَالْإِذْنُ يَتَنَاوَلُ فِعْلَهُ مِنْ حَيْثُ السَّوْقُ وَلَا يَتَنَاوَلُهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إتْلَافٌ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ، وَالرُّكُوبُ وَإِنْ كَانَ عِلَّةً لِلْوَطْءِ فَالنَّخْسُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ بَلْ هُوَ شَرْطٌ أَوْ عِلَّةٌ لِلسَّيْرِ وَالسَّيْرُ عِلَّةٌ لِلْوَطْءِ وَبِهَذَا لَا يَتَرَجَّحُ صَاحِبُ الْعِلَّةِ، كَمَنْ جَرَحَ إنْسَانًا فَوَقَعَ فِي بِئْرٍ حَفَرَهَا غَيْرُهُ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَمَاتَ فَالدِّيَةُ عَلَيْهِمَا لِمَا أَنَّ الْحَفْرَ شَرْطُ عِلَّةٍ أُخْرَى دُونَ عِلَّةِ الْجُرْحِ كَذَا هَذَا.
ثُمَّ قِيلَ: يَرْجِعُ النَّاخِسُ عَلَى الرَّاكِبِ بِمَا ضَمِنَ فِي الْإِيطَاءِ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ بِأَمْرِهِ.
وَقِيلَ: لَا يَرْجِعُ وَهُوَ الْأَصَحُّ فِيمَا أَرَاهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِيطَاءِ وَالنَّخْسُ يَنْفَصِلُ عَنْهُ، وَصَارَ كَمَا إذَا أَمَرَ صَبِيًّا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الدَّابَّةِ بِتَسْيِيرِهَا فَوَطِئَتْ إنْسَانًا وَمَاتَ حَتَّى ضَمَّنَ عَاقِلَةَ الصَّبِيِّ فَإِنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ عَلَى الْآمِرِ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالتَّسْيِيرِ وَالْإِيطَاءُ يَنْفَصِلُ عَنْهُ، وَكَذَا إذَا نَاوَلَهُ سِلَاحًا فَقَتَلَ بِهِ آخَرَ حَتَّى ضَمِنَ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْآمِرِ، ثُمَّ النَّاخِسُ إنَّمَا يَضْمَنُ إذَا كَانَ الْإِيطَاءُ فِي فَوْرِ النَّخْسِ حَتَّى يَكُونَ السَّوْقُ مُضَافًا إلَيْهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي فَوْرِ ذَلِكَ فَالضَّمَانُ عَلَى الرَّاكِبِ لِانْقِطَاعِ أَثَرِ النَّخْسِ فَبَقِيَ السَّوْقُ مُضَافًا إلَى الرَّاكِبِ عَلَى الْكَمَالِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (مُضَافٌ إلَيْهِمَا) أَيْ إلَى الرَّاكِبِ وَالنَّاخِسِ.
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ إلَيْهَا: أَيْ إلَى النَّخْسَةِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا يَتَنَاوَلُهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إتْلَافٌ) لِوُجُودِ انْفِصَالِ السَّوْقِ عَنْ الْإِتْلَافِ فَلَيْسَ عَيْنَهُ وَلَا مِنْ ضَرُورَاتِهِ.
وَقَوْلُهُ (يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى النَّاخِسِ لِأَنَّ الرَّاكِبَ أَذِنَ لَهُ بِالسَّوْقِ لَا بِالْإِيطَاءِ وَالْإِتْلَافِ.
وَقَوْلُهُ (وَالرُّكُوبُ وَإِنْ كَانَ عِلَّةً) جَوَابُ سُؤَالٍ تَقْرِيرُهُ الرَّاكِبُ صَاحِبُ عِلَّةٍ لِلْوَطْءِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَسْتَعْمِلُ رِجْلَ الدَّابَّةِ فِي الْوَضْعِ وَالرَّفْعِ فَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ رِجْلِهِ حَقِيقَةً، وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ دُونَ النَّاخِسِ، وَالنَّاخِسُ صَاحِبُ شَرْطٍ فِي حَقِّ فِعْلِ الْوَطْءِ، وَالْإِضَافَةُ إلَى الْعِلَّةِ أَوْلَى.
وَوَجْهُهُ أَنَّ الرُّكُوبَ وَإِنْ كَانَ عِلَّةً لِلْوَطْءِ لَكِنَّ النَّخْسَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ لِتَأَخُّرِهِ عَنْ الرُّكُوبِ، بَلْ هُوَ شَرْطٌ أَوْ عِلَّةٌ لِلسَّيْرِ وَالسَّيْرُ عِلَّةٌ لِلْوَطْءِ، فَكَانَ الْوَطْءُ ثَابِتًا بِعِلَّتَيْنِ فَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا، وَقَدْ مَثَّلَ لِذَلِكَ بِمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (وَصَارَ كَمَا إذَا أَمَرَ صَبِيًّا يَسْتَمْسِكُ) إنَّمَا قَيَّدَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَسْتَمْسِكْ فَلَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ، أَمَّا عَلَى الصَّبِيِّ فَلِأَنَّ مَسْكَهُ بِمَنْزِلَةِ الْحَمْلِ عَلَى الدَّابَّةِ فَلَا يُضَافُ السَّيْرُ إلَيْهِ وَأَمَّا عَلَى الرَّجُلِ فَلِأَنَّهُ لَمْ يُسَيِّرْهَا، وَإِذَا لَمْ يُضَفْ سَيْرُهَا إلَى أَحَدٍ كَانَتْ مُنْفَلِتَةً وَفِعْلُهَا جُبَارٌ. (وَمَنْ قَادَ دَابَّةً فَنَخَسَهَا رَجُلٌ فَانْفَلَتَتْ مِنْ يَدِ الْقَائِدِ فَأَصَابَتْ فِي فَوْرِهَا فَهُوَ عَلَى النَّاخِسِ وَكَذَا إذَا كَانَ لَهَا سَائِقٌ فَنَخَسَهَا غَيْرُهُ لِأَنَّهُ مُضَافٌ إلَيْهِ، وَالنَّاخِسُ إذَا كَانَ عَبْدًا فَالضَّمَانُ فِي رَقَبَتِهِ، وَإِنْ كَانَ صَبِيًّا فَفِي مَالِهِ لِأَنَّهُمَا مُؤَاخَذَانِ بِأَفْعَالِهِمَا) وَلَوْ نَخَسَهَا شَيْءٌ مَنْصُوبٌ فِي الطَّرِيقِ فَنَفَحَتْ إنْسَانًا فَقَتَلَتْهُ فَالضَّمَانُ عَلَى مَنْ نَصَبَ ذَلِكَ الشَّيْءَ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِشَغْلِ الطَّرِيقِ فَأُضِيفَ إلَيْهِ كَأَنَّهُ نَخَسَهَا بِفِعْلِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَالنَّاخِسُ إذَا كَانَ عَبْدًا) يَعْنِي وَنَخَسَ بِغَيْرِ إذْنِ الرَّاكِبِ فَالضَّمَانُ فِي رَقَبَتِهِ يَدْفَعُ بِهَا أَوْ يَفْدِي، وَالْبَاقِي ظَاهِرٌ إلَى آخِرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.