فصل: (بَابُ الْوِكَالَةِ بِالْخُصُومَةِ وَالْقَبْضِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.(فَصْلٌ) في وكالة الاثنين:

قَالَ (وَإِذَا وَكَّلَ وَكِيلَيْنِ فَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيمَا وُكِّلَا بِهِ دُونَ الْآخَرِ) وَهَذَا فِي تَصَرُّفٍ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ كَالْبَيْعِ وَالْخُلْعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ رَضِيَ بِرَأْيِهِمَا لَا بِرَأْيِ أَحَدِهِمَا، وَالْبَدَلُ وَإِنْ كَانَ مُقَدَّرًا وَلَكِنَّ التَّقْدِيرَ لَا يَمْنَعُ اسْتِعْمَالَ الرَّأْيِ فِي الزِّيَادَةِ وَاخْتِيَارِ الْمُشْتَرِي.
قَالَ (إلَّا أَنْ يُوَكِّلَهُمَا بِالْخُصُومَةِ) لِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ فِيهَا مُتَعَذَّرٌ لِلْإِفْضَاءِ إلَى الشَّغْبِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَالرَّأْيُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ سَابِقًا لِتَقْوِيمِ الْخُصُومَةِ.
الشَّرْحُ:
فَصْلٌ:
وَجْهُ تَأْخِيرِ وَكَالَةِ الِاثْنَيْنِ عَنْ وَكَالَةِ الْوَاحِدِ ظَاهِرٌ طَبْعًا وَوَضْعًا (وَإِذَا وَكَّلَ وَكِيلَيْنِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِكَلَامَيْنِ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِالتَّصَرُّفِ) لِأَنَّهُ رَضِيَ بِرَأْيِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ حَيْثُ وَكَّلَهُمَا مُتَعَاقِبًا وَإِنْ كَانَ بِكَلَامٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْمُرَادُ بِمَا فِي الْكِتَابِ فَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيمَا وُكِّلَا بِهِ دُونَ الْآخَرِ سَوَاءٌ كَانَا مِمَّنْ تَلْزَمُهُمَا الْأَحْكَامُ أَوْ أَحَدُهُمَا صَبِيٌّ أَوْ عَبْدٌ مَحْجُورٌ، إنْ كَانَ التَّصَرُّفُ مِمَّا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ كَالْبَيْعِ وَالْخُلْعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إذَا قَالَ وَكَّلْتُكُمَا بِبَيْعِ كَذَا أَوْ بِخُلْعِ كَذَا لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ رَضِيَ بِرَأْيِهِمَا لَا بِرَأْيِ أَحَدِهِمَا، وَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا أَوْ ذَهَبَ عَقْلُهُ لَيْسَ لِلْآخَرِ أَنْ يَتَصَرَّفَ (قَوْلُهُ وَالْبَدَلُ وَإِنْ كَانَ مُقَدَّرًا) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إذَا قَدَّرَ الْمُوَكِّلُ الْبَدَلَ فَقَدْ اسْتَغْنَى عَنْ الرَّأْيِ بَعْدَهُ فَيَجُوزُ أَنْ يَتَصَرَّفَ أَحَدُهُمَا.
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْبَدَلَ وَإِنْ كَانَ مُقَدَّرًا لَكِنَّ التَّقْدِيرَ لَا يَمْنَعُ اسْتِعْمَالَهُ فِي الزِّيَادَةِ، فَإِذَا اجْتَمَعَ رَأْيُهُمَا اُحْتُمِلَ أَنْ يَزِيدَ الثَّمَنُ وَيَخْتَارَانِ مَنْ هُوَ أَحْسَنُ أَدَاءً لِلثَّمَنِ.
وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنْ يُوَكِّلَهُمَا بِالْخُصُومَةِ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ فَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيمَا وُكِّلَا بِهِ دُونَ الْآخَرِ: يَعْنِي أَنَّ أَحَدَ الْوَكِيلَيْنِ لَا يَتَصَرَّفُ بِانْفِرَادِهِ فِيمَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ إلَّا فِي الْخُصُومَةِ، فَإِنَّ تَكَلُّمَهُمَا فِيهَا لَيْسَ بِشَرْطٍ لِأَنَّ اجْتِمَاعَهُمَا عَلَيْهَا مُتَعَذِّرٌ لِلْإِفْضَاءِ إلَى الشَّغَبِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ.
وَقَوْلُهُ (وَالرَّأْيُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ سَابِقًا) إشَارَةٌ إلَى دَفْعِ قَوْلِ مَنْ قَالَ لَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُخَاصِمَ دُونَ صَاحِبِهِ، لِأَنَّ الْخُصُومَةَ يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى الرَّأْيِ وَالْمُوَكِّلُ رَضِيَ بِرَأْيِهِمَا.
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ اجْتِمَاعُ الرَّأْيَيْنِ يَحْصُلُ فِي تَقْوِيمِ الْخُصُومَةِ سَابِقًا عَلَيْهَا فَيُكْتَفَى بِذَلِكَ. (قَالَ: أَوْ بِطَلَاقِ زَوْجَتِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ) (أَوْ بِعِتْقِ عَبْدِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ أَوْ بِرَدِّ وَدِيعَةٍ عِنْدَهُ أَوْ قَضَاءِ دَيْنٍ عَلَيْهِ) لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى الرَّأْيِ بَلْ هُوَ تَعْبِيرٌ مَحْضٌ، وَعِبَارَةُ الْمَثْنَى وَالْوَاحِدُ سَوَاءٌ.
وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لَهُمَا طَلَّقَاهَا إنْ شِئْتُمَا أَوْ قَالَ أَمْرُهَا بِأَيْدِيكُمَا لِأَنَّهُ تَفْوِيضٌ إلَى رَأْيِهِمَا؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَمْلِيكٌ مُقْتَصِرٌ عَلَى الْمَجْلِسِ، وَلِأَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِفِعْلِهِمَا فَاعْتَبَرَهُ بِدُخُولِهِمَا.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (أَوْ بِطَلَاقِ زَوْجَتِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ) وَمَا بَعْدَهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُسْتَثْنَى.
فَإِذَا وَكَّلَ رَجُلَيْنِ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَطَلَّقَ أَحَدُهُمَا وَأَبَى الْآخَرُ أَنْ يُطَلِّقَ فَهُوَ جَائِزٌ، وَكَذَا بِالْعِتْقِ الْمُفْرَدِ، وَكَذَا إذَا وَكَّلَهُ بِرَدِّ الْوَدِيعَةِ أَوْ بِقَضَاءِ دَيْنٍ عَلَيْهِ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى الرَّأْيِ بَلْ هُوَ تَعْبِيرٌ مَحْضٌ، وَعِبَارَةُ الْمُثَنَّى وَالْوَاحِدِ فِيهِ سَوَاءٌ؛ وَلَوْ كَانَتْ بِقَبْضِ الْوَدِيعَةِ فَقَبَضَ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ ضَمِنَ لِأَنَّهُ شَرَطَ اجْتِمَاعَهُمَا عَلَى الْقَبْضِ وَهُوَ مُمْكِنٌ، وَلِلْمُوَكَّلِ فِيهِ فَائِدَةٌ لِأَنَّ حِفْظَ اثْنَيْنِ أَنْفَعُ، فَإِذَا قَبَضَ أَحَدُهُمَا كَانَ قَابِضًا بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ فَيَضْمَنُ الْكُلَّ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِقَبْضِ النِّصْفِ إذَا كَانَ مَعَ صَاحِبِهِ.
وَأَمَّا مُنْفَرِدًا فَغَيْرُ مَأْمُورٍ بِقَبْضِ شَيْءٍ مِنْهُ.
قَوْلُهُ (وَهَذَا) أَيْ جَوَازُ انْفِرَادِ أَحَدِهِمَا، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لَهُمَا طَلِّقَاهَا إنْ شِئْتُمَا، أَوْ قَالَ أَمْرُهَا بِأَيْدِيكُمَا، لِأَنَّهُ تَفْوِيضٌ إلَى رَأْيِهِمَا؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَمْلِيكٌ مُقْتَصِرٌ عَلَى الْمَجْلِسِ كَمَا مَرَّ، وَإِذَا كَانَ تَمْلِيكًا صَارَ التَّطْلِيقُ مَمْلُوكًا لَهُمَا فَلَا يَقْدِرُ أَحَدُهُمَا عَلَى التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْآخَرِ.
قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يَقْدِرَ أَحَدُهُمَا عَلَى إيقَاعِ نِصْفِ تَطْلِيقَةٍ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ حَقِّ الْآخَرِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْإِبْطَالُ ضِمْنِيٌّ فَلَا يُعْتَبَرُ.
أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ الْإِبْطَالِ مَعَ قُدْرَتِهِمَا عَلَى الِاجْتِمَاعِ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ طَلِّقَاهَا إنْ شِئْتُمَا، فَإِنَّ الطَّلَاقَ فِيهِ مُعَلَّقٌ بِفِعْلِهِمَا وَهُوَ التَّطْلِيقُ، فَيَكُونُ مُعْتَبَرًا بِالطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ بِدُخُولِهِمَا الدَّارَ، فَإِنَّ بِدُخُولِ أَحَدِهِمَا لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، فَكَذَا هَاهُنَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَفِي قَوْلِهِ طَلِّقَاهَا أَيْضًا مُعَلَّقٌ بِفِعْلِهِمَا، وَيَقَعُ بِإِيقَاعِ أَحَدِهِمَا.
أُجِيبَ بِالْمَنْعِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّ فِيهِ حَرْفَ الشَّرْطِ وَهُوَ قَوْلُهُ إنْ شِئْتُمَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَاجْعَلْهُ مِثْلَ قَوْلِهِ أَمْرُهَا بِأَيْدِيكُمَا مُفَوِّضًا إلَى رَأْيِهِمَا.
أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُحْتَاجٍ إلَى الرَّأْيِ بِخِلَافِ الْأَمْرِ بِالْيَدِ. قَالَ (وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ فِيمَا وُكِّلَ بِهِ) لِأَنَّهُ فُوِّضَ إلَيْهِ التَّصَرُّفُ دُونَ التَّوْكِيلِ بِهِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ رَضِيَ بِرَأْيِهِ وَالنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ فِي الْآرَاءِ.
قَالَ (إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ الْمُوَكِّلُ) لِوُجُودِ الرِّضَا (أَوْ يَقُولَ لَهُ اعْمَلْ بِرَأْيِك) لِإِطْلَاقِ التَّفْوِيضِ إلَى رَأْيِهِ، وَإِذَا جَازَ فِي هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ الثَّانِي وَكِيلًا عَنْ الْمُوَكِّلِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْأَوَّلُ عَزْلَهُ وَلَا يَنْعَزِلُ بِمَوْتِهِ وَيَنْعَزِلَانِ بِمَوْتِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ مَرَّ نَظِيرُهُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ فِيمَا وُكِّلَ بِهِ إلَخْ) وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ فِيمَا وُكِّلَ بِهِ لِأَنَّهُ فُوِّضَ إلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِيمَا وُكِّلَ بِهِ، وَالتَّوْكِيلُ لَيْسَ بِتَصَرُّفٍ فِيهِ، (قَوْلُهُ وَهَذَا لِأَنَّهُ رَضِيَ بِرَأْيِهِ وَالنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ فِي الْآرَاءِ) وَفِيهِ تَشْكِيكٌ، وَهُوَ أَنَّ تَفَاوُتَ الْآرَاءِ مُدْرَكٌ بِيَقِينٍ وَإِلَّا لَمَا جَازَ التَّعْلِيلُ بِهِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ الثَّانِي أَقْوَى رَأْيًا مِنْ الْأَوَّلِ.
وَأَيْضًا الرِّضَا بِرَأْيِ الْوَكِيلِ وَرَدُّ تَوْكِيلِهِ تَنَاقُضٌ، لِأَنَّ الْوَكِيلَ الثَّانِيَ لَوْ لَمْ يَكُنْ أَقْوَى رَأْيًا أَوْ قَوِيَّهُ فِي رَأْيِ الْأَوَّلِ لَمَا وَكَّلَهُ، فَرَدُّ تَوْكِيلِهِ مَعَ الرِّضَا بِرَأْيِهِ مِمَّا لَا يَجْتَمِعَانِ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْقُوَّةِ فِي الرَّأْيِ لِمَا يَكُونُ بِحَسَبِ ظَنِّ الْمُوَكِّلِ، وَحَيْثُ اخْتَارَهُ لِلتَّوْكِيلِ مِنْ بَيْنِ مَنْ يَعْرِفُهُ بِالرَّأْيِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْأُمُورِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِالتَّوْكِيلِ، الظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَا ثَمَّةَ مَنْ يَفُوقُهُ فِي هَذَا التَّصَرُّفِ فَقَبُولُ تَوْكِيلِهِ حِينَئِذٍ مُنَاقِضٌ لِظَنِّهِ فَلَا يَجُوزُ (قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ، فَإِنَّهُ إنْ أَذِنَ لَهُ الْمُوَكِّلُ أَوْ يَقُولُ لَهُ اعْمَلْ بِرَأْيِك فَقَدْ رَضِيَ بِرَأْيِ غَيْرِهِ أَوْ أَطْلَقَ التَّفْوِيضَ إلَى رَأْيِهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَسَاوِيهِ مَعَ غَيْرِهِ فِي التَّصَرُّفِ فِي ظَنِّهِ فَجَازَ تَوْكِيلُهُ كَمَا جَازَ تَصَرُّفُهُ، وَإِذَا جَازَ فِي هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ الثَّانِي وَكِيلًا عَنْ الْمُوَكِّلِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْأَوَّلُ عَزْلَهُ وَلَا يَنْعَزِلُ بِمَوْتِهِ وَيَنْعَزِلَانِ بِمَوْتِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ مَرَّ نَظِيرُهُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي حَيْثُ قَالَ: وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَى الْقَضَاءِ إلَّا أَنْ يُفَوِّضَ إلَيْهِ ذَلِكَ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَ ثَمَّةَ، فَإِنْ وَكَّلَ الْوَكِيلُ بِغَيْرِ إذْنِ مُوَكِّلِهِ فَعَقَدَ وَكِيلُهُ بِحَضْرَتِهِ جَازَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حُضُورُ الرَّأْيِ وَقَدْ حَصَلَ.
قِيلَ أَحَدُ الْوَكِيلَيْنِ بِالْبَيْعِ إذَا بَاعَ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ لَمْ يُكْتَفَ بِحُضُورِهِ بَلْ لابد مِنْ الْإِجَازَةِ صَرِيحًا ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ، فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ صَاحِبَ الذَّخِيرَةِ قَالَ: مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: إذَا بَاعَ الْوَكِيلُ الثَّانِي بِحَضْرَةِ الْأَوَّلِ جَازَ، وَلَمْ يُشْتَرَطْ لِلْجَوَازِ إجَازَةُ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ، وَهَكَذَا ذَكَرَهُ فِي وَكَالَةِ الْأَصْلِ فِي مَوْضِعٍ، وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْهَا وَشَرْطُ إجَازَتِهِ قَالَ إذَا بَاعَ الْوَكِيلُ الثَّانِي وَالْوَكِيلُ الْأَوَّلُ حَاضِرٌ أَوْ غَائِبٌ فَأَجَازَ الْوَكِيلُ جَازَ.
حُكِيَ عَنْ الْكَرْخِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ، وَلَكِنْ مَا ذَكَرَ مُطْلَقًا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَنَّهُ يَجُوزُ إذَا بَاعَ بِحَضْرَةِ الْأَوَّلِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا أَجَازَ، فَكَانَ يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ بَعْضُ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَهَذَا لِأَنَّ تَوْكِيلَ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ لِعَدَمِ الْإِذْنِ بِهِ صَارَ كَالْعَدَمِ، وَعَادَ الْوَكِيلُ الثَّانِي فُضُولِيًّا وَعَقْدُهُ مُحْتَاجٌ إلَى الْإِجَازَةِ أَلْبَتَّةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ، وَوَجْهُ عَدَمِ الْجَوَازِ بِدُونِهَا مَا ذُكِرَ.
وَوَجْهُ الْجَوَازِ أَنَّ الْمَقْصُودَ حُضُورُ الرَّأْيِ وَهُوَ حَاصِلٌ عِنْدَ الْحُضُورِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْإِجَازَةِ، بِخِلَافِ الْغَيْبَةِ، وَعَلَى هَذَا أَحَدُ وَكِيلَيْ الْبَيْعِ، وَفِيهِ نَظَرٌ.
أَمَّا فِيمَا نُقِلَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ قَالَ: وَالْوَكِيلُ الْأَوَّلُ حَاضِرٌ أَوْ غَائِبٌ فَأَجَازَ الْوَكِيلُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ نَصًّا فِي اشْتِرَاطِ الْإِجَازَةِ لِلْحَاضِرِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فَأَجَازَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ أَوْ غَائِبٌ فَقَطْ، وَأَمَّا فِي تَعْلِيلِهِمْ فَلِأَنَّهُ مُعَارَضٌ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ الرَّأْيُ، وَقَدْ حَضَرَ كَمَا ذَكَرَهُ.
وَتَوْجِيهُ كَوْنِهِ فُضُولِيًّا فِي أَحَدِ وَكِيلَيْ الْبَيْعِ لَيْسَ كَوَكِيلِ الْوَكِيلِ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ مِنْ الْمُوَكِّلِ فِي الْجُمْلَةِ، بِخِلَافِ وَكِيلِ الْوَكِيلِ، وَلَعَلَّ الصَّوَابَ أَنَّ الْإِجَازَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ عَقْدِ وَكِيلِ الْوَكِيلِ عِنْدَ حُضُورِهِ وَشَرْطٌ لِصِحَّةِ عَقْدِ أَحَدِ الْوَكِيلَيْنِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ وَكِيلَ الْوَكِيلِ لَمَّا كَانَ يَتَصَرَّفُ بِتَوْكِيلِهِ وَرِضَاهُ بِالتَّصَرُّفِ كَانَ سُكُوتُهُ رِضًا لَا مَحَالَةَ، وَأَمَّا أَحَدُ الْوَكِيلَيْنِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ سُكُوتُهُ رِضًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ سُكُوتُهُ غَيْظًا مِنْهُ عَلَى اسْتِبْدَادِهِ بِالتَّصَرُّفِ مِنْ غَيْرِ إذْنٍ مِنْ صَاحِبِهِ.
هَذَا مَا سَنَحَ لِي فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. قَالَ (فَإِنْ وَكَّلَ بِغَيْرِ إذْنِ مُوَكِّلِهِ فَعَقَدَ وَكِيلُهُ بِحَضْرَتِهِ جَازَ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حُضُورُ رَأْيِ الْأَوَّلِ وَقَدْ حَضَرَ، وَتَكَلَّمُوا فِي حُقُوقِهِ.
(وَإِنْ عَقَدَ فِي حَالِ غَيْبَتِهِ لَمْ يَجُزْ) لِأَنَّهُ فَاتَ رَأْيَهُ إلَّا أَنْ يُبْلِغَهُ فَيُجِيزَهُ (وَكَذَا لَوْ بَاعَ غَيْرُ الْوَكِيلِ فَبَلَغَهُ فَأَجَازَهُ) لِأَنَّهُ حَضَرَ رَأْيُهُ (وَلَوْ قَدَّرَ الْأَوَّلُ الثَّمَنَ لِلثَّانِي فَعَقَدَ بِغِيبَتِهِ يَجُوزُ) لِأَنَّ الرَّأْيَ فِيهِ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِتَقْدِيرِ الثَّمَنِ ظَاهِرًا وَقَدْ حَصَلَ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا وَكَّلَ وَكِيلَيْنِ وَقَدَّرَ الثَّمَنَ، لِأَنَّهُ لَمَا فَوَّضَ إلَيْهِمَا مَعَ تَقْدِيرِ الثَّمَنِ ظَهَرَ أَنَّ غَرَضَهُ اجْتِمَاعُ رَأْيِهِمَا فِي الزِّيَادَةِ وَاخْتِيَارِ الْمُشْتَرِي عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، أَمَّا إذَا لَمْ يُقَدِّرْ الثَّمَنَ وَفَوَّضَ إلَى الْأَوَّلِ كَانَ غَرَضُهُ رَأْيَهُ فِي مُعْظَمِ الْأَمْرِ وَهُوَ التَّقْدِيرُ فِي الثَّمَنِ.
الشَّرْحُ:
(قَوْلُهُ وَتَكَلَّمُوا فِي حُقُوقِهِ) يَعْنِي إذَا بَاعَ بِحَضْرَةِ الْأَوَّلِ حَتَّى جَازَ فَالْعُهْدَةُ عَلَى مَنْ تَكُونُ؟ لَمْ يَذْكُرْهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَتَكَلَّمَ الْمَشَايِخُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ عَلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ إنَّمَا رَضِيَ بِلُزُومِ الْعُهْدَةِ عَلَيْهِ لَا الثَّانِي.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ عَلَى الثَّانِي إذْ السَّبَبُ وَهُوَ الْعَقْدُ وُجِدَ مِنْ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، وَالثَّانِي وَالثَّانِي كَالْوَكِيلِ لِلْمُوَكِّلِ الْأَوَّلِ، حَتَّى لَوْ مَاتَ الْمُوَكِّلُ الْأَوَّلُ انْعَزَلَ الْوَكِيلُ الثَّانِي بِمَوْتِهِ وَلَا يَنْعَزِلُ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ الثَّانِي (وَإِنْ عَقَدَ الثَّانِي فِي غَيْبَةِ الْأَوَّلِ لَمْ يَجُزْ) لِفَوَاتِ رَأْيِهِ إلَّا أَنْ يَبْلُغَهُ فَيُجِيزَهُ، كَمَا لَوْ بَاعَ غَيْرُ الْوَكِيلِ فَبَلَغَهُ فَأَجَازَهُ بِحُضُورِ رَأْيِهِ، وَلَوْ قَدَّرَ الْوَكِيلُ الْأَوَّلُ الثَّمَنَ لِلثَّانِي فَعَقَدَ بِغَيْبَتِهِ جَازَ لِأَنَّ الرَّأْيَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِتَقْدِيرِ الثَّمَنِ ظَاهِرًا وَقَدْ حَصَلَ التَّقْدِيرُ، وَهَذِهِ رِوَايَةُ كِتَابِ الرَّهْنِ اخْتَارَهَا الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَعَلَى رِوَايَةِ كِتَابِ الْوَكَالَةِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَوْ بَاشَرَ رُبَّمَا بَاعَ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْقَدْرِ الْمُعَيَّنِ لِذَكَائِهِ وَهِدَايَتِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ ظَاهِرًا احْتِرَازًا عَمَّا إذَا وَكَّلَ وَكِيلَيْنِ وَقَدَّرَ الثَّمَنَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِذَلِكَ الْمِقْدَارِ، لِأَنَّهُ لَمَّا فَوَّضَ إلَيْهِمَا مَعَ تَقْدِيرِ الثَّمَنِ ظَهَرَ أَنَّ غَرَضَهُ اجْتِمَاعُ رَأْيِهِمَا فِي الزِّيَادَةِ، وَاخْتِيَارُ الْمُشْتَرِي عَلَى مَا مَرَّ مِنْ قَوْلِهِ وَلَكِنَّ التَّقْدِيرَ لَا يَمْنَعُ اسْتِعْمَالَ الرَّأْيِ فِي الزِّيَادَةِ وَاخْتِيَارَ الْمُشْتَرِي.
وَأَمَّا إذَا لَمْ يُقَدِّرْ الثَّمَنَ وَفَوَّضَ إلَى الْأَوَّلِ كَانَ غَرَضُهُ رَأْيَهُ فِي مُعْظَمِ الْأَمْرِ وَهُوَ التَّقْدِيرُ فِي الثَّمَنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْبِيَاعَاتِ الِاسْتِرْبَاحُ، وَالْعَادَةُ جَرَتْ فِي الْوَكَالَاتِ أَنْ يُوَكِّلَ الْأَهْدَى فِي تَحْصِيلِ الْأَرْبَاحِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ فِي التَّوْكِيلِ بِتَقْدِيرِ ثَمَنٍ صَالِحٍ لِزِيَادَةِ الرِّبْحِ وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِتَقْدِيرِ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ، فَبَعْدَ ذَلِكَ لَا يُبَالِي بِنِيَابَةِ الْآخَرِ عَنْهُ فِي مُجَرَّدِ الْعِبَارَةِ. قَالَ (وَإِذَا زَوَّجَ الْمُكَاتَبُ أَوْ الْعَبْدُ أَوْ الذِّمِّيُّ ابْنَتَهُ وَهِيَ صَغِيرَةٌ حُرَّةٌ مُسْلِمَةٌ أَوْ بَاعَ أَوْ اشْتَرَى لَهَا لَمْ يَجُزْ) مَعْنَاهُ التَّصَرُّفُ فِي مَالِهَا لِأَنَّ الرِّقَّ وَالْكُفْرَ يَقْطَعَانِ الْوِلَايَةَ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ الْمَرْقُوقَ لَا يَمْلِكُ إنْكَاحَ نَفْسِهِ فَكَيْفَ يَمْلِكُ إنْكَاحَ غَيْرِهِ، وَكَذَا الْكَافِرُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْمُسْلِمِ حَتَّى لَا تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ وِلَايَةٌ نَظَرِيَّةٌ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّفْوِيضِ إلَى الْقَادِرِ الْمُشْفِقِ لِيَتَحَقَّقَ مَعْنَى النَّظَرِ، وَالرِّقُّ يُزِيلُ الْقُدْرَةَ وَالْكُفْرُ يَقْطَعُ الشَّفَقَةَ عَلَى الْمُسْلِمِ فَلَا تُفَوَّضُ إلَيْهِمَا (قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: وَالْمُرْتَدُّ إذَا قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ وَالْحَرْبِيُّ كَذَلِكَ) لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ أَبْعَدُ مِنْ الذِّمِّيِّ فَأَوْلَى بِسَلْبِ الْوِلَايَةِ، وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَتَصَرُّفُهُ فِي مَالِهِ وَإِنْ كَانَ نَافِذًا عِنْدَهُمَا لَكِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى وَلَدِهِ وَمَالِ وَلَدِهِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهَا وِلَايَةٌ نَظَرِيَّةٌ وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْمِلَّةِ وَهِيَ مُتَرَدِّدَةٌ، ثُمَّ تَسْتَقِرُّ جِهَةُ الِانْقِطَاعِ إذَا قُتِلَ عَلَى الرِّدَّةِ فَيَبْطُلُ وَبِالْإِسْلَامِ يُجْعَلُ كَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُسْلِمًا فَيَصِحَّ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِذَا زَوَّجَ الْمُكَاتَبُ أَوْ الْعَبْدُ أَوْ الذِّمِّيُّ ابْنَتَهُ) إذَا زَوَّجَ الْمُكَاتَبُ أَوْ الْعَبْدُ أَوْ الذِّمِّيُّ ابْنَتَهُ وَهِيَ صَغِيرَةٌ مُسْلِمَةٌ حُرَّةٌ أَوْ بَاعَ أَوْ اشْتَرَى لَهَا.
يَعْنِي تَصَرَّفَ فِي مَالِهَا بِالْبَيْعِ أَوْ الشِّرَاءِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا احْتَاجَ إلَى التَّأْوِيلِ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَوْ اشْتَرَى لَهَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ اشْتَرَى لَهَا مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّ التَّصَرُّفَاتِ الْمَذْكُورَةَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ وَلَا وِلَايَةَ مَعَ الْكُفْرِ وَالرِّقِّ.
أَمَّا الرِّقُّ فَلِأَنَّ الْمَرْقُوقَ لَا يَمْلِكُ إنْكَاحَ نَفْسِهِ فَكَيْفَ يَمْلِكُ إنْكَاحَ غَيْرِهِ، وَهُوَ مَحْجُورٌ عَنْ التَّصَرُّفِ الْمَالِيِّ إلَّا بِتَوْكِيلٍ مِنْ غَيْرِهِ وَلَيْسَ بِمَوْجُودٍ.
وَأَمَّا الْكَافِرُ فَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْمُسْلِمِ الْحُرِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهَا وِلَايَةٌ نَظَرِيَّةٌ وَهِيَ تَحْتَاجُ إلَى قُدْرَةٍ وَشَفَقَةٍ لِيَتَحَقَّقَ مَعْنَى النَّظَرِ، وَالرِّقُّ يُزِيلُ الْقُدْرَةَ.
وَالْكُفْرُ يَقْطَعُ الشَّفَقَةَ عَلَى الْمُسْلِمِ فَلَا تُفَوَّضُ إلَيْهِمَا.
قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: وَالْمُرْتَدُّ إذَا مَاتَ عَلَى رِدَّتِهِ وَالْحَرْبِيُّ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ أَبْعَدُ مِنْ الذِّمِّيِّ وَإِنْ كَانَ مُسْتَأْمَنًا، لِأَنَّ الذِّمِّيَّ صَارَ مِنَّا دَارًا وَإِنْ لَمْ يَصِرْ مِنَّا دِينًا، وَقَدْ تَحَقَّقَ مِنْهُ مَا هُوَ خَلَفٌ عَنْ الْإِسْلَامِ دُونَ الْحَرْبِيِّ، فَإِذَا سُلِبَتْ وِلَايَةُ الذِّمِّيِّ فَالْحَرْبِيُّ أَوْلَى.
وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَتَصَرُّفُهُ فِي مَالِهِ وَإِنْ كَانَ نَافِذًا عِنْدَهُمَا لَكِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى وَلَدِهِ وَمَالُ وَلَدِهِ بِالْإِجْمَاعِ إنْ أَسْلَمَ جَازَ، وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّهَا وِلَايَةٌ نَظَرِيَّةٌ، وَذَلِكَ أَيْ الْوِلَايَةُ النَّظَرِيَّةُ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ، أَوْ بِأَنَّ اسْتِعْمَالَ ذَلِكَ مُشْتَرَكٌ بِاتِّفَاقِ الْمِلَّةِ، وَالْمِلَّةُ مُتَرَدِّدَةٌ لِكَوْنِهَا مَعْدُومَةً فِي الْحَالِ لَكِنَّهَا مَرْجُوَّةُ الْوُجُودِ لِأَنَّهُ مَجْبُورٌ عَلَيْهِ فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ، فَإِنْ قُتِلَ اسْتَقَرَّتْ جِهَةُ الِانْقِطَاعِ فَتَبْطُلُ عُقُودُهُ، وَإِنْ أَسْلَمَ جُعِلَ كَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُسْلِمًا فَصَحَّتْ.
وَلَمَّا كَانَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَرَكَا أَصْلَهُمَا فِي نُفُوذِ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ؛ خَصَّ قَوْلَهُمَا بِالذِّكْرِ بِقَوْلِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَإِنْ كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ بِالِاتِّفَاقِ.

.(بَابُ الْوِكَالَةِ بِالْخُصُومَةِ وَالْقَبْضِ):

قَالَ (الْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ وَكِيلٌ بِالْقَبْضِ) عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ.
هُوَ يَقُولُ رَضِيَ بِخُصُومَتِهِ وَالْقَبْضُ غَيْرُ الْخُصُومَةِ وَلَمْ يَرْضَ بِهِ.
وَلَنَا أَنْ مَنْ مَلَكَ شَيْئًا مَلَكَ إتْمَامَهُ وَإِتْمَامُ الْخُصُومَةِ وَانْتِهَاؤُهَا بِالْقَبْضِ، وَالْفَتْوَى الْيَوْمَ عَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِظُهُورِ الْخِيَانَةِ فِي الْوُكَلَاءِ، وَقَدْ يُؤْتَمَنُ عَلَى الْخُصُومَةِ مَنْ لَا يُؤْتَمَنُ عَلَى الْمَالِ، وَنَظِيرُهُ الْوَكِيلُ بِالتَّقَاضِي يَمْلِكُ الْقَبْضَ عَلَى أَصْلِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ وَضْعًا، إلَّا أَنَّ الْعُرْفَ بِخِلَافِهِ وَهُوَ قَاضٍ عَلَى الْوَضْعِ وَالْفَتْوَى عَلَى أَنْ لَا يَمْلِكَ.
الشَّرْحُ:
بَابُ الْوِكَالَةِ بِالْخُصُومَةِ وَالْقَبْضِ: أَخَّرَ الْوَكَالَةَ بِالْخُصُومَةِ عَنْ الْوَكَالَةِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، لِأَنَّ الْخُصُومَةَ تَقَعُ بِاعْتِبَارِ مَا يَجِبُ اسْتِيفَاؤُهُ مِمَّنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ، وَذَلِكَ فِي الْأَغْلَبِ يَكُونُ بِمُطَالَبَةِ الْمَبِيعِ أَوْ الثَّمَنِ، أَوْ لِأَنَّهَا مَهْجُورَةٌ شَرْعًا فَاسْتَحَقَّتْ التَّأْخِيرَ عَمَّا لَيْسَ بِمَهْجُورٍ.
قَالَ (الْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ وَكِيلٌ بِالْقَبْضِ) الْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ وَكِيلٌ بِالْقَبْضِ: أَيْ بِقَبْضِ الدَّيْنِ وَالْعَيْنِ (خِلَافًا لِزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
هُوَ يَقُولُ رَضِيَ بِالْخُصُومَةِ وَلَيْسَ الْقَبْضُ بِخُصُومَةٍ) لِأَنَّ الْخُصُومَةَ قَوْلٌ يُسْتَعْمَلُ فِي إظْهَارِ الْحَقِّ وَالْقَبْضُ فِعْلٌ حِسِّيٌّ (وَلَنَا أَنَّ الْوَكِيلَ مَا دَامَ وَكِيلًا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِمَا أُمِرَ بِهِ وَقَدْ أُمِرَ بِالْخُصُومَةِ وَالْخُصُومَةُ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ) لِتَوَهُّمِ الْإِنْكَارِ بَعْدَ ذَلِكَ وَتَعَذُّرِ الْإِثْبَاتِ بِعَارِضٍ مِنْ مَوْتِ الْقَاضِي أَوْ غَيْرِهِ وَالْمَطْلِ وَالْإِفْلَاسِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ (وَمَشَايِخُ بَلْخِي رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَفْتَوْا بِقَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِظُهُورِ الْخِيَانَةِ فِي الْوُكَلَاءِ) وَلِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْقَبْضِ غَيْرُ ثَابِتٍ نَصًّا وَلَا دَلَالَةً.
أَمَّا نَصًّا فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا دَلَالَةً فَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُوَكِّلُ غَيْرَهُ بِالْخُصُومَةِ وَالتَّقَاضِي وَلَا يَرْضَى بِأَمَانَتِهِ وَقَبْضِهِ، وَبِهِ أَفْتَى الصَّدْرُ الشَّهِيدُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الدَّلَالَةَ قَدْ وَقَعَتْ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ (وَنَظِيرُ هَذَا الْوَكِيلُ بِالتَّقَاضِي فَإِنَّهُ يَمْلِكُ الْقَبْضَ عَلَى أَصْلِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ وَضْعًا) يُقَالُ تَقَاضَيْته دَيْنِي وَبِدَيْنِي وَاقْتَضَيْته دَيْنِي وَاقْتَضَيْت مِنْهُ حَقِّي: أَيْ أَخَذْته (إلَّا أَنَّ الْعُرْفَ بِخِلَافِهِ) لِأَنَّ النَّاسَ يَفْهَمُونَ مِنْ التَّقَاضِي الْمُطَالَبَةَ لَا الْقَبْضَ (وَالْعُرْفُ قَاضٍ عَلَى الْوَضْعِ) وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ مُسْتَعْمَلَةٌ وَالْمَجَازُ مُتَعَارَفٌ وَهِيَ أَوْلَى مِنْهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ وَجْهٌ لِأَصْلِ الرِّوَايَةِ، وَلَا كَلَامَ فِيهِ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَنَّ الْفَتْوَى عَلَى أَصْلِ الرِّوَايَةِ أَوْ عَلَى الْعُرْفِ لِظُهُورِ الْخِيَانَةِ فِي الْوُكَلَاءِ.
قَالُوا عَلَى الْعُرْفِ فَلَا يَمْلِكُ الْقَبْضَ قَالَ (فَإِنْ كَانَا وَكِيلَيْنِ بِالْخُصُومَةِ لَا يَقْبِضَانِ إلَّا مَعًا) لِأَنَّهُ رَضِيَ بِأَمَانَتِهِمَا لَا بِأَمَانَةِ أَحَدِهِمَا، وَاجْتِمَاعُهُمَا مُمْكِنٌ بِخِلَافِ الْخُصُومَةِ عَلَى مَا مَرَّ.
قَالَ (وَالْوَكِيلُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ يَكُونُ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ) حَتَّى لَوْ أُقِيمَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْمُوَكِّلِ أَوْ إبْرَائِهِ تُقْبَلُ عِنْدَهُ، وَقَالَا: لَا يَكُونُ خَصْمًا وَهُوَ، رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْقَبْضَ غَيْرُ الْخُصُومَةِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ يُؤْتَمَنُ عَلَى الْمَالِ يَهْتَدِي فِي الْخُصُومَاتِ فَلَمْ يَكُنْ الرِّضَا بِالْقَبْضِ رِضًا بِهَا.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ وَكَّلَهُ بِالتَّمَلُّكِ لِأَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا، إذْ قَبْضُ الدَّيْنِ نَفْسِهِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا أَنَّهُ جَعَلَ اسْتِيفَاءَ الْعَيْنِ حَقَّهُ مِنْ وَجْهٍ، فَأَشْبَهَ الْوَكِيلَ بِأَخْذِ الشُّفْعَةِ وَالرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ وَالْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ وَالْقِسْمَةِ وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَهَذِهِ أَشْبَهُ بِأَخْذِ الشُّفْعَةِ حَتَّى يَكُونَ خَصْمًا قَبْلَ الْقَبْضِ كَمَا يَكُونُ خَصْمًا قَبْلَ الْأَخْذِ هُنَالِكَ.
وَالْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ لَا يَكُونُ خَصْمًا قَبْلَ مُبَاشَرَةِ الشِّرَاءِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُبَادَلَةَ تَقْتَضِي حُقُوقًا وَهُوَ أَصِيلٌ فِيهَا فَيَكُونُ خَصْمًا فِيهَا.
الشَّرْحُ:
(وَإِنْ وَكَّلَ وَكِيلَيْنِ بِالْخُصُومَةِ لَا يَقْبِضَانِ إلَّا مَعًا لِأَنَّهُ رَضِيَ بِأَمَانَتِهِمَا لَا بِأَمَانَةِ أَحَدِهِمَا وَاجْتِمَاعُهُمَا عَلَى الْقَبْضِ مُمْكِنٌ، بِخِلَافِ الْخُصُومَةِ) فَإِنَّ اجْتِمَاعَهُمَا عَلَيْهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ (لِمَا مَرَّ) أَنَّهُ يُفْضِي إلَى الشَّغَبِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَهُوَ مُذْهِبٌ لِمَهَابَتِهِ.
قَالَ (وَالْوَكِيلُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ يَكُونُ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ إلَخْ) الْوَكِيلُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ يَكُونُ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَإِذَا اقْتَضَى الْقَبْضُ وَأَقَامَ الْخَصْمُ بَيِّنَتَهُ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْمُوَكِّلِ أَوْ إبْرَائِهِ تُقْبَلُ عِنْدَهُ، وَقَالَا: لَا يَكُونُ خَصْمًا فَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ الْخَصْمِ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لِأَنَّهُ وَكِيلٌ بِالْقَبْضِ، وَالْخُصُومَةُ لَيْسَتْ بِقَبْضٍ فَلَا يَكُونُ وَكِيلًا بِهَا، وَلِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالْقَبْضِ مُؤْتَمَنٌ عَلَى الْمَالِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ يُؤْتَمَنُ عَلَى الْمَالِ يَهْتَدِي إلَى الْخُصُومَاتِ فَلَمْ يَكُنْ الرِّضَا بِهِ رِضًا بِهَا.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ وَكَّلَهُ بِالتَّمَلُّكِ لِأَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا إذْ قَبْضُ نَفْسِ الدَّيْنِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ لِكَوْنِهِ وَصْفًا ثَابِتًا فِي ذِمَّةِ مَنْ عَلَيْهِ، لَكِنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ قَبْضَهُ اسْتِيفَاءً لِعَيْنِ حَقِّهِ مِنْ وَجْهٍ لِئَلَّا يَمْتَنِعَ قَضَاءُ دُيُونٍ لَا يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ بِهَا وَالتَّوْكِيلُ بِقَبْضِ الدُّيُونِ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ تَوْكِيلًا بِالتَّمَلُّكِ كَانَ تَوْكِيلًا بِالِاسْتِقْرَاضِ إذْ التَّوْكِيلُ بِقَبْضِ مِثْلِ مَالِ الْمُوَكِّلِ لَا عَيْنُ مَالِهِ ثُمَّ يَتَقَاصَّانِ، وَالتَّوْكِيلُ بِالِاسْتِقْرَاضِ بَاطِلٌ، وَالْوَكِيلُ بِالتَّمَلُّكِ أَصِيلٌ فِي حُقُوقِ الْعَقْدِ، وَالْأَصِيلُ فِيهَا خَصْمٌ فِيهَا كَالْمُوَكِّلِ فَكَانَ كَالْوَكِيلِ يَأْخُذُ بِالشُّفْعَةِ إذَا قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِتَسْلِيمِ الْمُوَكِّلِ الشُّفْعَةَ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ وَالشُّفْعَةُ تَبْطُلُ، وَالْوَكِيلُ بِالرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ إذَا أَقَامَ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَخْذِ الْوَاهِبِ الْعِوَضَ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ وَالرُّجُوعُ يَبْطُلُ، وَالْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ فَإِنَّهُ خَصْمٌ يَطْلُبُ حُقُوقَ الْعَقْدِ، وَبِالْقِسْمَةِ بِأَنْ وَكَّلَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ وَكِيلًا بِأَنْ يُقَاسِمَ مَعَ شَرِيكِهِ وَأَقَامَ الشَّرِيكُ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْمُوَكِّلَ قَبَضَ نَصِيبَهُ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ، وَبِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ عَلَى الْبَائِعِ فَإِنَّهُ إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْمُوَكِّلَ رَضِيَ بِالْعَيْبِ تُقْبَلُ.
قَالُوا فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَهَذِهِ أَيْ مَسْأَلَةُ الْوَكِيلِ بِالْقَبْضِ أَشْبَهَ بِالْوَكِيلِ بِأَخْذِ الشُّفْعَةِ مِنْهَا بِالْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ.
لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِي هَذِهِ يَكُونُ خَصْمًا قَبْلَ الْقَبْضِ كَمَا يَكُونُ هَاهُنَا كَذَلِكَ.
وَأَمَّا الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ خَصْمًا قَبْلَ مُبَاشَرَةِ الشِّرَاءِ (قَوْلُهُ وَهَذَا) إشَارَةٌ إلَى مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ مِمَّا يَتِمُّ بِهِ دَلِيلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّ الْوَكِيلَ بِالتَّمَلُّكِ أَصِيلٌ فِي الْحُقُوقِ. قَالَ (وَالْوَكِيلُ بِقَبْضِ الْعَيْنِ لَا يَكُونُ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ) بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ أَمِينٌ مَحْضٌ، وَالْقَبْضُ لَيْسَ بِمُبَادَلَةٍ فَأَشْبَهَ الرَّسُولَ (حَتَّى أَنَّ مَنْ وَكَّلَ وَكِيلًا بِقَبْضِ عَبْدٍ لَهُ فَأَقَامَ الَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْمُوَكِّلَ بَاعَهُ إيَّاهُ وَقَفَ الْأَمْرُ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَدْفَعَ إلَى الْوَكِيلِ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ قَامَتْ لِأَعْلَى خَصْمٍ فَلَمْ تُعْتَبَرْ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ خَصْمٌ فِي قَصْرِ يَدِهِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ فِي الْقَبْضِ فَتَقْصُرُ يَدُهُ حَتَّى لَوْ حَضَرَ الْبَائِعُ تُعَادُ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْبَيْعِ، فَصَارَ كَمَا إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ الْمُوَكِّلَ عَزَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ فِي قَصْرِ يَدِهِ كَذَا هَذَا.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَالْوَكِيلُ بِقَبْضِ الْعَيْنِ لَا يَكُونُ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ إلَخْ) الْوَكِيلُ بِقَبْضِ الْعَيْنِ لَا يَكُونُ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ أَمِينٌ مَحْضٌ، حَيْثُ لَا مُبَادَلَةَ هُنَاكَ لِكَوْنِهِ وَكِيلًا بِقَبْضِ عَيْنِ حَقِّ الْمُوَكِّلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَأَشْبَهَ الرَّسُولَ، فَإِذَا وَكَّلَ بِقَبْضِ عَبْدٍ لَهُ فَأَقَامَ مَنْ بِيَدِهِ الْعَبْدُ بَيِّنَةً أَنَّ الْمُوَكِّلَ بَاعَهُ إيَّاهُ دُفِعَ الْعَبْدُ إلَى الْوَكِيلِ، وَلَمْ يُلْتَفَتْ إلَى بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ فِي الْقِيَاسِ لِأَنَّهَا قَامَتْ لِأَعْلَى خَصْمٍ.
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: وَقَفَ الْأَمْرُ حَتَّى يَحْضُرَ الْآمِرُ لِأَنَّهُ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ فِي الْقَبْضِ خَصْمٌ فِي قَصْرِ يَدِهِ فَتُقْصَرُ حَتَّى لَوْ حَضَرَ الْغَائِبُ تُعَادُ الْبَيِّنَةُ وَصَارَ كَمَا إذَا أَقَامَهَا عَلَى أَنَّهُ عَزَلَهُ عَنْ ذَلِكَ تُقْبَلُ فِي قَصْرِ يَدِهِ فَكَذَا هَذَا،.
قَالَ (وَكَذَلِكَ الْعَتَاقُ وَالطَّلَاقُ وَغَيْرُ ذَلِكَ) وَمَعْنَاهُ إذَا أَقَامَتْ الْمَرْأَةُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الطَّلَاقِ وَالْعَبْدُ وَالْأَمَةُ عَلَى الْعَتَاقِ عَلَى الْوَكِيلِ بِنَقْلِهِمْ تُقْبَلُ فِي قَصْرِ يَدِهِ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ اسْتِحْسَانًا دُونَ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ.
الشَّرْحُ:
وَكَذَلِكَ إذَا أَرَادَ الْوَكِيلُ بِنَقْلِ الْمَرْأَةِ إلَى زَوْجِهَا؛ نَقَلَهَا إلَيْهِ وَالْوَكِيلُ يَقْبِضُ الْعَبْدَ وَالْجَارِيَةَ قَبَضَهُمَا فَأَقَامَتْ الْمَرْأَةُ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا وَالْعَبْدُ وَالْأَمَةُ عَلَى الْعَتَاقِ أَوْ مَنْ هُمَا بِيَدِهِ عَلَى الِارْتِهَانِ مِنْ الْمُوَكِّلِ فَإِنَّهَا لَا تُقْبَلُ قِيَاسًا لِقِيَامِهَا لِأَعْلَى خَصْمٍ.
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: تُقْبَلُ فِي قَصْرِ يَدِ الْوَكِيلِ دُونَ الْقَضَاءِ بِالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالرَّهْنِ لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الطَّلَاقَ وَالْعِتْقَ وَالرَّهْنَ، وَمِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ قَصْرُ يَدِ الْوَكِيلِ، وَالْوَكِيلُ لَيْسَ بِخَصْمٍ فِي أَحَدِهِمَا وَهُوَ إثْبَاتُ الْعِتْقِ عَلَى الْمَوْلَى، وَلَكِنَّهُ خَصْمٌ فِي قَصْرِ يَدِهِ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ قَصْرِ يَدِهِ الْقَضَاءُ بِالْعِتْقِ عَلَى الْغَائِبِ فَقَبِلْنَاهَا فِي الْقَصْرِ دُونَ غَيْرِهِ. قَالَ (وَإِذَا أَقَرَّ الْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ عَلَى مُوَكِّلِهِ عِنْدَ الْقَاضِي جَازَ إقْرَارُهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ اسْتِحْسَانًا إلَّا أَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ الْوِكَالَةِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَجُوزُ إقْرَارُهُ عَلَيْهِ وَإِنْ أَقَرَّ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ.
وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَا يَجُوزُ فِي الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَوَّلًا، وَهُوَ الْقِيَاسُ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْخُصُومَةِ وَهِيَ مُنَازَعَةٌ وَالْإِقْرَارُ يُضَادُّهُ لِأَنَّهُ مُسَالَمَةٌ، وَالْأَمْرُ بِالشَّيْءِ لَا يَتَنَاوَلُ ضِدَّهُ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الصُّلْحَ وَالْإِبْرَاءَ وَيَصِحُّ إذَا اسْتَثْنَى الْإِقْرَارَ، وَكَذَا لَوْ وَكَّلَهُ بِالْجَوَابِ مُطْلَقًا يَتَقَيَّدُ بِجَوَابٍ هُوَ خُصُومَةٌ لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِذَلِكَ وَلِهَذَا يَخْتَارُ فِيهَا الْأَهْدَى فَالْأَهْدَى.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ التَّوْكِيلَ صَحِيحٌ قَطْعًا وَصِحَّتُهُ بِتَنَاوُلِهِ مَا يَمْلِكُهُ قَطْعًا وَذَلِكَ مُطْلَقُ الْجَوَابِ دُونَ أَحَدِهِمَا عَيْنًا.
وَطَرِيقُ الْمَجَازِ مَوْجُودٌ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَيُصْرَفُ إلَيْهِ تَحَرِّيًا لِلصِّحَّةِ قَطْعًا؛ وَلَوْ اسْتَثْنَى الْإِقْرَارَ، فَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَصِحُّ لِأَنَّ لِلتَّنْصِيصِ زِيَادَةَ دَلَالَةٍ عَلَى مِلْكِهِ إيَّاهُ؛ وَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُحْمَلُ عَلَى الْأَوْلَى.
وَعَنْهُ أَنَّهُ فَصَلَ بَيْنَ الطَّالِبِ وَالْمَطْلُوبِ وَلَمْ يُصَحِّحْهُ فِي الثَّانِي لِكَوْنِهِ مَجْبُورًا عَلَيْهِ وَيُخَيَّرُ الطَّالِبُ فِيهِ؛ فَبَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: إنَّ الْوَكِيلَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ، وَإِقْرَارُهُ لَا يَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَكَذَا إقْرَارُ نَائِبِهِ.
وَهُمَا يَقُولَانِ: إنَّ التَّوْكِيلَ يَتَنَاوَلُ جَوَابَ يُسَمَّى خُصُومَةً حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا، وَالْإِقْرَارُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ خُصُومَةٌ مَجَازًا، إمَّا لِأَنَّهُ خَرَجَ فِي مُقَابَلَةِ الْخُصُومَةِ، أَوْ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لَهُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ إتْيَانُهُ بِالْمُسْتَحَقِّ وَهُوَ الْجَوَابُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَيَخْتَصُّ بِهِ، لَكِنْ إذَا أُقِيمَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى إقْرَارِهِ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ يَخْرُجُ مِنْ الْوِكَالَةِ حَتَّى لَا يُؤْمَرَ بِدَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ صَارَ مُنَاقِضًا وَصَارَ كَالْأَبِ أَوْ الْوَصِيِّ إذَا أَقَرَّ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ لَا يَصِحُّ وَلَا يَدْفَعُ الْمَالَ إلَيْهِمَا.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِذَا أَقَرَّ الْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ عَلَى مُوَكِّلِهِ إلَخْ) إذَا أَقَرَّ الْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ عَلَى مُوَكِّلِهِ سَوَاءٌ كَانَ مُوَكِّلُهُ الْمُدَّعِي فَأَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ أَوْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَأَقَرَّ بِثُبُوتِهِ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَ الْقَاضِي جَازَ، وَإِلَّا فَلَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، إلَّا أَنَّهُ إذَا أَقَرَّ عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي خَرَجَ مِنْ الْوَكَالَةِ فَلَا يُدْفَعُ إلَيْهِ الْمَالُ؛ وَلَوْ ادَّعَى بَعْدَ ذَلِكَ الْوَكَالَةَ وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً لَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَتُهُ لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ مُبْطِلٌ فِي دَعْوَاهُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: جَازَ إقْرَارُهُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَوَّلًا، لَا يَجُوزُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا.
وَالْقِيَاسُ إمَّا شُمُولُ الْجَوَازِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَإِمَّا شُمُولُ الْعَدَمِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُمْ، وَالْفَصْلُ بَيْنَ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَغَيْرِهِ اسْتِحْسَانٌ.
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْخُصُومَةِ مَأْمُورٌ بِالْمُنَازَعَةِ لِأَنَّهَا الْخُصُومَةُ، وَالْإِقْرَارُ لَيْسَ بِمُنَازَعَةٍ لِأَنَّهُ مُسَالَمَةٌ، وَالْأَمْرُ بِالشَّيْءِ لَا يَتَنَاوَلُ ضِدَّهُ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ الصُّلْحَ وَالْإِبْرَاءَ فَيَصِحُّ التَّوْكِيلُ إذَا اسْتَثْنَى الْإِقْرَارَ بِأَنْ قَالَ وَكَّلْتُك بِالْخُصُومَةِ غَيْرُ جَائِزِ الْإِقْرَارِ، وَلَوْ كَانَ الْإِقْرَارُ مِنْ حُقُوقِ التَّوْكِيلِ بِالْخُصُومَةِ لَمَا صَحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ، كَمَا لَوْ اسْتَثْنَى الْإِنْكَارَ، وَكَمَا لَوْ وَكَّلَ بِالْبَيْعِ عَلَى أَنْ لَا يَقْبِضَ الثَّمَنَ أَوْ لَا يُسَلِّمَ الْمَبِيعَ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ لَمَا صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ.
قَوْلُهُ وَكَذَا لَوْ وَكَّلَهُ بِالْجَوَابِ مُطْلَقًا يَتَقَيَّدُ بِجَوَابٍ هُوَ خُصُومَةٌ قَالَ فِي النِّهَايَةِ: هِيَ مَسْأَلَةٌ مُبْتَدَأَةٌ خِلَافِيَّةٌ لَمْ يُورِدْهَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِشْهَادِ: يَعْنِي لَوْ وَكَّلَهُ بِالْجَوَابِ مُطْلَقًا فَهُوَ أَيْضًا عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، كَذَا فِي الْمُخْتَلِفَاتِ الْبُرْهَانِيَّةِ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذَا التَّوْكِيلَ صَحِيحٌ قَطْعًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَصِحَّتُهُ بِتَنَاوُلِهِ مَا يَمْلِكُهُ الْمُوَكِّلُ قَطْعًا، لِأَنَّ التَّوْكِيلَ فِي غَيْرِ الْمَمْلُوكِ تَصَرُّفٌ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ وَإِنْ اخْتَلَجَ فِي ذِهْنِك صِحَّةُ تَوْكِيلِ الْمُسْلِمِ بِبَيْعِ الْخَمْرِ فَتَذَكَّرَ مَا تَقَدَّمَ فِيهِ، وَذَلِكَ أَيْ مَا يَمْلِكُهُ الْوَكِيلُ مُطْلَقُ الْجَوَابِ دُونَ أَحَدِهِمَا عَيْنًا لِأَنَّ الْخَصْمَ إذَا كَانَ مُحِقًّا وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِقْرَارُ، وَإِنْ كَانَ مُبْطِلًا وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِنْكَارُ، لَكِنَّ لَفْظَ الْخُصُومَةِ مَوْضُوعٌ لِلْمُقَيَّدِ فَيُصْرَفُ إلَى الْمُطْلَقِ مَجَازًا عَلَى مَا سَيَأْتِي تَحَرِّيًا لِلصِّحَّةِ قَطْعًا (قَوْلُهُ وَلَوْ اسْتَثْنَى الْإِقْرَارَ) جَوَابٌ عَنْ مُسْتَشْهَدِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَوَجْهُهُ: لَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ الِاسْتِثْنَاءِ بَلْ لَا يَصِحُّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الِاسْتِثْنَاءَ، لِأَنَّ مِلْكَهُ يَسْتَلْزِمُ بَقَاءَ الْإِنْكَارِ عَيْنًا، وَقَدْ لَا يَحِلُّ لَهُ كَمَا مَرَّ آنِفًا.
وَلَئِنْ سَلَّمْنَا صِحَّتَهُ كَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَكِنَّهُ إنَّمَا صَحَّ لِتَنْصِيصِهِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ وَالتَّنْصِيصُ زِيَادَةُ دَلَالَةٍ عَلَى تَمَلُّكِهِ إيَّاهُ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ مَا قُلْنَا إنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ الْإِنْكَارُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْخَصْمُ مُحِقًّا، فَإِذَا نَصَّ عَلَى اسْتِثْنَاءِ الْإِقْرَارِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَعْلَمُ بِيَقِينٍ أَنَّ خَصْمَهُ مُبْطِلٌ حَمْلًا لِأَمْرِ الْمُسْلِمِ عَلَى الصَّلَاحِ فَتَعَيَّنَ الْإِنْكَارُ، وَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُحْمَلُ عَلَى الْأَوَّلِ بِحَالِ الْمُسْلِمِ وَهُوَ مُطْلَقُ الْجَوَابِ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ فَصَلَ بَيْنَ وَكِيلِ الطَّالِبِ وَوَكِيلِ الْمَطْلُوبِ وَلَمْ يُصَحِّحْهُ فِي الْمَطْلُوبِ لِكَوْنِهِ مَجْبُورًا عَلَيْهِ.
قَالَ فِي النِّهَايَةِ: أَيْ عَلَى الْإِقْرَارِ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يُثْبِتُ مَا ادَّعَاهُ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ يَضْطَرُّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إلَى الْإِقْرَارِ بِعَرْضِ الْيَمِينِ عَلَيْهِ فَيَكُونُ مَجْبُورًا عَلَى الْإِقْرَارِ فَكَذَا وَكِيلُهُ، إلَّا أَنَّ الْوَكِيلَ عِنْدَ تَوَجُّهِ الْيَمِينِ يُحِيلُ الْيَمِينَ عَلَى مُوَكِّلِهِ لِأَنَّ النِّيَابَةَ لَا تُجْرَى فِي الْأَيْمَانِ فَلَا يُفِيدُ اسْتِثْنَاءُ الْإِقْرَارِ فَائِدَتَهُ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْمُدَّعِي قَدْ يَعْجِزُ عَنْ إثْبَاتِ دَعْوَاهُ بِالْبَيِّنَةِ، وَقَدْ لَا يَضْطَرُّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إلَى الْإِقْرَارِ بِعَرْضِ الْيَمِينِ لِكَوْنِهِ مُحِقًّا فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُفِيدًا.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَطْلُوبَ مَجْبُورٌ عَلَى الْإِقْرَارِ إذَا عَرَضَ الْيَمِينَ وَهُوَ مُبْطِلٌ فَكَانَ مَجْبُورًا فِي الْجُمْلَةِ فَلَمْ يَكُنْ اسْتِثْنَاؤُهُ مُفِيدًا فِيهِ، بِخِلَافِ الطَّالِبِ فَإِنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي كُلِّ حَالٍ فَكَانَ اسْتِثْنَاؤُهُ مُفِيدًا، وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ الْجَوَابَ عَنْ صُورَةِ الصُّلْحِ وَالْإِبْرَاءِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَصِحَّ صُلْحُ الْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ لَيْسَتْ بِسَبَبٍ دَاعٍ إلَى الصُّلْحِ أَوْ إلَى الْإِبْرَاءِ فَلَمْ يُوجَدْ مُجَوِّزُ الْمَجَازِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ إفْضَاءَهَا إلَى الصُّلْحِ أَوْ الْإِبْرَاءِ لَمْ يَكُنْ أَشَدَّ مِنْ إفْضَائِهَا إلَى الْإِقْرَارِ فَهُوَ مِثْلُهُ لَا مَحَالَةَ.
وَأَيْضًا الْخُصُومَةُ وَالصُّلْحُ مُتَقَابِلَانِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَجُوزَ الِاسْتِعَارَةُ.
وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ يَنْصَرِفُ إلَى مُطْلَقِ الْجَوَابِ لِمَا ذَكَرْنَا وَمُطْلَقُ الْجَوَابِ إمَّا بِلَا أَوْ بِنَعَمْ.
وَالصُّلْحُ عَقْدٌ آخَرُ يَحْتَاجُ إلَى عِبَارَةٍ أُخْرَى خِلَافَ مَا وُضِعَ لِلْجَوَابِ وَكَذَلِكَ الْإِبْرَاءُ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ لِمُطْلَقِ الْجَوَابِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا (قَوْلُهُ فَبَعْدَ ذَلِكَ) شُرُوعٌ فِي بَيَانِ مَأْخَذِ الِاخْتِلَافِ الْوَاقِعِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الثَّلَاثَةِ: أَيْ بَعْدَمَا ثَبَتَ أَنَّ التَّوْكِيلَ يَنْصَرِفُ إلَى مُطْلَقِ الْجَوَابِ أَوْ بَعْدَمَا ثَبَتَ جَوَازُ إقْرَارِ الْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ عَلَى مُوَكِّلِهِ (يَقُولُ أَبُو يُوسُفَ) فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ مَجْلِسِ الْقَاضِي وَغَيْرِهِ (الْوَكِيلُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ، وَإِقْرَارُهُ الْمُوَكِّلَ لَا يَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَكَذَا إقْرَارُ نَائِبِهِ، وَهُمَا يَقُولَانِ إنَّ التَّوْكِيلَ بِالْخُصُومَةِ يَتَنَاوَلُ جَوَابًا يُسَمَّى خُصُومَةً حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا) لِمَا مَرَّ أَنَّهُ يُصْرَفُ إلَى مُطْلَقِ الْجَوَابِ، وَمُطْلَقُ الْجَوَابِ مَجَازٌ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ بِعُمُومِهِ الْحَقِيقَةَ وَهِيَ الْخُصُومَةُ وَالْمَجَازَ وَهُوَ الْإِقْرَارُ (وَالْإِقْرَارُ لَا يَكُونُ خُصُومَةً مَجَازًا إلَّا فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَمَا كَانَ مِنْهُ فِي غَيْرِهِ فَلَيْسَ بِخُصُومَةٍ لَا حَقِيقَةً وَهُوَ ظَاهِرٌ وَلَا مَجَازًا)، إذْ الْإِقْرَارُ خُصُومَةٌ مَجَازًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ جَوَابٌ، وَلَا جَوَابَ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَلَا إقْرَارَ يَكُونُ خُصُومَةً مَجَازًا فِي غَيْرِهِ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الْجَوَابُ الْمُوَكَّلُ بِهِ (أَمَّا) أَنَّهُ خُصُومَةٌ مَجَازًا فَ (لِأَنَّهُ خَرَجَ فِي مُقَابَلَةِ الْخُصُومَةِ) فَكَانَ مُجَوِّزَهُ التَّضَادُّ.
وَهُوَ مُجَوِّزٌ لُغَوِيٌّ لِمَا قَرَّرْنَا فِي التَّقْرِيرِ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ مُجَوِّزًا شَرْعِيًّا (أَوْ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ سَبَبُ الْإِقْرَارِ) فَكَانَ الْمُجَوِّزُ السَّبَبِيَّةَ وَهُوَ مُجَوِّزٌ شَرْعِيٌّ نَظِيرُ الِاتِّصَال الصُّورِيِّ فِي اللُّغَوِيِّ كَمَا عُرِفَ.
وَأَمَّا اخْتِصَاصُهُ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَ (لِأَنَّ الظَّاهِرَ إتْيَانُهُ بِالْمُسْتَحَقِّ وَ) الْمُسْتَحَقُّ (هُوَ الْجَوَابُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَيَخْتَصُّ بِهِ) وَلَوْ قَالَ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ إتْيَانُهُ بِالْمُسْتَحَقِّ بَدَلٌ لِأَنَّ الظَّاهِرَ كَانَ أَوْفَى تَأْدِيَةً لِلْمَقْصُودِ (قَوْلُهُ لَكِنْ) اسْتِدْرَاكٌ مِنْ قَوْلِهِ فَيَخْتَصُّ بِهِ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى دَفْعِ مَا يُقَالُ إذَا كَانَ الْإِقْرَارُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ لَيْسَ بِجَوَابٍ كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ مُعْتَبَرًا وَلَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ الْوَكَالَةِ.
وَمَعْنَاهُ (إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ أَقَرَّ عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي خَرَجَ مِنْ الْوَكَالَةِ حَتَّى لَا يُدْفَعَ الْمَالُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ صَارَ مُنَاقِصًا وَصَارَ كَالْأَبِ أَوْ الْوَصِيِّ إذَا أَقَرَّ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ) فَإِنَّهُمَا إذَا ادَّعَيَا شَيْئًا لِلصَّغِيرِ فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَصَدَّقَهُ الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ ثُمَّ جَاءَ يَدَّعِي الْمَالَ فَإِنَّ إقْرَارَهُمَا (لَا يَصِحُّ وَلَا يُدْفَعُ الْمَالُ إلَيْهِمَا) لِأَنَّهُمَا خَرَجَا مِنْ الْوِلَايَةِ وَالْوِصَايَةِ فِي حَقِّ ذَلِكَ الْمَالِ بِسَبَبِ إقْرَارِهِمَا بِمَا قَالَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا. قَالَ (وَمَنْ كَفَلَ بِمَالٍ عَنْ رَجُلٍ فَوَكَّلَهُ صَاحِبُ الْمَالِ بِقَبْضِهِ عَنْ الْغَرِيمِ لَمْ يَكُنْ وَكِيلًا فِي ذَلِكَ أَبَدًا) لِأَنَّ الْوَكِيلَ مَنْ يَعْمَلُ لِغَيْرِهِ، وَلَوْ صَحَّحْنَاهَا صَارَ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فِي إبْرَاءِ ذِمَّتِهِ فَانْعَدَمَ الرُّكْنُ، وَلِأَنَّ قَبُولَ قَوْلِهِ مُلَازِمٌ لِلْوِكَالَةِ لِكَوْنِهِ أَمِينًا، وَلَوْ صَحَّحْنَاهَا لَا يُقْبَلُ لِكَوْنِهِ مُبَرِّئًا نَفْسَهُ فَيَنْعَدِمُ بِانْعِدَامِ لَازِمِهِ، وَهُوَ نَظِيرُ عَبْدٍ مَدْيُونٍ أَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ حَتَّى ضَمِنَ قِيمَتَهُ لِلْغُرَمَاءِ وَيُطَالَبُ الْعَبْدُ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ، فَلَوْ وَكَّلَهُ الطَّالِبُ بِقَبْضِ الْمَالِ عَنْ الْعَبْدِ كَانَ بَاطِلًا لِمَا بَيَّنَّاهُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ كَفَلَ بِمَالٍ عَنْ رَجُلٍ إلَخْ) وَمَنْ كَفَلَ بِمَالٍ عَنْ رَجُلٍ فَوَكَّلَهُ صَاحِبُ الْمَالِ بِقَبْضِهِ عَنْ الْغَرِيمِ لَمْ يَكُنْ وَكِيلًا فِي ذَلِكَ أَبَدًا لَا بَعْدَ بَرَاءَةِ الْكَفِيلِ وَلَا قَبْلَهَا، أَمَّا بَعْدَ الْبَرَاءَةِ فَلِأَنَّهَا لَمَّا لَمْ تَصِحَّ حَالَ التَّوْكِيلِ لِمَا سَيُذْكَرُ لَمْ تَنْقَلِبْ صَحِيحَةً كَمَنْ كَفَلَ لِغَائِبٍ فَأَجَازَهَا بَعْدَمَا بَلَغَتْهُ فَإِنَّهَا لَا تَجُوزُ لِأَنَّهَا لَمْ تَصِحَّ ابْتِدَاءً لِعَدَمِ الْقَبُولِ فَلَا تَنْقَلِبُ صَحِيحَةً، وَأَمَّا قَبْلَ الْبَرَاءَةِ فَلِأَنَّ الْوَكِيلَ مَنْ يَعْمَلُ لِغَيْرِهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَالْكَفِيلُ لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ لِغَيْرِهِ لِكَوْنِهِ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فِي إبْرَاءِ ذِمَّتِهِ كَالْمُحَالِ إذَا وَكَّلَ الْمُحِيلَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ وَكِيلًا لِمَا قُلْنَا.
وَنُوقِضَ بِتَوْكِيلِ الْمَدْيُونِ بِإِبْرَاءِ نَفْسِهِ عَمَّا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ عَامِلًا فِي ذَلِكَ لِنَفْسِهِ، وَذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.
وَأُجِيبَ بِالْمَنْعِ مُسْتَنِدًا إلَى مَا ذَكَرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمَدْيُونَ لَا يَصْلُحُ وَكِيلًا عَنْ الطَّالِبِ بِإِبْرَاءِ نَفْسِهِ عَلَى خِلَافِ مَا ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ.
سَلَّمْنَاهُ لَكِنَّ الْإِبْرَاءَ تَمْلِيكٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ وَكَلَامُنَا فِي التَّوْكِيلِ بِالْقَبْضِ.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ عَمَلَ الْوَكِيلِ لِنَفْسِهِ ضِمْنِيٌّ لِكَوْنِ الْمُوَكِّلِ أَصِيلًا فِي إثْبَاتِ الْوَكَالَةِ وَالضِّمْنِيَّاتُ قَدْ لَا تُعْتَبَرُ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ بَلْ الْأَصْلُ وُقُوعُ التَّصَرُّفِ لِنَفْسِ الْفَاعِلِ.
فَإِنْ قِيلَ فَلْتَنْسَخْهَا الْوَكَالَةُ، لِطَرَيَانِهَا عَلَيْهِمَا كَمَا لَوْ تَأَخَّرَتْ الْكَفَالَةُ عَنْهَا فَإِنَّهَا تَنْسَخُهَا.
قَالَ الْمَحْبُوبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: الْوَكِيلُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ إذَا ضَمِنَ الْمَالَ لِلْمُوَكِّلِ يَصِحُّ الضَّمَانُ وَتَبْطُلُ الْوَكَالَةُ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ النَّاسِخَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَقْوَى مِنْ الْمَنْسُوخِ أَوْ مِثْلَهُ، وَالْوَكَالَةُ دُونَ الْكَفَالَةِ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ عَقْدٌ لَازِمٌ لَا يَتَمَكَّنُ الْكَفِيلُ مِنْ عَزْلِ نَفْسِهِ دُونَ الْوَكَالَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَكَالَةُ نَاسِخَةً لِلْكَفَالَةِ وَإِنْ جَازَ عَكْسُهُ قَوْلُهُ وَلِأَنَّ قَبُولَ قَوْلِهِ دَلِيلٌ آخَرُ.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْوَكَالَةَ تَسْتَلْزِمُ قَبُولَ قَوْلِهِ لِكَوْنِهِ أَمِينًا، وَلَوْ صَحَّحْنَا الْوَكَالَةَ هَاهُنَا انْتَفَى اللَّازِمُ وَهُوَ قَبُولُ قَوْلِهِ لِكَوْنِهِ مُبْرِئًا نَفْسَهُ، وَانْتِفَاءُ اللَّازِمِ يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ الْمَلْزُومِ فَيَلْزَمُ عَدَمُهُ حَالَ فَرْضِ وُجُودِهِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مَعْدُومٌ وَنَظِيرُ بُطْلَانِ الْوَكَالَةِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ بُطْلَانُهَا فِي عَبْدٍ مَدْيُونٍ أَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ حَتَّى ضَمِنَ لِلْغُرَمَاءِ قِيمَتَهُ وَيُطَالِبُ الْعَبْدَ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ، فَلَوْ وَكَّلَهُ الطَّالِبُ بِقَبْضِ دَيْنِهِ مِنْ الْعَبْدِ كَانَ التَّوْكِيلُ بَاطِلًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْوَكِيلَ مَنْ يَعْمَلُ لِغَيْرِهِ، وَهَاهُنَا لَمَّا كَانَ الْمَوْلَى ضَامِنًا لِقِيمَتِهِ كَانَ فِي مِقْدَارِهَا عَامِلًا لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ يُبْرِئُ بِهِ نَفْسَهُ فَيَكُونُ التَّوْكِيلُ بَاطِلًا..
قَالَ (وَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ وَكِيلُ الْغَائِبِ فِي قَبْضِ دَيْنِهِ فَصَدَّقَهُ الْغَرِيمُ أُمِرَ بِتَسْلِيمِ الدَّيْنِ إلَيْهِ) لِأَنَّهُ إقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ مَا يَقْضِيهِ خَالِصُ مَالِهِ (فَإِنْ حَضَرَ الْغَائِبُ فَصَدَّقَهُ وَإِلَّا دَفَعَ إلَيْهِ الْغَرِيمُ الدَّيْنَ ثَانِيًا) لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ الِاسْتِيفَاءُ حَيْثُ أَنْكَرَ الْوِكَالَةَ، وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ فَيَفْسُدُ الْأَدَاءُ (وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْوَكِيلِ إنْ كَانَ بَاقِيًا فِي يَدِهِ) لِأَنَّ غَرَضَهُ مِنْ الدَّفْعِ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ وَلَمْ تَحْصُلْ فَلَهُ أَنْ يَنْقُضَ قَبْضُهُ (وَإِنْ كَانَ) ضَاعَ (فِي يَدِهِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ بِتَصْدِيقِهِ اعْتَرَفَ أَنَّهُ مُحِقٌّ فِي الْقَبْضِ وَهُوَ مَظْلُومٌ فِي هَذَا الْأَخْذِ، وَالْمَظْلُومُ لَا يَظْلِمُ غَيْرَهُ.
قَالَ (إلَّا أَنْ يَكُونَ ضَمِنَهُ عِنْدَ الدَّفْعِ) لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ ثَانِيًا مَضْمُونٌ عَلَيْهِ فِي زَعْمِهِمَا، وَهَذِهِ كَفَالَةٌ أُضِيفَتْ إلَى حَالَةِ الْقَبْضِ فَتَصِحُّ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ بِمَا ذَابَ لَهُ عَلَى فُلَانٍ، وَلَوْ كَانَ الْغَرِيمُ لَمْ يُصَدِّقْهُ عَلَى الْوِكَالَةِ وَدَفَعَهُ إلَيْهِ عَلَى ادِّعَائِهِ، فَإِنْ رَجَعَ صَاحِبُ الْمَالِ عَلَى الْغَرِيمِ رَجَعَ الْغَرِيمُ عَلَى الْوَكِيلِ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَدِّقْهُ عَلَى الْوِكَالَةِ، وَإِنَّمَا دَفَعَهُ إلَيْهِ عَلَى رَجَاءِ الْإِجَازَةِ، فَإِذَا انْقَطَعَ رَجَاؤُهُ رَجَعَ عَلَيْهِ، وَكَذَا إذَا دَفَعَهُ إلَيْهِ عَلَى تَكْذِيبِهِ إيَّاهُ فِي الْوِكَالَةِ.
وَهَذَا أَظْهَرُ لِمَا قُلْنَا، وَفِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْمَدْفُوعَ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ لِأَنَّ الْمُؤَدَّى صَارَ حَقًّا لِلْغَائِبِ، إمَّا ظَاهِرًا أَوْ مُحْتَمَلًا فَصَارَ كَمَا إذَا دَفَعَهُ إلَى فُضُولِيٍّ عَلَى رَجَاءِ الْإِجَازَةِ لَمْ يَمْلِكْ الِاسْتِرْدَادَ لِاحْتِمَالِ الْإِجَازَةِ، وَلِأَنَّ مَنْ بَاشَرَ التَّصَرُّفَ لِغَرَضٍ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَهُ مَا لَمْ يَقَعْ الْيَأْسُ عَنْ غَرَضِهِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ وَكِيلُ الْغَائِبِ فِي قَبْضِ دَيْنِهِ إلَخْ) وَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ وَكِيلُ فُلَانٍ الْغَائِبِ فِي قَبْضِ دَيْنِهِ فَصَدَّقَهُ الْغَرِيمُ أُمِرَ بِتَسْلِيمِ الدَّيْنِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّ مَا يَقْضِيهِ الْغَرِيمُ خَالِصُ حَقِّهِ لِأَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا، فَمَا أَدَّاهُ الْمَدْيُونُ مِثْلُ مَالِ رَبِّ الْمَالِ لَا عَيْنُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فَكَانَ تَصْدِيقُهُ إقْرَارًا عَلَى نَفْسِهِ، وَمَنْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِشَيْءٍ أُمِرَ بِتَسْلِيمِهِ إلَى الْمُقِرِّ لَهُ، فَإِنْ حَضَرَ الْغَائِبُ فَصَدَّقَهُ فِيهَا وَإِلَّا دَفَعَ الْغَرِيمُ إلَيْهِ ثَانِيًا، لِأَنَّهُ إذَا أَنْكَرَ الْوَكَالَةَ لَمْ يَثْبُتْ الِاسْتِيفَاءُ لِأَنَّ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ لِأَنَّ الدَّيْنَ كَانَ ثَابِتًا وَالْمَدْيُونُ يَدَّعِي أَمْرًا عَارِضًا وَهُوَ سُقُوطُ الدَّيْنِ بِأَدَائِهِ إلَى الْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلُ يُنْكِرُ الْوَكَالَةَ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ.
وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الِاسْتِيفَاءُ فَسَدَ الْأَدَاءُ وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْمَدْيُونِ فَيَجِبُ الدَّفْعُ ثَانِيًا وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْوَكِيلِ إنْ كَانَ بَاقِيًا فِي يَدِهِ، لِأَنَّ غَرَضَهُ مِنْ الدَّفْعِ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ وَلَمْ تَحْصُلْ لَهُ فَلَهُ أَنْ يَنْقُضَ، وَإِنْ ضَاعَ فِي يَدِهِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ بِتَصْدِيقِهِ اعْتَرَفَ أَنَّ الْوَكِيلَ مُحِقٌّ فِي الْقَبْضِ وَالْمُحِقُّ فِي الْقَبْضِ لَا رُجُوعَ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ بِتَصْدِيقِهِ اعْتَرَفَ أَنَّهُ مَظْلُومٌ فِي هَذَا الْأَخْذِ: يَعْنِي الْأَخْذَ الثَّانِي، وَالْمَظْلُومُ لَا يَظْلِمُ غَيْرَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْوَجْهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَرْجِعَ عَلَيْهِ إذَا كَانَتْ الْعَيْنُ فِي يَدِهِ بَاقِيَةً أَيْضًا.
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْعَيْنَ إذَا كَانَتْ بَاقِيَةً أَمْكَنَ نَقْضُ الْقَبْضِ فَيَرْجِعُ يَنْقُضُهُ إذَا لَمْ يَحْصُلْ غَرَضُهُ مِنْ التَّسْلِيمِ، وَأَمَّا إذَا هَلَكَتْ فَلَمْ يُمْكِنْ نَقْضُهُ فَلَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ (قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ يَعْنِي إذَا ضَاعَ فِي يَدِهِ وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ إلَّا إذَا كَانَ ضَمَّنَ الْمَدْيُونُ الْوَكِيلَ عَلَى رِوَايَةِ التَّشْدِيدِ بِأَنْ قَالَ لَهُ اضْمَنْ لِي مَا دَفَعْت إلَيْك عَنْ الطَّالِبِ حَتَّى لَوْ أَخَذَ الطَّالِبُ مِنِّي مَالَهُ أَرْجِعُ عَلَيْك بِمَا دَفَعْته إلَيْك أَوْ ضَمِنَ الْوَكِيلُ لِلْمَدْيُونِ وَقَالَ أَنَا ضَامِنٌ لَك إنْ أَخَذَ مِنْك الطَّالِبُ ثَانِيًا أَرُدُّ عَلَيْك مَا قَبَضْته مِنْك عَلَى رِوَايَةِ التَّخْفِيفِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْوَكِيلِ حِينَئِذٍ، لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ ثَانِيًا مَضْمُونٌ عَلَى رَبِّ الدَّيْنِ فِي زَعْمِ الْوَكِيلِ وَالْمَدْيُونِ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ فِي حَقِّهِمَا فِيمَا يَقْبِضُهُ ثَانِيًا فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنَا ضَامِنٌ لَك مَا يَقْبِضُهُ مِنْك فُلَانٌ، وَهُوَ ضَمَانٌ صَحِيحٌ لِإِضَافَتِهِ إلَى سَبَبِ الْوُجُوبِ، وَهُوَ قَبْضُ رَبِّ الدَّيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ بِمَا ذَابَ عَلَيْهِ: أَيْ يَذُوبُ فِي كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفَالَةً أُضِيفَتْ إلَى حَالِ وُجُوبٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ (وَلَوْ كَانَ الْغَرِيمُ لَمْ يُصَدِّقْهُ عَلَى الْوَكَالَةِ) يَعْنِي وَلَمْ يُكَذِّبْهُ أَيْضًا لِأَنَّ فَرْعَ التَّكْذِيبِ سَيَأْتِي عَقِيبَ هَذَا (وَدَفَعَهُ إلَيْهِ عَلَى ادِّعَائِهِ فَإِنْ رَجَعَ صَاحِبُ الْمَالِ عَلَى الْغَرِيمِ رَجَعَ الْغَرِيمُ عَلَى الْوَكِيلِ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَدِّقْهُ عَلَى الْوَكَالَةِ، وَإِنَّمَا دَفَعَ إلَيْهِ عَلَى رَجَاءِ الْإِجَازَةِ، فَإِذَا انْقَطَعَ رَجَاؤُهُ رَجَعَ عَلَيْهِ، وَكَذَا إذَا دَفَعَهُ إلَيْهِ مُكَذِّبًا لَهُ فِي) دَعْوَى (الْوَكَالَةِ، وَهَذَا) أَيْ جَوَازُ الرُّجُوعِ فِي صُورَةِ التَّكْذِيبِ (أَظْهَرُ) مِنْهُ فِي الصُّورَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ وَهُوَ التَّصْدِيقُ مَعَ التَّضْمِينِ وَالسُّكُوتِ، لِأَنَّهُ إذَا كَذَّبَهُ صَارَ الْوَكِيلُ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ وَلِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْغَاصِبِ.
وَقَوْلُهُ (لَمَّا قُلْنَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَإِنَّمَا دَفَعَهُ إلَيْهِ عَلَى رَجَاءِ الْإِجَازَةِ، لَكِنَّهُ دَلِيلُ الرُّجُوعِ لَا دَلِيلُ الْأَظْهَرِيَّةِ (وَفِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا) أَيْ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ دَفَعَهُ مَعَ التَّصْدِيقِ مِنْ غَيْرِ تَضْمِينٍ، وَدَفَعَهُ بِالتَّصْدِيقِ مَعَ التَّضْمِينِ، وَدَفَعَهُ سَاكِنًا مِنْ غَيْرِ سَاكِتًا مِنْ غَيْرِ تَصْدِيقٍ وَلَا تَكْذِيبٍ، وَدَفَعَهُ مَعَ التَّكْذِيبِ (لَيْسَ لِلْغَرِيمِ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْمَدْفُوعَ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ، لِأَنَّ الْمُؤَدَّى صَارَ حَقًّا لِلْغَائِبِ، إمَّا ظَاهِرًا) وَهُوَ فِي حَالَةِ التَّصْدِيقِ (أَوْ مُحْتَمَلًا) وَهُوَ فِي حَالَةِ التَّكْذِيبِ.
وَقِيلَ ظَاهِرًا إنْ كَانَ الْوَكِيلُ ظَاهِرَ الْعَدَالَةِ، أَوْ مُحْتَمَلًا إنْ كَانَ فَاسِقًا أَوْ مَسْتُورَ الْحَالِ (فَصَارَ كَمَا إذَا دَفَعَهُ إلَى فُضُولِيٍّ عَلَى رَجَاءِ الْإِجَازَةِ) فَإِنَّهُ (لَمْ يَمْلِكْ الِاسْتِرْدَادَ لِاحْتِمَالِ الْإِجَازَةِ، وَلِأَنَّ مَنْ بَاشَرَ تَصَرُّفًا لِغَرَضٍ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَهُ مَا لَمْ يَقَعْ الْيَأْسُ عَنْ حُصُولِ غَرَضِهِ) لِأَنَّ سَعْيَ الْإِنْسَانِ فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ مَرْدُودٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَلَمْ يُذْكَرْ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْغَرِيمَ إذَا أَنْكَرَ الْوَكَالَةَ هَلْ يَسْتَحْلِفُ أَوْ لَا.
قَالَ الْخَصَّافُ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَحْلِفُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَيَحْلِفُ عَلَى قَوْلِهِمَا لِأَنَّهُ ادَّعَى عَلَيْهِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ فَإِذَا أَنْكَرَهُ يَحْلِفُ لَكِنَّهُ عَلَى الْعِلْمِ لِأَنَّهُ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ، وَلَهُ أَنَّ الِاسْتِحْلَافَ يَنْبَنِي عَلَى دَعْوَى صَحِيحَةٍ، وَمَا لَمْ تَثْبُتْ نِيَابَتُهُ عَنْ الْآمِرِ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَاهُ فَلَا يُسْتَحْلَفُ، وَكَذَا لَمْ يَذْكُرْ مَا إذَا أَقَرَّ بِالْوَكَالَةِ وَأَنْكَرَ الدَّيْنَ، وَالْحُكْمُ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ يُسْتَحْلَفُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَكِيلَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ عِنْدَهُ وَقَدْ تَثْبُتُ الْوَكَالَةُ فِي حَقِّهِ بِإِقْرَارِهِ (وَمَنْ قَالَ إنِّي وَكِيلٌ بِقَبْضِ الْوَدِيعَةِ فَصَدَّقَهُ الْمُودِعُ) لَمْ يُؤْمَرْ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِمَالِ الْغَيْرِ، بِخِلَافِ الدَّيْنِ.
وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ مَاتَ أَبُوهُ وَتَرَكَ الْوَدِيعَةَ مِيرَاثًا لَهُ وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ، وَصَدَّقَهُ الْمُودَعُ أُمِرَ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى مَالُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ مَالُ الْوَارِثِ.
الشَّرْحُ:
(وَمَنْ قَالَ إنِّي وَكِيلٌ بِقَبْضِ الْوَدِيعَةِ فَصَدَّقَهُ الْمُودَعُ لَمْ يُؤْمَرْ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ بِمَالِ الْغَيْرِ) بِحَقِّ الْقَبْضِ فَإِنَّهُ أَقَرَّ بِبَقَاءِ الْوَدِيعَةِ عَلَى مِلْكِ الْمُودَعِ، وَالْإِقْرَارُ بِمَالِ الْغَيْرِ بِحَقِّ الْقَبْضِ غَيْرُ صَحِيحٍ (بِخِلَافِ الدَّيْنِ) عَلَى مَا مَرَّ أَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا فَكَانَ إقْرَارُهُ إقْرَارًا عَلَى نَفْسِهِ بِحَقِّ الْمُطَالَبَةِ، فَإِنْ دَفَعَهَا إلَيْهِ فَحَضَرَ الْغَائِبُ وَأَنْكَرَ الْوَكَالَةَ وَحَلَفَ عَلَى ذَلِكَ وَضَمِنَ الْمُودَعُ فَهَلْ لِلْمُودَعِ الرُّجُوعُ أَوْ لَا، فَهُوَ عَلَى الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ إنْ دَفَعَهَا إلَيْهِ مُصَدِّقًا لَا يَرْجِعُ وَإِنْ صَدَّقَهُ وَضَمِنَهُ أَوْ سَكَتَ أَوْ كَذَّبَهُ فَدَفَعَهَا إلَيْهِ يَرْجِعُ إنْ لَمْ تَكُنْ الْعَيْنُ فِي يَدِهِ بَاقِيَةً وَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً أَخَذَهَا لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِالضَّمَانِ، وَأَمَّا الِاسْتِرْدَادُ قَبْلَ حُضُورِ الْغَائِبِ فَغَيْرُ جَائِزٍ لِمَا مَرَّ (وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ مَاتَ أَبُوهُ وَتَرَكَ الْوَدِيعَةَ مِيرَاثًا لَهُ وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ وَصَدَّقَهُ الْمُودَعُ أُمِرَ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى) أَيْ لِأَنَّ مَالَ الْوَدِيعَةِ لَا يَبْقَى (مَالَ الْمُودِعِ بَعْدَ مَوْتِهِ) وَرَوَى صَاحِبُ النِّهَايَةِ عَنْ خَطِّ شَيْخِهِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ نَصْبَ مَالِهِ وَوَجَّهَهُ بِكَوْنِهِ حَالًّا كَمَا فِي كَلَّمْتُهُ فَاهُ إلَى فِي: أَيْ مُشَافِهًا، وَمَعْنَاهُ لَا يَبْقَى مَالُ الْوَدِيعَةِ مَالَ الْمُودِعِ بَعْدَ مَوْتِهِ مَنْسُوبًا إلَيْهِ وَمَمْلُوكًا لَهُ وَتَبِعَهُ غَيْرُهُ مِنْ الشَّارِحِينَ، وَأَرَى أَنَّهُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْحَالَّ مُقَيِّدٌ لِلْعَامِلِ، فَكَلَّمْتُهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا بِالْمُشَافَهَةِ: أَيْ كَلَّمْتُهُ فِي حَالِ الْمُشَافَهَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ لَا يَبْقَى مَالُ الْوَدِيعَةِ حَالَ كَوْنِهِ مَالًا مَمْلُوكًا لَهُ مَنْسُوبًا إلَيْهِ فَلَيْسَ لَهُ مَعْنًى ظَاهِرٌ، وَالظَّاهِرُ فِي إعْرَابِهِ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ لَا يَبْقَى: أَيْ لِأَنَّ الْمُودِعَ لَا يَبْقَى مَالُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ لِانْتِقَالِهِ إلَى الْوَارِثِ، فَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ مَالُ الْوَارِثِ فَلَا بُدَّ مِنْ الدَّفْعِ إلَيْهِ.
وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ اشْتَرَى الْوَدِيعَةَ مِنْ صَاحِبِهَا فَصَدَّقَهُ الْمُودَعُ لَمْ يُؤْمَرْ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ مَا دَامَ حَيًّا كَانَ إقْرَارًا بِمِلْكِ الْغَيْرِ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِهِ فَلَا يُصَدِّقَانِ فِي دَعْوَى الْبَيْعِ عَلَيْهِ.
الشَّرْحُ:
(وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ اشْتَرَى الْوَدِيعَةَ مِنْ صَاحِبِهَا فَصَدَّقَهُ الْمُودِع لَمْ يُؤْمَرْ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ، لِأَنَّ الْمُودِعَ مَا دَامَ حَيًّا كَانَ إقْرَارُ الْمُودِعِ) إقْرَارًا (بِمِلْكِ الْغَيْرِ لِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ فَلَا يُصَدَّقَانِ فِي دَعْوَى الْبَيْعِ عَلَيْهِ) وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قَدْ تَقَدَّمَ هَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ فِي فَصْلِ الْقَضَاءِ بِالْمَوَارِيثِ فَكَانَ ذِكْرُهُمَا تَكْرَارًا.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ ذَكَرَهُمَا هُنَالِكَ بِاعْتِبَارِ الْقَضَاءِ، وَهَاهُنَا بِاعْتِبَارِ الدَّعْوَى، وَلِهَذَا صَدَّرَهُمَا هَاهُنَا بِقَوْلِهِ وَلَوْ ادَّعَى، وَهُنَالِكَ بِقَوْلِهِ وَمَنْ أَقَرَّ وَمَعَ هَذَا فَلَا يَخْلُو عَنْ ضَعْفٍ لِأَنَّ إيرَادَهُمَا فِي بَابِ الْوَكَالَةِ بِالْخُصُومَةِ وَالْقَبْضِ بَعِيدُ الْمُنَاسَبَةِ. قَالَ (فَإِنْ وَكَّلَ وَكِيلًا يَقْبِضُ مَالَهُ فَادَّعَى الْغَرِيمُ أَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ قَدْ اسْتَوْفَاهُ فَإِنَّهُ يَدْفَعُ الْمَالَ إلَيْهِ) لِأَنَّ الْوِكَالَةَ قَدْ ثَبَتَتْ وَالِاسْتِيفَاءُ لَمْ يَثْبُتْ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ فَلَا يُؤَخَّرُ الْحَقُّ.
قَالَ (وَيَتْبَعُ رَبُّ الْمَالِ فَيَسْتَحْلِفُهُ) رِعَايَةً لِجَانِبِهِ، وَلَا يَسْتَحْلِفُ الْوَكِيلَ لِأَنَّهُ نَائِبٌ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (فَإِنْ وَكَّلَ وَكِيلًا بِقَبْضِ دَيْنِهِ) ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مُحَمَّدٌ عَنْ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الرَّجُلِ لَهُ عَلَى الرَّجُلِ مَالٌ فَوَكَّلَ وَكِيلًا بِذَلِكَ الْمَالِ وَأَقَامَ الْوَكِيلُ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ وَقَالَ الَّذِي عَلَيْهِ الْمَالُ قَدْ اسْتَوْفَاهُ صَاحِبُهُ فَإِنَّهُ يُقَالُ لَهُ ادْفَعْ الْمَالَ ثُمَّ اتَّبِعْ رَبَّ الْمَالِ فَاسْتَحْلِفْهُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (لِأَنَّ الْوَكَالَةَ قَدْ ثَبَتَتْ) يَعْنِي بِالْبَيِّنَةِ لِأَنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ كَذَلِكَ (وَالِاسْتِيفَاءُ لَمْ يَثْبُتْ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ فَلَا يُؤَخَّرُ الْحَقُّ) إلَى تَحْلِيفِ رَبِّ الدَّيْنِ (ثُمَّ يَتَّبِعُ الْغَرِيمُ رَبَّ الدَّيْنِ فَيَسْتَحْلِفُهُ رِعَايَةً لِجَانِبِهِ) فَإِنْ حَلَفَ مَضَى الْأَدَاءُ، وَإِنْ نَكَلَ يَتَّبِعُ الْقَابِضَ فَيَسْتَرِدُّ مَا قَبَضَ (وَلَا يُسْتَحْلَفُ الْوَكِيلُ لِأَنَّهُ نَائِبٌ) وَالنِّيَابَةُ لَا تُجْرَى فِي الْأَيْمَانِ، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَحْلَفَهُ عَلَى الْعِلْمِ، فَإِنْ نَكَلَ خَرَجَ عَنْ الْوَكَالَةِ وَالطَّالِبُ عَلَى حُجَّتِهِ، لِأَنَّ الْوَكِيلَ لَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ بَطَلَتْ وَكَالَتُهُ فَجَازَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَيْهِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْغَرِيمَ يَدَّعِي حَقًّا عَلَى الْمُوَكِّلِ لَا عَلَى الْوَكِيلِ فَتَحْلِيفُ الْوَكِيلِ يَكُونُ نِيَابَةً وَهِيَ لَا تُجْرَى فِي الْأَيْمَانِ، بِخِلَافِ الْوَارِثِ يَحْلِفُ أَنْ لَا يَعْلَمَ اسْتِيفَاءَ مُوَرِّثِهِ لِأَنَّ الْحَقَّ ثَبَتَ لِلْوَارِثِ فَالدَّعْوَى عَلَيْهِ وَالْيَمِينُ بِالْأَصَالَةِ..
قَالَ (وَإِنْ وَكَّلَهُ بِعَيْبٍ فِي جَارِيَةٍ فَادَّعَى الْبَائِعُ رِضَا الْمُشْتَرِي لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى يَحْلِفَ الْمُشْتَرِي) بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الدَّيْنِ لِأَنَّ التَّدَارُكَ مُمْكِنٌ هُنَالِكَ بِاسْتِرْدَادِ مَا قَبَضَهُ الْوَكِيلُ إذَا ظَهَرَ الْخَطَأُ عِنْدَ نُكُولِهِ، وَهَاهُنَا غَيْرُ مُمْكِنٍ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْفَسْخِ مَاضٍ عَلَى الصِّحَّةِ وَإِنْ ظَهَرَ الْخَطَأُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ، وَلَا يَسْتَحْلِفُ الْمُشْتَرِيَ عِنْدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا قَالُوا: يَجِبُ أَنْ يَتَّحِدَ الْجَوَابُ عَلَى هَذَا فِي الْفَصْلَيْنِ وَلَا يُؤَخَّرُ، لِأَنَّ التَّدَارُكَ مُمْكِنٌ عِنْدَهُمَا لِبُطْلَانِ الْقَضَاءِ.
وَقِيلَ الْأَصَحُّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يُؤَخَّرَ فِي الْفَصْلَيْنِ لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ النَّظَرَ حَتَّى يَسْتَحْلِفَ الْمُشْتَرِيَ لَوْ كَانَ حَاضِرًا مِنْ غَيْرِ دَعْوَى الْبَائِعِ فَيَنْتَظِرُ لِلنَّظَرِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِنْ وَكَّلَهُ بِعَيْبٍ فِي جَارِيَةٍ إلَخْ) إذَا وُكِّلَ بِرَدِّ جَارِيَةٍ بِعَيْبٍ فَادَّعَى الْبَائِعُ رِضَا الْمُشْتَرِي بِالْعَيْبِ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى يَحْلِفَ الْمُشْتَرِي، بِخِلَافِ مَا مَرَّ مِنْ مَسْأَلَةِ الدَّيْنِ لِأَنَّ التَّدَارُكَ فِيهَا مُمْكِنٌ بِاسْتِرْدَادِ مَا قَبَضَهُ الْوَكِيلُ إذَا ظَهَرَ الْخَطَأُ عِنْدَ نُكُولِ الْمُوَكِّلِ، وَأَمَّا هَاهُنَا فَغَيْرُ مُمْكِنٍ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَنْفَسِخُ بِالْقَضَاءِ، وَالْقَضَاءُ بِالْفَسْخِ مَاضٍ عَلَى الصِّحَّةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْقَضَاءَ فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ يَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَإِنْ ظَهَرَ الْخَطَأُ بِالنُّكُولِ، وَعَلَى هَذَا لَا يَحْلِفُ الْمُشْتَرِي عِنْدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا مَضَى الْفَسْخُ وَلَا يَرُدُّ بِالنُّكُولِ؛ لَمْ يَبْقَ فِي الِاسْتِحْلَافِ فَائِدَةٌ.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْوَكِيلَ إذَا رَدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ بِالْعَيْبِ ثُمَّ حَضَرَ الْمُشْتَرِي وَادَّعَى الرِّضَا بِالْعَيْبِ وَاسْتَرَدَّ الْجَارِيَةَ وَقَالَ الْبَائِعُ لَا سَبِيلَ لَك عَلَيْهَا لِأَنَّ الْقَاضِيَ نَقَضَ الْبَيْعَ فَإِنَّهُ لَا يَلْتَفِتُ إلَى قَوْلِ الْبَائِعِ، وَلَوْ كَانَ الْقَضَاءُ مَاضِيًا عَلَى الصِّحَّةِ لَمْ تَرُدَّ الْجَارِيَةَ عَلَى الْمُشْتَرَى.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الرَّدَّ مَذْهَبُ مُحَمَّدٍ، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا سَبِيلَ لِلْآمِرِ عَلَى الْجَارِيَةِ.
سَلَّمْنَا أَنَّ هَذَا قَوْلَ الْكُلِّ، لَكِنَّ النَّقْضَ هَاهُنَا لَمْ يُوجِبْهُ دَلِيلٌ، وَإِنَّمَا كَانَ لِلْجَهْلِ بِالدَّلِيلِ الْمُسْقِطِ لِلرَّدِّ وَهُوَ رِضَا الْآمِرِ بِالْعَيْبِ ثُمَّ ظَهَرَ الدَّلِيلُ بِخِلَافِهِ بِتَصَادُقِهِمَا فِي الْآخِرَةِ عَلَى وُجُودِ الرِّضَا مِنْ الْمُشْتَرِي، وَفِي مِثْلِهِ لَا يَنْفُذُ الْقَضَاءُ بَاطِنًا كَمَا لَوْ قَضَى بِاجْتِهَادِهِ فِي حَادِثَةٍ وَثَمَّةَ نَصٌّ بِخِلَافِهِ، وَقَالُوا هَذَا أَصَحُّ، فَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَقَدْ قَالُوا يَجِبُ أَنْ يَتَّحِدَ الْجَوَابُ عَلَى هَذَا: أَيْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ فِي الْفَصْلَيْنِ فَصْلِ الْجَارِيَةِ وَالدَّيْنِ فَيُدْفَعُ الدَّيْنُ كَمَا تَقَدَّمَ وَتُرَدُّ الْجَارِيَةُ، وَلَا يُؤَخَّرُ إلَى تَحْلِيفِ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ عَدَمَ التَّأْخِيرِ إلَى تَحْلِيفِ رَبِّ الدَّيْنِ إنَّمَا كَانَ لِكَوْنِ التَّدَارُكِ مُمْكِنًا عِنْدَ ظُهُورِ الْخَطَإِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي صُورَةِ الْجَارِيَةِ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي فِي مِثْلِ ذَلِكَ نَافِذٌ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا، فَإِذَا ظَهَرَ خَطَأُ الْقَضَاءِ عِنْدَ نُكُولِ الْمُشْتَرِي رُدَّتْ الْجَارِيَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي فَلَا يُؤَخَّرُ إلَى التَّحْلِيفِ.
وَقِيلَ الْأَصَحُّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ أَنْ يُؤَخَّرَ فِي الْفَصْلَيْنِ لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ النَّظَرُ لِلْبَائِعِ حَتَّى يَسْتَحْلِفَ الْمُشْتَرِيَ إنْ كَانَ حَاضِرًا مِنْ غَيْرِ دَعْوَى الْبَائِعِ فَيُنْتَظَرُ لِلنَّظَرِ لَهُ إنْ كَانَ غَائِبًا. قَالَ (وَمَنْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ يُنْفِقُهَا عَلَى أَهْلِهِ فَأَنْفَقَ عَلَيْهِمْ عَشَرَةً مِنْ عِنْدِهِ فَالْعَشَرَةُ بِالْعَشَرَةِ) لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالْإِنْفَاقِ وَكِيلٌ بِالشِّرَاءِ وَالْحُكْمُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَقَدْ قَرَرْنَاهُ فَهَذَا كَذَلِكَ.
وَقِيلَ هَذَا اسْتِحْسَانٌ وَفِي الْقِيَاسِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَيَصِيرُ مُتَبَرِّعًا.
وَقِيلَ الْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِشِرَاءٍ، فَأَمَّا الْإِنْفَاقُ يَتَضَمَّنُ الشِّرَاءَ فَلَا يَدْخُلَانِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ يُنْفِقُهَا إلَخْ) وَمَنْ دَفَعَ إلَى آخَرَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ يُنْفِقُهَا عَنْ أَهْلِهِ فَأَنْفَقَ عَلَيْهِمْ عَشَرَةً مِنْ مَالِهِ فَالْعَشَرَةُ الَّذِي أَنْفَقَهُ مِنْ مَالِهِ بِمُقَابَلَةِ الْعَشَرَةِ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْ الْمُوَكِّلِ لَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا فِيمَا أَنْفَقَ.
قِيلَ: هَذَا اسْتِحْسَانٌ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْإِنْفَاقِ وَكِيلٌ بِالشِّرَاءِ، وَالْحُكْمُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ رُجُوعِ الْوَكِيلِ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِمَا أَدَّى مِنْ الثَّمَنِ، وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ: يَعْنِي فِي بَابِ الْوَكَالَةِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ وَإِذَا دَفَعَ الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ الثَّمَنَ مِنْ مَالِهِ وَقَبَضَ الْمَبِيعَ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ انْعَقَدَتْ بَيْنَهُمَا مُبَادَلَةٌ حُكْمِيَّةٌ، وَهَذَا أَيْ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ التَّوْكِيلِ بِالْإِنْفَاقِ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِشِرَاءِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْأَهْلُ قَدْ يَضْطَرُّ إلَى شِرَاءِ شَيْءٍ يَصْلُحُ لِنَفَقَتِهِمْ وَلَمْ يَكُنْ مَالُ الْمُتَوَكِّلِ مَعَهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُؤَدِّيَ ثَمَنَهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، فَكَانَ فِي التَّوْكِيلِ بِذَلِكَ تَجْوِيزُ الِاسْتِبْدَالِ، وَفِي الْقِيَاسِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَيَصِيرُ مُتَبَرِّعًا فِيمَا أَنْفَقَ وَيَرُدُّ الدَّرَاهِمَ الْمَأْخُوذَةَ مِنْ الْمُوَكِّلِ عَلَيْهِ، وَإِنْ اسْتَهْلَكَهَا ضَمِنَ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ تَتَعَيَّنُ فِي الْوَكَالَاتِ، حَتَّى لَوْ هَلَكَتْ قَبْلَ الْإِنْفَاقِ بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ، فَإِذَا أَنْفَقَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَقَدْ أَنْفَقَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَيَكُونُ مُتَبَرِّعًا.
وَقِيلَ: الْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَهُوَ أَنْ يَدْفَعَ الْمَدْيُونُ إلَى رَجُلٍ أَلْفًا وَيُوَكِّلُهُ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ بِهَا فَدَفَعَ الْوَكِيلُ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ قَضَاءً عَنْهُ فَإِنَّهُ فِي الْقِيَاسِ مُتَبَرِّعٌ، حَتَّى إذَا أَرَادَ الْمَأْمُورُ أَنْ يَحْبِسَ الْأَلْفَ الَّتِي دُفِعَتْ إلَيْهِ لَا يَكُونُ لَهُ ذَلِكَ.
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَهُ ذَلِكَ وَلَيْسَ بِمُتَبَرِّعٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ لَيْسَ بِشِرَاءٍ فَلَا يَكُونُ الْآمِرُ رَاضِيًا بِثُبُوتِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الْوَكِيلِ، فَلَوْ لَمْ يُجْعَلْ مُتَبَرِّعًا لَأَلْزَمْنَاهُ دَيْنًا لَمْ يَرْضَ بِهِ فَجَعَلْنَاهُ مُتَبَرِّعًا قِيَاسًا.
فَأَمَّا الْإِنْفَاقُ فَيَتَضَمَّنُ الشِّرَاءَ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالْإِنْفَاقِ وَهُوَ أَمْرٌ بِشِرَاءِ الطَّعَامِ وَالشِّرَاءُ لَا يَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ الدَّرَاهِمِ الْمَدْفُوعَةِ إلَيْهِ بَلْ بِمِثْلِهَا فِي الذِّمَّةِ، ثُمَّ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْآمِرِ فَكَانَ رَاضِيًا بِثُبُوتِ الدَّيْنِ فَلَمْ يُجْعَلْ مُتَبَرِّعًا قِيَاسًا أَيْضًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.