فصل: (مَسَائِلُ مَنْثُورَةٌ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.(مَسَائِلُ مَنْثُورَةٌ):

قَالَ (وَيَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ وَالْفَهْدِ وَالسِّبَاعِ، الْمُعَلَّمُ وَغَيْرُ الْمُعَلَّمِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ الْعَقُورِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «إنَّ مِنْ السُّحْتِ مَهْرَ الْبَغِيِّ وَثَمَنَ الْكَلْبِ» وَلِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ وَالنَّجَاسَةُ تُشْعِرُ بِهَوَانِ الْمَحَلِّ وَجَوَازُ الْبَيْعِ يُشْعِرُ بِإِعْزَازِهِ فَكَانَ مُنْتَفِيًا.
وَلَنَا «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَلْبِ إلَّا كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ» وَلِأَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ حِرَاسَةً وَاصْطِيَادًا فَكَانَ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، بِخِلَافِ الْهَوَامِّ الْمُؤْذِيَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ قَلْعًا لَهُمْ عَنْ الِاقْتِنَاءِ وَلَا نُسَلِّمُ نَجَاسَةَ الْعَيْنِ، وَلَوْ سُلِّمَ فَيَحْرُمُ التَّنَاوُلُ دُونَ الْبَيْعِ.
وَقَالَ (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا وَأَكْلَ ثَمَنِهَا وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فِي حَقِّنَا، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ.

الشَّرْحُ:
مَسَائِلُ مَنْثُورَةٌ أَيْ هَذِهِ مَسَائِلُ مِنْ كِتَابِ الْبُيُوعِ نُثِرَتْ عَنْ أَبْوَابِهَا وَلَمْ تُذْكَرْ ثَمَّةَ فَاسْتُدْرِكَتْ بِذِكْرِهَا هَاهُنَا.
قَالَ (وَيَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ وَالْفَهْدِ وَالسِّبَاعِ) بَيْعُ الْكَلْبِ وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ جَائِزٌ مُعَلَّمًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُعَلَّمٍ فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ، أَمَّا الْكَلْبُ الْمُعَلَّمُ فَلَا شَكَّ فِي جَوَازِ بَيْعِهِ؛ لِأَنَّهُ آلَةُ الْحِرَاسَةِ وَالِاصْطِيَادِ فَيَكُونُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ حَقِيقَةً وَشَرْعًا فَيَكُونُ مَالًا.
وَأَمَّا غَيْرُ الْمُعَلَّمِ فَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُنْتَفَعَ بِهِ بِغَيْرِ الِاصْطِيَادِ، فَإِنَّ كُلَّ كَلْبٍ يَحْفَظُ بَيْتَ صَاحِبِهِ وَيَمْنَعُ الْأَجَانِبَ عَنْ الدُّخُولِ فِي بَيْتِهِ وَيُخْبِرُ عَنْ الْجَائِي بِنُبَاحِهِ فَسَاوَى الْمُعَلَّمَ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ بَيْعَ الْكَلْبِ الْعَقُورِ) أَيْ الْجَارِحِ (لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ) وَلِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ إمْسَاكِهِ وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ.
قُلْنَا: كَانَ قَبْلَ وُرُودِ الرُّخْصَةِ فِي اقْتِنَاءِ الْكَلْبِ لِلصَّيْدِ أَوْ لِلْمَاشِيَةِ أَوْ لِلزَّرْعِ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إنَّ مِنْ السُّحْتِ مَهْرَ الْبَغِيِّ وَثَمَنَ الْكَلْبِ») السُّحْتُ: هُوَ الْحَرَامُ.
وَالْبَغِيُّ: الزَّانِيَةُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ وَتَرْكُ التَّاءِ إلْحَاقًا بِفَعِيلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَقَوْلِهِمْ مِلْحَفَةٌ جَدِيدٌ.
(وَلِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ) بِدَلَالَةِ نَجَاسَةِ سُؤْرِهِ فَإِنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ اللَّحْمِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ تُشْعِرُ بِهَوَانِ الْمَحَلِّ، وَجَوَازُ الْبَيْعِ بِإِعْزَازِهِ فَكَانَا مُتَنَافِيَيْنِ وَالنَّجَاسَةُ ثَابِتَةٌ فَكَانَ الْبَيْعُ مُنْتَفِيًا (وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَلْبِ إلَّا كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ») وَهِيَ الَّتِي تَحْرُسُ الْمَوَاشِيَ.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الدَّلِيلَ أَخَصُّ مِنْ الْمُدَّعَى، فَإِنَّ الْمُدَّعَى جَوَازُ بَيْعِ الْكِلَابِ مُطْلَقًا، وَالدَّلِيلُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ كَلْبِ الصَّيْدِ وَالْمَاشِيَةِ لَا غَيْرُ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذِكْرَهُ لِإِبْطَالِ شُمُولِ الْعَدَمِ الَّذِي هُوَ مُدَّعَى الْخَصْمِ، وَأَمَّا إثْبَاتُ الْمُدَّعَى فَثَابِتٌ بِحَدِيثٍ ذَكَرَهُ فِي الْأَسْرَارِ بِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَلْبٍ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا» مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصِهِ بِنَوْعٍ.
وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الطَّحَاوِيَّ حَدَّثَ فِي شَرْحِ الْآثَارِ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو «أَنَّهُ قَضَى فِي كَلْبِ صَيْدٍ قَتَلَهُ رَجُلٌ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا» وَهَذَا مَخْصُوصٌ بِنَوْعٍ كَمَا تَرَى.
وَقِيلَ الِاسْتِدْلَال يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ وَغَيْرِ الْمُعَلَّمِ سِوَى الْعَقُورِ، وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى الْأَوَّلِ وَالثَّانِي مُلْحَقٌ بِهِ دَلَالَةً (وَلِأَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ حِرَاسَةً وَاصْطِيَادًا) لَفٌّ وَنَشْرٌ (فَكَانَ مَالًا فَيَجُوزُ بَيْعُهُ).
وَاعْتُرِضَ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الِانْتِفَاعَ بِمَنَافِعِ الْكَلْبِ لَا بِعَيْنِهِ، وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى مَالِيَّةِ عَيْنِهِ كَالْآدَمِيِّ يُنْتَفَعُ بِمَنَافِعِهِ بِالْإِجَارَةِ وَهُوَ لَيْسَ بِمَالٍ.
وَالثَّانِي أَنَّ شَعْرَ الْخِنْزِيرِ يَنْتَفِعُ بِهِ الْأَسَاكِفَةُ وَلَيْسَ بِمَالٍ.
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِمَنْفَعَةِ الْكَلْبِ يَقَعُ تَبَعًا لِمِلْكِ الْعَيْنِ لَا قَصْدًا فِي الْمَنْفَعَةِ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُورَثُ وَالْمَنْفَعَةُ وَحْدَهَا لَا تُورَثُ فَجَرَى مَجْرَى الِانْتِفَاعِ بِمَنَافِع الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ وَجَمِيعِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ.
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْخِنْزِيرَ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ شَرْعًا فَثَبَتَتْ الْحُرْمَةُ فِي كُلِّ جُزْءٍ وَسَقَطَ التَّقَوُّمُ وَالْإِبَاحَةُ لِضَرُورَةِ الْخَرَزِ لَا تَدُلُّ عَلَى رَفْعِ الْحُرْمَةِ فِيمَا عَدَاهَا كَإِبَاحَةِ لَحْمِهِ حَالَةَ الْمَخْمَصَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مَنَاطَ الْحُكْمِ الِانْتِفَاعُ ثَبَتَ فِي الْفَهْدِ وَالنَّمِرِ وَالذِّئْبِ، بِخِلَافِ الْهَوَامِّ الْمُؤْذِيَةِ كَالْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ وَالزَّنَابِيرِ؛ لِأَنَّهَا لَا يُنْتَفَعُ بِهَا (قَوْلُهُ: وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ) جَوَابٌ عَنْ اسْتِدْلَالِ الشَّافِعِيِّ بِالْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ، وَتَقْرِيرُهُ مَا رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ: رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّهُ رَخَّصَ فِي ثَمَنِ كَلْبِ الصَّيْدِ» وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى تَقَدُّمِ نَهْيٍ اُنْتُسِخَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَلِفُوا اقْتِنَاءَ الْكِلَابِ، وَكَانَتْ تُؤْذِي الضِّيفَانَ وَالْغُرَبَاءَ فَنُهُوا عَنْ اقْتِنَائِهَا فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَأُمِرُوا بِقَتْلِ الْكِلَابِ وَنُهُوا عَنْ بَيْعِهَا تَحْقِيقًا لِلزَّجْرِ عَنْ الْعَادَةِ الْمَأْلُوفَةِ، ثُمَّ رُخِّصَ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي ثَمَنِ مَا يَكُونُ مُنْتَفَعًا بِهِ مِنْ الْكِلَابِ.
فَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ هُوَ الَّذِي كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: الْحَدِيثُ مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ ثَمَنُ الْكَلْبِ وَالثَّمَنُ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْمُبَايَعَةِ.
(قَوْلُهُ: وَلَا نُسَلِّمُ نَجَاسَةَ الْعَيْنِ) جَوَابٌ عَنْ اسْتِدْلَالِهِ بِالْمَعْقُولِ بِالْمَنْعِ، فَإِنَّ تَمْلِيكَهُ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ يَجُوزُ بِالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَلَيْسَ نَجِسُ الْعَيْنِ كَذَلِكَ، وَلَوْ سُلِّمَ فَيَحْرُمُ التَّنَاوُلُ دُونَ الْبَيْعِ كَالسِّرْقِينِ عِنْدَنَا عَلَى مَا سَيَجِيءُ.
قَالَ (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ إلَخْ) بَيْعُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لِلْمُسْلِمِ غَيْرُ جَائِزٍ: يَعْنِي أَنَّهُ بَاطِلٌ، وَتَقَدَّمَ وُقُوعُهُمَا مَبِيعًا وَثَمَنًا وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْبُيُوعِ.
وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا وَأَكْلَ ثَمَنِهَا» قَالَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الْآثَارِ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ «أَنَّ رَجُلًا مِنْ ثَقِيفٍ يُكَنَّى أَبَا عَامِرٍ كَانَ يُهْدِي لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ عَامٍ رَاوِيَةً مِنْ خَمْرٍ، فَأَهْدَى إلَيْهِ فِي الْعَامِ الَّذِي حُرِّمَتْ رَاوِيَةً كَمَا كَانَ يُهْدِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَبَا عَامِرٍ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ حَرَّمَ الْخَمْرَ فَلَا حَاجَةَ لَنَا بِخَمْرِك، قَالَ: فَخُذْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَبِعْهَا وَاسْتَعِنْ بِثَمَنِهَا عَلَى حَاجَتِك، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَبَا عَامِرٍ إنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا وَأَكْلَ ثَمَنِهَا». قَالَ (وَأَهْلُ الذِّمَّةِ فِي الْبِيَاعَاتِ كَالْمُسْلِمِينَ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ «فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ» وَلِأَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ مُحْتَاجُونَ كَالْمُسْلِمِينَ.
قَالَ (إلَّا فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ خَاصَّةً) فَإِنَّ عَقْدَهُمْ عَلَى الْخَمْرِ كَعَقْدِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْعَصِيرِ، وَعَقْدُهُمْ عَلَى الْخِنْزِيرِ كَعَقْدِ الْمُسْلِمِ عَلَى الشَّاةِ؛ لِأَنَّهَا أَمْوَالٌ فِي اعْتِقَادِهِمْ، وَنَحْنُ أُمِرْنَا بِأَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَعْتَقِدُونَ.
دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ عُمَرَ: وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا وَخُذُوا الْعُشْرَ مِنْ أَثْمَانِهَا.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَأَهْلُ الذِّمَّةِ فِي الْبِيَاعَاتِ كَالْمُسْلِمِينَ) قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ: لَا يَجُوزُ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ الرِّبَا وَلَا بَيْعُ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً، وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ بَيْنَهُمْ فِي الْحَيَوَانِ وَالدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ يَدًا بِيَدٍ وَلَا نَسِيئَةً وَلَا الصَّرْفُ نَسِيئَةً وَلَا الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ، وَكَذَا كُلُّ مَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ إذَا كَانَ صِنْفًا وَاحِدًا، هُمْ فِي الْبُيُوعِ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ.
وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ «فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ» وَلِأَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ يَعْنِي بِالْمُعَامَلَاتِ بِالِاتِّفَاقِ مُحْتَاجُونَ إلَى مَا تَبْقَى بِهِ نُفُوسُهُمْ كَالْمُسْلِمِينَ وَلَا تَبْقَى الْأَنْفُسُ إلَّا بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْكِسْوَةِ وَالسُّكْنَى وَلَا تَحْصُلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ إلَّا بِمُبَاشَرَةِ الْأَسْبَابِ الْمَشْرُوعَةِ، وَمِنْهَا الْبَيْعُ فَيَكُونُ مَشْرُوعًا فِي حَقِّهِمْ كَمَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، إلَّا الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ فَإِنَّ عَقْدَهُمْ عَلَيْهِمَا كَالْعَقْدِ عَلَى الْعَصِيرِ وَالشَّاةِ فِي كَوْنِهِمَا أَمْوَالًا مُتَقَوِّمَةً فِي اعْتِقَادِهِمْ وَنَحْنُ أُمِرْنَا أَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَعْتَقِدُونَ، دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِعُمَّالِهِ حِينَ حَضَرُوا إلَيْهِ وَقَالَ لَهُمْ: يَا هَؤُلَاءِ إنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تَأْخُذُونَ فِي الْجِزْيَةِ الْمَيْتَةَ وَالْخِنْزِيرَ وَالْخَمْرَ، فَقَالَ بِلَالٌ: أَجَلْ إنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، فَقَالَ: فَلَا تَفْعَلُوا ذَلِكَ، وَلَكِنْ وَلُّوا أَرْبَابَهَا بَيْعَهَا ثُمَّ خُذُوا الثَّمَنَ مِنْهُمْ. قَالَ (وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ بِعْ عَبْدَك مِنْ فُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ لَك خَمْسَمِائَةٍ مِنْ الثَّمَنِ سِوَى الْأَلْفِ فَفَعَلَ فَهُوَ جَائِزٌ وَيَأْخُذُ الْأَلْفَ مِنْ الْمُشْتَرِي وَالْخَمْسَمِائَةِ مِنْ الضَّامِنِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقُلْ مِنْ الثَّمَنِ جَازَ الْبَيْعُ بِأَلْفٍ وَلَا شَيْءَ عَلَى الضَّمِينِ) وَأَصْلُهُ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَتَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ تَغْيِيرٌ لِلْعَقْدِ مِنْ وَصْفٍ مَشْرُوعٍ إلَى وَصْفٍ مَشْرُوعٍ وَهُوَ كَوْنُهُ عَدْلًا أَوْ خَاسِرًا أَوْ رَابِحًا، ثُمَّ قَدْ لَا يَسْتَفِيدُ الْمُشْتَرِي بِهَا شَيْئًا بِأَنْ زَادَ فِي الثَّمَنِ وَهُوَ يُسَاوِي الْمَبِيعَ بِدُونِهَا فَيَصِحُّ اشْتِرَاطُهَا عَلَى الْأَجْنَبِيِّ كَبَدَلِ الْخُلْعِ لَكِنْ مِنْ شَرْطِهَا الْمُقَابَلَةُ تَسْمِيَةً وَصُورَةً، فَإِذَا قَالَ مِنْ الثَّمَنِ وُجِدَ شَرْطُهَا فَيَصِحُّ، وَإِذَا لَمْ يَقُلْ لَمْ يُوجَدْ فَلَمْ يَصِحَّ.
الشَّرْحُ:
(قَوْلُهُ: وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ بِعْ عَبْدَك مِنْ فُلَانٍ) صُورَتُهُ أَنْ يَطْلُبَ إنْسَانٌ مِنْ آخَرَ شِرَاءَ عَبْدِهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَهُوَ لَا يَبِيعُ إلَّا بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَالْمُشْتَرِي لَا يَرْغَبُ فِيهِ إلَّا بِأَلْفٍ فَيَجِيءُ آخَرُ وَيَقُولُ لِصَاحِبِ الْعَبْدِ بِعْ عَبْدَك هَذَا مِنْ هَذَا الرَّجُلِ بِأَلْفٍ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ لَك خَمْسَمِائَةٍ مِنْ الثَّمَنِ سِوَى الْأَلْفِ فَهُوَ جَائِزٌ وَيَأْخُذُ الْأَلْفَ مِنْ الْمُشْتَرِي وَالْخَمْسَمِائَةِ مِنْ الضَّامِنِ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ مِنْ الثَّمَنِ جَازَ الْبَيْعُ بِأَلْفٍ وَلَا شَيْءَ عَلَى الضَّامِنِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مَا ذَكَرَهُ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الْمَارِّ (أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ جَائِزَةٌ عِنْدَنَا وَتُلْتَحَقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ) أَيْ الْإِلْحَاقَ (تَغْيِيرٌ لِلْعَقْدِ مِنْ وَصْفٍ مَشْرُوعٍ إلَى وَصْفٍ مَشْرُوعٍ وَهُوَ كَوْنُهُ عَدْلًا أَوْ خَاسِرًا أَوْ رَابِحًا ثُمَّ قَدْ لَا يَسْتَفِيدُ الْمُشْتَرِي بِتِلْكَ الزِّيَادَةِ شَيْئًا بِأَنْ زَادَ فِي الثَّمَنِ وَهُوَ يُسَاوِي الْمَبِيعَ بِدُونِهَا) فَصَارَ الْفَضْلُ فِي ذَلِكَ كَبَدَلِ الْخُلْعِ فِي كَوْنِهِ لَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمَرْأَةِ فِي مُقَابَلَتِهِ شَيْءٌ فَجَازَ اشْتِرَاطُهُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ كَهُوَ، لَكِنْ لابد مِنْ تَسْمِيَةِ الزِّيَادَةِ لِتَتَحَقَّقَ الْمُقَابَلَةُ صُورَةً وَإِنْ فَاتَتْ مَعْنًى لِيَخْرُجَ عَنْ حَيِّزِ الْحُرْمَةِ، فَإِذَا قَالَ مِنْ الثَّمَنِ وُجِدَ الشَّرْطُ فَيَصِحُّ، وَإِذَا لَمْ يَقُلْ صَارَ ذِكْرُ خَمْسِمِائَةِ مِنْ الضَّامِنِ رِشْوَةً مِنْهُ عَلَى الْبَيْعِ بِمَا سَمَّيَا مِنْ الْمَالِ، وَالرِّشْوَةُ حَرَامٌ لَا تَلْزَمُ بِالضَّمَانِ.
وَاعْتُرِضَ بِأَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ كَيْفَ يَجِبُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِهِ شَيْءٌ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ.
الثَّانِي لَوْ كَانَ خَمْسَمِائَةٍ ثَمَنًا لَتَوَجَّهَتْ الْمُطَالَبَةُ بِهَا عَلَى الْمُشْتَرِي وَيَتَحَمَّلُ عَنْهُ الضَّامِنُ وَلَمْ تَتَوَجَّهْ عَلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ.
الثَّالِثُ أَنَّ أَصْلَ الثَّمَنِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَجِبَ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ وَالْمَبِيعِ لِغَيْرِهِ فَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ، وَالْفِكْرُ الصَّائِبُ فِي أَصْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يُغْنِي عَنْ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ وَالْجَوَابِ عَنْهَا، وَلَا بَأْسَ بِتَكْرَارِ ذَلِكَ لِلتَّحْقِيقِ، فَإِنَّ وُرُودَ السُّؤَالِ إذَا كَانَ لِغُمُوضِ فَهْمِ أَصْلِ الْكَلَامِ فَجَوَابُهُ تَكْرَارُهُ، وَذَلِكَ أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فُضُولَ الثَّمَنِ قَدْ تَسْتَغْنِي عَنْ أَنْ تُقَابَلَ بِالْمَالِ جُزْءًا فَجُزْءًا فَجَازَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الثَّمَنِ خَالِيًا عَمَّا يُقَابِلُهُ مِنْ الْبَدَلِ، كَالزِّيَادَةِ فِي الثَّمَنِ إذَا كَانَ الْمَبِيعُ يُسَاوِي الثَّمَنَ بِلَا زِيَادَةٍ فَتَكُونُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي ثَابِتَةً بِلَا بَدَلٍ، وَمِثْلُ ذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ كَبَدَلِ الْخُلْعِ، وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ بَطَلَ مِمَّنْ الْتَزَمَهُ لَا غَيْرُ، وَالْمُلْتَزِمُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ الْأَجْنَبِيُّ فَلَا يَتَوَجَّهُ الطَّلَبُ عَلَى الْمُشْتَرِي وَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْلِ الثَّمَنِ، فَإِنَّ أَصْلَ الثَّمَنِ لابد وَأَنْ يُقَابِلَهُ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ فَلَا يَكُونُ كَالزِّيَادَةِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ وُجُوبِهِ عَلَى الْغَيْرِ عَدَمُ جَوَازِ مَا لَا يَلْزَمُ وُجُوبُ شَيْءٍ فِي مُقَابَلَتِهِ.
وَقَعَ فِي الْكِتَابِ وَالْخَمْسُمِائَةِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامُ فِي الْمُضَافِ دُونَ الْمُضَافِ إلَيْهِ، وَقِيلَ لَا خِلَافَ فِي امْتِنَاعِهِ.
وَقَالَ ابْنُ عُصْفُورٍ: بَعْضُ الْكُتَّابِ يُجِيزُونَ ذَلِكَ وَهُوَ قَلِيلٌ جِدًّا، وَقِيلَ إذَا وَرَدَ مِثْلُ هَذَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُعْتَقَدَ إضَافَةُ الْخَمْسَةِ بَلْ الْجَرُّ فِي الْمُضَافِ إلَيْهِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ: أَيْ الْخَمْسِ خَمْسِمِائَةٍ. قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً وَلَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى زَوَّجَهَا فَوَطِئَهَا الزَّوْجُ فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ) لِوُجُودِ سَبَبِ الْوِلَايَةِ، وَهُوَ الْمِلْكُ فِي الرَّقَبَةِ عَلَى الْكَمَالِ وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ.
(وَهَذَا قَبْضٌ) لِأَنَّ وَطْءَ الزَّوْجِ حَصَلَ بِتَسْلِيطٍ مِنْ جِهَتِهِ فَصَارَ فِعْلُهُ كَفِعْلِهِ (إنْ لَمْ يَطَأْهَا فَلَيْسَ بِقَبْضٍ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يَصِيرَ قَابِضًا؛ لِأَنَّهُ تَعْيِيبٌ حُكْمِيٌّ فَيُعْتَبَرُ بِالتَّعْيِيبِ الْحَقِيقِيِّ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ فِي الْحَقِيقِيِّ اسْتِيلَاءً عَلَى الْمَحَلِّ وَبِهِ يَصِيرُ قَابِضًا وَلَا كَذَلِكَ الْحُكْمِيُّ فَافْتَرَقَا.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً وَلَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى زَوَّجَهَا إلَخْ) رَجُلٌ اشْتَرَى جَارِيَةً وَلَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى زَوَّجَهَا بِرَجُلٍ فَوَطِئَهَا الزَّوْجُ جَازَ النِّكَاحُ (لِوُجُودِ سَبَبِ الْوِلَايَةِ) لِلنِّكَاحِ وَهُوَ الْمِلْكُ فِي الرَّقَبَةِ عَلَى الْكَمَالِ وَمَا ثَمَّةَ مَانِعٌ عَنْ الْجَوَازِ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ إنَّمَا يَكُونُ عَنْ تَصَرُّفٍ يَنْفَسِخُ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَمَا تَقَدَّمَ وَالنِّكَاحُ لَيْسَ كَذَلِكَ.
وَهَذَا التَّزْوِيجُ يَكُونُ قَبْضًا؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَمَّا كَانَ بِتَسْلِيطٍ مِنْ جِهَةِ الْمُشْتَرِي كَانَ فِعْلُهُ كَفِعْلِهِ (وَإِنْ لَمْ يَطَأْهَا) الزَّوْجُ (فَلَيْسَ) أَيْ مُجَرَّدُ التَّزْوِيجِ (قَبْضًا) اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ هُوَ قَبْضٌ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، حَتَّى إنْ هَلَكَتْ بَعْدَ ذَلِكَ هَلَكَتْ مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ التَّزْوِيجَ عَيْبٌ حُكْمِيٌّ، حَتَّى لَوْ وَجَدَهَا الْمُشْتَرِي ذَاتَ زَوْجٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا، وَالْمُشْتَرِي إذَا عَيَّبَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ صَارَ قَابِضًا فَصَارَ كَالْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالتَّعْيِيبُ الْحَقِيقِيُّ كَقَطْعِ الْيَدِ وَفَقْءِ الْعَيْنِ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ فِي التَّعْيِيبِ الْحَقِيقِيِّ اسْتِيلَاءً عَلَى الْمَحَلِّ بِاتِّصَالِ فِعْلٍ مِنْهُ إلَيْهِ وَبِهِ يَصِيرُ قَابِضًا، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الْحُكْمِيِّ فَلَا يَصِيرُ قَابِضًا، وَالْإِعْتَاقُ وَالتَّدْبِيرُ إتْلَافٌ لِلْمَالِيَّةِ وَإِنْهَاءٌ لِلْمِلْكِ وَلِهَذَا يَثْبُتُ لَهُ الْوَلَاءُ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ أَنْ يَصِيرَ قَابِضًا. قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَغَابَ فَأَقَامَ الْبَائِعُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ بَاعَهَا إيَّاهُ، فَإِنْ كَانَتْ غَيْبَتُهُ مَعْرُوفَةً لَمْ يُبَعْ فِي دَيْنِ الْبَائِعِ) لِأَنَّهُ يُمْكِنُ إيصَالُ الْبَائِعِ إلَى حَقِّهِ بِدُونِ الْبَيْعِ، وَفِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْمُشْتَرِي (وَإِنْ لَمْ يَدْرِ أَيْنَ هُوَ بِيعَ الْعَبْدُ وَأَوْفَى الثَّمَنَ) لِأَنَّ مِلْكَ الْمُشْتَرِي ظَهَرَ بِإِقْرَارِهِ فَيَظْهَرُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ مَشْغُولًا بِحَقِّهِ، وَإِذَا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الْمُشْتَرِي يَبِيعُهُ الْقَاضِي فِيهِ كَالرَّاهِنِ إذَا مَاتَ وَالْمُشْتَرِي إذَا مَاتَ مُفْلِسًا وَالْمَبِيعُ لَمْ يُقْبَضْ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ لَمْ يَبْقَ مُتَعَلِّقًا بِهِ، ثُمَّ إنْ فَضَلَ شَيْءٌ يُمْسَكُ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ حَقِّهِ وَإِنْ نَقَصَ يَتْبَعُ هُوَ أَيْضًا.
قَالَ (فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي اثْنَيْنِ فَغَابَ أَحَدُهُمَا فَلِلْحَاضِرِ أَنْ يَدْفَعَ الثَّمَنَ كُلَّهُ وَيَقْبِضَهُ، وَإِذَا حَضَرَ الْآخَرُ لَمْ يَأْخُذْ نَصِيبَهُ حَتَّى يَنْقُدَ شَرِيكُهُ الثَّمَنَ كُلَّهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا دَفَعَ الْحَاضِرُ الثَّمَنَ كُلَّهُ لَمْ يَقْبِضْ إلَّا نَصِيبَهُ وَكَانَ مُتَطَوِّعًا بِمَا أَدَّى عَنْ صَاحِبِهِ) لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ عَنْ نَصِيبِ صَاحِبِهِ فَلَا يَقْبِضُهُ.
وَلَهُمَا أَنَّهُ مُضْطَرٌّ فِيهِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِانْتِفَاعُ بِنَصِيبِهِ إلَّا بِأَدَاءِ جَمِيعِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ صَفْقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَهُ حَقُّ الْحَبْسِ مَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْهُ، وَالْمُضْطَرُّ يَرْجِعُ كَمُعِيرِ الرَّهْنِ، وَإِذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ كَانَ لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ عَنْهُ إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ كَالْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ إذَا قَضَى الثَّمَنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَغَابَ الْمُشْتَرِي إلَخْ) رَجُلٌ اشْتَرَى مَنْقُولًا فَغَابَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ قَبْضِ الْمَبِيعِ وَلَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ وَطَلَبَ الْبَائِعُ مِنْ الْقَاضِي بَيْعَ الْعَبْدِ بِثَمَنِهِ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى ذَلِكَ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ دَفْعًا لِلتُّهْمَةِ، فَإِذَا أَقَامَهَا فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ الْغَيْبَةُ مَعْرُوفَةً أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ يَبِعْهُ فِي الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ وُصُولَ الْبَائِعِ إلَى حَقِّهِ بِدُونِ الْبَيْعِ مُمْكِنٌ وَفِي الْبَيْعِ إبْطَالُ حَقِّ الْمُشْتَرِي، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي بَاعَ الْعَبْدَ وَأَدَّى الثَّمَنَ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُشْتَرِي ظَهَرَ بِإِقْرَارِ الْبَائِعِ فَيَظْهَرُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أُقِرَّ بِهِ وَقَدْ أُقِرَّ بِهِ مَشْغُولًا بِحَقِّهِ فَيُعْتَبَرُ كَذَلِكَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ فِي يَدِهِ وَالْقَوْلُ: قَوْلُ الْإِنْسَانِ فِيمَا فِي يَدِهِ، فَلَوْ ادَّعَى الْمِلْكَ كَانَ مَسْمُوعًا، وَلَوْ أَقَرَّ بِهِ لِغَيْرِهِ كَامِلًا صَحَّ بِحُكْمِ الْيَدِ، فَكَذَا إذَا أَقَرَّ بِهِ نَاقِصًا مَشْغُولًا بِحَقِّهِ وَيَثْبُتُ الْمِلْكُ لَهُ نَاقِصًا عَلَى وَجْهٍ يَقْتَضِي الِاسْتِيفَاءَ وَقَدْ تَعَذَّرَ فَيَبِيعُهُ الْقَاضِي فِيهِ، كَالرَّاهِنِ إذَا مَاتَ فَإِنَّ الْمُرْتَهِنَ أَحَقُّ بِالْمَرْهُونِ يُبَاعُ فِي دَيْنِهِ إنْ تَعَذَّرَ الِاسْتِيفَاءُ، وَالْمُشْتَرِي إذَا مَاتَ قَبْلَ قَبْضِ الْمَبِيعِ مُفْلِسًا فَإِنَّ الْمَبِيعَ يُبَاعُ فِي ثَمَنِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ فَإِنَّ بَيِّنَةَ الْبَائِعِ لَمْ تُقْبَلْ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ لَمْ يَبْقَ مُتَعَلِّقًا بِهِ بَلْ هُوَ دَيْنٌ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي فَتَكُونُ الْبَيِّنَةُ لِإِثْبَاتِ الدَّيْنِ وَالْإِثْبَاتُ عَلَى الْغَائِبِ مُمْتَنِعٌ عِنْدَنَا.
وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ أَنَّ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْغَائِبِ لَا تَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا تَعْتَمِدُ إنْكَارَ الْخَصْمِ وَذَلِكَ مِنْ الْغَائِبِ مَجْهُولٌ.
الثَّانِي أَنَّ الْقَوْلَ بِجَوَازِ الْبَيْعِ قَوْلٌ بِجَوَازِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بُطْلَانُهُ. الثَّالِثُ أَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ بِزَوَالِ الْمِلْكِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ، وَفِي ذَلِكَ لَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِهِ مَقْبُوضًا وَغَيْرَ مَقْبُوضٍ فَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا تَحَكُّمٌ.
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ كَمَا ذَكَرْنَا لِنَفْيِ التُّهْمَةِ لَا لِلْقَضَاءِ، وَإِنَّمَا الْقَاضِي يَقْضِي بِمُوجِبِ إقْرَارِ الْمُقِرِّ بِمَا فِي يَدِهِ، وَفِي ذَلِكَ لَا يُحْتَاجُ إلَى إنْكَارِ الْخَصْمِ.
وَعَنْ الثَّانِي مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا قَوْلُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ إنَّ الْقَاضِيَ يُنَصِّبُ مَنْ يَقْبِضُ الْعَبْدَ لِلْمُشْتَرِي ثُمَّ يَبِيعُ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْقَاضِي كَبَيْعِ الْمُشْتَرِي فَلَا يَجُوزُ قَبْلَ الْقَبْضِ.
وَرُدَّ بِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْبِضَهُ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ فَكَذَا مَنْ يُجْعَلُ وَكِيلًا عَنْهُ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ حَقُّ الْبَائِعِ وَقَدْ يُتَسَامَحُ بِتَأْخِيرِهِ.
وَالثَّانِي أَنَّ الْبَيْعَ هَاهُنَا غَيْرُ مَقْصُودٍ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ النَّظَرُ لِلْبَائِعِ إحْيَاءً لِحَقِّهِ وَالْبَيْعُ يَحْصُلُ ضِمْنًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ ضِمْنًا مَا لَا يَثْبُتُ قَصْدًا.
وَعَنْ الثَّالِثِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا لَيْسَ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ، وَإِنَّمَا هُوَ قَضَاءٌ عَلَى الْحَاضِرِ بِالْإِقْرَارِ بِمَا فِي يَدِهِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ إذَا لَمْ يَقْبِضْهُ الْمُشْتَرِي، فَأَمَّا إذَا قَبَضَهُ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ، وَحِينَئِذٍ ظَهَرَ الْفَرْقُ وَانْدَفَعَ التَّحَكُّمُ (ثُمَّ إذَا بَاعَهُ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ يُمْسَكُ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ حَقِّهِ، وَإِنْ نَقَصَ يُتْبَعُ هُوَ) أَيْ يَتْبَعُ الْبَائِعُ الْمُشْتَرِيَ، فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي اثْنَيْنِ فَغَابَ أَحَدُهُمَا فَالْحَاضِرُ لَا يَمْلِكُ قَبْضَ نَصِيبِهِ حَتَّى يَنْقُدَ جَمِيعَ الثَّمَنِ، فَإِذَا نَقَدَهُ أُجْبِرَ الْبَائِعُ عَلَى قَبُولِ نَصِيبِ الْغَائِبِ وَتَسْلِيمِ نَصِيبِ الْغَائِبِ مِنْ الْعَبْدِ إلَى الْحَاضِرِ، وَإِذَا حَضَرَ الْغَائِبُ فَلِلْحَاضِرِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا نَقَدَهُ لِأَجْلِهِ، وَلَهُ أَنْ يَحْبِسَ نَصِيبَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مَا نَقَدَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يُجْبَرُ الْبَائِعُ عَلَى قَبُولِ نَصِيبِ الْغَائِبِ مِنْ الثَّمَنِ، وَلَوْ قَبِلَ لَا يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِ نَصِيبِهِ مِنْ الْعَبْدِ وَالْحَاضِرُ لَا يَقْبِضُ إلَّا نَصِيبَهُ مُهَايَأَةً لَا غَيْرُ، فَإِذَا قَبَضَ الْحَاضِرُ الْعَبْدَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْغَائِبِ إذَا حَضَرَ بِمَا نَقَدَهُ لِأَجْلِهِ، وَلَيْسَ لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ عَلَى ذَلِكَ (وَكَانَ مُتَطَوِّعًا بِمَا أَدَّى عَنْ صَاحِبِهِ)؛ لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَلَا رُجُوعَ فِي ذَلِكَ (وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ عَنْ نَصِيبِ صَاحِبِهِ) فَلَيْسَ لَهُ الْقَبْضُ وَلَهُمَا أَنَّهُ مُضْطَرٌّ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِانْتِفَاعُ بِنَصِيبِهِ إلَّا بِأَدَاءِ جَمِيعِ الثَّمَنِ لِاتِّحَادِ الصَّفْقَةِ، وَلِكَوْنِ الْبَائِعِ لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ مَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْهُ وَالْمُضْطَرُّ يَرْجِعُ كَمُعِيرِ الرَّهْنِ فَإِنَّ مَنْ أَعَارَ شَيْئًا رَجُلًا لِيَرْهَنَهُ فَرَهَنَهُ ثُمَّ أَفْلَسَ الرَّاهِنُ وَهُوَ الْمُسْتَعِيرُ أَوْ غَابَ فَافْتَكَّهُ الْمُعِيرُ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الرَّاهِنِ بِمَا أَدَّى وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَضَاءَ دَيْنِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لِاضْطِرَارِهِ فِي الْقَضَاءِ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُنْكَرُ فَإِنَّ لِلضَّرُورَاتِ أَحْكَامًا.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ التَّعْلِيلُ بِالِاضْطِرَارِ صَحِيحًا لَمَا اخْتَلَفَ الْحُكْمُ بَيْنَ حَالَةِ حُضُورِ الشَّرِيكِ وَغَيْبَتِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِنَصِيبِهِ إلَّا بَعْدَ نَقْدِ صَاحِبِهِ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ الِاضْطِرَارَ فِي حَالَةِ حُضُورِهِ مَفْقُودٌ لِإِمْكَانِ أَنْ يُخَاصِمَهُ إلَى الْحَاكِمِ لِيَنْقُدَ نَصِيبَهُ مِنْ الثَّمَنِ فَيَتَمَكَّنَ هُوَ مِنْ قَبْضِ نَصِيبِهِ مِنْ الْعَبْدِ بِخِلَافِ حَالِ غَيْبَتِهِ، وَعَلَى هَذَا ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ وَبَيْنَ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا فَغَابَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ نَقْدِ الْأُجْرَةِ لِصَاحِبِ الدَّارِ فَنَقَدَ الْحَاضِرُ كُلَّ الْأُجْرَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَبَرِّعًا بِالْإِجْمَاعِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُضْطَرٍّ فِي نَقْدِ نَصِيبِ صَاحِبِهِ مِنْ الْأُجْرَةِ إذْ لَيْسَ لِلْآجِرِ حَبْسُ الدَّارِ لِاسْتِيفَاءِ الْأُجْرَةِ.
كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ (وَإِذَا ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ كَانَ لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ كَالْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ إذَا قَضَى الثَّمَنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ) عَلَى مَا سَيَجِيءُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِأَلْفِ مِثْقَالِ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ فَهُمَا نِصْفَانِ) لِأَنَّهُ أَضَافَ الْمِثْقَالَ إلَيْهِمَا عَلَى السَّوَاءِ فَيَجِبُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسُمِائَةِ مِثْقَالٍ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ، وَبِمِثْلِهِ لَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِأَلْفٍ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ يَجِبُ مِنْ الذَّهَبِ مَثَاقِيلُ وَمِنْ الْفِضَّةِ دَرَاهِمُ وَزْنُ سَبْعَةٍ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْأَلْفَ إلَيْهِمَا فَيَنْصَرِفُ إلَى الْوَزْنِ الْمَعْهُودِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِأَلْفِ مِثْقَالِ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ إلَخْ) رَجُلٌ اشْتَرَى جَارِيَةً فَقَالَ اشْتَرَيْتهَا بِأَلْفِ مِثْقَالِ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ صَحَّ وَيَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسُمِائَةِ مِثْقَالٍ (لِأَنَّهُ أَضَافَ الْمِثْقَالَ إلَيْهِمَا عَلَى السَّوَاءِ)؛ لِأَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى الْمُضَافِ إلَيْهِ، وَهُوَ عَطْفٌ مَعَ الِافْتِقَارِ وَالْعَطْفُ مَعَ الِافْتِقَارِ يُوجِبُ الشَّرِكَةَ، وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَوْلَوِيَّةٌ عَلَى الْآخَرِ فَيَجِبُ التَّسَاوِي.
قِيلَ وَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُقَيِّدَ الْمُصَنِّفُ بِالْجَوْدَةِ أَوْ الرَّدَاءَةِ أَوْ الْوَسَطِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَتَبَايَعُونَ بِالتِّبْرِ، وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الصِّفَةِ قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ وَلِهَذَا قَيَّدَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ بِهَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَبُيُوعِ الْأَصْلِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ تَرَكَهُ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا مِنْ أَوَّلِ كِتَابِ الْبُيُوعِ أَنَّ ذَلِكَ لابد مِنْهُ.
وَلَوْ قَالَ اشْتَرَيْت مِنْك هَذِهِ الْجَارِيَةَ بِأَلْفٍ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَجَبَ الْمُشَارَكَةُ كَمَا فِي الْأَوَّلِ لِلْعَطْفِ، إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ مِنْ الذَّهَبِ مَثَاقِيلُ خَمْسُمِائَةِ مِثْقَالٍ وَمِنْ الْفِضَّةِ دَرَاهِمُ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ كُلُّ عَشَرَةٍ وَزْنُ سَبْعَةٍ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي وَزْنِ الدَّرَاهِمِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: النَّظَرُ إلَى الْمُتَعَارَفِ يَقْتَضِي أَنْ يَنْصَرِفَ إلَى مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْعَقْدُ. قَالَ (وَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ جِيَادٍ فَقَضَاهُ زُيُوفًا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ فَأَنْفَقَهَا أَوْ هَلَكَتْ فَهُوَ قَضَاءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَرُدُّ مِثْلَ زُيُوفِهِ وَيَرْجِعُ بِدَرَاهِمِهِ) لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْوَصْفِ مَرْعِيٌّ كَهُوَ فِي الْأَصْلِ، وَلَا يُمْكِنُ رِعَايَتُهُ بِإِيجَابِ ضَمَانِ الْوَصْفِ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهِ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى مَا قُلْنَا.
وَلَهُمَا أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ.
حَتَّى لَوْ تَجَوَّزَ بِهِ فِيمَا لَا يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ جَازَ فَيَقَعُ بِهِ الِاسْتِيفَاءُ وَلَا يَبْقَى حَقُّهُ إلَّا فِي الْجَوْدَةِ، وَلَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهَا بِإِيجَابِ ضَمَانِهَا لِمَا ذَكَرْنَا، وَكَذَا بِإِيجَابِ ضَمَانِ الْأَصْلِ لِأَنَّهُ إيجَابٌ لَهُ عَلَيْهِ وَلَا نَظِيرَ لَهُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ جِيَادٌ إلَخْ) رَجُلٌ لَهُ عَلَى رَجُلٍ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ جِيَادٌ (فَقَضَاهُ زُيُوفًا وَالْقَابِضُ لَمْ يَعْلَمْ فَأَنْفَقَهَا أَوْ هَلَكَتْ فَهُوَ قَضَاءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَرُدُّ مِثْلَ زُيُوفِهِ وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْجِيَادِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْوَصْفِ مَرْعِيٌّ) مِنْ حَيْثُ الْجَوْدَةُ، كَمَا أَنَّ حَقَّهُ مَرْعِيٌّ فِي الْأَصْلِ مِنْ حَيْثُ الْقَدْرُ، فَلَوْ نَقَصَ عَنْ كَمِّيَّةِ حَقِّهِ رَجَعَ عَلَيْهِ بِمِقْدَارِهِ فَكَذَا إذَا نَقَصَ فِي كَيْفِيَّتِهِ، وَلَا يُمْكِنُ رِعَايَتُهُ بِإِيجَابِ ضَمَانِ الْوَصْفِ مُنْفَرِدًا لِعَدَمِ انْفِكَاكِهِ وَهَدَرِهِ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهِ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى مَا قُلْنَا.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَقْبُوضَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ تَجَوَّزَ بِهِ فِيمَا لَا يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ كَالصَّرْفِ وَالسَّلَمِ جَازَ فَكَانَ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ بِالْمَقْبُوضِ حَاصِلًا، فَلَمْ يَبْقَ حَقُّهُ إلَّا فِي الْجَوْدَةِ وَتَدَارُكُهَا مُنْفَرِدَةً بِإِيجَابِ ضَمَانِهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ شَرْعًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِالْجِنْسِ هَدَرٌ وَلَا عَقْلًا لِعَدَمِ تَصَوُّرِ الِانْفِكَاكِ، وَلَا بِإِيجَابِ ضَمَانِ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ حِينَئِذٍ هُوَ الْأَصْلُ، وَالْفَرْضُ أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ مُسْتَوْفٍ فَإِيجَابُ الضَّمَانِ بِاعْتِبَارِهِ إيجَابٌ عَلَيْهِ لَهُ، وَلَا نَظِيرَ لَهُ فِي الشَّرْعِ.
وَاعْتُرِضَ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ إيجَابَ الضَّمَانِ عَلَى الرَّجُلِ لِنَفْسِهِ لَا يَجُوزُ إذَا لَمْ يُفِدْ وَهَاهُنَا يُفِيدُ فَصَارَ كَكَسْبِ الْمَأْذُونِ لَهُ الْمَدْيُونِ فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَى الْمَوْلَى وَإِنْ كَانَ مِلْكًا لَهُ حَتَّى لَوْ اشْتَرَى صَحَّ.
وَالثَّانِي أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ هُوَ إحْيَاءُ حَقِّ صَاحِبِهِ وَوُجُوبُ الضَّمَانِ لَهُ عَلَيْهِ ضِمْنِيٌّ فَلَا يُعْتَبَرُ.
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْفَائِدَةَ ثَمَّةَ إنَّمَا هِيَ لِلْغُرَمَاءِ فَكَانَ تَضْمِينَ الشَّخْصِ لِغَيْرِهِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ.
وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ الْوَصْفَ تَابِعٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ تَابِعًا لَهُ. قَالَ (وَإِذَا أَفْرَخَ طَيْرٌ فِي أَرْضِ رَجُلٍ فَهُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ) وَكَذَا إذَا بَاضَ فِيهَا (وَكَذَا إذَا تَكَنَّسَ فِيهَا ظَبْيٌ) لِأَنَّهُ مُبَاحٌ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ وَلِأَنَّهُ صَيْدٌ وَإِنْ كَانَ يُؤْخَذُ بِغَيْرِ حِيلَةٍ وَالصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَهُ، وَكَذَا الْبَيْضُ؛ لِأَنَّهُ أَصْلُ الصَّيْدِ وَلِهَذَا يَجِبُ الْجَزَاءُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِكَسْرِهِ أَوْ شَيِّهِ، وَصَاحِبُ الْأَرْضِ لَمْ يُعِدَّ أَرْضَهُ فَصَارَ كَنَصْبِ شَبَكَةٍ لِلْجَفَافِ وَكَذَا إذَا دَخَلَ الصَّيْدُ دَارِهِ أَوْ وَقَعَ مَا نُثِرَ مِنْ السُّكَّرِ وَالدَّرَاهِمِ فِي ثِيَابِهِ مَا لَمْ يَكُفَّهُ أَوْ كَانَ مُسْتَعِدًّا لَهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا عَسَّلَ النَّحْلُ فِي أَرْضِهِ لِأَنَّهُ عُدَّ مِنْ أَنْزَالِهِ فَيَمْلِكُهُ تَبَعًا لِأَرْضِهِ كَالشَّجَرِ النَّابِتِ فِيهَا وَالتُّرَابِ الْمُجْتَمِعِ فِي أَرْضِهِ بِجَرَيَانِ الْمَاءِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِذَا أَفْرَخَ طَيْرٌ فِي أَرْضِ رَجُلٍ إلَخْ) إذَا أَفْرَخَ طَيْرٌ فِي أَرْضِ رَجُلٍ وَلَمْ يُعِدَّهَا لِذَلِكَ لَمْ يَمْلِكْهُ (فَهُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ، وَكَذَا إذَا بَاضَ فِيهَا أَوْ تَكَنَّسَ فِيهَا ظَبْيٌ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: تَكَسَّرَ فِيهَا ظَبْيٌ (لِأَنَّهُ مُبَاحٌ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ) فَيَمْلِكُهُ (وَلِأَنَّهُ حِينَئِذٍ صَيْدٌ وَالصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَهُ) بِالْحَدِيثِ، وَكَوْنُهُ يُؤْخَذُ بِغَيْرِ حِيلَةٍ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ الصَّيْدِيَّةِ كَصَيْدٍ انْكَسَرَ رِجْلُهُ بِأَرْضِ إنْسَانٍ فَإِنَّهُ لِلْآخِذِ دُونَ صَاحِبِ الْأَرْضِ وَالتَّكَنُّسُ: التَّسَتُّرُ، وَمَعْنَاهُ فِي الْأَصْلِ دَخَلَ فِي الْكِنَاسِ وَهُوَ مَوْضِعُ الظَّبْيِ، وَمَعْنَى تَكَسَّرَ انْكَسَرَ رِجْلُهُ، وَقَيَّدَ بِذَلِكَ حَتَّى لَوْ كَسَرَهُ أَحَدٌ فَهُوَ لَهُ (وَالْبَيْضُ فِي مَعْنَى الصَّيْدِ؛ لِأَنَّهُ أَصْلُهُ وَلِهَذَا يَجِبُ الْجَزَاءُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِكَسْرِهِ أَوْ شَيِّهِ) (قَوْلُهُ: وَصَاحِبُ الْأَرْضِ لَمْ يُعِدَّ أَرْضَهُ لِذَلِكَ) إشَارَةً إلَى أَنَّهُ لَوْ أَعَدَّهَا لِذَلِكَ بِأَنْ حَفَرَهَا لِيَقَعَ فِيهَا أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُصَادُ بِهِ كَانَ لَهُ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَعُدَّهَا فَهِيَ كَشَبَكَةٍ نُصِبَتْ لِلْجَفَافِ فَتَعَقَّلَ بِهَا صَيْدٌ فَهُوَ لِلْآخِذِ، وَكَذَا إذَا دَخَلَ الصَّيْدُ دَارِهِ أَوْ وَقَعَ مَا نُثِرَ مِنْ السُّكَّرِ وَالدَّرَاهِمِ فِي ثِيَابِهِ مَا لَمْ يَكُفَّهُ أَيْ يَضُمَّهُ إلَى نَفْسِهِ (أَوْ كَانَ مُسْتَعِدًّا لَهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا عَسَّلَ النَّحْلُ فِي أَرْضِهِ) فَإِنَّ الْعَسَلَ لِصَاحِبِهَا (لِأَنَّهُ عُدَّ مِنْ أَنْزَالِهِ) أَيْ مِنْ أَنْزَالِ الْأَرْضِ بِتَأْوِيلِ الْمَكَانِ؛ جَمْعُ نُزُلٍ: وَهُوَ الزِّيَادَةُ وَالْفَضْلُ مِنْهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعَسَلَ صَارَ قَائِمًا بِأَرْضِهِ عَلَى وَجْهِ الْقَرَارِ فَصَارَ تَابِعًا لَهَا (كَالشَّجَرِ النَّابِتِ فِيهَا وَالتُّرَابِ الْمُجْتَمِعِ بِجَرَيَانِ الْمَاءِ) بِخِلَافِ الصَّيْدِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

.(كِتَابُ الصَّرْفِ):

قَالَ (الصَّرْفُ هُوَ الْبَيْعُ إذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ عِوَضَيْهِ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ) سُمِّيَ بِهِ لِلْحَاجَةِ إلَى النَّقْلِ فِي بَدَلَيْهِ مِنْ يَدٍ إلَى يَدٍ.
وَالصَّرْفُ هُوَ النَّقْلُ وَالرَّدُّ لُغَةً، أَوْ لِأَنَّهُ لَا يُطْلَبُ مِنْهُ إلَّا الزِّيَادَةَ إذْ لَا يُنْتَفَعُ بِعَيْنِهِ، وَالصَّرْفُ هُوَ الزِّيَادَةُ لُغَةً كَذَا قَالَهُ الْخَلِيلُ وَمِنْهُ سُمِّيَتْ الْعِبَادَةُ النَّافِلَةُ صَرْفًا.
قَالَ (فَإِنْ بَاعَ فِضَّةً بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبًا بِذَهَبٍ لَا يَجُوز إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْجَوْدَةِ وَالصِّيَاغَةِ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ وَزْنًا بِوَزْنٍ يَدًا بِيَدِ وَالْفَضْلُ رِبًا» الْحَدِيثَ.
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ» وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الْبُيُوعِ.
الشَّرْحُ:
الصَّرْفُ بَيْعُ خَاصٍّ، وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعِوَضَيْنِ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى تَأْخِيرِهِ عَلَى السَّلَمِ فِي أَوَّلِ السَّلَمِ، وَسُمِّيَ هَذَا الْعَقْدُ صَرْفًا لِأَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ: إمَّا (لِلْحَاجَةِ إلَى النَّقْلِ فِي بَدَلَيْهِ مِنْ يَدٍ إلَى يَدٍ.
وَالصَّرْفُ هُوَ النَّقْلُ وَالرَّدُّ لُغَةً، وَإِمَّا؛ لِأَنَّهُ لَا يُطْلَبُ بِهِ إلَّا الزِّيَادَةُ) يَعْنِي لَا يُطْلَبُ بِهَذَا الْعَقْدِ إلَّا زِيَادَةٌ تَحْصُلُ فِيمَا يُقَابِلُهُمَا مِنْ الْجَوْدَةِ وَالصِّيَاغَةِ، إذْ النُّقُودُ لَا يُنْتَفَعُ بِعَيْنِهَا كَمَا يُنْتَفَعُ بِغَيْرِهَا مِمَّا يُقَابِلُهَا مِنْ الْمَطْعُومِ وَالْمَلْبُوسِ وَالْمَرْكُوبِ، فَلَوْ لَمْ يُطْلَبْ بِهِ الزِّيَادَةُ وَالْعَيْنُ حَاصِلَةٌ فِي يَدِهِ مَا كَانَ فِيهِ فَائِدَةٌ أَصْلًا فَلَا يَكُونُ مَشْرُوعًا، وَقَدْ دَلَّ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ قَوْله تَعَالَى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ» الْحَدِيثَ، وَإِذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ بِهِ الزِّيَادَةَ (وَالصَّرْفُ هُوَ الزِّيَادَةُ لُغَةً، كَذَا قَالَهُ الْخَلِيلُ) نَاسَبَ أَنْ يُسَمَّى صَرْفًا (وَمِنْهُ) أَيْ مِنْ كَوْنِ الصَّرْفِ هُوَ الزِّيَادَةَ لُغَةً (سُمِّيَتْ الْعِبَادَةُ النَّافِلَةُ صَرْفًا) قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ انْتَمَى إلَى غَيْرِ أَبِيهِ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا» وَالْعَدْلُ هُوَ الْفَرْضُ، سُمِّيَ بِهِ لِكَوْنِهِ أَدَاءَ الْحَقِّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ.
وَشُرُوطُهُ عَلَى الْإِجْمَالِ: التَّقَابُضُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ بَدَنًا، وَأَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ خِيَارٌ وَلَا تَأْجِيلٌ.
وَأَقْسَامُهُ ثَلَاثَةٌ: بَيْعُ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، وَبَيْعُ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ، وَبَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ.
قَالَ (فَإِنْ بَاعَ فِضَّةً بِفِضَّةٍ إلَخْ) فَإِنْ بَاعَ رَجُلٌ فِضَّةً بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبًا بِذَهَبٍ لَا يَجُوزُ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْجَوْدَةِ وَالصِّيَاغَةِ بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَجْوَدَ مِنْ الْآخَرِ أَوْ أَحْسَنَ صِيَاغَةً لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» الْحَدِيثَ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْقَدْرِ لَا فِي الصِّفَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ» وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ فِي بَابِ الرِّبَا.
حَدَّثَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الصَّرْفِ فِي الْأَصْلِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ سَرِيعٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: أُتِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِإِنَاءٍ كُسِرَ وَإِنِّي قَدْ أَحْكَمْت صِيَاغَتَهُ، فَبَعَثَنِي بِهِ لِأَبِيعَهُ، فَأُعْطِيت بِهِ وَزْنَهُ وَزِيَادَةً فَذَكَرْت ذَلِكَ لِعُمَرَ فَقَالَ: أَمَّا الزِّيَادَةُ فَلَا. قَالَ (وَلَا بُدَّ مِنْ قَبْضِ الْعِوَضَيْنِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ) لِمَا رَوَيْنَا، وَلِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَإِنْ اسْتَنْظَرَك أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ فَلَا تُنْظِرُهُ، وَلِأَنَّهُ لابد مِنْ قَبْضِ أَحَدِهِمَا لِيَخْرُجَ الْعَقْدُ عَنْ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ ثُمَّ لابد مِنْ قَبْضِ الْآخَرِ تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا، وَلِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَوَجَبَ قَبْضُهُمَا سَوَاءٌ كَانَا يَتَعَيَّنَانِ كَالْمَصُوغِ أَوْ لَا يَتَعَيَّنَانِ كَالْمَضْرُوبِ أَوْ يَتَعَيَّنُ أَحَدُهُمَا وَلَا يَتَعَيَّنُ الْآخَرُ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّهُ إنْ كَانَ يَتَعَيَّنُ فَفِيهِ شُبْهَةُ عَدَمِ التَّعْيِينِ لِكَوْنِهِ ثَمَنًا خِلْقَةً فَيُشْتَرَطُ قَبْضُهُ اعْتِبَارًا لِلشُّبْهَةِ فِي الرِّبَا، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الِافْتِرَاقُ بِالْأَبْدَانِ، حَتَّى لَوْ ذَهَبَا عَنْ الْمَجْلِسِ يَمْشِيَانِ مَعًا فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ نَامَا فِي الْمَجْلِسِ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِمَا لَا يَبْطُلُ الصَّرْفُ لِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِنْ وَثَبَ مِنْ سَطْحٍ فَثِبْ مَعَهُ، وَكَذَا الْمُعْتَبَرُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي قَبْضِ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ، بِخِلَافِ خِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ لِأَنَّهُ يَبْطُلُ بِالْإِعْرَاضِ فِيهِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَا بُدَّ مِنْ قَبْضِ الْعِوَضَيْنِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ) قَبْضُ عِوَضِ الصَّرْفِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ بِالْأَبْدَانِ وَاجِبٌ بِالْمَنْقُولِ وَهُوَ (مَا رَوَيْنَا مِنْ قَوْلِهِ «يَدًا بِيَدٍ» وَقَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِنْ اسْتَنْظَرَك أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ فَلَا تُنْظِرْهُ) وَهُوَ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُوبِ الْقَبْضِ كَمَا تَرَى.
وَبِالْمَعْقُولِ وَهُوَ (أَنَّهُ لابد مِنْ قَبْضِ أَحَدِهِمَا إخْرَاجًا لِلْعَقْدِ عَنْ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ قَبْضَ الْآخَرِ تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ نَفْيًا لِتَحَقُّقِ الرِّبَا) (قَوْلُهُ: فِي الْكِتَابِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا) قِيلَ هُوَ مَنْصُوبٌ بِجَوَابِ النَّفْيِ وَهُوَ قَوْلُهُ: ثُمَّ لابد (قَوْلُهُ: وَلِأَنَّ أَحَدَهُمَا) دَلِيلٌ آخَرُ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ أَحَدَ الْعِوَضَيْنِ لَيْسَ أَوْلَى بِالْقَبْضِ مِنْ الْآخَرِ فَيَجِبُ قَبْضُهُمَا مَعًا (وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ مَا كَانَا يَتَعَيَّنَانِ كَالْمَصُوغِ أَوْ لَا يَتَعَيَّنَانِ كَالْمَضْرُوبِ أَوْ يَتَعَيَّنُ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا) وَهُوَ قَوْلُهُ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ» الْحَدِيثَ، وَهُوَ يَتَنَاوَلُ الْمَصُوغَ وَغَيْرَهُ (قَوْلُهُ: وَلِأَنَّهُ إنْ كَانَ يَتَعَيَّنُ إلَخْ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ بَيْعُ الْمَضْرُوبِ بِالْمَضْرُوبِ بِلَا قَبْضٍ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ كَالِئٌ بِكَالِئٍ، وَبَيْعُ الْمَصُوغِ بِالْمَصُوغِ لَيْسَ كَذَلِكَ لِتَعَيُّنِهِ بِالتَّعَيُّنِ.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمَصُوغَ وَإِنْ كَانَ يَتَعَيَّنُ فَفِيهِ شُبْهَةُ عَدَمِ التَّعْيِينِ لِكَوْنِهِ ثَمَنًا خِلْقَةً فَيُشْتَرَطُ قَبْضُهُ اعْتِبَارًا لِلشُّبْهَةِ فِي الرِّبَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ يَلْزَمُ فِي بَيْعِ الْمَضْرُوبِ بِالْمَصُوغِ نَسِيئَةً شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ؛ لِأَنَّ فِي بَيْعِ الْمَضْرُوبِ بِالْمَضْرُوبِ نَسِيئَةً شُبْهَةَ الْفَضْلِ، فَإِذَا بِيعَ مَضْرُوبٌ بِمَصُوغٍ نَسِيئَةً وَهُوَ مِمَّا يَتَعَيَّنُ كَانَ بِالنَّظَرِ إلَى كَوْنِهِ خُلِقَ ثَمَنًا شُبْهَةَ عَدَمِ التَّعْيِينِ وَتِلْكَ شُبْهَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الشُّبْهَةِ الْأُولَى وَالشُّبْهَةُ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ دُونَ النَّازِلِ عَنْهَا.
أُجِيبَ بِأَنَّ عَدَمَ الْجَوَازِ فِي الْمَضْرُوبِ نَسِيئَةً بِقَوْلِهِ «يَدًا بِيَدٍ» لَا بِالشُّبْهَةِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي مَوْضِعِ النَّصِّ مُضَافٌ إلَيْهِ لَا إلَى الْعِلَّةِ فَتَكُونُ الْحُرْمَةُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِاعْتِبَارِ الشُّبْهَةِ (وَالْمُرَادُ بِالِافْتِرَاقِ مَا يَكُونُ بِالْأَبْدَانِ حَتَّى لَوْ مَشَيَا مَعًا إلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ نَامَا فِي الْمَجْلِسِ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِمَا لَا يَبْطُلُ الصَّرْفُ لِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: وَإِنْ وَثَبَ مِنْ سَطْحٍ فَثِبْ مَعَهُ) وَقِصَّتُهُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي جَبَلَةَ.
قَالَ: سَأَلْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقُلْت: إنَّا نَقْدَمُ أَرْضَ الشَّامِ وَمَعَنَا الْوَرِقُ الثِّقَالُ النَّافِقَةُ وَعِنْدَهُمْ الْوَرِقُ الْكَاسِدَةُ فَنَبْتَاعُ وَرِقَهُمْ الْعَشَرَةَ بِتِسْعَةٍ وَنِصْفٍ، فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ، وَلَكِنْ بِعْ وَرِقَك بِذَهَبٍ وَاشْتَرِ وَرِقَهُمْ بِالذَّهَبِ، وَلَا تُفَارِقْهُ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ، وَإِنْ وَثَبَ مِنْ سَطْحٍ فَثِبْ مَعَهُ.
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُفْتِيَ إذَا بَيَّنَ جَوَابَ مَا سُئِلَ عَنْهُ لَا بَأْسَ أَنْ يُبَيِّنَ لِلسَّائِلِ الطَّرِيقَ الْمُحَصِّلَ لِمَقْصُودِهِ مَعَ التَّحَرُّزِ عَنْ الْحَرَامِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَذْمُومٌ مِنْ تَعْلِيمِ الْحِيَلِ.
وَقَيَّدَ مَشْيَهُمَا بِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَشَيَا إلَى جِهَتَيْنِ يُوجِبُ تَفَرُّقَ الْأَبْدَانِ، وَهَذَا الْمَذْكُورُ مِنْ التَّفَرُّقِ هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي قَبْضِ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ (قَوْلُهُ: بِخِلَافِ خِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ) يَرْجِعُ إلَى قَوْلِهِ لَمْ يَبْطُلُ الصَّرْفُ يُرِيدُ أَنَّ مَشْيَ الْمُخَيَّرَةِ مَعَ زَوْجِهَا وَإِنْ كَانَ إلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ يُبْطِلُ خِيَارَهَا؛ لِأَنَّهُ يَبْطُلُ بِالْإِعْرَاضِ. (وَإِنْ بَاعَ الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ جَازَ التَّفَاضُلُ) لِعَدَمِ الْمُجَانَسَةِ (وَوَجَبَ التَّقَابُضُ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِبًا إلَّا هَاءَ وَهَاءَ» (فَإِنْ افْتَرَقَا فِي الصَّرْفِ قَبْلَ قَبْضِ الْعِوَضَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا بَطَلَ الْعَقْدُ) لِفَوَاتِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْقَبْضُ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ شَرْطُ الْخِيَارِ فِيهِ وَلَا الْأَجَلُ لِأَنَّ بِأَحَدِهِمَا لَا يَبْقَى الْقَبْضُ مُسْتَحَقًّا وَبِالثَّانِي يَفُوتُ الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ، إلَّا إذَا أُسْقِطَ الْخِيَارُ فِي الْمَجْلِسِ فَيَعُودُ إلَى الْجَوَازِ لِارْتِفَاعِهِ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ وَفِيهِ خِلَافُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّرْحُ:
(وَإِنْ بَاعَ الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ جَازَ التَّفَاضُلُ لِعَدَمِ الْمُجَانَسَةِ وَوَجَبَ التَّقَابُضُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِبًا إلَّا هَاءَ وَهَاءَ») عَلَى وَزْنِ هَاعَ بِمَعْنَى خُذْ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} (قَوْلُهُ: فَإِنْ افْتَرَقَا فِي الصَّرْفِ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ وَلَا بُدَّ مِنْ قَبْضِ الْعِوَضَيْنِ: يَعْنِي لِبَقَاءِ الْعَقْدِ، فَإِنْ افْتَرَقَا قَبْلَ قَبْضِ الْعِوَضَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا بَطَلَ الْعَقْدُ لِفَوَاتِ شَرْطِ الْبَقَاءِ وَهَذَا صَحِيحٌ، بِخِلَافِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْقَبْضَ شَرْطُ الصِّحَّةِ، فَإِنَّ شَرْطَ الشَّيْءِ يَسْبِقُهُ وَالْقَبْضُ إنَّمَا هُوَ بَعْدَ الْعَقْدِ، وَمَا أُجِيبَ بِهِ بِأَنَّ شَرْطَ الْجَوَازِ مَا يُشْتَرَطُ مُقَارِنًا لِحَالَةِ الْعَقْدِ، إلَّا أَنَّ اشْتِرَاطَ الْقَبْضِ مُقَارِنًا لِحَالَةِ الْعَقْدِ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ غَيْرُ مُمْكِنٍ مِنْ غَيْرِ تَرَاضٍ لِمَا فِيهِ مِنْ إثْبَاتِ الْيَدِ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ رِضَاهُ، فَعَلَّقْنَا الْجَوَازَ بِقَبْضٍ يُوجَدُ فِي الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ لِمَجْلِسِ الْعَقْدِ حُكْمَ حَالَةِ الْعَقْدِ كَمَا فِي الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، فَصَارَ الْقَبْضُ الْمَوْجُودُ بَعْدَ الْعَقْدِ فِي مَجْلِسِهِ كَالْمَوْجُودِ وَقْتَ الْعَقْدِ حُكْمًا، وَلَوْ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْعَقْدِ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ كَانَ شَرْطُ الْجَوَازِ، فَكَذَا إذَا كَانَ مَوْجُودًا حُكْمًا فَعَلَى مَا تَرَى فِيهِ مِنْ التَّمَحُّلِ مَعَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِجَعْلِهِ شَرْطَ الْبَقَاءِ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِأَنَّ الِافْتِرَاقَ بِلَا قَبْضٍ مُبْطِلٌ (لَا يَصِحُّ شَرْطُ الْخِيَارِ فِي الصَّرْفِ وَلَا الْأَجَلِ) بِأَنْ يَقُولَ اشْتَرَيْت هَذَا الدِّينَارَ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ قَالَ إلَى شَهْرٍ؛ (لِأَنَّ بِالْخِيَارِ لَا يَبْقَى الْقَبْضُ مُسْتَحَقًّا) لِمَنْعِهِ الْمِلْكَ (وَبِالْأَجَلِ يَفُوتُ الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ) وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ أَنَّ فِي الْخِيَارِ يَتَأَخَّرُ الْقَبْضُ إلَى زَمَانِ سُقُوطِهِ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْحَالِ مُسْتَحَقًّا وَفِي الْأَجَلِ ذَكَرَ فِي الْعَقْدِ مَا يُنَافِي الْقَبْضَ، وَذِكْرُ مُنَافِي الشَّيْءِ مُفَوِّتٌ لَهُ، كَذَا قِيلَ، وَكَأَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ فِي الْأَوَّلِ اسْتِحْقَاقَ الْقَبْضِ فَائِتٌ، وَفِي الثَّانِي الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ شَرْعًا فَائِتٌ (قَوْلُهُ: إلَّا إذَا أُسْقِطَ فِي الْمَجْلِسِ) يَعْنِي مِنْهُمَا إنْ كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا أَوْ مِمَّنْ لَهُ ذَلِكَ (فَيَعُودُ إلَى الْجَوَازِ لِارْتِفَاعِهِ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ) اسْتِحْسَانًا خِلَافًا لِزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَإِنْ أَسْقَطَ الْأَجَلَ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ أَسْقَطَ أَحَدُهُمَا فَكَذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ صَاحِبَ الْأَجَلِ إذَا أَسْقَطَ الْأَجَلَ لَمْ يَصِحَّ حَتَّى يَرْضَى صَاحِبُهُ، وَالْفَرْقُ يُعْرَفُ فِي شَرْحِ الْقُدُورِيِّ لِمُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ، وَقَيَّدَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْعَيْبِ وَالرُّؤْيَةِ يَثْبُتَانِ فِي الصَّرْفِ كَمَا فِي سَائِرِ الْعُقُودِ، إلَّا أَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ لَا يَثْبُتُ إلَّا فِي الْعَيْنِ لَا الدَّيْنِ فَإِنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي رَدِّهِ بِالْخِيَارِ إذْ الْعَقْدُ لَا يَنْفَسِخُ بِرَدِّهِ وَإِنَّمَا يَرْجِعُ بِمِثْلِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْبُوضُ مِثْلَ الْمَرْدُودِ أَوْ دُونَهُ فَلَا يُفِيدُ الرَّدُّ فَائِدَةً. قَالَ (وَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي ثَمَنِ الصَّرْفِ قَبْلَ قَبْضِهِ، حَتَّى لَوْ بَاعَ دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَلَمْ يَقْبِضْ الْعَشَرَةَ حَتَّى اشْتَرَى بِهَا ثَوْبًا فَالْبَيْعُ فِي الثَّوْبِ فَاسِدٌ) لِأَنَّ الْقَبْضَ مُسْتَحَقٌّ بِالْعَقْدِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَفِي تَجْوِيزِهِ فَوَاتُهُ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ الْعَقْدُ فِي الثَّوْبِ كَمَا نُقِلَ عَنْ زُفَرَ، لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ لَا تَتَعَيَّنُ فَيَنْصَرِفُ الْعَقْدُ إلَى مُطْلَقِهَا، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الثَّمَنُ فِي بَابِ الصَّرْفِ مَبِيعٌ لِأَنَّ الْبَيْعَ لابد لَهُ مِنْهُ وَلَا شَيْءَ سِوَى الثَّمَنَيْنِ فَيُجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبِيعًا لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ وَبَيْعُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهِ مَبِيعًا أَنْ يَكُونَ مُتَعَيَّنًا كَمَا فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي ثَمَنِ الصَّرْفِ قَبْلَ قَبْضِهِ إلَخْ) التَّصَرُّفُ فِي ثَمَنِ الصَّرْفِ قَبْلَ قَبْضِهِ لَا يَجُوزُ، فَإِذَا بَاعَ دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَلَمْ يَقْبِضْ الْعَشَرَةَ حَتَّى اشْتَرَى بِهَا ثَوْبًا فَسَدَ الْبَيْعُ فِي الثَّوْبِ لِفَوَاتِ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى إذْ الرِّبَا حَرَامٌ حَقًّا لِلَّهِ، وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي جَوَازَهُ كَمَا نُقِلَ عَنْ زُفَرَ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ لَا تَتَعَيَّنُ عَيْنًا كَانَتْ أَوْ دَيْنًا فَيَنْصَرِفُ الْعَقْدُ إلَى مُطْلَقِ الدَّرَاهِمِ، إذْ الْإِطْلَاقُ وَالْإِضَافَةُ إلَى بَدَلِ الصَّرْفِ إذْ ذَاكَ سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا قَالَ عَنْ زُفَرَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ مَذْهَبِهِ كَمَذْهَبِ الْعُلَمَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الثَّمَنُ فِي بَابِ الصَّرْفِ مَبِيعٌ؛ لِأَنَّ الصَّرْفَ بَيْعٌ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مَبِيعٍ وَمَا ثَمَّةَ سِوَى الثَّمَنَيْنِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى بِكَوْنِهِ مَبِيعًا فَيُجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبِيعًا مِنْ وَجْهٍ وَثَمَنًا مِنْ وَجْهٍ وَإِنْ كَانَا ثَمَنَيْنِ خِلْقَةً، وَبَيْعُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ كَمَا فَعَلْنَا فِي الْمُقَايَضَةِ، وَاعْتَبَرْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا مِنْ وَجْهٍ مَبِيعًا مِنْ وَجْهٍ ضَرُورَةَ انْعِقَادِ الْبَيْعِ وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مَبِيعًا حَقِيقَةً.
قِيلَ لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ الْأَوْلَوِيَّةِ فَإِنَّ مَا دَخَلَهُ الْبَاءُ أَوْلَى بِالثَّمَنِيَّةِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ فِي الْأَثْمَانِ الْجَعْلِيَّةِ كَالْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ إذَا كَانَتْ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ لَا فِي الْأَثْمَانِ الْخِلْقِيَّةِ.
قَالَ (وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَوْ كَانَ بَدَلُ الصَّرْفِ مَبِيعًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُتَعَيِّنًا، فَقَالَ كَوْنُهُ مَبِيعًا لَا يَسْتَلْزِمُ التَّعْيِينَ، فَإِنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ مَبِيعٌ بِالِاتِّفَاقِ وَلَيْسَ بِمُتَعَيِّنٍ.
وَعُورِضَ بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوْ كَانَ مَبِيعًا لَا يُشْتَرَطُ قِيَامُ الْمِلْكِ فِيهِمَا وَقْتَ الْعَقْدِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَوْ بَاعَ دِينَارًا بِدِرْهَمٍ وَلَيْسَا فِي مِلْكِهِمَا فَاسْتَقْرَضَا فِي الْمَجْلِسِ وَافْتَرَقَا عَنْ قَبْضٍ صَحَّ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ حَالَةَ الْعَقْدِ ثَمَنٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ مُثَمَّنًا بَعْدَ الْعَقْدِ لِضَرُورَةِ الْعَقْدِ فَيُجْعَلُ مُثَمَّنًا بَعْدَهُ ثَمَنًا قَبْلَهُ فَلَا يُشْتَرَطُ وُجُودُهُ قَبْلَهُ..
قَالَ (وَيَجُوزُ بَيْعُ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ مُجَازَفَةً) لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ غَيْرُ مَشْرُوطَةٍ فِيهِ وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ لِمَا ذَكَرْنَا، بِخِلَافِ بَيْعِهِ بِجِنْسِهِ مُجَازَفَةً لِمَا فِيهِ مِنْ احْتِمَالِ الرِّبَا.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَيَجُوزُ بَيْعُ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ مُجَازَفَةً) إذَا كَانَ الصَّرْفُ بِغَيْرِ الْجِنْسِ صَحَّ مُجَازَفَةً؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِيهِ غَيْرُ مَشْرُوطَةٍ، لَكِنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِبًا إلَّا هَاءَ وَهَاءَ» وَهُوَ وَالْمَعْقُولُ الْمُتَقَدِّمُ مُرَادٌ بِقَوْلِهِ لِمَا ذَكَرْنَا، بِخِلَافِ بَيْعِهِ بِجِنْسِهِ مُجَازَفَةً فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إذَا لَمْ يَعْرِفْ الْمُتَعَاقِدَانِ قَدْرَهُمَا وَإِنْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْوَزْنِ فِي الْوَاقِعِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِتَسَاوِيهِمَا حَالَةَ الْعَقْدِ شَرْطُ صِحَّتِهِ؛ لِأَنَّ الْفَضْلَ حِينَئِذٍ مَوْهُومٌ وَالْمَوْهُومُ فِي هَذَا الْبَابِ كَالْمُتَحَقِّقِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُرِدْ الْمُمَاثَلَةَ فِي عِلْمِ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْمُمَاثَلَةَ فِي عِلْمِ الْعَاقِدَيْنِ وَلَمْ تُوجَدْ؛ وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ، فَإِنْ كَانَا وَزَنَا فِي الْمَجْلِسِ وَعَلِمَا فِي الْمَجْلِسِ تَسَاوِيَهُمَا كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِوُقُوعِ الْعَقْدِ فَاسِدًا فَلَا يَنْقَلِبُ جَائِزًا لَكِنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا جَوَازَهُ؛ لِأَنَّ سَاعَاتِ الْمَجْلِسِ كَسَاعَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: إذَا عُرِفَ التَّسَاوِي بِالْوَزْنِ جَازَ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ هُوَ الْمُمَاثَلَةِ وَالْفَرْضُ وُجُودُهَا فِي الْوَاقِعِ.
وَالْجَوَابُ مَا قُلْنَا إنَّ الْمُرَادَ بِهَا مَا هُوَ فِي عِلْمِهِمَا. قَالَ (وَمَنْ بَاعَ جَارِيَةً قِيمَتُهَا أَلْفُ مِثْقَالِ فِضَّةٍ وَفِي عُنُقِهَا طَوْقُ فِضَّةٍ قِيمَتُهُ أَلْفُ مِثْقَالٍ بِأَلْفَيْ مِثْقَالِ فِضَّةٍ وَنَقَدَ مِنْ الثَّمَنِ أَلْفَ مِثْقَالٍ ثُمَّ افْتَرَقَا فَاَلَّذِي نَقَدَ ثَمَنَ الْفِضَّةِ) لِأَنَّ قَبْضَ حِصَّةِ الطَّوْقِ وَاجِبٌ فِي الْمَجْلِسِ لِكَوْنِهِ بَدَلَ الصَّرْفِ، وَالظَّاهِرُ مِنْهُ الْإِتْيَانُ بِالْوَاجِبِ (وَكَذَا لَوْ اشْتَرَاهَا بِأَلْفَيْ مِثْقَالِ أَلْفٍ نَسِيئَةً وَأَلْفٍ نَقْدًا فَالنَّقْدُ ثَمَنُ الطَّوْقِ) لِأَنَّ الْأَجَلَ بَاطِلٌ فِي الصَّرْفِ جَائِزٌ فِي بَيْعِ الْجَارِيَةِ، وَالْمُبَاشَرَةُ عَلَى وَجْهِ الْجَوَازِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْهُمَا (وَكَذَلِكَ إنْ بَاعَ سَيْفًا مُحَلًّى بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَحِلْيَتُهُ خَمْسُونَ فَدَفَعَ مِنْ الثَّمَنِ خَمْسِينَ جَازَ الْبَيْعُ وَكَانَ الْمَقْبُوضُ حِصَّةَ الْفِضَّةِ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: خُذْ هَذِهِ الْخَمْسِينَ مِنْ ثَمَنِهِمَا) لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ قَدْ يُرَادُ بِذِكْرِهِمَا الْوَاحِدُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} وَالْمُرَادُ أَحَدُهُمَا فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ لِظَاهِرِ حَالِهِ (فَإِنْ لَمْ يَتَقَابَضَا حَتَّى افْتَرَقَا بَطَلَ الْعَقْدُ فِي الْحِلْيَةِ) لِأَنَّهُ صُرِفَ فِيهَا (وَكَذَا فِي السَّيْفِ إنْ كَانَ لَا يَتَخَلَّصُ إلَّا بِضَرَرٍ) لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ بِدُونِ الضَّرَرِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ كَالْجِذْعِ فِي السَّقْفِ (وَإِنْ كَانَ يَتَخَلَّصُ بِغَيْرِ ضَرَرٍ جَازَ الْبَيْعُ فِي السَّيْفِ وَبَطَلَ فِي الْحِلْيَةِ) لِأَنَّهُ أَمْكَنَ إفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ فَصَارَ كَالطَّوْقِ وَالْجَارِيَةِ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ الْفِضَّةُ الْمُفْرَدَةُ أَزْيَدَ مِمَّا فِيهِ، فَإِنْ كَانَتْ مِثْلَهُ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ أَوْ لَا يَدْرِي لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ لِلرِّبَا أَوْ لِاحْتِمَالِهِ، وَجِهَةُ الصِّحَّةِ مِنْ وَجْهٍ وَجِهَةُ الْفَسَادِ مِنْ وَجْهَيْنِ فَتَرَجَّحَتْ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ بَاعَ جَارِيَةً قِيمَتُهَا أَلْفُ مِثْقَالِ فِضَّةٍ إلَخْ) الْجَمْعُ بَيْنَ النُّقُودِ وَغَيْرِهَا فِي الْبَيْعِ لَا يُخْرِجُ النُّقُودَ عَنْ كَوْنِهَا صَرْفًا بِمَا يُقَابِلُهَا مِنْ الثَّمَنِ بَاعَ جَارِيَةً قِيمَتُهَا أَلْفُ مِثْقَالِ فِضَّةٍ وَفِي عُنُقِهَا طَوْقُ فِضَّةٍ فِيهِ أَلْفُ مِثْقَالٍ بِأَلْفَيْ مِثْقَالٍ وَنَقَدَ مِنْ الثَّمَنِ أَلْفَ مِثْقَالٍ ثُمَّ افْتَرَقَا فَاَلَّذِي نَقَدَ ثَمَنَ الْفِضَّةِ؛ لِأَنَّ قَبْضَ حِصَّةِ الطَّوْقِ فِي الْمَجْلِسِ وَاجِبٌ حَقًّا لِلشَّرْعِ لِكَوْنِهِ بَدَلَ الصَّرْفِ، وَقَبْضُ ثَمَنِ الْجَارِيَةِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَغَيْرِهِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُسْلَمِ الْإِتْيَانُ بِالْوَاجِبِ تَفْرِيغًا لِلذِّمَّةِ، كَمَا إذَا تَرَكَ سَجْدَةً صَلَاتِيَّةً وَسَهَا أَيْضًا ثُمَّ أَتَى بِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ وَسَلَّمَ تُصْرَفُ إحْدَى سَجْدَتَيْ السَّهْوِ إلَى الصَّلَاتِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهَا لِيَكُونَ الْإِتْيَانُ بِهَا عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ، وَكَذَا لَوْ اشْتَرَاهَا بِأَلْفَيْ مِثْقَالٍ أَلْفٍ نَسِيئَةً وَأَلْفٍ نَقْدًا فَالنَّقْدُ ثَمَنُ الطَّوْقِ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ بَاطِلٌ فِي الصَّرْفِ جَائِزٌ فِي بَيْعِ الْجَارِيَةِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِمَا الْمُبَاشَرَةُ عَلَى وَجْهِ الْجَوَازِ، وَكَذَا لَوْ بَاعَ سَيْفًا مُحَلًّى بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَحِلْيَتُهُ خَمْسُونَ وَدَفَعَ مِنْ الثَّمَنِ خَمْسِينَ فَإِنْ دَفَعَ سَاكِتًا عَنْهُمَا جَازَ الْبَيْعُ وَكَانَ الْمَقْبُوضُ حِصَّةَ الْحِلْيَةِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الظَّاهِرَ الْإِتْيَانُ بِالْوَاجِبِ، وَإِنْ صَرَّحَ بِذَكَرِهِمَا فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ قَدْ يُرَادُ بِذَكَرِهِمَا الْوَاحِدُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} وَإِنَّمَا يَخْرُجَانِ مِنْ أَحَدِهِمَا فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ بِقَرِينَةِ الْحَالِ، وَإِنْ قَالَ عَنْ ثَمَنِ الْحِلْيَةِ خَاصَّةً فَلَا كَلَامَ فِيهِ، وَإِنْ قَالَ عَنْ ثَمَنِ السَّيْفِ خَاصَّةً وَقَالَ الْآخَرُ نِعْمَ أَوْ لَا وَتَفَرَّقَا عَلَى ذَلِكَ اُنْتُقِضَ الْبَيْعُ فِي الْحِلْيَةِ؛ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ بِالِاسْتِحْقَاقِ عِنْدَ الْمُسَاوَاةِ فِي الْعَقْدِ وَالْإِضَافَةِ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَعْدَ تَصْرِيحٍ مِنْ الْقَوْلِ قَوْلُهُ: إنَّ الْمَدْفُوعَ ثَمَنُ السَّيْفِ، فَإِنْ لَمْ يَتَقَابَضَا شَيْئًا حَتَّى افْتَرَقَا بَطَلَ الْعَقْدُ فِي الْحِلْيَةِ؛ لِأَنَّهُ صَرْفٌ فِيهَا.
وَأَمَّا فِي السَّيْفِ فَإِنْ كَانَ لَا يَتَخَلَّصُ إلَّا بِضَرَرٍ فَكَذَلِكَ لِعَدَمِ إمْكَانِ التَّسْلِيمِ بِدُونِهِ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ كَالْجِذْعِ فِي السَّقْفِ وَإِنْ كَانَ يَتَخَلَّصُ بِلَا ضَرَرٍ جَازَ فِي السَّيْفِ وَبَطَلَ فِي الْحِلْيَةِ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ إفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ فَصَارَ كَالطَّوْقِ وَالْجَارِيَةِ (قَوْلُهُ: وَهَذَا إذَا كَانَتْ الْفِضَّةُ الْمُفْرَدَةُ) يَعْنِي الثَّمَنَ (أَزْيَدَ مِمَّا فِيهِ) أَيْ الْمَبِيعِ تَعْمِيمٌ لِلْكَلَامِ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْحِلْيَةَ خَمْسُونَ وَالثَّمَنَ مِائَةٌ فَكَانَ ذِكْرُهُ مُسْتَغْنًى عَنْهُ لَكِنَّهُ عَمَّمَ الْكَلَامَ لِبَيَانِ الْأَقْسَامِ الْأُخَرِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ وَزْنُ الْفِضَّةِ الْمُفْرَدَةِ أَزْيَدَ مِنْ وَزْنِ الْفِضَّةِ الَّتِي مَعَ غَيْرِهَا، وَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَهَا يُقَابِلُهَا وَالزَّائِدُ يُقَابِلُ الْغَيْرَ فَلَا يُفْضِي إلَى الرِّبَا.
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ وَزْنُ الْمُفْرَدَةِ مِثْلَ الْمُنْضَمَّةِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ؛ لِأَنَّهُ رِبًا؛ لِأَنَّ الْفَضْلَ رِبًا سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِهَا أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا.
وَالثَّالِثُ أَنْ تَكُونَ الْمُفْرَدَةُ أَقَلَّ وَهُوَ أَوْضَحُ وَالرَّابِعُ أَنْ لَا يُدْرَى مِقْدَارُهَا وَهُوَ فَاسِدٌ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالْمُسَاوَاةِ عِنْدَ الْعَقْدِ وَتَوَهُّمِ الْفَضْلِ خِلَافًا لِزُفَرَ فَإِنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْجَوَازُ وَالْمُفْسِدُ هُوَ الْفَضْلُ الْخَالِي عَنْ الْعِوَضِ، فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ بِهِ حُكِمَ بِجَوَازِهِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ مَا لَا يُدْرَى يَجُوزُ فِي الْوَاقِعِ أَنْ يَكُون مِثْلًا وَأَنْ يَكُونَ أَقَلَّ وَأَنْ يَكُونَ زَائِدًا، فَإِنْ كَانَ زَائِدًا جَازَ وَإِلَّا فَسَدَ فَتَعَدَّدَتْ جِهَةُ الْفَسَادِ فَتَرَجَّحَتْ.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ كُلَّ جِهَةٍ مِنْهُمَا عِلَّةٌ لِلْفَسَادِ فَلَا تَصْلُحُ لِلتَّرْجِيحِ.
وَأَجَابَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْكَرْدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأَنَّ مُرَادَهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا يَكْفِي لِلْحُكْمِ فَمَا ظَنُّك بِهِمَا لَا التَّرْجِيحُ الْحَقِيقِيُّ إذْ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْمُفْسِدِ وَالْمُصَحِّحِ فِيمَا يَلْحَقُ الشُّبْهَةُ فِيهِ بِالْحَقِيقَةِ. قَالَ (وَمَنْ بَاعَ إنَاءَ فِضَّةٍ ثُمَّ افْتَرَقَا وَقَدْ قَبَضَ بَعْضَ ثَمَنِهِ بَطَلَ الْبَيْعُ فِيمَا لَمْ يُقْبَضْ وَصَحَّ فِيمَا قُبِضَ وَكَانَ الْإِنَاءُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا) لِأَنَّهُ صَرْفٌ كُلُّهُ فَصَحَّ فِيمَا وُجِدَ شَرْطُهُ وَبَطَلَ فِيمَا لَمْ يُوجَدْ وَالْفَسَادُ طَارِئٌ لِأَنَّهُ يَصِحُّ ثُمَّ يَبْطُلُ بِالِافْتِرَاقِ فَلَا يَشِيعُ.
قَالَ (وَلَوْ اُسْتُحِقَّ بَعْضُ الْإِنَاءِ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْبَاقِيَ بِحِصَّتِهِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ) لِأَنَّ الشَّرِكَةَ عَيْبٌ فِي الْإِنَاءِ.
(وَمَنْ بَاعَ قِطْعَةَ نُقْرَةٍ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ بَعْضُهَا أَخَذَ مَا بَقِيَ بِحِصَّتِهَا وَلَا خِيَارَ لَهُ) لِأَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ بَاعَ إنَاءَ فِضَّةٍ ثُمَّ افْتَرَقَا إلَخْ) وَمَنْ بَاعَ إنَاءَ فِضَّةٍ بِفِضَّةٍ أَوْ بِذَهَبٍ وَقَبَضَ بَعْضَ الثَّمَنِ دُونَ بَعْضٍ وَافْتَرَقَا بَطَلَ الْبَيْعُ فِيمَا لَمْ يُقْبَضْ ثَمَنُهُ وَصَحَّ فِيمَا قُبِضَ وَاشْتَرَكَا فِي الْإِنَاءِ؛ لِأَنَّهُ صَرْفٌ كُلُّهُ وَقَدْ وُجِدَ شَرْطُ بَقَاءِ الْعَقْدِ فِي بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ فَصَحَّ: أَيْ بَقِيَ صَحِيحًا فِي بَعْضٍ وَبَطَلَ فِي آخَرَ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَبْضَ فِي الْمَجْلِسِ شَرْطُ الْبَقَاءِ عَلَى الْجَوَازِ فَيَكُونُ الْفَسَادُ طَارِئًا فَلَا يَشِيعُ.
لَا يُقَالُ: عَلَى هَذَا يَلْزَمُ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ وَذَلِكَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ قَبْلَ تَمَامِهَا لَا يَجُوزُ، وَهَاهُنَا الصَّفْقَةُ تَامَّةٌ فَلَا يَكُونُ مَانِعًا وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى تَمَامِ الصَّفْقَةِ.
قَالَ (وَلَوْ اسْتَحَقَّ بَعْضَ الْإِنَاءِ إلَخْ) أَيْ وَلَوْ اسْتَحَقَّ بَعْضَ الْإِنَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْبَاقِيَ بِحِصَّتِهِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّ؛ لِأَنَّ الْإِنَاءَ تَعَيَّبَ بِعَيْبِ الشَّرِكَةِ إذْ الشَّرِكَةُ فِي الْأَعْيَانِ الْمُجْتَمِعَةِ تُعَدُّ عَيْبًا لِانْتِقَاصِهَا بِالتَّبْعِيضِ، وَكَانَ ذَلِكَ بِغَيْرِ صُنْعِهِ فَيَتَخَيَّرُ، بِخِلَافِ صُورَةِ الِافْتِرَاقِ فَإِنَّ الْعَيْبَ حَدَثَ بِصُنْعٍ مِنْهُ وَهُوَ الِافْتِرَاقُ لَا عَنْ قَبْضٍ.
قَالَ (وَإِنْ بَاعَ قِطْعَةَ نُقْرَةٍ إلَخْ) الْمُرَادُ بِالنُّقْرَةِ قِطْعَةُ فِضَّةٍ مُذَابَةٌ.
فَإِضَافَةُ الْقِطْعَةِ إلَى النُّقْرَةِ مِنْ بَابِ إضَافَةِ الْعَامِّ إلَى الْخَاصِّ.
وَإِذَا بَاعَ قِطْعَةَ نُقْرَةٍ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ ثُمَّ اسْتَحَقَّ بَعْضَهَا أَخَذَ مَا بَقِيَ بِحِصَّتِهَا وَلَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ فِيهَا لَيْسَتْ بِعَيْبٍ؛ لِأَنَّ التَّبْعِيضَ لَا يَضُرُّهُ بِخِلَافِ الْإِنَاءِ. قَالَ (وَمَنْ بَاعَ دِرْهَمَيْنِ وَدِينَارًا بِدِرْهَمٍ وَدِينَارَيْنِ جَازَ الْبَيْعُ وَجُعِلَ كُلُّ جِنْسٍ بِخِلَافِهِ) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَا يَجُوزُ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا بَاعَ كُرَّ شَعِيرٍ وَكُرَّ حِنْطَةٍ بِكُرَّيْ شَعِيرٍ وَكُرَّيْ حِنْطَةٍ: وَلَهُمَا أَنَّ فِي الصَّرْفِ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ تَغْيِيرَ تَصَرُّفِهِ لِأَنَّهُ قَابَلَ الْجُمْلَةَ بِالْجُمْلَةِ، وَمِنْ قَضِيَّتِهِ الِانْقِسَامُ عَلَى الشُّيُوعِ لَا عَلَى التَّعْيِينِ، وَالتَّغْيِيرُ لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَصْحِيحُ التَّصَرُّفِ، كَمَا إذَا اشْتَرَى قَلْبًا بِعَشَرَةٍ وَثَوْبًا بِعَشَرَةٍ ثُمَّ بَاعَهُمَا مُرَابَحَةً لَا يَجُوزُ وَإِنْ أَمْكَنَ صَرْفُ الرِّبْحِ إلَى الثَّوْبِ، وَكَذَا إذَا اشْتَرَى عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ بَاعَهُ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ مِنْ الْبَائِعِ مَعَ عَبْدٍ آخَرَ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ لَا يَجُوزُ فِي الْمُشْتَرَى بِأَلْفٍ وَإِنْ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ بِصَرْفِ الْأَلْفِ إلَيْهِ.
وَكَذَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ عَبْدِهِ وَعَبْدِ غَيْرِهِ وَقَالَ بِعْتُك أَحَدُهُمَا لَا يَجُوزُ وَإِنْ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ بِصَرْفِهِ إلَى عَبْدِهِ.
وَكَذَا إذَا بَاعَ دِرْهَمًا وَثَوْبًا بِدِرْهَمٍ وَثَوْبٍ وَافْتَرَقَا مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ فَسَدَ الْعَقْدُ فِي الدِّرْهَمَيْنِ وَلَا يُصْرَفُ الدِّرْهَمُ إلَى الثَّوْبِ لِمَا ذَكَرْنَا.
وَلَنَا أَنَّ الْمُقَابَلَةَ الْمُطْلَقَةَ تَحْتَمِلُ مُقَابَلَةَ الْفَرْدِ بِالْفَرْدِ كَمَا فِي مُقَابَلَةِ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ، وَأَنَّهُ طَرِيقٌ مُتَعَيَّنٌ لِتَصْحِيحِهِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ، وَفِيهِ تَغْيِيرُ وَصْفِهِ لَا أَصْلِهِ لِأَنَّهُ يَبْقَى مُوجِبُهُ الْأَصْلِيُّ وَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْكُلِّ بِمُقَابَلَةِ الْكُلِّ، وَصَارَ هَذَا كَمَا إذَا بَاعَ نِصْفَ عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ يَنْصَرِفُ إلَى نَصِيبِهِ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ بِخِلَافِ مَا عُدَّ مِنْ الْمَسَائِلِ.
أَمَّا مَسْأَلَةُ الْمُرَابَحَةِ فَلِأَنَّهُ يَصِيرُ تَوْلِيَةً فِي الْقَلْبِ بِصَرْفِ الرِّبْحِ كُلِّهِ إلَى الثَّوْبِ.
وَالطَّرِيقُ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ صَرْفُ الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَلْفِ إلَى الْمُشْتَرِي.
وَفِي الثَّالِثَةِ أُضِيفَ الْبَيْعُ إلَى الْمُنَكَّرِ وَهُوَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْبَيْعِ وَالْمُعَيَّنُ ضِدُّهُ.
وَفِي الْأَخِيرَةِ الْعَقْدُ انْعَقَدَ صَحِيحًا وَالْفَسَادُ فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ وَكَلَامُنَا فِي الِابْتِدَاءِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ بَاعَ دِرْهَمَيْنِ وَدِينَارًا بِدِرْهَمٍ وَدِينَارَيْنِ جَازَ الْبَيْعُ إلَخْ) رَجُلٌ بَاعَ دِرْهَمَيْنِ وَدِينَارًا بِدِرْهَمٍ وَدِينَارَيْنِ جَازَ الْبَيْعُ وَجُعِلَ كُلُّ جِنْسٍ بِخِلَافِهِ، وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَا يَجُوزُ، وَعَلَى هَذَا إذَا بَاعَ كُرَّ شَعِيرٍ وَكُرَّ حِنْطَةٍ بِكُرَّيْ شَعِيرٍ وَكُرَّيْ حِنْطَةٍ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْأَمْوَالَ الرِّبَوِيَّةَ الْمُخْتَلِفَةَ الْجِنْسِ إذَا اشْتَمَلَ عَلَيْهَا الصَّفْقَةُ، وَكَانَ فِي صَرْفِ الْجِنْسِ إلَى الْجِنْسِ فَسَادُ الْمُبَادَلَةِ يَصْرِفُ كُلُّ جِنْسٍ مِنْهَا إلَى خِلَافِ جِنْسِهَا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ الثَّلَاثَةِ تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ خِلَافًا لَهُمَا، قَالَا: إنَّ فِي الصَّرْفِ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ تَغَيُّرَ تَصَرُّفِهِ؛ لِأَنَّهُ قَابَلَ الْجُمْلَةَ بِالْجُمْلَةِ، وَمِنْ قَضِيَّةِ التَّقَابُلِ الِانْقِسَامُ عَلَى الشُّيُوعِ لَا عَلَى التَّعْيِينِ، وَمَعْنَى الشُّيُوعِ هُوَ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَدَلَيْنِ حَظٌّ مِنْ جُمْلَةِ الْآخَرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ الْوُقُوعُ فَإِنَّهُ إذَا اشْتَرَى قَلْبًا: أَيْ سِوَارًا بِعَشَرَةٍ وَثَوْبًا بِعَشَرَةٍ ثُمَّ بَاعَهُمَا مُرَابَحَةً لَا يَجُوزُ، وَإِنْ أَمْكَنَ صَرْفُ الرِّبْحِ إلَى الثَّوْبِ، وَكَذَا إذَا اشْتَرَى عَبْدًا بِأَلْفٍ ثُمَّ بَاعَهُ مَعَ عَبْدٍ آخَرَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ مِنْ الْبَائِعِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ لَا يَجُوزُ فِي الْمُشْتَرَى بِأَلْفٍ وَإِنْ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ لِصَرْفِ الْأَلْفِ إلَيْهِ، وَكَذَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ عَبْدِهِ وَعَبْدِ غَيْرِهِ فَقَالَ بِعْتُك أَحَدَهُمَا لَا يَجُوزُ وَإِنْ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ بِصَرْفِهِ إلَى عَبْدِهِ، وَكَذَا إذَا بَاعَ دِرْهَمًا وَثَوْبًا بِدِرْهَمٍ وَثَوْبٍ فَافْتَرَقَا مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ فَسَدَ الْبَيْعُ فِي الدِّرْهَمِ وَلَا يُصْرَفُ إلَى الثَّوْبِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ كُلُّهُ إلَّا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَضِيَّةَ هَذِهِ الْمُقَابَلَةِ الِانْقِسَامُ عَلَى الشُّيُوعِ دُونَ التَّعْيِينِ، فَالتَّعْيِينُ تَغْيِيرٌ وَالتَّغْيِيرُ لَا يَجُوزُ.
وَلَنَا أَنَّ الْمُقَابَلَةَ الْمُطْلَقَةَ تَحْتَمِلُ مُقَابَلَةَ الْفَرْدِ بِالْفَرْدِ فَكَانَ جَائِزَ الْإِرَادَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُرَادًا، أَمَّا أَنَّهُ جَائِزُ الْإِرَادَةِ فَلِأَنَّ كُلَّ مُطْلَقٍ يَحْتَمِلُ الْمُقَيَّدَ لَا مَحَالَةَ، وَلِهَذَا إذَا بَاعَ كُرَّ حِنْطَةٍ بِكُرَّيْهَا فَسَدَ؛ لِأَنَّ الْكُرَّ قَابَلَ الْكُرَّ وَفَضَلَ الْآخَرُ.
وَأَمَّا وُجُوبُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا فَلِأَنَّهُ طَرِيقٌ مُتَعَيِّنٌ لِتَصْحِيحِ الْعَقْدِ فَيَجِبُ سُلُوكُهُ، وَلَئِنْ مُنِعَ تَعَيُّنُهُ لِذَلِكَ بِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ دِرْهَمٌ مِنْ الدِّرْهَمَيْنِ بِمُقَابَلَةِ دِرْهَمٍ وَالدِّرْهَمُ الْآخَرُ بِمُقَابَلَةِ دِينَارٍ مِنْ الدِّينَارَيْنِ وَالدِّينَارُ بِمُقَابَلَةِ الدِّينَارِ الْآخَرِ.
قُلْنَا: هَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّا مَا أَرَدْنَا مِنْ الطَّرِيقِ إلَّا الصَّرْفَ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ.
عَلَى أَنَّ فِيمَا ذَكَرْتُمْ تَغَيُّرَاتٍ كَثِيرَةً وَمَا هُوَ أَقَلُّ تَغْيِيرًا مُتَعَيِّنٌ.
وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمَا إنَّ فِي الصَّرْفِ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ تَغْيِيرَ تَصَرُّفِهِ أَنْ يُقَالَ فِيهِ تَغْيِيرُ وَصْفِ التَّصَرُّفِ أَوْ أَصْلِهِ، وَالْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مَانِعٌ عَنْ الْجَوَازِ، وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّ مُوجِبَهُ الْأَصْلِيَّ وَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْكُلِّ بِمُقَابَلَةِ الْكُلِّ بَاقٍ عَلَى حَالِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ وَصَارَ هَذَا كَمَا إذَا بَاعَ نِصْفَ عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ يَنْصَرِفُ إلَى نَصِيبِهِ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ تَغْيِيرُ وَصْفِ التَّصَرُّفِ مِنْ الشُّيُوعِ إلَى مُعَيَّنٍ لَمَا كَانَ أَصْلُ التَّصَرُّفِ وَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي النِّصْفِ بَاقِيًا ثُمَّ أَجَابَ عَنْ الْمَسَائِلِ الْمُسْتَشْهَدِ بِهَا.
أَمَّا الْأُولَى: أَعْنِي مَسْأَلَةَ الْمُرَابَحَةِ فَبِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ تَوْلِيَةً فِي الْقَلْبِ بِصَرْفِ الرِّبْحِ كُلِّهِ إلَى الثَّوْبِ، وَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّهُ تَغْيِيرٌ فِي الْأَصْلِ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ؛ فَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلَمْ يُبَيِّنْهُ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَهُوَ مَمْنُوعٌ لِمَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ زِيَادَةِ الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ أَنَّ الِانْتِقَالَ مِنْ الزِّيَادَةِ إلَى النُّقْصَانِ تَغَيُّرُ الْعَقْدِ مِنْ وَصْفٍ مَشْرُوعٍ إلَى وَصْفٍ مَشْرُوعٍ، وَلَعَلَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّ ذَلِكَ فِي الْمُسَاوَمَةِ، أَمَّا إذَا صَرَّحَا بِذِكْرِ الْمُرَابَحَةِ فَالتَّغْيِيرُ إلَى التَّوْلِيَةِ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ لَا فِي وَصْفِهِ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَبِقَوْلِهِ وَالطَّرِيقُ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ صَرْفُ الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَلْفِ لِلْمُشْتَرِي، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي شِرَاءِ مَا بَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَلِأَنَّهُ أُضِيفَ الْبَيْعُ إلَى الْمُنْكِرِ وَالْمُنْكِرُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْبَيْعِ، وَالْمُعَيَّنُ ضِدُّهُ وَالشَّيْءُ لَا يَتَنَاوَلُ ضِدَّهُ.
وَأَمَّا فِي الْأَخِيرَةِ فَإِنَّ الْعَقْدَ قَدْ انْعَقَدَ صَحِيحًا وَفَسَدَ حَالَةَ الْبَقَاءِ بِالِافْتِرَاقِ بِلَا قَبْضٍ، وَكَلَامُنَا فِي الِابْتِدَاءِ: يَعْنِي أَنَّ الصَّرْفَ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ ابْتِدَاءً وَهُوَ فِي الِابْتِدَاءِ صَحِيحٌ. قَالَ (وَمَنْ بَاعَ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَدِينَارٍ جَازَ الْبَيْعُ وَتَكُونُ الْعَشَرَةُ بِمِثْلِهَا وَالدِّينَارُ بِدِرْهَمٍ) لِأَنَّ شَرْطَ الْبَيْعِ فِي الدَّرَاهِمِ التَّمَاثُلُ عَلَى مَا رَوَيْنَا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ ذَلِكَ فَبَقِيَ الدِّرْهَمُ بِالدِّينَارِ وَهُمَا جِنْسَانِ وَلَا يُعْتَبَرُ التَّسَاوِي فِيهِمَا.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَمَنْ بَاعَ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَدِينَارٍ إلَخْ) الْمَسْأَلَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ كَانَ الْبَدَلَانِ فِيهَا جِنْسَيْنِ مِنْ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ وَفِي هَذِهِ أَحَدُهُمَا وَهِيَ صَحِيحَةٌ كَالْأُولَى، وَتَكُونُ الْعَشَرَةُ بِمِثْلِهَا وَالدِّينَارُ بِالدِّرْهَمِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الصَّرْفِ التَّمَاثُلُ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَهُوَ مَوْجُودٌ ظَاهِرًا، إذْ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْبَائِعِ إرَادَةُ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْمُقَابَلَةِ حَمْلًا عَلَى الصَّلَاحِ، وَهُوَ الْإِقْدَامُ عَلَى الْعَقْدِ الْجَائِزِ دُونَ الْفَاسِدِ. (وَلَوْ تَبَايَعَا فِضَّةً بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبًا بِذَهَبٍ وَأَحَدُهُمَا أَقَلُّ وَمَعَ أَقَلِّهِمَا شَيْءٌ آخَرُ تَبْلُغُ قِيمَتُهُ بَاقِي الْفِضَّةِ جَازَ الْبَيْعُ مِنْ غَيْرِ كَرَاهِيَةٍ، وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ فَمَعَ الْكَرَاهَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قِيمَةٌ كَالتُّرَابِ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ) لِتَحَقُّقِ الرِّبَا إذْ الزِّيَادَةُ لَا يُقَابِلُهَا عِوَضٌ فَيَكُونُ رِبًا.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَوْ تَبَايَعَا فِضَّةً بِفِضَّةٍ إلَخْ) وَلَوْ بَاعَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَشَيْئًا مَعَهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ قِيمَةٌ أَوْ لَا، وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهُ الْفِضَّةَ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا قِيمَةَ لَهُ كَالتُّرَابِ مَثَلًا لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَمْ يُقَابِلْهَا عِوَضٌ فَتَحَقَّقَ الرِّبَا وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ تَبْلُغُ الْفِضَّةَ كَثَوْبٍ يُسَاوِي خَمْسَةً جَازَ بِلَا كَرَاهَةٍ، وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ فَهُوَ جَائِزٌ مَعَ الْكَرَاهَةِ كَكَفٍّ مِنْ زَبِيبٍ أَوْ جَوْزَةٍ أَوْ بَيْضَةٍ.
وَالْكَرَاهَةُ، إمَّا؛ لِأَنَّهُ احْتِيَالٌ لِسُقُوطِ الرِّبَا فَيَصِيرُ كَبَيْعِ الْعِينَةِ فِي أَخْذِ الزِّيَادَةِ بِالْحِيلَةِ، وَإِمَّا؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى أَنْ يَأْلَفَ النَّاسُ فَيَسْتَعْمِلُوا ذَلِكَ فِيمَا لَا يَجُوزُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَالْمَسْأَلَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْت وَلَمْ تَذْكُرْ فِيهَا الْكَرَاهَةَ.
أُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهَا؛ لِأَنَّهُ وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا إذَا كَانَ الدِّينَارُ الزَّائِدُ بِمُقَابَلَةِ الدِّرْهَمِ وَقِيمَةُ الدِّينَارِ تَبْلُغُ قِيمَةَ الدِّرْهَمِ وَلَا تَزِيدُ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الدِّينَارُ غَيْرَ الْمُصْطَلَحِ وَهُوَ مَا تَكُونُ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ.
وَالْحَقُّ أَنَّ السُّؤَالَ سَاقِطٌ؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ إنَّمَا هِيَ لِلِاحْتِيَالِ لِسُقُوطِ رِبَا الْفَضْلِ وَهُوَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ؛ لِأَنَّ فِيهَا الظَّاهِرَ مِنْ حَالِهِمَا إرَادَةُ الْمُبَادَلَةِ، بِخِلَافِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّ إرَادَةَ الْمُبَادَلَةِ بَيْنَ حَفْنَةٍ مِنْ زَبِيبٍ وَالْفِضَّةِ الزَّائِدَةِ لَيْسَتْ بِظَاهِرَةٍ قَالَ (وَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَى آخَرَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَبَاعَهُ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَشَرَةُ دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَدَفَعَ الدِّينَارَ وَتَقَاصَّا الْعَشَرَةَ بِالْعَشَرَةِ فَهُوَ جَائِزٌ) وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ إذَا بَاعَ بِعَشَرَةٍ مُطْلَقَةٍ.
وَوَجْهُهُ أَنَّهُ يَجِبُ بِهَذَا الْعَقْدِ ثَمَنٌ يَجِبُ عَلَيْهِ تَعْيِينُهُ بِالْقَبْضِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَالدَّيْنُ لَيْسَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ بِنَفْسِ الْمَبِيعِ لِعَدَمِ الْمُجَانَسَةِ، فَإِذَا تَقَاصَّا يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ فَسْخَ الْأَوَّلِ وَالْإِضَافَةَ إلَى الدَّيْنِ، إذْ لَوْلَا ذَلِكَ يَكُونُ اسْتِبْدَالًا بِبَدَلِ الصَّرْفِ، وَفِي الْإِضَافَةِ إلَى الدَّيْنِ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ، وَالْفَسْخُ قَدْ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ كَمَا إذَا تَبَايَعَا بِأَلْفٍ ثُمَّ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَزُفَرُ يُخَالِفُنَا فِيهِ لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ بِالِاقْتِضَاءِ، وَهَذَا إذَا كَانَ الدَّيْنُ سَابِقًا.
فَإِنْ كَانَ لَاحِقًا فَكَذَلِكَ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ لِتَضَمُّنِهِ انْفِسَاخَ الْأَوَّلِ وَالْإِضَافَةَ إلَى دَيْنٍ قَائِمٍ وَقْتَ تَحْوِيلِ الْعَقْدِ فَكَفَى ذَلِكَ لِلْجَوَازِ.
الشَّرْحُ:
(قَوْلُهُ: وَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَى آخَرَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إلَخْ) مَسْأَلَةٌ يَتَبَيَّنُ بِهَا بَيْعُ النَّقْدِ بِالدَّيْنِ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ سَابِقًا أَوْ مُقَارِنًا أَوْ لَاحِقًا، فَإِنْ كَانَ سَابِقًا وَقَدْ أَضَافَ إلَيْهِ الْعَقْدَ كَمَا إذَا كَانَ لَهُ عَلَى آخَرَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَبَاعَهُ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَشَرَةُ دِينَارًا بِالْعَشَرَةِ الَّذِي عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ وَسَقَطَتْ الْعَشَرَةُ عَنْ ذِمَّةِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بَدَلًا عَنْ الدِّينَارِ.
غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ هَذَا عَقْدُ صَرْفٍ وَفِي الصَّرْفِ يُشْتَرَطُ قَبْضُ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ احْتِرَازًا عَنْ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ.
وَيُشْتَرَطُ قَبْضُ الْآخَرِ احْتِرَازًا عَنْ الرِّبَا وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ بِقَبْضِ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ حَصَلَ الْأَمْنُ عَنْ خَطَرِ الْهَلَاكِ، فَلَوْ لَمْ يَقْبِضْ الْآخَرُ كَانَ فِيهِ خَطَرُ الْهَلَاكِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ فِي مَعْنَى التَّأَدِّي فَيَلْزَمُ الرِّبَا، وَهَذَا مَعْدُومٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الدِّينَارَ نَقْدٌ وَبَدَلُهُ وَهُوَ الْعَشَرَةُ سَقَطَ عَنْ بَائِعِ الدِّينَارِ حَيْثُ سَلَّمَ لَهُ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ خَطَرُ الْهَلَاكِ.
وَحَاصِلُهُ أَنَّ تَعْيِينَ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ بَعْدَ الْقَبْضِ الْآخَرِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الرِّبَا، وَلَا رِبَا فِي دَيْنٍ يَسْقُطُ وَإِنَّمَا هُوَ فِي دَيْنٍ يَقَعُ الْخَطَرُ فِي عَاقِبَتِهِ، وَإِنْ كَانَ مُقَارِنًا بِأَنْ أَطْلَقَ الْعَقْدَ وَلَمْ يُضِفْ إلَى الْعَشَرَةِ الَّتِي عَلَيْهِ وَقَعَ الدِّينَارُ، فَإِمَّا أَنْ يَتَقَابَضَا أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَمْ تَقَعْ الْمُقَاصَّةُ مَا لَمْ يَتَقَاصَّا بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ جَازَ وَوَقَعَتْ الْمُقَاصَّةُ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ يَنْفِيهِ، وَبِهِ قَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ اُسْتُبْدِلَ بِبَدَلِ الصَّرْفِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ أَخَذَ بِبَدَلِ الصَّرْفِ عَرَضًا.
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ يَجِبُ بِهَذَا الْعَقْدِ ثَمَنٌ وَاجِبُ التَّعْيِينِ بِالْقَبْضِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِ قَبْضِ الْعِوَضَيْنِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «يَدًا بِيَدٍ» وَالدَّيْنُ لَيْسَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ لِعَدَمِ الْمُجَانَسَةِ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ بَدَلَ الصَّرْفِ وَاجِبُ التَّعْيِينِ بِالْقَبْضِ وَالدَّيْنُ قَدْ سَبَقَ وُجُوبُهُ، لَكِنَّهُمَا إذَا أَقْدَمَا عَلَى الْمُقَاصَّةِ بِتَرَاضِيهِمَا لابد ثَمَّةَ مِنْ تَصْحِيحٍ وَلَا صِحَّةَ لَهَا مَعَ بَقَاءِ عَقْدِ الصَّرْفِ فَتُجْعَلُ الْمُقَاصَّةُ مُتَضَمِّنَةً لِفَسْخِ الْأَوَّلِ، وَالْإِضَافَةُ إلَى الدَّيْنِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ ضَرُورَةٌ إذْ لَوْلَا ذَلِكَ كَانَ اسْتِبْدَالًا بِبَدَلِ الصَّرْفِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ، وَعَلَى هَذَا كَانَ الْفَسْخُ ثَابِتًا بِالِاقْتِضَاءِ، وَلَهُمَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ لَهُمَا فَسْخَ أَصْلِ الْعَقْدِ فَكَانَ لَهُمَا تَغْيِيرُ وَصْفِ الْعَقْدِ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهِ بِالطَّرِيقِ الْأُولَى، وَهُوَ نَظِيرُ مَا إذَا تَبَايَعَا بِأَلْفٍ ثُمَّ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ.
وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ أَنَّ عَدَمَ الْمُجَانَسَةِ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ لَوْ مَنَعَ الْمُقَاصَّةَ لَمَا وَقَعَتْ إذَا أُضِيفَ الْعَقْدُ إلَى الدَّيْنِ السَّابِقِ.
الثَّانِي أَنَّ الثَّابِتَ بِالِاقْتِضَاءِ يَجِبُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْطُلُ بِهِ الْمُقْتَضِي، وَإِذَا ثَبَتَ الْفَسْخُ الْمُقْتَضِي بَطَلَ الْمُقْتَضَى وَهُوَ الْمُقَاصَّةُ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي قِيَامَ الْعَشَرَةِ الثَّابِتَةِ بِالْعَقْدِ وَقَدْ فَاتَ الْفَسْخُ.
الثَّالِثُ أَنَّ الْعَقْدَ لَوْ فُسِخَ لِلْمُقَاصَّةِ وَجَبَ قَبْضُ الدِّينَارِ عَلَى الْبَائِعِ بِحُكْمِ الْإِقَالَةِ؛ لِأَنَّ لِإِقَالَةِ الصَّرْفِ حُكْمَ الصَّرْفِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ (وَفِي الْإِضَافَةِ إلَى الدَّيْنِ) يَعْنِي الْمَعْهُودَ (تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ) وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْمُقَاصَّةَ تَقْتَضِي قِيَامَ الْعَقْدِ وَهُوَ مَوْجُودٌ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا أَبْطَلَا عَقْدَ الصَّرْفِ صَارَا كَأَنَّهُمَا عَقَدَا عَقْدًا جَدِيدًا فَتَصِحُّ الْمُقَاصَّةُ بِهِ.
وَعَنْ الثَّالِثِ بِأَنَّ الْإِقَالَةَ ضِمْنِيَّةٌ تَثْبُتُ فِي ضِمْنِ الْمُقَاصَّةِ فَجَازَ أَنْ لَا يَثْبُتَ لِمِثْلِ هَذِهِ الْإِقَالَةِ حُكْمُ الْبَيْعِ، وَزُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ بِالِاقْتِضَاءِ لَمْ يُوَافِقْهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ فَتَعَيَّنَ لَهُ وَجْهُ الْقِيَاسِ، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ تَرَكَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ الِاسْتِدْلَالَ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إنِّي أَكْرِي إبِلًا بِالْبَقِيعِ إلَى مَكَّةَ بِالدَّرَاهِمِ فَآخُذُ مَكَانَهَا دَنَانِيرَ، أَوْ قَالَ بِالْعَكْسِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ إذَا افْتَرَقْتُمَا وَلَيْسَ بَيْنَكُمَا عَمَلٌ» فَالْجَوَابُ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْمُقَاصَّةِ، وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمَا كَانَا يُضِيفَانِ الْعَقْدَ إلَى الدَّيْنِ الْأَوَّلِ أَوْ إلَى مُطْلَقِهِ فَلَمْ يَكُنْ قَاطِعًا حَتَّى يَلْتَزِمَهُ زُفَرُ وَإِنْ كَانَ لَاحِقًا بِأَنْ اشْتَرَى دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَقَبَضَ الدِّينَارَ ثُمَّ إنَّ مُشْتَرِيَ الدِّينَارِ بَاعَ ثَوْبًا مِنْ بَائِعِ الدِّينَارِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَتَقَاصَّا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ.
فِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَهِيَ الَّتِي اخْتَارَهَا فَخْرُ الْإِسْلَامِ، وَقَالَ الْمُصَنِّفُ: فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ وَاخْتَارَهَا شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَقَاضِي خَانْ: لَا تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَاحِقٌ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَوَّزَ الْمُقَاصَّةَ فِي دَيْنٍ سَابِقٍ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَوَجْهُ الْأَصَحِّ أَنَّ قَصْدَهُمَا الْمُقَاصَّةَ يَتَضَمَّنُ الِانْفِسَاخَ الْأَوَّلَ وَالْإِضَافَةُ إلَى دَيْنٍ قَائِمٍ وَقْتَ تَحْوِيلِ الْعَقْدِ فَيَكُونُ الدَّيْنُ حِينَئِذٍ سَابِقًا عَلَى الْمُقَاصَّةِ هَذَا هُوَ الْمَوْعُودُ مِنْ الْجَوَابِ عَنْ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ وَهُوَ لَيْسَ بِدَافِعٍ كَمَا تَرَى إلَّا إذَا أُضِيفَ أَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي أَنْ لَا تَقَعَ الْمُقَاصَّةُ بَيْنَ الدَّيْنِ وَالْعَيْنِ أَصْلًا لِعَدَمِ الْمُجَانَسَةِ، إلَّا أَنَّهُ اُسْتُحْسِنَ ذَلِكَ بِالْأَثَرِ، وَيُقَوِّي هَذَا الْوَجْهَ أَنَّ الدَّيْنَ لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَالْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ مِنْهُ سَوَاءٌ، وَقَدْ وَقَعَتْ الْمُقَاصَّةُ إذَا أُضِيفَ إلَى الدَّيْنِ السَّابِقِ بِالِاتِّفَاقِ فَكَذَا بِاللَّاحِقِ بَعْدَ فَسْخِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ، وَإِلَّا لَكَانَ الدَّيْنُ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وَذَلِكَ خُلْفٌ؛ أَوْ يُقَالُ الْمُرَادُ بِعَدَمِ الْمُجَانَسَةِ عَدَمُ كَوْنِهِمَا مُوجِبَيْ عَقْدٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا أُضِيفَ إلَى الدَّيْنِ السَّابِقِ تَجَانَسَا، وَإِذَا أُضِيفَ إلَى دَيْنٍ مُقَارِنٍ عَدَمُ الْمُجَانَسَةِ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ السَّابِقِ وَإِنَّمَا الْمُجَانَسَةُ حِينَئِذٍ بَيْنَهُمَا، وَبَيْنَ الدَّيْنِ الْمُقَارِنِ وَهَذَا أَوْضَحُ. قَالَ (وَيَجُوزُ بَيْعُ دِرْهَمٍ صَحِيحٍ وَدِرْهَمَيْ غَلَّةٍ بِدِرْهَمَيْنِ صَحِيحَيْنِ وَدِرْهَمِ غَلَّةٍ) وَالْغَلَّةُ مَا يَرُدُّهُ بَيْتُ الْمَالِ وَيَأْخُذُهُ التُّجَّارُ.
وَوَجْهُهُ تَحَقُّقُ الْمُسَاوَاةِ فِي الْوَزْنِ وَمَا عُرِفَ مِنْ سُقُوطِ اعْتِبَارِ الْجَوْدَةِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَيَجُوزُ بَيْعُ دِرْهَمٍ صَحِيحٍ وَدِرْهَمَيْ غَلَّةٍ إلَخْ) الْغَلَّةُ مِنْ الدَّرَاهِمِ هِيَ الْمُقَطَّعَةُ الَّتِي فِي الْقِطْعَةِ مِنْهَا قِيرَاطٌ أَوْ طُسُوجٌ أَوْ خَبَّةٌ فَيَرُدُّهَا بَيْتَ الْمَالِ لَا لِزِيَافَتِهَا بَلْ لِكَوْنِهَا قِطَعًا وَيَأْخُذُهَا التُّجَّارُ وَبَيْعُ دِرْهَمٍ صَحِيحٍ وَدِرْهَمَيْ غَلَّةٍ بِدِرْهَمَيْنِ صَحِيحَيْنِ وَدِرْهَمِ غَلَّةٍ جَائِزٌ لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِصُدُورِهِ عَنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ مَعَ وُجُودِ شَرْطِهِ وَهُوَ الْمُسَاوَاةُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْمَانِعَ أَنْ تُصَوَّرَ هَاهُنَا فِي الْجَوْدَةِ وَهِيَ سَاقِطَةُ الْعِبْرَةِ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِالْجِنْسِ. قَالَ (وَإِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى الدَّرَاهِمِ الْفِضَّةَ فَهِيَ فِضَّةٌ، وَإِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى الدَّنَانِيرِ الذَّهَبَ فَهِيَ ذَهَبٌ، وَيُعْتَبَرُ فِيهِمَا مِنْ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ مَا يُعْتَبَرُ فِي الْجِيَادِ حَتَّى لَا يَجُوزَ بَيْعُ الْخَالِصَةِ بِهَا وَلَا بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ إلَّا مُتَسَاوِيًا فِي الْوَزْنِ.
وَكَذَا لَا يَجُوزُ الِاسْتِقْرَاضُ بِهَا إلَّا وَزْنًا) لِأَنَّ النُّقُودَ لَا تَخْلُو عَنْ قَلِيلِ غِشٍّ عَادَةً لِأَنَّهَا لَا تَنْطَبِعُ إلَّا مَعَ الْغِشِّ، وَقَدْ يَكُونُ الْغِشُّ خِلْقِيًّا كَمَا فِي الرَّدِيءِ مِنْهُ فَيُلْحَقُ الْقَلِيلُ بِالرَّدَاءَةِ، وَالْجَيِّدُ وَالرَّدِيءُ سَوَاءٌ (وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِمَا الْغِشَّ فَلَيْسَا فِي حُكْمِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ) اعْتِبَارًا لِلْغَالِبِ، فَإِنْ اشْتَرَى بِهَا فِضَّةً خَالِصَةً فَهُوَ عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي حِلْيَةِ السَّيْفِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَى الدَّرَاهِمِ الْفِضَّةَ فَهِيَ دَرَاهِمُ إلَخْ) الْأَصْلُ أَنَّ النُّقُودَ لَا تَخْلُو عَنْ قَلِيلِ غِشٍّ خِلْقَةً أَوْ عَادَةً؛ فَالْأَوَّلُ كَمَا فِي الرَّدِيءِ، وَالثَّانِي مَا يُخْلَطُ لِلِانْطِبَاعِ فَإِنَّهَا بِدُونِهِ تَتَفَتَّتُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يُعْتَبَرُ الْغَالِبُ؛ لِأَنَّهُ الْمَغْلُوبُ فِي مُقَابَلَةِ الْغَالِبِ كَالْمُسْتَهْلَكِ، فَإِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْفِضَّةَ وَالذَّهَبَ كَانَا فِي حُكْمِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ يُعْتَبَرُ فِيهِمَا مِنْ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ مَا يُعْتَبَرُ فِي الْجِيَادِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْخَالِصِ بِهَا وَلَا بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ وَلَا الِاسْتِقْرَاضُ بِهَا إلَّا مُتَسَاوِيًا فِي الْوَزْنِ (وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِمَا الْغِشَّ فَلَيْسَا فِي حُكْمِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ) فَإِنْ اشْتَرَى بِهَا إنْسَانٌ فِضَّةً خَالِصَةً، فَإِنْ كَانَتْ الْفِضَّةُ الْخَالِصَةُ مِثْلَ تِلْكَ الْفِضَّةِ الَّتِي فِي الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ لَا يُدْرَى فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ صَحَّ وَهِيَ الْوُجُوهُ الْمَذْكُورَةُ فِي حِلْيَةِ السَّيْفِ. (وَإِنْ بِيعَتْ بِجِنْسِهَا مُتَفَاضِلًا جَازَ صَرْفًا لِلْجِنْسِ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ) فَهِيَ فِي حُكْمِ شَيْئَيْنِ فِضَّةٍ وَصُفْرٍ وَلَكِنَّهُ صُرِفَ حَتَّى يُشْتَرَطَ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ لِوُجُودِ الْفِضَّةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، فَإِذَا شُرِطَ الْقَبْضُ فِي الْفِضَّةِ يُشْتَرَطُ فِي الصُّفْرِ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ عَنْهُ إلَّا بِضَرَرٍ.
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَمَشَايِخُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ لَمْ يُفْتُوا بِجَوَازِ ذَلِكَ فِي الْعَدَالَى وَالْغَطَارِفَةِ لِأَنَّهَا أَعَزُّ الْأَمْوَالِ فِي دِيَارِنَا، فَلَوْ أُبِيحَ التَّفَاضُلُ فِيهِ يَنْفَتِحُ بَابُ الرِّبَا، ثُمَّ إنْ كَانَتْ تَرُوجُ بِالْوَزْنِ فَالتَّبَايُعُ وَالِاسْتِقْرَاضُ فِيهَا بِالْوَزْنِ، وَإِنْ كَانَتْ تَرُوجُ بِالْعَدِّ فَبِالْعَدِّ، وَإِنْ كَانَتْ تَرُوجُ بِهِمَا فَبِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْمُعْتَادُ فِيهِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِمَا نَصٌّ، ثُمَّ هِيَ مَا دَامَتْ تَرُوجُ تَكُونُ أَثْمَانًا لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَإِذَا كَانَتْ لَا تَرُوجُ فَهِيَ سِلْعَةٌ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَإِذَا كَانَتْ يَتَقَبَّلُهَا الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ فَهِيَ كَالزُّيُوفِ لَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِعَيْنِهَا بَلْ بِجِنْسِهَا زُيُوفًا إنْ كَانَ الْبَائِعُ يَعْلَمُ بِحَالِهَا لِتَحَقُّقِ الرِّضَا مِنْهُ، وَبِجِنْسِهَا مِنْ الْجِيَادِ إنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ لِعَدَمِ الرِّضَا مِنْهُ.
الشَّرْحُ:
(وَإِنْ بِيعَتْ بِجِنْسِهَا مُتَفَاضِلًا جَازَ صَرْفًا لِلْجِنْسِ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ وَهِيَ فِي حُكْمِ فِضَّةٍ وَصُفْرٍ) (قَوْلُهُ: وَلَكِنَّهُ صَرْفٌ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إذَا صُرِفَ الْجِنْسُ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ فَلَا يَكُونُ صَرْفًا فَلَا يَبْقَى التَّقَابُضُ شَرْطًا.
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ صَرْفَ الْجِنْسِ إلَى خِلَافِ جِنْسِهِ ضَرُورَةَ صِحَّةِ الْعَقْدِ، وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ لَا يَتَعَدَّى فَبَقِيَ الْعَقْدُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ صَرْفًا (وَاشْتِرَاطُ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ لِوُجُودِ الْفِضَّةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ.
وَإِذَا شَرَطَ الْقَبْضَ فِي الْفِضَّةِ يُشْتَرَطُ فِي الصُّفْرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ عَنْهُ إلَّا بِضَرَرٍ) وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ الِاسْتِهْلَاكَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ عَدَمِ التَّمْيِيزِ قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ (وَمَشَايِخُنَا) يُرِيدُ بِهِ عُلَمَاءَ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ (لَمْ يُفْتُوا بِجَوَازِ ذَلِكَ) يَعْنِي التَّفَاضُلَ (فِي الْعَدَالَى وَالْغَطَارِفَةِ) أَيْ الدَّرَاهِمِ الْغِطْرِيفِيَّةِ وَهِيَ الْمَنْسُوبَةُ إلَى غِطْرِيفِ بْنِ عَطَاءِ الْكَنَدِيِّ أَمِيرِ خُرَاسَانَ أَيَّامَ الرَّشِيدِ، وَقِيلَ هُوَ خَالُ هَارُونَ الرَّشِيدِ (لِأَنَّهَا أَعَزُّ الْأَمْوَالِ فِي دِيَارِنَا، فَلَوْ أُبِيحَ التَّفَاضُلُ فِيهِ) أَيْ لَوْ أُفْتِيَ بِإِبَاحَتِهِ (تَدَرَّجُوا إلَى الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ بِالْقِيَاسِ) ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ فِي الْمُعَامَلَاتِ بِهَا الْمُعْتَادُ (فَإِنْ كَانَتْ تَرُوجُ بِالْوَزْنِ كَانَ التَّبَابِعُ وَالِاسْتِقْرَاضُ فِيهَا بِالْوَزْنِ، وَإِنْ كَانَتْ تَرُوجُ بِالْعَدِّ فَهُمَا فِيهَا بِالْعَدِّ، وَإِنْ كَانَتْ تَرُوجُ بِهِمَا فَبِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مَنْصُوصًا عَلَيْهَا، ثُمَّ هِيَ مَا دَامَتْ تَرُوجُ تَكُونُ أَثْمَانًا لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ) فَإِنْ هَلَكَتْ قَبْلَ التَّسْلِيمِ لَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا وَيَجِبُ عَلَيْهِ مِثْلُهُ (وَإِذَا كَانَتْ لَا تَرُوجُ فَهِيَ سِلْعَةٌ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعَيُّنِ) كَالرَّصَاصِ وَالسَّتُّوقَةِ وَيَبْطُلُ الْعَقْدُ بِهَلَاكِهَا قَبْلَ التَّسْلِيمِ إذَا عَلِمَ الْمُتَعَاقِدَانِ حَالَ الدَّرَاهِمِ وَيَعْلَمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ صَاحِبَهُ يَعْلَمُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمَا أَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَحَدُهُمَا أَوْ عَلِمَا وَلَكِنْ لَمْ يَعْلَمْ كُلٌّ مِنْهُمَا أَنَّ صَاحِبَهُ يَعْلَمُ فَإِنَّ الْبَيْعَ يَتَعَلَّقُ بِالدَّرَاهِمِ الرَّائِجَةِ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ الَّذِي عَلَيْهَا مُعَامَلَاتُ النَّاسِ دُونَ الْمُشَارِ إلَيْهِ (وَإِنْ كَانَتْ يَقْبَلُهَا الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ فَهِيَ كَالزُّيُوفِ لَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِعَيْنِهَا بَلْ بِجِنْسِهَا زُيُوفًا) إنْ عَلِمَ الْبَائِعُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِجِنْسِ الزُّيُوفِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ تَعَلَّقَ الْعَقْدُ بِجِنْسِهَا مِنْ الْجِيَادِ لِعَدَمِ الرِّضَا مِنْهُ بِالزُّيُوفِ. (وَإِذَا اشْتَرَى بِهَا سِلْعَةً فَكَسَدَتْ وَتَرَكَ النَّاسُ الْمُعَامَلَةَ بِهَا بَطَلَ الْبَيْعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: عَلَيْهِ قِيمَتُهَا يَوْمَ الْبَيْعِ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: قِيمَتُهَا آخِرُ مَا تَعَامَلَ النَّاسُ بِهَا) لَهُمَا أَنَّ الْعَقْدَ قَدْ صَحَّ إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ التَّسْلِيمُ بِالْكَسَادِ وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْفَسَادَ، كَمَا إذَا اشْتَرَى بِالرُّطَبِ فَانْقَطَعَ أَوَانُهُ.
وَإِذَا بَقِيَ الْعَقْدُ وَجَبَتْ الْقِيمَةُ، لَكِنْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقْتَ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ بِهِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الِانْقِطَاعِ لِأَنَّهُ أَوَانُ الِانْتِقَالِ إلَى الْقِيمَةِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الثَّمَنَ يَهْلَكُ بِالْكَسَادِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنِيَّةَ بِالِاصْطِلَاحِ وَمَا بَقِيَ فَيَبْقَى بَيْعًا بِلَا ثَمَنٍ فَيَبْطُلُ، وَإِذَا بَطَلَ الْبَيْعُ يَجِبُ رَدُّ الْمَبِيعِ إنْ كَانَ قَائِمًا وَقِيمَتُهُ إنْ كَانَ هَالِكًا كَمَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ.
الشَّرْحُ:
(وَإِذَا اشْتَرَى بِهَا سِلْعَةً ثُمَّ كَسَدَتْ قَبْلَ النَّقْدِ فَتَرَكَ النَّاسُ الْمُعَامَلَةَ بِهَا بَطَلَ الْعَقْدُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَمْ يَبْطُلْ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا، لَكِنْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْبَيْعِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ آخِرُ مَا تَعَامَلَ النَّاسُ بِهَا) وَالْمُصَنِّفُ فَسَّرَ الْكَسَادَ بِتَرْكِ النَّاسِ الْمُعَامَلَةَ بِهَا، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ فِي كُلِّ الْبِلَادِ أَوْ فِي الْبَلَدِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْعَقْدُ.
وَنَقَلَ عَنْ عُيُونِ الْمَسَائِلِ أَنَّ عَدَمَ الرَّوَاجِ إنَّمَا يُوجِبُ فَسَادَ الْبَيْعِ إذَا كَانَ لَا يَرُوجُ فِي جَمِيعِ الْبُلْدَانِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَصِيرُ هَالِكًا وَيَبْقَى الْبَيْعُ بِلَا ثَمَنٍ، وَأَمَّا إذَا كَانَ لَا يَرُوجُ فِي هَذِهِ الْبَلْدَةِ وَيَرُوجُ فِي غَيْرِهَا لَا يَفْسُدُ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَهْلِكْ لَكِنَّهُ تَعَيَّبَ، فَكَانَ لِلْبَائِعِ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ قَالَ أَعْطِ مِثْلَ النَّقْدِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْبَيْعُ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ قِيمَةَ ذَلِكَ دَنَانِيرَ.
قَالُوا: وَمَا ذُكِرَ فِي الْعُيُونِ يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَلَا يَسْتَقِيمُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُكْتَفَى بِالْكَسَادِ فِي تِلْكَ الْبَلْدَةِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي بَيْعِ الْفَلْسِ بِالْفَلْسَيْنِ.
عِنْدَهُمَا يَجُوزُ اعْتِبَارًا لِاصْطِلَاحِ بَعْضِ النَّاسِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ اعْتِبَارًا لِاصْطِلَاحِ الْكُلِّ، فَالْكَسَادُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ أَيْضًا (لَهُمَا أَنَّ الْعَقْدَ قَدْ صَحَّ) لِوُجُودِ رُكْنِهِ فِي مَحَلِّهِ مِنْ غَيْرِ مَانِعٍ شَرْعِيٍّ (إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ التَّسْلِيمُ بِالْكَسَادِ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الْفَسَادَ كَمَا إذَا اشْتَرَى بِالرَّطْبِ فَانْقَطَعَ، وَإِذَا بَقِيَ الْعَقْدُ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: وَجَبَ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْبَيْعِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: قِيمَتُهُ يَوْمَ الِانْقِطَاعِ: أَيْ الْكَسَادِ؛ لِأَنَّهُ انْتَقَلَ الْحَقُّ مِنْهُ إلَى الْقِيمَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الثَّمَنَ يَهْلِكُ بِالْكَسَادِ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ الَّتِي غَلَبَ غِشُّهَا إنَّمَا جُعِلَتْ ثَمَنًا بِالِاصْطِلَاحِ، فَإِذَا تَرَكَ النَّاسُ الْمُعَامَلَةَ بِهَا بَطَلَ، وَإِذَا بَطَلَ الثَّمَنِيَّةُ بَقِيَ بَيْعًا بِلَا ثَمَنٍ وَهُوَ بَاطِلٌ) لَا يُقَالُ: الْعَقْدُ تَنَاوَلَ عَيْنَهَا وَهُوَ بَاقٍ بَعْدَ الْكَسَادِ وَهُوَ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّ الْعَقْدَ تَنَاوَلَهَا بِصِفَةِ الثَّمَنِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا مَا دَامَتْ رَائِجَةً فَهِيَ تَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، وَبِالْكَسَادِ يَنْعَدِمُ مِنْهَا صِفَةُ الثَّمَنِيَّةِ، وَصِفَةُ الثَّمَنِيَّةِ فِي الْفُلُوسِ وَالدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ الَّتِي غَلَبَ غِشُّهَا كَصِفَةِ الْمَالِيَّةِ فِي الْأَعْيَانِ؛ وَلَوْ انْعَدَمَتْ الْمَالِيَّةُ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بِتَخَمُّرِ الْعَصِيرِ فَسَدَ الْبَيْعُ فَكَذَا هَذَا.
وَالْجَوَابُ عَنْ الرُّطَبِ أَنَّ الرُّطَبَ مَرْجُوُّ الْحُصُولِ فِي الْعَامِ الثَّانِي غَالِبًا فَلَمْ يَكُنْ هَالِكًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَمْ يَبْطُلْ، لَكِنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالصَّبْرِ إلَى أَنْ يَحْصُلَ.
أَمَّا الْكَسَادُ فِي الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ الَّتِي غَلَبَ عَلَيْهَا غِشُّهَا فَهَلَاكُ الثَّمَنِيَّةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُرْجَى الْوُصُولُ إلَى ثَمَنِيَّتِهَا فِي ثَانِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ الْكَسَادَ أَصْلِيٌّ وَالشَّيْءُ إذَا رَجَعَ إلَى أَصْلِهِ قَلَّمَا يَنْتَقِلُ عَنْهُ، وَإِذَا بَطَلَ الْبَيْعُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَبِيعُ مَقْبُوضًا فَلَا حُكْمَ لِهَذَا الْبَيْعِ أَصْلًا، وَإِنْ كَانَ مَقْبُوضًا فَإِنْ كَانَ قَائِمًا وَجَبَ رَدُّهُ بِعَيْنِهِ، وَإِنْ كَانَ هَالِكًا أَوْ مُسْتَهْلَكًا، فَإِنْ كَانَ مِثْلِيًّا وَجَبَ رَدُّ مِثْلِهِ، وَإِنْ كَانَ قِيَمِيًّا وَجَبَ رَدُّ قِيمَتِهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، هَذَا حُكْمُ الْكَسَادِ وَحُكْمُ الِانْقِطَاعِ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ كَذَلِكَ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَوْمَ الِانْقِطَاعِ وَإِنْ كَانَ صَدَّرَ الْبَحْثَ بِالْكَسَادِ.
وَأَمَّا إذَا غَلَبَتْ بِازْدِيَادِ الْقِيمَةِ أَوْ نَقَصَتْ الْقِيمَةُ بِالرُّخْصِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِذَلِكَ فَالْبَيْعُ عَلَى حَالِهِ وَيُطَالِبُهُ بِالدَّرَاهِمِ بِذَلِكَ الْعِيَارِ الَّذِي كَانَ وَقْتَ الْبَيْعِ. قَالَ (وَيَجُوزُ الْبَيْعُ بِالْفُلُوسِ) لِأَنَّهَا مَالٌ مَعْلُومٌ، فَإِنْ كَانَتْ نَافِقَةً جَازَ الْبَيْعُ بِهَا وَإِنْ لَمْ تَتَعَيَّنْ لِأَنَّهَا أَثْمَانٌ بِالِاصْطِلَاحِ، وَإِنْ كَانَتْ كَاسِدَةً لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ بِهَا حَتَّى يُعَيِّنَهَا لِأَنَّهَا سِلَعٌ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِهَا (وَإِذَا بَاعَ بِالْفُلُوسِ النَّافِقَةِ ثُمَّ كَسَدَتْ بَطَلَ الْبَيْعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ خِلَافًا لَهُمَا) وَهُوَ نَظِيرُ الِاخْتِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَيَجُوزُ الْبَيْعُ بِالْفُلُوسِ إلَخْ) الْبَيْعُ بِالْفُلُوسِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مَعْلُومٌ: أَيْ مَعْلُومٌ قَدْرُهُ وَوَصْفُهُ، وَإِنَّمَا قَالَ كَذَلِكَ إشَارَةً إلَى وُجُوبِ بَيَانِ الْمِقْدَارِ وَالْوَصْفِ أَوْ الْإِشَارَةِ إلَيْهِ، ثُمَّ إنَّهَا إمَّا أَنْ تَكُونَ نَافِقَةً أَوْ كَاسِدَةً حَالَةَ الْعَقْدِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ جَازَ الْبَيْعُ وَإِنْ لَمْ تُعَيَّنْ؛ لِأَنَّهَا أَثْمَانٌ بِالِاصْطِلَاحِ، فَالْمُشْتَرِي بِهَا لَا يُجْبَرُ عَلَى دَفْعِ مَا عَيَّنَ بَلْ هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ دَفْعِ ذَلِكَ وَدَفْعِ مِثْلِهِ وَإِنْ هَلَكَ ذَلِكَ لَمْ يَنْفَسِخْ الْعَقْدُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلَا بُدَّ لِجَوَازِ الْبَيْعِ بِهَا مِنْ التَّعْيِينِ؛ لِأَنَّهَا سِلَعٌ.
وَإِذَا بَاعَ بِالْفُلُوسِ النَّافِقَةِ ثُمَّ كَسَدَتْ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي كَسَادِ الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ قَبْلَ نَقْدِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بَطَلَ الْبَيْعُ خِلَافًا لَهُمَا.
قَالَ الشَّارِحُونَ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ مِنْ الِاخْتِلَافِ مُخَالِفًا لِمَا فِي الْمَبْسُوطِ وَالْأَسْرَارِ وَشَرْحِ الطَّحَاوِيِّ حَيْثُ ذَكَرَ بُطْلَانَ الْبَيْعِ عِنْدَ كَسَادِ الْفُلُوسِ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ.
وَذَكَرُوا نَقْلَ الْكُتُبِ الْمَذْكُورَةِ وَلَيْسَ فِيهِ سِوَى السُّكُوتِ عَنْ بَيَانِ الِاخْتِلَافِ إلَّا مَا نُقِلَ عَنْ الْأَسْرَارِ وَهُوَ مَا قِيلَ فِيهِ: إذَا اشْتَرَى شَيْئًا بِفُلُوسٍ فِي الذِّمَّةِ فَكَسَدَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الشِّرَاءُ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ لَا يَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ تَحْتَ الْكَسَادِ إلَّا الْعَجْزُ عَنْ تَسْلِيمِهِ، وَالْعَقْدُ لَا يَبْطُلُ بِالْعَجْزِ عَنْ تَسْلِيمِ الْبَدَلِ كَمَا لَوْ أَبَقَ الْعَبْدُ وَكَمَا لَوْ أَسْلَمَ فِي الرُّطَبِ فَانْقَطَعَ أَوَانُهُ، وَهَذَا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ عِنْدَنَا وَإِنْ دَلَّ عَلَى الِاتِّفَاقِ، لَكِنَّ الدَّلِيلَ الْمَذْكُورَ لِزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَمْنَعُهُ؛ لِأَنَّ دَلِيلَهُمَا فِي كَسَادِ الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ حَيْثُ قَالَا: الْكَسَادُ لَا يُوجِبُ الْفَسَادَ فَجَعْلُهُ مُفْسِدًا هَاهُنَا يُفْضِي إلَى التَّحَكُّمِ إلَّا إذَا ظَهَرَ مَعْنًى فِقْهِيٌّ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَلَمْ أَظْفَرْ بِذَلِكَ. (وَلَوْ اسْتَقْرَضَ فُلُوسًا نَافِقَةً فَكَسَدَتْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مِثْلُهَا) لِأَنَّهُ إعَارَةٌ، وَمُوجِبُهُ رَدُّ الْعَيْنِ مَعْنًى وَالثَّمَنِيَّةِ فَضْلٌ فِيهِ إذْ الْقَرْضُ لَا يَخْتَصُّ بِهِ.
وَعِنْدَهُمَا تَجِبُ قِيمَتُهَا لِأَنَّهُ لَمَّا بَطَلَ وَصْفُ الثَّمَنِيَّةِ تَعَذَّرَ رَدُّهَا كَمَا قُبِضَ فَيَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهَا، كَمَا إذَا اسْتَقْرَضَ مِثْلِيًّا فَانْقَطَعَ، لَكِنْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقَبْضِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْكَسَادِ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ، وَأَصْلُ الِاخْتِلَافِ فِيمَنْ غَصَبَ مِثْلِيًّا فَانْقَطَعَ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْظَرُ لِلْجَانِبَيْنِ، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَيْسَرُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَوْ اسْتَقْرَضَ فُلُوسًا فَكَسَدَتْ إذَا اسْتَقْرَضَ فُلُوسًا فَكَسَدَتْ يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ مِثْلِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ (لِأَنَّهُ) أَيْ اسْتِقْرَاضَ الْمِثْلِيِّ (إعَارَةٌ) كَمَا أَنَّ إعَارَتَهُ قَرْضٌ (وَمُوجِبُ اسْتِقْرَاضِ الْمِثْلِيِّ رَدُّ عَيْنِهِ مَعْنًى) وَبِالنَّظَرِ إلَى كَوْنِهِ عَارِيَّةً يَجِبُ رَدُّ عَيْنِهِ حَقِيقَةً، لَكِنْ لَمَّا كَانَ قَرْضًا وَالِانْتِفَاعُ بِهِ إنَّمَا يَكُونُ بِإِتْلَافِ عَيْنِهِ فَاتَ رَدُّ عَيْنِهِ حَقِيقَةً فَيَجِبُ رَدُّ عَيْنِهِ مَعْنًى وَهُوَ الْمِثْلُ وَيُجْعَلُ بِمَعْنَى الْعَيْنِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُجْعَلْ كَذَلِكَ لَزِمَ مُبَادَلَةُ الشَّيْءِ بِجِنْسِهِ نَسِيئَةً وَهُوَ لَا يَجُوزُ فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ الْمِثْلِيُّ بِمَعْنَى الْعَيْنِ وَقَدْ فَاتَ وَصْفُ الثَّمَنِيَّةِ وَإِنَّمَا كَانَ بِمَعْنَى الْعَيْنِ أَنْ لَوْ رُدَّ مِثْلُهُ حَالَ كَوْنِهِ نَافِقًا أَجَابَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ (بِأَنَّ الثَّمَنِيَّةَ فَضْلٌ) فِيهِ أَيْ فِي الْقَرْضِ إذْ الْقَرْضُ لَا يُخْبَصُ بِهِ: أَيْ بِمَعْنَى الثَّمَنِيَّةِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الثَّمَنِيَّةَ لَيْسَتْ عَيْنَ الْفَرْضِ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَلَا لَازِمًا مِنْ لَوَازِمِهِ فَجَازَ أَنْ يَنْفَكَّ الْقَرْضُ عَنْ الثَّمَنِيَّةِ وَيُجْعَلَ الِاسْتِقْرَاضُ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الِاسْتِقْرَاضَ جَائِزٌ فِي كُلِّ مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ أَوْ عَدَدِيٍّ مُتَقَارِبٍ وَبِالْكَسَادِ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهِ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ دُخُولَهَا فِي الْعَقْدِ فِيهِ بِصِفَةِ الثَّمَنِيَّةِ وَقَدْ فَاتَ ذَلِكَ بِالْكَسَادِ.
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْمِثْلَ الْمُجَرَّدَ عَنْ الثَّمَنِيَّةِ أَقْرَبُ إلَى الْعَيْنِ مِنْ الْقِيمَةِ فَلَا يُصَارُ إلَيْهَا مَا دَامَ مُمْكِنًا (وَعِنْدَهُمَا تَجِبُ قِيمَتُهَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا بَطَلَ وَصْفُ الثَّمَنِيَّةِ تَعَذَّرَ رَدُّهَا كَمَا قَبَضَ) وَلَيْسَ الْمِثْلُ الْمُجَرَّدُ عَنْهَا فِي مَعْنَاهَا (فَيَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهَا كَمَا إذَا اسْتَقْرَضَ مِثْلِيًّا فَانْقَطَعَ، لَكِنْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَوْمَ الْقَبْضِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَوْمَ الْكَسَادِ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ، وَأَصْلُ الِاخْتِلَافِ) يَعْنِي بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ (فِيمَنْ غَصَبَ مِثْلِيًّا فَانْقَطَعَ) فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَجِبُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْغَصْبِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الِانْقِطَاعِ وَسَيَجِيءُ (وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْظَرُ) لِلْمُقْرِضِ وَلِلْمُسْتَقْرِضِ؛ لِأَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجِبُ رَدُّ الْمِثْلِ وَهُوَ كَاسِدٌ وَفِيهِ ضَرَرٌ بِالْمُقْرِضِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ تَجِبُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْقَبْضِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ قِيمَةَ يَوْمِ الْقَبْضِ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَةِ يَوْمِ الِانْقِطَاعِ وَهُوَ ضَرَرٌ بِالْمُسْتَقْرِضِ فَكَانَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَنْظَرَ لِلْجَانِبَيْنِ (وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَيْسَرُ)؛ لِأَنَّ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْقَبْضِ مَعْلُومَةٌ لِلْمُقْرِضِ وَالْمُسْتَقْرِضِ وَسَائِرِ النَّاسِ، وَقِيمَةُ يَوْمِ الِانْقِطَاعِ تَشْتَبِهُ عَلَى النَّاسِ وَيَخْتَلِفُونَ فِيهَا فَكَانَ قَوْلُهُ أَيْسَرَ. قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا بِنِصْفِ دِرْهَمِ فُلُوسٍ جَازَ وَعَلَيْهِ مَا يُبَاعُ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ مِنْ الْفُلُوسِ) وَكَذَا إذَا قَالَ بِدَانِقِ فُلُوسٍ أَوْ بِقِيرَاطِ فُلُوسٍ جَازَ.
وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ اشْتَرَى بِالْفُلُوسِ وَأَنَّهَا تُقَدَّرُ بِالْعَدَدِ لَا بِالدَّانِقِ وَالدِّرْهَمِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ عَدَدِهَا، وَنَحْنُ نَقُولُ: مَا يُبَاعُ بِالدَّانِقِ وَنِصْفُ الدِّرْهَمِ مِنْ الْفُلُوسِ مَعْلُومٌ عِنْدَ النَّاسِ وَالْكَلَامُ فِيهِ فَأَغْنَى عَنْ بَيَانِ الْعَدَدِ.
وَلَوْ قَالَ بِدِرْهَمِ فُلُوسٍ أَوْ بِدِرْهَمَيْ فُلُوسٍ فَكَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ مَا يُبَاعُ بِالدِّرْهَمِ مِنْ الْفُلُوسِ مَعْلُومٌ وَهُوَ الْمُرَادُ لَا وَزْنُ الدِّرْهَمِ مِنْ الْفُلُوسِ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِالدِّرْهَمِ وَيَجُوزُ فِيمَا دُونَ الدِّرْهَمِ، لِأَنَّ فِي الْعَادَةِ الْمُبَايَعَةَ بِالْفُلُوسِ فِيمَا دُونَ الدِّرْهَمِ فَصَارَ مَعْلُومًا بِحُكْمِ الْعَادَةِ، وَلَا كَذَلِكَ الدِّرْهَمُ قَالُوا: وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَصَحُّ لاسيما فِي دِيَارِنَا.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا بِنِصْفِ دِرْهَمِ فُلُوسٍ جَازَ إلَخْ) رَجُلٌ قَالَ اشْتَرَيْت هَذَا بِنِصْفِ دِرْهَمِ فُلُوسٍ: يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ النِّصْفَ مِنْ الدَّرَاهِمِ فُلُوسٌ لَا نُقْرَةٌ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ عِنْدَ النَّاسِ وَقْتَ الْعَقْدِ جَازَ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ الْفُلُوسِ، وَكَذَا إذَا قَالَ بِدَانِقِ فُلُوسٍ وَهُوَ سُدُسُ الدِّرْهَمِ جَازَ أَوْ بِقِيرَاطِ فُلُوسٍ.
وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى بِالْفُلُوسِ وَهِيَ مَعْدُودَةٌ وَنِصْفُ دِرْهَمِ دَانَقٍ وَقِيرَاطٍ مِنْهُ مَوْزُونَةٌ، وَذِكْرُهَا لَا يُغْنِي عَنْ بَيَانِ الْعَدَدِ فَبَقِيَ الثَّمَنُ مَجْهُولًا وَهُوَ مَانِعٌ عَنْ الْجَوَازِ.
وَقُلْنَا: فَرْضُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا كَانَ مَا يُبَاعُ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ مِنْ الْفُلُوسِ مَعْلُومًا مِنْ حَيْثُ الْعَدُّ فَكَانَ مُغْنِيًا عَنْ ذِكْرِ الْعَدَدِ، وَإِذَا زَادَ عَلَى الدِّرْهَمِ جَوَّزَهُ أَبُو يُوسُفَ بِنَاءً عَلَى كَوْنِهِ مَعْلُومًا، وَفَصَّلَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيْنَ مَا دُونَ الدِّرْهَمِ وَمَا فَوْقَهُ، فَجَوَّزَ فِيمَا دُونَ الدِّرْهَمِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ فِي الْعَادَةِ الْمُبَايَعَةُ بِالْفُلُوسِ فِيمَا دُونَ الدِّرْهَمِ فَكَانَ مَعْلُومًا بِحُكْمِ الْعَادَةِ، وَلَا كَذَلِكَ الدِّرْهَمُ.
قَالُوا: وَالْأَصَحُّ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ لاسيما فِي دِيَارِنَا عَلَى عَدَمِ الْمُنَازَعَةِ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا وَلِاشْتِرَاكِ الْعُرْفِ. قَالَ (وَمَنْ أَعْطَى صَيْرَفِيًّا دِرْهَمًا وَقَالَ أَعْطِنِي بِنِصْفِهِ فُلُوسًا وَبِنِصْفِهِ نِصْفًا إلَّا حَبَّةً جَازَ الْبَيْعُ فِي الْفُلُوسِ وَبَطَلَ فِيمَا بَقِيَ عِنْدَهُمَا) لِأَنَّ بَيْعَ نِصْفِ دِرْهَمٍ بِالْفُلُوسِ جَائِزٌ وَبَيْعُ النِّصْفِ بِنِصْفٍ إلَّا حَبَّةً رِبًا فَلَا يَجُوزُ (وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بَطَلَ فِي الْكُلِّ) لِأَنَّ الصَّفْقَةَ مُتَّحِدَةٌ وَالْفَسَادُ قَوِيٌّ فَيَشِيعُ وَقَدْ مَرَّ نَظِيرُهُ، وَلَوْ كَرَّرَ لَفْظَ الْإِعْطَاءِ كَانَ جَوَابُهُ كَجَوَابِهِمَا هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُمَا بَيْعَانِ (وَلَوْ قَالَ أَعْطِنِي نِصْفَ دِرْهَمٍ فُلُوسًا وَنِصْفًا إلَّا حَبَّةً جَازَ) لِأَنَّهُ قَابَلَ الدِّرْهَمَ بِمَا يُبَاعُ مِنْ الْفُلُوسِ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ وَبِنِصْفِ دِرْهَمٍ إلَّا حَبَّةً فَيَكُونُ نِصْفُ دِرْهَمٍ إلَّا حَبَّةً بِمِثْلِهِ وَمَا وَرَاءَهُ بِإِزَاءِ الْفُلُوسِ.
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَفِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمُخْتَصَرِ ذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ الثَّانِيَةَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ (وَمَنْ أَعْطَى صَيْرَفِيًّا دِرْهَمًا إلَخْ) هَذِهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى أَنْ يُعْطِيَ دِرْهَمًا كَبِيرًا وَيَقُولَ أَعْطِنِي بِنِصْفِهِ فُلُوسًا وَبِنِصْفِهِ نِصْفًا: أَيْ دِرْهَمًا صَغِيرًا وَزْنُهُ نِصْفُ دِرْهَمٍ كَبِيرٍ إلَّا حَبَّةً جَازَ الْبَيْعُ فِي الْفُلُوسِ وَبَطَلَ فِيمَا بَقِيَ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّهُ قَابَلَ نِصْفَ الدِّرْهَمِ بِالْفُلُوسِ وَلَا مَانِعَ فِيهِ عَنْ الْجَوَازِ وَقَابَلَ النِّصْفَ بِنِصْفٍ إلَّا حَبَّةً وَهُوَ رِبًا فَلَا يَجُوزُ، وَعَلَى هَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بَطَلَ فِي الْكُلِّ لِاتِّحَادِ الصَّفْقَةِ وَقُوَّةِ الْفَسَادِ لِكَوْنِهِ مُجْمَعًا عَلَيْهِ فَيَشِيعُ، كَمَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ وَبَاعَهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً، وَعِبَارَةُ الْكِتَابِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا نَصَّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَالثَّانِيَةُ إنْ تَكَرَّرَ لَفْظُ الْإِعْطَاءِ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَالْحُكْمُ أَنَّ الْعَقْدَ فِي حِصَّةِ الْفُلُوسِ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدَانِ.
وَفَسَادُ أَحَدِهِمَا لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْآخَرِ كَمَا لَوْ قَالَ بِعْنِي بِنِصْفِ هَذِهِ الْأَلْفِ عَبْدًا وَبِنِصْفِهَا دَنًّا مِنْ الْخَمْرِ، فَإِنَّ الْبَيْعَ فِي الْعَبْدِ صَحِيحٌ وَفِي الْخَمْرِ فَاسِدٌ وَلَمْ يَشِعْ الْفَسَادُ لِتَفْرِقَةِ الصَّفْقَةِ.
وَحُكِيَ عَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيِّ وَالْفَقِيهِ الْمُظَفَّرِ بْنِ الْمَيَّانِ وَالشَّيْخِ الْإِمَامِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْعَقْدَ لَا يَصِحُّ هَاهُنَا أَيْضًا وَإِنْ كَرَدِّ لَفْظِ الْإِعْطَاءِ لِاتِّحَادِ الصَّفْقَةِ.
فَإِنَّ قَوْلَهُ أَعْطِنِي مُسَاوَمَةٌ وَبِتَكْرَارِهَا لَا يَتَكَرَّرُ الْبَيْعُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ بِذِكْرِ الْمُسَاوَمَةِ لَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ بِعْنِي فَقَالَ بِعْتُك لَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ مَا لَمْ يَقُلْ الْآخَرُ اشْتَرَيْت، وَإِذَا كَانَ لَا يَنْعَقِدُ بِذِكْرِ الْمُسَاوَمَةِ فَكَيْفَ يَتَكَرَّرُ بِتَكْرَارِهَا؟ قِيلَ وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَالثَّالِثَةُ أَنْ يَقُولَ: أَعْطِنِي نِصْفَ دِرْهَمِ فُلُوسٍ.
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فُلُوسًا بَدَلًا عَنْ نِصْفٍ وَنِصْفًا إلَّا حَبَّةً جَازَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأُولَى أَنَّهُ لَمْ يُكَرِّرْ لَفْظَ بِنِصْفِهِ بَلْ قَابَلَ الدِّرْهَمَ بِمَا يُبَاعُ مِنْ الْفُلُوسِ وَبِنِصْفِ دِرْهَمٍ وَبِنِصْفِ دِرْهَمٍ إلَّا حَبَّةً فَيَكُونُ نِصْفَ دِرْهَمٍ إلَّا حَبَّةً بِمِثْلِهِ وَالْبَاقِي بِإِزَاءِ الْفُلُوسِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ (وَفِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمُخْتَصَرِ ذِكْرُ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ) أَرَادَ قَوْلَهُ أَعْطِنِي نِصْفَ دِرْهَمِ فُلُوسٍ وَنِصْفًا إلَّا حَبَّةً وَهِيَ الثَّالِثَةُ فِيمَا ذَكَرْنَا، يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ الْأُولَى لَيْسَتْ بِمَذْكُورَةٍ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمُخْتَصَرِ.
قَالَ أَبُو نَصْرٍ الْأَقْطَعُ فِي شَرْحِهِ لِلْمُخْتَصَرِ: وَهُوَ غَلَطٌ مِنْ النَّاسِخِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.