فصل: (بَابُ الْيَمِينِ فِي الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ وَغَيْرِهِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.(بَابُ الْيَمِينِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالتَّزَوُّجِ وَغَيْرِ ذَلِكَ):

(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَبِيعُ أَوْ لَا يَشْتَرِي أَوْ لَا يُؤَاجِرُ فَوَكَّلَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّ الْعَقْدَ وُجِدَ لَهُ مِنْ الْعَاقِدِ حَتَّى كَانَتْ الْحُقُوقُ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ الْعَاقِدُ هُوَ الْحَالِفُ يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ فَلَمْ يُوجَدْ مَا هُوَ الشَّرْطُ وَهُوَ الْعَقْدُ مِنْ الْآمِرِ، وَإِنَّمَا الثَّابِتُ لَهُ حُكْمُ الْعَقْدِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ ذَلِكَ لِأَنَّ فِيهِ تَشْدِيدًا أَوْ يَكُونَ الْحَالِفُ ذَا سُلْطَانٍ لَا يَتَوَلَّى الْعَقْدَ بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ نَفْسَهُ عَمَّا يَعْتَادُهُ.
الشَّرْحُ:
(بَابُ الْيَمِينِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالتَّزَوُّجِ وَغَيْرِ ذَلِكَ) يُرِيدُ بِغَيْرِ ذَلِكَ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ وَالضَّرْبَ، وَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ فِي الْأَيْمَانِ كَثِيرَةُ الْوُقُوعِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا بَعْدَهُ فَلِذَلِكَ قَدَّمَهُ.
قَالَ فِي النِّهَايَةِ: ثُمَّ الضَّابِطُ فِي هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ لِأَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِيمَا يَحْنَثُ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ، وَفِيمَا لَا يَحْنَثُ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ تَرْجِعُ الْحُقُوقُ فِيهِ إلَى الْمُبَاشِرِ، فَالْحَالِفُ لَا يَحْنَثُ بِمُبَاشَرَةِ الْمَأْمُورِ، وَكُلُّ فِعْلٍ تَرْجِعُ الْحُقُوقُ فِيهِ إلَى مَنْ وَقَعَ حُكْمُ الْفِعْلِ لَهُ يَحْنَثُ.
وَالثَّانِي أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ يَحْتَمِلُ حُكْمُهُ الِانْتِقَالَ إلَى غَيْرِهِ، فَالْحَالِفُ فِيهِ لَا يَحْنَثُ بِمُبَاشَرَةِ الْمَأْمُورِ، وَكُلُّ فِعْلٍ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ يَحْنَثُ.
قِيلَ وَكُلُّ مَا يَسْتَغْنِي الْمَأْمُورُ فِي مُبَاشَرَتِهِ عَنْ إضَافَتِهِ إلَى الْآمِرِ فَالْآمِرُ لَا يَحْنَثُ بِمُبَاشَرَةِ الْمَأْمُورِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ هَذِهِ الْإِضَافَةِ يَحْنَثُ.
وَالْفِقْهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعَقْدَ مَتَى رَجَعَتْ حُقُوقُهُ إلَى مَنْ وَقَعَ حُكْمُ الْعَقْدِ لَهُ فَمَقْصُودُ الْحَالِفِ مِنْ الْحَلِفِ التَّوَقِّي عَنْ حُكْمِ الْعَقْدِ لَهُ وَعَنْ حُقُوقِهِ وَكِلَاهُمَا يَرْجِعَانِ إلَيْهِ، وَمَتَى رَجَعَتْ حُقُوقُهُ إلَى الْعَاقِدِ لَا إلَى مَنْ وَقَعَ حُكْمُ الْعَقْدِ لَهُ فَمَقْصُودُهُ مِنْ الْحَلِفِ التَّوَقِّي مِنْ رُجُوعِ الْحُقُوقِ إلَيْهِ وَهِيَ لَا تَرْجِعُ إلَيْهِ فَلَا يَحْنَثُ.
ثُمَّ مِمَّا يَحْنَثُ الْحَالِفُ بِمُبَاشَرَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ النِّكَاحُ وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْقَرْضُ وَالِاسْتِقْرَاضُ وَضَرْبُ الْعَبْدِ وَالذَّبْحُ وَالْإِيدَاعُ وَقَبُولُ الْوَدِيعَةِ وَالْإِعَارَةُ وَالِاسْتِعَارَةُ وَخِيَاطَةُ الثَّوْبِ وَالْبِنَاءُ، فَإِنَّ الْحَالِفَ كَمَا يَحْنَثُ فِيهَا بِفِعْلِ نَفْسِهِ يَحْنَثُ أَيْضًا بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ.
وَأَمَّا مَا لَا يَحْنَثُ الْحَالِفُ بِمُبَاشَرَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَهُوَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَالْإِجَارَةُ وَالِاسْتِئْجَارُ وَالصُّلْحُ عَنْ الْمَالِ وَكَذَلِكَ الْقِسْمَةُ، وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ أَلْحَقَ الْخُصُومَةَ بِهَذَا الْقِسْمِ.
وَإِذَا عُرِفَ هَذَا ظَهَرَ مَعْنَى كَلَامِهِ إلَّا أَلْفَاظًا نُنَبِّهُ عَلَيْهَا.
وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنْ يَنْوِيَ) اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ فَوَكَّلَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَحْنَثْ: أَيْ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ أَنْ لَا يَأْمُرَ غَيْرَهُ أَيْضًا فَحِينَئِذٍ يَحْنَثُ.
وَقَوْلُهُ (أَوْ يَكُونُ الْحَالِفُ ذَا سُلْطَانٍ) يَعْنِي إذَا بَاشَرَهُ الْمَأْمُورُ حَنِثَ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ مِنْ الْيَمِينِ مَنْعُ نَفْسِهِ عَمَّا هُوَ مُعْتَادُهُ وَمُعْتَادُهُ الْأَمْرُ لِلْغَيْرِ، فَلَمَّا أَمَرَ غَيْرَهُ وَفَعَلَ الْمَأْمُورَ حَنِثَ، وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ حَنِثَ أَيْضًا لِوُجُودِ الْبَيْعِ مِنْهُ حَقِيقَةً. (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ أَوْ لَا يُطَلِّقُ أَوْ لَا يُعْتِقُ فَوَكَّلَ بِذَلِكَ حَنِثَ) لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِي هَذَا سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ وَلِهَذَا لَا يُضِيفُهُ إلَى نَفْسِهِ بَلْ إلَى الْآمِرِ، وَحُقُوقُ الْعَقْدِ تَرْجِعُ إلَى الْآمِرِ لَا إلَيْهِ (وَلَوْ قَالَ عَنَيْت أَنْ لَا أَتَكَلَّمَ بِهِ لَمْ يَدِينَ فِي الْقَضَاءِ خَاصَّةً) وَسَنُشِيرُ إلَى الْمَعْنَى فِي الْفَرْقِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (لَوْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ عَبْدَهُ أَوْ لَا يَذْبَحُ شَاتَه فَأَمَرَ غَيْرَهُ فَفَعَلَ يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ) لِأَنَّ الْمَالِكَ لَهُ وِلَايَةُ ضَرْبِ عَبْدِهِ وَذَبْحِ شَاتِه فَيَمْلِكُ تَوْلِيَتَهُ غَيْرَهُ ثُمَّ مَنْفَعَتَهُ رَاجِعَةً إلَى الْآمِرِ فَيَجْعَلُ هُوَ مُبَاشِرًا إذْ لَا حُقُوقَ لَهُ تَرْجِعُ إلَى الْمَأْمُورِ (وَلَوْ قَالَ عَنَيْت أَنْ لَا أَتَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِي دِينَ فِي الْقَضَاءِ) بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ.
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الطَّلَاقَ لَيْسَ إلَّا تَكَلُّمًا بِكَلَامٍ يُفْضِي إلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا، وَالْأَمْرُ بِذَلِكَ مِثْلُ التَّكَلُّمِ بِهِ وَاللَّفْظُ يَنْتَظِمُهُمَا، فَإِذَا نَوَى التَّكَلُّمَ بِهِ فَقَدْ نَوَى الْخُصُوصَ فِي الْعَامِّ فَيَدِينُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً، أَمَّا الذَّبْحُ وَالضَّرْبُ فَفِعْلٌ حِسِّيٌّ يُعْرَفُ بِأَثَرِهِ، وَالنِّسْبَةُ إلَى الْآمِرِ بِالتَّسْبِيبِ مَجَازٌ، فَإِذَا نَوَى الْفِعْلَ بِنَفْسِهِ فَقَدْ نَوَى الْحَقِيقَةَ فَيُصَدَّقُ دِيَانَةً وَقَضَاءً.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الْمَالِكَ لَهُ وِلَايَةُ ضَرْبِ عَبْدِهِ) يَلُوحُ إلَى أَنَّهُ لَوْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِضَرْبِ حُرٍّ وَقَدْ حَلَفَ عَلَى ضَرْبِهِ فَضَرَبَهُ الْمَأْمُورُ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ فَلَا يُعْتَبَرُ أَمْرُهُ فِيهِ.
وَقَوْلُهُ (وَوَجْهُ الْفَرْقِ) هُوَ الْفَرْقُ الْمَوْعُودُ بِقَوْلِهِ سَنُشِيرُ.
وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ إذَا نَوَى الْخُصُوصَ فِي الْعُمُومِ يَصْدُقُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَفِيهِ تَخْفِيفٌ عَلَيْهِ.
وَإِذَا نَوَى الْحَقِيقَةَ الْمُسْتَعْمَلَةَ صَدَقَ قَضَاءً وَدِيَانَةً، وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ تَخْفِيفٌ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْكَلَامَ يُصْرَفُ إلَى حَقِيقَتِهِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ؛ فَإِذَا وُجِدَتْ النِّيَّةُ كَانَ الصَّرْفُ إلَيْهَا أَوْلَى. (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ وَلَدَهُ فَأَمَرَ إنْسَانًا فَضَرَبَهُ لَمْ يَحْنَثْ) فِي يَمِينِهِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ ضَرْبِ الْوَلَدِ عَائِدَةٌ إلَيْهِ وَهُوَ التَّأَدُّبُ وَالتَّثَقُّفُ فَلَمْ يَنْسِبْ فَعَلَهُ إلَى الْآمِرِ، بِخِلَافِ الْأَمْرِ بِضَرْبِ الْعَبْدِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الِائْتِمَارِ بِأَمْرِهِ عَائِدَةٌ إلَى الْآمِرِ فَيُضَافُ الْفِعْلُ إلَيْهِ (وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ إنْ بِعْت لَك هَذَا الثَّوْبَ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَدَسَّ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ ثَوْبَهُ فِي ثِيَابِ الْحَالِفِ فَبَاعَهُ وَلَمْ يَعْلَمْ لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّ حَرْفَ اللَّامِ دَخَلَ عَلَى الْبَيْعِ فَيَقْتَضِي اخْتِصَاصَهُ بِهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَفْعَلَهُ بِأَمْرِهِ إذْ الْبَيْعُ تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ وَلَمْ تُوجَدْ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ إنْ بِعْت ثَوْبًا لَك حَيْثُ يَحْنَثُ إذَا بَاعَ ثَوْبًا مَمْلُوكًا لَهُ، سَوَاءٌ كَانَ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ عَلِمَ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، لِأَنَّ حَرْفَ اللَّامِ دَخَلَ عَلَى الْعَيْنِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَيْهِ فَيَقْتَضِي الِاخْتِصَاصَ بِهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لَهُ، وَنَظِيرُهُ الصِّيَاغَةُ وَالْخِيَاطَةُ وَكُلُّ مَا تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ، بِخِلَافِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَضَرْبِ الْغُلَامِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ فَلَا يَفْتَرِقُ الْحُكْمُ فِيهِ فِي الْوَجْهَيْنِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ مَنْفَعَةَ ضَرْبِ الْوَلَدِ عَائِدَةٌ إلَيْهِ) أَيْ إلَى الْوَلَدِ، وَذَكَرَ ضَمِيرَ الْمَنْفَعَةِ نَظَرًا إلَى الْخَبَرِ وَهُوَ التَّأَدُّبُ وَالتَّثَقُّفُ.
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ قَالَ إنْ بِعْت لَك هَذَا الثَّوْبَ) عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَاضِحٌ.
وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّ لَامَ الِاخْتِصَاصِ إذَا اتَّصَلَ بِضَمِيرٍ عَقِيبَ فِعْلٍ مُتَعَدٍّ، فَإِمَّا أَنْ يَتَوَسَّطَ بَيْنَ الْفِعْلِ وَمَفْعُولِهِ أَوْ يَتَأَخَّرَ عَنْ الْمَفْعُولِ.
وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَإِمَّا أَنْ يَحْتَمِلَ الْفِعْلُ النِّيَابَةَ أَوْ لَا، فَإِنْ احْتَمَلَهَا وَتَوَسَّطَ بَيْنَهُمَا كَانَ اللَّامُ لِاخْتِصَاصِ الْفِعْلِ، وَشَرَطَ حِنْثَ وُقُوعِ الْفِعْلِ لِأَجْلِ مَنْ لَهُ الضَّمِيرُ سَوَاءٌ كَانَتْ الْعَيْنُ مَمْلُوكَةً لَهُ أَوْ لَمْ تَكُنْ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِالْأَمْرِ، وَإِنْ تَأَخَّرَ عَنْ الْمَفْعُولِ كَانَ اخْتِصَاصُ الْعَيْنِ بِهِ وَشَرْطُ كَوْنِهَا مَمْلُوكَةً لَهُ سَوَاءً كَانَ الْفِعْلُ وَقَعَ لِأَجْلِهِ أَوْ لَمْ يَقَعْ، وَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلْهَا لَا يَفْتَرِقُ الْحُكْمُ فِي الْوَجْهَيْنِ: أَيْ فِي التَّوَسُّطِ وَالتَّأَخُّرِ بَلْ يَحْنَثُ إذَا فَعَلَهُ سَوَاءٌ كَانَ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ إذَا لَمْ يَحْتَمِلْ النِّيَابَةَ لَمْ يُمْكِنْ انْتِقَالُهُ إلَى غَيْرِ الْفَاعِلِ فَيَكُونُ الْأَمْرُ وَعَدَمُهُ سَوَاءً فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لِاخْتِصَاصِ الْعَيْنِ صَوْنًا لِلْكَلَامِ عَنْ الْإِلْغَاءِ، وَمَعْنَى دَسَّ أَخْفَى، وَالْمُرَادُ بِالْغُلَامِ إمَّا الْعَبْدُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِقَاضِي خَانْ وَإِمَّا الْوَلَدُ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ لِأَنَّ ضَرْبَ الْعَبْدِ يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ عَبْدَهُ فَأَمَرَ غَيْرَهُ بِضَرْبِهِ حَنِثَ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ تَعُودُ إلَيْهِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ قُبَيْلَ هَذَا، وَمِنْ الشَّارِحِينَ مَنْ وَجَّهَ الْأَوَّلَ، بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَكَالَةِ وَالنِّيَابَةِ وَكَالَةٌ يَتَعَلَّقُ بِهَا حُقُوقٌ يَرْجِعُ بِهَا الْوَكِيلُ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ عَلَى الْمُوَكِّلِ وَلَيْسَ لِلضَّرْبِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَكَانَ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَأَجَابَ عَنْ الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ بِأَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَذْكُرْهَا، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَتَخْطِئَةٌ لَهُ فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا حُقُوقَ لَهُ تَرْجِعُ إلَى الْمَأْمُورِ، وَمَعَ ذَلِكَ جَعَلَهُ مِمَّا يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ. (وَمَنْ قَالَ هَذَا الْعَبْدُ حُرٌّ إنْ بِعْته فَبَاعَهُ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ عَتَقَ) لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْبَيْعُ وَالْمِلْكُ فِيهِ قَائِمٌ فَيَنْزِلُ الْجَزَاءُ (وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي إنْ اشْتَرَيْته فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَاهُ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ عَتَقَ) أَيْضًا لِأَنَّ الشَّرْطَ قَدْ تَحَقَّقَ وَهُوَ الشِّرَاءُ وَالْمِلْكُ قَائِمٌ فِيهِ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِمَا ظَاهِرٌ، وَكَذَا عَلَى أَصْلِهِ لِأَنَّ هَذَا الْعِتْقَ بِتَعْلِيقِهِ وَالْمُعَلَّقُ كَالْمُنْجَزِ، وَلَوْ نَجَّزَ الْعِتْقَ يَثْبُتُ الْمِلْكُ سَابِقًا عَلَيْهِ فَكَذَا هَذَا.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ قَالَ هَذَا الْعَبْدُ حُرٌّ إنْ بِعْته فَبَاعَهُ وَشَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ عَتَقَ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْبَيْعُ وَالْمِلْكُ فِيهِ قَائِمٌ) لِأَنَّ خِيَارَهُ يَمْنَعُ خُرُوجَ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِهِ بِالِاتِّفَاقِ (فَيَنْزِلُ الْجَزَاءُ) قِيلَ لَوْ كَانَ الْبَيْعُ مِنْ غَيْرِ إفَادَةِ الْحُكْمِ كَافِيًا لِوُقُوعِ مَا عُلِّقَ بِهِ لَكَانَ النِّكَاحُ كَذَلِكَ، فَإِذَا عَلَّقَ الْعِتْقَ بِالنِّكَاحِ وَوَجَدَ النِّكَاحَ فَاسِدًا وَجَبَ أَنْ يَنْزِلَ الْجَزَاءُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ جَوَازَ الْبَيْعِ لَيْسَ مِنْ الْمُنَافِي، وَجَوَازُ النِّكَاحِ مَعَ الْمُنَافِي؛ لِأَنَّهُ رِقٌّ وَالْإِنْسَانِيَّة تُنَافِيهِ، فَإِذَا كَانَ النِّكَاحُ فَاسِدًا اُعْتُضِدَ فَسَادُهُ بِمَا يُخَالِفُ الدَّلِيلَ فَتَرَجَّحَ جَانِبُ الْعَدَمِ فَصَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِلدَّلِيلِ فَكَانَ مَوْجُودًا بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فِي الْمَحَلِّ وَإِنْ لَمْ يُفِدْ الْحُكْمَ؛ وَلَوْ قَالَ إنْ اشْتَرَيْت هَذَا الْعَبْدَ فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَاهُ وَشَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ عَتَقَ أَيْضًا لِأَنَّ الشَّرْطَ قَدْ تَحَقَّقَ وَهُوَ الشِّرَاءُ وَالْمِلْكُ قَائِمٌ فِيهِ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِمَا ظَاهِرٌ لِأَنَّ خِيَارَ الْمُشْتَرِي لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ لَهُ عِنْدَهُمَا، وَكَذَا عَلَى أَصْلِهِ لِأَنَّ هَذَا الْعِتْقَ مُعَلَّقٌ بِتَعْلِيقِهِ وَالْمُعَلَّقُ كَالْمُنَجَّزِ، وَلَوْ نَجَّزَ الْعِتْقَ بَعْدَ الشِّرَاءِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ انْفَسَخَ الْخِيَارُ وَثَبَتَ الْمِلْكُ وَوَقَعَ الْعِتْقُ فَكَذَلِكَ إذَا عَلَّقَ.
وَرُدَّ بِأَنَّ فِي التَّنْجِيزِ لَوْ لَمْ يَنْفَسِخْ الْخِيَارُ لَبَطَلَ التَّنْجِيزُ أَصْلًا لِعَدَمِ احْتِمَالِهِ التَّأْخِيرَ، وَفِي التَّعْلِيقِ لَوْ لَمْ يَنْفَسِخْ لَمْ يَبْطُلْ لِثُبُوتِ الْعِتْقِ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ صِحَّةِ التَّنْجِيزِ بِفَسْخِ الْخِيَارِ صِحَّةُ حُكْمِ التَّعْلِيقِ بِهِ فِي الْحَالِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْعِتْقَ يُحْتَاطُ فِي تَعْجِيلِهِ وَهُوَ مُمْكِنٌ بِإِيقَاعِهِ فِي الْحَالِ بِفَسْخِ الْخِيَارِ فَلَا يُؤَخَّرُ إلَى مُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ، وَطُولِبَ هَاهُنَا فَرْقَانِ: فَرْقٌ بَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَهَا وَالْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَإِنَّهُ قَدْ اشْتَرَاهُ وَلَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ.
وَفَرْقٌ بَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ مَا إذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ قَرِيبَهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَهُ فَإِنَّهُ لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَسْقُطْ الْخِيَارُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفَرْقٌ بَيْنَ الْأُولَيَيْنِ بِأَنَّ الْخِيَارَ إذَا كَانَ لِلْمُشْتَرِي يَتَمَكَّنُ مِنْ إسْقَاطِهِ، وَمَتَى كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إسْقَاطِهِ وَبَيْنَ الثَّانِيَتَيْنِ بِأَنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ كَلِمَةُ الْإِعْتَاقِ بَعْدَ الشِّرَاءِ حَتَّى يَسْقُطَ بِهَا الْخِيَارُ فَلَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُسْقِطْهُ، وَأَمَّا فِي الْإِيجَابِ الْمُعَلَّقِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ قَائِلًا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ أَنْتَ حُرٌّ فَيَسْقُطُ الْخِيَارُ ضَرُورَةً لِوُجُودِ مَا يَخْتَصُّ بِالْمِلْكِ، وَوَضْعُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ يُفِيدُ أَنَّ الْبَيْعَ إذَا كَانَ بَاتًّا لَا يُعْتَقُ وَإِنْ وُجِدَ الْبَيْعُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ مَعَ الْمَعْلُولِ فِي الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ، فَكَمَا تَمَّ الْبَيْعُ زَالَ الْعَبْدُ عَنْ مِلْكِهِ وَالْجَزَاءُ لَا يَنْزِلُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ، بِخِلَافِ مَا فِيهِ الشَّرْطُ فَإِنَّهُمَا يَتَعَاقَبَانِ فِيهِ (وَمَنْ قَالَ إنْ لَمْ أَبِعْ هَذَا الْعَبْدَ أَوْ هَذِهِ الْأَمَةَ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَأَعْتَقَ أَوْ دَبَّرَ طَلُقَتْ امْرَأَتُهُ) لِأَنَّ الشَّرْطَ قَدْ تَحَقَّقَ وَهُوَ عَدَمُ الْبَيْعِ لِفَوَاتِ مَحَلِّيَّةِ الْبَيْعِ.
الشَّرْحُ:
(وَمَنْ قَالَ إنْ لَمْ أَبِعْ هَذَا الْعَبْدَ أَوْ هَذِهِ الْأَمَةَ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَأَعْتَقَ أَوْ دَبَّرَ طَلُقَتْ امْرَأَتُهُ لِأَنَّ الشَّرْطَ قَدْ تَحَقَّقَ وَهُوَ عَدَمُ الْبَيْعِ لِفَوَاتِ مَحَلِّيَّةِ الْبَيْعِ) وَهَذَا فِي إعْتَاقِ الْعَبْدِ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا فِي التَّدْبِيرِ وَالْأَمَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانٍ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ يَجُوزُ بَيْعُهُ إذَا قَضَى الْقَاضِي بِجَوَازِ بَيْعِهِ، وَالْأَمَةُ يَجُوزُ أَنْ تَرْتَدَّ فَتُسْبَى بَعْدَ اللِّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْمُدَبَّرِ مَا دَامَ مُدَبَّرًا، وَإِذَا قَضَى الْقَاضِي بِجَوَازِ بَيْعِهِ يُفْسَخُ التَّدْبِيرُ وَيَكُونُ الْبَيْعُ حِينَئِذٍ بَيْعَ الْقِنِّ لَا بَيْعَ الْمُدَبَّرِ، وَفَوَاتُ الْمَحَلِّيَّةِ إنَّمَا كَانَ بِاعْتِبَارِ بَقَاءِ التَّدْبِيرِ، وَهَذَا كَمَا تَرَى غَيْرُ مَخْلَصٍ لِأَنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ فَوَاتَ الْمَحَلِّيَّةِ بِبَقَاءِ التَّدْبِيرِ وَالتَّدْبِيرُ قَدْ يَزُولُ فَلَا تَفُوتُ الْمَحَلِّيَّةُ فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يَقَعَ الطَّلَاقُ، وَالْأَوْلَى فِي الْبَيَانِ أَنْ يُقَالَ بَيْعُ الْمُدَبَّرِ لَا يَجُوزُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ؛ فَإِنْ أَقْدَمَ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يُقْدِمُ عَلَى الْقَضَاءِ بِمَا لَا يَجُوزُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالْأَصْلُ عَدَمُ مَا يَحْدُثُ فَكَانَ عَدَمُ فَوَاتِ الْمَحَلِّيَّةِ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ الْقَضَاءِ بِبَيْعِهِ مُخَالِفًا لِلظَّاهِرِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا، وَأَمَّا الْأَمَةُ فَإِنَّ مِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ لَا تَطْلُقُ امْرَأَتُهُ فِي التَّعْلِيقِ بِعَدَمِ بَيْعِهَا بِاعْتِبَارِ هَذَا الِاحْتِمَالِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا تَطْلُقُ لِأَنَّهُ إنَّمَا عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى الْبَيْعِ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمِلْكِ وَقَدْ انْتَهَى ذَلِكَ الْمِلْكُ بِالْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ. (وَإِذَا قَالَتْ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا تَزَوَّجْت عَلِيَّ فَقَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ لِي طَالِقٌ ثَلَاثًا طَلُقَتْ هَذِهِ الَّتِي حَلَّفَتْهُ فِي الْقَضَاءِ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا لَا تَطْلُقُ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ جَوَابًا فَيَنْطَبِقُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ غَرَضَهُ إرْضَاؤُهَا وَهُوَ بِطَلَاقِ غَيْرِهَا فَيَتَقَيَّدُ بِهِ.
وَجْهُ الظَّاهِرِ عُمُومُ الْكَلَامِ وَقَدْ زَادَ عَلَى حَرْفِ الْجَوَابِ فَيُجْعَلُ مُبْتَدِئًا، وَقَدْ يَكُونُ غَرَضُهُ إيحَاشُهَا حِينَ اعْتَرَضَتْ عَلَيْهِ فِيمَا أَحَلَّهُ الشَّرْعُ وَمَعَ التَّرَدُّدِ لَا يَصْلُحُ مُقَيَّدًا، وَإِنْ نَوَى غَيْرَهَا يُصَدَّقُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً لِأَنَّهُ تَخْصِيصُ الْعَامِّ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ) (قَالَتْ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ زَادَ عَلَى حَرْفِ الْجَوَابِ) أَيْ أَصْلِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْجَوَابَ الْمُطَابِقَ لَقَالَ إنْ فَعَلْت فَهِيَ طَالِقٌ: فَلَمَّا ذَكَرَ كَلِمَةَ كُلَّ دَلَّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ الْعُمُومُ فَيَعْمَلُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ دُونَ خُصُوصِ السَّبَبِ فَكَانَ مُبْتَدِئًا.
وَقَوْلُهُ (وَقَدْ يَكُونُ غَرَضُهُ إيحَاشَهَا) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ بِأَنَّ الْغَرَضَ إرْضَاؤُهَا

.بَابُ الْيَمِينِ فِي الْحَجِّ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ:

(وَمَنْ قَالَ وَهُوَ فِي الْكَعْبَةِ أَوْ فِي غَيْرِهَا عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ إلَى الْكَعْبَةِ فَعَلَيْهِ حِجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ مَاشِيًا وَإِنْ شَاءَ رَكِبَ وَأَهْرَاقَ دَمًا) وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ مَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ وَاجِبَةٍ وَلَا مَقْصُودَةٍ فِي الْأَصْلِ، مَأْثُورٌ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَلِأَنَّ النَّاسَ تَعَارَفُوا إيجَابَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِهَذَا اللَّفْظِ فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ عَلَيَّ زِيَارَةُ الْبَيْتِ مَاشِيًا فَيَلْزَمُهُ مَاشِيًا، وَإِنْ شَاءَ رَكِبَ وَأَرَاقَ دَمًا، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَنَاسِكِ (وَلَوْ قَالَ عَلَيَّ الْخُرُوجُ أَوْ الذَّهَابُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) لِأَنَّ الْتِزَامَ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ بِهَذَا اللَّفْظِ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ (وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى الْحَرَمِ أَوْ إلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِي قَوْلِهِ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى الْحَرَمِ حِجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ) وَلَوْ قَالَ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ.
لَهُمَا أَنَّ الْحَرَمَ شَامِلٌ عَلَى الْبَيْتِ، وَكَذَا الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ فَصَارَ ذِكْرُهُ كَذِكْرِهِ، بِخِلَافِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِأَنَّهُمَا مُنْفَصِلَانِ عَنْهُ.
وَلَهُ أَنَّ الْتِزَامَ الْإِحْرَامِ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهُ بِاعْتِبَارِ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ فَامْتَنَعَ أَصْلًا.
الشَّرْحُ:
(بَابُ الْيَمِينِ فِي الْحَجِّ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ) قَدَّمَ هَذَا الْبَابَ عَلَى بَابِ اللُّبْسِ وَغَيْرِهِ لِأَنَّ فِي هَذَا ذِكْرَ الْعِبَادَاتِ وَذِكْرُهَا مُقَدَّمٌ عَلَى غَيْرِهَا، وَإِنَّمَا تَأَخَّرَ عَمَّا تَقَدَّمَ لِكَثْرَةِ وُقُوعِ ذَلِكَ.
وَمَسَائِلُ هَذَا الْفَصْلِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: فِي وَجْهٍ يَلْزَمُهُ إمَّا حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، وَفِي وَجْهٍ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ كَذَلِكَ، وَفِي وَجْهٍ اخْتَلَفُوا فِيهِ.
أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَفِيمَا إذَا قَالَ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ أَوْ إلَى الْكَعْبَةِ أَوْ إلَى مَكَّةَ.
وَفِي رِوَايَةِ النَّوَادِرِ أَوْ إلَى بَكَّةَ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْكَعْبَةِ أَوْ فِي مَكَّةَ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَزِمَهُ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ مَاشِيًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ فَظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ بِهَا وَاخْتَارَ الْحَجَّ يُحْرِمُ مِنْ الْحَرَمِ وَيَخْرُجُ إلَى عَرَفَاتٍ مَاشِيًا، فَإِنْ رَكِبَ لَزِمَهُ شَاةٌ، وَإِنْ اخْتَارَ الْعُمْرَةَ خَرَجَ إلَى التَّنْعِيمِ وَيُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ يَخْرُجُ إلَى التَّنْعِيمِ مَاشِيًا أَوْ رَاكِبًا.
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: جَازَ لَهُ أَنْ يَرْكَبَ وَقْتَ الرَّوَاحِ إلَى التَّنْعِيمِ لِأَنَّ الرَّوَاحَ إلَيْهِ لَيْسَ بِمَشْيٍ إلَى بَيْتِ اللَّهِ وَإِنَّمَا الْمَشْيُ إلَيْهِ وَقْتَ الرُّجُوعِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَمْشِي وَقْتَ الرَّوَاحِ أَيْضًا لِأَنَّ الرَّوَاحَ إلَيْهِ لِلْإِحْرَامِ فَكَانَ مَشْيًا إلَى بَيْتِ اللَّهِ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ بِهَذَا النَّذْرِ شَيْءٌ (لِأَنَّهُ الْتَزَمَ مَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ وَاجِبَةٍ) لِأَنَّ الْمَشْيَ أَمْرٌ مُبَاحٌ (وَلَا مَقْصُودَةَ فِي الْأَصْلِ) يَعْنِي لِذَاتِهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ شَيْءٌ آخَرُ لَا نَفْسُهُ فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ النَّذْرُ بِهِ بَاطِلًا لَكِنْ تَرَكْنَاهُ بِالْأَثَرِ وَالْعُرْفِ.
أَمَّا الْأَثَرُ فَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ: بَلَغَنَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ الْحَجَّ مَاشِيًا حَجَّ رَاكِبًا وَذَبَحَ شَاةً لِرُكُوبِهِ.
كَذَا فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ، وَلَيْسَ بِمُطَابِقٍ لِمَا نَحْنُ فِيهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِيمَنْ جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ الْحَجَّ مَاشِيًا بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَجَابَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِأَنَّ عَلَيْهِ حَجَّةً أَوْ عُمْرَةً وَهَذَا مُطَابِقٌ.
وَقَدْ رَوَى شَيْخِي فِي شَرْحِهِ: «أَنَّ أُخْتَ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُحْرِمَ بِحَجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ».
وَأَمَّا الْعُرْفُ فَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ أَنَّ النَّاسَ تَعَارَفُوا إيجَابَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِهَذَا اللَّفْظِ فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ عَلَيَّ زِيَارَةُ الْبَيْتِ مَاشِيًا فَيَلْزَمُهُ مَاشِيًا، وَإِنْ رَكِبَ وَأَرَاقَ دَمًا فَلَهُ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْمَنَاسِكِ.
وَإِيجَابُ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ بِهَذَا النَّذْرِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ مِنْ بَابِ ذِكْرِ السَّبَبِ وَإِرَادَةِ الْمُسَبَّبِ، وَلِهَذَا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ النَّاذِرُ فِي الْكَعْبَةِ أَوْ فِي غَيْرِهَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ هَذَا اللَّفْظُ اسْتِعَارَةً لِالْتِزَامِ الْحَجِّ كَانَ اللَّفْظُ غَيْرَ مَنْظُورٍ إلَيْهِ، كَمَا لَوْ نَذَرَ أَنْ يَضْرِبَ بِثَوْبِهِ حَطِيمَ الْكَعْبَةِ فَحِينَئِذٍ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الْمَشْيُ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ كَمَا لَا يَلْزَمُهُ هُنَاكَ ضَرْبُ الْحَطِيمِ بِثَوْبِهِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ إهْدَاءُ الثَّوْبِ إلَى مَكَّةَ لِكَوْنِ اللَّفْظِ عِبَارَةً عَنْهُ.
أُجِيبَ بِأَنَّ لِلْحَجِّ مَاشِيًا فَضِيلَةً لَيْسَتْ لَهُ رَاكِبًا، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَجَّ مَاشِيًا فَلَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ حَسَنَةٌ مِنْ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ، قِيلَ: وَمَا حَسَنَاتُ الْحَرَمِ؟ قَالَ: وَاحِدَةٌ بِسَبْعِمِائَةٍ» فَاعْتُبِرَ لَفْظُهُ لِإِيجَابِ الْمَشْيِ لِإِحْرَازِ تِلْكَ الْفَضِيلَةِ، وَمَعْنَاهُ فِي إيجَابِ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ لِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى ذَلِكَ الْمُتَعَارَفِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ.
وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ هَذِهِ اللَّفْظَةُ فِي الْعُرْفِ تُسْتَعْمَلُ لِلْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ مَاشِيًا لَا أَنَّ الْحَقِيقَةَ مُرَادَةٌ بِلَفْظِهِ وَمَجَازُهُ بِمَعْنَاهُ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي فَفِيمَا إذَا قَالَ عَلَيَّ الْخُرُوجُ أَوْ الذَّهَابُ أَوْ السَّعْيُ أَوْ السَّفَرُ أَوْ الرُّكُوبُ أَوْ الْإِتْيَانُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ أَوْ الْمَشْيُ إلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ لِعَدَمِ الْأَثَرِ وَالْعُرْفِ فِيهِ فَكَانَ بَاقِيًا عَلَى الْقِيَاسِ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ فَفِيمَا إذَا قَالَ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى الْحَرَمِ أَوْ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
كَمَا لَوْ قَالَ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَزِمَهُ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ لِأَنَّ الْحَرَمَ شَامِلٌ لِلْبَيْتِ (وَكَذَا الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ فَصَارَ ذِكْرُهُ كَذِكْرِهِ، بِخِلَافِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِأَنَّهُمَا مُنْفَصِلَانِ عَنْهُ.
وَلَهُ أَنَّ الْتِزَامَ الْإِحْرَامِ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ) حَتَّى يَصِيرَ مَجَازًا (وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهُ بِاعْتِبَارِ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ فَامْتَنَعَ أَصْلًا) (وَمَنْ قَالَ عَبْدِي حُرٌّ إنْ لَمْ أَحُجَّ الْعَامَ، وَقَالَ: حَجَجْتُ وَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ ضَحَّى الْعَامَ بِالْكُوفَةِ لَمْ يُعْتَقْ عَبْدُهُ)، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُعْتَقُ لِأَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ قَامَتْ عَلَى أَمْرٍ مَعْلُومٍ وَهُوَ التَّضْحِيَةُ، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ انْتِفَاءُ الْحَجِّ فَيَتَحَقَّقُ الشَّرْطُ.
وَلَهُمَا أَنَّهَا قَامَتْ عَلَى النَّفْيِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا نَفْيُ الْحَجِّ لَا إثْبَاتُ التَّضْحِيَةِ لِأَنَّهُ لَا مَطَالِبَ لَهَا فَصَارَ كَمَا إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ لَمْ يَحُجَّ الْعَامَ.
غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ هَذَا النَّفْيَ مِمَّا يُحِيطُ عِلْمُ الشَّاهِدِ بِهِ وَلَكِنَّهُ لَا يُمَيَّزُ بَيْنَ نَفْيٍ وَنَفْيٍ تَيْسِيرًا.
الشَّرْحُ:
وَمَنْ قَالَ عَبْدِي حُرٌّ إنْ لَمْ أَحُجَّ الْعَامَ ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (لَكِنْ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ نَفْيٍ وَنَفْيٍ تَيْسِيرًا) نُوقِضَ بِمَسْأَلَةِ السَّيْرِ الْكَبِيرِ: رَجُلَانِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّا سَمِعْنَاهُ يَقُولُ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وَلَمْ يَقُلْ قَوْلَ النَّصَارَى فَبَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ، وَالرَّجُلُ يَقُولُ وَصَلْت بِقَوْلِي قَوْلَ النَّصَارَى جَازَتْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ، وَإِنْ قَامَتْ عَلَى النَّفْيِ لِأَنَّهَا قَامَتْ عَلَى نَفْيِ شَيْءٍ أَحَاطَ بِهِ عِلْمُ الشَّاهِدِ.
وَأَجَابَ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ بِأَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ شَهَادَةٌ قَامَتْ عَلَى أَمْرٍ وُجُودِيٍّ وَهُوَ سُكُوتُ الزَّوْجِ عَقِيبَ قَوْلِهِ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وَلَكِنْ قَالَ الْإِمَامَانِ الْعَلَمَانِ فِي التَّحْقِيقِ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ: إذَا قَالَ الشَّاهِدَانِ الزَّوْجُ لَمْ يَقُلْ هَذِهِ الزِّيَادَةَ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ لِأَنَّ قَوْلَهُمَا هَذَا بَيَانٌ مِنْهُمَا لِإِحَاطَةِ عِلْمِهِمَا بِذَلِكَ، فَكَانَ التَّمْيِيزُ بَيْنَ نَفْيٍ وَنَفْيٍ مُعْتَبَرًا، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مُخْتَارَ الْمُصَنِّفِ لِإِفْضَائِهِ إلَى الْحَرَجِ. (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَصُومُ فَنَوَى الصَّوْمَ وَصَامَ سَاعَةً ثُمَّ أَفْطَرَ مِنْ يَوْمِهِ حَنِثَ) لِوُجُودِ الشَّرْطِ إذْ الصَّوْمُ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْمُفْطِرَاتِ عَلَى قَصْدِ التَّقَرُّبِ (وَلَوْ حَلَفَ لَا يَصُومُ يَوْمًا أَوْ صَوْمًا فَصَامَ سَاعَةً ثُمَّ أَفْطَرَ لَا يَحْنَثُ) لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الصَّوْمُ التَّامُّ الْمُعْتَبَرُ شَرْعًا وَذَلِكَ بِإِنْهَائِهِ إلَى آخِرِ الْيَوْمِ، وَالْيَوْمُ صَرِيحٌ فِي تَقْدِيرِ الْمُدَّةِ بِهِ.
الشَّرْحُ:
قَوْلُهُ (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَصُومُ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الصَّوْمُ التَّامُّ الْمُعْتَبَرُ شَرْعًا) أَوْرَدَ عَلَيْهِ مَا لَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَأَصُومَن هَذَا الْيَوْمَ وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ أَوْ بَعْدَ الزَّوَالِ صَحَّ يَمِينُهُ بِالِاتِّفَاقِ، وَالصَّوْمُ مَقْرُونٌ بِالْيَوْمِ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُرِدْ بِهِ الصَّوْمَ الشَّرْعِيَّ فَإِنَّ الصَّوْمَ الشَّرْعِيَّ بَعْدَ الْأَكْلِ أَوْ الشُّرْبِ أَوْ بَعْدَ الزَّوَالِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الدَّلَالَةَ قَامَتْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ لَيْسَ الصَّوْمَ الشَّرْعِيَّ وَهُوَ كَوْنُ الْيَمِينِ بَعْدَ الْأَكْلِ أَوْ بَعْدَ الزَّوَالِ فَانْصَرَفَ إلَى الصَّوْمِ اللُّغَوِيِّ وَانْعَقَدَتْ يَمِينُهُ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يَمْنَعُهُ عَنْ الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ. (وَلَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي فَقَامَ وَقَرَأَ وَرَكَعَ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ سَجَدَ مَعَ ذَلِكَ ثُمَّ قَطَعَ حَنِثَ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يَحْنَثَ بِالِافْتِتَاحِ اعْتِبَارًا بِالشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الصَّلَاةَ عِبَارَةٌ عَنْ الْأَرْكَانِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَمَا لَمْ يَأْتِ بِجَمِيعِهَا لَا يُسَمَّى صَلَاةً، بِخِلَافِ الصَّوْمِ لِأَنَّهُ رُكْنٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ وَيَتَكَرَّرُ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي (وَلَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي صَلَاةً لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ) لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الصَّلَاةُ الْمُعْتَبَرَةُ شَرْعًا وَأَقَلُّهَا رَكْعَتَانِ لِلنَّهْيِ عَنْ الْبُتَيْرَاءِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ) قِيلَ عَلَيْهِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْنَثَ بِمُجَرَّدِ الْإِتْيَانِ بِالرَّكْعَتَيْنِ مَا لَمْ يَأْتِ بِالْقَعْدَةِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَكُونُ مُعْتَبَرَةً بِدُونِ الْقَعْدَةِ شَرْعًا، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ عِبَارَةٌ عَنْ صَلَاةٍ تَامَّةٍ، وَتَمَامُهَا شَرْعًا إنَّمَا يَكُونُ بِالْقَعْدَةِ أَشَارَ إلَى ذَلِكَ تَعْلِيلُهُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الصَّلَاةُ الْمُعْتَبَرَةُ شَرْعًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ لَبِسْتِ مِنْ غَزْلِكِ فَهُوَ هَدْيٌ فَاشْتَرَى قُطْنًا فَغَزَلَتْهُ وَنَسَجَتْهُ فَلَبِسَهُ فَهُوَ هَدْيٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا: لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُهْدِيَ حَتَّى تَغْزِلَ مِنْ قُطْنٍ مَلَكَهُ يَوْمَ حَلَفَ) وَمَعْنَى الْهَدْيِ التَّصَدُّقُ بِهِ بِمَكَّةَ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى إلَيْهَا.

.بَابُ: الْيَمِينِ فِي لُبْسِ الثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ:

لَهُمَا أَنَّ النَّذْرَ إنَّمَا يَصِحُّ فِي الْمِلْكِ أَوْ مُضَافًا إلَى سَبَبِ الْمِلْكِ وَلَمْ يُوجَدْ لِأَنَّ اللُّبْسَ وَغَزْلَ الْمَرْأَةِ لَيْسَا مِنْ أَسْبَابِ مِلْكِهِ.
وَلَهُ أَنَّ غَزْلَ الْمَرْأَةِ عَادَةً يَكُونُ مِنْ قُطْنِ الزَّوْجِ وَالْمُعْتَادُ هُوَ الْمُرَادُ وَذَلِكَ سَبَبٌ لِمِلْكِهِ، وَلِهَذَا يَحْنَثُ إذَا غَزَلَتْ مِنْ قُطْنٍ مَمْلُوكٍ لَهُ وَقْتَ النَّذْرِ لِأَنَّ الْقُطْنَ لَمْ يَصِرْ مَذْكُورًا.
الشَّرْحُ:
بَابُ: الْيَمِينِ فِي لُبْسِ الثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
قَدَّمَ يَمِينَ لُبْسِ الثِّيَابِ وَغَيْرَهُ عَلَى الْيَمِينِ فِي الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ، إمَّا لِأَنَّ يَمِينَ لُبْسِ الثِّيَابِ أَكْثَرُ مِنْهُ وُجُودًا، وَإِمَّا لِأَنَّ الْيَمِينَ بِهِ مَشْرُوعٌ وُجُودًا وَعَدَمًا، بِخِلَافِ الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ (وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ لَبِسْت مِنْ غَزْلِك فَهُوَ هَدْيٌ) أَيْ صَدَقَةٌ أَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى فُقَرَاءِ مَكَّةَ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (وَالْمُعْتَادُ هُوَ الْمُرَادُ) يَعْنِي فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ مِنْ قُطْنِي أَوْ مِنْ قُطْنٍ سَأَمْلِكُهُ (وَذَلِكَ) أَيْ الْغَزْلُ مِنْ قُطْنِ الزَّوْجِ (سَبَبٌ لِمِلْكِ الزَّوْجِ لِمَا غَزَلَتْهُ) يَعْنِي مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ وَقَوْلُهُ (وَلِهَذَا) إيضَاحٌ لِقَوْلِهِ وَذَلِكَ سَبَبٌ لِمِلْكِهِ: يَعْنِي أَنَّهَا إذَا غَزَلَتْ مِنْ قُطْنٍ مَمْلُوكٍ لِلزَّوْجِ وَقْتَ الْحَلِفِ كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لَأَنْ يَمْلِكَ الزَّوْجُ غَزْلَهَا مَعَ أَنَّ الْقُطْنَ لَيْسَ بِمَذْكُورٍ هُنَاكَ، وَمَا ذَاكَ إلَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ غَزْلَ الْمَرْأَةِ سَبَبٌ لِمِلْكِ الزَّوْجِ لِمَا غَزَلَتْهُ فِي الْعُرْفِ، وَالْعُرْفُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْقُطْنُ مَمْلُوكًا وَقْتَ الْحَلِفِ أَوْ لَمْ يَكُنْ. (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ حُلِيًّا فَلَبِسَ خَاتَمَ فِضَّةٍ لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحُلِيٍّ عُرْفًا وَلَا شَرْعًا حَتَّى أُبِيحَ اسْتِعْمَالُهُ لِلرِّجَالِ وَالتَّخَتُّمُ بِهِ لِقَصْدِ الْخَتْمِ (وَإِنْ كَانَ مِنْ ذَهَبٍ حَنِثَ) لِأَنَّهُ حُلِيٌّ وَلِهَذَا لَا يَحِلُّ اسْتِعْمَالُهُ لِلرِّجَالِ.
(وَلَوْ لَبِسَ عِقْدَ لُؤْلُؤٍ غَيْرِ مُرَصَّعٍ لَمْ يَحْنَثْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا يَحْنَثُ) لِأَنَّهُ حُلِيٌّ حَقِيقَةً حَتَّى سُمِّيَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ.
وَلَهُ أَنَّهُ لَا يَتَحَلَّى بِهِ عُرْفًا إلَّا مُرَصَّعًا، وَمَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ.
وَقِيلَ هَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ، وَيُفْتَى بِقَوْلِهِمَا لِأَنَّ التَّحَلِّيَ بِهِ عَلَى الِانْفِرَادِ مُعْتَادٌ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ حَلْيًا) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَهُوَ مَا يَتَحَلَّى بِهِ النِّسَاءُ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ جَوْهَرٍ، وَاسْتَدَلَّ بِإِبَاحَةِ اسْتِعْمَالِهِ لِلرِّجَالِ عَلَى أَنَّ الْخَاتَمَ مِنْ فِضَّةٍ لَيْسَ بِحَلْيٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَلْيًا لَحَرُمَ عَلَى الرِّجَالِ لِأَنَّ التَّزَيُّنَ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ حَرَامٌ عَلَى الرِّجَالِ، وَلَمَّا جَازَ التَّخَتُّمُ بِالْفِضَّةِ لَهُمْ لِقَصْدِ الْخَتْمِ أَوْ لِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ حَلْيًا أَوْ كَانَ نَاقِصًا فِي كَوْنِهِ حَلْيًا فَكَانَ مُبَاحًا (وَإِنْ كَانَ مِنْ ذَهَبٍ حَنِثَ) يَعْنِي كَيْفَمَا كَانَ سَوَاءٌ كَانَ فِيهِ فَصٌّ أَوْ لَمْ يَكُنْ.
قِيلَ الْخَوَاتِيمُ ثَلَاثَةٌ، الذَّهَبُ مُطْلَقًا، وَالْفِضَّةُ الْمَفْصُوصَةُ وَالْحَالِفُ أَنْ لَا يَلْبَسَ حَلْيًا يَحْنَثُ بِلُبْسِهِمَا، وَالْفِضَّةُ الْغَيْرُ الْمَفْصُوصَةُ وَالْحَالِفُ لَا يَحْنَثُ بِلُبْسِهِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ لَبِسَ عِقْدَ لُؤْلُؤٍ) ظَاهِرٌ، وَالْعِقْدُ بِالْكَسْرِ هُوَ الْقِلَادَةُ، وَالتَّرْصِيعُ التَّرْكِيبُ، يُقَالُ تَاجٌ مُرَصَّعٌ بِالْجَوَاهِرِ.
وَقَوْلُهُ (حَتَّى سُمِّيَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ) أَيْ بِالْحَلْيِ يُرِيدُ بِهِ قَوْله تَعَالَى {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} وقَوْله تَعَالَى {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} جَعَلَ اللُّؤْلُؤَ حَلْيًا بِجَعْلِهِ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يُحَلَّوْنَ} (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ فَنَامَ عَلَيْهِ وَفَوْقَهُ قِرَامٌ حَنِثَ) لِأَنَّهُ تَبَعُ الْفِرَاشِ فَيُعَدُّ نَائِمًا عَلَيْهِ (وَإِنْ جَعَلَ فَوْقَهُ فِرَاشًا آخَرَ فَنَامَ عَلَيْهِ لَا يَحْنَثُ) لِأَنَّ مِثْلَ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ تَبَعًا لَهُ فَقَطَعَ النِّسْبَةَ عَنْ الْأَوَّلِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ) (حَلَفَ لَا يَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ) يُرِيدُ عَلَى فِرَاشٍ بِعَيْنِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ وَإِنْ جَعَلَ فَوْقَهُ فِرَاشًا آخَرَ فَنَامَ عَلَيْهِ لَا يَحْنَثُ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى حَقِيقَتِهِ مُنَكَّرًا لَحَنِثَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا لِأَنَّهُ نَامَ عَلَى فِرَاشٍ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهُ فَلَا يُعْتَبَرُ حَائِلًا) يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَوْ نَزَعَ ثَوْبَهُ وَطَرَحَهُ عَلَى الْأَرْضِ وَجَلَسَ عَلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَمْ يَبْقَ ثَوْبُهُ تَبَعًا لَهُ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْبِسَاطِ وَالْحَصِيرِ. (وَلَوْ حَلَفَ لَا يَجْلِسُ عَلَى الْأَرْضِ فَجَلَسَ عَلَى بِسَاطٍ أَوْ حَصِيرٍ لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى جَالِسًا عَلَى الْأَرْضِ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ لِبَاسُهُ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهُ فَلَا يُعْتَبَرُ حَائِلًا (وَإِنْ حَلَفَ لَا يَجْلِسُ عَلَى سَرِيرٍ فَجَلَسَ عَلَى سَرِيرٍ فَوْقَهُ بِسَاطٌ أَوْ حَصِيرٌ حَنِثَ) لِأَنَّهُ يُعَدُّ جَالِسًا عَلَيْهِ، وَالْجُلُوسُ عَلَى السَّرِيرِ فِي الْعَادَةِ كَذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا إذَا جَعَلَ فَوْقَهُ سَرِيرًا آخَرَ لِأَنَّهُ مِثْلُ الْأَوَّلِ فَقَطَعَ النِّسْبَةَ عَنْهُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ حَلَفَ لَا يَجْلِسُ عَلَى سَرِيرٍ) ظَاهِرٌ مِمَّا تَقَدَّمَ.

.(بَابُ الْيَمِينِ فِي الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ وَغَيْرِهِ):

(وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ إنْ ضَرَبْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ فَمَاتَ فَضَرَبَهُ فَهُوَ عَلَى الْحَيَاةِ) لِأَنَّ الضَّرْبَ اسْمٌ لِفِعْلٍ مُؤْلِمٍ يَتَّصِلُ بِالْبَدَنِ، وَالْإِيلَامُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمَيِّتِ، وَمَنْ يُعَذَّبُ فِي الْقَبْرِ تُوضَعُ فِيهِ الْحَيَاةُ فِي قَوْلِ الْعَامَّةِ وَكَذَلِكَ الْكِسْوَةُ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ التَّمْلِيكُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَمِنْهُ الْكِسْوَةُ فِي الْكَفَّارَةِ وَهُوَ مِنْ الْمَيِّتِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ السَّتْرَ، وَقِيلَ بِالْفَارِسِيَّةِ يَنْصَرِفُ إلَى اللُّبْسِ (وَكَذَا الْكَلَامُ وَالدُّخُولُ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْكَلَامِ الْإِفْهَامُ وَالْمَوْتُ يُنَافِيهِ، وَالْمُرَادُ مِنْ الدُّخُولِ عَلَيْهِ زِيَارَتُهُ وَبَعْدَ الْمَوْتِ يُزَارُ قَبْرُهُ لَا هُوَ.
الشَّرْحُ:
بَابُ: الْيَمِينِ فِي الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ وَغَيْرِهِ.
يُرِيدُ بِالْغَيْرِ الْغُسْلَ وَالْكِسْوَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ وَجْهِ الْمُنَاسَبَةِ فِي الْبَابِ الْمُتَقَدِّمِ (وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ إنْ ضَرَبْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ فَمَاتَ فَضَرَبَهُ فَهُوَ عَلَى الْحَيَاةِ لِأَنَّ الضَّرْبَ اسْمٌ لِفِعْلٍ مُؤْلِمٍ يَتَّصِلُ بِالْبَدَنِ) وَهُوَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمَيِّتِ لِانْتِفَاءِ الْإِيلَامِ فِيهِ، وَنُوقِضَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَخُذْ بِيَدِك ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} فَقَدْ بَرَّ أَيُّوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي يَمِينِهِ بِالضَّرْبِ بِهَذَا الَّذِي ذُكِرَ، وَلَمْ يُوجَدْ الْإِيلَامُ لِمَا أَنَّ الضِّغْثَ عِبَارَةٌ عَنْ الْحُزْمَةِ الصَّغِيرَةِ مِنْ رَيْحَانٍ أَوْ حَشِيشٍ فَلَمْ يَكُنْ لِمَجْمُوعِهِ إيلَامٌ فَكَيْفَ لِأَجْزَائِهِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ جَازَ أَنْ يَكُونَ هَذَا حُكْمًا ثَابِتًا بِالنَّصِّ فِي حَقِّ أَيُّوبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَاصَّةً إكْرَامًا لَهُ فِي حَقِّ امْرَأَتِهِ تَخْفِيفًا عَلَيْهَا لِعَدَمِ جِنَايَتِهَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ غَيْرُهُ، هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ لِأَجْزَاءِ الضِّغْثِ إيلَامٌ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي تَفْسِيرِ الضِّغْثِ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الضِّغْثَ عِبَارَةٌ عَنْ الْقَبْضَةِ مِنْ الشَّجَرِ فَجَازَ أَنْ يُصِيبَهَا أَلَمُ أَجْزَائِهَا فَكَانَ حُكْمُهُ بَاقِيًا فِي شَرِيعَتِنَا أَيْضًا، وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِيهِ فِي الْكَشَّافِ وَذَكَرَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: وَمَنْ حَلَفَ لَيَضْرِبَن فُلَانًا مِائَةَ سَوْطٍ فَضَرَبَهُ بِهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً إنْ وَصَلَ إلَيْهِ كُلُّ سَوْطٍ بِحِيَالِهِ بَرَّ فِي يَمِينِهِ، وَالْإِيلَامُ شَرْطٌ فِيهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الضَّرْبِ الْإِيلَامُ.
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ يُعَذَّبُ فِي الْقَبْرِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ قَوْلُكُمْ الْإِيلَامُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمَيِّتِ يُشْكِلُ بِعَذَابِ الْمَيِّتِ فِي الْقَبْرِ، وَقَيَّدَ بِقَوْلِ الْعَامَّةِ احْتِرَازًا عَنْ قَوْلِ أَبِي الْحُسَيْنِ الصَّالِحِيِّ، فَإِنَّ الْمَيِّتَ عِنْدَهُ يُعَذَّبُ مِنْ غَيْرِ حَيَاةٍ وَلَا يَشْتَرِطُ الْحَيَاةَ لِتَعْذِيبِ الْمَيِّتِ. وَقَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ الْكِسْوَةُ) يَعْنِي إنْ قَالَ إنْ كَسَوْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ فَكَسَاهُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يَحْنَثُ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ) أَيْ الْكِسْوَةِ عَلَى تَأْوِيلِ الْإِكْسَاءِ (التَّمْلِيكُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَمِنْهُ الْكِسْوَةُ فِي الْكَفَّارَةِ وَهُوَ مِنْ الْمَيِّتِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ) أَيْ الْكِسْوَةِ (السَّتْرَ) فَحِينَئِذٍ يَحْنَثُ لِأَنَّ فِيهِ تَشْدِيدًا عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ (وَقِيلَ بِالْفَارِسِيَّةِ يَنْصَرِفُ إلَى اللُّبْسِ) دُونَ التَّمْلِيكِ وَهُوَ قَوْلُ الْفَقِيهِ أَبُو اللَّيْثِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ إذَا حَلَفَ لَا يَلْبَسُ فُلَانًا فَأَلْبَسَهُ وَهُوَ مَيِّتٌ حَنِثَ لِأَنَّ الْإِلْبَاسَ عِبَارَةٌ عَنْ السَّتْرِ وَالتَّغْطِيَةِ وَالْمَيِّتُ مَحَلٌّ لِذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ (وَكَذَا الْكَلَامُ وَالدُّخُولُ) يَعْنِي إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا أَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ عَلَى فُلَانٍ فَكَلَّمَهُ أَوْ دَخَلَ عَلَيْهِ بَعْدَمَا مَاتَ لَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ (لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْكَلَامِ الْإِفْهَامُ وَالْمَوْتُ يُنَافِيهِ، وَالْمُرَادُ بِالدُّخُولِ عَلَيْهِ زِيَارَتُهُ وَبَعْدَ الْمَوْتِ يُزَارُ قَبْرُهُ لَا هُوَ) فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَّمَ أَصْحَابَ الْقَلِيبِ حَيْثُ سَمَّاهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَقَالَ: هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا فَقَدْ وَجَدْت مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا؟» أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُعْجِزَةً لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (وَلَوْ قَالَ: إنْ غَسَّلْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ فَغَسَّلَهُ بَعْدَ مَا مَاتَ يَحْنَثُ) لِأَنَّ الْغُسْلَ هُوَ الْإِسَالَةُ وَمَعْنَاهُ التَّطْهِيرُ وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي الْمَيِّتِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ) يَعْنِي التَّطْهِيرَ (فِي الْمَيِّتِ) أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ صَلَّى وَهُوَ يَحْمِلُ مَيِّتًا مُسْلِمًا لَمْ يُغَسَّلْ لَا تَجُوزُ وَإِنْ كَانَ مَغْسُولًا جَازَتْ (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ امْرَأَتَهُ فَمَدَّ شَعْرَهَا أَوْ خَنَقَهَا أَوْ عَضَّهَا حَنِثَ) لِأَنَّهُ اسْمٌ لِفِعْلٍ مُؤْلِمٍ وَقَدْ تَحَقَّقَ الْإِيلَامُ، (وَقِيلَ لَا يَحْنَثُ فِي حَالِ الْمُلَاعَبَةِ) لِأَنَّهُ يُسَمَّى مُمَازَحَةً لَا ضَرْبًا.
الشَّرْحُ:
(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ امْرَأَتَهُ فَمَدَّ شَعْرَهَا أَوْ خَنَقَهَا أَوْ عَضَّهَا حَنِثَ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِفِعْلٍ مُؤْلِمٍ) يَتَّصِلُ بِالْبَدَنِ (وَقَدْ تَحَقَّقَ الْإِيلَامُ) مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ (وَقِيلَ لَا يَحْنَثُ فِي حَالِ الْمُلَاعَبَةِ) وَإِنْ أَوْجَعَهَا وَآلَمَهَا لِأَنَّهُ يُسَمَّى فِي الْعُرْفِ مُمَازَحَةً لَا ضَرْبًا، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ الْإِمَامِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ. (وَمَنْ قَالَ: إنْ لَمْ أَقْتُلْ فُلَانًا فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ وَفُلَانٌ مَيِّتٌ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ حَنِثَ) لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى حَيَاةٍ يُحْدِثُهَا اللَّهُ فِيهِ وَهُوَ مُتَصَوَّرٌ فَيَنْعَقِدُ ثُمَّ يَحْنَثُ لِلْعَجْزِ الْعَادِيِّ (فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ لَا يَحْنَثُ) لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى حَيَاةٍ كَانَتْ فِيهِ وَلَا تُتَصَوَّرُ فَيَصِيرُ قِيَاسُ مَسْأَلَةِ الْكُوزِ عَلَى الِاخْتِلَافِ، وَلَيْسَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلُ الْعِلْمِ وَهُوَ الصَّحِيحُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ قَالَ إنْ لَمْ أَقْتُلْ فُلَانًا) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ كَمَا ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ فَقَالَ فِيهِ: وَلَوْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْكُوزَ لَا مَاءَ فِيهِ فَحَلَفَ وَقَالَ إنْ لَمْ أَشْرَبْ الْمَاءَ الَّذِي فِي هَذَا الْكُوزِ الْيَوْمَ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ حَنِثَ بِالِاتِّفَاقِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّهُ عَقَدَ الْيَمِينَ عَلَى شُرْبِ الْمَاءِ الْمَوْجُودِ فِي الْكُوزِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، وَإِنْ أَحْدَثَ فِي الْكُوزِ مَاءً فَلَيْسَ هُوَ الْمَاءُ الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا فِي الْكُوزِ وَقْتَ الْيَمِينِ لِأَنَّ الْمَاءَ الَّذِي أُضِيفَ إلَيْهِ الشُّرْبُ لَا يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ إذْ الْحَادِثُ غَيْرُهُ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْقَتْلِ إذْ كَانَ يَعْلَمُ بِمَوْتِ فُلَانٍ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلِ الْقَتْلِ فِي فُلَانٍ، فَإِذَا أَحْيَاهُ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ فُلَانٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} وَكَانَ مَا عَقَدَ عَلَيْهِ الْيَمِينَ مُتَوَهَّمًا، وَالْعَادِيُّ مَنْسُوبٌ إلَى الْعَادَةِ كَالْإِرَادِيِّ مَنْسُوبٌ إلَى الْإِرَادَةِ، فَإِنَّ تَاءَ التَّأْنِيثِ تُحْذَفُ فِي النِّسْبَةِ.

.بَابُ: الْيَمِينِ فِي تَقَاضِي الدَّرَاهِمِ:

(وَمَنْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ دَيْنَهُ إلَى قَرِيبٍ فَهُوَ عَلَى مَا دُونَ الشَّهْرِ، وَإِنْ قَالَ إلَى بَعِيدٍ فَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ الشَّهْرِ) لِأَنَّ مَا دُونَهُ يُعَدُّ قَرِيبًا، وَالشَّهْرُ وَمَا زَادَ عَلَيْهِ يُعَدُّ بَعِيدًا، وَلِهَذَا يُقَالُ عِنْدَ بُعْدِ الْعَهْدِ مَا لَقِيتُك مُنْذُ شَهْرٍ.
الشَّرْحُ:
بَابُ: الْيَمِينِ فِي تَقَاضِي الدَّرَاهِمِ.
لَمَّا كَانَتْ الدَّرَاهِمُ مِنْ الْوَسَائِلِ دُونَ الْمَقَاصِدِ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَغَيْرِهَا أَخَّرَ الْيَمِينَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهَا وَخَصَّ الدَّرَاهِمَ بِالذِّكْرِ لِكَوْنِهَا أَكْثَرَ اسْتِعْمَالًا، وَلَقَّبَ الْبَابَ بِالتَّقَاضِي وَالْمَسَائِلَ الْمَذْكُورَةَ فِيهِ بِلَفْظِ الْقَضَاءِ وَالْقَبْضِ وَالْعَدَدِ لِأَنَّ التَّقَاضِيَ سَبَبٌ لِلْقَضَاءِ وَالْقَبْضِ فَلُقِّبَ بِمَا هُوَ سَبَبٌ لِمَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِيهِ، هَذَا مَا قَالَهُ الشَّارِحُونَ.
وَأَقُولُ: جَمِيعُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ مِنْ الْمَسَائِلِ مَبْنَاهُ عَلَى التَّقَاضِي عَلَى مَا أُصَرِّحُ بِذِكْرِهِ عِنْدَ رَأْسِ كُلِّ مَسْأَلَةٍ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا، وَأَنَّ الْعَيْبَ لَا يَعْدَمُ الْجِنْسَ، وَأَنَّ مَا دُونَ الشَّهْرِ قَرِيبٌ وَمَا فَوْقَهُ بَعِيدٌ.
قَالَ (وَمَنْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ دَيْنَهُ).
تَقَاضَى الرَّجُلُ دَيْنَهُ وَأَلَحَّ فَحَلَفَ غَرِيمُهُ لَيَقْضِيَنَّ دَيْنَهُ (إلَى قَرِيبٍ فَهُوَ مَا دُونَ الشَّهْرِ، وَإِنْ قَالَ إلَى بَعِيدٍ فَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ الشَّهْرِ) لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ، وَجَعَلَ الشَّهْرَ أَيْضًا بَعِيدًا لِأَنَّهُ فِي الْعُرْفِ يُعَدُّ بَعِيدًا (وَمَنْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ فُلَانًا دَيْنَهُ الْيَوْمَ فَقَضَاهُ ثُمَّ وَجَدَ فُلَانٌ بَعْضَهَا زُيُوفًا أَوْ نَبَهْرَجَةً أَوْ مُسْتَحَقَّةً لَمْ يَحْنَثْ الْحَالِفُ) لِأَنَّ الزِّيَافَةَ عَيْبٌ وَالْعَيْبُ لَا يُعْدِمُ الْجِنْسَ، وَلِهَذَا لَوْ تَجُوزُ بِهِ صَارَ مُسْتَوْفِيًا، فَوُجِدَ شَرْطُ الْبِرِّ وَقَبْضُ الْمُسْتَحَقَّةِ صَحِيحٌ وَلَا يَرْتَفِعُ بِرَدِّهِ الْبِرَّ الْمُتَحَقِّقَ (وَإِنْ وَجَدَهَا رَصَاصًا أَوْ سَتُّوقَةً حَنِثَ) لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ حَتَّى لَا يَجُوزَ التَّجَوُّزُ بِهِمَا فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ (وَإِنْ بَاعَهُ بِهَا عَبْدًا وَقَبَضَهُ بَرَّ فِي يَمِينِهِ) لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ طَرِيقُهُ الْمُقَاصَّةُ وَقَدْ تَحَقَّقَتْ بِمُجَرَّدِ الْبَيْعِ فَكَأَنَّهُ شَرَطَ الْقَبْضَ لِيَتَقَرَّرَ بِهِ (وَإِنْ وَهَبَهَا لَهُ) يَعْنِي الدَّيْنَ (لَمْ يَبَرَّ) لِعَدَمِ الْمُقَاصَّةِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ فَعَلَهُ، وَالْهِبَةُ إسْقَاطٌ مِنْ صَاحِبِ الدَّيْنِ.
الشَّرْحُ:
وَإِنْ زَادَ فِي التَّقَاضِي (فَحَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ دَيْنَهُ الْيَوْمَ فَقَضَاهُ ثُمَّ وَجَدَ فُلَانٌ بَعْضَهَا زُيُوفًا أَوْ نَبَهْرَجَةً أَوْ مُسْتَحَقَّةً بَرَّ فِي يَمِينِهِ) لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ، وَالزَّيْفُ مَا يَرُدُّهُ بَيْتُ الْمَالِ، وَالنَّبَهْرَجُ مَا يَرُدُّهُ التُّجَّارُ، وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ.
وَقَوْلُهُ (فَوُجِدَ شَرْطُ بَرِّهِ) يَعْنِي قَضَاءَ دَيْنِهِ فِي الْيَوْمِ (وَقَبْضُ الْمُسْتَحَقَّةِ صَحِيحٌ) أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى بِهَا شَيْئًا فَأَخَذَهَا الْمُسْتَحَقُّ بَقِيَ الْبَيْعُ صَحِيحًا، وَلَوْ لَمْ يَصِحَّ قَبْضُ الْمُسْتَحَقَّةِ لَبَطَلَ الْبَيْعُ لِكَوْنِهِ بِلَا ثَمَنٍ (وَلَا يَرْتَفِعُ بِرَدِّهِ) أَيْ بِرَدِّ مَا قَضَى مِنْ الزُّيُوفِ أَوْ النَّبَهْرَجَةِ أَوْ الْمُسْتَحَقَّةِ (الْبَرُّ الْمُتَحَقَّقُ) لِأَنَّ الْيَمِينَ لَمَّا انْحَلَّتْ بِوُجُودِ الشَّرْطِ لَمْ يَقْبَلْ الْفَسْخَ وَالِانْتِفَاضَ كَالْكِتَابَةِ، فَإِنَّ مَوْلَى الْمُكَاتَبِ إذَا رَدَّ الْبَدَلَ لِكَوْنِهِ زَيْفًا أَوْ نَبَهْرَجَةً أَوْ اسْتَرَدَّ بِالِاسْتِحْقَاقِ لَا يُنْتَقَضُ الْعِتْقُ، بِخِلَافِ قَضَاءِ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ يُنْتَقَضُ بِرَدِّ الْمَقْبُوضِ لِعَيْبٍ أَوْ اسْتِحْقَاقٍ لِأَنَّ مَبْنَاهُ الْمُقَاصَّةُ وَقَدْ زَالَتْ.
قَوْلُهُ (وَإِنْ وَجَدَهَا رَصَاصًا) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ طَرِيقُهُ الْمُقَاصَّةُ) بَيَانُهُ أَنَّ مَا يَقْبِضُهُ رَبُّ الدَّيْنِ يَصِيرُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يَقْبِضُهُ لِنَفْسِهِ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ، وَلِرَبِّ الدَّيْنِ عَلَى الْمَدْيُونِ مِثْلُهُ، أَيْ مِثْلُ مَا فِي ذِمَّتِهِ فَيَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا (وَقَدْ تَحَقَّقَتْ بِمُجَرَّدِ الْبَيْعِ) لِأَنَّ ثَمَنَ الْعَبْدِ آخِرُ الدَّيْنَيْنِ فَيَكُونُ قَضَاءً عَنْ الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا كَانَ طَرِيقُ قَضَاءِ الدَّيْنِ الْمُقَاصَّةَ لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ حَقِيقَةً لَا يُتَصَوَّرُ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يُصَادِفُ الْعَيْنَ وَحَقُّ صَاحِبِ الدَّيْنِ فِي وَصْفٍ فِي الذِّمَّةِ وَلِهَذَا قَالُوا الدُّيُونُ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا.
وَقَوْلُهُ (فَكَأَنَّهُ شَرَطَ الْقَبْضَ) كَأَنَّهُ إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَمَّا يُقَالُ لَوْ تَحَقَّقَتْ الْمُقَاصَّةُ بِمُجَرَّدِ الْبَيْعِ لَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَيَقْبِضُهُ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْقَبْضِ لِيَكُونَ هَذَا الدَّيْنُ مِثْلَ الدَّيْنِ الَّذِي لِلْمُشْتَرِي عَلَيْهِ لِأَنَّ مَالَهُ مِنْ الدَّيْنِ عَلَيْهِ مُتَقَرِّرٌ وَثَمَنُ الْعَبْدِ غَيْرُ مُتَقَرِّرٍ قَبْلَ الْقَبْضِ لِأَنَّهُ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ بِمَوْتِهِ، فَإِذَا قَبَضَهُ صَارَ مُتَقَرِّرًا فَيَكُونُ مِثْلَهُ فَيَتَقَاصَّانِ (وَإِنْ وَهَبَهَا لَهُ) أَيْ إنْ وَهَبَ الدَّائِنُ دَيْنَهُ لِلْمَدْيُونِ (لَمْ يَبَرَّ) الْحَالِفُ (لِعَدَمِ الْمُقَاصَّةِ) لِأَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فِعْلُهُ وَهُوَ الْقَضَاءُ (وَالْهِبَةُ) لَيْسَتْ فِعْلَهُ لِأَنَّهَا (إسْقَاطٌ مِنْ صَاحِبِ الدَّيْنِ) وَإِنَّمَا قَالَ لَمْ يَبَرَّ لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ الْحِنْثِ، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إلَى أَنَّهُ لَمْ يَبَرَّ وَلَمْ يَحْنَثْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِفَوَاتِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَهُوَ الدَّيْنُ، وَفَوَاتُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ عِنْدَهُمَا جِهَةٌ فِي بُطْلَانِ الْيَمِينِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْكُوزِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
قَالَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ: وَلَنَا فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَلْزَمُ ارْتِفَاعُ النَّقِيضَيْنِ، وَهُوَ فَاسِدٌ بِمَرَّةٍ لِأَنَّ الْبَرَّ نَقِيضُ الْحِنْثِ، فَمِنْ وُجُودِ أَحَدِهِمَا يَلْزَمُ ارْتِفَاعُ الْآخَرِ وَمِنْ ارْتِفَاعِ أَحَدِهِمَا يَلْزَمُ وُجُودُ الْآخَرِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَا جَمِيعًا.
وَأَقُولُ: لَيْسَا بِنَقِيضَيْنِ عَلَى اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْمَعْقُولِ وَغَيْرُ الْحَالِفِ لَا يَتَّصِفُ بِأَحَدِهِمَا وَشَأْنُ النَّقِيضَيْنِ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِذَا بَطَلَ الْيَمِينُ بِفَوَاتِ تَصَوُّرِ الْبَرِّ صَارَ كَغَيْرِ الْحَالِفِ مِنْ النَّاسِ فَيَجُوزُ أَنْ لَا يَتَّصِفَ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا. (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَقْبِضُ دَيْنَهُ دِرْهَمًا دُونَ دِرْهَمٍ فَقَبَضَ بَعْضَهُ لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَقْبِضَ جَمِيعَهُ) لِأَنَّ الشَّرْطَ قَبْضُ الْكُلِّ وَلَكِنَّهُ بِوَصْفِ التَّفَرُّقِ، أَلَا يُرَى أَنَّهُ أَضَافَ الْقَبْضَ إلَى دَيْنٍ مُعَرَّفٍ مُضَافٍ إلَيْهِ فَيَنْصَرِفُ إلَى كُلِّهِ فَلَا يَحْنَثُ إلَّا بِهِ (فَإِنْ قَبَضَ دَيْنَهُ فِي وَزَنَيْنَ لَمْ يَتَشَاغَلْ بَيْنَهُمَا إلَّا بِعَمَلِ الْوَزْنِ لَمْ يَحْنَثْ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِتَفْرِيقٍ) لِأَنَّهُ قَدْ يَتَعَذَّرُ قَبْضُ الْكُلِّ دُفْعَةً وَاحِدَةً عَادَةً فَيَصِيرُ هَذَا الْقَدْرُ مُسْتَثْنًى مِنْهُ.
الشَّرْحُ:
وَإِذَا تَقَاضَى دَيْنَهُ فَقَالَ أَقْضِيهَا مُنَجَّمًا فَحَلَفَ (لَا يَقْبِضُ دَيْنَهُ دِرْهَمًا دُونَ دِرْهَمٍ فَقَبَضَ بَعْضَهُ لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَقْبِضَ الْجَمِيعَ) مُتَفَرِّقًا لِأَنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ أَمْرٌ مُرَكَّبٌ مِنْ قَبْضِ الْكُلِّ بِوَصْفِ التَّفَرُّقِ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْقَبْضَ إلَى دَيْنٍ مُعَرَّفٍ مُضَافٍ إلَيْهِ، وَهُوَ اسْمٌ لِكُلِّ مَا لَهُ عَلَيْهِ (فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ) وَالْمُرَكَّبُ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ جُزْئِهِ، فَإِذَا وُجِدَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ لَمْ يَحْنَثْ، وَهَاهُنَا إنْ فَاتَ عَدَمُ التَّفَرُّقِ لَمْ يُوجَدْ قَبْضُ الْجَمِيعِ.
وَقَوْلُهُ (فَإِنْ قَبَضَ دَيْنَهُ فِي وَزْنَيْنِ) ظَاهِرٌ. (وَمَنْ قَالَ: إنْ كَانَ لِي إلَّا مِائَةُ دِرْهَمٍ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَلَا يَمْلِكُ إلَّا خَمْسِينَ دِرْهَمًا لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ عُرْفًا نَفْيُ مَا زَادَ عَلَى الْمِائَةِ وَلِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْمِائَةِ اسْتِثْنَاؤُهَا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا (وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ غَيْرَ مِائَةٍ أَوْ سِوَى مِائَةٍ) لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ أَدَاةُ الِاسْتِثْنَاءِ.
الشَّرْحُ:
وَمَنْ تَقَاضَى مِنْ غَرِيمِهِ مِائَتَيْنِ فَقَالَ لَا أَمْلِكُ ذَلِكَ الْمِقْدَارَ فَلَمْ يُصَدِّقْهُ فَقَالَ (إنْ كَانَ لِي إلَّا مِائَةُ دِرْهَمٍ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ وَلَمْ يَمْلِكْ إلَّا خَمْسِينَ دِرْهَمًا لَمْ يَحْنَثْ) لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ.
قَوْلُهُ (وَلِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْمِائَةِ اسْتِثْنَاؤُهَا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا) يَعْنِي فَكَانَ اسْتِثْنَاءُ الْخَمْسِينَ دَاخِلًا تَحْتَ اسْتِثْنَاءِ الْمِائَةِ لِأَنَّ الْخَمْسِينَ مِنْ أَجْزَاءِ الْمِائَةِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَحْنَثْ