فصل: (بَابُ الْإِحْرَامِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.(بَابُ الْإِحْرَامِ):

(وَإِذَا أَرَادَ الْإِحْرَامَ اغْتَسَلَ أَوْ تَوَضَّأَ وَالْغُسْلُ أَفْضَلُ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اغْتَسَلَ لِإِحْرَامِهِ» إلَّا أَنَّهُ لِلتَّنْظِيفِ حَتَّى تُؤْمَرَ بِهِ الْحَائِضُ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ فَرْضًا عَنْهَا فَيَقُومَ الْوُضُوءُ مَقَامَهُ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ، لَكِنَّ الْغُسْلَ أَفْضَلُ لِأَنَّ مَعْنَى النَّظَافَةِ فِيهِ أَتَمُّ، وَلِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اخْتَارَهُ.
قَالَ (وَلَبِسَ ثَوْبَيْنِ جَدِيدَيْنِ أَوْ غَسِيلَيْنِ إزَارًا وَرِدَاءً) لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ائْتَزَرَ وَارْتَدَى عِنْدَ إحْرَامِهِ، وَلِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْ لُبْسِ الْمَخِيطِ وَلَا بُدَّ مِنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ وَدَفْعِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَذَلِكَ فِيمَا عَيَّنَّاهُ، وَالْجَدِيدُ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الطَّهَارَةِ.
قَالَ (وَمَسَّ طِيبًا إنْ كَانَ لَهُ) وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّهُ يُكْرَهُ إذَا تَطَيَّبَ بِمَا تَبْقَى عَيْنُهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، لِأَنَّهُ مُنْتَفِعٌ بِالطِّيبِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ.
وَوَجْهُ الْمَشْهُورِ حَدِيثُ «عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كُنْت أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ» وَالْمَمْنُوعُ عَنْهُ التَّطَيُّبُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ، وَالْبَاقِي كَالتَّابِعِ لَهُ لِاتِّصَالِهِ بِهِ، بِخِلَافِ الثَّوْبِ لِأَنَّهُ مُبَايِنٌ عَنْهُ.
الشَّرْحُ:
بَابُ: الْإِحْرَامِ.
لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ الْمَوَاقِيتِ، ذَكَرَ كَيْفِيَّةَ الْإِحْرَامِ الَّذِي يُفْعَلُ فِي تِلْكَ الْمَوَاقِيتِ, وَالْإِحْرَامُ لُغَةً مَصْدَرُ أَحْرَمَ إذَا دَخَلَ فِي الْحَرَمِ كَأَشْتَى إذَا دَخَلَ فِي الشِّتَاءِ.
وَفِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ تَحْرِيمُ الْمُبَاحَاتِ عَلَى نَفْسِهِ لِأَدَاءِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ، فَإِنَّ مِنْ الْعِبَادَاتِ مَا لَهَا تَحْرِيمٌ وَتَحْلِيلٌ كَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ، وَمِنْهَا مَا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ كَالصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ, وَإِذَا أَرَادَ الْإِحْرَامَ اغْتَسَلَ أَوْ تَوَضَّأَ وَالْغُسْلُ أَفْضَلُ لِمَا رَوَى «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اغْتَسَلَ لِإِحْرَامِهِ» وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنَّهُ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَالْغُسْلُ أَفْضَلُ، وَكَأَنَّهُ يَدْفَعُ مَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْغُسْلَ إذَا كَانَ أَفْضَلَ، وَجَبَ أَنْ لَا يَقُومَ غَيْرُهُ مَقَامَهُ فَقَالَ إلَّا أَنَّهُ لِلتَّنْظِيفِ حَتَّى تُؤْمَرَ بِهِ الْحَائِضُ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ فَرْضًا عَنْهَا رُوِيَ «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ أَسْمَاءَ قَدْ نُفِسَتْ فَقَالَ: مُرْهَا فَلْتَغْتَسِلْ وَلْتُحْرِمْ بِالْحَجِّ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاغْتِسَالَ الْوَاجِبَ لَا يَتَأَدَّى مَعَ وُجُودِ الْحَيْضِ فَكَانَ لِمَعْنَى النَّظَافَةِ، وَكُلُّ غُسْلٍ كَانَ لِمَعْنَى النَّظَافَةِ يَقُومُ الْوُضُوءُ مَقَامَهُ (كَمَا فِي الْجُمُعَةِ) وَالْعِيدَيْنِ (لَكِنَّ الْغُسْلَ أَفْضَلُ لِأَنَّ مَعْنَى النَّظَافَةِ فِيهِ أَتَمُّ، وَلِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اخْتَارَهُ) أَيْ آثَرَهُ عَلَى الْوُضُوءِ وَضَعْفُ تَرْكِيبِهِ لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّلِ (وَلُبْسُ ثَوْبَيْنِ جَدِيدَيْنِ أَوْ غَسِيلَيْنِ إزَارًا وَرِدَاءً) وَفِي ذِكْرِ الْجَدِيدِ نَفْيٌ لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِكَرَاهَةِ لُبْسِ الْجَدِيدِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، وَالْإِزَارُ مِنْ الْحِقْوِ إلَى الْخَصْرِ، وَالرِّدَاءُ مِنْ الْكَنَفِ (لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ائْتَزَرَ وَارْتَدَى) أَيْ لَبِسَ الْإِزَارَ وَالرِّدَاءَ.
وَيُدْخِلُ الرِّدَاءَ تَحْتَ يَمِينِهِ وَيُلْقِيهِ عَلَى كَتِفِهِ الْأَيْسَرِ وَيَبْقَى كَتِفُهُ الْأَيْمَنُ مَكْشُوفًا وَلَا يَزُرُّهُ وَلَا يَعْقِدُهُ وَلَا يُخَلِّلُهُ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ كُرِهَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الطَّهَارَةِ) لِأَنَّهُ لَمْ تُصِبْهُ النَّجَاسَةُ ظَاهِرٌ (وَمَسَّ طِيبًا إنْ وَجَدَ) أَيَّ طِيبٍ كَانَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ (وَ) رَوَى الْمُعَلَّى (عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُكْرَهُ إذَا تَطَيَّبَ بِمَا تَبْقَى عَيْنُهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ) كَالْمِسْكِ وَالْغَالِيَةِ قَالَ مُحَمَّدٌ: كُنْت لَا أَرَى بَأْسًا بِذَلِكَ حَتَّى رَأَيْت قَوْمًا أَحْضَرُوا طِيبًا كَثِيرًا وَرَأَيْت أَمْرًا شَنِيعًا فَكَرِهْته (وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ مُنْتَفِعٌ بِالطِّيبِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ) قِيلَ: لِأَنَّهُ إذَا عَرِقَ يَنْتَقِلُ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ بَدَنِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ التَّطَيُّبِ ابْتِدَاءً بَعْدَ الْإِحْرَامِ فِي الْمَوْضِعِ الثَّانِي، يُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَأَى أَعْرَابِيًّا عَلَيْهِ خَلُوقٌ فَقَالَ: اغْسِلْ عَنْك هَذَا الْخَلُوقَ» وَوَجْهُ الْمَشْهُورِ حَدِيثُ عَائِشَةَ قَالَتْ «كُنْت أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ» وَفِيهِ نَظَرٌ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الطِّيبُ مِمَّا لَا يَبْقَى أَثَرُهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَالْمَكْرُوهُ ذَلِكَ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ حَدِيثِ عَائِشَةَ «وَلَقَدْ رَأَيْت وَبِيصَ الطِّيبِ فِي مَفَارِقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ» وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مَعْلُومًا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا اقْتَصَرَ عَنْ ذِكْرِهِ (وَلِأَنَّ الْمَمْنُوعَ عَنْ الْمُحْرِمِ التَّطَيُّبُ وَالْبَاقِي كَالتَّابِعِ لَهُ لِاتِّصَالِهِ بِبَدَنِهِ) وَلَا حُكْمَ لِلتَّبَعِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ (بِخِلَافِ الثَّوْبِ الْمَخِيطِ) إذَا لُبِسَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ، وَبَقِيَ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ مَمْنُوعًا، وَيَكُونُ كَاللَّابِسِ ابْتِدَاءً حَتَّى يَلْزَمَهُ الْجَزَاءُ (لِأَنَّهُ مُبَايِنٌ عَنْهُ) فَلَا يَكُونُ تَابِعًا، وَعَنْ هَذَا إذَا حَلَفَ لَا يَتَطَيَّبُ فَدَامَ عَلَى طِيبٍ كَانَ بِجَسَدِهِ لَا يَحْنَثُ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ هَذَا الثَّوْبَ فَدَامَ عَلَى لُبْسِهِ حَنِثَ، وَحَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَلَى ثَوْبِهِ لَا عَلَى بَدَنِهِ قَالَ, وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَلَّى بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ إحْرَامِهِ قَالَ وَقَالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ فَيَسِّرْهُ لِي وَتَقَبَّلْهُ مِنِّي» لِأَنَّ أَدَاءَهَا فِي أَزْمِنَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَأَمَاكِنَ مُتَبَايِنَةٍ فَلَا يُعَرَّى عَنْ الْمَشَقَّةِ عَادَةً فَيَسْأَلُ التَّيْسِيرَ، وَفِي الصَّلَاةِ لَمْ يَذْكُرْ مِثْلَ هَذَا الدُّعَاءِ لِأَنَّ مُدَّتَهَا يَسِيرَةٌ وَأَدَاءَهَا عَادَةً مُتَيَسِّر قَالَ (ثُمَّ يُلَبِّي عَقِيبَ صَلَاتِهِ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَبَّى فِي دُبُرِ صَلَاتِهِ».
وَإِنْ لَبَّى بَعْدَمَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ جَازَ، وَلَكِنْ الْأَوَّلُ أَفْضَلُ لِمَا رَوَيْنَا.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ) أَيْ إذَا أَرَادَ الْإِحْرَامَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ إحْرَامِهِ» وَرَوَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي وَأَنَا بِالْعَقِيقِ فَقَالَ: صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ رَكْعَتَيْنِ وَقُلْ: لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا» وَيَقْرَأُ فِيهِمَا مَا شَاءَ وَإِنْ قَرَأَ فِي الْأُولَى بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وَفِي الثَّانِيَةِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تَبَرُّكًا بِفِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَهُوَ أَفْضَلُ (قَالَ) يَعْنِي مُحَمَّدًا (وَقَالَ) يَعْنِي الَّذِي يُرِيدُ الْحَجَّ (اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ فَيَسِّرْهُ لِي وَتَقَبَّلْهُ مِنِّي) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ لَمْ يَذْكُرْ قَالَ الْأَوَّلُ، وَأَلْحَقَهُ بِحَدِيثِ جَابِرٍ: أَيْ «صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ»، وَقَالَ: أَيْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمُثْبَتُ فِي الْكُتُبِ الْمُتْقَنَةِ عَنْ الْأَسَاتِذَةِ.
وَقَوْلُهُ (لَأَنْ أَدَّاهَا) أَيْ أَدَاءُ هَذِهِ الْعِبَادَةِ تَعْلِيلٌ لِسُؤَالِ التَّيْسِيرِ.
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ يُلَبِّي) يُرِيدُ مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ (عَقِيبَ صَلَاتِهِ) اخْتَلَفَ الرُّوَاةُ فِي وَقْتِ تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «لَبَّى دُبُرِ صَلَاتِهِ» وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ «لَبَّى حِينَ اسْتَوَى عَلَى رَاحِلَتِهِ» وَذَكَرَ جَابِرٌ.
«أَنَّهُ لَبَّى حِينَ عَلَا الْبَيْدَاءَ» وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا رَدَّ هَذَا، فَقَالَ: يَكْذِبُونَ فِيهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَإِنَّمَا لَبَّى حِينَ اسْتَوَى عَلَى رَاحِلَتِهِ» وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَيْفَ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي وَقْتِ تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا حَجَّ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَقَالَ «لَبَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُبُرِ صَلَاتِهِ» فَسَمِعَ ذَلِكَ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَنَقَلُوا ذَلِكَ، وَكَانَ الْقَوْمُ يَأْتُونَهُ أَرْسَالًا فَلَبَّى حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ فَسَمِعَ قَوْمٌ فَظَنُّوهَا أَوَّلَ تَلْبِيَتِهِ فَنَقَلُوا ذَلِكَ، ثُمَّ لَبَّى حِينَ عَلَا الْبَيْدَاءَ، فَسَمِعَهُ قَوْمٌ آخَرُونَ فَظَنُّوهَا أَوَّلَ تَلْبِيَتِهِ فَنَقَلُوا ذَلِكَ وَاَيْمُ اللَّهِ مَا أَوْجَبَهَا إلَّا فِي مُصَلَّاهُ فَقُلْنَا: بِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ أَكَّدَ رِوَايَتَهُ بِالْيَمِينِ، وَالْإِتْيَانُ بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ جَائِزٌ. (فَإِنْ كَانَ مُفْرِدًا بِالْحَجِّ يَنْوِي بِتَلْبِيَتِهِ الْحَجَّ) لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ (وَالتَّلْبِيَةُ أَنْ يَقُولَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك لَبَّيْكَ، إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَك وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَك) وَقَوْلُهُ (إنَّ الْحَمْدَ) بِكَسْرِ الْأَلِفِ لَا بِفَتْحِهَا لِيَكُونَ ابْتِدَاءً لَا بِنَاءً إذْ الْفَتْحَةُ صِفَةُ الْأُولَى، وَهُوَ إجَابَةٌ لِدُعَاءِ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَلَى مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي الْقِصَّةِ (وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخِلَّ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ) لِأَنَّهُ هُوَ الْمَنْقُولُ بِاتِّفَاقِ الرُّوَاةِ فَلَا يَنْقُصُ عَنْهُ (وَلَوْ زَادَ فِيهَا جَازَ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رِوَايَةِ الرَّبِيعِ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْهُ.
هُوَ اعْتَبَرَهُ بِالْأَذَانِ وَالتَّشَهُّدِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ ذِكْرٌ مَنْظُومٌ.
وَلَنَا أَنَّ أَجِلَّاءَ الصَّحَابَةِ كَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ زَادُوا عَلَى الْمَأْثُورِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ الثَّنَاءُ، وَإِظْهَارُ الْعُبُودِيَّةِ فَلَا يُمْنَعُ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ.
قَالَ (وَإِذَا لَبَّى فَقَدْ أَحْرَمَ) يَعْنِي إذَا نَوَى لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَتَأَدَّى إلَّا بِالنِّيَّةِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهَا لِتَقْدِيمِ الْإِشَارَةِ إلَيْهَا فِي قَوْلِهِ- اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ- (وَلَا يَصِيرُ شَارِعًا فِي الْإِحْرَامِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ مَا لَمْ يَأْتِ بِالتَّلْبِيَةِ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ عَقَدَ عَلَى الْأَدَاءِ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرٍ كَمَا فِي تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ، وَيَصِيرُ شَارِعًا بِذِكْرٍ يَقْصِدُ بِهِ التَّعْظِيمَ سِوَى التَّلْبِيَةِ فَارِسِيَّةً كَانَتْ أَوْ عَرَبِيَّةً، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ عَلَى أَصْلِهِمَا أَنَّ بَابَ الْحَجِّ أَوْسَعُ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ، حَتَّى يُقَامَ غَيْرُ الذِّكْرِ مَقَامَ الذِّكْرِ كَتَقْلِيدِ الْبُدْنِ فَكَذَا غَيْرُ التَّلْبِيَةِ وَغَيْرُ الْعَرَبِيَّةِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ كَانَ مُفْرِدًا بِالْحَجِّ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَالتَّلْبِيَةُ أَنْ يَقُولَ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ) وَهُوَ مِنْ الْمَصَادِرِ الَّتِي يَجِبُ حَذْفُ فِعْلِهَا لِوُقُوعِهِ مُثَنَّى.
وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ فَقِيلَ: مُشْتَقٌّ مِنْ أَلَبَ الرَّجُلُ إذَا أَقَامَ فِي مَكَان، فَمَعْنَى لَبَّيْكَ أُقِيمُ عَلَى طَاعَتِك إقَامَةً بَعْدَ إقَامَةٍ لِأَنَّ التَّلْبِيَةَ هَاهُنَا لِلتَّكْرِيرِ، وَالتَّكْرِيرُ يُرَادُ لِلتَّكْثِيرِ.
وَقِيلَ: مُشْتَقٌّ مِنْ قَوْلِهِمْ: امْرَأَةٌ لَبَّةٌ أَيْ مُحِبَّةٌ لِزَوْجِهَا فَمَعْنَاهُ مَحَبَّتِي لَك يَا رَبِّ.
وَقِيلَ: مِنْ قَوْلِهِمْ دَارِي تَلِبُّ دَارَك أَيْ تُوَاجِهُهَا فَمَعْنَاهُ اتِّجَاهِي إلَيْك مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَالْأَوَّلُ أَنْسَبُ.
وَقَوْلُهُ (إنَّ الْحَمْدَ بِكَسْرِ الْأَلِفِ لَا بِفَتْحِهَا) هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ مَسْعُودٍ فِي صِفَةِ تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَوْلُهُ (لِيَكُونَ ابْتِدَاءً) أَيْ غَيْرَ مُتَعَلِّقٍ بِمَا قَبْلَهُ لَا بِنَاءً إذْ الْفَتْحَةُ صِفَةُ الْأُولَى قِيلَ: مُرَادُهُ الْحَقِيقَةُ وَهِيَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالذَّاتِ لَا الصِّفَةِ النَّحْوِيَّةِ، وَتَقْدِيرُهُ: أُلَبِّي أَنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَك، أَيْ وَأَنَا مَوْصُوفٌ بِهَذَا الْقَوْلِ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ التَّعْلِيلُ لِأَنَّهُ يَكُونُ بِتَقْدِيرِ اللَّامِ أَيْ لَبَّى لِأَنَّ الْحَمْدَ، وَفِيهِ بُعْدٌ.
وَقِيلَ: مُرَادُهُ أَنَّهُ صِفَةُ التَّلْبِيَةِ أَيْ أُلَبِّي.
تَلْبِيَةً.
هِيَ أَنَّ الْحَمْدَ لَك، وَعَلَى هَذَا قِيلَ: مَنْ كَسَرَ الْهَمْزَةَ فَقَدْ عَمَّ وَمَنْ فَتَحَهَا فَقَدْ خَصَّ.
وَقَوْلُهُ (وَهُوَ) أَيْ ذِكْرُ التَّلْبِيَةِ (إجَابَةٌ لِدَعْوَةِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي الْقِصَّةِ) وَهِيَ مَا رُوِيَ «أَنَّ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا فَرَغَ مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ أُمِرَ بِأَنْ يَدْعُوَ النَّاسَ إلَى الْحَجِّ، فَصَعِدَ أَبَا قُبَيْسٍ وَقَالَ: أَلَا إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ بِبِنَاءِ بَيْتٍ لَهُ وَقَدْ بُنِيَ، أَلَا فَحُجُّوهُ فَبَلَّغَ اللَّهُ صَوْتَهُ النَّاسَ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ وَأَرْحَامِ أُمَّهَاتِهِمْ فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَابَ مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ جَوَابِهِمْ يَحُجُّونَ»وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْله تَعَالَى {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوك رِجَالًا} فَالتَّلْبِيَةُ إجَابَةٌ لِدَعْوَةِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَا فَرْقَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بَيْنَ هَذَا اللَّفْظِ وَغَيْرِهِ مِنْ الثَّنَاءِ وَالتَّسْبِيحِ وَالْعَرَبِيِّ وَالْفَارِسِيِّ.
أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَظَاهِرٌ لِتَجْوِيزِهِ ذَلِكَ فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ.
وَفَرَّقَ مُحَمَّدٌ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ غَيْرَ الذِّكْرِ هَاهُنَا وَهُوَ تَقْلِيدُ الْهَدْيِ قَامَ مَقَامَهُ فَكَذَلِكَ غَيْرُ الْعَرَبِيَّةِ يَقُومُ مَقَامَهَا بِخِلَافِ الصَّلَاةِ، وَبِهَذَا فَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ أَيْضًا بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالتَّلْبِيَةِ، وَلَكِنَّ الْعَرَبِيَّةَ أَفْضَلُ.
وَقَوْلُهُ (فَلَا يَنْقُصُ عَنْهُ) قَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ: لَوْ قَالَ اللَّهُمَّ وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ كَانَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ.
فَمَنْ قَالَ: يَصِيرُ بِهِ شَارِعًا فِي الصَّلَاةِ قَالَ: يَصِيرُ بِهِ مُحْرِمًا، وَمَنْ قَالَ: لَا فَلَا.
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ زَادَ فِيهَا جَازَ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (زَادُوا عَلَى الْمَأْثُورِ) قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: أَجَهِلَ النَّاسُ أَمْ طَالَ بِهِمْ الْعَهْدُ؟ لَبَّيْكَ عَدَدَ التُّرَابِ لَبَّيْكَ، وَأَرَادَ بِالْعَهْدِ عَهْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَزَادُوا فِي رِوَايَةٍ «لَبَّيْكَ حَقًّا حَقًّا تَعَبُّدًا وَرِقًّا لَبَّيْكَ عَدَدَ التُّرَابِ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ ذَا الْمَعَارِجِ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ إلَهَ الْخَلْقِ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ وَالرَّغْبَاءُ إلَيْك لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ مِنْ عَبْدٍ آبِقٍ لَبَّيْكَ».
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الثَّنَاءُ) ظَاهِرٌ.
وَالْجَوَابُ عَنْ التَّشَهُّدِ وَالْأَذَانِ أَنَّ التَّشَهُّدَ فِي تَعْلِيمِهِ زِيَادَةُ التَّأْكِيدِ.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ» فَالزِّيَادَةُ تُخِلُّ بِهِ، بِخِلَافِ التَّلْبِيَةِ لِأَنَّهَا لِلثَّنَاءِ مِنْ غَيْرِ تَأْكِيدٍ فِي تَعْلِيمِ نَظْمِهِ فَلَا تُخِلُّ بِهَا الزِّيَادَةُ، وَالْأَذَانُ لِلْإِعْلَامِ وَقَدْ صَارَ مَعْرُوفًا بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ فَلَا يَبْقَى إعْلَامًا بِغَيْرِهَا، وَلَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ كَبِيرُ خِلَافٍ فَإِنَّهُ جَعَلَ الْمَنْقُولَ أَفْضَلَ فِي رِوَايَةٍ.
قَالَ فِي شَرْحِ الْوَجِيزِ: لَا تُسْتَحَبُّ الزِّيَادَةُ عَلَى تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ يَكُونُ مَكْرُوهًا، وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ هَذَا، كَذَا فِي الْأَسْرَارِ.
قَالَ (وَإِذَا لَبَّى فَقَدْ أَحْرَمَ) مَنْ أَرَادَ الْإِحْرَامَ إذَا نَوَى وَلَبَّى فَقَدْ أَحْرَمَ وَلَا يَصِيرُ شَارِعًا لَا بِمُجَرَّدِ التَّلْبِيَةِ، وَلَا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَتَأَدَّى إلَّا بِالنِّيَّةِ إلَّا أَنَّ الْقُدُورِيَّ لَمْ يَذْكُرْهَا لِتَقَدُّمِ الْإِشَارَةِ إلَيْهَا فِي قَوْلِهِ: اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ عَقَدَ عَلَى الْأَدَاءِ أَيْ عَلَى أَدَاءِ عِبَادَةٍ تَشْتَمِلُ عَلَى أَرْكَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ لِلشُّرُوعِ فِيهِ مِنْ ذِكْرٍ يُقْصَدُ بِهِ التَّعْظِيمُ سَوَاءٌ كَانَ تَلْبِيَةً أَوْ غَيْرَهَا عَرَبِيًّا أَوْ غَيْرَهُ فِي الْمَشْهُورِ كَمَا ذَكَرْنَا، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَ الذِّكْرِ كَتَقْلِيدِ الْهَدْيِ، فَإِنَّهُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي حُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ إظْهَارُ الْإِجَابَةِ لِلدَّعْوَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: يَصِيرُ شَارِعًا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ لِأَنَّهُ الْتِزَامُ الْكَفِّ عَنْ ارْتِكَابِ الْمَحْظُورَاتِ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ يَحْصُلُ الشُّرُوعُ فِيهِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ كَالصَّوْمِ.
وَالْجَوَابُ: إنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ فِي الْإِحْرَامِ الْتَزَمَ الْكَفَّ، بَلْ الْتَزَمَ أَدَاءَ الْأَفْعَالِ وَالْكَفُّ ضِمْنِيٌّ لِأَنَّهُ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْحَجِّ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ فَإِنَّ الْكَفَّ فِيهِ رُكْنٌ فَكَانَ الْتِزَامُهُ قَصْدِيًّا. قَالَ (وَيَتَّقِي مَا نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مِنْ الرَّفَثِ وَالْفُسُوقِ وَالْجِدَالِ) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} فَهَذَا نَهْيٌ بِصِيغَةِ النَّفْيِ.
وَالرَّفَثُ الْجِمَاعُ أَوْ الْكَلَامُ الْفَاحِشُ، أَوْ ذِكْرُ الْجِمَاعِ بِحَضْرَةِ النِّسَاءِ وَالْفُسُوقُ الْمَعَاصِي وَهُوَ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ أَشَدُّ حُرْمَةً، وَالْجِدَالُ أَنْ يُجَادِلَ رَفِيقَهُ، وَقِيلَ: مُجَادَلَةُ الْمُشْرِكِينَ فِي تَقْدِيمِ وَقْتِ الْحَجِّ وَتَأْخِيرِهِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَيَتَّقِي مَا نَهَى اللَّهُ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (فَهَذَا نَهْيٌ بِصِيغَةِ النَّفْيِ) إنَّمَا قَالَهُ لِئَلَّا يَلْزَمَ الْخُلْفُ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ لِوُجُودِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا قَالَ بِحَضْرَةِ النِّسَاءِ لِأَنَّ ذِكْرَ الْجِمَاعِ بِغَيْرِ حَضْرَتِهِنَّ لَيْسَ مِنْ الرَّفَثِ، رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَنْشَدَ فِي إحْرَامِهِ: وَهُنَّ يَمْشِينَ بِنَا هَمِيسًا إنْ يَصْدُقْ الطَّيْرُ نَنِكْ لَمِيسًا فَقِيلَ لَهُ أَتَرْفُثُ وَأَنْتَ مُحْرِمٌ؟ فَقَالَ: إنَّمَا الرَّفَثُ مَا كَانَ بِحَضْرَةِ النِّسَاءِ (وَلَا يَقْتُلُ صَيْدًا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (وَلَا يُشِيرُ إلَيْهِ وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ) لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّهُ أَصَابَ حِمَارَ وَحْشٍ وَهُوَ حَلَالٌ وَأَصْحَابُهُ مُحْرِمُونَ، فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَصْحَابِهِ: هَلْ أَشَرْتُمْ؟ هَلْ دَلَلْتُمْ؟ هَلْ أَعَنْتُمْ؟ فَقَالُوا: لَا، فَقَالَ: إذًا فَكُلُوا» وَلِأَنَّهُ إزَالَةُ الْأَمْنِ عَنْ الصَّيْدِ لِأَنَّهُ آمِنٌ بِتَوَحُّشِهِ وَبُعْدِهِ عَنْ الْأَعْيُنِ.
الشَّرْحُ:
وَمَعْنَى قَوْله تَعَالَى {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ مُحْرِمُونَ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا يُشِيرُ إلَيْهِ) الْإِشَارَةُ تَقْتَضِي الْحَضْرَةَ، وَالدَّلَالَةُ تَقْتَضِي الْغَيْبَةَ.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّهُ) أَيْ الْمَذْكُورُ مِنْ الْإِشَارَةِ وَالدَّلَالَةِ وَالْإِعَانَةِ (إزَالَةُ الْأَمْنِ عَنْ الصَّيْدِ لِأَنَّهُ آمِنٌ بِتَوَحُّشِهِ وَبُعْدِهِ عَنْ الْأَعْيُنِ) وَهُوَ حَرَامٌ. قَالَ (وَلَا يَلْبَسُ قَمِيصًا وَلَا سَرَاوِيلَ وَلَا عِمَامَةً وَلَا خُفَّيْنِ إلَّا أَنْ لَا يَجِدَ نَعْلَيْنِ فَيَقْطَعُهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ) لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «نَهَى أَنْ يَلْبَسَ الْمُحْرِم هَذِهِ الْأَشْيَاءَ» وَقَالَ فِي آخِرِهِ «وَلَا خُفَّيْنِ إلَّا أَنْ لَا يَجِدَ نَعْلَيْنِ فَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ» وَالْكَعْبُ هُنَا الْمِفْصَلُ الَّذِي فِي وَسَطِ الْقَدَمِ عِنْدَ مَعْقِدِ الشِّرَاكِ دُونَ النَّاتِئِ فِيمَا رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَا يَلْبَسُ قَمِيصًا) ظَاهِرٌ. قَالَ (وَلَا يُغَطِّي وَجْهَهُ وَلَا رَأْسَهُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: يَجُوزُ لِلرَّجُلِ تَغْطِيَةُ الْوَجْهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «إحْرَامُ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ وَإِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا».
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ وَلَا رَأْسَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» قَالَهُ فِي مُحْرِمٍ تُوُفِّيَ، وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُغَطِّي وَجْهَهَا مَعَ أَنَّ فِي الْكَشْفِ فِتْنَةٌ فَالرَّجُلُ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى.
وَفَائِدَةُ مَا رُوِيَ الْفَرْقُ فِي تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (قَالَهُ فِي مُحْرِمٍ تُوُفِّيَ) هُوَ الْأَعْرَابِيُّ الَّذِي وَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ فِي أَخَافِيقِ الْجِرْذَانِ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَمَاتَ وَالْوَقَصُ كَسْرُ الْعُنُقِ وَالْأَخَافِيقُ شُقُوقٌ فِي الْأَرْضِ، وَالْجِرْذَانُ جَمْعُ جُرَذٍ وَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ الْفَأْرِ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَتَمَسَّكُ أَصْحَابُنَا بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَمَذْهَبُنَا عَلَى خِلَافِ حُكْمِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي مُحْرِمٍ يَمُوتُ فِي إحْرَامِهِ حَيْثُ يُصْنَعُ بِهِ مَا يُصْنَعُ بِالْحَلَالِ مِنْ تَغْطِيَةِ رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ بِالْكَفَنِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَهُوَ يَتَمَسَّكُ هُنَاكَ بِهَذَا الْحَدِيثِ أُجِيبَ: بِأَنَّ الْحَدِيثَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ لِلْإِحْرَامِ تَأْثِيرًا فِي تَرْكِ تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَّلَ لِتَرْكِ التَّغْطِيَةِ بِأَنَّهُ يُبْعَثُ مُلَبِّيًا.
وَالْحُجَّةُ لَنَا فِي تَغْطِيَةِ رَأْسِ الْمُحْرِمِ وَوَجْهِهِ إذَا مَاتَ مَا رَوَى عَطَاءٌ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ مُحْرِمٍ مَاتَ فَقَالَ: خَمِّرُوا رَأْسَهُ وَوَجْهَهُ وَلَا تُشَبِّهُوهُ بِالْيَهُودِ».
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَوْ كَانَ لِلْإِحْرَامِ تَأْثِيرٌ فِي تَرْكِ تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ لَمَا أَمَرَ بِتَخْمِيرِهِمَا.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُغَطِّي وَجْهَهَا) ظَاهِرٌ، وَقَوْلُهُ (وَفَائِدَةُ مَا رُوِيَ) يَعْنِي إحْرَامَ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ، وَإِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا (الْفَرْقُ فِي تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ) يَعْنِي الْفَرْقَ بَيْنَ إحْرَامَيْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ بِحَيْثُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ تَغْطِيَةُ الرَّأْسِ، وَلَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ ذَلِكَ لَا أَنْ يُغَطِّيَ الرَّجُلُ وَجْهَهُ فِي الْإِحْرَامِ. قَالَ (وَلَا يَمَسُّ طِيبًا) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الْحَاجُّ الشَّعِثُ التَّفِلُ» (وَكَذَا لَا يَدَّهِنُ) لِمَا رَوَيْنَا (لَا يَحْلِقُ رَأْسَهُ وَلَا شَعْرَ بَدَنِهِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} الْآيَةَ (وَلَا يَقُصُّ مِنْ لِحْيَتِهِ) لِأَنَّ فِي مَعْنَى الْحَلْقِ وَلِأَنَّ فِيهِ إزَالَةُ الشَّعَثِ وَقَضَاءِ التَّفَثِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَا يَمَسُّ طِيبًا) الطِّيبُ مَا لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ, لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الْحَاجُّ الشَّعِثُ التَّفِلُ» وَالشَّعِثُ بِالْكَسْرِ نَعْتٌ، وَبِالْفَتْحَةِ مَصْدَرٌ: وَهُوَ انْتِشَارُ الشَّعْرِ وَتَغَيُّرُهُ لِقِلَّةِ التَّعَهُّدِ وَالتَّفِلُ مِنْ التَّفْلِ وَهُوَ تَرْكُ الطِّيبِ حَتَّى يُوجَدَ مِنْهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ (وَكَذَا لَا يَدَّهِنُ لِمَا رَوَيْنَا) يَعْنِي «الْحَاجُّ الشَّعِثُ التَّفِلُ».
قَالَ (وَلَا يَحْلِقُ رَأْسَهُ) الْمُحْرِمُ لَا يَحْلِقُ شَعْرَهُ مُطْلَقًا (لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} الْآيَةَ) وَهُوَ بِعِبَارَتِهِ يَنْهَى عَنْ حَلْقِ الرَّأْسِ، وَبِدَلَالَتِهِ عَنْ حَلْقِ شَعْرِ الْبَدَنِ لِأَنَّ شَعْرَ الرَّأْسِ مُسْتَحِقُّ الْأَمْنِ عَنْ الْإِزَالَةِ لِكَوْنِهِ نَامِيًا يَحْصُلُ الِارْتِفَاقُ بِإِزَالَتِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي شَعْرِ الْبَدَنِ فَيُلْحَقُ بِهِ دَلَالَةً.
وَقَوْلُهُ (وَلَا يَقُصُّ مِنْ لِحْيَتِهِ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (قَضَاءُ التَّفَثِ) يَعْنِي إزَالَةَ الْوَسَخِ،. قَالَ (وَلَا يَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا بِوَرْسٍ وَلَا زَعْفَرَانٍ وَلَا عُصْفُرٍ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ ثَوْبًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ وَلَا وَرْسٌ» قَالَ (إلَّا أَنْ يَكُونَ غَسِيلًا لَا يَنْفُضُ) لِأَنَّ الْمَنْعَ لِلطِّيبِ لَا لِلَّوْنِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا بَأْسَ بِلُبْسِ الْمُعَصْفَرِ لِأَنَّهُ لَوْنٌ لَا طِيبَ لَهُ.
وَلَنَا أَنَّ لَهُ رَائِحَةً طَيِّبَةً.
الشَّرْحُ:
وَالْوَرْسُ صَبْغٌ أَصْفَرُ، وَقِيلَ: نَبْتٌ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ، وَفِي الْقَانُونِ الْوَرْسُ شَيْءٌ أَحْمَرُ قَانِئٌ يُشْبِهُ سَحِيقَ الزَّعْفَرَانِ وَهُوَ مَجْلُوبٌ مِنْ الْيَمَنِ وَقَوْلُهُ (لَا يَنْفُضُ) أَيْ لَا يُوجَدُ مِنْهُ رَائِحَةُ الْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ وَالْعُصْفُرِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنْ لَا يَتَعَدَّى أَثَرَ الصَّبْغِ إلَى غَيْرِهِ أَوْ لَا تَفُوحَ مِنْهُ رَائِحَةُ الطِّيبِ.
وَالثَّانِي: مُخْتَارُ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّهُ قَالَ (لِأَنَّ الْمَنْعَ لِلطِّيبِ لَا لِلَّوْنِ) وَاعْتُرِضَ عَلَى الْمَرْوِيِّ عَنْ الْقُدُورِيِّ وَهُوَ يَنْفُضُ عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ نَفَضْت الثَّوْبَ أَنْفُضُهُ نَفْضًا إذَا حَرَّكْته لِيَسْقُطَ مَا عَلَيْهِ، وَالثَّوْبُ لَيْسَ بِنَافِضٍ وَأَنْكَرَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ وَقِيلَ: بَلْ هِيَ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ، وَلَئِنْ كَانَتْ كَانَ إسْنَادًا مَجَازِيًّا (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا بَأْسَ بِلُبْسِ الْمُعَصْفَرِ لِأَنَّهُ لَوْنٌ لَا طِيبَ لَهُ) فَلَا يَكُونُ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ وَهُوَ الْوَرْسُ وَالزَّعْفَرَانُ لِيُلْحَقَ بِهِ، وَقُلْنَا حَدِيثُ الْوَرْسِ دَلِيلٌ فِي الْعُصْفُرِ بِالْأَوْلَوِيَّةِ لِأَنَّهُ فَوْقَ الْوَرْسِ فِي طِيبِ الرَّائِحَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَائِشَةَ. قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَغْتَسِلَ وَيَدْخُلَ الْحَمَّامَ) لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اغْتَسَلَ وَهُوَ مُحْرِمٌ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَغْتَسِلَ) ظَاهِرٌ. (وَ) لَا بَأْسَ بِأَنْ (يَسْتَظِلَّ بِالْبَيْتِ وَالْمُحْمَلُ) وَقَالَ مَالِكٌ: يُكْرَهُ أَنْ يَسْتَظِلَّ بِالْفُسْطَاطِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ يُشْبِه تَغْطِيَةَ الرَّأْسِ.
وَلَنَا أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَانَ يُضْرَبُ لَهُ فُسْطَاطٌ فِي إحْرَامِهِ وَلِأَنَّهُ لَا يَمَسُّ بَدَنَهُ فَأَشْبَهَ الْبَيْتَ.
وَلَوْ دَخَلَ تَحْتَ أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ حَتَّى غَطَّتْهُ، إنْ كَانَ لَا يُصِيبُ رَأْسَهُ وَلَا وَجْهَهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّهُ اسْتِظْلَالٌ (وَ) لَا بَأْسَ بِأَنْ (يَشُدَّ فِي وَسَطِهِ الْهِمْيَانَ) وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُكْرَهُ إذَا كَانَ فِيهِ نَفَقَةُ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ.
وَلَنَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى لُبْسِ الْمَخِيطِ فَاسْتَوَتْ فِيهِ الْحَالَتَانِ (وَلَا يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَلَا لِحْيَتَهُ بِالْخِطْمِيِّ) لِأَنَّهُ نَوْعُ طِيبٍ، وَلِأَنَّهُ يَقْتُلُ هَوَامّ الرَّأْسِ.
الشَّرْحُ:
وَالْهِمْيَانُ مَعْرُوفٌ وَهُوَ مَا يُوضَعُ فِيهِ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ.
وَسُئِلَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: هَلْ يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ الْهِمْيَانَ؟ فَقَالَتْ: اسْتَوْثِقْ فِي نَفَقَتِك بِمَا شِئْت، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى لُبْسِ الْمَخِيطِ وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ الِاسْتِمْتَاعُ بِلُبْسِ الْمَخِيطِ.
وَنُوقِضَ بِشَدِّ الْإِزَارِ وَالرِّدَاءِ بِحَبْلٍ أَوْ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَيْسَ فِي مَعْنَى لُبْسِ الْمَخِيطِ، وَبِمَا إذَا عَصَبَ الْعِصَابَةَ عَلَى رَأْسِهِ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ، فَلَوْ فَعَلَهُ يَوْمًا كَامِلًا لَزِمَهُ الصَّدَقَةُ، وَلَيْسَ فِي مَعْنَى لُبْسِ الْمَخِيطِ.
وَأُجِيبَ عَلَى الْأَوَّلِ: بِأَنَّ الْكَرَاهَةَ فِيهِ ثَبَتَتْ بِنَصٍّ وَرَدَ فِيهِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا قَدْ شَدَّ فَوْقَ إزَارِهِ حَبْلًا، فَقَالَ: أَلْقِ هَذَا الْحَبْلَ وَيْلَك» وَعَنْ الثَّانِي: بِأَنَّ لُزُومَ الصَّدَقَةِ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ تَغْطِيَةِ بَعْضِ الرَّأْسِ بِالْعِصَابَةِ وَالْمُحْرِمُ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ إلَّا أَنَّ مَا يُغَطِّيهِ جُزْءٌ يَسِيرٌ يُكْتَفَى فِيهِ بِالصَّدَقَةِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ نَوْعُ طِيبٍ وَلِأَنَّهُ يَقْتُلُ هَوَامَّ الرَّأْسِ) قِيلَ: لِوُجُودِ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ تَكَامَلَتْ الْجِنَايَةُ فَوَجَبَ الدَّمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، إذَا غَسَلَ رَأْسَهُ بِالْخِطْمِيِّ فَإِنَّ لَهُ رَائِحَةً وَإِنْ لَمْ تَكُنْ ذَكِيَّةً، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطِيبٍ بَلْ هُوَ كَالْأُشْنَانِ وَلَكِنَّهُ يَقْتُلُ الْهَوَامَّ. قَالَ (وَيُكْثِرُ مِنْ التَّلْبِيَةِ عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ وَكُلَّمَا عَلَا شَرَفًا أَوْ هَبَطَ وَادِيًا أَوْ لَقِيَ رَكْبًا وَبِالْأَسْحَارِ) لِأَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يُلَبُّونَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَالتَّلْبِيَةُ فِي الْإِحْرَامِ عَلَى مِثَالِ التَّكْبِيرِ فِي الصَّلَاةِ، فَيُؤْتِي بِهَا عِنْدَ الِانْتِقَالِ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ (وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «أَفْضَلُ الْحَجِّ الْعَجُّ وَالثَّجُّ» فَالْعَجُّ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ، وَالثَّجُّ إسَالَةُ الدَّمِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَيُكْثِرُ مِنْ التَّلْبِيَةِ عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ وَكُلَّمَا عَلَا شَرَفًا) الْمُحْرِمُ يُكْثِرُ التَّلْبِيَةَ فِي خَمْسَةِ أَوْقَاتٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ، وَزَادَ الْأَعْمَشُ عَنْ خَيْثَمَةَ سَادِسًا وَهُوَ مَا إذَا اسْتَعْطَفَ الرَّجُلُ رَاحِلَتَهُ، وَالتَّعْلِيلُ فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ) الْمُسْتَحَبُّ عِنْدَنَا فِي الدُّعَاءِ وَالْأَذْكَارِ الْإِخْفَاءُ إلَّا إذَا تَعَلَّقَ بِإِعْلَانِهِ مَقْصُودٌ كَالْأَذَانِ وَالْخُطْبَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَالتَّلْبِيَةُ لِلْإِعْلَامِ بِالشُّرُوعِ فِيمَا هُوَ مِنْ أَعْلَامِ الدِّينِ، فَكَانَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِهَا مُسْتَحَبًّا. قَوْلُهُ (فَإِذَا دَخَلَ مَكَّةَ ابْتَدَأَ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُلَّمَا دَخَلَ مَكَّةَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ» وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ زِيَارَةُ الْبَيْتِ وَهُوَ فِيهِ، وَلَا يَضُرُّهُ لَيْلًا دَخَلَهَا أَوْ نَهَارًا لِأَنَّهُ دُخُولُ بَلْدَةٍ فَلَا يَخْتَصُّ بِأَحَدِهِمَا (وَإِذَا عَايَنَ الْبَيْتَ كَبَّرَ وَهَلَّلَ) وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا يَقُولُ: إذَا لَقِيَ الْبَيْتَ بِاسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ.
وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ فِي الْأَصْلِ لِمَشَاهِدِ الْحَجِّ شَيْئًا مِنْ الدَّعَوَاتِ لِأَنَّ التَّوْقِيتَ يُذْهِبُ بِالرِّقَّةِ، وَإِنْ تَبَرَّكَ بِالْمَنْقُولِ مِنْهَا فَحَسَنٌ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (فَإِذَا دَخَلَ مَكَّةَ) وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ تَبَرَّكَ بِالْمَنْقُولِ مِنْهَا) أَيْ مِنْ الدَّعَوَاتِ (فَحَسَنٌ) وَمِنْ الْمَنْقُولِ أَنَّهُ إذَا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى الْبَيْتِ يَقُولُ: (اللَّهُمَّ زِدْ بَيْتَك تَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا وَتَعْظِيمًا وَبِرًّا وَمَهَابَةً وَزِدْ مَنْ شَرَّفَهُ وَكَرَّمَهُ وَعَظَّمَهُ مِمَّنْ حَجَّهُ أَوْ اعْتَمَرَهُ تَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا وَتَعْظِيمًا وَبِرًّا وَمَهَابَةً بِاسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ) وَعَنْ عَطَاءٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: إذَا لَقِيَ الْبَيْتَ: أَعُوذُ بِرَبِّ الْبَيْتِ مِنْ الدَّيْنِ وَالْفَقْرِ وَضِيقِ الصَّدْرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ». قَالَ (ثُمَّ ابْتَدَأَ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَاسْتَقْبَلَهُ وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَابْتَدَأَ بِالْحَجَرِ فَاسْتَقْبَلَهُ وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ» (وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا اسْتِلَامَ الْحَجَرِ» قَالَ (وَاسْتَلَمَهُ إنْ اسْتَطَاعَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤْذِيَ مُسْلِمًا) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَبَّلَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَوَضَعَ شَفَتَيْهِ عَلَيْهِ» وَقَالَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إنَّك رَجُلٌ أَيْدٍ تُؤْذِي الضَّعِيفَ فَلَا تُزَاحِمْ النَّاسَ عَلَى الْحَجَرِ، وَلَكِنْ إنْ وَجَدْت فُرْجَةً فَاسْتَلِمْهُ وَإِلَّا فَاسْتَقْبِلْهُ وَهَلِّلْ وَكَبِّرْ.
وَلِأَنَّ الِاسْتِلَامَ سُنَّةٌ وَالتَّحَرُّزُ عَنْ أَذَى الْمُسْلِمِ وَاجِبٌ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ ابْتَدَأَ بِالْحَجَرِ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَاسْتَلَمَهُ) يُقَالُ: اسْتَلَمَ الْحَجَرَ تَنَاوَلَهُ بِالْيَدِ أَوْ بِالْقُبْلَةِ أَوْ مَسَحَهُ بِالْكَفِّ، مِنْ السَّلِمَةِ بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَهِيَ الْحَجَرُ وَرُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبَّلَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَوَضَعَ شَفَتَيْهِ عَلَيْهِ» وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خِلَافَتِهِ أَتَى الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَوَقَفَ فَقَالَ: أَمَا إنِّي أَعْلَمُ أَنَّك حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَلَمَك مَا اسْتَلَمْتُك، فَبَلَغَ مَقَالَتُهُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: أَمَا إنَّ الْحَجَرَ يَنْفَعُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: وَمَا مَنْفَعَتُهُ يَا خَتَنَ رَسُولِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَخَذَ الذُّرِّيَّةَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَرَّرَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَلَسْت بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} أَوْدَعَ إقْرَارَهُمْ الْحَجَرَ، فَمَنْ يَسْتَلِمْ الْحَجَرَ فَهُوَ يُجَدِّدُ الْعَهْدَ بِذَلِكَ الْإِقْرَارِ، وَالْحَجَرُ يَشْهَدُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
وَقَوْلُهُ (إنَّك رَجُلٌ أَيْدٍ) أَيْ قَوِيٌّ.
وَالْعُرْجُونُ أَصْلُ الْكِبَاسَةِ. قَالَ (وَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَمَسَّ الْحَجَرَ شَيْئًا فِي يَدِهِ) كَالْعُرْجُونِ وَغَيْرِهِ (ثُمَّ قِيلَ ذَلِكَ فُعِلَ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ طَافَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَاسْتَلَمَ الْأَرْكَانَ بِمِحْجَنِهِ» وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ اسْتَقْبَلَهُ وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ وَحَمِدَ اللَّهَ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَاسْتَلَمَ الْأَرْكَانَ) يَعْنِي الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَالرُّكْنَ الْيَمَانِيَ، وَإِنَّمَا جَمَعَهُ بِاعْتِبَارِ تَكَرُّرِ الْأَشْوَاطِ وَإِنَّمَا قُلْنَاهُ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ بَعْدَ هَذَا، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَلِمُ غَيْرَهُمَا.
وَالْمِحْجَنُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْجِيمِ: عُودٌ مُعْوَجُّ الرَّأْسِ كَالصَّوْلَجَانِ.
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ اسْتَقْبَلَهُ وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ) قِيلَ: يَجْعَلُ بَاطِنَ كَفَّيْهِ إلَى الْحَجَرِ دُونَ السَّمَاءِ وَلَا يَجْعَلُ بَاطِنَ كَفَّيْهِ إلَى السَّمَاءِ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ فِي سَائِرِ الْأَدْعِيَةِ، لِأَنَّ فِي حَقِيقَةِ الِاسْتِلَامِ يَجْعَلُ بَاطِنَ كَفَّيْهِ إلَى الْحَجَرِ هَكَذَا فِي الْبَدَلِ. قَالَ (ثُمَّ أَخَذَ عَنْ يَمِينِهِ مِمَّا يَلِي الْبَابَ وَقَدْ اضْطَبَعَ رِدَاءَهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ ثُمَّ أَخَذَ عَنْ يَمِينِهِ مِمَّا يَلِي الْبَابَ فَطَافَ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ» (وَالِاضْطِبَاعُ أَنْ يَجْعَلَ رِدَاءَهُ تَحْتَ إبْطِهِ الْأَيْمَنِ وَيُلْقِيهِ عَلَى كَتِفِهِ الْأَيْسَرِ) وَهُوَ سُنَّةٌ.
وَقَدْ نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ أَخَذَ عَنْ يَمِينِهِ) بَيَانٌ لِمَبْدَإِ الطَّوَافِ وَهُوَ مِنْ الْحَجَرِ.
فَإِنْ افْتَتَحَ مِنْ غَيْرِهِ لَمْ يَذْكُرْهُ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ.
وَاخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِيهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي الرُّقَيَّاتِ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالطَّوَافِ مُجْمَلٌ فِي حَقِّ الْبُدَاءَةِ فَالْتُحِقَ فِعْلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَيَانًا لَهُ، فَتُفْتَرَضُ الْبُدَاءَةُ بِهِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: يَجُوزُ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالطَّوَافِ مُطْلَقٌ لَكِنَّ السُّنَّةَ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالْيَمِينِ لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَ عَنْ يَسَارِهِ وَهُوَ الطَّوَافُ الْمَنْكُوسُ فَطَافَ كَذَلِكَ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ لَا يَعْتَدُّ بِطَوَافِهِ عِنْدَنَا، وَيُعِيدُهُ مَا دَامَ بِمَكَّةَ.
وَإِنْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ قَبْلَ الْإِعَادَةِ فَعَلَيْهِ دَمٌ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَعْتَدُّ بِطَوَافِهِ وَقَوْلُهُ (وَقَدْ اضْطَبَعَ رِدَاءَهُ) قَالَ فِي الْمُغْرِبِ الصَّوَابُ بِرِدَائِهِ.
وَفِي الصِّحَاحِ: إنَّمَا سُمِّيَ هَذَا الصَّنِيعُ بِذَلِكَ لِإِبْدَاءِ الضَّبْعَيْنِ وَهُوَ التَّأَبُّطُ أَيْضًا. قَالَ (وَيَجْعَلُ طَوَافَهُ مِنْ وَرَاءِ الْحَطِيمِ) وَهُوَ اسْمٌ لِمَوْضِعٍ فِيهِ الْمِيزَابُ، سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ حُطِّمَ مِنْ الْبَيْتِ: أَيْ كُسِرَ، وَسُمِّيَ حِجْرًا لِأَنَّهُ حُجِرَ مِنْهُ: أَيْ مُنِعَ، وَهُوَ مِنْ الْبَيْتِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا «فَإِنَّ الْحَطِيمَ مِنْ الْبَيْتِ» فَلِهَذَا يُجْعَلُ الطَّوَافُ مِنْ وَرَائِهِ، حَتَّى لَوْ دَخَلَ الْفُرْجَةَ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ لَا يَجُوزُ، إلَّا أَنَّهُ إذَا اسْتَقْبَلَ الْحَطِيمَ وَحْدَهُ لَا تُجْزِيه الصَّلَاةُ لِأَنَّ فَرْضِيَّةَ التَّوَجُّهِ ثَبَتَتْ بِنَصِّ الْكِتَابِ فَلَا تَتَأَدَّى بِمَا ثَبَتَتْ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ احْتِيَاطًا، وَالِاحْتِيَاطُ فِي الطَّوَافِ أَنْ يَكُونَ وَرَاءَهُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ) يَعْنِي مَا رُوِيَ «أَنَّ عَائِشَةَ نَذَرَتْ إنْ فَتَحَ اللَّهُ مَكَّةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُصَلِّيَ فِي الْبَيْتِ رَكْعَتَيْنِ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهَا وَأَدْخَلَهَا الْحَطِيمَ وَقَالَ: صَلِّي هَاهُنَا فَإِنَّ الْحَطِيمَ مِنْ الْبَيْتِ إلَّا أَنَّ قَوْمَك قَصُرَتْ بِهِمْ النَّفَقَةُ فَأَخْرَجُوهُ مِنْ الْبَيْتِ، وَلَوْلَا حَدَثَانُ قَوْمِك بِالْجَاهِلِيَّةِ لَنَقَضْت بِنَاءَ الْبَيْتِ وَأَظْهَرْت قَوَاعِدَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَدْخَلْت الْحَطِيمَ فِي الْبَيْتِ، وَأَلْصَقْت الْعَتَبَةَ بِالْأَرْضِ، وَجَعَلْت لَهَا بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا، وَلَئِنْ عِشْت إلَى قَابِلٍ لَأَفْعَلَن ذَلِكَ» وَلَمْ يَعِشْ وَلَمْ يَتَفَرَّغْ لِذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ حَتَّى كَانَ زَمَنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْهَا فَفَعَلَ ذَلِكَ وَأَظْهَرَ قَوَاعِدَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَبَنَى الْبَيْتَ عَلَى قَوَاعِدِ الْخَلِيلِ بِمَحْضَرٍ مِنْ النَّاسِ، وَأَدْخَلَ الْحَطِيمَ فِي الْبَيْتِ فَلَمَّا قُتِلَ كَرِهَ الْحَجَّاجُ بِنَاءَ الْكَعْبَةِ عَلَى مَا فَعَلَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَنَقَضَ بِنَاءَهَا وَأَعَادَهُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
وَإِذَا كَانَ الْحَطِيمُ مِنْ الْبَيْتِ فَلَا بُدَّ مِنْ دُخُولِهِ فِي الطَّوَافِ وَبَاقِي كَلَامِهِ وَاضِحٌ. قَالَ (وَيَرْمُلُ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ مِنْ الْأَشْوَاطِ) وَالرَّمَلُ أَنْ يَهُزَّ فِي مِشْيَتِهِ الْكَتِفَيْنِ كَالْمُبَارِزِ يَتَبَخْتَرُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ وَذَلِكَ مَعَ الِاضْطِبَاعِ.
وَكَانَ سَبَبُهُ إظْهَارَ الْجَلَدِ لِلْمُشْرِكَيْنِ حِينَ قَالُوا: أَضْنَاهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ، ثُمَّ بَقِيَ الْحُكْمُ بَعْدَ زَوَالِ السَّبَبِ فِي زَمَنَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَبَعْدَهُ.
قَالَ (وَيَمْشِي فِي الْبَاقِي عَلَى هَيِّنَتِهِ) عَلَى ذَلِكَ اتَّفَقَ رُوَاةُ نُسُكِ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (وَالرَّمَلُ مِنْ الْحَجَرِ إلَى الْحَجَرِ) هُوَ الْمَنْقُولُ مِنْ رَمَلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (فَإِنْ زَحَمَهُ النَّاسُ فِي الرَّمَلِ قَامَ.
فَإِذَا وَجَدَ مَسْلَكًا رَمَلَ) لِأَنَّهُ لابد لَهُ فَيَقِفُ حَتَّى يُقِيمَهُ عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ بِخِلَافِ الِاسْتِلَامِ لِأَنَّ الِاسْتِقْبَالَ بَدَلٌ لَهُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَيَرْمُلُ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا رَمَلَ فِي الطَّوَافِ، وَإِنَّمَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ.
وَهُوَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ لِلْعُمْرَةِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عَنْ الْبَيْتِ.
فَصَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ يَنْصَرِفَ ثُمَّ يَرْجِعَ فِي الْعَامِ الثَّانِي وَيَدْخُلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ سِلَاحٍ فَيَعْتَمِرَ وَيَخْرُجَ، فَلَمَّا قَدِمَ فِي الْعَامِ الثَّانِي أَخْلَوْا لَهُ الْبَيْتَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَصَعِدُوا الْجَبَلَ، وَطَافَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَصْحَابِهِ، فَسَمِعَ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ يَقُولُ لِبَعْضٍ: أَضْنَاهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ، فَاضْطَبَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَمَلَ وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَرَى مِنْ نَفْسِهِ قُوَّةً»
، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ لِإِظْهَارِ الْجَلَادَةِ يَوْمَئِذٍ وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْآنَ فَلَا مَعْنَى لِلرَّمَلِ.
قُلْنَا: مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ سَبَبُهُ وَلَكِنَّهُ صَارَ سُنَّةً بِذَلِكَ السَّبَبِ وَبَقِيَ بَعْدَ زَوَالِهِ.
رَوَى جَابِرٌ وَابْنُ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ يَوْمَ النَّحْرِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَرَمَلَ فِي الثَّلَاثِ الْأُوَلِ، وَلَمْ يَبْقَ الْمُشْرِكُونَ بِمَكَّةَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ».
وَقَوْلُهُ (وَيَمْشِي فِي الْبَاقِي عَلَى هِينَتِهِ) أَيْ عَلَى السَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ فِعْلَةٌ مِنْ الْهَوْنِ (وَالرَّمَلُ مِنْ الْحَجَرِ إلَى الْحَجَرِ) أَيْ مِنْ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ إلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ (فَإِنْ زَحَمَهُ النَّاسُ فِي الرَّمَلِ قَامَ) يَعْنِي وَقَفَ.
وَلَا يَطُوفُ بِدُونِ الرَّمَلِ فِي تِلْكَ الثَّلَاثِ. قَالَ (وَيَسْتَلِمُ الْحَجَرَ كُلَّمَا مَرَّ بِهِ إنْ اسْتَطَاعَ) لِأَنَّ أَشْوَاطَ الطَّوَافِ كَرَكَعَاتِ الصَّلَاةِ، فَكَمَا يَفْتَتِحُ كُلَّ رَكْعَةٍ بِالتَّكْبِيرِ يَفْتَتِحُ كُلَّ شَوْطٍ بِاسْتِلَامِ الْحَجَرِ.
وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الِاسْتِلَامَ اسْتَقْبَلَ وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا (وَيَسْتَلِمُ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ) وَهُوَ حَسَنٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ سُنَّةٌ، وَلَا يَسْتَلِمُ غَيْرَهُمَا فَإِنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَسْتَلِمُ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ وَلَا يَسْتَلِمُ غَيْرَهُمَا (وَيَخْتِمُ الطَّوَافَ بِالِاسْتِلَامِ) يَعْنِي اسْتِلَامَ الْحَجَرِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَيَسْتَلِمُ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَ) وَالْيَمَنُ خِلَافُ الشَّامِ لِأَنَّهَا بِلَادٌ عَلَى يَمِينِ الْكَعْبَةِ، وَالنِّسْبَةُ إلَيْهَا يَمَنِيٌّ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ أَوْ يَمَانٌ بِالتَّخْفِيفِ عَلَى تَعْوِيضِ الْأَلِفِ مِنْ إحْدَى يَاءَيْ النِّسْبَةِ.
وَقَوْلُهُ (حَسَنٌ) أَيْ مُسْتَحَبٌّ قَالَ (ثُمَّ يَأْتِي الْمَقَامَ فَيُصَلِّي عِنْدَهُ رَكْعَتَيْنِ أَوْ حَيْثُ تَيَسَّرَ مِنْ الْمَسْجِدِ) وَهِيَ وَاجِبَةٌ عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: سُنَّةٌ لِانْعِدَامِ دَلِيلِ الْوُجُوبِ.
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «وَلِيُصَلِّ الطَّائِفُ لِكُلِّ أُسْبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ» وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ (ثُمَّ يَعُودُ إلَى الْحَجَرِ فَيَسْتَلِمُهُ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ عَادَ إلَى الْحَجَرِ» وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ يَعُودُ إلَى الْحَجَرِ، لِأَنَّ الطَّوَافَ لَمَّا كَانَ يُفْتَتَحُ بِالِاسْتِلَامِ فَكَذَا السَّعْيُ يُفْتَتَحُ بِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ بَعْدَهُ سَعْيٌ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ يَأْتِي الْمَقَامَ) أَيْ مَقَامَ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ الْحَجَرُ الَّذِي فِيهِ أَثَرُ قَدَمَيْهِ (وَهِيَ وَاجِبَةٌ) أَيْ الصَّلَاةُ عِنْدَ الْمَقَامِ وَاجِبَةٌ (عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: سُنَّةٌ لِانْعِدَامِ دَلِيلِ الْوُجُوبِ.
وَلَنَا «قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِيُصَلِّ الطَّائِفُ لِكُلِّ أُسْبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ» وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ) وَاعْتُرِضَ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا أَصْلَ لَهُ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ.
وَالثَّانِي أَنَّ حَدِيثَ الْأَعْرَابِيِّ وَهُوَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ عَلَّمَ الْأَعْرَابِيَّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَقَالَ لَهُ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ؟ قَالَ لَا، إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ» يُعَارِضُهُ، وَهُوَ أَقْوَى مِنْهُ، فَكَيْفَ يُفِيدُ الْوُجُوبَ.
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الرَّاوِيَ إذَا كَانَ عَدْلًا فَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الْقَدْحَ فِيهِ.
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ حَدِيثَ الْأَعْرَابِيِّ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ، فَإِنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ وَصَلَاةَ الْعِيدَيْنِ وَاجِبَةٌ وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ قَبْلَ هَذَا الْحَدِيثِ. قَالَ (وَهَذَا الطَّوَافُ طَوَافُ الْقُدُومِ) وَيُسَمَّى طَوَافُ التَّحِيَّةِ (وَهُوَ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ) وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: إنَّهُ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ أَتَى الْبَيْتَ فَلْيُحَيِّهِ بِالطَّوَافِ» وَلَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالطَّوَافِ، وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ.
وَقَدْ تَعَيَّنَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ بِالْإِجْمَاعِ وَفِيمَا رَوَاهُ سَمَّاهُ تَحِيَّةً، وَهُوَ دَلِيلٌ الِاسْتِحْبَابِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَهَذَا الطَّوَافُ طَوَافُ الْقُدُومِ) هَذَا الطَّوَافُ لَهُ أَرْبَعَةُ أَسْمَاءٍ: طَوَافُ الْقُدُومِ، وَطَوَافُ التَّحِيَّةِ، وَطَوَافُ اللِّقَاءِ، وَطَوَافُ أَوَّلِ الْعَهْدِ.
وَقَوْلُهُ (وَهُوَ سُنَّةٌ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَفِيمَا رَوَاهُ سَمَّاهُ تَحِيَّةً) جَوَابٌ عَنْ اسْتِدْلَالِ مَالِكٍ بِالْحَدِيثِ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّحِيَّةَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِإِكْرَامٍ يَبْتَدِئُ بِهِ الْإِنْسَانُ عَلَى سَبِيلِ التَّبَرُّعِ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى صِيغَةِ الْأَمْرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ «أَكْرِمُوا الشُّهُودَ».
فَإِنْ قِيلَ: قَوْله تَعَالَى «فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا» وَارِدٌ بِلَفْظِ التَّحِيَّةِ، وَرَدُّ السَّلَامِ وَاجِبٌ.
أُجِيبَ: بِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ الْأَحْسَنُ، وَهُوَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ.
سَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ ذِكْرَ لَفْظِ التَّحِيَّةِ وَقَعَ بِطَرِيقِ الْمُشَاكَلَةِ. (وَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ طَوَافُ الْقُدُومِ) لِانْعِدَامِ الْقُدُومِ فِي حَقِّهِمْ.
قَالَ (ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى الصَّفَا فَيَصْعَدُ عَلَيْهِ وَيَسْتَقْبِلُ الْبَيْتَ وَيُكَبِّرُ وَيُهَلِّلُ.
وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ وَيَدْعُو اللَّهَ لِحَاجَتِهِ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَعِدَ الصَّفَا حَتَّى إذَا نَظَرَ إلَى الْبَيْتِ قَامَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ يَدْعُو اللَّهَ» وَلِأَنَّ الثَّنَاءَ وَالصَّلَاةَ يُقَدَّمَانِ عَلَى الدُّعَاءِ تَقْرِيبًا إلَى الْإِجَابَةِ كَمَا فِي غَيْرِهِ مِنْ الدَّعَوَاتِ.
وَالرَّفْعُ سُنَّةُ الدُّعَاءِ.
وَإِنَّمَا يَصْعَدُ بِقَدْرِ مَا يَصِيرُ الْبَيْتُ بِمَرْأًى مِنْهُ، لِأَنَّ الِاسْتِقْبَالَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالصُّعُودِ، وَيَخْرُجُ إلَى الصَّفَا مِنْ أَيِّ بَابٍ شَاءَ.
وَإِنَّمَا خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَابِ بَنِي مَخْزُومٍ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى بَابَ الصَّفَا لِأَنَّهُ كَانَ أَقْرَبَ الْأَبْوَابِ إلَى الصَّفَا لَا أَنَّهُ سُنَّةٌ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى الصَّفَا) ظَاهِرٌ.
وَقَالَ فِي التُّحْفَةِ: تَأْخِيرُ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إلَى طَوَافِ الزِّيَارَةِ أَوْلَى، لِكَوْنِهِ وَاجِبًا فَجَعْلُهُ تَابِعًا لِلْفَرْضِ أَوْلَى، لَكِنَّ الْعُلَمَاءَ رَخَّصُوا فِي إتْيَانِ السَّعْيِ عَقِيبَ طَوَافِ الْقُدُومِ، لِأَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ الَّذِي هُوَ وَقْتُ طَوَافِ الزِّيَارَةِ يَوْمُ شُغْلٍ مِنْ الذَّبْحِ وَرَمْيِ الْجِمَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَكَانَ فِي جَعْلِهِ تَابِعًا لِلسُّنَّةِ، وَهُوَ طَوَافُ الْقُدُومِ تَخْفِيفٌ عَلَى النَّاسِ. قَالَ (ثُمَّ يَنْحَطُّ نَحْوَ الْمَرْوَةِ وَيَمْشِي عَلَى هَيِّنَتِهِ فَإِذَا بَلَغَ بَطْنَ الْوَادِي يَسْعَى بَيْنَ الْمِيلَيْنِ الْأَخْضَرَيْنِ سَعْيًا، ثُمَّ يَمْشِي عَلَى هَيِّنَتِهِ حَتَّى يَأْتِيَ الْمَرْوَةَ فَيَصْعَدُ عَلَيْهَا وَيَفْعَلُ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَزَلَ مِنْ الصَّفَا وَجَعَلَ يَمْشِي نَحْوَ الْمَرْوَةِ وَسَعَى فِي بَطْنِ الْوَادِي، حَتَّى إذَا خَرَجَ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي مَشَى حَتَّى صَعِدَ الْمَرْوَةَ وَطَافَ بَيْنَهُمَا سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ» قَالَ (وَهَذَا شَوْطٌ وَاحِدٌ فَيَطُوفُ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ يَبْدَأُ بِالصَّفَا وَيَخْتِمُ بِالْمَرْوَةِ) وَيَسْعَى فِي بَطْنِ الْوَادِي فِي كُلِّ شَوْطٍ لِمَا رَوَيْنَا، وَإِنَّمَا يَبْدَأُ بِالصَّفَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهِ «ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ» ثُمَّ السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَاجِبٌ وَلَيْسَ بِرُكْنٍ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: إنَّهُ رُكْنٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ عَلَيْكُمْ السَّعْيَ فَاسْعَوْا».
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} وَمِثْلُهُ يُسْتَعْمَلُ لِلْإِبَاحَةِ فَيَنْفِي الرُّكْنِيَّةَ وَالْإِيجَابَ إلَّا أَنَّا عَدَلْنَا عَنْهُ فِي الْإِيجَابِ.
وَلِأَنَّ الرُّكْنِيَّةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ وَلَمْ يُوجَدْ.
ثُمَّ مَعْنَى مَا رُوِيَ كُتِبَ اسْتِحْبَابًا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ} الْآيَةَ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ يَنْحَطُّ) أَيْ يَنْزِلُ (نَحْوَ الْمَرْوَةِ وَيَمْشِي عَلَى هِينَتِهِ) أَيْ عَلَى السَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ (فَإِذَا بَلَغَ بَطْنَ الْوَادِي سَعَى بَيْنَ الْمِيلَيْنِ الْأَخْضَرَيْنِ) رَوَى جَابِرٌ «لَمَّا صَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّفَا قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، ثُمَّ قَرَأَ مِقْدَارَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ آيَةً مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ نَزَلَ وَجَعَلَ يَمْشِي نَحْوَ الْمَرْوَةِ، فَلَمَّا أُنْصِبَتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الْوَادِي سَعَى حَتَّى الْتَوَى إزَارُهُ بِسَاقَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ: رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَتَجَاوَزْ عَمَّا تَعْلَمُ إنَّك أَنْتَ الْأَعَزُّ الْأَكْرَمُ» وَقَوْلُهُ (وَيَفْعَلُ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا) أَيْ مِنْ التَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالدُّعَاءِ لِحَاجَتِهِ.
وَقَوْلُهُ (وَهَذَا شَوْطٌ وَاحِدٌ فَيَطُوفُ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ يَبْدَأُ بِالصَّفَا وَيَخْتِمُ بِالْمَرْوَةِ) فِيهِ إشَارَةٌ إلَى نَفْيِ قَوْلِ الطَّحَاوِيِّ: إنَّهُ يَطُوفُ بَيْنَهُمَا سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ مِنْ الصَّفَا إلَى الصَّفَا، وَهُوَ لَا يَعْتَبِرُ رُجُوعَهُ فَلَا يَجْعَلُ ذَلِكَ شَوْطًا آخَرَ.
وَالْأَصَحُّ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ لِأَنَّ رُوَاةَ نُسُكِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ طَافَ بَيْنَهُمَا سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ، وَعَلَى مَا قَالَهُ الطَّحَاوِيُّ يَصِيرُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ شَوْطًا، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ حَتَّى كَانَ مَبْدَأُ الطَّوَافِ هُوَ الْمُنْتَهَى دُونَ السَّعْيِ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الطَّوَافَ دَوَرَانٌ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِحَرَكَةٍ دَوْرِيَّةٍ، فَيَكُونُ الْمَبْدَأُ وَالْمُنْتَهَى وَاحِدًا بِالضَّرُورَةِ.
وَأَمَّا السَّعْيُ فَهُوَ قَطْعُ مَسَافَةٍ بِحَرَكَةٍ مُسْتَقِيمَةٍ وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي عَوْدَهُ عَلَى بَدْئِهِ.
وَقَوْلُهُ (لِمَا رَوَيْنَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ «وَيَسْعَى فِي بَطْنِ الْوَادِي» وَقَوْلُهُ (وَإِنَّمَا يَبْدَأُ بِالصَّفَا) ظَاهِرٌ (ثُمَّ السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَاجِبٌ وَلَيْسَ بِرُكْنٍ) عِنْدَنَا, وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّهُ رُكْنٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «إنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمْ السَّعْيَ فَاسْعَوْا» وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِمَا ذَكَرَهُ أَنَّ مِثْلَهُ يُسْتَعْمَلُ لِلْإِبَاحَةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} وَمَا يُسْتَعْمَلُ لِلْإِبَاحَةِ (يَنْفِي الرُّكْنِيَّةَ وَالْإِيجَابَ إلَّا أَنَّا عَدَلْنَا عَنْهُ) أَيْ عَنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ (فِي الْإِيجَابِ) أَيْ تَرَكْنَا الْعَمَلَ بِظَاهِرِهَا فِي نَفْيِ الْإِيجَابِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا أَوْجَبَ الْعُدُولَ وَاخْتَلَفَ فِيهِ الشَّارِحُونَ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: عَمَلًا بِمَا رَوَاهُ لِأَنَّهُ خَبَرُ وَاحِدٍ يُوجِبُ الْإِيجَابَ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بِأَوَّلِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} فَإِنَّ الشَّعَائِرَ جَمْعُ شَعِيرَةٍ وَهِيَ الْعَلَامَةُ، وَذَلِكَ يَكُونُ فَرْضًا، فَأَوَّلُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى الْفَرْضِيَّةِ، وَآخِرُهَا عَلَى الْإِبَاحَةِ، فَعَمِلْنَا بِهِمَا، وَقُلْنَا بِالْوُجُوبِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ عِلْمًا وَهُوَ فَرْضٌ عَمَلًا، فَكَانَ فِيهِ نَوْعٌ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرْضِ وَالِاسْتِحْبَابِ.
وَقِيلَ: بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الرُّكْنِيَّةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَمَا رَوَيْتُمْ لَيْسَ كَذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ مَعْنَى مَا رُوِيَ) تَأْوِيلٌ لِلْحَدِيثِ.
وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ, كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ} نَظَرٌ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ كَانَتْ فَرْضًا ثُمَّ نُسِخَتْ، فَكَانَ كُتِبَ دَالًّا عَلَى الْفَرْضِيَّةِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُجْمَعٍ عَلَيْهِ، بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ بَلْ يُجْمَعُ لِلْوَارِثِ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ، وَلِلْمَانِعِ يَكْفِيهِ ذَلِكَ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا بَالُ الْمُصَنِّفِ أَعْرَضَ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ بِحَدِيثِهِ، فَإِنَّهُ لِكَوْنِهِ خَبَرَ وَاحِدٍ أَدَلُّ عَلَى الْوُجُوبِ مِنْ الرُّكْنِيَّةِ, فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ إنَّمَا أَعْرَضَ عَنْهُ لِأَنَّ.
رَاوِيَهُ.
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُؤَمَّلِ وَهُوَ ضَعِيفٌ قَالَهُ النَّسَائِيُّ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَقَالَ أَحْمَدُ: أَحَادِيثُهُ مُنْكَرَةٌ. قَالَ (ثُمَّ يُقِيمُ بِمَكَّةَ حَرَامًا) لِأَنَّهُ مُحْرِمٌ بِالْحَجِّ فَلَا يَتَحَلَّلُ قَبْلَ الْإِتْيَانِ بِأَفْعَالِهِ، قَالَ (وَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ كُلَّمَا بَدَا لَهُ) لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الصَّلَاةَ.
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ وَالصَّلَاةُ خَيْرُ مَوْضُوعٍ، فَكَذَا الطَّوَافُ» إلَّا أَنَّهُ لَا يَسْعَى عَقِيبَ هَذِهِ الْأَطْوِفَةِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ لِأَنَّ السَّعْيَ لَا يَجِبُ فِيهِ إلَّا مَرَّةً.
وَالتَّنَفُّلُ بِالسَّعْيِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ.
وَيُصَلِّي لِكُلِّ أُسْبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ، وَهِيَ رَكْعَتَا الطَّوَافِ عَلَى مَا بَيَّنَّا.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ يُقِيمُ بِمَكَّةَ حَرَامًا) أَيْ مُحْرِمًا (لِأَنَّهُ مُحْرِمٌ بِالْحَجِّ) لِشُرُوعِهِ فِيهِ.
وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ (لَا يَتَحَلَّلُ قَبْلَ الْإِتْيَانِ بِأَفْعَالِهِ) وَهَذَا لَمْ يَأْتِ بِهَا.
وَقَوْلُهُ (وَالصَّلَاةُ خَيْرُ مَوْضُوعٍ فَكَذَا الطَّوَافُ) قِيلَ: إلَّا أَنَّ طَوَافَ التَّطَوُّعِ أَفْضَلُ لِلْغُرَبَاءِ.
وَصَلَاةَ التَّطَوُّعِ أَفْضَلُ لِأَهْلِ مَكَّةَ، لِأَنَّ الْغُرَبَاءَ يَفُوتُهُمْ الطَّوَافُ وَلَا تَفُوتُهُمْ الصَّلَاةُ، وَأَهْلُ مَكَّةَ لَا يَفُوتُهُمْ الْأَمْرَانِ فَعِنْدَ الِاجْتِمَاعِ الصَّلَاةُ أَفْضَلُ.
وَقَوْلُهُ (وَالتَّنَفُّلُ بِالسَّعْيِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ) لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالنَّصِّ مَرَّةً فَالتَّكْرَارُ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْقِيَاسِ عَلَى الطَّوَافِ، وَلَا مَجَالَ لَهُ فِيهِ. قَالَ (فَإِذَا كَانَ قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ خَطَبَ الْإِمَامُ خُطْبَةً يُعَلِّمُ فِيهَا النَّاسَ الْخُرُوجَ إلَى مِنًى وَالصَّلَاةَ بِعَرَفَاتٍ وَالْوُقُوفَ وَالْإِضَافَةِ) وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي الْحَجِّ ثَلَاثَ خُطَبٍ: أَوَّلُهَا مَا ذَكَرْنَا، وَالثَّانِيَةُ بِعَرَفَاتٍ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَالثَّالِثَةُ بِمِنًى فِي الْيَوْمِ الْحَادِي عَشَرَ، فَيُفْصَلُ بَيْنَ كُلِّ خُطْبَتَيْنِ بِيَوْمٍ.
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَخْطُبُ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَوَالِيَةٍ أَوَّلُهَا يَوْمُ التَّرْوِيَةِ لِأَنَّهَا أَيَّامُ الْمَوْسِمِ وَمُجْتَمَعُ الْحَاجِّ.
وَلَنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا التَّعْلِيمُ.
وَيَوْمُ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمُ النَّحْرَ يَوْمَا اشْتِغَالٍ، فَكَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنْفَعَ وَفِي الْقُلُوبِ أَنْجَعُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (فَإِذَا كَانَ قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ) وَهُوَ الْيَوْمُ السَّابِعُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ (خَطَبَ الْإِمَامُ) يَعْنِي خُطْبَةً وَاحِدَةً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْلِسَ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَكَذَلِكَ فِي الْخُطْبَةِ الثَّالِثَةِ الَّتِي تُخْطَبُ بِمِنًى، وَأَمَّا فِي خُطْبَةِ عَرَفَاتٍ فَيَجْلِسُ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ وَهِيَ قَبْلَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَقَوْلُهُ (وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي الْحَجِّ ثَلَاثَ خُطَبٍ) ظَاهِرٌ. (فَإِذَا صَلَّى الْفَجْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بِمَكَّةَ خَرَجَ إلَى مِنًى فَيُقِيمُ بِهَا حَتَّى يُصَلِّيَ الْفَجْرَ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ)لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَلَّى الْفَجْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بِمَكَّةَ، فَلَمَّا طَلَعَتْ الشَّمْسُ رَاحَ إلَى مِنًى فَصَلَّى بِمِنًى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ ثُمَّ رَاحَ إلَى عَرَفَاتٍ» (وَلَوْ بَاتَ بِمَكَّةَ لَيْلَةَ عَرَفَةَ وَصَلَّى بِهَا الْفَجْرَ ثُمَّ غَدَا إلَى عَرَفَاتٍ وَمَرَّ بِمِنًى أَجْزَأَهُ) لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِمِنًى فِي هَذَا الْيَوْمِ إقَامَةُ نُسُكٍ، وَلَكِنَّهُ أَسَاءَ بِتَرْكِهِ الِاقْتِدَاءَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (فَإِذَا صَلَّى الْفَجْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ) وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّامِنُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ قِيلَ: إنَّمَا سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَأَى لَيْلَةَ التَّرْوِيَةِ كَأَنَّ قَائِلًا يَقُولُ لَهُ: إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُك بِذَبْحِ ابْنِك هَذَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ تَرَوَّى: أَيْ تَفَكَّرَ فِي ذَلِكَ مِنْ الصَّبَاحِ إلَى الرَّوَاحِ أَمِنْ اللَّهِ تَعَالَى هَذَا الْحُلْمُ أَمْ مِنْ الشَّيْطَانِ؟ فَمِنْ ثَمَّةَ سُمِّيَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ.
فَلَمَّا أَمْسَى رَأَى مِثْلَ ذَلِكَ، فَعَرَفَ أَنَّهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، فَمِنْ ثَمَّ سُمِّيَ يَوْمَ عَرَفَةَ.
ثُمَّ رَأَى مِثْلَهُ فِي اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ فَهَمَّ بِنَحْرِهِ فَسُمِّيَ الْيَوْمُ بِيَوْمِ النَّحْرِ.
وَقِيلَ: إنَّمَا سُمِّيَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ بِذَلِكَ لِأَنَّ النَّاسَ يَرْوُونَ بِالْمَاءِ مِنْ الْعَطَشِ فِي هَذَا الْيَوْمِ يَحْمِلُونَ الْمَاءَ بِالرَّوَايَا إلَى عَرَفَاتٍ وَمِنًى.
وَإِنَّمَا سُمِّيَ يَوْمُ عَرَفَةَ بِهِ لِأَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَّمَ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا يَوْمَ عَرَفَةَ فَقَالَ لَهُ: أَعَرَفْت فِي أَيِّ مَوْضِعٍ تَطُوفُ؟ وَفِي أَيِّ مَوْضِعٍ تَسْعَى؟ وَفِي أَيِّ مَوْضِعٍ تَقِفُ؟ وَفِي أَيِّ مَوْضِعٍ تَنْحَرُ وَتَرْمِي؟ فَقَالَ عَرَفْت، فَسُمِّيَ يَوْمَ عَرَفَةَ وَسُمِّيَ يَوْمُ الْأَضْحَى بِهِ لِأَنَّ النَّاسَ يُضَحُّونَ فِيهِ بِقَرَابِينِهِمْ. قَالَ (ثُمَّ يَتَوَجَّهُ إلَى عَرَفَاتٍ فَيُقِيمُ بِهَا) لَا رَوَيْنَا، وَهَذَا بَيَانُ الْأَوْلَوِيَّةِ.
أَمَّا لَوْ دَفَعَ قَبْلَهُ جَازَ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَقَامِ حُكْمٌ.
قَالَ فِي الْأَصْلِ: وَيَنْزِلُ بِهَا مَعَ النَّاسِ لِأَنَّ الِانْتِبَاذَ تَجَبُّرٌ وَالْحَالُ حَالُ تَضَرُّعٍ وَالْإِجَابَةُ فِي الْجَمْعِ أَرْجَى.
وَقِيلَ مُرَادُهُ أَنْ لَا يَنْزِلَ عَلَى الطَّرِيقِ كَيْ لَا يُضَيِّقَ عَلَى الْمَارَّةِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ يَتَوَجَّهُ إلَى عَرَفَاتٍ) أَيْ يَتَوَجَّهُ مِنْ مِنًى بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ إلَى عَرَفَاتٍ (فَيُقِيمُ بِهَا لِمَا رَوَيْنَا) «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَاحَ إلَى عَرَفَاتٍ» (وَهَذَا بَيَانُ الْأَوْلَوِيَّةِ أَمَّا لَوْ دَفَعَ قَبْلَهُ) أَيْ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَهَذَا إضْمَارٌ قَبْلَ الذِّكْرِ، وَكَانَ مِنْ حَقِّ الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ: ثُمَّ يَتَوَجَّهُ إلَى عَرَفَاتٍ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ حَتَّى يَصِحَّ بِنَاءُ قَوْلِهِ وَهَذَا: أَيْ التَّوَجُّهُ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ.
وَقَوْلُهُ (أَمَّا لَوْ) دَفَعَ قَبْلَهُ.
عَلَيْهِ قَالَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ: تَرْكُ هَذَا الْقَيْدِ سَهْوٌ مِنْ الْكَاتِبِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ) الضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ.
وَقَوْلُهُ (لَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَقَامِ) يَعْنِي مِنًى (حُكْمٌ) مِنْ الْمَنَاسِكِ فَيَجُوزُ الذَّهَابُ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى عَرَفَاتٍ لِلْوُقُوفِ فِيهَا وَهُوَ الرُّكْنُ الْأَعْظَمُ.
لَا يُقَالُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُكْثُ نَفْسُهُ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ الْمَنَاسِكِ كَالْوُقُوفِ بِالْمُزْدَلِفَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِدَلِيلٍ مَنْقُولٍ وَلَمْ يُوجَدْ.
وَقَوْلُهُ (وَيَنْزِلُ بِهَا) أَيْ بِعَرَفَةَ (مَعَ النَّاسِ لِأَنَّ الِانْتِبَاذَ) أَيْ الِانْفِرَادَ (تَجَبُّرٌ) وَقَوْلُهُ (وَقِيلَ مُرَادُهُ) يَعْنِي مِنْ قَوْلِهِ مَعَ النَّاسِ (أَنْ لَا يَنْزِلَ عَلَى الطَّرِيقِ) قَالَ (وَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ يُصَلِّي الْإِمَامُ بِالنَّاسِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ فَيَبْتَدِئُ فَيَخْطُبُ خُطْبَةً يُعَلِّمُ فِيهَا النَّاسَ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ وَرَمْيَ الْجِمَارِ وَالنَّحْرَ وَالْحَلْقَ وَطَوَافَ الزِّيَارَةِ، يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِجِلْسَةٍ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ) هَكَذَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَخْطُبُ بَعْدَ الصَّلَاةِ، لِأَنَّهَا خُطْبَةُ وَعْظٍ وَتَذْكِيرٍ فَأَشْبَهَ خُطْبَةَ الْعِيدِ.
وَلَنَا مَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا تَعْلِيمُ الْمَنَاسِكِ وَالْجَمْعِ مِنْهَا.
وَفِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ: إذَا صَعِدَ الْإِمَامُ الْمِنْبَرَ فَجَلَسَ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُؤَذِّنُ قَبْلَ خُرُوجِ الْإِمَامِ.
وَعَنْهُ أَنَّهُ يُؤَذِّنُ بَعْدَ الْخُطْبَةِ.
وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَا لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا خَرَجَ وَاسْتَوَى عَلَى نَاقَتِهِ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ.
وَيُقِيمُ الْمُؤَذِّنُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْخُطْبَةِ لِأَنَّهُ أَوَانُ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ فَأَشْبَهَ الْجُمُعَةَ.
قَالَ (وَيُصَلِّي بِهِمْ الظُّهْرَ الْعَصْرَ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ) وَقَدْ وَرَدَ النَّقْلُ الْمُسْتَفِيضُ بِاتِّفَاقٍ الرُّوَاةِ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، وَفِيمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّاهُمَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ»، ثُمَّ بَيَانُهُ أَنَّهُ يُؤَذِّنُ لِلظُّهْرِ وَيُقِيمُ لِلظُّهْرِ ثُمَّ يُقِيمُ لِلْعَصْرِ لِأَنَّ الْعَصْرَ يُؤَدَّى قَبْلَ وَقْتِهِ الْمَعْهُودِ فَيُفْرِدُ بِالْإِقَامَةِ إعْلَامًا لِلنَّاسِ (وَلَا يَتَطَوَّعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ) تَحْصِيلًا لِمَقْصُودِ الْوُقُوفِ وَلِهَذَا قُدِّمَ الْعَصْرُ عَلَى وَقْتِهِ، فَلَوْ أَنَّهُ فَعَلَ فِعْلًا مَكْرُوهًا وَأَعَادَ الْأَذَانَ لِلْعَصْرِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، خِلَافًا لِمَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالتَّطَوُّعِ أَوْ بِعَمَلٍ آخَرَ يَقْطَعُ فَوْرَ الْأَذَانِ الْأَوَّلِ فَيُعِيدُهُ لِلْعَصْرِ (فَإِنْ صَلَّى بِغَيْرِ خُطْبَةٍ أَجْزَأَهُ) لِأَنَّ هَذِهِ الْخُطْبَةَ لَيْسَتْ بِفَرِيضَةٍ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ) يَعْنِي فِي عَرَفَاتٍ (لِيُصَلِّيَ الْإِمَامُ بِالنَّاسِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ فَيَبْتَدِئُ فَيَخْطُبُ خُطْبَةً) يَعْنِي قَبْلَ الصَّلَاةِ وَلَفْظُ يَبْتَدِئُ يُشِيرُ إلَى ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ (وَكَذَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا زَاغَتْ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ فَرُحِلَتْ لَهُ فَرَكِبَ حَتَّى أَتَى بَطْنَ الْوَادِي فَخَطَبَ لِلنَّاسِ، ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ» وَقَوْلُهُ (وَلَنَا مَا رَوَيْنَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ هَكَذَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَفِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ إذَا صَعِدَ الْإِمَامُ الْمِنْبَرَ فَجَلَسَ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُؤَذِّنُ قَبْلَ خُرُوجِ الْإِمَامِ) مِنْ الْفُسْطَاطِ، فَإِذَا فَرَغَ الْمُؤَذِّنُ خَرَجَ الْإِمَامُ لِأَنَّ هَذَا الْأَذَانَ لِأَدَاءِ الظُّهْرِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ (وَعَنْهُ أَنَّهُ يُؤَذِّنُ بَعْدَ الْخُطْبَةِ) قَالَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ: وَهَذَا أَصَحُّ عِنْدِي وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِمَا صَحَّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَا) يَعْنِي ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ (لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ وَاسْتَوَى عَلَى نَاقَتِهِ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ) وَوَجْهُ الصِّحَّةِ أَنَّ رِوَايَةَ جَابِرٍ تَقْتَضِي الْأَذَانَ بَعْدَ خُطْبَةٍ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَقْتَضِيهِ قَبْلَهَا فَتَعَارَضَتَا فَصِرْنَا إلَى مَا بَعْدَهُمَا مِنْ الْحُجَّةِ وَهُوَ الْقِيَاسُ عَلَى الْجُمُعَةِ (وَيُقِيمُ الْمُؤَذِّنُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْخُطْبَةِ لِأَنَّهُ أَوَانُ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ فَأَشْبَهَ الْجُمُعَةَ) قَالَ (وَيُصَلِّي بِهِمْ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ) أَيْ يُصَلِّي الْإِمَامُ بِالْقَوْمِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ (بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ) أَمَّا نَفْسُ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فَلِوُرُودِ النَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ بِاتِّفَاقِ الرُّوَاةِ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَأَمَّا كَوْنُهُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ فَلِمَا رَوَى جَابِرٌ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَلَّاهُمَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ وَبَيَانُهُ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ (وَلَا يَتَطَوَّعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ) يَعْنِي لَا الْإِمَامُ وَلَا الْقَوْمُ.
وَقَوْلُهُ (خِلَافًا لِمَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ) فَإِنَّهُ يَقُولُ: لَا يُعِيدُ الْأَذَانَ لِأَنَّ الْوَقْتَ قَدْ جَمَعَهُمَا فَيُكْتَفَى بِأَذَانٍ وَاحِدٍ كَمَا فِي الْعِشَاءِ مَعَ الْوِتْرِ.
وَوَجْهُ الظَّاهِرِ مَا ذَكَرَهُ (أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالتَّطَوُّعِ أَوْ بِعَمَلٍ آخَرَ يَقْطَعُ فَوْرَ الْأَذَانِ الْأَوَّلِ) وَقَطْعُ فَوْرِ الْأَذَانِ الْأَوَّلِ يُوجِبُ إعَادَتَهُ لِلْعَصْرِ لِأَنَّ الْأَذَانَ لِلْإِعْلَامِ وَكُلُّ صَلَاةٍ أَصْلٌ بِنَفْسِهَا، إلَّا أَنَّهُ إذَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا اسْتَغْنَيَا عَنْ الْإِعْلَامِ، وَإِذَا قُطِعَ عَادَ حُكْمُهُ الْأَصْلِيُّ.
وَقَوْلُهُ (فَإِنْ صَلَّى بِغَيْرِ خُطْبَةٍ) ظَاهِرٌ. قَالَ (وَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ فِي رَحْلِهِ وَحْدَهُ صَلَّى الْعَصْرَ فِي وَقْتِهِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَالَا: يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا الْمُنْفَرِدُ لِأَنَّ جَوَازَ الْجَمْعِ لِلْحَاجَةِ إلَى امْتِدَادِ الْوُقُوفِ وَالْمُنْفَرِدِ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى الْوَقْتِ فَرْضٌ بِالنُّصُوصِ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ إلَّا فِيمَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ، وَهُوَ الْجَمْعُ بِالْجَمَاعَةِ مَعَ الْإِمَامِ وَالتَّقْدِيمُ لِصِيَانَةِ الْجَمَاعَةِ لِأَنَّهُ يَعْسُرُ عَلَيْهِمْ الِاجْتِمَاعُ لِلْعَصْرِ بَعْدَ مَا تَفَرَّقُوا فِي الْمَوْقِفِ لَا لِمَا ذَكَرَاهُ إذْ لَا مُنَافَاةَ، ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْإِمَامُ شَرْطٌ فِي الصَّلَاتَيْنِ جَمِيعًا.
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فِي الْعَصْرِ خَاصَّةً لِأَنَّهُ هُوَ الْمُغَيَّرُ عَنْ وَقْتِهِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ التَّقْدِيمَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ عُرِفَ شَرْعُهُ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْعَصْرُ مُرَتَّبَةً عَلَى ظُهْرٍ مُؤَدًّى بِالْجَمَاعَةِ مَعَ الْإِمَامِ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ، ثُمَّ لابد مِنْ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ قَبْلَ الزَّوَالِ فِي رِوَايَةٍ تَقْدِيمًا لِلْإِحْرَامِ عَلَى وَقْتِ الْجَمْعِ، وَفِي أُخْرَى يَكْتَفِي بِالتَّقْدِيمِ عَلَى الصَّلَاةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الصَّلَاةُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ فِي رَحْلِهِ) أَيْ فِي مَنْزِلِهِ (وَحْدَهُ صَلَّى الْعَصْرَ فِي وَقْتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَا: الْمُنْفَرِدُ وَغَيْرُهُ سِيَّانِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا) وَمَبْنَى الِاخْتِلَافِ عَلَى أَنَّ تَقْدِيمَ الْعَصْرِ عَلَى وَقْتِهِ لِأَجْلِ مُحَافَظَةِ الْجَمَاعَةِ أَوْ لِامْتِدَادِ الْوُقُوفِ، فَعِنْدَهُ لِلْأَوَّلِ وَعِنْدَهُمَا لِلثَّانِي.
لَهُمَا أَنَّ جَوَازَ الْجَمْعِ لِلْحَاجَةِ إلَى امْتِدَادِ الْوُقُوفِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا جَمْعَ عَلَى مَنْ لَيْسَ عَلَيْهِ الْوُقُوفُ، وَأَنَّ الْحَاجَّ يَحْتَاجُ إلَى الدُّعَاءِ فِي وَقْتِ الْوُقُوفِ، فَشُرِعَ الْجَمْعُ لِئَلَّا يَشْتَغِلَ عَنْ الدُّعَاءِ.
وَالْمُنْفَرِدُ وَغَيْرُهُ فِي هَذِهِ الْحَاجَةِ سَوَاءٌ فَيَسْتَوِيَانِ فِي جَوَازِ الْجَمْعِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى الْوَقْتِ فَرْضٌ بِالنُّصُوصِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} وَقَالَ تَعَالَى {إنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ، وَذَلِكَ فِيمَا وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مَعَ وُفُورِ الصَّحَابَةِ مِنْ الْجَمْعِ بِالْجَمَاعَةِ مَعَ الْإِمَامِ فَلَا يَجُوزُ بِدُونِهِ.
وَقَوْلُهُ (وَالتَّقْدِيمُ لِصِيَانَةِ الْجَمَاعَةِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا وَتَقْرِيرُهُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ جَوَازَ الْجَمْعِ بِالتَّقْدِيمِ لِامْتِدَادِ الْوُقُوفِ بَلْ لِصِيَانَةِ الْجَمَاعَةِ، لِأَنَّهُ يَعْسُرُ عَلَيْهِمْ الِاجْتِمَاعُ لِلْعَصْرِ بَعْدَمَا تَفَرَّقُوا لِأَنَّ الْمَوْقِفَ مَوْضِعٌ وَاسِعٌ ذُو طُولٍ وَعَرْضٍ فَلَا يُمْكِنُهُمْ إقَامَةُ الْجَمَاعَةِ إلَّا بِالِاجْتِمَاعِ وَأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ مَرَّتَيْنِ فِي الْعَادَةِ فَعَجَّلُوا الْعَصْرَ لِئَلَّا تَفُوتَهُمْ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ لِحَقِّ الْوُقُوفِ، لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ تَفُوتُ لَا إلَى خَلْفٍ، وَحَقُّ الْوُقُوفِ يَتَأَدَّى قَبْلُ وَبَعْدُ وَمَعَهُ، إذْ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْوُقُوفِ وَالصَّلَاةِ لِأَنَّ الْوُقُوفَ، لَا يَنْقَطِعُ بِالِاشْتِغَالِ بِالصَّلَاةِ كَمَا لَا يَنْقَطِعُ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالتَّوَضُّؤِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَفِي كَلَامِهِ تَسَامُحٌ لِأَنَّهُ جَعَلَ عِلَّةَ تَقْدِيمِ الْعَصْرِ تَحْصِيلَ مَقْصُودِ الْوُقُوفِ حَيْثُ قَالَ: وَلِهَذَا قُدِّمَ الْعَصْرُ عَلَى وَقْتِهِ، وَهَاهُنَا جَعَلَ عِلَّتَهُ صِيَانَةَ الْجَمَاعَةِ، فَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْوُقُوفِ صِيَانَةَ الْجَمَاعَةِ صَحَّ الْكَلَامُ، لَكِنْ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ أَدَاءُ أَعْظَمِ رُكْنَيْ الْحَجِّ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ تَنَاقَضَ كَلَامُهُ وَتَوَارَدَ عِلَّتَانِ عَلَى مَعْلُولٍ وَاحِدٍ بِالشَّخْصِ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْوُقُوفِ شَيْئَانِ أَحَدُهُمَا عَاجِلٌ وَالثَّانِي آجِلٌ.
وَالْأَوَّلُ هُوَ امْتِدَادُ الْمُكْثِ لِأَجْلِ الدُّعَاءِ لِمَصَالِحِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ.
وَالثَّانِي أَدَاءُ الرُّكْنِ وَصِيَانَةُ الْجَمَاعَةِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيمُ الْعَصْرِ مَعْلُولًا لِتَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْوُقُوفِ مِنْ حَيْثُ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ، وَلِصِيَانَةِ الْجَمَاعَةِ مِنْ حَيْثُ الثَّانِي، وَإِذَا اخْتَلَفَتْ الْجِهَةُ انْدَفَعَ التَّنَاقُضُ وَتَوَارُدُ الْعِلَّتَيْنِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ لِلْمُكَلَّفِ هُوَ الِامْتِدَادُ فِي الْمُكْثِ لِأَجْلِ الدُّعَاءِ، وَلَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي وُجُودِ غَيْرِهِ فَقَالَا: مَا ثَمَّةَ غَيْرُهُ، وَفِيهِ الْمُنْفَرِدُ وَالْجَمَاعَةُ سَوَاءٌ، وَقَالَ: بَلْ ثَمَّةَ غَيْرُهُ، وَهُوَ مَا لَهُ مِنْ صِيَانَةِ الْجَمَاعَةِ، وَلَيْسَ الْمُنْفَرِدُ فِيهِ كَالْجَمَاعَةِ ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: الْإِمَامُ شَرْطٌ فِي الصَّلَاتَيْنِ جَمِيعًا.
وَقَالَ زُفَرُ: فِي الْعَصْرِ خَاصَّةً لِأَنَّهُ هُوَ الْمُغَيَّرُ عَنْ وَقْتِهِ وَاشْتِرَاطُ الْإِمَامِ لِلتَّغَيُّرِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّقْدِيمَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ عُرِفَ شَرْعُهُ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْعَصْرُ مُرَتَّبَةً عَلَى ظُهْرٍ مُؤَدَّى بِالْجَمَاعَةِ مَعَ الْإِمَامِ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ) وَكُلُّ مَا كَانَ شَرْعُهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ يَقْتَصِرُ عَلَى مَوْرِدِهِ (وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ) قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْإِحْرَامُ شَرْطٌ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَقَالَ زُفَرُ: هُوَ شَرْطٌ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ وَثَمَرَتُهُ تَظْهَرُ فِي حَلَالٍ مَكِّيٍّ صَلَّى الظُّهْرَ مَعَ الْإِمَامِ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَصَلَّى الْعَصْرَ مَعَهُ، أَوْ الْمُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ أَحْرَمَ فَصَلَّى الْعَصْرَ مَعَ الْإِمَامِ لَمْ يُجْزِهِ الْعَصْرُ إلَّا فِي وَقْتِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَعِنْدَ زُفَرَ تَجُوزُ (ثُمَّ لابد مِنْ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ قَبْلَ الزَّوَالِ فِي رِوَايَةٍ) لِأَنَّ الْإِحْرَامَ شَرْطُ جَوَازِ الْجَمْعِ وَشَرْطُ الشَّيْءِ يَسْبِقُهُ، وَجَوَازُ الْجَمْعِ يَتَحَقَّقُ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ مُقَارِنًا، وَالْمُتَقَدِّمُ عَلَى أَحَدِ الْمُتَقَارِنَيْنِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْآخَرِ (وَفِي) رِوَايَةٍ (أُخْرَى يُكْتَفَى بِالتَّقْدِيمِ عَلَى الصَّلَاةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الصَّلَاةُ) قَالَ (ثُمَّ يَتَوَجَّهُ إلَى الْمَوْقِفِ فَيَقِفُ بِقُرْبِ الْجَبَلِ وَالْقَوْمُ مَعَهُ عَقِيبَ انْصِرَافِهِمْ مِنْ الصَّلَاةِ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَاحَ إلَى الْمَوْقِفِ عَقِيبَ الصَّلَاةِ وَالْجَبَلُ يُسَمَّى جَبَلَ الرَّحْمَةِ، وَالْمَوْقِفَ الْأَعْظَمَ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (ثُمَّ يَتَوَجَّهُ الْإِمَامُ إلَى الْمَوْقِفِ) أَيْ بَعْدَ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ يَتَوَجَّهُ الْإِمَامُ إلَى الْمَوْقِفِ (فَيَقِفُ بِقُرْبِ الْجَبَلِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاحَ إلَى الْمَوْقِفِ عَقِيبَ الصَّلَاةِ) وَقَوْلُهُ (وَالْجَبَلُ يُسَمَّى جَبَلَ الرَّحْمَةِ) ظَاهِرٌ. قَالَ (وَعَرَفَاتٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إلَّا بَطْنَ عُرَنَةَ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «عَرَفَاتٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ، وَالْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَارْتَفِعُوا عَنْ وَادِي مُحَسِّرٍ».
قَالَ (وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَقِفَ بِعَرَفَةَ عَلَى رَاحِلَتِهِ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَفَ عَلَى نَاقَتِهِ (وَإِنْ وَقَفَ عَلَى قَدَمَيْهِ جَازَ) وَالْأَوَّلُ أَفْضَلُ لِمَا بَيَّنَّا (وَيَنْبَغِي أَنْ يَقِفَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَفَ كَذَلِكَ، وَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «خَيْرُ الْمَوَاقِفِ مَا اُسْتُقْبِلَتْ بِهِ الْقِبْلَةُ» (وَيَدْعُو وَيُعَلِّمُ النَّاسَ الْمَنَاسِكَ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَدْعُو يَوْمَ عَرَفَةَ مَادًّا يَدَيْهِ كَالْمُسْتَطْعِمِ الْمِسْكَيْنِ وَيَدْعُو بِمَا شَاءَ» وَإِنْ وَرَدَ الْآثَارُ بِبَعْضِ الدَّعَوَاتِ، وَقَدْ أَوْرَدْنَا تَفْصِيلَهَا فِي كِتَابِنَا الْمُتَرْجَمُ بِعُدَّةِ النَّاسِكِ فِي عِدَّةٍ مِنْ الْمَنَاسِكِ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (بَطْنُ عُرَنَةَ) وَادٍ بِحِذَاءِ عَرَفَاتٍ.
قِيلَ رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ الشَّيْطَانَ، فَكَانَ هَذَا نَظِيرَ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي السَّاعَاتِ الثَّلَاثِ.
(وَالْمُزْدَلِفَةُ) إنَّمَا سُمِّيَتْ بِهَا لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ فِيهَا وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ} أَيْ جَمَعْنَاهُمْ، وَقِيلَ مِنْ الِازْدِلَافِ بِمَعْنَى التَّقَرُّبِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} أَيْ قُرِّبَتْ، وَسُمِّيَتْ بِهَا لِاقْتِرَابِ النَّاسِ إلَى مِنًى بَعْدَ الْإِفَاضَةِ مِنْ عَرَفَاتٍ (وَوَادِي مُحَسِّرٍ) بِكَسْرِ السِّينِ وَتَشْدِيدِهَا هُوَ بَيْنَ مَكَّةَ وَعَرَفَاتٍ.
وَقَوْلُهُ (كَالْمُسْتَطْعِمِ الْمِسْكِينِ) فِي تَقْدِيمِ الصِّفَةِ فَائِدَةٌ وَهِيَ الْمُبَالَغَةُ فِي تَحْقِيقِ الْمُدِّ، فَإِنَّ التَّشْبِيهَ حِينَئِذٍ إنَّمَا يَحْصُلُ بِحَالَةِ الِاسْتِطْعَامِ وَهِيَ حَالَةُ الِاحْتِيَاجِ.
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ وَرَدَ الْآثَارُ بِبَعْضِ الدَّعَوَاتِ) عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ «إنَّ أَكْثَرَ دُعَائِي وَدُعَاءِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي عَشِيَّةَ عَرَفَةَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ, اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا وَفِي سَمْعِي نُورًا وَفِي بَصَرِي نُورًا, اللَّهُمَّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ وَسْوَاسِ الصَّدْرِ وَشَتَاتِ الْأَمْرِ وَفِتْنَةِ الْقَبْرِ, اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا يَلِجُ فِي الْبَحْرِ وَشَرِّ مَا تَهُبُّ بِهِ الرِّيَاحُ». قَالَ (وَيَنْبَغِي لِلنَّاسِ أَنْ يَقِفُوا بِقُرْبِ الْإِمَامِ) لِأَنَّهُ يَدْعُو وَيُعَلِّمُ فَيَعُوا وَيَسْمَعُوا (وَيَنْبَغِي أَنْ يَقِفَ وَرَاءَ الْإِمَامِ) لِيَكُونَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، وَهَذَا بَيَانُ الْأَفْضَلِيَّةِ لِأَنَّ عَرَفَاتٍ كُلَّهَا مَوْقِفٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. قَالَ (وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَغْتَسِلَ قَبْلَ الْوُقُوفِ وَيَجْتَهِدَ فِي الدُّعَاءِ) أَمَّا الِاغْتِسَالُ فَهُوَ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَلَوْ اكْتَفَى بِالْوُضُوءِ جَازَ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَعِنْدَ الْإِحْرَامِ.
وَأَمَّا الِاجْتِهَادُ فَلِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اجْتَهَدَ فِي الدُّعَاءِ فِي هَذَا الْمَوْقِفِ لِأُمَّتِهِ فَاسْتُجِيبَ لَهُ إلَّا فِي الدِّمَاءِ وَالْمَظَالِمِ (وَيُلَبِّي فِي مَوْقِفِهِ سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ) وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ كَمَا يَقِفُ بِعَرَفَةَ لِأَنَّ الْإِجَابَةَ بِاللِّسَانِ قَبْلَ الِاشْتِغَالِ بِالْأَرْكَانِ.
وَلَنَا مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا زَالَ يُلَبِّي حَتَّى أَتَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ» وَلِأَنَّ التَّلْبِيَةَ فِيهِ كَالتَّكْبِيرِ فِي الصَّلَاةِ فَيَأْتِي بِهَا إلَى آخِرِ جُزْءٍ مِنْ الْإِحْرَامِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (إلَّا فِي الدِّمَاءِ وَالْمَظَالِمِ) أَيْ إلَّا فِي حَقِّ الدَّمِ الَّذِي وَجَبَ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ قِصَاصًا وَعَجَزُوا عَنْ اسْتِيفَائِهِ، وَفِي حَقِّ الْمَظْلِمَةِ الَّتِي وَجَبَتْ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَعَجَزُوا عَنْ الِانْتِصَافِ.
وَقِيلَ: قَدْ اُسْتُجِيبَ لَهُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا فِي الْمُزْدَلِفَةِ وَقَوْلُهُ (وَيُلَبِّي فِي مَوْقِفِهِ) يَعْنِي يَسْتَدِيمُ ذَلِكَ إلَى أَنْ يَرْمِيَ أَوَّلَ حَصَاةٍ مِنْ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ (وَقَالَ مَالِكٌ: يَقْطَعُهَا كَمَا يَقِفُ بِعَرَفَةَ لِأَنَّ التَّلْبِيَةَ إجَابَةٌ بِاللِّسَانِ، وَالْإِجَابَةُ بِاللِّسَانِ قَبْلَ الِاشْتِغَالِ بِالْأَرْكَانِ) كَتَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ فِي الصَّلَاةِ وَلَنَا مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْدَفَ الْفَضْلَ فَأَخْبَرَ الْفَضْلُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى الْجَمْرَةَ»، وَلِأَنَّ التَّلْبِيَةَ فِي الْحَجِّ كَالتَّكْبِيرِ فِي الصَّلَاةِ فِي كَوْنِهِ ذِكْرًا مَفْعُولًا فِي افْتِتَاحِ الْعِبَادَةِ وَيَتَكَرَّرُ فِي أَثْنَائِهَا، فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ إلَى آخِرِ جُزْءٍ مِنْ الْإِحْرَامِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الرَّمْيِ.
وَقِيلَ: كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ إلَى آخِرِهِ كَالتَّكْبِيرِ فِي الصَّلَاةِ، إلَّا أَنَّ الْقِيَاسَ تُرِكَ فِيمَا بَعْدَ الرَّمْيِ بِالْإِجْمَاعِ فَيَبْقَى فِيمَا وَرَاءَهُ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ. قَالَ (فَإِذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ أَفَاضَ الْإِمَامُ وَالنَّاسُ مَعَهُ عَلَى هَيِّنَتِهِمْ حَتَّى يَأْتُوا الْمُزْدَلِفَةَ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَفَعَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَلِأَنَّ فِيهِ إظْهَارَ مُخَالَفَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَمْشِي عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي الطَّرِيقِ عَلَى هَيِّنَتِهِ، فَإِنْ خَافَ الزِّحَامَ فَدَفَعَ قَبْلَ الْإِمَامِ وَلَمْ يُجَاوِزْ حُدُودَ عَرَفَةَ أَجْزَأَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يُفِضْ مِنْ عَرَفَةَ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَقِفَ فِي مَقَامِهِ كَيْ لَا يَكُونَ آخِذًا فِي الْأَدَاءِ قَبْلَ وَقْتِهَا، وَلَوْ مَكَثَ قَلِيلًا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَإِفَاضَةِ الْإِمَامِ لِخَوْفِ الزِّحَامِ فَلَا بَأْسَ بِهِ.
لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بَعْدَ إفَاضَةِ الْإِمَامِ دَعَتْ بِشَرَابٍ فَأَفْطَرَتْ ثُمَّ أَفَاضَتْ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَالنَّاسُ مَعَهُ عَلَى هِينَتِهِمْ) إنَّمَا هُوَ اتِّبَاعٌ لِلسُّنَّةِ.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَيُّهَا النَّاسُ لَيْسَ الْبِرُّ فِي إيجَافِ الْخَيْلِ وَفِي إيضَاعِ الْإِبِلِ، عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ» (وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَفَعَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ) وَمَشَى عَلَى هِينَتِهِ فِي الطَّرِيقِ (وَلِأَنَّ فِيهِ إظْهَارَ مُخَالَفَةِ الْمُشْرِكِينَ) فَإِنَّهُ رُوِيَ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْأَوْثَانِ كَانُوا يَدْفَعُونَ مِنْ عَرَفَةَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إذَا تَعَمَّمَتْ بِهَا رُءُوسُ الْجِبَالِ كَعَمَائِمِ الرِّجَالِ فِي وُجُوهِهِمْ، وَإِنَّ هَدْيَنَا لَيْسَ كَهَدْيِهِمْ، فَادْفَعُوا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ» فَقَدْ بَاشَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَمَرَ بِهِ إظْهَارًا لِمُخَالَفَةِ الْمُشْرِكِينَ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُخَالِفَ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ (وَلَمْ يُجَاوِزْ حُدُودَ عَرَفَةَ أَجْزَأَهُ) إشَارَةً إلَى أَنَّهُ لَوْ جَاوَزَهَا قَبْلَ الْإِمَامِ وَقَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّمُ، وَلَكِنْ إنْ عَادَ إلَى عَرَفَةَ قَبْلَ الْغُرُوبِ ثُمَّ دَفَعَ مَعَ الْإِمَامِ مِنْهَا بَعْدَ الْغُرُوبِ سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ.
وَإِنْ عَادَ بَعْدَ الْغُرُوبِ لَمْ يَسْقُطْ. قَالَ (وَإِذَا أَتَى مُزْدَلِفَةَ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَقِفَ بِقُرْبِ الْجَبَلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُقَيَّدَةُ يُقَالُ لَهُ قُزَحَ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَفَ عِنْدَ هَذَا الْجَبَلِ، وَكَذَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيَتَحَرَّزُ فِي النُّزُولِ عَنْ الطَّرِيقِ كَيْ لَا يَضُرَّ بِالْمَارَّةِ فَيَنْزِلُ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ يَسَارِهِ.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقِفَ وَرَاءَ الْإِمَامِ لِمَا بَيَّنَّا فِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ.
قَالَ (وَيُصَلِّي الْإِمَامُ بِالنَّاسِ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ) وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ اعْتِبَارًا بِالْجَمْعِ بِعَرَفَةَ.
وَلَنَا رِوَايَةُ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ» وَلِأَنَّ الْعِشَاءَ فِي وَقْتِهِ فَلَا يُفْرِدُ بِالْإِقَامَةِ إعْلَامًا، بِخِلَافِ الْعَصْرِ بِعَرَفَةَ لِأَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى وَقْتِهِ فَأَفْرَدَ بِهَا لِزِيَادَةِ الْإِعْلَامِ (وَلَا يَتَطَوَّعُ بَيْنَهُمَا) لِأَنَّهُ يُخِلُّ بِالْجَمْعِ، وَلَوْ تَطَوَّعَ أَوْ تَشَاغَلَ بِشَيْءٍ أَعَادَ الْإِقَامَةَ لِوُقُوعِ الْفَصْلِ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُعِيدَ الْأَذَانَ كَمَا فِي الْجَمْعِ الْأَوَّلِ بِعَرَفَةَ، إلَّا أَنَّا اكْتَفَيْنَا بِإِعَادَةِ الْإِقَامَةِ، لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْمَغْرِبَ بِمُزْدَلِفَةَ ثُمَّ تَعَشَّى ثُمَّ أَفْرَدَ الْإِقَامَةَ لِلْعِشَاءِ».
وَلَا تُشْتَرَطُ الْجَمَاعَةُ لِهَذَا الْجَمْعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الْمَغْرِبَ مُؤَخَّرَةٌ عَنْ وَقْتِهَا، بِخِلَافِ الْجَمْعِ بِعَرَفَةَ لِأَنَّ الْعَصْرَ مُقَدَّمٌ عَلَى وَقْتِهِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِذَا أَتَى مُزْدَلِفَةَ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَقِفَ بِقُرْبِ الْجَبَلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُقَيَّدَةُ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ يَدْعُو وَيُعَلِّمُ.
وَقَوْلُهُ (وَيُصَلِّي الْإِمَامُ بِالنَّاسِ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ) أَيْ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ.
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ تَعَشَّى) أَيْ أَكَلَ الْعَشَاءَ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا تُشْتَرَطُ الْجَمَاعَةُ لِهَذَا الْجَمْعِ) أَيْ لِجَمْعِ الْمُزْدَلِفَةِ (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْمَغْرِبَ مُؤَخَّرَةٌ عَنْ وَقْتِهَا) وَأَدَاءُ الصَّلَاةِ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا مُوَافِقٌ لِلْقِيَاسِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ مَشْرُوعٌ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ فَلَا يَجِبُ مُرَاعَاةُ مَوْرِدِ النَّصِّ، فَالنَّصُّ وَإِنْ وَرَدَ فِي تَأْخِيرِ الْمَغْرِبِ عِنْدَ وُجُودِ الْجَمَاعَةِ لَكِنْ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْجَمَاعَةُ، وَأَمَّا تَقْدِيمُ الصَّلَاةِ عَلَى وَقْتِهَا فَمُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيُرَاعَى لِذَلِكَ فِيهِ جَمِيعُ مَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ، وَإِنَّمَا خَصَّ أَبَا حَنِيفَةَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ كَانَتْ شَرْطًا عِنْدَهُ فِي الْجَمْعِ بِعَرَفَاتٍ. قَالَ (وَمَنْ صَلَّى الْمَغْرِبَ فِي الطَّرِيقِ لَمْ يُجْزِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَعَلَيْهِ إعَادَتُهَا مَا لَمْ يَطْلُعْ الْفَجْرُ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُجْزِيه وَقَدْ أَسَاءَ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا صَلَّى بِعَرَفَاتٍ.
لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ أَدَّاهَا فِي وَقْتِهَا فَلَا تَجِبُ إعَادَتُهَا كَمَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، إلَّا أَنَّ التَّأْخِيرَ مِنْ السُّنَّةِ فَيَصِيرُ مُسِيئًا بِتَرْكِهِ.
وَلَهُمَا مَا رُوِيَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِأُسَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي طَرِيقِ الْمُزْدَلِفَةِ: الصَّلَاةُ أَمَامَك» مَعْنَاهُ: وَقْتُ الصَّلَاةِ.
وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ التَّأْخِيرَ وَاجِبٌ، وَإِنَّمَا وَجَبَ لِيُمْكِنَهُ الْجَمْعَ بَيْن الصَّلَاتَيْنِ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَكَانَ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ مَا لَمْ يَطْلُعْ الْفَجْرُ لِيَصِيرَ جَامِعًا بَيْنَهُمَا، وَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ لَا يُمْكِنُهُ الْجَمْعُ فَسَقَطَتْ الْإِعَادَةُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (مَنْ صَلَّى الْمَغْرِبَ فِي الطَّرِيقِ) أَيْ فِي طَرِيقِ الْمُزْدَلِفَةِ وَحْدَهُ (لَمْ يُجْزِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعَلَيْهِ إعَادَتُهَا مَا لَمْ يَطْلُعْ الْفَجْرُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُجْزِيهِ وَقَدْ أَسَاءَ) وَكَذَلِكَ لَوْ صَلَّاهَا بِعَرَفَاتٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي الطَّرِيقِ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا (لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ أَدَّاهَا فِي وَقْتِهَا) وَمَنْ أَدَّى صَلَاةً فِي وَقْتِهَا, لَا تَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَتُهَا كَمَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَّا أَنَّ التَّأْخِيرَ مِنْ السُّنَّةِ فَيَصِيرُ مُسِيئًا بِتَرْكِهِ.
وَلَهُمَا مَا رُوِيَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ حِينَ أَفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ وَمَالَ إلَى الشِّعْبِ فَقَضَى حَاجَتَهُ وَتَوَضَّأَ، وَقَالَ لَهُ أُسَامَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُصَلِّي الصَّلَاةَ أَمَامَك» يَعْنِي وَقْتُ الصَّلَاةِ أَمَامَك، لِأَنَّ الصَّلَاةَ فِعْلُ الْمُصَلِّي فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ أَمَامَهُ وَلَكِنَّهَا تُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهَا الْوَقْتُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ} وَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ مَعْنَاهُ: مَكَانُ الصَّلَاةِ أَمَامَك وَهُوَ مُزْدَلِفَةُ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْحَالِ وَإِرَادَةِ الْمَحَلِّ.
(وَهَذَا) أَيْ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إشَارَةٌ إلَى أَنَّ التَّأْخِيرَ وَاجِبٌ) لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ مَعْنَاهُ الْقَضَاءَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، وَتَفْوِيتُ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ فَضْلًا عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَيَجِبُ النَّظَرُ فِي سَبَبِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اتِّصَالُ السَّيْرِ أَوْ إمْكَانُ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي الْمُزْدَلِفَةِ، لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ مَيْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى الشِّعْبِ وَقَضَاءَ حَاجَتِهِ يَأْبَاهُ فَتَعَيَّنَ الثَّانِي، فَمَهْمَا كَانَ مُمْكِنًا لَا يُصَارُ إلَى غَيْرِهِ، وَالْإِمْكَانُ مَا لَمْ يَطْلُعْ الْفَجْرُ فَتَجِبُ الْإِعَادَةُ مَا لَمْ يَطْلُعْ، وَأَمَّا إذَا طَلَعَ فَقَدْ فَاتَ الْإِمْكَانُ فَسَقَطَتْ الْإِعَادَةُ.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ الْآحَادِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَبْطُلَ بِهِ قَوْله تَعَالَى {إنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} وَأَجَابَ شَيْخُ شَيْخِي الْعَلَّامَةُ بِأَنَّهُ مِنْ الْمَشَاهِيرِ تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَعَمِلُوا بِهِ فَجَازَ أَنْ يُزَادَ بِهِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَأَقُولُ: قَوْله تَعَالَى {إنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ} الْآيَةَ وَنَحْوَهَا لَيْسَ فِيهَا دَلَالَةٌ قَاطِعَةٌ عَلَى تَعْيِينِ الْأَوْقَاتِ، وَإِنَّمَا دَلَالَتُهَا عَلَى أَنَّ لِلصَّلَاةِ أَوْقَاتًا، وَتَعْيِينُهَا ثَبَتَ إمَّا بِخَبَرِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْ بِغَيْرِهِ مِنْ الْآحَادِ، أَوْ بِفِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ فَجَازَ أَنْ يُعَارِضَهُ خَبَرُ الْوَاحِدِ، ثُمَّ يُعْمَلُ بِفِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَضَاءً فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَقْتُهُ، وَشُكِّكَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ بِأَنَّ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ الَّتِي صَلَّاهَا فِي الطَّرِيقِ إمَّا أَنْ وَقَعَتْ صَحِيحَةً أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَا تَجِبُ الْإِعَادَةُ لَا فِي الْوَقْتِ وَلَا بَعْدَهُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي وَجَبَتْ فِيهِ وَبَعْدَهُ لِأَنَّ مَا وَقَعَ فَاسِدًا لَا يَنْقَلِبُ صَحِيحًا بِمُضِيِّ الْوَقْتِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْفَسَادَ مَوْقُوفٌ يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي ثَانِي الْحَالِ كَمَا مَرَّ فِي مَسْأَلَةِ التَّرْتِيبِ. قَالَ (وَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ يُصَلِّي الْإِمَامُ بِالنَّاسِ الْفَجْرَ بِغَلَسٍ) لِرِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَلَّاهَا يَوْمئِذٍ بِغَلَسٍ» وَلِأَنَّ فِي التَّغْلِيسِ دَفْعَ حَاجَةِ الْوُقُوفِ فَيَجُوزُ كَتَقْدِيمِ الْعَصْرِ بِعَرَفَةَ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ يُصَلِّي الْإِمَامُ بِالنَّاسِ الْفَجْرَ بِغَلَسٍ) أَيْ إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ يَوْمَ النَّحْرِ يُصَلِّي الْإِمَامُ بِالنَّاسِ الْفَجْرَ بِغَلَسٍ وَالْغَلَسُ ظُلْمَةُ آخِرِ اللَّيْلِ، وَفِي بَعْضِ الشُّرُوحِ نَاقِلًا عَنْ الدِّيوَانِ آخِرُ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ وَهُوَ أَوْفَقُ لِمَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى مَا سَيَظْهَرُ.
قَوْلُهُ (لِرِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ) قَالَ: «مَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلَاةً إلَّا لِوَقْتِهَا إلَّا بِجَمْعٍ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَمَعَ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَصَلَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ مِنْ الْغَدِ قَبْلَ وَقْتِهَا».
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الدَّلِيلُ الْمَنْقُولُ وَالْمَعْقُولُ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ غَيْرُ مُطَابِقَيْنِ لِلْمَدْلُولِ.
أَمَّا الْمَنْقُولُ فَلِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَلَّاهَا بِغَلَسٍ، وَالْمَدْلُولُ قَوْلُهُ وَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ يُصَلِّي الْإِمَامُ بِالنَّاسِ الْفَجْرَ بِغَلَسٍ.
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَلِأَنَّ تَقْرِيرَهُ فِي التَّغْلِيسِ دَفْعُ حَاجَةِ الْوُقُوفِ، وَدَفْعُ الْحَاجَةِ يَجُوزُ التَّقْدِيمُ كَتَقْدِيمِ الْعَصْرِ بِعَرَفَةَ وَتَقْدِيمِ الْعَصْرِ كَانَ عَلَى وَقْتِهِ، فَيَكُونُ هَاهُنَا كَذَلِكَ تَصْحِيحًا لِلتَّشْبِيهِ وَهُوَ خِلَافُ الْمَطْلُوبِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الرَّاوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْهُ فِي صَحِيحِهِ أَنَّهُ قَالَ: «خَرَجْت مَعَ عَبْدِ اللَّهِ إلَى مَكَّةَ ثُمَّ قَدِمْنَا جَمْعًا فَصَلَّى الصَّلَاتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى الْفَجْرَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ وَقَائِلٌ يَقُولُ لَمْ يَطْلُعْ الْفَجْرُ».
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ قَبْلَ وَقْتِهَا قَبْلَ وَقْتِهَا الْمُسْتَحَبِّ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الرَّاوِيَ لَا يَعْمَلُ عَلَى خِلَافِ مَا رُوِيَ.
وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ جَابِرٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ «فَصَلَّى الْفَجْرَ حِينَ تَبَيَّنَ الصُّبْحُ» وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ مَعْنَاهُ: لَمَّا جَازَ تَعْجِيلُ الْعَصْرِ عَلَى وَقْتِهَا لِلْحَاجَةِ إلَى الْوُقُوفِ بَعْدَهَا فَلَأَنْ يَجُوزَ التَّغْلِيسُ بِالْفَجْرِ وَهِيَ فِي وَقْتِهَا أَوْلَى. (ثُمَّ وَقَفَ وَوَقَفَ مَعَهُ النَّاسُ وَدَعَا) لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَفَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَدْعُو حَتَّى رُوِيَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «فَاسْتُجِيبَ لَهُ دُعَاؤُهُ لِأُمَّتِهِ حَتَّى الدِّمَاءِ وَالْمَظَالِمِ» ثُمَّ هَذَا الْوُقُوفُ وَاجِبٌ عِنْدَنَا وَلَيْسَ بِرُكْنٍ، حَتَّى لَوْ تَرَكَهُ بِغَيْرِ عُذْرٍ يَلْزَمُهُ الدَّمُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: إنَّهُ رُكْنٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} وَبِمِثْلِهِ تَثْبُتُ الرُّكْنِيَّةُ.
وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّمَ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ بِاللَّيْلِ، وَلَوْ كَانَ رُكْنًا لَمَا فَعَلَ ذَلِكَ، وَالْمَذْكُورُ فِيمَا تَلَا الذِّكْرُ وَهُوَ لَيْسَ بِرُكْنٍ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَا الْوُجُوبَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ وَقَفَ مَعَنَا هَذَا الْمَوْقِفَ وَقَدْ كَانَ أَفَاضَ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ عَرَفَاتٍ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ» عَلَّقَ بِهِ تَمَامَ الْحَجِّ، وَهَذَا يَصْلُحُ أَمَارَةً لِلْوُجُوبِ، غَيْرَ أَنَّهُ إذَا تَرَكَهُ بِعُذْرٍ بِأَنْ يَكُونَ بِهِ ضَعْفٌ أَوْ عِلَّةٌ أَوْ كَانَتْ امْرَأَةٌ تَخَافُ الزِّحَامَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِمَا رَوَيْنَا.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ وَقَفَ وَوَقَفَ مَعَهُ النَّاسُ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (حَتَّى الدِّمَاءُ وَالْمَظَالِمُ) بِالرَّفْعِ: أَيْ حَتَّى يَدْخُلَ فِي الْمُسْتَجَابِ بِأَنْ يَرْضَى الْخُصُومُ بِالِازْدِيَادِ فِي مَثُوبَاتِهِمْ حَتَّى يَتْرُكُوا خُصُومَاتِهِمْ فِي الدِّمَاءِ وَالْمَظَالِمِ.
وَقَوْلُهُ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّهُ رُكْنٌ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَنِسْبَةُ هَذَا الْقَوْلِ إلَيْهِ سَهْوٌ وَقَعَ مِنْ الْكَاتِبِ لِمَا أَنَّهُ ذَكَرَ فِي كُتُبِهِمْ أَنَّ الْوُقُوفَ بِالْمُزْدَلِفَةِ سُنَّةٌ.
وَذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ اللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَكَانَ الشَّافِعِيِّ، وَذَكَرَ فِي الْأَسْرَارِ عَلْقَمَةَ مَكَانَ الشَّافِعِيِّ، وَذَكَرَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ مَالِكًا مَكَانَ الشَّافِعِيِّ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُصَنِّفُ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى نَقْلٍ مِنْ مَذْهَبِهِ وَاسْتَدَلَّ (بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} وَبِمِثْلِهِ تَثْبُتُ الرُّكْنِيَّةُ) لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالذِّكْرِ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ فِيهِ إلَّا بَعْدَ حُضُورِهِ وَالْوُقُوفِ فِيهِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ (وَلَنَا مَا رُوِيَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدَّمَ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ بِاللَّيْلِ»، وَلَوْ كَانَ رُكْنًا لَمَا فَعَلَ ذَلِكَ) لِأَنَّ مَا هُوَ رُكْنٌ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ لِعُذْرٍ.
وَقَوْلُهُ (وَالْمَذْكُورُ فِيمَا تَلَا الذِّكْرَ) جَوَابٌ عَنْ اسْتِدْلَالِهِ بِالْآيَةِ.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي الْآيَةِ وَهُوَ الذِّكْرُ لَيْسَ بِرُكْنٍ بِالْإِجْمَاعِ، فَكَذَا مَا كَانَ وَسِيلَةً إلَيْهِ وَهُوَ الْحُضُورُ وَالْوُقُوفُ.
وَقَوْلُهُ (وَإِنَّمَا عَرَفْنَا) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (لِمَا رَوَيْنَا) يَعْنِي بِهِ قَوْلَهُ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدَّمَ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ بِاللَّيْلِ» فَعُلِمَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ تَعْلِيقِ تَمَامِ الْحَجِّ فِي قَوْلِهِ «عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنْ وَقَفَ مَعَنَا هَذَا الْمَوْقِفَ» إلَخْ مِنْ حَيْثُ الْكَمَالُ وَهُوَ الْإِتْيَانُ بِالْوَاجِبِ لَا مِنْ حَيْثُ الْجَوَازُ. قَالَ (وَالْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إلَّا وَادِيَ مُحَسِّرٍ) لِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ.
قَالَ (فَإِذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ أَفَاضَ الْإِمَامُ وَالنَّاسُ مَعَهُ حَتَّى يَأْتُوا مِنًى) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هَكَذَا وَقَعَ فِي نُسَخِ الْمُخْتَصَرِ وَهَذَا غَلَطٌ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إذَا أَسْفَرَ أَفَاضَ الْإِمَامُ وَالنَّاسُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَفَعَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (لِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ) يَعْنِي بِهِ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «وَالْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَارْتَفِعُوا عَنْ وَادِي مُحَسِّرٍ».
وَقَوْلُهُ (هَكَذَا وَقَعَ فِي نُسَخِ الْمُخْتَصَرِ) أَيْ فِي نُسَخِ مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ (وَهَذَا غَلَطٌ) لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَفَعَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ.
رَوَاهُ جَابِرٌ وَابْنُ عُمَرَ قَالَا «إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ حَتَّى إذَا كَادَتْ الشَّمْسُ تَطْلُعُ دَفَعَ إلَى مِنًى».
وَأَقُولُ مَعْنَى قَوْلِهِ وَإِذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ: إذَا قَرُبَتْ إلَى الطُّلُوعِ، وَفَعَلَ ذَلِكَ اعْتِمَادًا عَلَى ظُهُورِ الْمَسْأَلَةِ. قَالَ (فَيَبْتَدِئُ بِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فَيَرْمِيهَا مِنْ بَطْنِ الْوَادِي بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ مِثْلَ حَصَى الْخَذْفِ) لِأَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَتَى مِنًى لَمْ يُعَرِّجْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ»، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «عَلَيْكُمْ بِحَصَى الْخَذْفِ لَا يُؤْذِي بَعْضُكُمْ بَعْضًا» وَلَوْ رَمَى بِأَكْبَرَ مِنْهُ جَازَ لِحُصُولِ الرَّمْيِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَرْمِي بِالْكِبَارِ مِنْ الْأَحْجَارِ كَيْ لَا يَتَأَذَّى بِهِ غَيْرُهُ (وَلَوْ رَمَاهَا مِنْ فَوْقِ الْعَقَبَةِ أَجْزَأَهُ) لِأَنَّ مَا حَوْلَهَا مَوْضِعُ النُّسُكِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي لِمَا رَوَيْنَا.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (فَيَبْتَدِئُ بِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ) الْكَلَامُ فِي الرَّمْيِ فِي اثْنَيْ عَشَرَ مَوْضِعًا: أَحَدُهَا الْوَقْتُ وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ، وَالثَّانِي فِي مَوْضِعِ الرَّمْيِ وَهُوَ بَطْنُ الْوَادِي، يَعْنِي مِنْ أَسْفَلِهِ إلَى أَعْلَاهُ، وَالثَّالِثُ فِي مَحَلِّ الرَّمْيِ إلَيْهِ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ: جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ وَمَسْجِدُ الْخَيْفِ وَالْوُسْطَى، وَالرَّابِعُ فِي كَمْيَّةِ الْحَصَيَاتِ وَهُوَ سَبْعَةٌ عِنْدَ كُلِّ جَمْرَةٍ، وَالْخَامِسُ فِي الْمِقْدَارِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ حَصَى الْخَذْفِ، وَالسَّادِسُ فِي كَيْفِيَّةِ الرَّمْيِ وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ، وَقِيلَ يَأْخُذُ الْحَصَى بِطَرَفِ إبْهَامِهِ وَسَبَّابَتِهِ، وَالسَّابِعُ مِقْدَارُ الرَّمْيِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ، وَالثَّامِنُ فِي صِفَةِ الرَّامِي وَهُوَ أَنْ يَكُونَ رَاكِبًا أَوْ مَاشِيًا لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَالتَّاسِعُ فِي مَوْضِعِ وُقُوعِ الْحَصَيَاتِ، وَالْعَاشِرُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْهُ الْحَجَرُ وَهُمَا مَذْكُورَانِ فِي الْكِتَابِ، وَالْحَادِيَ عَشَرَ فِيمَا يَرْمِي بِهِ وَهُوَ مَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ، وَالثَّانِيَ عَشَرَ أَنَّهُ يَرْمِي فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ لَا غَيْرُ وَفِي بَقِيَّةِ الْأَيَّامِ يَرْمِي الْجِمَارَ كُلَّهَا.
وَكَلَامُهُ فِي الْكِتَابِ وَاضِحٌ. (وَيُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ) كَذَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ (وَلَوْ سَبَّحَ مَكَانَ التَّكْبِيرِ أَجْزَأَهُ) لِحُصُولِ الذِّكْرِ وَهُوَ مِنْ آدَابِ الرَّمْيِ (وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا) لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقِفْ عِنْدَهَا (وَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ مَعَ أَوَّلِ حَصَاةٍ) لِمَا رَوَيْنَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَرَوَى جَابِرٌ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ التَّلْبِيَةَ عِنْدَ أَوَّلِ حَصَاةٍ رَمَى بِهَا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ». ثُمَّ كَيْفِيَّةُ الرَّمْيِ أَنْ يَضَعَ الْحَصَاةَ عَلَى ظَهْرِ إبْهَامِهِ الْيُمْنَى وَيَسْتَعِينُ بِالْمِسْبَحَةِ.
وَمِقْدَارُ الرَّمْيِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الرَّامِي وَبَيْنَ مَوْضِعِ السُّقُوطِ خَمْسَةُ أَذْرُعٍ فَصَاعِدًا، كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ مَا دُونَ ذَلِكَ يَكُونُ طَرْحًا.
وَلَوْ طَرَحَهَا طَرْحًا أَجْزَأَهُ لِأَنَّهُ رَمَى إلَى قَدَمَيْهِ إلَّا أَنَّهُ مُسِيءٌ لِمُخَالَفَتِهِ السُّنَّةَ، وَلَوْ وَضَعَهَا وَضْعًا لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِرَمْيٍ، وَلَوْ رَمَاهَا فَوَقَعَتْ قَرِيبًا مِنْ الْجَمْرَةِ يَكْفِيهِ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، وَلَوْ وَقَعَتْ بَعِيدًا مِنْهَا لَا يُجْزِيه لِأَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ قُرْبَةً إلَّا فِي مَكَان مَخْصُوصٍ وَلَوْ رَمَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ جُمْلَةً فَهَذِهِ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ تَفَرُّقُ الْأَفْعَالِ، وَيَأْخُذُ الْحَصَى مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ إلَّا مِنْ عِنْدِ الْجَمْرَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُكْرَهُ لِأَنَّ مَا عِنْدَهَا مِنْ الْحَصَى مَرْدُودٌ، هَكَذَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ فَيَتَشَاءَمُ بِهِ، وَمَعَ هَذَا لَوْ فَعَلَ أَجْزَأَهُ لِوُجُودِ فِعْلِ الرَّمْيِ.
وَيَجُوزُ الرَّمْيُ بِكُلِّ مَا كَانَ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِعْلُ الرَّمْيِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالطِّينِ كَمَا يَحْصُلُ بِالْحَجَرِ، بِخِلَافِ مَا إذَا رَمَى بِالذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ لِأَنَّهُ يُسَمَّى نِثَارًا لَا رَمْيًا.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (فَيُتَشَاءَمُ بِهِ) وَلَا يُتَبِّرُك، بَيَانُهُ فِي حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ: مَا بَالُ الْجِمَارِ تُرْمَى مِنْ وَقْتِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَمْ تَصِرْ هِضَابًا تَسُدُّ الْأُفُقَ؟ فَقَالَ: أَمَا عَلِمْت أَنَّهُ مَنْ يُقْبَلُ حَجُّهُ رُفِعَ حَصَاهُ وَمَنْ لَمْ يُقْبَلْ حَجُّهُ تُرِكَ حَصَاهُ، حَتَّى قَالَ مُجَاهِدٌ: لَمَّا سَمِعْت هَذَا مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ جَعَلْت عَلَى حَصَيَاتِي عَلَامَةً ثُمَّ تَوَسَّطْت الْجَمْرَةَ فَرَمَيْته مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ثُمَّ طَلَبْت فَلَمْ أَجِدْ بِتِلْكَ الْعَلَامَةِ شَيْئًا مِنْ الْحَصَى.
وَقَوْلُهُ (وَيَجُوزُ الرَّمْيُ بِكُلِّ مَا كَانَ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ عِنْدَنَا) اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِالْفَيْرُوزِ وَالْيَاقُوتِ فَإِنَّهُمَا مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ حَتَّى جَازَ التَّيَمُّمُ بِهِمَا، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ الرَّمْيُ بِهِمَا حَتَّى لَمْ يَقَعْ مُعْتَدًّا بِهِمَا فِي الرَّمْيِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْجَوَازَ مَشْرُوطٌ بِالِاسْتِهَانَةِ بِرَمْيِهِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِرَمْيِهِمَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ الرَّمْيُ إلَّا بِالْحَجَرِ اتِّبَاعًا لِمَا وَرَدَ بِهِ الْأَثَرُ لِعَدَمِ كَوْنِهِ مَعْقُولًا.
وَقُلْنَا: سَلَّمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَلَكِنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ فِعْلُ الرَّمْيِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالطِّينِ كَمَا يَحْصُلُ بِالْحَجَرِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ فِعْلُ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْحَجَرِ لَهُ بِعَيْنِهِ مَقْصُودٌ إنَّمَا مَقْصُودُهُ فِعْلُ الرَّمْيِ إمَّا إعَادَةً لِلْكَبْشِ أَوْ لِطَرْدِ الشَّيْطَانِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الرُّوَاةِ، فَقُلْنَا بِأَيِّ شَيْءٍ حَصَلَ فِعْلُ الرَّمْيِ أَجْزَأَهُ، وَلَا يَرِدُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلَا الْجَوَاهِرِ لِأَنَّهُ يُسَمَّى نِثَارًا لَا رَمْيًا قَالَ (ثُمَّ يَذْبَحُ إنْ أَحَبَّ ثُمَّ يَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ) لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ «إنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نَرْمِيَ ثُمَّ نَذْبَحَ ثُمَّ نَحْلِقَ» وَلِأَنَّ: الْحَلْقَ مِنْ أَسْبَابِ التَّحَلُّلِ، وَكَذَا الذَّبْحُ حَتَّى يَتَحَلَّلَ بِهِ الْمُحْصَرُ فَيُقَدِّمَ الرَّمْيَ عَلَيْهِمَا، ثُمَّ الْحَلْقُ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ الذَّبْحُ، وَإِنَّمَا عَلَّقَ الذَّبْحَ بِالْمَحَبَّةِ لِأَنَّ الدَّمَ الَّذِي يَأْتِي بِهِ الْمُفْرِدُ تَطَوُّعٌ وَالْكَلَامُ فِي الْمُفْرِدِ (وَالْحَلْقُ أَفْضَلُ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ» الْحَدِيثَ، ظَاهِرٌ بِالتَّرَحُّمِ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ الْحَلْقَ أَكْمَلُ فِي قَضَاءِ التَّفَثِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ، وَفِي التَّقْصِيرِ بَعْضُ التَّقْصِيرِ فَأَشْبَهَ الِاغْتِسَالَ مَعَ الْوُضُوءِ.
وَيَكْتَفِي فِي الْحَلْقِ بِرُبْعِ الرَّأْسِ اعْتِبَارًا بِالْمَسْحِ، وَحَلْقُ الْكُلِّ أَوْلَى اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَالتَّقْصِيرُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ رُءُوسِ شَعْرِهِ مِقْدَارَ الْأُنْمُلَةِ.
قَالَ (وَقَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ) وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَإِلَّا الطِّيبَ أَيْضًا لِأَنَّهُ مِنْ دَوَاعِي الْجِمَاعِ.
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهِ «حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ» وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ.
وَلَا يَحِلُّ لَهُ الْجِمَاعُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ بِالنِّسَاءِ فَيُؤَخَّرُ إلَى تَمَامِ الْإِحْلَالِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (ثُمَّ يَذْبَحُ إنْ أَحَبَّ ثُمَّ يَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (ظَاهِرٌ بِالتَّرَحُّمِ عَلَيْهِمْ) أَيْ كَرَّرَ التَّرَحُّمَ عَلَى الْمُحَلِّقِينَ.
وَرَوَى نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْمُحَلِّقِينَ، قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ؟ فَقَالَ: وَالْمُقَصِّرِينَ» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «كَرَّرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ثُمَّ قَالَ فِي الرَّابِعِ: وَالْمُقَصِّرِينَ» وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَلْقَ أَفْضَلُ.
وَقَوْلُهُ (مِقْدَارُ الْأُنْمُلَةِ) قِيلَ هَذَا التَّقْدِيرُ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَلَمْ يُعْلَمْ فِيهِ خِلَافٌ، وَمَنْ لَا شَعْرَ لَهُ أَمَرَّ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ، لِأَنَّهُ إنْ عَجَزَ عَنْ الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ لَمْ يَعْجِزْ عَنْ التَّشَبُّهِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهِ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ مِنْ دَوَاعِي الْجِمَاعِ) يُعَضِّدُهُ أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ يَحْرُمُ عَلَيْهَا الطِّيبُ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَالْجِمَاعُ بِدَوَاعِيهِ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَطُوفَ كَالْقُبْلَةِ وَالْمَسِّ بِشَهْوَةٍ.
وَلَنَا مَا رَوَتْ عَائِشَةُ «إذَا حَلَقَ الْحَاجُّ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ» وَقَالَتْ: «طَيَّبْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِحْرَامِهِ وَلِإِحْلَالِهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ» وَهَذَا لَا يُشَكُّ فِي تَقْدِيمِهِ عَلَى الْقِيَاسِ (وَلَا يَحِلُّ لَهُ الْجِمَاعُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ) قَالَ: الْجِمَاعُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ يَرْتَفِعُ بِالْحَلْقِ لِأَنَّهُ لَا يُفْسِدُ الْإِحْرَامَ بِحَالٍ (وَلَنَا أَنَّهُ قَضَاءُ شَهْوَةٍ بِالنِّسَاءِ فَيُؤَخَّرُ إلَى تَمَامِ الْإِحْلَالِ) بِالطَّوَافِ، وَهَذَا لِأَنَّ دَوَاعِيَ الْجِمَاعِ مُلْحَقَةٌ بِهِ فِي الْمَحْظُورَاتِ كَمَا فِي الِاعْتِكَافِ وَقَبْلَ الْحَلْقِ. (ثُمَّ الرَّمْيُ لَيْسَ مِنْ أَسْبَابِ التَّحَلُّلِ عِنْدَنَا) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
هُوَ يَقُولُ: إنَّهُ يَتَوَقَّتُ بِيَوْمِ النَّحْرِ كَالْحَلْقِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَتِهِ فِي التَّحْلِيلِ.
وَلَنَا أَنَّ مَا يَكُونُ مُحَلَّلًا يَكُونُ جِنَايَةً فِي غَيْرِ أَوَانِهِ كَالْحَلْقِ، وَالرَّمْيِ لَيْسَ بِجِنَايَةٍ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ، بِخِلَافِ الطَّوَافِ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ بِالْحَلْقِ السَّابِقِ لَا بِهِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ الرَّمْيُ لَيْسَ مِنْ أَسْبَابِ التَّحَلُّلِ عِنْدَنَا) يَعْنِي إذَا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ لَا يَتَحَلَّلُ عِنْدَنَا حَتَّى يَحْلِقَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَتَحَلَّلُ وَيَحِلُّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ (هُوَ يَقُولُ إنَّهُ يَتَوَقَّتُ بِيَوْمِ النَّحْرِ) وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُحَلِّلٌ كَالْحَلْقِ (وَلَنَا أَنَّ مَا يَكُونُ مُحَلِّلًا يَكُونُ جِنَايَةً فِي غَيْرِ أَوَانِهِ كَالْحَلْقِ، وَالرَّمْيِ لَيْسَ بِجِنَايَةٍ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ) وَنُوقِضَ بِدَمِ الْإِحْصَارِ فَإِنَّهُ مُحَلِّلٌ وَلَيْسَ بِمَحْظُورِ الْإِحْرَامِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مَا كَانَ مُحَلِّلًا فِي الْأَصْلِ وَدَمُ الْإِحْصَارِ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا صِيرَ إلَيْهِ لِضَرُورَةِ الْمَنْعِ.
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الطَّوَافِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الطَّوَافُ مُحَلِّلٌ فِي حَقِّ النِّسَاءِ وَلَيْسَ بِمَحْظُورِ الْإِحْرَامِ وَإِنَّمَا هُوَ رُكْنٌ.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ التَّحَلُّلَ لَمْ يَكُنْ بِالطَّوَافِ بَلْ بِالْحَلْقِ السَّابِقِ. قَالَ (ثُمَّ يَأْتِي مَكَّةَ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ أَوْ مِنْ الْغَدِ أَوْ مِنْ بَعْدِ الْغَدِ، فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ طَوَافَ الزِّيَارَةِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا حَلَقَ أَفَاضَ إلَى مَكَّةَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ عَادَ إلَى مِنًى وَصَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى».
وَوَقْتُهُ أَيَّامُ النَّحْرِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَطَفَ الطَّوَافَ عَلَى الذَّبْحِ قَالَ {فَكُلُوا مِنْهَا} ثُمَّ قَالَ {وَلِيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} فَكَانَ وَقْتُهُمَا وَاحِدًا.
وَأَوَّلُ وَقْتِهِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ مِنْ اللَّيْلِ وَقْتُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَالطَّوَافُ مُرَتَّبٌ عَلَيْهِ، وَأَفْضَلُ هَذِهِ الْأَيَّامِ أَوَّلُهَا كَمَا فِي التَّضْحِيَةِ.
وَفِي الْحَدِيثِ «أَفْضَلُهَا أَوَّلُهَا» (فَإِنْ كَانَ قَدْ سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَقِيبَ طَوَافِ الْقُدُومِ لَمْ يَرْمُلْ فِي هَذَا الطَّوَافِ وَلَا سَعْيَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُقَدِّمْ السَّعْيَ رَمَلَ فِي هَذَا الطَّوَافِ وَسَعَى بَعْدَهُ) لِأَنَّ السَّعْيَ لَمْ يُشَرَّعْ إلَّا مَرَّةً وَالرَّمَلُ مَا شُرِعَ إلَّا مَرَّةً فِي طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ (وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ هَذَا الطَّوَافِ) لِأَنَّ خَتْمَ كُلِّ طَوَافٍ بِرَكْعَتَيْنِ فَرْضًا كَانَ لِلطَّوَافِ أَوْ نَفْلًا لِمَا بَيَّنَّا.
قَالَ (وَقَدْ حَلَّ لَهُ النِّسَاءُ) وَلَكِنْ بِالْحَلْقِ السَّابِقِ إذْ هُوَ الْمُحَلَّلُ لَا بِالطَّوَافِ، إلَّا أَنَّهُ أَخَّرَ عَمَلَهُ فِي حَقِّ النِّسَاءِ.
الشَّرْحُ:
قَوْلُهُ (ثُمَّ يَأْتِي مَكَّةَ مِنْ يَوْمِهِ) يَعْنِي أَوَّلَ أَيَّامِ النَّحْرِ.
وَقَوْلُهُ (وَوَقْتُهُ أَيَّامُ النَّحْرِ) أَيْ وَقْتُ طَوَافِ الزِّيَارَةِ.
وَقَوْلُهُ (فَكَانَ وَقْتُهُمَا وَاحِدًا) أَيْ وَقْتُ الْأُضْحِيَّةِ وَوَقْتُ طَوَافِ الزِّيَارَةِ إلَّا أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ لَمْ تُشْرَعْ بَعْدَ أَيَّامِ النَّحْرِ، وَالطَّوَافُ مَشْرُوعٌ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ تَأْخِيرُهُ عَنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ عَلَى مَا يَجِيءُ.
وَقَوْلُهُ (وَأَوَّلُ وَقْتِهِ) ظَاهِرٌ وَقَوْلُهُ (وَالرَّمَلُ مَا شُرِعَ إلَّا مَرَّةً فِي طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ) لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا رَمَلَ فِي طَوَافِ الْعُمْرَةِ وَهُوَ طَوَافٌ بَعْدَهُ سَعْيٌ.
وَقَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «وَلِيُصَلِّ الطَّائِفُ لِكُلِّ أُسْبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ» وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ لِمَا رَوَيْنَا لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ وَجْهَ التَّمَسُّكِ بِهِ لِلْوُجُوبِ، فَكَانَ قَوْلُهُ بَيَّنَّا أَشْمَلَ وَأَعَمَّ مِنْ قَوْلِهِ رَوَيْنَا، وَقَوْلُهُ (وَلَكِنْ بِالْحَلْقِ السَّابِقِ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ).
وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنَّهُ أَخَّرَ عَمَلَهُ فِي حَقِّ النِّسَاءِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إذَا كَانَ الْحَلْقُ السَّابِقُ مُحَلِّلًا فَكَيْفَ بَقِيَتْ النِّسَاءُ مُحْرِمَةً.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ عَمَلَهُ تَأَخَّرَ فِي حَقِّ النِّسَاءِ لِيَقَعَ الطَّوَافُ الَّذِي هُوَ رُكْنٌ فِي الْإِحْرَامِ لِئَلَّا يَقَعَ التَّهَاوُنُ فِي أَمْرِهِ. قَالَ (وَهَذَا الطَّوَافُ هُوَ الْمَفْرُوضُ فِي الْحَجِّ) وَهُوَ رُكْنٌ فِيهِ إذْ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلِيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} وَيُسَمَّى طَوَافُ الْإِفَاضَةِ وَطَوَافَ يَوْمِ النَّحْرِ (وَيُكْرَهُ تَأْخِيرُهُ عَنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مُوَقَّتٌ بِهَا (وَإِنْ أَخَّرَهُ عَنْهَا لَزِمَهُ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ) وَسَنُبَيِّنُهُ فِي بَابِ الْجِنَايَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ (ثُمَّ يَعُودُ إلَى مِنًى فَيُقِيمُ بِهَا) لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَجَعَ إلَيْهَا كَمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّهُ بَقِيَ عَلَيْهِ الرَّمْيُ وَمَوْضِعُهُ بِمِنًى (فَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ مِنْ الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ رَمَى الْجِمَارَ الثَّلَاثَ فَيَبْدَأُ بِاَلَّتِي تَلِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ فَيَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ وَيَقِفُ عِنْدَهَا، ثُمَّ يَرْمِي الَّتِي تَلِيهَا مِثْلَ ذَلِكَ وَيَقِفُ عِنْدَهَا، ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ كَذَلِكَ وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا) هَكَذَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا نَقَلَ مِنْ نُسُكِ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُفَسِّرًا، وَيَقِفُ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ فِي الْمَقَامِ الَّذِي يَقِفُ فِيهِ النَّاسُ وَيَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ وَيُهَلِّلُ وَيُكَبِّرُ وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَيَدْعُو بِحَاجَتِهِ وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ} وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ.
وَالْمُرَادُ رَفْعُ الْأَيْدِي بِالدُّعَاءِ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي دُعَائِهِ فِي هَذِهِ الْمَوَاقِفِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْحَاجِّ وَلِمَنْ اسْتَغْفَرَ لَهُ الْحَاجُّ} ثُمَّ الْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ رَمْيٍ بَعْدَهُ رَمْيٌ يَقِفُ بَعْدَهُ لِأَنَّهُ فِي وَسَطِ الْعِبَادَةِ فَيَأْتِي بِالدُّعَاءِ فِيهِ، وَكُلُّ رَمْيٍ لَيْسَ بَعْدَهُ رَمْيٍ لَا يَقِفُ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ قَدْ انْتَهَتْ، وَلِهَذَا لَا يَقِفُ بَعْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ أَيْضًا.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَهَذَا الطَّوَافُ) أَيْ طَوَافُ الزِّيَارَةِ (هُوَ الْمَفْرُوضُ فِي الْحَجِّ) وَقَوْلُهُ (ثُمَّ يَعُودُ إلَى مِنًى) يَعْنِي بَعْدَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ (فَيُقِيمُ بِهَا لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَعَ إلَيْهَا كَمَا رَوَيْنَا) يَعْنِي مَا تَقَدَّمَ {أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا حَلَقَ أَفَاضَ إلَى مَكَّةَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ عَادَ إلَى مِنًى وَصَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى} وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّهُ بَقِيَ عَلَيْهِ الرَّمْيُ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَيَقِفُ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ) يَعْنِي الْجَمْرَةَ الْأُولَى وَالْوُسْطَى (فِي الْمَقَامِ الَّذِي يَقِفُ فِيهِ النَّاسُ) وَهُوَ أَعْلَى الْوَادِي وَقَوْلُهُ (عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ}) حَدِيثٌ مَشْهُورٌ، وَالْمَوَاطِنُ هِيَ: عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ، وَالْقُنُوتِ فِي الْوِتْرِ، وَفِي الْعِيدَيْنِ، وَعِنْدَ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، وَعَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَبِعَرَفَاتٍ، وَجَمْعٍ، وَعِنْدَ الْمَقَامَيْنِ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ.
وَذِكْرُ الْجَمْرَتَيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقِيمُ عِنْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ حِذَاءَ مَنْكِبَيْهِ نَصَّ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وَفِي سَائِرِ الْأَدْعِيَةِ لَا يَفْعَلُ كَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّفْعَ يُنَافِي السَّكِينَةَ وَالْوَقَارَ فَيُسَنُّ فِي مَوْضِعٍ وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ وَيُتْرَكُ فِي الْبَاقِي عَلَى أَصْلِ الدَّلِيلِ. قَالَ (فَإِذَا كَانَ مِنْ الْغَدِ رَمَى الْجِمَارَ الثَّلَاثَ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ كَذَلِكَ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَعَجَّلَ النَّفْرَ إلَى مَكَّةَ نَفَرَ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ رَمَى الْجِمَارَ الثَّلَاثَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ لِمَنْ اتَّقَى} وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُقِيمَ لِمَا رُوِيَ {أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَبَرَ حَتَّى رَمَى الْجِمَارَ الثَّلَاثَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ}.
وَلَهُ أَنْ يَنْفِرَ مَا لَمْ يَطْلُعْ الْفَجْرُ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ، فَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْفِرَ لِدُخُولِ وَقْتِ الرَّمْيِ، وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ (وَإِنْ قَدَّمَ الرَّمْيَ فِي هَذَا الْيَوْمِ) يَعْنِي الْيَوْمَ الرَّابِعَ (قَبْلَ الزَّوَالِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَقَالَا لَا يَجُوزُ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْأَيَّامِ، وَإِنَّمَا التَّفَاوُتُ فِي رُخْصَةِ النَّفْرِ، فَإِذْ لَمْ يَتَرَخَّصْ اُلْتُحِقَ بِهَا، وَمَذْهَبُهُ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ أَثَرُ التَّخْفِيفِ فِي هَذَا الْيَوْمِ فِي حَقِّ التَّرْكِ فَلَأَنْ يَظْهَرَ فِي جَوَازِهِ فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا أَوْلَى، بِخِلَافِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي حَيْثُ لَا يَجُوزُ الرَّمْيُ فِيهِمَا إلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ الرِّوَايَةِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ فِيهِمَا فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْمَرْوِيِّ.
فَأَمَّا يَوْمُ النَّحْرِ فَأَوَّلُ وَقْتِ الرَّمْيِ مِنْ وَقْتِ طُلُوعِ الْفَجْرِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: أَوَّلُهُ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ لِمَا رُوِيَ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِلرِّعَاءِ أَنْ يَرْمُوا لَيْلًا}.
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {لَا تَرْمُوا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ إلَّا مُصْبِحِينَ} وَيَرْوِي {حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ} فَيَثْبُتُ أَصْلُ الْوَقْتِ بِالْأَوَّلِ وَالْأَفْضَلِيَّةُ بِالثَّانِي.
وَتَأْوِيلُ مَا رُوِيَ اللَّيْلَةَ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ، وَلِأَنَّ لَيْلَةَ النَّحْرِ وَقْتُ الْوُقُوفِ وَالرَّمْيِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ وَقْتُهُ بَعْدَهُ ضَرُورَةً.
ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَمْتَدُّ هَذَا الْوَقْتُ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {إنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا فِي هَذَا الْيَوْمِ الرَّمْيُ}، جَعَلَ الْيَوْمَ وَقْتًا لَهُ وَذَهَابَهُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَمْتَدُّ إلَى وَقْتِ الزَّوَالِ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَا.
وَإِنْ أَخَّرَ إلَى اللَّيْلِ رَمَاهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِحَدِيثِ الدُّعَاءِ.
وَإِنْ أَخَّرَ إلَى الْغَدِ رَمَاهُ لِأَنَّهُ وَقْتُ جِنْسِ الرَّمْيِ، وَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِتَأْخِيرِهِ عَنْ وَقْتِهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (فَإِذَا كَانَ مِنْ الْغَدِ رَمْيُ الْجِمَارِ الثَّلَاثِ بَعْدَ الزَّوَالِ) يَعْنِي إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ مِنْ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ رَمَى الْجِمَارَ الثَّلَاثَ مِثْلَ مَا رَمَى فِي الْيَوْمِ الثَّانِي (وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَعَجَّلَ النَّفْرَ) أَيْ الذَّهَابَ وَالْخُرُوجَ مِنْ مِنًى (إلَى مَكَّةَ) فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ فَعَلَ ذَلِكَ, وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ رَمَى الْجِمَارَ الثَّلَاثَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ} أَيْ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ وَمَنْ تَأَخَّرَ إلَى الْيَوْمِ الرَّابِعِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ (لِمَنْ اتَّقَى) وَقَوْلُهُ {لِمَنْ اتَّقَى} يَتَعَلَّقُ بِهِمَا جَمِيعًا: أَيْ ذَلِكَ التَّخْيِيرِ وَنَفْيُ الْإِثْمِ فِي الْحَالَيْنِ لِأَجْلِ الْحَاجِّ الْمُتَّقِي لِئَلَّا يُتَخَالَجَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنْهُمَا فَيُحْسَبُ أَنَّ أَحَدَهُمَا يُؤَثِّمُ صَاحِبَهُ فِي الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا خُصَّ الْمُتَّقِي لِأَنَّهُ هُوَ الْحَاجُّ عِنْدَ اللَّهِ فِي الْحَقِيقَةِ.
وَقَوْلُهُ (وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ) فَإِنَّهُ يَنْقَطِعُ عِنْدَهُ خِيَارُ النَّفْرِ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ الْيَوْمِ الثَّالِثِ؛ لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ الْخِيَارُ فِي الْيَوْمِ وَهُوَ يَمْتَدُّ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ.
وَقُلْنَا: اللَّيْلُ لَيْسَ بِوَقْتٍ لِرَمْيِ الْيَوْمِ الرَّابِعِ فَيَكُونُ خِيَارُهُ فِي النَّفْرِ ثَابِتًا فِيهِ كَقَبْلِ الْغُرُوبِ مِنْ الْيَوْمِ الثَّالِثِ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ فَإِنَّهُ وَقْتُ الرَّمْيِ فَلَا يَبْقَى خِيَارُهُ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ (اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْأَيَّامِ) أَرَادَ بِالْأَيَّامِ الْيَوْمَيْنِ: أَعْنِي الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ، (لِأَنَّ رَمْيَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ قَبْلَ الزَّوَالِ جَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ).
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي) يَعْنِي الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ مِمَّا يُرْمَى فِيهِ الْجِمَارُ الثَّلَاثُ، لَا الْأَوَّلُ وَالثَّانِي مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ.
وَقَوْلُهُ (فِي الْمَشْهُورِ مِنْ الرِّوَايَةِ) احْتِزَازٌ عَمَّا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ كَانَ مِنْ قَصْدِهِ أَنْ يَتَعَجَّلَ فِي النَّفْرِ الْأَوَّلِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَرْمِيَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَإِنْ رَمَى بَعْدَهُ فَهُوَ أَفْضَلُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ قَصْدِهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْمِيَ إلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ وَذَلِكَ لِدَفْعِ الْحَرَجِ لِأَنَّهُ إذَا نَفَرَ بَعْدَ الزَّوَالِ لَا يَصِلُ إلَى مَكَّةَ إلَّا بِاللَّيْلِ فَيُحْرَجُ فِي تَحْصِيلِ مَوْضِعِ النُّزُولِ.
وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَرْمِ فِيهِ إلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ.
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) حَاصِلُهُ أَنَّ مَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقْتُ الْجَوَازِ مَعَ الْإِسَاءَةِ وَمَا بَعْدَهُ إلَى الزَّوَالِ وَقْتٌ مَسْنُونٌ وَمَا بَعْدَ الزَّوَالِ إلَى الْغُرُوبِ وَقْتُ الْجَوَازِ مِنْ غَيْرِ إسَاءَةٍ وَاللَّيْلُ وَقْتُ الْجَوَازِ بِالْإِسَاءَةِ، كَذَا فِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَمْتَدُّ) أَيْ وَقْتُ الرَّمْيِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ (إلَى وَقْتِ الزَّوَالِ) لِأَنَّ الْوَقْتَ يُعْرَفُ بِتَوْقِيتِ الشَّرْعِ وَالشَّرْعُ وَرَدَ بِالرَّمْيِ قَبْلَ الزَّوَالِ فَلَا يَكُونُ مَا بَعْدَهُ وَقْتًا لَهُ (وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَا) يَعْنِي قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {إنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا فِي هَذَا الْيَوْمِ}. قَالَ (فَإِنْ رَمَاهَا رَاكِبًا أَجْزَأَهُ) لِحُصُولِ فِعْلِ الرَّمْيِ (وَكُلُّ رَمْيٍ بَعْدَهُ رَمْيٌ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَرْمِيَهُ مَاشِيًا وَإِلَّا فَيَرْمِيهِ رَاكِبًا) لِأَنَّ الْأَوَّلَ بَعْدَهُ وُقُوفٌ وَدُعَاءٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَيَرْمِيهِ مَاشِيًا لِيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى التَّضَرُّعِ، وَبَيَانُ الْأَفْضَلِ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَبَيَانُ الْأَفْضَلِ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ) يَعْنِي بِهِ مَا حُكِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْجَرَّاحِ قَالَ: دَخَلْت عَلَى أَبِي يُوسُفَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَفَتَحَ عَيْنَيْهِ وَقَالَ: الرَّمْيُ رَاكِبًا أَفْضَلُ أَمْ مَاشِيًا؟ فَقَالَ: أَخْطَأْتَ، فَقُلْت رَاكِبًا، فَقَالَ: أَخْطَأْتَ، ثُمَّ قَالَ: كُلُّ رَمْيٍ بَعْدَهُ وُقُوفٌ فَالرَّمْيُ فِيهِ مَاشِيًا أَفْضَلُ، وَمَا لَيْسَ بَعْدَهُ وُقُوفٌ فَالرَّمْيُ فِيهِ رَاكِبًا أَفْضَلُ، فَقُمْت مِنْ عِنْدِهِ فَمَا انْتَهَيْت إلَى بَابِ الدَّارِ حَتَّى سَمِعْت الصُّرَاخَ بِمَوْتِهِ، فَتَعَجَّبْت مِنْ حِرْصِهِ عَلَى الْعِلْمِ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْحَالَةِ.
وَاَلَّذِي رَوَى جَابِرٌ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَى الْجِمَارَ كُلَّهَا رَاكِبًا} فَإِنَّمَا فَعَلَهُ لِيَكُونَ أَشْهَرَ لِلنَّاسِ حَتَّى يَقْتَدُوا بِهِ فِيمَا يُشَاهِدُونَهُ مِنْهُ. وَيُكْرَهُ أَنْ لَا يَبِيتَ بِمِنًى لَيَالِي الرَّمْيِ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَاتَ بِمِنًى، وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُؤَدِّبُ عَلَى تَرْكِ الْمَقَامِ بِهَا.
وَلَوْ بَاتَ فِي غَيْرِهَا مُتَعَمِّدًا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ وَجَبَ لِيَسْهُلَ عَلَيْهِ الرَّمْيُ فِي أَيَّامِهِ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ فَتَرْكُهُ لَا يُوجِبُ الْجَابِرَ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ بَاتَ فِي غَيْرِهِ) أَيْ فِي غَيْرِ مِنًى (مُتَعَمِّدًا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ) فَإِنَّهُ قَالَ: إنْ تَرَكَ الْبَيْتُوتَةَ لَيْلَةً فَعَلَيْهِ مُدٌّ، وَإِنْ تَرَكَهَا لَيْلَتَيْنِ فَعَلَيْهِ مُدَّانِ، وَإِنْ تَرَكَ ثَلَاثَ لَيَالٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ.
وَقَاسَ تَرْكَ الْبَيْتُوتَةِ فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ بِتَرْكِ الرَّمْيِ: وَلَنَا (أَنَّهُ وَجَبَ لِيَسْهُلَ عَلَيْهِ الرَّمْيُ فِي أَيَّامِهِ) يَعْنِي أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْبَيْتُوتَةِ غَيْرُهَا وَهُوَ أَنْ يَسْهُلَ عَلَيْهِ مَا يَقَعُ فِي الْغَدِ مِنْ النُّسُكِ وَهُوَ الرَّمْيُ، فَلَمَّا لَمْ تَكُنْ مَقْصُودَةً لِنَفْسِهَا لَمْ تَكُنْ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ فَلَمْ يُوجِبْ تَرْكَهَا جَابِرًا كَالْبَيْتُوتَةِ بِمِنًى لَيْلَةَ الْعِيدِ. قَالَ (وَيُكْرَهُ أَنْ يُقَدِّمَ الرَّجُلُ ثِقَلَهُ إلَى مَكَّةَ وَيُقِيمَ حَتَّى يَرْمِيَ) لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَمْنَعُ مِنْهُ وَيُؤَدِّبُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ يُوجِبُ شَغْلَ قَلْبِهِ (وَإِذَا نَفَرَ إلَى مَكَّةَ نَزَلَ بِالْمُحَصَّبِ) وَهُوَ الْأَبْطَحُ وَهُوَ اسْمُ مَوْضِعٍ قَدْ نَزَلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ نُزُولُهُ قَصْدًا هُوَ الْأَصَحُّ حَتَّى يَكُونَ النُّزُولُ بِهِ سُنَّةً عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ {إنَّا نَازِلُونَ غَدًا بِالْخَيْفِ خَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمَ الْمُشْرِكُونَ فِيهِ عَلَى شِرْكِهِمْ} يُشِيرُ إلَى عَهْدِهِمْ عَلَى هِجْرَانِ بَنِي هَاشِم فَعَرَفْنَا أَنَّهُ نَزَلَ بِهِ إرَاءَةً لِلْمُشْرِكَيْنِ لَطِيفَ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ، فَصَارَ سُنَّةً كَالرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَيُكْرَهُ أَنْ يُقَدِّمَ الرَّجُلُ ثَقَلَهُ إلَى مَكَّةَ) الثَّقَلُ بِفَتْحَتَيْنِ: مَتَاعُ الْمُسَافِرِ وَحَشَمُهُ وَالْجَمْعُ أَثْقَالٌ، وَالْمُحَصَّبُ: اسْمُ مَوْضِعٍ وَيُسَمَّى الْأَبْطُحَ وَهُوَ مَوْضِعٌ ذُو حَصًى بَيْنَ مَكَّةَ وَمِنًى نَزَلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصْدًا، وَهُوَ الْأَصَحُّ حَتَّى يَكُونَ سُنَّةً.
وَقَوْلُهُ (هُوَ الْأَصَحُّ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ إنَّ النُّزُولَ بِهِ لَيْسَ بِسُنَّةٍ، لَكِنَّهُ مَوْضِعٌ نَزَلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتِّفَاقًا.
وَالْأَصَحُّ عِنْدَنَا أَنَّهُ سُنَّةٌ وَنَزَلَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصْدًا (عَلَى مَا رُوِيَ {أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ بِمِنًى: إنَّا نَازِلُونَ غَدًا بِالْخَيْفِ خَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ} إلَخْ) وَالْخَيْفُ بِسُكُونِ الْيَاءِ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ، وَخَيْفُ بَنِي كِنَانَةَ هُوَ الْمُحَصَّبُ. قَالَ (ثُمَّ دَخَلَ مَكَّةَ وَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ لَا يَرْمُلُ فِيهَا وَهَذَا طَوَافُ الصَّدْرِ) وَيُسَمَّى طَوَافَ الْوَدَاعِ وَطَوَافٌ آخَرُ عَهِدَهُ بِالْبَيْتِ لِأَنَّهُ يُوَدِّعُ الْبَيْتَ وَيَصْدُرُ بِهِ (وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَنَا) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلْيَكُنْ آخِرَ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ الطَّوَافُ} وَرَخَّصَ لِلنِّسَاءِ الْحُيَّضِ تَرْكَهُ.
قَالَ (إلَّا عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ) لِأَنَّهُمْ لَا يُصْدَرُونَ وَلَا يُوَدِّعُونَ، وَلَا رَمَلَ فِيهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ شُرِعَ مَرَّةً وَاحِدَةً.
وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ بَعْدَهُ لِمَا قَدَّمْنَا.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَيُسَمَّى طَوَافَ الْوَدَاعِ) الْوَدَاعُ بِفَتْحِ الْوَاوِ اسْمٌ لِلتَّوْدِيعِ كَسَلَامٍ وَكَلَامٍ وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ عِنْدَهُ سُنَّةٌ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ طَوَافِ الْقُدُومِ، أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَأْتِي بِهِ الْآفَاقِيُّ دُونَ الْمَكِّيِّ وَمَا هُوَ مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ فَالْآفَاقِيُّ وَالْمَكِّيُّ فِيهِ سَوَاءٌ (وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلْيَكُنْ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ الطَّوَافَ} وَأَنَّهُ رَخَّصَ لِلنِّسَاءِ الْحَيْضَ) وَذَلِكَ أَيْضًا دَلِيلُ الْوُجُوبِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ الرُّخْصَةِ بِالْحَيْضِ فَائِدَةٌ وَالْمَكِّيُّ وَالْآفَاقِيُّ فِي وَاجِبَاتِ الْحَجِّ سَوَاءٌ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ مُشْتَرَكَةً وَهَاهُنَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ لِأَنَّ عِلَّةَ هَذَا الطَّوَافِ التَّوْدِيعُ وَلَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي الْمَكِّيِّ وَلَا فِي حَقِّ مَنْ هُوَ فِيمَا وَرَاءَ الْمِيقَاتِ وَلَا فِي حَقِّ مَنْ اتَّخَذَ مَكَّةَ دَارًا ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَخْرُجَ.
لَا يُقَالُ: لَوْ كَانَ وَاجِبًا لِلْوَدَاعِ لَوَجَبَ عَلَى الْمُعْتَمِرِ الْآفَاقِيِّ لِأَنَّ رُكْنَ الْعُمْرَةِ هُوَ الطَّوَافُ فَكَيْفَ يَصِيرُ مِثْلَ رُكْنِهِ تَبَعًا لَهُ؟.
وَقَوْلُهُ (لِمَا قَدَّمْنَا) يَعْنِي فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {وَلِيُصَلِّ الطَّائِفُ لِكُلِّ أُسْبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ}.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ خَتْمَ كُلِّ طَوَافٍ بِرَكْعَتَيْنِ فَرْضًا) كَانَ الطَّوَافُ أَوْ نَفْلًا.