فصل: (كِتَابُ الرَّهْنِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.(فَصْلٌ فِي الرَّمْيِ):

(وَمَنْ سَمِعَ حِسًّا ظَنَّهُ حِسَّ صَيْدٍ فَرَمَاهُ أَوْ أَرْسَلَ كَلْبًا أَوْ بَازِيًا عَلَيْهِ فَأَصَابَ صَيْدًا، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ حِسُّ صَيْدٍ حَلَّ الْمُصَابُ) أَيَّ صَيْدٍ كَانَ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ الِاصْطِيَادَ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ خَصَّ مِنْ ذَلِكَ الْخِنْزِيرَ لِتَغْلِيظِ التَّحْرِيمِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا تَثْبُتُ الْإِبَاحَةُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ بِخِلَافِ السِّبَاعِ؛ لِأَنَّهُ يُؤْثَرُ فِي جِلْدِهَا وَزُفَرُ خَصَّ مِنْهَا مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ؛ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ فِيهِ لَيْسَ لِلْإِبَاحَةِ وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ اسْمَ الِاصْطِيَادِ لَا يَخْتَصُّ بِالْمَأْكُولِ فَوَقَعَ الْفِعْلُ اصْطِيَادًا وَهُوَ فِعْلٌ مُبَاحٌ فِي نَفْسِهِ، وَإِبَاحَةُ التَّنَاوُلِ تَرْجِعُ إلَى الْمَحَلِّ فَتَثْبُتُ بِقَدْرِ مَا يَقْبَلُهُ لَحْمًا وَجِلْدًا، وَقَدْ لَا تَثْبُتُ إذَا لَمْ يَقْبَلْهُ، وَإِذَا وَقَعَ اصْطِيَادًا صَارَ كَأَنَّهُ رَمَى إلَى صَيْدٍ فَأَصَابَ غَيْرَهُ (وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ حِسُّ آدَمِيٍّ أَوْ حَيَوَانٍ أَهْلِيٍّ لَا يَحِلُّ الْمُصَابُ)؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَيْسَ بِاصْطِيَادٍ (وَالطَّيْرُ الدَّاجِنُ الَّذِي يَأْوِي الْبُيُوتَ أَهْلِيٌّ وَالظَّبْيُ الْمُوَثَّقُ بِمَنْزِلَتِهِ) لِمَا بَيَّنَّا (وَلَوْ رَمَى إلَى طَائِرٍ فَأَصَابَ صَيْدًا وَمَرَّ الطَّائِرُ وَلَا يَدْرِي وَحْشِيٌّ هُوَ أَوْ غَيْرُ وَحْشِيٍّ حَلَّ الصَّيْدُ)؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ فِيهِ التَّوَحُّشُ (وَلَوْ رَمَى إلَى بَعِيرٍ فَأَصَابَ صَيْدًا وَلَا يَدْرِي نَادٌّ هُوَ أَمَّ لَا لَا يَحِلُّ الصَّيْدُ)؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الِاسْتِئْنَاسُ (وَلَوْ رَمَى إلَى سَمَكَةٍ أَوْ جَرَادَةٍ فَأَصَابَ صَيْدًا يَحِلُّ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ)؛ لِأَنَّهُ صَيْدٌ، وَفِي أُخْرَى عَنْهُ لَا يَحِلُّ؛ لِأَنَّهُ لَا ذَكَاةَ فِيهِمَا (وَلَوْ رَمَى فَأَصَابَ الْمَسْمُوعَ حِسُّهُ وَقَدْ ظَنَّهُ آدَمِيًّا فَإِذَا هُوَ صَيْدٌ يَحِلُّ)؛ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِظَنِّهِ مَعَ تَعَيُّنِهِ (فَإِذَا سَمَّى الرَّجُلُ عِنْدَ الرَّمْيِ أُكِلَ مَا أَصَابَ إذَا جَرَحَ السَّهْمُ فَمَاتَ)؛ لِأَنَّهُ ذَابِحٌ بِالرَّمْيِ لِكَوْنِ السَّهْمِ آلَةً لَهُ فَتُشْتَرَطُ التَّسْمِيَةُ عِنْدَهُ، وَجَمِيعُ الْبَدَنِ مَحَلٌّ لِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الذَّكَاةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْجُرْحِ لِيَتَحَقَّقَ مَعْنَى الذَّكَاةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ قَالَ (وَإِذَا أَدْرَكَهُ حَيًّا ذَكَّاهُ) وَقَدْ بَيَّنَّاهَا بِوُجُوهِهَا، وَالِاخْتِلَافِ فِيهَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَلَا نُعِيدُهُ.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ فِي الرَّمْيِ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ حُكْمِ الْآلَةِ الْحَيَوَانِيَّةِ شَرَعَ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْآلَةِ الْجَمَادِيَّةِ.
وَالْحِسُّ: الصَّوْتُ الْخَفِيُّ (وَمَنْ سَمِعَ حِسًّا فَظَنَّهُ حِسَّ صَيْدٍ فَرَمَاهُ أَوْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ أَوْ بَازِيَهُ فَأَصَابَ صَيْدًا) ظَبْيًا مَثَلًا، فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَسْمُوعَ حِسُّهُ آدَمِيٌّ أَوْ بَقَرٌ أَوْ شَاةٌ لَمْ يَحِلَّ الظَّبْيُ الْمُصَابُ مَثَلًا فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا لِأَنَّهُ أَرْسَلَ إلَى غَيْرِ صَيْدٍ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمُ الْإِبَاحَةِ وَصَارَ كَأَنَّهُ رَمَى إلَى آدَمِيٍّ عَالِمًا بِهِ فَأَصَابَ صَيْدًا فَإِنَّهُ لَا يُؤْكَلُ (وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَسْمُوعَ حِسُّهُ صَيْدٌ حَلَّ الْمُصَابُ أَيَّ صَيْدٍ كَانَ) الْمَسْمُوعُ حِسُّهُ: يَعْنِي سَوَاءٌ كَانَ مَأْكُولَ اللَّحْمِ أَوْ لَمْ يَكُنْ (لِأَنَّهُ قَصَدَ الِاصْطِيَادَ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَسْمُوعَ حِسُّهُ إذَا ظَهَرَ خِنْزِيرًا لَمْ يَحِلَّ أَكْلُ الصَّيْدِ الْمُصَابِ لِتَغْلِيظِ التَّحْرِيمِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا تَثْبُتُ الْإِبَاحَةُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ بِخِلَافِ سَائِرِ السِّبَاعِ) لِأَنَّهُ أَيْ الِاصْطِيَادُ (يُؤَثِّرُ فِي جِلْدِهَا، وَزُفَرُ خَصَّ مِنْهَا) أَيْ مِنْ جُمْلَةِ الْمَسْمُوعِ حِسُّهُ (مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، لِأَنَّ الْإِرْسَالَ فِيهِ لَيْسَ لِلْإِبَاحَةِ) فَكَانَ هُوَ وَالْآدَمِيُّ سَوَاءً (وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ اسْمَ الِاصْطِيَادِ لَا يَخْتَصُّ بِالْمَأْكُولِ) وَمَا هُوَ كَذَلِكَ فَالْمَأْكُولُ وَغَيْرُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ سَوَاءٌ فَإِذَا قَصَدَ بِفِعْلِهِ الِاصْطِيَادَ وَقَعَ الْفِعْلُ اصْطِيَادًا، إذْ الِاصْطِيَادُ فِعْلٌ مُبَاحٌ فِي نَفْسِهِ يُفِيدُ إبَاحَةَ الْمُصَابِ بِشَرْطِ قَبُولِهِ الْإِبَاحَةَ حَتَّى لَوْ لَمْ يَقْبَلْهَا كَمَا إذَا كَانَ خِنْزِيرًا لَمْ تَثْبُتْ الْإِبَاحَةُ وَلَكِنْ لَا يَخْرُجُ الْفِعْلُ عَنْ كَوْنِهِ اصْطِيَادًا مُبَاحًا.
وَإِذَا قَتَلَهَا، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَحِلُّ تَنَاوُلُهُ تَثْبُتُ إبَاحَةُ تَنَاوُلِهِ لِغَيْرِ السِّبَاعِ مِنْ الْبَهَائِمِ وَالطُّيُورِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَحِلُّ تَنَاوُلُهُ تَثْبُتُ إبَاحَةُ جِلْدِهِ فَثَبَتَ أَنَّ فِعْلَهُ وَقَعَ اصْطِيَادًا، وَإِبَاحَةُ التَّنَاوُلِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْمَحَلِّ لَيْسَ بِمُخْرِجٍ لَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَإِذَا وَقَعَ اصْطِيَادًا كَانَ كَأَنَّهُ رَمَى إلَى صَيْدٍ فَأَصَابَ غَيْرَهُ.
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ حِسُّ آدَمِيٍّ) قَدَّمْنَاهُ آنِفًا.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الْفِعْلَ لَيْسَ بِاصْطِيَادٍ) إذْ الِاصْطِيَادُ عِبَارَةٌ عَنْ تَحْصِيلِ مُتَوَحِّشٍ، وَعَلَى هَذَا فَالدَّاجِنُ الَّذِي يَأْوِي الْبُيُوتَ أَهْلِيٌّ، وَالظَّبْيُ الْمُوثَقُ: أَيْ الْمَشْدُودُ بِالْوَثَاقِ بِمَنْزِلَتِهِ: أَيْ بِمَنْزِلَةِ الْآدَمِيِّ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْفِعْلَ لَيْسَ بِاصْطِيَادٍ، ثُمَّ إذَا جَهِلَ تَوَحُّشَ الْمَقْصُودِ بِرَمْيِهِ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْأَصْلُ، وَعَلَى هَذَا تَخْرُجُ الْمَسْأَلَتَانِ الْمَذْكُورَتَانِ فِي الْكِتَابِ.
وَقَوْلُهُ (وَفِي أُخْرَى عَنْهُ لَا يَحِلُّ لِأَنَّهُ لَا ذَكَاةَ فِيهِمَا) يُشِيرُ إلَى أَنَّ كَوْنَ مَا تَبَيَّنَ حِسُّهُ مِنْ الصَّيُودِ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ حَلَّ أَكْلُهُ مَشْرُوطًا بِالذَّبْحِ، حَتَّى لَوْ سَمِعَ حِسًّا فَظَنَّهُ صَيْدًا فَرَمَاهُ فَأَصَابَ ظَبْيًا ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَسْمُوعَ حِسُّهُ سَمَكَةٌ لَمْ يُؤْكَلْ الصَّيْدُ، وَلَوْ سَمِعَ حِسًّا وَظَنَّهُ آدَمِيًّا وَرَمَاهُ فَأَصَابَ الْمَسْمُوعَ حِسُّهُ وَهُوَ صَيْدٌ حَلَّ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِظَنِّهِ مَعَ تَعَيُّنِ كَوْنِهِ صَيْدًا.
فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، وَهِيَ أَنَّ مَنْ سَمِعَ حِسًّا ظَنَّهُ صَيْدًا فَرَمَاهُ فَأَصَابَ صَيْدًا ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ حِسُّ آدَمِيٍّ أَوْ حَيَوَانٍ أَهْلِيٍّ لَا يَحِلُّ الْمُصَابُ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ رَمْيَ الْآدَمِيِّ وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَصَدَ رَمْيِ الْآدَمِيِّ وَرَمْيُ الْآدَمِيِّ لَيْسَ بِاصْطِيَادٍ وَقَدْ حَلَّ الْمُصَابُ.
وَالْقِيَاسُ إمَّا شُمُولُ الْحِلِّ أَوْ شُمُولُ عَدَمِهِ أَوْ انْعِكَاسُ الْجَوَابِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا حَلَّ الْمُصَابُ مَعَ اقْتِرَانِ ظَنِّهِ بِأَنَّهُ آدَمِيٌّ فَفِيمَا إذَا اقْتَرَنَ ظَنُّهُ بِأَنَّهُ صَيْدٌ أَوْلَى، أَوْ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِعْلُهُ اصْطِيَادًا نَظَرًا إلَى قَصْدِهِ فَلَا يَحِلُّ الْمُصَابُ هَاهُنَا، وَحَلَّ هُنَاكَ لِذَلِكَ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْفَرْقَ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِظَنِّهِ مَعَ تَعَيُّنِهِ: أَيْ تَعَيُّنِ كَوْنِهِ صَيْدًا.
وَبَيَانُهُ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَصَابَ سَهْمُهُ غَيْرَ الْمَسْمُوعِ حِسُّهُ وَالْمَسْمُوعُ حِسُّهُ لَيْسَ بِصَيْدٍ فَكَانَ فِعْلُهُ مُتَوَجِّهًا إلَى غَيْرِ الصَّيْدِ نَظَرًا إلَى فِعْلِهِ الَّذِي تَوَجَّهَ لِلْمَسْمُوعِ حِسُّهُ وَهُوَ لَيْسَ بِصَيْدٍ فَلَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ اصْطِيَادًا، وَحِلُّ الصَّيْدِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِوُجُودِ فِعْلِ الِاصْطِيَادِ فَلَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ لِانْعِدَامِ فِعْلِ الِاصْطِيَادِ.
وَأَمَّا هَاهُنَا فَسَهْمُهُ أَصَابَ عَيْنَ الْمَسْمُوعِ حِسُّهُ وَعَيْنُهُ صَيْدٌ فَكَانَ الْفِعْلُ وَاقِعًا عَلَى الصَّيْدِ وَهُوَ الِاصْطِيَادُ بِحَقِيقَتِهِ، فَلَمَّا وَجَدَ الِاصْطِيَادَ بِحَقِيقَتِهِ لَمْ يُعْتَبَرْ ظَنُّهُ ذَلِكَ الْمُخَالِفَ لِفِعْلِهِ الَّذِي هُوَ اصْطِيَادٌ بِحَقِيقَتِهِ، وَالظَّنُّ إذَا وَقَعَ مُخَالِفًا لِحَقِيقَةِ فِعْلِهِ كَانَ الظَّنُّ لَغْوًا فَيَحِلُّ أَكْلُ الْمُصَابِ لِوُجُودِ فِعْلِ الِاصْطِيَادِ.
وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ) يَعْنِي فِي فَصْلِ الْجَوَارِحِ بِقَوْلِهِ وَلَا بُدَّ مِنْ الْجَرْحِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إلَخْ. قَالَ (وَإِذَا وَقَعَ السَّهْمُ بِالصَّيْدِ فَتَحَامَلَ حَتَّى غَابَ عَنْهُ وَلَمْ يَزَلْ فِي طَلَبِهِ حَتَّى أَصَابَهُ مَيِّتًا أُكِلَ، وَإِنْ قَعَدَ عَنْ طَلَبِهِ) ثُمَّ أَصَابَهُ مَيِّتًا لَمْ يُؤْكَلْ، لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «أَنَّهُ كَرِهَ أَكْلَ الصَّيْدِ إذَا غَابَ عَنْ الرَّامِي وَقَالَ: لَعَلَّ هَوَامَّ الْأَرْضِ قَتَلَتْهُ» وَلِأَنَّ احْتِمَالَ الْمَوْتِ بِسَبَبٍ آخَرَ قَائِمٌ فَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَحِلَّ أَكْلُهُ؛ لِأَنَّ الْمَوْهُومَ فِي هَذَا كَالْمُتَحَقِّقِ لِمَا رَوَيْنَا، إلَّا أَنَّا أَسْقَطْنَا اعْتِبَارَهُ مَا دَامَ فِي طَلَبِهِ ضَرُورَةَ أَنْ لَا يَعْرَى الِاصْطِيَادُ عَنْهُ، وَلَا ضَرُورَةَ فِيمَا إذَا قَعَدَ عَنْ طَلَبِهِ لِإِمْكَانِ التَّحَرُّزِ عَنْ تَوَارٍ يَكُونُ بِسَبَبِ عَمَلِهِ، وَاَلَّذِي رَوَيْنَاهُ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ إنَّ مَا تَوَارَى عَنْهُ إذَا لَمْ يَبِتْ يَحِلُّ فَإِذَا بَاتَ لَيْلَةً لَمْ يَحِلَّ (وَلَوْ وُجِدَ بِهِ جِرَاحَةٌ سِوَى جِرَاحَةِ سَهْمِهِ لَا يَحِلُّ)؛ لِأَنَّهُ مَوْهُومٌ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَاعْتُبِرَ مُحَرَّمًا، بِخِلَافِ وَهْمِ الْهَوَامِّ وَالْجَوَابُ فِي إرْسَالِ الْكَلْبِ فِي هَذَا كَالْجَوَابِ فِي الرَّمْيِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (فَتَحَامَلَ) التَّحَامُلُ فِي الْمَشْيِ أَنْ يَتَكَلَّفَهُ عَلَى مَشَقَّةٍ وَإِعْيَاءٍ يُقَالُ تَحَامَلْت فِي الْمَشْيِ.
وَقَوْلُهُ (حَتَّى أَصَابَهُ مَيِّتًا أُكِلَ) قِيلَ إذَا وَجَدَهُ وَفِيهِ جِرَاحَةُ سَهْمِهِ لَا غَيْرُ، وَأَمَّا إذَا وَجَدَهُ وَفِيهِ جِرَاحَةٌ أُخْرَى فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَهُ تَرَكَ الطَّلَبَ أَوْ لَمْ يَتْرُكْ كَمَا سَيَجِيءُ، لِأَنَّهُ ظَهَرَ لِمَوْتِهِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا يُوجِبُ الْحِلَّ، وَالْآخَرُ يُوجِبُ الْحُرْمَةَ فَيَغْلِبُ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُؤْكَلُ لِأَنَّهُ ظَهَرَ لِمَوْتِهِ سَبَبٌ وَهُوَ مَا كَانَ مَعَهُ مِنْ الرَّمْيِ، وَالْحُكْمُ مَتَى ظَهَرَ عَقِيبَ سَبَبٍ يُحَالُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ جَرَحَ إنْسَانًا فَلَمْ يَزَلْ صَاحِبَ فِرَاشٍ حَتَّى مَاتَ يُجْعَلُ قَاتِلًا.
قُلْنَا: لَمَّا وُجِدَ فِيهِ جَرْحُ غَيْرِهِ كَانَ الْقَتْلُ مِنْهُ مَوْهُومًا: وَالْمَوْهُومُ فِي هَذَا كَالْمُتَحَقِّقِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَلَّ هَوَامَّ الْأَرْضِ قَتَلَتْهُ» قَالَهُ حِينَ «أَهْدَى رَجُلٌ إلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَيْدًا فَقَالَ مَنْ أَيْنَ لَك هَذَا؟ قَالَ كُنْت رَمَيْته بِالْأَمْسِ وَكُنْت فِي طَلَبِهِ حَتَّى حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ ثُمَّ وَجَدَتْهُ الْيَوْمَ مَيِّتًا وَفِيهِ مِزْرَاقِي، وَهُوَ الرُّمْحُ الصَّغِيرُ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لَا أَدْرِي لَعَلَّ هَوَامَّ الْأَرْضِ قَتَلَتْهُ» الْحَدِيثَ، وَهُوَ كَمَا يَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ مَا إذَا قَعَدَ عَنْ طَلَبِهِ ثُمَّ وَجَدَهُ مَيِّتًا.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ احْتِمَالَ الْمَوْتِ) دَلِيلٌ مَعْقُولٌ عَلَى ذَلِكَ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الِاحْتِمَالُ بَاقٍ إذَا كَانَ فِي طَلَبِهِ أَيْضًا.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ إلَّا أَنَّا أَسْقَطْنَا اعْتِبَارَهُ مَا دَامَ فِي طَلَبِهِ ضَرُورَةَ أَنَّ الِاصْطِيَادَ لَا يَعْرَى عَنْ ذَلِكَ، وَلَا ضَرُورَةَ فِيمَا إذَا قَعَدَ عَنْ طَلَبِهِ لِإِمْكَانِ الِاحْتِرَازِ عَنْ تَوَارٍ يَكُونُ بِسَبَبِ عَمَلِهِ.
وَقَوْلُهُ (وَاَلَّذِي رَوَيْنَاهُ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ إنَّ مَا تَوَارَى عَنْهُ مَا إذَا لَمْ يَبِتْ يَحِلُّ) يَعْنِي وَإِنْ رَأَى فِيهِ أَثَرَ سَبُعٍ، وَاحْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ سَمِعَ أَهْلَ الْعِلْمِ كَذَلِكَ وَكَأَنَّهُ بَنَى الْأَمْرَ عَلَى الْغَالِبِ، لِأَنَّهُ إذَا بَاتَ عَنْهُ قَعَدَ عَنْ طَلَبِهِ غَالِبًا.
وَوَجْهُ كَوْنِ مَا رَوَيْنَاهُ حُجَّةً عَلَيْهِ أَنَّهُ كَرِهَ أَكْلَ الصَّيْدِ إذَا غَابَ عَنْ الرَّامِي.
فَإِنْ قِيلَ: إنْ كَانَ مَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ كَرَاهَتِهِ أَكْلَ الصَّيْدِ إذَا غَابَ عَنْ الرَّامِي حُجَّةً عَلَيْهِ، فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَعَلَّ هَوَامَّ الْأَرْضِ قَتَلَتْهُ» حُجَّةٌ لَهُ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ قِصَّتِهِ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَهُ لِمَنْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّيْدِ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ خُصُوصَ السَّبَبِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَاعْتِبَارُ قَتْلِ الْهَوَامِّ عِنْدَ الْغَيْبَةِ مَوْجُودٌ فَيَكُونُ حَرَامًا.
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ وَجَدَ بِهِ جِرَاحَةً) قَدَّمْنَاهُ وَالْخِلَافُ فِيهِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ مَوْهُومٌ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ) لِأَنَّ الصَّيْدَ قَدْ يَخْلُو عَنْ رَمْيِ الْغَيْرِ مُحَرَّمًا، بِخِلَافِ وَهْمِ الْهَوَامِّ فَإِنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ لِأَنَّ الصَّيْدَ لابد أَنْ يَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ وَالْأَرْضُ لَا تَخْلُو عَنْهَا فَلَا يُجْعَلُ مُحَرَّمًا إذَا لَمْ يَقْعُدْ عَنْ الطَّلَبِ. قَالَ (وَإِذَا رَمَى صَيْدًا فَوَقَعَ فِي الْمَاءِ أَوْ وَقَعَ عَلَى سَطْحٍ أَوْ جَبَلٍ ثُمَّ تَرَدَّى مِنْهُ إلَى الْأَرْضِ لَمْ يُؤْكَلْ)؛ لِأَنَّهُ الْمُتَرَدِّيَةُ وَهِيَ حَرَامٌ بِالنَّصِّ، وَلِأَنَّهُ احْتَمَلَ الْمَوْتَ بِغَيْرِ الرَّمْيِ؛ إذْ الْمَاءُ مُهْلِكٌ وَكَذَا السُّقُوطُ مِنْ عَالٍ، يُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعَدِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «وَإِنْ وَقَعَتْ رَمِيَّتُك فِي الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّك لَا تَدْرِي أَنَّ الْمَاءَ قَتَلَهُ أَوْ سَهْمُك» (وَإِنْ وَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ ابْتِدَاءً أُكِلَ)؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، وَفِي اعْتِبَارِهِ سَدَّ بَابِ الِاصْطِيَادِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ، فَصَارَ الْأَصْلُ أَنَّ سَبَبَ الْحُرْمَةِ وَالْحِلِّ إذَا اجْتَمَعَا وَأَمْكَنَ التَّحَرُّزُ عَمَّا هُوَ سَبَبُ الْحُرْمَةِ تُرَجَّحُ جِهَةُ الْحُرْمَةِ احْتِيَاطًا، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ جَرَى وُجُودُهُ مَجْرَى عَدَمِهِ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِحَسَبِ الْوُسْعِ، فَمِمَّا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ إذَا وَقَعَ عَلَى شَجَرٍ أَوْ حَائِطٍ أَوْ آجُرَّةٍ ثُمَّ وَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ أَوْ رَمَاهُ، وَهُوَ عَلَى جَبَلٍ فَتَرَدَّى مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ حَتَّى تَرَدَّى إلَى الْأَرْضِ، أَوْ رَمَاهُ فَوَقَعَ عَلَى رُمْحٍ مَنْصُوبٍ أَوْ عَلَى قَصَبَةٍ قَائِمَةٍ أَوْ عَلَى حَرْفِ آجُرَّةٍ لِاحْتِمَالِ أَنَّ حَدَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ قَتَلَهُ، وَمِمَّا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ إذَا وَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، أَوْ عَلَى مَا هُوَ مَعْنَاهُ كَجَبَلٍ أَوْ ظَهْرِ بَيْتٍ أَوْ لَبِنَةٍ مَوْضُوعَةٍ أَوْ صَخْرَةٍ فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ وُقُوعَهُ عَلَيْهِ وَعَلَى الْأَرْضِ سَوَاءٌ وَذُكِرَ فِي الْمُنْتَفَى: لَوْ وَقَعَ عَلَى صَخْرَةٍ فَانْشَقَّ بَطْنُهُ لَمْ يُؤْكَلْ لِاحْتِمَالِ الْمَوْتِ بِسَبَبٍ آخَرَ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ وَحُمِلَ مُطْلَقُ الْمَرْوِيِّ فِي الْأَصْلِ عَلَى غَيْرِ حَالَةِ الِانْشِقَاقِ، وَحَمَلَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى مَا أَصَابَهُ حَدُّ الصَّخْرَةِ فَانْشَقَّ بَطْنُهُ بِذَلِكَ، وَحَمَلَ الْمَرْوِيَّ فِي الْأَصْلِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُصِبْهُ مِنْ الْآجُرَّةِ إلَّا مَا يُصِيبُهُ مِنْ الْأَرْضِ لَوْ وَقَعَ عَلَيْهَا وَذَلِكَ عَفْوٌ وَهَذَا أَصَحُّ وَإِنْ كَانَ الطَّيْرُ مَائِيًّا، فَإِنْ كَانَتْ الْجِرَاحَةُ لَا تَنْغَمِسُ فِي الْمَاءِ أُكِلَ، وَإِنْ انْغَمَسَتْ لَا يُؤْكَلُ كَمَا إذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِذَا رَمَى صَيْدًا فَوَقَعَ فِي الْمَاءِ إلَخْ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ، وَهُوَ فِي الْمَعْنَى مُقَيَّدٌ بِأَنْ لَا يَكُونَ الْجَرْحُ مُهْلِكًا فِي الْحَالِ عَلَى مَا سَيَأْتِي.
قَوْلُهُ (وَكَذَا السُّقُوطُ مِنْ عَالٍ) وَهُوَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ عُلْوٍ، وَهُوَ لُغَةٌ فِي الْأَوَّلِ مَضْمُومًا وَمَفْتُوحًا وَمَكْسُورًا.
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ وَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ ابْتِدَاءً أُكِلَ) يَعْنِي إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْأَرْضِ مَا يَقْتُلُهُ كَحَدِّ الرُّمْحِ وَالْقَصَبَةِ الْمَنْصُوبَةِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ وَقَوْلُهُ (وَذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى) يُرِيدُ بَيَانَ مَا وَقَعَ مِنْ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ رِوَايَةِ الْأَصْلِ وَهِيَ قَوْلُهُ أَوْ صَخْرَةً فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهَا وَبَيْنَ رِوَايَةِ الْمُنْتَقَى وَصَحَّحَ الْحَاكِمُ رِوَايَةَ الْمُنْتَقَى وَحَمَلَ الْمُطْلَقَ الْمَرْوِيَّ فِي الْأَصْلِ مِنْ قَوْلِهِ فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهَا عَلَى غَيْرِ حَالَةِ الِانْشِقَاقِ وَحَمَلَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ رِوَايَةَ الْمُنْتَقَى عَلَى مَا أَصَابَهُ حَدُّ الصَّخْرَةِ فَانْشَقَّ بَطْنُهُ لِذَلِكَ وَحُمِلَ الْمَرْوِيُّ فِي الْأَصْلِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُصِبْهُ مِنْ الْآجِرَةِ إلَّا مَا يُصِيبُهُ مِنْ الْأَرْضِ لَوْ وَقَعَ عَلَيْهِ وَذَلِكَ عَفْوٌ كَمَا إذَا وَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ وَانْشَقَّ بَطْنُهُ.
وَفِي الْجُمْلَةِ فَلَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ، وَهَذَا: أَيْ مَا فَعَلَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَصَحُّ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْأَصْلِ مُطْلَقٌ فَيَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ، وَحَمْلُهُ عَلَى غَيْرِ حَالَةِ الِانْشِقَاقِ يُحْوِجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْجَبَلِ وَالْأَرْضِ فِي الِانْشِقَاقِ، فَإِنَّهُ لَوْ انْشَقَّ بِوُقُوعِهِ عَلَى الْأَرْضِ أُكِلَ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ.
وَقَوْلُهُ (كَمَا إذَا وَقَعَ) أَيْ غَيْرُ الْمَائِيِّ (فِي الْمَاءِ). قَالَ (وَمَا أَصَابَهُ الْمِعْرَاضُ بِعَرْضِهِ لَمْ يُؤْكَلْ، وَإِنْ جَرَحَهُ يُؤْكَلُ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهِ «مَا أَصَابَ بِحَدِّهِ فَكُلْ، وَمَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَلَا تَأْكُلْ» وَلِأَنَّهُ لابد مِنْ الْجُرْحِ لِيَتَحَقَّقَ مَعْنَى الذَّكَاةِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَا أَصَابَ الْمِعْرَاضُ بِعَرْضِهِ) الْمِعْرَاضُ سَهْمٌ لَا رِيشَ لَهُ يَمْضِي عَرْضًا فَيُصِيبُ بِعَرْضِهِ لَا بِحَدِّهِ، وَالْبُنْدُقَةُ طِينَةٌ مُدَوَّرَةٌ يُرْمَى بِهَا. قَالَ (وَلَا يُؤْكَلُ مَا أَصَابَتْهُ الْبُنْدُقَةُ فَمَاتَ بِهَا)؛ لِأَنَّهَا تَدُقُّ وَتَكْسِرُ وَلَا تَجْرَحُ فَصَارَ كَالْمِعْرَاضِ إذَا لَمْ يَخْزِقُ، وَكَذَلِكَ إنْ رَمَاهُ بِحَجَرٍ، وَكَذَا إنْ جَرَحَهُ قَالُوا: تَأْوِيلُهُ إذَا كَانَ ثَقِيلًا وَبِهِ حِدَةٌ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ قَتَلَهُ بِثِقَلِهِ، وَإِنْ كَانَ الْحَجَرُ خَفِيفًا وَبِهِ حِدَةٌ يَحِلُّ لِتَعَيُّنِ الْمَوْتِ بِالْجُرْحِ، وَلَوْ كَانَ الْحَجَرُ خَفِيفًا، وَجَعَلَهُ طَوِيلًا كَالسَّهْمِ وَبِهِ حِدَةٌ فَإِنَّهُ يَحِلُّ؛ لِأَنَّهُ يَقْتُلُهُ بِجُرْحِهِ، وَلَوْ رَمَاهُ بِمَرْوَةِ حَدِيدَةٍ وَلَمْ تُبْضِعْ بِضْعًا لَا يَحِلُّ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ دَقًّا، وَكَذَا إذَا رَمَاهُ بِهَا فَأَبَانَ رَأْسَهُ أَوْ قَطَعَ أَوْدَاجَهُ؛ لِأَنَّ الْعُرُوقَ تَنْقَطِعُ بِثِقَلِ الْحَجَرِ كَمَا تَنْقَطِعُ بِالْقَطْعِ فَوْقَ الشَّكِّ أَوْ لَعَلَّهُ مَاتَ قَبْلَ قَطْعِ الْأَوْدَاجِ، وَلَوْ رَمَاهُ بِعَصًا أَوْ بِعُودٍ حَتَّى قَتَلَهُ لَا يَحِلُّ؛ لِأَنَّهُ يَقْتُلُهُ ثِقَلًا لَا جُرْحًا، اللَّهُمَّ إلَّا إذَا كَانَ لَهُ حِدَةٌ يُبْضِعُ بِضْعًا فَحِينَئِذٍ لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ السَّيْفِ وَالرُّمْحِ وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ الْمَوْتَ إذَا كَانَ مُضَافًا إلَى الْجُرْحِ بِيَقِينٍ كَانَ الصَّيْدُ حَلَالًا، وَإِذَا كَانَ مُضَافًا إلَى الثِّقَلِ بِيَقِينٍ كَانَ حَرَامًا، وَإِنْ وَقَعَ الشَّكُّ وَلَا يَدْرِي مَاتَ بِالْجُرْحِ أَوْ بِالثِّقَلِ كَانَ حَرَامًا احْتِيَاطًا، وَإِنْ رَمَاهُ بِسَيْفٍ أَوْ بِسِكِّينٍ فَأَصَابَهُ بِحَدِّهِ فَجَرَحَهُ حَلَّ، وَإِنْ أَصَابَهُ بِقَفَا السِّكِّينِ أَوْ بِمِقْبَضِ السَّيْفِ لَا يَحِلُّ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ دَقًّا، وَالْحَدِيدُ وَغَيْرُهُ فِيهِ سَوَاءٌ وَلَوْ رَمَاهُ فَجَرَحَهُ وَمَاتَ بِالْجُرْحِ، إنْ كَانَ الْجُرْحُ مُدْمِيًا يَحِلُّ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُدْمِيًا فَكَذَلِكَ عِنْدَ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ سَوَاءٌ كَانَتْ الْجِرَاحَةُ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً؛ لِأَنَّ الدَّمَ قَدْ يَحْتَبِسُ بِضِيقِ الْمَنْفَذِ أَوْ غِلَظِ الدَّمِ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ يُشْتَرَطُ الْإِدْمَاءُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَأَفْرَى الْأَوْدَاجَ فَكُلْ» شَرَطَ الْإِنْهَارَ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ إنْ كَانَتْ كَبِيرَةً حَلَّ بِدُونِ الْإِدْمَاءِ، وَلَوْ ذَبَحَ شَاةً وَلَمْ يَسِلْ مِنْهُ الدَّمُ قِيلَ لَا تَحِلُّ وَقِيلَ تَحِلُّ وَوَجْهُ الْقَوْلَيْنِ دَخَلَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ وَإِذَا أَصَابَ السَّهْمُ ظِلْفَ الصَّيْدِ أَوْ قَرْنَهُ، فَإِنْ أَدْمَاهُ حَلَّ وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا يُؤَيِّدُ بَعْضَ مَا ذَكَرْنَاهُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (إذَا لَمْ يَخْزِقْ) بِالزَّايِ الْمُعْجَمَةِ خَزَقَ الْمِعْرَاضُ: أَيْ نَفَذَ، وَبِالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ خَطَأٌ.
وَقَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ إنْ جَرَحَهُ) يَعْنِي إذَا رَمَاهُ بِحَجَرٍ فَجَرَحَهُ، فَإِنْ كَانَ ثَقِيلًا وَبِهِ حِدَةٌ، قَالُوا لَا يُؤْكَلُ لِاحْتِمَالِ أَنَّ قَتْلَهُ بِثِقَلِهِ، وَإِنْ كَانَ خَفِيفًا وَبِهِ حِدَةٌ أُكِلَ.
وَالْمَرْوَةُ: حَجَرٌ أَبْيَضُ رَقِيقٌ كَالسِّكِّينِ يُذْبَحُ بِهِ، وَاَللَّهُمَّ يُسْتَعْمَلُ عَقِيبَهُ إلَّا إذَا كَانَ الْمُسْتَثْنَى عَزِيزًا نَادِرًا إيذَانًا بِأَنَّهُ بَلَغَ فِي النُّدْرَةِ حَدَّ الشُّذُوذِ.
وَقَوْلُهُ (قِيلَ لَا يَحِلُّ) هُوَ قَوْلُ أَبِي الْقَاسِمِ الصَّفَّارِ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ الدَّمَ النَّجِسَ لَمْ يَسِلْ فَلَا يَكُونُ بِمَعْنَى الذَّبْحِ.
وَقِيلَ يَحِلُّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْكَافِ لِوُجُودِ الذَّكَاةِ بَيْنَ اللَّبَّةِ وَاللَّحْيَيْنِ، وَالدَّمُ قَدْ يُحْتَبَسُ لِغِلَظِهِ أَوْ لِضِيقِ الْمَنْفَذِ.
وَقَوْلُهُ (وَهَذَا يُؤَيِّدُ بَعْضَ مَا ذَكَرْنَاهُ) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَ أَبِي الْقَاسِمِ الصَّفَّارِ فَإِنَّهُ شَرَطَ سَيَلَانَ الدَّمِ. قَالَ (وَإِذَا رَمَى صَيْدًا فَقَطَعَ عُضْوًا مِنْهُ أُكِلَ الصَّيْدُ) لِمَا بَيَّنَّاهُ (وَلَا يُؤْكَلُ الْعُضْوُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أُكِلَا إنْ مَاتَ الصَّيْدُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مُبَانٌ بِذَكَاةِ الِاضْطِرَارِ فَيَحِلُّ الْمُبَانُ وَالْمُبَانُ مِنْهُ كَمَا إذَا أُبِينَ الرَّأْسُ بِذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَمُتْ؛ لِأَنَّهُ مَا أُبِينَ بِالذَّكَاةِ وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَا أُبِينَ مِنْ الْحَيِّ فَهُوَ مَيِّتٌ» ذِكْرُ الْحَيِّ مُطْلَقًا فَيَنْصَرِفُ إلَى الْحَيِّ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَالْعُضْوُ الْمُبَانُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ؛ لِأَنَّ الْمُبَانَ مِنْهُ حَيٌّ حَقِيقَةً لِقِيَامِ الْحَيَاةِ فِيهِ، وَكَذَا حُكْمًا؛ لِأَنَّهُ تُتَوَهَّمُ سَلَامَتُهُ بَعْدَ هَذِهِ الْجِرَاحَةِ وَلِهَذَا اعْتَبَرَهُ الشَّرْعُ حَيًّا، حَتَّى لَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ وَفِيهِ حَيَاةٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَحْرُمُ وَقَوْلُهُ (أُبِينَ بِالذَّكَاةِ) قُلْنَا حَالَ وُقُوعِهِ لَمْ يَقَعْ ذَكَاةً لِبَقَاءِ الرُّوحِ فِي الْبَاقِي، وَعِنْدَ زَوَالِهِ لَا يَظْهَرُ فِي الْمُبَانِ لِعَدَمِ الْحَيَاةِ فِيهِ، وَلَا تَبَعِيَّةَ لِزَوَالِهَا بِالِانْفِصَالِ فَصَارَ هَذَا الْحَرْفُ هُوَ الْأَصْلَ؛ لِأَنَّ الْمُبَانَ مِنْ الْحَيِّ حَقِيقَةً وَحُكْمًا لَا يَحِلُّ، وَالْمُبَانُ مِنْ الْحَيِّ صُورَةً لَا حُكْمًا يَحِلُّ وَذَلِكَ بِأَنْ يَبْقَى فِي الْمُبَانِ مِنْهُ حَيَاةٌ بِقَدْرِ مَا يَكُونُ فِي الْمَذْبُوحِ فَإِنَّهُ حَيَاةٌ صُورَةً لَا حُكْمًا، وَلِهَذَا لَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ وَبِهِ هَذَا الْقَدْرُ مِنْ الْحَيَاةِ أَوْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ أَوْ سَطْحٍ لَا يَحْرُمُ فَتُخَرَّجُ عَلَيْهِ الْمَسَائِلُ، فَنَقُولُ: إذَا قَطَعَ يَدًا أَوْ رِجْلًا أَوْ فَخِذًا أَوْ ثُلُثَهُ مِمَّا يَلِي الْقَوَائِمَ أَوْ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ الرَّأْسِ يَحْرُمُ الْمُبَانُ وَيَحِلُّ الْمُبَانُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يُتَوَهَّمُ بَقَاءُ الْحَيَاةِ فِي الْبَاقِي (وَلَوْ قَدَّهُ بِنِصْفَيْنِ أَوْ قَطَّعَهُ أَثْلَاثًا وَالْأَكْثَرُ مِمَّا يَلِي الْعَجُزَ أَوْ قَطَعَ نِصْفَ رَأْسِهِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ يَحِلُّ الْمُبَانُ وَالْمُبَانُ مِنْهُ)؛ لِأَنَّ الْمُبَانَ مِنْهُ حَيٌّ صُورَةً لَا حُكْمًا؛ إذْ لَا يُتَوَهَّمُ بَقَاءُ الْحَيَاةِ بَعْدَ هَذَا الْجُرْحِ، وَالْحَدِيثُ وَإِنْ تَنَاوَلَ السَّمَكَ وَمَا أُبِينَ مِنْهُ فَهُوَ مَيِّتٌ، إلَّا أَنَّ مَيْتَتَهُ حَلَالٌ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِنْ رَمَى صَيْدًا إلَخْ) إذَا قَطَعَ بِالرَّمْيِ عُضْوًا مِنْ الصَّيْدِ أُكِلَ الصَّيْدُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الرَّمْيَ مَعَ الْجَرْحِ مُبِيحٌ وَقَدْ وُجِدَ، وَلَا يُؤْكَلُ الْعُضْوُ إنْ أَمْكَنَ حَيَاتُهُ بَعْدَ الْإِبَانَةِ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَكْلًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى إنْ مَاتَ الصَّيْدُ مِنْهُ أُكِلَ لِأَنَّهُ مُبَانٌ بِذَكَاةِ الِاضْطِرَارِ وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ حَلَّ الْمُبَانُ (وَالْمُبَانُ مِنْهُ كَمَا إذَا أُبِينَ الرَّأْسُ بِذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ) وَذَلِكَ لِأَنَّ قَطْعَ أَيِّ عُضْوٍ كَانَ فِي ذَكَاةِ الِاضْطِرَارِ كَقَطْعِ الرَّأْسِ فِي ذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ، وَالرَّأْسُ يُؤْكَلُ فِي ذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ فَكَذَا الْعُضْوُ الْمُبَانُ فِي ذَكَاةِ الِاضْطِرَارِ وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَا أُبِينَ مِنْ الْحَيِّ فَهُوَ مَيِّتٌ» وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ ذَكَرَ الْحَيَّ مُطْلَقًا، وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْفَرْدِ الْكَامِلِ، وَالْكَامِلُ هُوَ الْحَيُّ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَالْعُضْوُ الْمُبَانُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ: يَعْنِي أُبِينَ مِنْ الْحَيِّ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، أَمَّا حَقِيقَةً فَلِقِيَامِ الْحَيَاةِ بِهِ، وَأَمَّا حُكْمًا فَلِأَنَّهُ يُتَوَهَّمُ حَيَاتُهُ بَعْدَ إبَانَةِ هَذَا الْعُضْوِ، وَلِهَذَا: أَيْ وَلِكَوْنِهِ حَيًّا حُكْمًا اعْتَبَرَهُ الشَّرْعُ حَتَّى لَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ وَفِيهِ حَيَاةٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَمْ يُؤْكَلْ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ بِوُقُوعِهِ فِي الْمَاءِ.
وَقَوْلُهُ (أُبِينَ بِالذَّكَاةِ) ذَكَرَهُ لِيُجِيبَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ قُلْنَا وَتَقْرِيرُهُ سَلَّمْنَا أَنَّ مَا أُبِينَ بِالذَّكَاةِ يُؤْكَلُ وَلَكِنْ لَا ذَكَاةَ هَاهُنَا لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ وَهُوَ إبَانَةُ الْعُضْوِ حَالَ وُقُوعِهِ لَيْسَ بِذَكَاةٍ لِبَقَاءِ الرُّوحِ فِي الْبَاقِي عَلَى وَجْهٍ يُمْكِنُ الْحَيَاةُ بَعْدَهُ إذْ الْفَرْضُ ذَلِكَ، وَالْجَرْحُ يُعْتَبَرُ ذَكَاةً إذَا مَاتَ مِنْهُ، أَوْ يَكُونُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ الْحَيَاةُ بَعْدَهُ، وَلِهَذَا لَوْ وَجَدَهُ وَفِيهِ مِنْ الْحَيَاةِ فَوْقَ مَا فِي الْمَذْبُوحِ لابد مِنْ ذَبْحِهِ وَعِنْدَ زَوَالِ الرُّوحِ وَإِنْ كَانَ ذَكَاةً بِالنِّسْبَةِ إلَى الصَّيْدِ، لَكِنَّهُ لَيْسَ بِذَكَاةٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُبَانِ لِعَدَمِ تَأْثِيرِهِ فِي مَوْتِهِ لِفَقْدِ الْحَيَاةِ فِيهِ حِينَئِذٍ.
فَإِنْ قِيلَ: فَلْيَكُنْ ذَكَاةً لِلْمُبَانِ بِتَبَعِيَّةِ الْأَكْثَرِ إذَا مَاتَ مِنْ ذَلِكَ الْقَطْعِ.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ وَلَا تَبَعِيَّةَ: يَعْنِي: الْأَقَلُّ يَتْبَعُ الْأَكْثَرَ إذَا لَمْ يَنْفَصِلْ عَنْهُ، وَهَاهُنَا قَدْ انْفَصَلَ فَزَالَتْ التَّبَعِيَّةُ، وَالْأَصْلُ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَالْأَكْثَرُ مِمَّا يَلِي الْعَجُزَ) احْتِرَازٌ عَمَّا إذَا كَانَ الْأَكْثَرُ مِمَّا يَلِي الرَّأْسَ فَإِنَّهُ يُؤْكَلُ الْأَكْثَرُ لَا غَيْرُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَوْدَاجَ مِنْ الْقَلْبِ إلَى الدِّمَاغِ، فَإِنْ أَبَانَ الثُّلُثَ مِمَّا يَلِي الْعَجُزَ لَمْ يَقَعْ الْفِعْلُ ذَكَاةً لِعَدَمِ قَطْعِ الْأَوْدَاجِ، وَإِنَّمَا وَقَعَتْ بِمَوْتِهِ، وَالْجُزْءُ مُبَانٌ عِنْدَ ذَلِكَ.
وَأَمَّا إذَا أَبَانَ الثُّلُثَ مِمَّا يَلِي الرَّأْسَ فَقَدْ وَقَعَ الذَّكَاةُ بِقَطْعِ الْأَوْدَاجِ نَفْسِهِ، وَحِينَئِذٍ لَمْ يَكُنْ الْجُزْءُ مُبَانًا، وَالْبَاقِي ظَاهِرٌ (وَلَوْ ضَرَبَ عُنُقَ شَاةٍ فَأَبَانَ رَأْسَهَا يَحِلُّ لِقَطْعِ الْأَوْدَاجِ) وَيُكْرَهُ هَذَا الصَّنِيعُ لِإِبْلَاغِهِ النُّخَاعَ، وَإِنْ ضَرَبَهُ مِنْ قِبَلِ الْقَفَا، إنْ مَاتَ قَبْلَ قَطْعِ الْأَوْدَاجِ لَا يَحِلُّ، وَإِنْ لَمْ يَمُتْ حَتَّى قَطَعَ الْأَوْدَاجَ حَلَّ (وَلَوْ ضَرَبَ صَيْدًا فَقَطَعَ يَدًا أَوْ رِجْلًا وَلَمْ يُبِنْهُ؛ إنْ كَانَ يُتَوَهَّمُ الِالْتِئَامُ وَالِانْدِمَالُ فَإِذَا مَاتَ حَلَّ أَكْلُهُ)؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ أَجْزَائِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُتَوَهَّمُ بِأَنْ بَقِيَ مُتَعَلِّقًا بِجِلْدِهِ حَلَّ مَا سِوَاهُ لِوُجُودِ الْإِبَانَةِ مَعْنًى وَالْعِبْرَةُ لِلْمَعَانِي. قَالَ (وَلَا يُؤْكَلُ صَيْدُ الْمَجُوسِيِّ وَالْمُرْتَدِّ وَالْوَثَنِيِّ)؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الذَّكَاةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي الذَّبَائِحِ، وَلَا بُدَّ مِنْهَا فِي إبَاحَةِ الصَّيْدِ بِخِلَافِ النَّصْرَانِيِّ وَالْيَهُودِيِّ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ الذَّكَاةِ اخْتِيَارًا فَكَذَا اضْطِرَارًا.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَا يُؤْكَلُ صَيْدُ الْمَجُوسِيِّ) مَبْنَاهُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ غَيْرَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْكُفَّارِ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلذَّكَاةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَلَا بُدَّ مِنْهَا فِي إبَاحَةِ الصَّيْدِ. قَالَ (وَمَنْ رَمَى صَيْدًا فَأَصَابَهُ وَلَمْ يُثْخِنْهُ وَلَمْ يُخْرِجْهُ عَنْ حَيِّزِ الِامْتِنَاعِ فَرَمَاهُ آخَرُ فَقَتَلَهُ فَهُوَ لِلثَّانِي وَيُؤْكَلُ)؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْآخِذُ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَ» (وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَثْخَنَهُ فَرَمَاهُ الثَّانِي فَقَتَلَهُ فَهُوَ لِلْأَوَّلِ وَلَمْ يُؤْكَلْ) لِاحْتِمَالِ الْمَوْتِ بِالثَّانِي، وَهُوَ لَيْسَ بِذَكَاةٍ لِلْقُدْرَةِ عَلَى ذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ، بِخِلَافِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا إذَا كَانَ الرَّمْيُ الْأَوَّلُ بِحَالٍ يَنْجُو مِنْهُ الصَّيْدُ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ الْمَوْتُ مُضَافًا إلَى الرَّمْيِ الثَّانِي وَأَمَّا إذَا كَانَ الْأَوَّلُ بِحَالٍ لَا يَسْلَمُ مِنْهُ الصَّيْدُ بِأَنْ لَا يَبْقَى فِيهِ مِنْ الْحَيَاةِ إلَّا بِقَدْرِ مَا يَبْقَى فِي الْمَذْبُوحِ، كَمَا إذَا أَبَانَ رَأْسَهُ يَحِلُّ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ لَا يُضَافُ إلَى الرَّمْيِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ وُجُودَهُ وَعَدَمَهُ بِمَنْزِلَةٍ، وَإِنْ كَانَ الرَّمْيُ الْأَوَّلُ بِحَالٍ لَا يَعِيشُ مِنْهُ الصَّيْدُ إلَّا أَنَّهُ بَقِيَ فِيهِ مِنْ الْحَيَاةِ أَكْثَرُ مِمَّا يَكُونُ بَعْدَ الذَّبْحِ بِأَنْ كَانَ يَعِيشُ يَوْمًا أَوْ دُونَهُ؛ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا يَحْرُمُ بِالرَّمْيِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الْحَيَاةِ لَا عِبْرَةَ بِهَا عِنْدَهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحْرُمُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الْحَيَاةِ مُعْتَبَرٌ عِنْدَهُ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ مَذْهَبِهِ فَصَارَ الْجَوَابُ فِيهِ وَالْجَوَابُ فِيمَا إذَا كَانَ الْأَوَّلُ بِحَالٍ لَا يَسْلَمُ مِنْهُ الصَّيْدُ سَوَاءٌ فَلَا يَحِلُّ قَالَ (وَالثَّانِي ضَامِنٌ لِقِيمَتِهِ لِلْأَوَّلِ غَيْرَ مَا نَقَصَتْهُ جِرَاحَتُهُ)؛ لِأَنَّهُ بِالرَّمْيِ أَتْلَفَ صَيْدًا مَمْلُوكًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالرَّمْيِ الْمُثْخِنِ وَهُوَ مَنْقُوصٌ بِجِرَاحَتِهِ، وَقِيمَةُ الْمُتْلَفِ تُعْتَبَرُ يَوْمَ الْإِتْلَافِ قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: تَأْوِيلُهُ إذَا عُلِمَ أَنَّ الْقَتْلَ حَصَلَ بِالثَّانِي بِأَنْ كَانَ الْأَوَّلُ بِحَالٍ يَجُوزُ أَنْ يَسْلَمَ الصَّيْدُ مِنْهُ وَالثَّانِي بِحَالٍ لَا يَسْلَمُ الصَّيْدُ مِنْهُ لِيَكُونَ الْقَتْلُ كُلُّهُ مُضَافًا إلَى الثَّانِيَ وَقَدْ قَتَلَ حَيَوَانًا مَمْلُوكًا لِلْأَوَّلِ مَنْقُوصًا بِالْجِرَاحَةِ فَلَا يَضْمَنُهُ كَمَلًا، كَمَا إذَا قَتَلَ عَبْدًا مَرِيضًا إنْ عَلِمَ أَنَّ الْمَوْتَ يَحْصُلُ مِنْ الْجِرَاحَتَيْنِ أَوْ لَا يَدْرِي قَالَ فِي الزِّيَادَاتِ: يَضْمَنُ الثَّانِي مَا نَقَصَتْهُ جِرَاحَتُهُ ثُمَّ يُضَمِّنُهُ نِصْفَ قِيمَتِهِ مَجْرُوحًا بِجِرَاحَتَيْنِ ثُمَّ يَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَةِ لَحْمِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ جَرَحَ حَيَوَانًا مَمْلُوكًا لِلْغَيْرِ وَقَدْ نَقَصَهُ فَيَضْمَنُ مَا نَقَصَهُ أَوَّلًا وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْمَوْتَ حَصَلَ بِالْجِرَاحَتَيْنِ فَيَكُونُ هُوَ مُتْلِفًا نِصْفَهُ وَهُوَ مَمْلُوكٌ لِغَيْرِهِ فَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهِ مَجْرُوحًا بِالْجِرَاحَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْأُولَى مَا كَانَتْ بِصُنْعِهِ، وَالثَّانِيَةُ ضَمِنَهَا مَرَّةً فَلَا يَضْمَنُهَا ثَانِيًا وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِأَنَّ بِالرَّمْيِ الْأَوَّلِ صَارَ بِحَالٍ يَحِلُّ بِذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ لَوْلَا رَمْيُ الثَّانِي، فَهَذَا بِالرَّمْيِ الثَّانِي أَفْسَدَ عَلَيْهِ نِصْفَ اللَّحْمِ فَيَضْمَنُهُ، وَلَا يَضْمَنُ النِّصْفَ الْآخَرَ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَهُ مَرَّةً فَدَخَلَ ضَمَانُ اللَّحْمِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ رَمَاهُ الْأَوَّلُ ثَانِيًا فَالْجَوَابُ فِي حُكْمِ الْإِبَاحَةِ كَالْجَوَابِ فِيمَا إذَا كَانَ الرَّامِي غَيْرَهُ، وَيَصِيرُ كَمَا إذَا رَمَى صَيْدًا عَلَى قِمَّةِ جَبَلٍ فَأَثْخَنَهُ ثُمَّ رَمَاهُ ثَانِيًا فَأَنْزَلَهُ لَا يَحِلُّ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ مُحَرَّمٌ، كَذَا هَذَا.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ رَمَى صَيْدًا فَأَصَابَهُ وَلَمْ يُثْخِنْهُ إلَخْ) اعْلَمْ أَنَّ الرَّجُلَيْنِ إذَا رَمَيَا صَيْدًا فَذَاكَ يَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ: إمَّا أَنْ يَرْمِيَاهُ مَعًا أَوْ مُتَعَاقِبًا.
وَالْأَوَّلُ عَلَى أَوْجُهٍ: فَإِنَّهُ إذَا رَمَيَاهُ مَعًا فَإِمَّا أَنْ يُصِيبَا مَعًا أَوْ يُصِيبَ أَحَدُهُمَا أَوَّلًا، فَإِنْ أَصَابَ فَإِمَّا أَنْ يُثْخِنَهُ قَبْلَ إصَابَةِ الثَّانِي أَوَّلًا.
وَالثَّانِي كَذَلِكَ فَإِنَّهُ إمَّا إنْ رَمَاهُ الثَّانِي قَبْلَ إصَابَةِ السَّهْمِ الْأَوَّلِ أَوْ بَعْدَهَا، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَإِمَّا أَنْ يُثْخِنَهُ الْأَوَّلُ أَوْ لَمْ يُثْخِنْهُ، وَالْأَوَّلُ بِوُجُوهِهِ وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ مِنْ الثَّانِي غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْكِتَابِ، وَأَنَا أَذْكُرُ ذَلِكَ تَكْمِلَةً لِلْإِفَادَةِ، فَإِنْ رَمَيَا مَعًا وَأَصَابَا مَعًا فَقَتَلَاهُ فَهُوَ لَهُمَا جَمِيعًا، وَيُؤْكَلُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَمَى إلَى صَيْدٍ مُبَاحٍ فَيَحِلُّ تَنَاوُلُهُ اعْتِبَارًا بِحَالَةِ الرَّمْيِ، فَإِنَّهُ كَانَ صَيْدًا حَالَ رَمْيِهِمَا فَيَقَعُ فِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذَكَاةً وَأَصَابَتْ الرَّمْيَتَانِ مَعًا فَاسْتَوَيَا فِي السَّبَبِيَّةِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْمُسَاوَاةَ فِي الْمِلْكِ، وَإِنْ رَمَيَاهُ مَعًا فَأَصَابَهُ سَهْمُ أَحَدِهِمَا أَوَّلًا فَأَثْخَنَهُ: أَيْ أَضْعَفَهُ وَأَخْرَجَهُ عَنْ حَيِّزِ الِامْتِنَاعِ ثُمَّ أَصَابَ سَهْمُ الْآخَرِ فَقَتَلَهُ فَهُوَ لِلْأَوَّلِ، وَحَلَّ أَكْلُهُ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِزُفَرَ.
هُوَ يَعْتَبِرُ حَالَةَ الِاتِّصَالِ وَالسَّهْمُ الثَّانِي أَصَابَهُ وَهُوَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ فَصَارَ كَمَا لَوْ رَمَى شَاةً، وَنَحْنُ نَعْتَبِرُ لِلْحِلِّ حَالَةَ الْإِرْسَالِ لِأَنَّ الْإِصَابَةَ بِالْمَحَلِّ تُبِيحُهُ وَلِهَذَا تَعَيَّنَ التَّسْمِيَةُ حَالَةَ الْإِرْسَالِ وَالْإِرْسَالُ قَدْ حَصَلَ مِنْهُمَا وَالْمَحَلُّ صَيْدٌ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِالثَّانِي حَظْرٌ، وَلِلْمِلْكِ حَالَةَ الِاتِّصَالِ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَتَّصِلُ بِالْمَحَلِّ، وَسَهْمُ الْأَوَّلِ أَخْرَجَهُ عَنْ حَيِّزِ الِامْتِنَاعِ فَمَلَكَهُ قَبْلَ أَنْ يَتَّصِلَ بِهِ الثَّانِي، وَإِنْ لَمْ يُثْخِنْهُ فَهُوَ لِلثَّانِي وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَإِنْ رَمَاهُ الثَّانِي بَعْدَمَا رَمَاهُ الْأَوَّلُ قَبْلَ أَنْ يُصِيبَ سَهْمُهُ وَهُوَ الْأَوَّلُ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ رَمَيَاهُ مَعًا هُوَ لَهُمَا وَحَلَّ أَكْلُهُ.
وَأَمَّا الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ فَقَدْ أَمْعَنَ الْمُصَنِّفُ فِي بَيَانِهِ، وَنُشِيرُ إلَى بَعْضِ أَلْفَاظِهِ إنْ خَفِيَ.
فَقَوْلُهُ (هَذَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَلَمْ يُؤْكَلْ.
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الْمَوْتَ حَصَلَ مِنْ الْجِرَاحَتَيْنِ أَوْ لَا يَدْرِي قَالَ فِي الزِّيَادَاتِ إلَخْ) بَيَانٌ لِحُكْمِ الضَّمَانِ وَلَمْ يَذْكُرْ حُكْمَ الْحِلِّ.
وَحُكْمُهُ أَنَّهُ لَمْ يُؤْكَلْ لِأَنَّ إحْدَى الرَّمْيَتَيْنِ تَعَلَّقَ بِهَا حَظْرٌ وَالْأُخْرَى تَعَلَّقَ بِهَا الْإِبَاحَةُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ لِأَنَّهُ يُعْلَمُ مِنْ ضَمَانِ اللَّحْمِ، وَإِنَّمَا كَانَ حُكْمُ صُوَرِهِ الْجَهَالَةَ وَهِيَ أَنْ لَا يَدْرِيَ أَنَّ الْمَوْتَ حَصَلَ بِأَيِّهِمَا كَصُورَةِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْجِرَاحَتَيْنِ سَبَبٌ لِلْقَتْلِ ظَاهِرًا فَيُضَافُ إلَيْهِمَا.
قِيلَ كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ ضَمَانُ نُقْصَانِ الْجِرَاحَةِ لِدُخُولِهِ تَحْتَ ضَمَانِ نِصْفِ الْقِيمَةِ، وَهُوَ فَاسِدٌ لِأَنَّ ضَمَانَ نُقْصَانِ الْجِرَاحَةِ إنَّمَا هُوَ بِسَبَبٍ قَبْلَ سَبَبِ ضَمَانِ نِصْفِ الْقِيمَةِ فَكَيْفَ يَدْخُلُ فِيهِ.
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ كَانَ رَمَاهُ الْأَوَّلُ ثَانِيًا) يَعْنِي أَنَّ مَا تَقَدَّمَ كَانَ فِيمَا إذَا كَانَ الرَّامِي الثَّانِي غَيْرَ الرَّامِي الْأَوَّلِ، وَهَذَا فِيمَا إذَا رَمَاهُ الْأَوَّلُ ثَانِيًا.
قَوْلُهُ (فَالْجَوَابُ فِي حُكْمِ الْإِبَاحَةِ إلَخْ) يَعْنِي لَا فِي حُكْمِ الضَّمَانِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَضْمَنُ مِلْكَ نَفْسِهِ بِفِعْلِهِ لِنَفْسِهِ، وَالْبَاقِي وَاضِحٌ قَالَ (وَيَجُوزُ اصْطِيَادُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ الْحَيَوَانِ وَمَا لَا يُؤْكَلُ) لِإِطْلَاقِ مَا تَلُونَا وَالصَّيْدُ لَا يَخْتَصُّ بِمَأْكُولِ اللَّحْمِ قَالَ قَائِلُهُمْ: صَيْدُ الْمُلُوكِ أَرَانِب وَثَعَالِب وَإِذَا رَكِبْتُ فَصَيْدِي الْأَبْطَالُ وَلِأَنَّ صَيْدَهُ سَبَبٌ لِلِانْتِفَاعِ بِجِلْدِهِ أَوْ شَعْرِهِ أَوْ رِيشَةِ أَوْ لِاسْتِدْفَاعِ شَرِّهِ وَكُلُّ ذَلِكَ مَشْرُوعٌ.

.(كِتَابُ الرَّهْنِ):

الرَّهْنُ لُغَةً: حَبْسُ الشَّيْءِ بِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ وَفِي الشَّرِيعَةِ: جَعْلُ الشَّيْءِ مَحْبُوسًا بِحَقٍّ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الرَّهْنِ كَالدُّيُونِ، وَهُوَ مَشْرُوعٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} وَبِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا وَرَهَنَهُ بِهِ دِرْعَهُ» وَقَدْ انْعَقَدَ عَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعُ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ وَثِيقَةٍ لِجَانِبِ الِاسْتِيفَاءِ فَيُعْتَبَرُ بِالْوَثِيقَةِ فِي طَرَفِ الْوُجُوبِ وَهِيَ الْكَفَالَةُ قَالَ (الرَّهْنُ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَيَتِمُّ بِالْقَبْضِ) قَالُوا: الرُّكْنُ الْإِيجَابُ بِمُجَرَّدِهِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَيَتِمُّ بِالْمُتَبَرَّعِ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْقَبْضُ شَرْطُ اللُّزُومِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ مَالِكٌ: يَلْزَمُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْمَالِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَصَارَ كَالْبَيْعِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ وَثِيقَةٍ فَأَشْبَهَ الْكَفَالَةَ وَلَنَا مَا تَلَوْنَا، وَالْمَصْدَرُ الْمَقْرُونُ بِحَرْفِ الْفَاءِ فِي مَحَلِّ الْجَزَاءِ يُرَادُ بِهِ الْأَمْرُ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ لِمَا أَنَّ الرَّاهِنَ لَا يَسْتَوْجِبُ بِمُقَابَلَتِهِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ شَيْئًا وَلِهَذَا لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ مِنْ إمْضَائِهِ كَمَا فِي الْوَصِيَّةِ وَذَلِكَ بِالْقَبْضِ، ثُمَّ يَكْتَفِي فِيهِ بِالتَّخْلِيَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهُ قَبْضٌ بِحُكْمِ عَقْدٍ مَشْرُوعٍ فَأَشْبَهَ قَبْضَ الْمَبِيعِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي الْمَنْقُولِ إلَّا بِالنَّقْلِ؛ لِأَنَّهُ قَبْضٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ ابْتِدَاءً بِمَنْزِلَةِ الْغَصْبِ، بِخِلَافِ الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّهُ نَاقِلٌ لِلضَّمَانِ مِنْ الْبَائِعِ إلَى الْمُشْتَرِي وَلَيْسَ بِمُوجِبٍ ابْتِدَاءً وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
الشَّرْحُ:
كِتَابُ الرَّهْنِ:
وَجْهُ مُنَاسَبَةِ الرَّهْنِ لِكِتَابِ الصَّيْدِ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُمَا سَبَبَيْنِ لِتَحْصِيلِ الْمَالِ، وَمِنْ مَحَاسِنِهِ حُصُولُ النَّظَرِ لِجَانِبِ الدَّائِنِ وَالْمَدْيُونِ.
وَسَبَبُهُ مَا ذَكَرْنَا غَيْرَ مَرَّةٍ.
وَشَرْطُ جَوَازِهِ وَتَفْسِيرُهُ وَمَشْرُوعِيَّتُهُ وَحُكْمُهُ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ، وَسَنَذْكُرُهُ شَيْئًا فَشَيْئًا.
أَمَّا تَفْسِيرُهُ فَمَا ذَكَرَهُ (الرَّهْنُ لُغَةً حَبْسُ الشَّيْءِ بِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ، وَفِي الشَّرِيعَةِ جَعْلُ الشَّيْءِ مَحْبُوسًا بِحَقٍّ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْهُ) أَيْ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مِنْ الرَّهْنِ بِمَعْنَى الْمَرْهُونِ (كَالدُّيُونِ) وَهُوَ احْتِرَازٌ عَنْ ارْتِهَانِ الْخَمْرِ وَعَنْ الرَّهْنُ عَنْ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، وَأَمَّا مَشْرُوعِيَّتُهُ فَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} وَهُوَ جَمْعُ رَهْنٍ كَعِبَادٍ فِي جَمْعِ عَبْدٍ، وَبِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ» وَبِالْإِجْمَاعِ فَإِنَّ الْأُمَّةَ اجْتَمَعَتْ عَلَى جَوَازِهِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَبِالْمَعْقُولِ وَهُوَ أَنَّهُ عَقْدُ وَثِيقَةٍ لِجَانِبِ الِاسْتِيفَاءِ فَيُعْتَبَرُ بِالْوَثِيقَةِ فِي طَرَفِ الْوُجُوبِ.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ لِلدَّيْنِ طَرَفَيْنِ: طَرَفُ الْوُجُوبِ وَطَرَفُ الِاسْتِيفَاءِ لِأَنَّهُ يَجِبُ أَوَّلًا فِي الذِّمَّةِ ثُمَّ يُسْتَوْفَى الْمَالُ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ الْوَثِيقَةُ لِطَرَفِ الْوُجُوبِ الَّذِي يَخْتَصُّ بِالذِّمَّةِ وَهِيَ الْكَفَالَةُ جَائِزَةٌ، فَكَذَا الْوَثِيقَةُ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالْمَالِ، بَلْ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ هُوَ الْمَقْصُودُ وَالْوُجُوبُ وَسِيلَةٌ إلَيْهِ.
قَالَ (الرَّهْنُ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ) رُكْنُ الرَّهْنِ الْإِيجَابُ، وَهُوَ قَوْلُ الرَّاهِنِ رَهَنْتُك هَذَا الْمَالَ بِدَيْنٍ لَك عَلَيَّ وَمَا أَشْبَهَهُ.
وَالْقَبُولُ: وَهُوَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ قَبِلْت، لِأَنَّهُ عَقْدٌ وَالْعَقْدُ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَعَلَى ذَلِكَ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ (قَالُوا) أَرَادَ بِهِ شَيْخَ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ (الرُّكْنُ بِالْإِيجَابِ بِمُجَرَّدِهِ لِأَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ يَتِمُّ بِالْمُتَبَرِّعِ) فَالرَّهْنُ يَتِمُّ بِالْمُتَبَرِّعِ، أَمَّا أَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَلِأَنَّ الرَّاهِنَ لَمْ يَسْتَوْجِبْ بِإِزَاءِ مَا أَثْبَتَ لِلْمُرْتَهِنِ مِنْ الْيَدِ شَيْئًا عَلَيْهِ، وَلَا نَعْنِي بِالتَّبَرُّعِ إلَّا ذَلِكَ.
وَأَمَّا أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ كَذَلِكَ يَتِمُّ بِالْمُتَبَرِّعِ فَكَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ اسْتَوْجَبَ عَلَيْهِ صَيْرُورَتَهُ مُسْتَوْفِيًا لِدَيْنِهِ عِنْدَ الْهَلَاكِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْتِيجَابِ مَا يَكُونُ ابْتِدَاءً وَالرَّهْنُ لَيْسَ كَذَلِكَ.
قَوْلُهُ (وَالْقَبْضُ شَرْطُ اللُّزُومِ) كَأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِ الْقُدُورِيِّ وَيَتِمُّ الْقَبْضُ فَيَكُونُ الرَّهْنُ قَبْلَ الْقَبْضِ جَائِزًا وَبِهِ يَلْزَمُ، وَهُوَ أَيْضًا اخْتِيَارُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِرِوَايَةِ عَامَّةِ الْكُتُبِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ الرَّهْنُ إلَّا مَقْبُوضًا.
وَقَالَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ فِي الْكَافِي: لَا يَجُوزُ الرَّهْنُ غَيْرُ مَقْبُوضٍ.
وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: لَا يَجُوزُ الرَّهْنُ إلَّا مَقْبُوضًا مُفَرَّغًا مَحُوزًا.
وَقَالَ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: لَا يَجُوزُ الرَّهْنُ إلَّا مَقْبُوضًا.
وَقَالَ مَالِكٌ: يَلْزَمُ الرَّهْنُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ لِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِنَفْسِ الْمَالِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَصَارَ كَالْبَيْعِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ وَثِيقَةٍ فَلَا يَكُونُ الْقَبْضُ شَرْطًا كَالْكَفَالَةِ (وَلَنَا مَا تَلَوْنَا) مِنْ قَوْله تَعَالَى {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} وَالْمَصْدَرُ الْمَقْرُونُ بِحَرْفِ الْفَاءِ فِي مَحَلِّ الْجَزَاءِ يُرَادُ بِهِ الْأَمْرُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} أَيْ فَلْيَصُمْ، وَكَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} أَيْ فَلْيُحَرِّرْ فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: وَإِذَا كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَارْهَنُوا وَارْتَهِنُوا، لَكِنْ تَرَكَ كَوْنَهُ مَعْمُولًا بِهِ فِي حَقِّ ذَلِكَ حَيْثُ لَمْ يَجِبْ الرَّهْنُ عَلَى الْمَدْيُونِ وَلَا قَبُولُهُ عَلَى الدَّائِنِ بِالْإِجْمَاعِ فَوَجَبَ أَنْ يَعْمَلَ فِي شَرْطِهِ وَهُوَ الْقَبْضُ كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» بِالنَّصْبِ: أَيْ بِيعُوا، فَلَمْ يَعْمَلْ الْأَمْرُ فِي نَفْسِ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْبَيْعَ مُبَاحٌ فَصُرِفَ إلَى شَرْطِهِ وَهُوَ الْمُمَاثَلَةُ فِي أَمْوَالِ الرِّبَا فَكَذَا هَذَا.
وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ مَا قِيلَ إنَّ الْمُصَنِّفَ جَعَلَ الرِّهَانَ مَصْدَرًا وَهُوَ جَمْعُ رَهْنٍ.
وَالثَّانِي أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ لِلْإِبَاحَةِ بِقَرِينَةِ الْإِجْمَاعِ فَيَنْصَرِفُ إلَى الرَّهْنِ لَا إلَى الْقَبْضِ.
وَالثَّالِثُ أَنَّ الْقَبْضَ إنْ كَانَ شَرْطًا لِلْجَوَازِ أَوْ لِلُّزُومِ وَسُلِّمَ ذَلِكَ فَقَدْ ارْتَفَعَ النِّزَاعُ وَلَا حَاجَةَ إلَى الدَّلِيلِ.
وَالرَّابِعُ أَنَّ الْآيَةَ مَتْرُوكَةُ الظَّاهِرِ، لِأَنَّ ظَاهِرَهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّهْنَ إنَّمَا يَكُونُ فِي السَّفَرِ كَمَا قَالَ بِهِ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَقَدْ تُرِكَ، وَمَتْرُوكُ الظَّاهِرِ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً.
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّهُ مِمَّا يُقْضَى مِنْهُ الْعَجَبُ لِأَنَّهُ جَمْعُ رَهْنٍ وَالرَّهْنُ مَصْدَرٌ فَجَمْعُهُ كَذَلِكَ، وَإِسْنَادُ مَقْبُوضَةٌ إلَى ضَمِيرِ الْمَصْدَرِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ كَمَا فِي: سَيْلٌ مُفْعَمٌ.
وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ الْأَمْرَ فِي الْوُجُوبِ حَقِيقَةٌ كَمَا عُرِفَ وَالْإِجْمَاعُ لَا يَصْلُحُ قَرِينَةً لِلْمَجَازِ لِأَنَّ الْمَجَازَ هُوَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ بِقَرِينَةٍ وَالْإِجْمَاعُ لَمْ يَكُنْ حَالَ اسْتِعْمَالِ هَذَا اللَّفْظِ، وَإِعْمَالُ الْحَقِيقَةِ فِي الرَّهْنِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَصُرِفَ إلَى الْقَبْضِ.
وَعَنْ الثَّالِثِ أَنَّ الدَّلِيلَ لِإِلْزَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ حَيْثُ لَا يَجْعَلُهُ شَرْطَ اللُّزُومِ وَلَا الْجَوَازِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ الرَّهْنَ بِالْقَبْضِ كَمَا وَصَفَ التِّجَارَةَ بِالتَّرَاضِي، وَالتَّرَاضِي وَصْفٌ لَازِمٌ فِي التِّجَارَةِ فَكَذَا الْقَبْضُ فِي الرَّهْنِ.
لَا يُقَالُ: هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ، وَهُوَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، إمَّا لِأَنَّ ذَلِكَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ مِنْ أَصْحَابِنَا فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُصَنِّفُ قَدْ اخْتَارَهُ، وَإِمَّا لِأَنَّ عَدَمَ الصِّحَّةِ إنَّمَا يَكُونُ إذَا لَمْ تَكُنْ الصِّفَةُ مَقْصُودَةً، وَقَدْ ذَكَرْنَا آنِفًا أَنَّ الْوُجُوبَ انْصَرَفَ إلَيْهَا.
وَعَنْ الرَّابِعِ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ بِدَلِيلٍ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، لِأَنَّ النُّصُوصَ الْمُؤَوَّلَةَ مَتْرُوكَةُ الظَّاهِرِ وَهِيَ عَامَّةُ الدَّلَائِلِ، هَذَا مَا سَنَحَ لِي فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ) دَلِيلٌ مَعْقُولٌ عَلَى اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ وَهُوَ وَاضِحٌ.
قَوْلُهُ (ثُمَّ يُكْتَفَى فِيهِ بِالتَّخْلِيَةِ) يُرِيدُ بِهَا رَفْعَ الْمَانِعِ، وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ) أَيْ قَبْضَ الرَّهْنِ قَبْضٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ ابْتِدَاءً لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا عَلَى الرَّاهِنِ قَبْلَ الْقَبْضِ حَتَّى يَنْتَقِلَ الضَّمَانُ مِنْهُ إلَى الْمُرْتَهِنِ، وَكُلُّ قَبْضٍ هَذَا شَأْنُهُ لَا يُكْتَفَى فِيهِ بِالتَّخْلِيَةِ كَمَا فِي الْغَصْبِ، فَإِنَّ الْمَغْصُوبَ لَا يَصِيرُ مَضْمُونًا بِدُونِ النَّقْلِ فَكَذَلِكَ الْمَرْهُونُ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْقَبْضَ بِعَقْدِ التَّبَرُّعِ لَمْ يُعْهَدْ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ وَبَيْنَ التَّبَرُّعِ وَالضَّمَانِ مُنَافَاةٌ، وَلَا بُدَّ مِنْ الضَّمَانِ فِي الرَّهْنِ عِنْدَ الْهَلَاكِ فَيَنْتَفِي التَّبَرُّعُ فَلَا يَنْعَقِدُ الرَّهْنُ إلَّا بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَعَلَى ذَلِكَ رِوَايَةُ الْكُتُبِ كَالْمُنْتَقَى وَالْمُحِيطِ وَغَيْرِهِمَا (بِخِلَافِ الشِّرَاءِ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ وَجْهِ الظَّاهِرِ بِأَنَّ الْقَبْضَ فِي الشِّرَاءِ نَاقِلٌ لِلضَّمَانِ مِنْ الْبَائِعِ إلَى الْمُشْتَرِي لِكَوْنِ الْمَبِيعِ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُشْتَرِي مَضْمُونًا عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ، وَبِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ يَنْتَقِلُ الضَّمَانُ مِنْهُ إلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا عَلَى الْقَابِضِ ابْتِدَاءً.
وَقَوْلُهُ (وَالْأَوَّلُ) أَيْ وَجْهُ الظَّاهِرِ (أَصَحُّ) لِأَنَّ الرَّهْنَ تَوْثِقَةٌ لِجِهَةِ الِاسْتِيفَاءِ، وَحَقِيقَةُ الِاسْتِيفَاءِ تَثْبُتُ بِالتَّخْلِيَةِ بِأَنْ يُخْلِيَ الرَّاهِنُ بَيْنَ الْمُرْتَهِنِ وَدَيْنِهِ فَكَذَلِكَ جِهَتُهُ، إذْ الْحَقِيقَةُ أَقْوَى مِنْ الْجِهَةِ، وَمَا يَثْبُتُ بِهِ الْأَقْوَى يَثْبُتُ بِهِ الْأَدْنَى.
وَأَمَّا الْوَصْفُ الْمَذْكُورُ فِي وَجْهِ غَيْرِ الظَّاهِرِ وَهُوَ كَوْنُ الْقَبْضِ فِي الشِّرَاءِ نَاقِلًا لِلضَّمَانِ وَفِي الرَّهْنِ مُثْبِتًا لَهُ ابْتِدَاءً فَلَا يَكَادُ يُبَيِّنُ. قَالَ (وَإِذَا قَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ مَحُوزًا مُفَرَّغًا مُتَمَيِّزًا تَمَّ الْعَقْدُ فِيهِ) لِوُجُودِ الْقَبْضِ بِكَمَالِهِ فَلَزِمَ الْعَقْدُ (وَمَا لَمْ يَقْبِضْهُ فَالرَّاهِنُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ سَلَّمَهُ وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَنْ الرَّهْنِ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ اللُّزُومَ بِالْقَبْضِ إذْ الْمَقْصُودُ لَا يَحْصُلُ قَبْلَهُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (فَإِذَا قَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ إلَخْ) قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْقَبْضَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْهِبَةِ أَنَّ الْمَنْصُوصَ مُعْتَنًى بِشَأْنِهِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْكَمَالَ، وَالْكَامِلُ فِي الْقَبْضِ هُوَ أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ مَحُوزًا مُفَرَّغًا مُتَمَيِّزًا فَيَجِبُ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ (مَحُوزًا احْتِرَازٌ) عَنْ رَهْنِ التَّمْرِ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ بِدُونِهَا.
وَقَوْلُهُ (مُفَرَّغًا) احْتِرَازٌ عَنْ عَكْسِهِ.
وَقَوْلُهُ (مُتَمَيِّزًا) احْتِرَازٌ عَنْ الشُّيُوعِ فِي الرَّهْنِ، فَإِنْ قَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَمَّ الْعَقْدُ وَلَزِمَ، وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهُ فَالرَّاهِنُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ التَّسْلِيمِ وَعَدَمِهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ اللُّزُومَ أَوْ الْجَوَازَ بِالْقَبْضِ، إذْ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الِاسْتِيفَاءُ لَا يَحْصُلُ قَبْلَهُ: أَيْ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَإِذَا قَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ لَا يَسْقُطُ بِهَلَاكِهِ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يُغْلَقُ الرَّهْنُ» قَالَهَا أَيْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ ثَلَاثًا «لِصَاحِبِهِ غُنْمُهُ»: أَيْ زَوَائِدُهُ «وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ» أَيْ هَلَاكُهُ.
قَالَ: وَمَعْنَاهُ لَا يَصِيرُ: أَيْ الرَّهْنُ مَضْمُونًا بِالدَّيْنِ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ بِالدَّيْنِ لِيَزْدَادَ بِهِ الصِّيَانَةُ، فَلَوْ سَقَطَ الدَّيْنُ بِهَلَاكِهِ عَادَ عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْضِ.
وَلَنَا «قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُرْتَهِنِ بَعْدَمَا نَفَقَ فَرَسُ الرَّهْنِ عِنْدَهُ ذَهَبَ حَقُّك» وَحَقُّهُ الدَّيْنُ فَيَكُونُ ذَاهِبًا.
لَا يُقَالُ: الْمُرَادُ بِهِ ذَهَبَ حَقُّك مِنْ الْإِمْسَاكِ أَوْ مِنْ الْمُطَالَبَةِ بِرَهْنٍ آخَرَ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ مُشَاهَدٌ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِخْبَارِ عَنْهُ، وَالثَّانِي لَيْسَ بِحَقٍّ لَهُ وَلِأَنَّهُ ذَكَرَ الْحَقَّ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ مُنَكَّرًا «أَنَّ رَجُلًا رَهَنَ فَرَسًا عِنْدَ رَجُلٍ بِحَقٍّ لَهُ عَلَيْهِ فَنَفَقَ الْفَرَسُ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ فَاخْتَصَمَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِلْمُرْتَهِنِ: ذَهَبَ حَقُّك» فَذَكَرَ الْحَقَّ مُنَكَّرًا، ثُمَّ أَعَادَهُ مُعَرَّفًا.
وَفِي ذَلِكَ يَكُونُ الثَّانِي عَيْنَ الْأَوَّلِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ.
وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ أَحَدَهُمَا كَلَامُ الرَّاوِي وَالْآخَرُ كَلَامُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ الْقَاعِدَةِ الْمَذْكُورَةِ، إلَّا إذَا عُلِمَ أَنَّ الْمُنَكَّرَ كَانَ وَاقِعًا مِنْ الْمُرْتَهِنِ فِي حَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ (عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «إذَا غَمَّى الرَّهْنَ فَهُوَ بِمَا فِيهِ») مَعْنَاهُ عَلَى مَا قَالُوا: إذَا اشْتَبَهَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ بَعْدَمَا هَلَكَ: يَعْنِي إذَا قَالَ الرَّاهِنُ لَا أَدْرِي كَمْ كَانَ قِيمَتُهُ وَالْمُرْتَهِنُ كَذَلِكَ قَالَ: يَكُونُ الرَّهْنُ بِمَا فِيهِ، حُكِيَ هَذَا التَّأْوِيلُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ. قَالَ (وَإِذَا سَلَّمَهُ إلَيْهِ فَقَبَضَهُ دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ، وَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ بِهَلَاكِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا يُغْلَقُ الرَّهْنُ، قَالَهَا ثَلَاثَةً، لِصَاحِبِهِ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ» قَالَ: وَمَعْنَاهُ لَا يَصِيرُ مَضْمُونًا بِالدَّيْنِ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ بِالدَّيْنِ فَبِهَلَاكِهِ لَا يَسْقُطُ الدَّيْنُ اعْتِبَارًا بِهَلَاكِ الصَّكِّ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ بَعْدَ الْوَثِيقَةِ يَزْدَادُ مَعْنَى الصِّيَانَةِ، وَالسُّقُوطُ بِالْهَلَاكِ يُضَادُّ مَا اقْتَضَاهُ الْعَقْدُ إذَا لَحِقَ بِهِ يَصِيرُ بِعَرْضِ الْهَلَاكِ وَهُوَ ضِدُّ الصِّيَانَةِ وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْمُرْتَهِنِ بَعْدَ مَا نَفَقَ فَرَسُ الرَّهْنِ عِنْدَهُ «ذَهَبَ حَقُّك» وَقَوْلُهُ (عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «إذَا غَمَّى الرَّهْنَ فَهُوَ بِمَا فِيهِ») مَعْنَاهُ: عَلَى مَا قَالُوا إذَا اشْتَبَهَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ بَعْدَ مَا هَلَكَ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى أَنَّ الرَّاهِنَ مَضْمُونٌ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي كَيْفِيَّتِهِ، وَالْقَوْلُ بِالْأَمَانَةِ خَرْقٌ لَهُ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا يُغْلَقُ الرَّهْنُ» عَلَى مَا قَالُوا الِاحْتِبَاسُ الْكُلِّيُّ وَالتَّمَكُّنُ بِأَنْ يَصِيرَ مَمْلُوكًا لَهُ كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ عَنْ السَّلَفِ وَلِأَنَّ الثَّابِتَ لِلْمُرْتَهِنِ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ وَهُوَ مِلْكُ الْيَدِ وَالْحَبْسِ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ يُنْبِئُ عَنْ الْحَبْسِ الدَّائِمِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} وَقَالَ قَائِلُهُمْ: وَفَارَقْتُك بِرَهْنٍ لَا فِكَاكَ لَهُ يَوْمَ الْوَدَاعِ فَأَمْسَى الرَّهْنُ قَدْ غَلِقَا وَالْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ تَنْعَطِفُ عَلَى الْأَلْفَاظِ عَلَى وَفْقِ الْأَنْبَاءِ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ لِجَانِبِ الِاسْتِيفَاءِ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ مُوصِلَةً إلَيْهِ وَذَلِكَ ثَابِتٌ لَهُ بِمِلْكِ الْيَدِ وَالْحَبْسِ لِيَقَعَ الْأَمْنُ مِنْ الْجُحُودِ مَخَافَةَ جُحُودِ الْمُرْتَهِنِ الرَّهْنَ، وَلِيَكُونَ عَاجِزًا عَنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ فَيَتَسَارَعُ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ لِحَاجَتِهِ أَوْ لِضَجَرِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَثْبُتُ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ وَجْهٍ وَقَدْ تَقَرَّرَ بِالْهَلَاكِ، فَلَوْ اسْتَوْفَاهُ ثَانِيًا يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا، بِخِلَافِ حَالَةِ الْقِيَامِ؛ لِأَنَّهُ يَنْقُضُ هَذَا الِاسْتِيفَاءَ بِالرَّدِّ عَلَى الرَّاهِنِ فَلَا يَتَكَرَّرُ، وَلَا وَجْهَ إلَى اسْتِيفَاءِ الْبَاقِي بِدُونِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ، وَالِاسْتِيفَاءُ يَقَعُ بِالْمَالِيَّةِ أَمَّا الْعَيْنُ فَأَمَانَةٌ حَتَّى كَانَتْ نَفَقَةُ الْمَرْهُونِ عَلَى الرَّاهِنِ فِي حَيَاتِهِ وَكَفَنِهِ بَعْدَ مَمَاتِهِ، وَكَذَا قَبْضُ الرَّهْنِ لَا يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الشِّرَاءِ إذَا اشْتَرَاهُ الْمُرْتَهِنُ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ أَمَانَةٌ فَلَا تَنُوبُ عَنْ قَبْضِ ضَمَانٍ، وَمُوجِبُ الْعَقْدِ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ وَهَذَا يُحَقِّقُ الصِّيَانَةَ، وَإِنْ كَانَ فَرَاغُ الذِّمَّةِ مِنْ ضَرُورَاتِهِ كَمَا فِي الْحَوَالَةِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَنَا حُكْمَ الرَّهْنِ صَيْرُورَةُ الرَّهْنِ مُحْتَبِسًا بِدَيْنِهِ بِإِثْبَاتِ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ عَلَيْهِ وَعِنْدَهُ تَعَلُّقُ الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ اسْتِيفَاءً مِنْهُ عَيْنًا بِالْبَيْعِ، فَيُخَرَّجُ عَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ عِدَّةٌ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ عَدَدْنَاهَا فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى جُمْلَةً: مِنْهَا أَنَّ الرَّاهِنَ مَمْنُوعٌ عَنْ الِاسْتِرْدَادِ لِلِانْتِفَاعِ؛ لِأَنَّهُ يَفُوتُ مُوجَبُهُ وَهُوَ الِاحْتِبَاسُ عَلَى الدَّوَامِ، وَعِنْدَهُ لَا يَمْنَعُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنَافِي مُوجِبَهُ وَهُوَ تَعَيُّنُهُ لِلْبَيْعِ وَسَيَأْتِيك الْبَوَاقِي فِي أَثْنَاءِ الْمَسَائِلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي كَيْفِيَّتِهِ) يَعْنِي أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الرَّهْنَ مَضْمُونٌ لَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّتِهِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمَا قَالَا: الرَّهْنُ مَضْمُونٌ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالدَّيْنِ.
وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إجْمَاعٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ مَضْمُونٌ، فَالْقَوْلُ بِكَوْنِهِ أَمَانَةً خَرْقٌ لِلْإِجْمَاعِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا يُغْلَقُ الرَّهْنُ» عَلَى مَا قَالُوا: الِاحْتِبَاسُ الْكُلِّيُّ: أَيْ يَصِيرُ مَمْلُوكًا لَهُ، كَذَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ عَنْ السَّلَفِ كَطَاوُوسٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِمَا.
وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ فِيمَا يُرَى أَنْ يَرْهَنَ الرَّجُلُ الرَّهْنَ بِالشَّيْءِ وَفِي الرَّهْنِ فَضْلٌ عَمَّا رَهَنَ بِهِ، فَيَقُولُ الرَّاهِنُ لِلْمُرْتَهِنِ إنْ جِئْتُك بِحَقِّك إلَى أَجَلٍ يُسَمِّيهِ لَهُ وَإِلَّا فَالرَّهْنُ لَك بِمَا فِيهِ، فَهَذَا لَا يَصِحُّ وَلَا يَحِلُّ، وَهَذَا الَّذِي يَنْهَى عَنْهُ فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُك بِمَا فِيهِ بَعْدَ الْأَجَلِ فَهُوَ لَهُ.
وَقَوْلُهُ (لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ) قَالَ الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ الْآثَارِ: ذَهَبُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ يَعْنِي أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَبَا يُوسُفَ وَمُحَمَّدًا إلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ إذَا بِيعَ الرَّهْنُ بِثَمَنٍ فِيهِ نَقْصٌ عَنْ الدَّيْنِ غَرِمَ الرَّاهِنُ ذَلِكَ النَّقْصَ، وَإِنْ بِيعَ بِفَضْلٍ عَنْ الدَّيْنِ أَخَذَ الرَّاهِنُ ذَلِكَ الْفَضْلَ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الثَّابِتَ لِلْمُرْتَهِنِ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ) دَلِيلٌ مَعْقُولٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ.
وَتَقْرِيرُهُ: الثَّابِتُ لِلْمُرْتَهِنِ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ، وَيَدُ الِاسْتِيفَاءِ هُوَ مِلْكُ الْيَدِ وَالْحَبْسُ، لِأَنَّ الرَّهْنَ لُغَةً يُنْبِئُ عَنْ الْحَبْسِ الدَّائِمِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} أَيْ مَحْبُوسَةٌ بِوَبَالِ مَا اكْتَسَبَتْ مِنْ الْمَعَاصِي.
وَقَالَ زُهَيْرٌ: وَفَارَقْتُك بِرَهْنٍ لَا فِكَاكَ لَهُ يَوْمَ الْوَدَاعِ فَأَمْسَى الرَّهْنُ قَدْ غَلَقَا أَيْ ارْتَهَنَتْ الْمَحْبُوبَةُ قَلْبَهُ يَوْمَ الْوَدَاعِ وَاحْتَبَسَ قَلْبُهُ عِنْدَهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ فِكَاكُهُ، وَلَيْسَ فِيهِ ضَمَانٌ وَلَا هَلَاكٌ كَمَا تَرَى يَدُلُّ عَلَى الْحَبْسِ الدَّائِمِ.
قِيلَ الدَّوَامُ إنَّمَا فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ لَا فِكَاكَ لَهُ لَا مِنْ لَفْظِ الرَّهْنِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمَّا دَامَ وَتَأَبَّدَ بِنَفْيِ الْفِكَاكِ دَلَّ أَنَّهُ عَنْ الدَّوَامِ، إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِذَلِكَ لَمَا دَامَ بِنَفْيِ مَا يَعْتَرِضُهُ بَلْ كَانَ الدَّوَامُ يَثْبُتُ بِإِثْبَاتِ مَا يُوجِبُهُ، فَثَبَتَ أَنَّ اللُّغَةَ تَدُلُّ عَلَى إنْبَاءِ الرَّهْنِ عَنْ الْحَبْسِ الدَّائِمِ، وَالْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ تَنْعَطِفُ عَلَى الْأَلْفَاظِ عَلَى وَفْقِ الْأَنْبَاءِ فَيَكُونُ لَفْظُ الرَّهْنِ فِي الْعَقْدِ الشَّرْعِيِّ مُنْبِئًا عَنْ الْحَبْسِ الدَّائِمِ لِأَنَّهُ الْمَفْهُومُ وَلَا مُقْتَضَى لِلْعُدُولِ عَنْهُ، وَلِتَكُنْ هَذِهِ الْقَضِيَّةُ عِنْدَك، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ بِجَانِبِ الِاسْتِيفَاءِ، وَمَعْنَاهُ: أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ مُوَصِّلًا إلَيْهِ: أَيْ إلَى الِاسْتِيفَاءِ، وَذَلِكَ: أَيْ كَوْنُهُ مُوَصِّلًا إلَيْهِ ثَابِتٌ بِمِلْكِ الْيَدِ وَالْحَبْسِ لِيَقَعَ الْأَمْنُ عَنْ جُحُودِ الرَّهْنِ مَخَافَةَ جُحُودِ الْمُرْتَهِنِ الرَّهْنَ.
وَمَعْنَاهُ: أَنَّ الْحَبْسَ يُفْضِي إلَى أَدَاءِ الْحَقِّ لِأَنَّ الرَّاهِنَ يُخْشَى إنْ جَحَدَ الدَّيْنَ أَنْ يَجْحَدَ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ، لِأَنَّ قِيمَةَ الرَّهْنِ قَدْ تَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ الدَّيْنِ وَلِيَكُونَ عَاجِزًا عَنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى إيفَاءِ الْأَقَلِّ لِتَخْلِيصِ الْأَكْثَرِ أَوْ لِضَجَرِهِ عَنْ الْمُطَالَبَةِ، وَهَذِهِ أَيْضًا قَضِيَّةٌ تَدُلُّ عَلَى الْيَدِ وَالْحَبْسِ فَتُضَمُّ إلَيْهِمَا.
قَوْلُهُ (وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ) أَيْ إذَا ثَبَتَ أَنَّ الرَّهْنَ يَدُلُّ عَلَى الْيَدِ وَالْحَبْسِ ثَبَتَ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ وَجْهٍ، لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ إنَّمَا يَكُونُ بِالْيَدِ وَالرَّقَبَةِ وَقَدْ حَصَلَ بَعْضُهُ، وَتَقَرَّرَ بِالْهَلَاكِ لِانْتِفَاءِ احْتِمَالِ النَّقْضِ، فَلَوْ لَمْ يَسْقُطْ الدَّيْنُ وَاسْتَوْفَاهُ ثَانِيًا أَدَّى إلَى تَكْرَارِ الْأَدَاءِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْيَدِ وَهُوَ رِبًا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الرَّهْنُ قَائِمًا لِأَنَّهُ يَنْتَقِضُ هَذَا الِاسْتِيفَاءُ: أَيْ لِلدَّيْنِ بِالْحَبْسِ بِالرَّدِّ عَلَى الرَّاهِنِ فَلَا يَتَكَرَّرُ الْأَدَاءُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَاجْعَلْ الْهَلَاكَ كَالرَّدِّ فِي نَقْضِ الِاسْتِيفَاءِ فَإِنَّ الْهَلَاكَ لَمْ يَتَعَيَّنْ لِتَقْرِيرِ الِاسْتِيفَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَبِيعَ إذَا هَلَكَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَإِنَّهُ لَا يُقَرِّرُ اسْتِيفَاءَ الثَّمَنِ بَلْ يُنْقَضُ الِاسْتِيفَاءُ بِهِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ النَّقْضَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا أَمْكَنَ رَدُّ الْعَيْنِ إلَى الْمَالِكِ كَالثَّمَنِ فِيمَا ذَكَرْتُمْ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي هَلَاكِ الرَّهْنِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَلْيَسْتَوْفِ الْمُرْتَهِنُ الدَّيْنَ عَلَى وَجْهٍ لَا يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا وَهُوَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ رَقَبَةً لَا يَدًا.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ وَلَا وَجْهَ إلَى اسْتِيفَاءِ الْبَاقِي وَهُوَ مِلْكُ الرَّقَبَةِ بِدُونِ مَا اسْتَوْفَاهُ مِنْ الْيَدِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ.
وَقَوْلُهُ (وَالِاسْتِيفَاءُ يَقَعُ بِالْمَالِيَّةِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَوْ كَانَ بِالرَّهْنِ اسْتِيفَاءٌ لَكَانَ إمَّا لِعَيْنِ الدَّيْنِ أَوْ لِبَدَلِهِ، لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ الرَّهْنَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ، وَاسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ جِنْسِهِ، وَلَا إلَى الثَّانِي لِأَنَّ الرَّهْنَ بِبَدَلِ الصَّرْفِ وَالْمُسْلَمِ فِيهِ جَائِزٌ وَالِاسْتِبْدَالُ بِهِمَا غَيْرُ جَائِزٍ.
وَوَجْهُ الْجَوَابِ أَنَّا نَخْتَارُ الْأَوَّلَ.
وَقَوْلُهُ (لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ).
قُلْنَا: لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ أَوْ الْمَالِيَّةُ، وَالْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ، وَلَيْسَ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ بَلْ هُوَ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ أَمَانَةً، حَتَّى كَانَتْ نَفَقَةُ الْمَرْهُونِ عَلَى الرَّاهِنِ فِي حَيَاتِهِ وَكَفَنِهِ بَعْدَ مَمَاتِهِ وَكَذَا قَبْضُ الرَّهْنِ لَا يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الشِّرَاءِ إنْ اشْتَرَاهُ الْمُرْتَهِنُ لِمَا تَقَدَّمَ فِي الْهِبَةِ أَنَّ قَبْضَ الْأَمَانَةِ لَا يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الضَّمَانِ بِخِلَافِ الْعَكْسِ، وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ فَإِنَّهُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ مَالِيَّةٌ وَالِاسْتِيفَاءُ يَقَعُ بِهَا.
وَقَوْلُهُ (وَمُوجَبُ الْعَقْدِ) جَوَابٌ عَمَّا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الرَّهْنُ وَثِيقَةٌ بِالدَّيْنِ وَبَعْدَ الْوَثِيقَةِ يَزْدَادُ مَعْنَى الصِّيَانَةِ، وَالسُّقُوطُ بِالْهَلَاكِ يُضَادُّ مَا اقْتَضَاهُ الْعَقْدُ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ مُوجَبَ الْعَقْدِ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَذَلِكَ يُحَقِّقُ الصِّيَانَةَ لَا مَحَالَةَ، وَفَرَاغُ ذِمَّةِ الرَّاهِنِ مِنْ ضَرُورَاتِهِ كَمَا فِي الْحَوَالَةِ فَإِنَّهَا تُوجِبُ الدَّيْنَ فِي ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ لِصِيَانَةِ حَقِّ الطَّالِبِ، وَإِنْ كَانَ فَرَاغُ ذِمَّةِ الْمُحِيلِ مِنْ ضَرُورَاتِهِ فَلَا يَنْعَدِمُ بِهِ مُقْتَضَى الْعَقْدِ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْمَوْضُوعَاتِ الْأَصْلِيَّةِ لَا اللَّوَازِمِ الضِّمْنِيَّةِ.
وَنُوقِضَ بِنَقْضٍ إجْمَالِيٍّ وَهُوَ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ بَعْدَ الْفَسْخِ مَحْبُوسٌ عِنْدَ الْمُسْتَأْجِرِ بِالْأُجْرَةِ الْمُعَجَّلَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْهُونِ، حَتَّى إذَا مَاتَ الْآجِرُ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ أَحَقَّ بِهِ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ ثُمَّ إذَا هَلَكَ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا، وَأُجِيبَ بِأَنَّ يَدَ الْمُسْتَأْجِرِ بَعْدَ فَسْخِهَا لَيْسَتْ بِيَدِ اسْتِيفَاءٍ، لِأَنَّ يَدَ الِاسْتِيفَاءِ هِيَ الَّتِي كَانَتْ لَهُ قَبْلَ الْفَسْخِ، وَإِنَّمَا قَبَضَ الْعَيْنَ الْمُسْتَأْجَرَةَ لِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ لَا لِاسْتِيفَاءِ الْأُجْرَةِ مِنْ الْمَالِيَّةِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَصِرْ مُسْتَوْفِيًا بِالْهَلَاكِ فِي يَدِهِ.
وَأَمَّا اخْتِصَاصُهُ بِهِ دُونَ الْغُرَمَاءِ فَلِأَنَّهُ كَانَ مَخْصُوصًا بِهِ قَبْلَ الْفَسْخِ لِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ وَبَعْدَ الْفَسْخِ يَبْقَى الِاخْتِصَاصُ فِي حَقِّ اسْتِرْدَادِ الْأُجْرَةِ.
وَقَوْلُهُ (فَالْحَاصِلُ إلَخْ) وَاضِحٌ قَالَ (وَلَا يَصِحُّ الرَّهْنُ إلَّا بِدَيْنٍ مَضْمُونٍ)؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ، وَالِاسْتِيفَاءُ يَتْلُو الْوُجُوبَ قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَيَدْخُلُ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ الرَّهْنُ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ بِأَنْفُسِهَا، فَإِنَّهُ يَصِحُّ الرَّهْنُ بِهَا وَلَا دَيْنَ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ فِيهَا هُوَ الْقِيمَةُ وَرَدُّ الْعَيْنِ مُخَلِّصٌ عَلَى مَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ وَهُوَ دَيْنٌ وَلِهَذَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهَا، وَلَئِنْ كَانَ لَا يَجِبُ إلَّا بَعْدَ الْهَلَاكِ وَلَكِنَّهُ يَجِبُ عِنْدَ الْهَلَاكِ بِالْقَبْضِ السَّابِقِ، وَلِهَذَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْقَبْضِ فَيَكُونُ رَهْنًا بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهِ فَيَصِحُّ كَمَا فِي الْكَفَالَةِ، وَلِهَذَا لَا تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ الْمُقَيَّدَةُ بِهِ بِهَلَاكِهِ، بِخِلَافِ الْوَدِيعَةِ، قَالَ (وَهُوَ مَضْمُونٌ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ، فَإِذَا هَلَكَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، وَقِيمَتُهُ وَالدَّيْنُ سَوَاءٌ صَارَ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا لِدَيْنِهِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ أَكْثَرَ فَالْفَضْلُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ)؛ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ بِقَدْرِ مَا يَقَعُ بِهِ الِاسْتِيفَاءُ وَذَاكَ بِقَدْرِ الدَّيْنِ (وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ سَقَطَ مِنْ الدَّيْنِ بِقَدْرِهِ وَرَجَعَ الْمُرْتَهِنُ بِالْفَضْلِ)؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ بِقَدْرِ الْمَالِيَّةِ وَقَالَ زُفَرُ: الرَّهْنُ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ الرَّهْنُ، وَقِيمَتُهُ يَوْمَ الرَّهْنِ أَلْفٌ وَخَمْسمِائَةٍ وَالدَّيْنُ أَلْفٌ رَجَعَ الرَّاهِنُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ بِخَمْسِمِائَةٍ لَهُ حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ يَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ فِي الرَّهْنِ وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الدَّيْنِ مَرْهُونَةٌ لِكَوْنِهَا مَحْبُوسَةً بِهِ فَتَكُونُ مَضْمُونَةً اعْتِبَارًا بِقَدْرِ الدَّيْنِ وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَلِأَنَّ يَدَ الْمُرْتَهِنِ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ فَلَا تُوجِبُ الضَّمَانَ إلَّا بِالْقَدْرِ الْمُسْتَوْفِي كَمَا فِي حَقِيقَةِ الِاسْتِيفَاءِ، وَالزِّيَادَةُ مَرْهُونَةٌ بِهِ ضَرُورَةَ امْتِنَاعِ حَبْسِ الْأَصْلِ بِدُونِهَا وَلَا ضَرُورَةَ فِي حَقِّ الضَّمَانِ وَالْمُرَادُ بِالتَّرَادِّ فِيمَا يُرْوَى حَالَةَ الْبَيْعِ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الْمُرْتَهِنُ أَمِينٌ فِي الْفَضْلِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَا يَصِحُّ الرَّهْنُ إلَّا بِدَيْنٍ مَضْمُونٍ إلَخْ) قِيلَ ذَكَرَ مَضْمُونٍ لِلتَّأْكِيدِ لِأَنَّ كُلَّ دَيْنٍ مَضْمُونٌ، وَقِيلَ هُوَ احْتِرَازٌ عَنْ دَيْنٍ سَيَجِبُ كَمَا لَوْ رَهَنَ بِالدَّرْكِ وَهُوَ ضَمَانُ الثَّمَنِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ، لِأَنَّ حُكْمَهُ: أَيْ حُكْمَ الرَّهْنِ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ وَالِاسْتِيفَاءُ يَتْلُو الْوُجُوبَ، وَأَمَّا صِحَّتُهُ بِالدَّيْنِ الْمَوْعُودِ فَسَيَجِيءُ الْكَلَامُ فِيهِ.
وَقَوْلُهُ (وَيَدْخُلُ) أَيْ يُشْكِلُ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ أَيْ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ صِحَّةُ جَوَازِ الرَّهْنِ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ بِأَنْفُسِهَا كَالْمَغْصُوبِ وَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ.
وَقِيلَ قَوْلُهُ بِأَنْفُسِهَا احْتِرَازٌ عَنْ غَيْرِهَا.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الرَّهْنَ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِالدَّيْنِ أَوْ بِالْعَيْنِ، وَالْأَوَّلُ صَحِيحٌ بِكُلِّ حَالٍ، وَالثَّانِي إمَّا أَنْ يَكُونَ بِعَيْنٍ مَضْمُونٍ أَوْ لَا، وَالثَّانِي غَيْرُ صَحِيحٍ كَمَا فِي الْوَدَائِعِ وَالْعَوَارِيّ وَالْمُضَارَبَاتِ وَالشَّرِكَاتِ، وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ تَكُونَ بِنَفْسِهَا وَهُوَ مَا يَجِبُ عِنْدَ هَلَاكِهِ الْمِثْلُ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا أَوْ قِيمَتُهُ إنْ كَانَ قِيَمِيًّا، أَوْ يَكُونَ مَضْمُونًا بِغَيْرِهَا وَهُوَ الْمَضْمُونُ بِغَيْرِ الْمِثْلِ أَوْ الْقِيمَةِ كَالْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ بِالثَّمَنِ.
وَإِذَا ظَهَرَ ذَلِكَ فَقَوْلُهُ وَلَا يَصِحُّ الرَّهْنُ إلَّا بِدَيْنٍ مَضْمُونٍ يُشْكِلُ عَلَيْهِ الْأَعْيَانُ الْمَضْمُونَةُ بِنَفْسِهَا، فَإِنَّ الرَّهْنَ بِهَا صَحِيحٌ وَلَا دَيْنَ ثَمَّةَ.
وَأَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ عَلَى مَا اخْتَارَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ أَنَّ الْمُوجِبَ الْأَصْلِيَّ فِيهَا هُوَ الْقِيمَةُ، وَرَدُّ الْعَيْنِ مُخَلِّصٌ وَالْقِيمَةُ دَيْنٌ (وَلِهَذَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهَا) أَيْ بِالْعَيْنِ الْمَضْمُونِ بِنَفْسِهِ، وَقَوْلُهُ (وَلَئِنْ كَانَ لَا يَجِبُ الْقِيمَةُ إلَّا بَعْدَ هَلَاكِ الْعَيْنِ لَكِنْ عِنْدَ الْهَلَاكِ يَجِبُ بِالْقَبْضِ السَّابِقِ، وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ قَبْضِ الْغَاصِبِ الْمَغْصُوبَ مِنْ الْمَالِكِ فَيَكُونُ رَهْنًا بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِهِ) جَوَابٌ عَمَّا اخْتَارَهُ بَعْضٌ آخَرُ مِنْ الْمَشَايِخِ.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِهِ قَدْ انْعَقَدَ فَكَانَ كَالْمَوْجُودِ فَصَحَّ الرَّهْنُ كَمَا صَحَّتْ الْكَفَالَةُ.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ لَا تَسْتَلْزِمُ صِحَّةَ الرَّهْنِ، فَإِنَّهَا تَصِحُّ بِدَيْنٍ سَيَجِبُ كَمَا لَوْ قَالَ مَا ذَابَ لَك عَلَى فُلَانٍ فَعَلَيَّ دُونَ الرَّهْنِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ قَوْلَهُ مَا ذَابَ لَك إضَافَةٌ لِلْكَفَالَةِ لَا كَفَالَةٌ، وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ قَوْلُك دُونَ الرَّهْنِ يُرِيدُ بِهِ دَيْنًا مَا انْعَقَدَ سَبَبُ وُجُوبِهِ أَوْ دَيْنًا انْعَقَدَ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ كَلَامُنَا فِيهِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَهُوَ مَمْنُوعٌ فَإِنَّهُ عَيْنُ مَا نَحْنُ فِيهِ.
وَقَوْلُهُ (وَلِهَذَا) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَوْضِيحًا عَلَى كُلٍّ مِنْ التَّخْرِيجَيْنِ.
أَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَتَقْرِيرُهُ وَلِكَوْنِ الْمُوجَبِ الْأَصْلِيِّ فِيهَا الْقِيمَةَ لَا تُبْطِلُ الْحَوَالَةَ الْمُقَيَّدَةَ بِالْعَيْنِ الْمَضْمُونِ بِنَفْسِهِ بِهَلَاكِهِ، فَلَوْ أَحَالَ عَلَى الْغَاصِبِ فَهَلَكَ الْمَغْصُوبُ لَمْ تَبْطُلْ الْحَوَالَةُ لِأَنَّ الْمُوجِبَ الْأَصْلِيَّ لَمَّا كَانَ هَلَاكُ الْعَيْنِ كَلَا هَلَاكَ لِقِيَامِ الْقِيمَةِ فِي ذِمَّتِهِ، وَرَدُّ الْعَيْنِ كَانَ مُخَلِّصًا وَلَمْ يَحْصُلْ.
وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي فَتَقْرِيرُهُ وَلِكَوْنِ سَبَبِ وُجُوبِ الْقِيمَةِ قَدْ انْعَقَدَ جُعِلَتْ كَالْمَوْجُودِ فَبِهَلَاكِ الْعَيْنِ لَا تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ، بِخِلَافِ الْوَدِيعَةِ فَإِنَّ الْحَوَالَةَ عَلَيْهَا لَا تَبْطُلُ بِهَلَاكِهَا لِأَنَّهُ لَا وُجُوبَ هُنَاكَ لِلْقِيمَةِ وَلَا سَبَبَ لِلْوُجُوبِ.
قَالَ (وَهُوَ مَضْمُونٌ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ إلَخْ) الرَّهْنُ مَضْمُونٌ بِالْأَقَلِّ أَيْ بِمَا هُوَ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ يَوْمَ الْقَبْضِ وَمِنْ الدَّيْنِ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْقُدُورِيِّ: بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ مَعْنَى الْمُعَرَّفِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا وَمَعْنَى الْمُنَكَّرِ ثَالِثٌ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (يَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ) يَعْنِي أَنَّ التَّرَادَّ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ.
وَقَوْلُهُ (كَمَا فِي حَقِيقَةِ الِاسْتِيفَاءِ) مِثْلُ مَا إذَا أَوْفَاهُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ فِي كِيسٍ وَحَقُّهُ فِي أَلْفٍ فَإِنَّهُ يَصِيرُ ضَامِنًا قَدْرَ الدَّيْنِ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى قَدْرِ الدَّيْنِ أَمَانَةٌ فَكَذَا هَذَا.
وَقَوْلُهُ (ضَرُورَةُ امْتِنَاعِ حَبْسِ الْأَصْلِ بِدُونِهَا) لِأَنَّا لَوْ لَمْ نَجْعَلْ الزِّيَادَةَ مَرْهُونَةً أَدَّى إلَى الشُّيُوعِ أَوْ لِعَدَمِ انْفِكَاكِهَا عَنْهُ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا ضَرُورَةَ فِي حَقِّ الضَّمَانِ) لِأَنَّ بَقَاءَ الرَّهْنِ مَعَ عَدَمِ الضَّمَانِ مُمْكِنٌ بِأَنْ اسْتَعَارَ الرَّاهِنُ الرَّهْنَ مِنْ الْمُرْتَهِنِ، فَإِنَّ الرَّهْنَ بَاقٍ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ كَمَا سَيَجِيءُ.
وَقَوْلُهُ (وَالْمُرَادُ بِالتَّرَادِّ فِيمَا رُوِيَ حَالَةُ الْبَيْعِ) يَعْنِي تَوْفِيقًا بَيْنَ حَدِيثَيْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ {الْمُرْتَهِنُ أَمِينٌ فِي الْفَضْلِ} فَيَجِبُ حَمْلُ الْأَوَّلِ عَلَى حَالَةِ الْبَيْعِ: يَعْنِي إذَا بَاعَ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ يُرَدُّ مَا زَادَ عَلَى الدَّيْنِ مِنْ ثَمَنِهِ إلَى الرَّاهِنِ، وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ زَائِدًا يَرُدُّ الرَّاهِنُ زِيَادَةَ الدَّيْنِ. قَالَ (وَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُطَالِبَ الرَّاهِنَ بِدَيْنِهِ وَيَحْبِسَهُ بِهِ)؛ لِأَنَّ حَقَّهُ بَاقٍ بَعْدَ الرَّهْنِ وَالرَّهْنُ لِزِيَادَةِ الصِّيَانَةِ فَلَا تَمْتَنِعُ بِهِ الْمُطَالَبَةُ، وَالْحَبْسُ جَزَاءُ الظُّلْمِ، فَإِذَا ظَهَرَ مَطْلُهُ عِنْدَ الْقَاضِي يَحْبِسُهُ كَمَا بَيَّنَّاهُ عَلَى التَّفْصِيلِ فِيمَا تَقَدَّمَ (وَإِذَا طَلَبَ الْمُرْتَهِنُ دَيْنَهُ يُؤْمَرُ بِإِحْضَارِ الرَّهْنِ)؛ لِأَنَّ قَبْضَ الرَّهْنِ قَبْضُ اسْتِيفَاءٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْبِضَ مَالَهُ مَعَ قِيَامِ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَتَكَرَّرُ الِاسْتِيفَاءُ عَلَى اعْتِبَارِ الْهَلَاكِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ وَهُوَ مُحْتَمَلٌ (وَإِذَا أُحْضِرَ أُمِرَ الرَّاهِنُ بِتَسْلِيمِ الدَّيْنِ إلَيْهِ أَوَّلًا) لِيَتَعَيَّنَ حَقُّهُ كَمَا تَعَيَّنَ حَقُّ الرَّاهِنِ تَحْقِيقًا لِلتَّسْوِيَةِ كَمَا فِي تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ يُحْضَرُ الْمَبِيعُ ثُمَّ يُسَلَّمُ الثَّمَنُ أَوَّلًا (وَإِنْ طَالَبَهُ بِالدَّيْنِ فِي غَيْرِ الْبَلَدِ الَّذِي وَقَعَ الْعَقْدُ فِيهِ، إنْ كَانَ الرَّهْنُ مِمَّا لَا حَمْلَ لَهُ وَلَا مُؤْنَةَ، فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ)؛ لِأَنَّ الْأَمَاكِنَ كُلَّهَا فِي حَقِّ التَّسْلِيمِ كَمَكَانٍ وَاحِدٍ فِيمَا لَيْسَ لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ؛ وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ بَيَانُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ فِيهِ فِي بَابِ السَّلَمِ بِالْإِجْمَاعِ (وَإِنْ كَانَ لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ يَسْتَوْفِي دَيْنَهُ وَلَا يُكَلَّفُ إحْضَارَ الرَّهْنِ)؛ لِأَنَّ هَذَا نَقْلٌ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ التَّسْلِيمُ بِمَعْنَى التَّخْلِيَةِ، لَا النَّقْلُ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان؛ لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِهِ زِيَادَةَ الضَّرَرِ وَلَمْ يَلْتَزِمْهُ.
(وَلَوْ سَلَّطَ الرَّاهِنُ الْعَدْلَ عَلَى بَيْعِ الْمَرْهُونِ فَبَاعَهُ بِنَقْدٍ أَوْ نَسِيئَةٍ جَازَ) لِإِطْلَاقِ الْأَمْرِ (فَلَوْ طَالَبَ الْمُرْتَهِنُ بِالدَّيْنِ لَا يُكَلَّفُ الْمُرْتَهِنُ إحْضَارَ الرَّهْنِ)؛ لِأَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْإِحْضَارِ (وَكَذَا إذَا أَمَرَ الْمُرْتَهِنُ بِبَيْعِهِ فَبَاعَهُ وَلَمْ يَقْبِضْ الثَّمَنَ)؛ لِأَنَّهُ صَارَ دَيْنًا بِالْبَيْعِ بِأَمْرِ الرَّاهِنِ، فَصَارَ كَأَنَّ الرَّاهِنَ رَهَنَهُ وَهُوَ دَيْنٌ (وَلَوْ قَبَضَهُ يُكَلَّفُ إحْضَارَهُ لِقِيَامِ الْبَدَلِ مَقَامَ الْمُبْدَلِ)؛ لِأَنَّ الَّذِي يَتَوَلَّى قَبْضَ الثَّمَنِ هُوَ الْمُرْتَهِنُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْعَاقِدُ فَتَرْجِعُ الْحُقُوقُ إلَيْهِ، وَكَمَا يُكَلَّفُ إحْضَارَ الرَّهْنِ لِاسْتِيفَاءِ كُلِّ الدَّيْنِ يُكَلَّفُ لِاسْتِيفَاءِ نَجْمٍ قَدْ حَلَّ لِاحْتِمَالِ الْهَلَاكِ، ثُمَّ إذَا قَبَضَ الثَّمَنَ يُؤْمَرُ بِإِحْضَارِهِ لِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْعَيْنِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَتَلَ رَجُلٌ الْعَبْدَ الرَّهْنَ خَطَأً حَتَّى قَضَى بِهِ بِالْقِيمَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ لَمْ يُجْبَرْ الرَّاهِنُ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ حَتَّى يُحْضِرَ كُلَّ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ خَلَفٌ عَنْ الرَّهْنِ فَلَا بُدَّ مِنْ إحْضَارِ كُلِّهَا كَمَا لابد مِنْ إحْضَارِ كُلِّ عَيْنِ الرَّهْنِ وَمَا صَارَتْ قِيمَةً بِفِعْلِهِ، وَفِيمَا تَقَدَّمَ صَارَ دَيْنًا بِفِعْلِ الرَّاهِنِ فَلِهَذَا افْتَرَقَا (وَلَوْ وَضَعَ الرَّهْنَ عَلَى يَدِ الْعَدْلِ وَأُمِرَ أَنْ يُودِعَهُ غَيْرَهُ فَفَعَلَ ثُمَّ جَاءَ الْمُرْتَهِنُ يَطْلُبُ دَيْنَهُ لَا يُكَلَّفُ إحْضَارَ الرَّهْنِ)؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْتَمَنْ عَلَيْهِ حَيْثُ وُضِعَ عَلَى يَدِ غَيْرِهِ فَلَمْ يَكُنْ تَسْلِيمُهُ فِي قُدْرَتِهِ (وَلَوْ وَضَعَهُ الْعَدْلُ فِي يَدِ مَنْ فِي عِيَالِهِ وَغَابَ وَطَلَبَ الْمُرْتَهِنُ دَيْنَهُ وَاَلَّذِي فِي يَدِهِ يَقُولُ أَوْدَعَنِي فُلَانٌ وَلَا أَدْرِي لِمَنْ هُوَ يُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ)؛ لِأَنَّ إحْضَارَ الرَّهْنِ لَيْسَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ شَيْئًا.
(وَكَذَلِكَ إذَا غَابَ الْعَدْلُ بِالرَّهْنِ وَلَا يُدْرَى أَيْنَ هُوَ) لِمَا قُلْنَا (وَلَوْ أَنَّ الَّذِي أَوْدَعَهُ الْعَدْلُ جَحَدَ الرَّهْنَ وَقَالَ هُوَ مَالِيٌّ لَمْ يَرْجِعْ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الرَّاهِنِ بِشَيْءٍ حَتَّى يَثْبُتَ كَوْنُهُ رَهْنًا)؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَحَدَ الرَّهْنَ فَقَدْ تَوَى الْمَالُ وَالْتَوَى عَلَى الْمُرْتَهِنِ فَيَتَحَقَّقُ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ وَلَا يَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ بِهِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (كَمَا بَيَّنَّاهُ عَلَى التَّفْصِيلِ فِيمَا تَقَدَّمَ) يَعْنِي فِي فَصْلِ الْحَبْسِ مِنْ أَدَبِ الْقَاضِي.
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا طَلَبَ الْمُرْتَهِنُ دَيْنَهُ) وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (تَحْقِيقًا لِلتَّسْوِيَةِ) قِيلَ لِأَنَّ الرَّهْنَ وَإِنْ كَانَ لِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ بِحُكْمِ الْوَضْعِ لَكِنْ فِيهِ شُبْهَةُ الْمُبَادَلَةِ، فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ اسْتِيفَاءٌ لِحَقِّهِ قُلْنَا بِأَنَّ قَبْضَ الدَّيْنِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إحْضَارِ الرَّهْنِ فَلَمْ يَجِبْ عَلَى الْمُرْتَهِنِ تَسْلِيمُهُ، وَبِاعْتِبَارِ شُبْهَةِ الْمُبَادَلَةِ يَتَوَقَّفُ قَبْضُ الدَّيْنِ عَلَى إحْضَارِ الرَّهْنِ عِنْدَ وُجُوبِ تَسْلِيمِهِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِهِ زِيَادَةَ الضَّرَرِ وَلَمْ يَلْتَزِمْهُ) يَعْنِي الْمُرْتَهِنَ، وَلَمْ يُعْتَبَرْ هُنَاكَ احْتِمَالُ تَكْرَارِ الِاسْتِيفَاءِ عَلَى اعْتِبَارِ الْهَلَاكِ لِأَنَّهُ مَوْهُومٌ، فَلَا يَظْهَرُ فِي مُقَابَلَةِ ضَرَرٍ مُتَيَقَّنٍ وَهُوَ تَأَخُّرُ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ.
وَقَوْلُهُ (لِإِطْلَاقِ الْأَمْرِ) يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَوْ قَيَّدَهُ بِالنَّقْدِ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ نَسِيئَةً.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْإِحْضَارِ) لِأَنَّ الرَّهْنَ بَيْعٌ بِأَمْرِ الرَّاهِنِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى إحْضَارِهِ.
وَقَوْلُهُ (وَكَذَا إذَا أَمَرَ الْمُرْتَهِنُ) يَعْنِي لَا يُكَلَّفُ إحْضَارَ الرَّهْنِ، لِأَنَّهُ: أَيْ الرَّهْنَ صَارَ دَيْنًا بِالْبَيْعِ بِأَمْرِ الرَّاهِنِ، فَصَارَ كَأَنَّ الرَّاهِنَ رَهَنَهُ وَهُوَ دَيْنٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا بَاعَهُ بِإِذْنِهِ صَارَ كَأَنَّهُمَا تَفَاسَخَا الرَّهْنَ وَصَارَ الثَّمَنُ رَهْنًا بِتَرَاضِيهِمَا ابْتِدَاءً لَا بِطَرِيقِ انْتِقَالِ حُكْمِ الرَّهْنِ إلَى الثَّمَنِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ الرَّهْنَ بِأَقَلَّ مِنْ الدَّيْنِ لَمْ يَسْقُطْ مِنْ دَيْنِ الْمُرْتَهِنِ شَيْءٌ فَصَارَ كَأَنَّهُ رَهَنَهُ وَلَمْ يُسَلِّمْ إلَيْهِ بَلْ وَضَعَهُ عَلَى يَدِ عَدْلٍ.
وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنَّ الَّذِي يَتَوَلَّى قَبْضَ الثَّمَنِ هُوَ الْمُرْتَهِنُ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ فَصَارَ كَأَنَّ الرَّاهِنَ رَهَنَهُ وَهُوَ دَيْنٌ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمَا كَانَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَقْبِضَ الثَّمَنَ مِنْ الْمُشْتَرِي كَمَا لَوْ كَانَ الرَّهْنُ فِي يَدِ عَدْلٍ لَكِنْ لَهُ ذَلِكَ.
وَوَجْهُ مَا ذُكِرَ أَنَّ وِلَايَةَ الْقَبْضِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ عَاقِدًا وَالْحُقُوقُ تَرْجِعُ إلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ (وَكَمَا يُكَلَّفُ إحْضَارَ الرَّهْنِ لِاسْتِيفَاءِ الْكُلِّ يُكَلَّفُ لِاسْتِيفَاءِ نَجْمٍ) قِيلَ إذَا ادَّعَى الرَّاهِنُ هَلَاكَ الرَّهْنِ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَدَّعِ فَلَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ لِاحْتِمَالِ الْهَلَاكِ.
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ إذَا قَبَضَ الثَّمَنَ) يَعْنِي إذَا بَاعَ الرَّهْنَ وَقَبَضَ الثَّمَنَ، فَإِذَا قَبَضَهُ وَجَبَ إحْضَارُهُ لِاسْتِيفَاءِ نَجْمٍ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْعَيْنِ.
وَقَوْلُهُ (وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَتَلَ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَكَذَا إذَا أُمِرَ الْمُرْتَهِنُ بِبَيْعِهِ إلَى آخِرِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُجْبَرُ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الْإِحْضَارِ، بَلْ يُجْبَرُ عَلَى الْأَدَاءِ بِدُونِ إحْضَارِ شَيْءٍ بِخِلَافِ مَا إذَا قَتَلَ رَجُلٌ عَبْدَ الرَّهْنِ خَطَأً حَتَّى قُضِيَ بِالْقِيمَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ.
فَإِنَّ الرَّاهِنَ لَا يُجْبَرُ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ حَتَّى يُحْضِرَ الْمُرْتَهِنُ كُلَّ الْقِيمَةِ، لِأَنَّ الْقِيمَةَ خَلَفٌ عَنْ الْعَيْنِ فَلَا بُدَّ مِنْ إحْضَارِ كُلِّهَا كَمَا لابد مِنْ إحْضَارِ كُلِّ عَيْنِ الرَّهْنِ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا تَكُونُ الْقِيمَةُ هَاهُنَا كَالثَّمَنِ ثَمَّةَ وَهِيَ لَيْسَتْ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَيُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى الْقَضَاءِ كَمَا كَانَ ثَمَّةَ.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ وَمَا صَارَتْ قِيمَةً بِفِعْلِهِ حَتَّى تَنْتَقِلَ إلَيْهَا الرَّهِينَةُ فَصَارَ كَالرَّهْنِ فِي يَدِ عَدْلٍ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فَإِنَّ الرَّهْنَ صَارَ دَيْنًا بِفِعْلِهِ فَكَأَنَّهُمَا تَفَاسَخَا، وَجُعِلَ الثَّمَنُ رَهْنًا ابْتِدَاءً كَمَا مَرَّ فَافْتَرَقَا.
وَفِي النِّهَايَةِ جَعَلَ قَوْلَهُ وَهَذَا إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ يُكَلَّفُ لِاسْتِيفَاءِ نَجْمٍ قَدْ حَلَّ، وَوَجْهُهُ هَكَذَا: أَيْ فِي مَسْأَلَةِ الْقَتْلِ لَمْ يُجْبَرْ الرَّاهِنُ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ حَتَّى يُحْضِرَ الْمُرْتَهِنُ كُلَّ الْقِيمَةِ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ بِخِلَافِهِ حَيْثُ يُكَلَّفُ الْمُرْتَهِنُ بِإِحْضَارِ الرَّهْنِ عِنْدَ كُلِّ نَجْمٍ يُؤَدِّيهِ الرَّاهِنُ مِنْ الدَّيْنِ وَهُوَ كَمَا تَرَى مُتَعَسِّفٌ.
وَقَوْلُهُ (لِمَا قُلْنَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لَمْ يَقْبِضْ شَيْئًا. قَالَ (وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ فِي يَدِهِ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْ الْبَيْعِ حَتَّى يَقْضِيَهُ الدَّيْنَ)؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ الْحَبْسُ الدَّائِمُ إلَى أَنْ يَقْضِيَ الدَّيْنَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ (وَلَوْ قَضَاهُ الْبَعْضَ فَلَهُ أَنْ يَحْبِسَ كُلَّ الرَّهْنِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْبَقِيَّةَ) اعْتِبَارًا بِحَبْسِ الْمَبِيعِ (فَإِذَا قَضَاهُ الدَّيْنَ قِيلَ لَهُ سَلِّمْ الرَّهْنَ إلَيْهِ)؛ لِأَنَّهُ زَالَ الْمَانِعُ مِنْ التَّسْلِيمِ لِوُصُولِ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ (فَلَوْ هَلَكَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ اسْتَرَدَّ الرَّاهِنُ مَا قَضَاهُ)؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَوْفِيًا عِنْدَ الْهَلَاكِ بِالْقَبْضِ السَّابِقِ، فَكَانَ الثَّانِي اسْتِيفَاءً بَعْدَ اسْتِيفَاءٍ فَيَجِبُ رَدُّهُ (وَكَذَلِكَ لَوْ تَفَاسَخَا الرَّهْنَ لَهُ حَبْسُهُ مَا لَمْ يَقْبِضْ الدَّيْنَ أَوْ يُبْرِئْهُ، وَلَا يَبْطُلُ الرَّهْنُ إلَّا بِالرَّدِّ عَلَى الرَّاهِنِ عَلَى وَجْهِ الْفَسْخِ)؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى مَضْمُونًا مَا بَقِيَ الْقَبْضُ وَالدَّيْنُ (وَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ سَقَطَ الدَّيْنُ إذَا كَانَ بِهِ وَفَاءٌ بِالدَّيْنِ) لِبَقَاءِ الرَّهْنِ (وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالرَّهْنِ لَا بِاسْتِخْدَامٍ، وَلَا بِسُكْنَى وَلَا لُبْسٍ، إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ الْمَالِكُ)؛ لِأَنَّ لَهُ حَقَّ الْحَبْسِ دُونَ الِانْتِفَاعِ (وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ إلَّا بِتَسْلِيطٍ مِنْ الرَّاهِنِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ وَيُعِيرَ)؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الِانْتِفَاعِ بِنَفْسِهِ فَلَا يَمْلِكُ تَسْلِيطَ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، فَإِنْ فَعَلَ كَانَ مُتَعَدِّيًا، وَلَا يَبْطُلُ عَقْدُ الرَّهْنِ بِالتَّعَدِّي.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ فِي يَدِهِ إلَخْ) إذَا كَانَ الرَّهْنُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُمَكِّنَ الرَّاهِنَ مِنْ بَيْعِهِ وَأَنْ لَا يُمَكِّنَ، لِأَنَّ حُكْمَهُ الْحَبْسُ الدَّائِمُ إلَى أَنْ يَقْضِيَ الدَّيْنَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ وَذَلِكَ حَقُّهُ فَلَهُ إسْقَاطُهُ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (فَلَوْ هَلَكَ) أَيْ الرَّهْنُ (قَبْلَ الرَّدِّ اسْتَرَدَّ الرَّاهِنُ مَا قَضَاهُ) لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ، وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا إذَا ارْتَهَنَ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَبَضَهُ وَقِيمَتُهُ مِثْلُ الدَّيْنِ ثُمَّ وَهَبَ الْمُرْتَهِنُ الْمَالَ لِلرَّاهِنِ أَوْ أَبْرَأَهُ وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ الرَّهْنَ حَتَّى هَلَكَ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمْنَعَهُ إيَّاهُ فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ اسْتِحْسَانًا، وَإِنْ ثَبَتَتْ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ لِلْمُرْتَهِنِ بِقَبْضِهِ السَّابِقِ وَقَدْ تَقَرَّرَ بِالْهَلَاكِ فَصَيْرُورَتُهُ مُسْتَوْفِيًا بِهَلَاكِ الرَّهْنِ بَعْدَ الْإِبْرَاءِ بِمَنْزِلَةِ اسْتِيفَائِهِ حَقِيقَةً، وَفِي الِاسْتِيفَاءِ حَقِيقَةٌ بَعْدَ الْإِبْرَاءِ يَرُدُّ الْمُسْتَوْفِي فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَاهُنَا كَذَلِكَ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الرَّهْنَ عَقْدُ اسْتِيفَاءٍ بِالْيَدِ وَالْحَبْسِ كَمَا تَقَدَّمَ وَذَلِكَ الِاسْتِيفَاءُ يَتَقَرَّرُ بِالْهَلَاكِ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْقَبْضِ، فَالْقَضَاءُ بَعْدَ الْهَلَاكِ اسْتِيفَاءٌ بَعْدَ اسْتِيفَاءٍ فَيَجِبُ الرَّدُّ.
وَأَمَّا الْإِبْرَاءُ فَلَيْسَ فِيهِ اسْتِيفَاءُ شَيْءٍ لِيَجِبَ رَدُّهُ، وَإِنَّمَا هُوَ إسْقَاطٌ، وَإِسْقَاطُ الدَّيْنِ مِمَّنْ لَيْسَ عَلَيْهِ لَغْوٌ.
وَقَوْلُهُ (عَلَى وَجْهِ الْفَسْخِ) احْتِرَازٌ عَمَّا إذَا رَدَّهُ عَلَى وَجْهِ الْعَارِيَّةِ فَإِنَّهُ لَا يُبْطِلُ الرَّهْنَ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ) أَيْ الرَّهْنَ (يَبْقَى مَضْمُونًا مَا دَامَ الْقَبْضُ وَالدَّيْنُ بَاقِيًا) أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ رَدَّ الرَّهْنَ سَقَطَ الضَّمَانُ لِفَوَاتِ الْقَبْضِ وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ بَاقِيًا، وَإِذَا أَبْرَأَهُ عَنْ الدَّيْنِ سَقَطَ الضَّمَانُ وَإِنْ كَانَ الْقَبْضُ بَاقِيًا، لِأَنَّ الْعِلَّةَ إذَا كَانَتْ ذَاتَ وَصْفَيْنِ يَعْدَمُ الْحُكْمُ بِعَدَمِ أَحَدِهِمَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَبْقَى مَضْمُونًا بَعْدَ قَبْضِ الدَّيْنِ إذَا هَلَكَ الرَّهْنُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا مَرَّ فَكَانَ الْكَلَامُ مُتَنَاقِضًا.
أُجِيبَ بِأَنَّ بَقَاءَ احْتِمَالِ الْحَبْسِ بِاحْتِمَالِ اسْتِحْقَاقِ الْمُؤَدَّى يُوجِبُ بَقَاءَ الضَّمَانِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الِاحْتِمَالَ لَا يُوجِبُ التَّحْقِيقَ لاسيما إذَا لَمْ يَنْشَأْ عَنْ دَلِيلٍ.
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ).
يَعْنِي إذَا حَبَسَهُ بَعْدَ التَّفَاسُخِ فَهَلَكَ سَقَطَ الدَّيْنُ إذَا كَانَ بِهِ وَفَاءٌ بِالدَّيْنِ لِبَقَاءِ الرَّهْنِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ) مَعْنَاهُ انْتِفَاءُ جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِالرَّهْنِ وَالْإِنْفَاعِ بِهِ. قَالَ (وَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَحْفَظَ الرَّهْنَ بِنَفْسِهِ وَزَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ وَخَادِمِهِ الَّذِي فِي عِيَالِهِ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ فِي عِيَالِهِ أَيْضًا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ عَيْنَهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ فَصَارَ كَالْوَدِيعَةِ (وَإِنْ حَفِظَهُ بِغَيْرِ مَنْ فِي عِيَالِهِ أَوْ أَوْدَعَهُ ضَمِنَ) هَلْ يَضْمَنُ الثَّانِي فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ، وَقَدْ بَيَّنَّا جَمِيعَ ذَلِكَ بِدَلَائِلِهِ فِي الْوَدِيعَةِ (وَإِذَا تَعَدَّى الْمُرْتَهِنُ فِي الرَّهْنِ ضَمِنَهُ ضَمَانَ الْغَصْبِ بِجَمِيعِ قِيمَتِهِ)؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى مِقْدَارِ الدَّيْنِ أَمَانَةٌ، وَالْأَمَانَاتُ تُضْمَنُ بِالتَّعَدِّي (وَلَوْ رَهَنَهُ خَاتَمًا فَجَعَلَهُ فِي خِنْصِرِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ)؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِالِاسْتِعْمَالِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْإِذْنُ بِالْحِفْظِ وَالْيُمْنَى وَالْيُسْرَى فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ فِيهِ مُخْتَلِفَةٌ (وَلَوْ جَعَلَهُ فِي بَقِيَّةِ الْأَصَابِعِ كَانَ رَهْنًا بِمَا فِيهِ)؛ لِأَنَّهُ لَا يُلْبَسُ كَذَلِكَ عَادَةً فَكَانَ مِنْ بَابِ الْحِفْظِ، وَكَذَا الطَّيْلَسَانُ إنْ لَبِسَهُ لُبْسًا مُعْتَادًا ضَمِنَ، وَإِنْ وَضَعَهُ عَلَى عَاتِقِهِ لَمْ يَضْمَنْ (وَلَوْ رَهَنَهُ سَيْفَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً فَتَقَلَّدَهَا لَمْ يَضْمَنْ فِي الثَّلَاثَةِ وَضَمِنَ فِي السَّيْفَيْنِ)؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بَيْنَ الشُّجْعَانِ بِتَقَلُّدِ السَّيْفَيْنِ فِي الْحَرْبِ وَلَمْ تَجْرِ بِتَقَلُّدِ الثَّلَاثَةِ، وَإِنْ لَبِسَ خَاتَمًا فَوْقَ خَاتَمٍ، إنْ كَانَ هُوَ مِمَّنْ يَتَجَمَّلُ بِلُبْسِ خَاتَمَيْنِ ضَمِنَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَجَمَّلُ بِذَلِكَ فَهُوَ حَافِظٌ فَلَا يَضْمَنُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَحْفَظَ الرَّهْنَ بِنَفْسِهِ إلَخْ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ وَالْعِبْرَةُ فِي الْعِيَالِ لِلْمُسَاكَنَةِ لَا لِلنَّفَقَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا ارْتَهَنَتْ وَسَلَّمَتْ الرَّهْنَ إلَى الزَّوْجِ لَمْ يَضْمَنْ، وَالِابْنُ الْكَبِيرُ الَّذِي لَا يَكُونُ فِي نَفَقَتِهِ إذَا سَاكَنَ الْأَبَ وَخَرَجَ الْأَبُ عَنْ الْمَنْزِلِ وَتَرَكَ الْمَنْزِلَ عَلَى الِابْنِ لَمْ يَضْمَنْ. قَالَ (وَأُجْرَةُ الْبَيْتِ الَّذِي يُحْفَظُ فِيهِ الرَّهْنُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ وَكَذَلِكَ أُجْرَةُ الْحَافِظِ وَأُجْرَةُ الرَّاعِي وَنَفَقَةُ الرَّهْنِ عَلَى الرَّاهِنِ) وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِمَصْلَحَةِ الرَّهْنِ وَتَبْقِيَتِهِ فَهُوَ عَلَى الرَّاهِنِ سَوَاءٌ كَانَ فِي الرَّهْنِ فَضْلٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ، وَكَذَلِكَ مَنَافِعُهُ مَمْلُوكَةٌ لَهُ فَيَكُونُ إصْلَاحُهُ وَتَبْقِيَتُهُ عَلَيْهِ لِمَا أَنَّهُ مُؤْنَةُ مِلْكِهِ كَمَا فِي الْوَدِيعَةِ، وَذَلِكَ مِثْلُ النَّفَقَةِ فِي مَأْكَلِهِ وَمَشْرَبِهِ، وَأُجْرَةُ الرَّاعِي فِي مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ عَلَفُ الْحَيَوَانِ، وَمِنْ هَذَا الْجِنْسِ كِسْوَةُ الرَّقِيقِ وَأُجْرَةُ ظِئْرِ وَلَدِ الرَّهْنِ، وَسَقْيُ الْبُسْتَانِ، وَكَرْيُ النَّهْرِ وَتَلْقِيحُ نَخِيلِهِ وَجُذَاذُهُ، وَالْقِيَامُ بِمَصَالِحِهِ، وَكُلُّ مَا كَانَ لِحِفْظِهِ أَوْ لِرَدِّهِ إلَى يَدِ الْمُرْتَهِنِ أَوْ لِرَدِّ جُزْءٍ مِنْهُ فَهُوَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ مِثْلُ أُجْرَةِ الْحَافِظِ؛ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ حَقٌّ لَهُ وَالْحِفْظُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَيَكُونُ بَدَلُهُ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ أُجْرَةُ الْبَيْتِ الَّذِي يُحْفَظُ الرَّهْنُ فِيهِ، وَهَذَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ كِرَاءَ الْمَأْوَى عَلَى الرَّاهِنِ بِمَنْزِلَةِ النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّهُ سَعَى فِي تَبْقِيَتِهِ، وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ جُعْلُ الْآبِقِ فَإِنَّهُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى إعَادَةِ الِاسْتِيفَاءِ الَّتِي كَانَتْ لَهُ لِيَرُدَّهُ فَكَانَتْ مُؤْنَةُ الرَّدِّ فَيَلْزَمُهُ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ وَالدَّيْنِ سَوَاءً، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ أَكْثَرَ فَعَلَيْهِ بِقَدْرِ الْمَضْمُونِ وَعَلَى الرَّاهِنِ بِقَدْرِ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ وَالرَّدُّ لِإِعَادَةِ الْيَدِ، وَيَدُهُ فِي الزِّيَادَةِ يَدُ الْمَالِكِ إذْ هُوَ كَالْمُودِعِ فِيهَا فَلِهَذَا يَكُونُ عَلَى الْمَالِكِ، وَهَذَا بِخِلَافِ أُجْرَةِ الْبَيْتِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فَإِنَّ كُلَّهَا تَجِبُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، وَإِنْ كَانَ فِي قِيمَةِ الرَّهْنِ فَضْلٌ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ ذَلِكَ بِسَبَبِ الْحَبْسِ، وَحَقُّ الْحَبْسِ فِي الْكُلِّ ثَابِتٌ لَهُ فَأَمَّا الْجُعْلُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ لِأَجْلِ الضَّمَانِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْمَضْمُونِ وَمُدَاوَاةُ الْجِرَاحَةِ وَالْقُرُوحِ وَمُعَالَجَةُ الْأَمْرَاضِ وَالْفِدَاءُ مِنْ الْجِنَايَةِ تَنْقَسِمُ عَلَى الْمَضْمُونِ وَالْأَمَانَةِ، وَالْخَرَاجُ عَلَى الرَّاهِنِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ مِنْ مُؤَنِ الْمِلْكِ، وَالْعُشْرُ فِيمَا يَخْرُجُ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمُرْتَهِنِ لِتَعَلُّقِهِ بِالْعَيْنِ وَلَا يَبْطُلُ الرَّهْنُ فِي الْبَاقِي؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ لَا يُنَافِي مِلْكَهُ، بِخِلَافِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَمَا أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا مِمَّا وَجَبَ عَلَى صَاحِبِهِ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ، وَمَا أَنْفَقَ أَحَدُهُمَا مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْآخَرِ بِأَمْرِ الْقَاضِي رَجَعَ عَلَيْهِ كَأَنَّ صَاحِبَهُ أَمَرَهُ بِهِ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْقَاضِي عَامَّةٌ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إذَا كَانَ صَاحِبُهُ حَاضِرًا وَإِنْ كَانَ بِأَمْرِ الْقَاضِي وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ إنَّهُ يَرْجِعُ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَهِيَ فَرْعُ مَسْأَلَةِ الْحَجْرِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَأُجْرَةُ الرَّاعِي وَنَفَقَةُ الرَّهْنِ عَلَى الرَّاهِنِ) فَإِنْ أَبَى فَالْقَاضِي يَأْمُرُ الْمُرْتَهِنَ بِأَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ، فَإِذَا قَضَى الدَّيْنَ فَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَحْبِسَ الرَّهْنَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ النَّفَقَةَ، وَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا شَيْءَ عَلَى الرَّاهِنِ فِي قَوْلِ زُفَرَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: النَّفَقَةُ دَيْنٌ عَلَى الرَّاهِنِ، وَالْأَصْلُ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (وَكُلُّ مَا كَانَ لِحِفْظِهِ أَوْ لِرَدِّهِ إلَى يَدِ الْمُرْتَهِنِ) كَجُعْلِ الْآبِقِ (أَوْ لِرَدِّ جُزْءٍ مِنْهُ) كَمُدَاوَاةِ الْجِرَاحِ.
وَقَوْلُهُ (وَالْحِفْظُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَيَكُونُ بَدَلُهُ عَلَيْهِ) قَالَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: لَوْ شَرَطَ الرَّاهِنُ لِلْمُرْتَهِنِ شَيْئًا عَلَى الْحِفْظِ لَا يَصِحُّ بِخِلَافِ الْوَدِيعَةِ.
وَقَوْلُهُ (لِتَعَلُّقِهِ بِالْعَيْنِ) يَعْنِي بِخِلَافِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، فَإِنَّ حَقَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالرَّهْنِ مِنْ حَيْثُ الْمَالِيَّةُ لَا مِنْ حَيْثُ الْعَيْنُ، وَالْعَيْنُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَالِيَّةِ فَكَذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ يُقَدَّمُ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِيَّةِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَ الْعُشْرُ مُتَعَلِّقًا بِالْعَيْنِ كَانَ اسْتِحْقَاقُهُ كَاسْتِحْقَاقِ جُزْءٍ مِنْ الْأَرْضِ لِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَيْنًا وَرُدَّ عَلَيْهِ عَقْدُ الرَّهْنِ فَإِنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا ارْتَهَنَ أَرْضًا عُشْرِيَّةً مَعَ شَجَرٍ أَوْ زَرْعٍ فِيهَا فَأَخَذَ الْعُشْرَ، وَالِاسْتِحْقَاقُ فِي جُزْءٍ مِنْ الْأَرْضِ يُبْطِلُ الرَّهْنَ لِظُهُورِ الشُّيُوعِ فِيهِ فَكَذَا فِي اسْتِحْقَاقِ الْعُشْرِ.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَلَا يَبْطُلُ الرَّهْنُ فِي الْبَاقِي لِأَنَّ وُجُوبَهُ) أَيْ وُجُوبَ الْعُشْرِ (لَا يُنَافِي مِلْكَهُ) فِي جَمِيعِ مَا رَهَنَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ جَازَ، وَلَوْ أَدَّى الْعُشْرَ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ جَازَ فَصَحَّ الرَّهْنُ فِي الْكُلِّ ثُمَّ خَرَجَ جُزْءٌ مُعَيَّنٌ فَلَمْ يَتَمَكَّنْ الشُّيُوعُ فِي الرَّهْنِ لَا مُقَارِنًا وَلَا طَارِئًا، بِخِلَافِ الِاسْتِحْقَاقِ لِأَنَّ الْمِلْكَ الْمُسْتَحَقَّ مِلْكُ الْغَيْرِ فَلَمْ يَصِحَّ الرَّهْنُ فِيهِ، وَكَذَا فِيمَا وَرَاءَهُ لِأَنَّهُ مُشَاعٌ (قَوْلُهُ وَمَا أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا مِمَّا وَجَبَ عَلَى صَاحِبِهِ) يَعْنِي مِنْ أُجْرَةٍ وَغَيْرِهَا (فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ) لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ (وَمَا أَنْفَقَ أَحَدُهُمَا مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْآخَرِ) فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي فَكَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ بِأَمْرِهِ رَجَعَ عَلَيْهِ كَأَنَّ صَاحِبَهُ أَمَرَهُ بِهِ لِعُمُومِ وِلَايَةِ الْقَاضِي: وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ بِمُجَرَّدِ أَمْرِ الْقَاضِي بِالنَّفَقَةِ لَا يَصِيرُ دَيْنًا عَلَى الرَّاهِنِ مَا لَمْ يَجْعَلْهُ دَيْنًا عَلَيْهِ بِالتَّنْصِيصِ، لِأَنَّ أَمْرَهُ هَاهُنَا لَيْسَ لِلْإِلْزَامِ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنْهَا بِالِاتِّفَاقِ فَيَكُونُ الْأَمْرُ بِذَلِكَ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الْإِنْفَاقِ حِسْبَةً وَدَيْنًا، فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَثْبُتُ الْأَدْنَى.
وَقَوْلُهُ (وَهِيَ فَرْعُ مَسْأَلَةِ الْحَجْرِ) فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَلِي عَلَى الْحَاضِرِ وَعِنْدَهُمَا يَلِي عَلَيْهِ.
يَعْنِي عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَمَّا نَفَذَ حَجْرُ الْقَاضِي عَلَى الْحُرِّ كَانَ نَافِذًا حَالَ غَيْبَتِهِ وَحَضْرَتِهِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَوْ نَفَذَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْقَاضِي حَالَ حُضُورِهِ يَصِيرُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يَرَاهُ بِخِلَافِ حَالِ غَيْبَتِهِ لِأَنَّ فِيهَا ضَرُورَةً.