فصل: (فَصْلٌ) فِي بَيَانِ أَنْوَاعِ مَا يَتَحَمَّلُهُ الشَّاهِدُ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.(فَصْلٌ) فِي بَيَانِ أَنْوَاعِ مَا يَتَحَمَّلُهُ الشَّاهِدُ:

وَمَا يَتَحَمَّلُهُ الشَّاهِدُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ بِنَفْسِهِ مِثْلُ الْبَيْعِ وَالْإِقْرَارِ وَالْغَصْبِ وَالْقَتْلِ وَحُكْمِ الْحَاكِمِ، فَإِذَا سَمِعَ ذَلِكَ الشَّاهِدُ أَوْ رَآهُ وَسِعَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ (لِأَنَّهُ عَلِمَ مَا هُوَ الْمُوجِبُ بِنَفْسِهِ) وَهُوَ الرُّكْنُ فِي إطْلَاقِ الْأَدَاءِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «إذَا عَلِمْت مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ وَإِلَّا فَدَعْ» قَالَ (وَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّهُ بَاعَ وَلَا يَقُولُ أَشْهَدَنِي) لِأَنَّهُ كَذِبٌ، وَلَوْ سَمِعَ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ، وَلَوْ فَسَّرَ لِلْقَاضِي لَا يَقْبَلُهُ لِأَنَّ النَّغْمَةَ تُشْبِهُ النَّغْمَةَ فَلَمْ يَحْصُلْ الْعِلْمُ إلَّا إذَا كَانَ دَخَلَ الْبَيْتَ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ سِوَاهُ ثُمَّ جَلَسَ عَلَى الْبَابِ وَلَيْسَ فِي الْبَيْتِ مَسْلَكٌ غَيْرُهُ فَسَمِعَ إقْرَارَ الدَّاخِلِ وَلَا يَرَاهُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ لِأَنَّهُ حَصَلَ الْعِلْمُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ.
الشَّرْحُ:
فَصْلٌ: لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ مَرَاتِبِ الشَّهَادَةِ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَنْوَاعِ مَا يَتَحَمَّلُهُ الشَّاهِدُ.
وَهُوَ عَلَى نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى الْإِشْهَادِ مِثْلُ الْبَيْعِ وَالْإِقْرَارِ وَالْغَصْبِ وَالْقَتْلِ وَحُكْمِ الْحَاكِمِ، فَإِذَا سَمِعَ الشَّاهِدُ مَا كَانَ مِنْ الْمَسْمُوعَاتِ كَالْبَيْعِ وَالْإِقْرَارِ وَحُكْمِ الْحَاكِمِ أَوْ رَأَى مَا كَانَ مِنْ الْمُبْصَرَاتِ كَالْغَصْبِ وَالْقَتْلِ جَازَ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ مَا هُوَ الْمُوجِبُ بِنَفْسِهِ وَهُوَ الْحَادِثَةُ بِمَا يُوجِبُهُ.
وَكُلُّ مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ جَازَ لَهُ الْأَدَاءُ بِوُجُودِ مَا هُوَ الرُّكْنُ فِي جَوَازِ الْأَدَاءِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهْم يَعْلَمُونَ} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إذَا عَلِمْت مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ وَإِلَّا فَدَعْ» قِيلَ جَعْلُ الْعِلْمِ بِالْمُوجِبِ رُكْنًا فِي الْأَدَاءِ مُخَالِفٌ لِلنَّصَّيْنِ جَمِيعًا فَإِنَّهُمَا يَدُلَّانِ عَلَى شَرْطِيَّتِهِ لَا عَلَى رُكْنِيَّتِهِ، إذْ الْأَحْوَالُ شُرُوطٌ وَإِذَا مَوْضُوعَةٌ لِلشَّرْطِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مَجَازٌ عَنْ الشَّرْطِ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِذَلِكَ إشَارَةً إلَى شِدَّةِ احْتِيَاجِ الْأَدَاءِ إلَيْهِ.
قَالَ (وَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّهُ بَاعَ إلَخْ) إذَا سَمِعَ الْمُبَايَعَةَ وَلَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهَا وَاحْتِيجَ إلَى الشَّهَادَةِ يَقُولُ الشَّاهِدُ أَشْهَدُ إنَّهُ بَاعَ (وَلَا يَقُولُ أَشْهَدَنِي؛ لِأَنَّهُ كَذِبٌ وَلَوْ سَمِعَ الْإِقْرَارَ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) يُحْجَبُ عَنْ رُؤْيَةِ شَخْصِ الْمُقِرِّ (لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ وَلَوْ فَسَّرَ لِلْقَاضِي) بِأَنْ قَالَ أَشْهَدُ بِالسَّمَاعِ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ (لَا يَقْبَلُهُ؛ لِأَنَّ النَّغْمَةَ) وَهُوَ الْكَلَامُ الْخَفِيُّ (تُشْبِهُ النَّغْمَةَ) وَالْمُشْتَبَهُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ فَانْتَفَى الْمُطْلَقُ لِلْأَدَاءِ.
وَقَوْلُهُ: (إلَّا) إذَا كَانَ اسْتِثْنَاءً مِنْ قَوْلِهِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ إلَّا إذَا كَانَ دَخَلَ الْبَيْتَ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ سِوَاهُ ثُمَّ جَلَسَ عَلَى الْبَابِ وَلَيْسَ لِلْبَيْتِ مَسْلَكٌ غَيْرُهُ فَسَمِعَ إقْرَارَ الدَّاخِلِ وَلَا يَرَاهُ وَشَهِدَ عِنْدَهُ اثْنَانِ بِأَنَّهَا فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ جَازَ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ حِينَئِذٍ، وَكَذَا إذَا رَأَى شَخْصَ الْمُقِرِّ حَالَ الْإِقْرَارِ لِرِقَّةِ الْحِجَابِ، وَلَيْسَتْ رُؤْيَةُ الْوَجْهِ شَرْطًا ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ الْعِلْمُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ. (وَمِنْهُ مَا لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيهِ بِنَفْسِهِ مِثْلُ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، فَإِذَا سَمِعَ شَاهِدًا يَشْهَدُ بِشَيْءٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ إلَّا أَنْ يُشْهِدَ عَلَيْهَا) لِأَنَّ الشَّهَادَةَ غَيْرُ مُوجِبَةٍ بِنَفْسِهَا، وَإِنَّمَا تَصِيرُ مُوجِبَةً بِالنَّقْلِ إلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِنَابَةِ وَالتَّحْمِيلِ وَلَمْ يُوجَدْ (وَكَذَا لَوْ سَمِعَهُ يُشْهِدُ الشَّاهِدَ عَلَى شَهَادَتِهِ لَمْ يَسَعْ لِلسَّامِعِ أَنْ يَشْهَدَ) لِأَنَّهُ مَا حَمَلَهُ وَإِنَّمَا حَمَلَ غَيْرَهُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمِنْهُ مَا لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيهِ بِنَفْسِهِ إلَخْ) النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الشَّهَادَةِ مَا لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيهِ بِنَفْسِهِ (مِثْلُ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ فَإِنَّهَا لَا يَثْبُتُ بِهَا الْحُكْمُ مَا لَمْ يَشْهَدْ، فَإِذَا سَمِعَ شَاهِدًا يَشْهَدُ بِشَيْءٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ) أَيْ شَهَادَةَ الْأُصُولِ (مُوجِبَةٌ بِالنَّقْلِ إلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ) وَلَا يَكُونُ النَّقْلُ إلَّا بِالْإِنَابَةِ وَالتَّحْمِيلِ.
وَالْأَوَّلُ إشَارَةٌ إلَى مَذْهَبِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ يَقُولُ بِطَرِيقِ التَّوْكِيلِ وَلَا تَوْكِيلَ إلَّا بِأَمْرِ الْمُوَكِّلِ، وَالثَّانِي إشَارَةٌ إلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَإِنَّهُمَا لَمْ يَجْعَلَاهُ بِطَرِيقِ التَّوْكِيلِ بَلْ بِطَرِيقِ التَّحْمِيلِ.
قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ: أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَإِنَّ الْحُكْمَ يُضَافُ إلَى الْفُرُوعِ، لَكِنَّ تَحَمُّلَهُمْ إنَّمَا يَصِحُّ بِعِيَانِ مَا هُوَ حُجَّةٌ، وَالشَّهَادَةُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ فَيَجِبُ النَّقْلُ إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي لِيَصِيرَ حُجَّةً فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ التَّحْمِيلَ حَصَلَ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ النَّقْلِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ التَّحْمِيلِ، وَفِيهِ مُطَالَبَةٌ؛ لِأَنَّا سَلَّمْنَا أَنَّ النَّقْلَ لابد مِنْهُ، وَلَكِنَّ تَوَقُّفَهُ عَلَى التَّحْمِيلِ يَحْتَاجُ إلَى بَيَانٍ، فَلَوْ سَلَكْنَا فِيهِ أَنْ نَقُولَ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ تَحْمِيلٌ؛ لِأَنَّا لَا نَعْنِي بِهَا إلَّا ذَلِكَ، وَلَا تَحْمِيلَ فِيمَا لَا يَشْهَدُ ثَمَّ الْبَيَانُ، وَعَلَى هَذَا إذَا سَمِعَهُ يُشْهِدُ الشَّاهِدَ عَلَى شَهَادَتِهِ لَمْ يَسَعْ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ؛ لِأَنَّهُ مَا حَمَّلَهُ وَإِنَّمَا حَمَّلَ غَيْرَهُ. وَلَا يَحِلُّ لِلشَّاهِدِ إذَا رَأَى خَطَّهُ أَنْ يَشْهَدَ إلَّا أَنْ يَتَذَكَّرَ الشَّهَادَةَ لِأَنَّ الْخَطَّ يُشْبِهُ الْخَطَّ فَلَمْ يَحْصُلْ الْعِلْمُ.
قِيلَ هَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَعِنْدَهُمَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ.
وَقِيلَ هَذَا بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا وَجَدَ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ فِي دِيوَانِهِ أَوْ قَضِيَّتَهُ، لِأَنَّ مَا يَكُونُ فِي قِمْطَرِهِ فَهُوَ تَحْتَ خَتْمِهِ يُؤْمَنُ عَلَيْهِ مِنْ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فَحَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ بِذَلِكَ وَلَا كَذَلِكَ الشَّهَادَةُ فِي الصَّكِّ لِأَنَّهُ فِي يَدِ غَيْرِهِ، وَعَلَى هَذَا إذَا تَذَكَّرَ الْمَجْلِسَ الَّذِي كَانَ فِيهِ الشَّهَادَةُ أَوْ أَخْبَرَهُ قَوْمٌ مِمَّنْ يَثِقُ بِهِ أَنَّا شَهِدْنَا نَحْنُ وَأَنْتَ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَا يَحِلُّ لِلشَّاهِدِ إذَا رَأَى خَطَّهُ إلَخْ) الشَّاهِدُ إذَا رَأَى خَطَّهُ فِي صَكٍّ وَلَمْ يَتَذَكَّرْ الْحَادِثَةَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ؛ (لِأَنَّ الْخَطَّ يُشْبِهُ الْخَطَّ) وَالْمُشْتَبَهُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ كَمَا تَقَدَّمَ (قِيلَ: هَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ) بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْمَلُ بِالْخَطِّ وَيُشْتَرَطُ الْحِفْظُ، وَلِهَذَا قَلَّتْ رِوَايَتُهُ لِاشْتِرَاطِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْحِفْظِ مِنْ وَقْتِ السَّمَاعِ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ (وَعِنْدَهُمَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ) رُخْصَةً (وَقِيلَ هَذَا) أَيْ عَدَمُ حِلِّ الشَّهَادَةِ (بِالِاتِّفَاقِ) وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا وَجَدَ الْقَاضِي شَهَادَةَ شُهُودٍ شَهِدُوا عِنْدَهُ وَاشْتَبَهَ فِي قِمْطَرِهِ أَيْ خَرِيطَتِهِ وَجَاءَ الْمَشْهُودُ لَهُ يَطْلُبُ الْحُكْمَ وَلَمْ يَحْفَظْهُ الْحَاكِمُ (أَوْ قَضِيَّتَهُ) أَيْ وَجَدَ حُكْمَهُ مَكْتُوبًا فِي خَرِيطَتِهِ كَذَلِكَ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَرَى جَوَازَ الْحُكْمِ بِذَلِكَ وَهُمَا جَوَّزَاهُ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لِكَثْرَةِ أَشْغَالِهِ يَعْجِزُ عَنْ أَنْ يَحْفَظَ كُلَّ حَادِثَةٍ وَلِهَذَا يَكْتُبُ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِالْكِتَابِ إذْ جَازَ لَهُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ عِنْدَ النِّسْيَانِ الَّذِي لَيْسَ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَإِذَا كَانَ فِي قِمْطَرِهِ تَحْتَ خَتْمِهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ تَصِلْ إلَيْهِ يَدٌ مُغَيِّرَةٌ، وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ الظَّاهِرِ (وَلَا كَذَلِكَ الشَّهَادَةُ فِي الصَّكِّ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِ غَيْرِهِ وَعَلَى هَذَا) الِاخْتِلَافِ (إذَا ذَكَرَ الْمَجْلِسَ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ الشَّهَادَةُ أَوْ أَخْبَرَهُ قَوْمٌ مِمَّنْ يَثِقُ بِهِمْ أَنَّا شَهِدْنَا نَحْنُ وَأَنْتَ) فَإِنَّهُ قِيلَ لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ، وَقِيلَ لَا يَحِلُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا. قَالَ (وَلَا يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِشَيْءٍ لَمْ يُعَايِنْهُ إلَّا النَّسَبَ وَالْمَوْتَ وَالنِّكَاحَ وَالدُّخُولَ وَوِلَايَةَ الْقَاضِي فَإِنَّهُ يَسَعُهُ أَنْ يَشْهَدَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ إذَا أَخْبَرَهُ بِهَا مَنْ يَثِقُ بِهِ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ.
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَجُوزَ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْمُشَاهَدَةِ وَذَلِكَ بِالْعِلْمِ وَلَمْ يَحْصُلْ فَصَارَ كَالْبَيْعِ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذِهِ أُمُورٌ تَخْتَصُّ بِمُعَايَنَةِ أَسْبَابِهَا خَوَّاصٌ مِنْ النَّاسِ، وَيَتَعَلَّقُ بِهَا أَحْكَامٌ تَبْقَى عَلَى انْقِضَاءِ الْقُرُونِ، فَلَوْ لَمْ تُقْبَلْ فِيهَا الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ أَدَّى إلَى الْحَرَجِ وَتَعْطِيلِ الْأَحْكَامِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ يَسْمَعُهُ كُلُّ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِالِاشْتِهَارِ وَذَلِكَ بِالتَّوَاتُرِ أَوْ بِإِخْبَارِ مَنْ يَثِقُ بِهِ كَمَا قَالَ فِي الْكِتَابِ.
وَيُشْتَرَطُ أَنْ يُخْبِرَهُ رَجُلَانِ عَدْلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ لِيَحْصُلَ لَهُ نَوْعُ عِلْمٍ.
وَقِيلَ فِي الْمَوْتِ يَكْتَفِي بِإِخْبَارِ وَاحِدٍ أَوْ وَاحِدَةٍ لِأَنَّهُ قَلَّمَا يُشَاهِدُ غَيْرُ الْوَاحِدِ إذْ الْإِنْسَانُ يَهَابُهُ وَيَكْرَهُهُ فَيَكُونُ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ بَعْضُ الْحَرَجِ، وَلَا كَذَلِكَ النَّسَبُ وَالنِّكَاحُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُطْلِقَ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ.
أَمَّا إذَا فَسَّرَ لِلْقَاضِي أَنَّهُ يَشْهَدُ بِالتَّسَامُعِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ كَمَا أَنَّ مُعَايَنَةَ الْيَدِ فِي الْأَمْلَاكِ تُطْلِقُ الشَّهَادَةَ، ثُمَّ إذَا فَسَّرَ لَا تُقْبَلُ كَذَا هَذَا.
وَلَوْ رَأَى إنْسَانًا جَلَسَ مَجْلِسَ الْقَضَاءِ يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْخُصُومُ حَلَّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى كَوْنِهِ قَاضِيًا وَكَذَا إذَا رَأَى رَجُلًا وَامْرَأَةً يَسْكُنَانِ بَيْتًا وَيَنْبَسِطُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى الْآخَرِ انْبِسَاطَ الْأَزْوَاجِ كَمَا إذَا رَأَى عَيْنًا فِي يَدِ غَيْرِهِ.
وَمَنْ شَهِدَ أَنَّهُ شَهِدَ دَفْنَ فُلَانٍ أَوْ صَلَّى عَلَى جِنَازَتِهِ فَهُوَ مُعَايَنَةٌ، حَتَّى لَوْ فَسَّرَ لِلْقَاضِي قَبْلَهُ ثُمَّ قَصَرَ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْكِتَابِ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْخَمْسَةِ يَنْفِي اعْتِبَارَ التَّسَامُعِ فِي الْوَلَاءِ وَالْوَقْفِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ آخِرًا أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْوَلَاءِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ».
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْوَقْفِ لِأَنَّهُ يَبْقَى عَلَى مَرِّ الْأَعْصَارِ، إلَّا أَنَّا نَقُولُ الْوَلَاءُ يُبْتَنَى عَلَى زَوَالِ الْمِلْكِ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْمُعَايَنَةِ فَكَذَا فِيمَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْوَقْفُ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ فِي أَصْلِهِ دُونَ شَرَائِطِهِ، لِأَنَّ أَصْلَهُ هُوَ الَّذِي يَشْتَهِرُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَا يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِشَيْءٍ لَمْ يُعَايِنْهُ إلَخْ) قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْعِلْمَ شَرْطُ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ (فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ بِشَيْءٍ لَمْ يُعَايِنْهُ إلَّا النَّسَبَ وَالْمَوْتَ وَالنِّكَاحَ وَالدُّخُولَ وَوِلَايَةَ الْقَاضِي فَإِنَّهُ يَسَعُهُ أَنْ يَشْهَدَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ إذَا أَخْبَرَهُ بِهَا مَنْ يَثِقُ بِهِ وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ.
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْمُشَاهَدَةِ) بِالِاشْتِقَاقِ الْكَبِيرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ (وَذَلِكَ بِالْعِلْمِ) أَيْ الْمُشَاهَدَةِ وَكَأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْقَلْبِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ يَكُونُ بِالْمُشَاهَدَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ الْمُشَاهَدَةُ تَكُونُ بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْعِلْمِ (وَلَمْ يَحْصُلْ فَصَارَ كَالْبَيْعِ) فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ بِالسَّمَاعِ بَلْ لابد مِنْ الْمُشَاهَدَةِ (وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذِهِ) الْأُمُورَ الْخَمْسَةَ لَوْ لَمْ تُقْبَلْ فِيهَا الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ أَدَّى إلَى الْحَرَجِ وَتَعْطِيلِ الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّهَا (أُمُورٌ تَخْتَصُّ بِمُعَايَنَةِ أَسْبَابِهَا خَوَاصُّ مِنْ النَّاسِ) لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إلَّا هُمْ (وَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِهَا أَحْكَامٌ تَبْقَى عَلَى انْقِضَاءِ الْقُرُونِ) كَالْإِرْثِ فِي النَّسَبِ وَالْمَوْتِ وَالنِّكَاحِ وَثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي قَضَاءِ الْقَاضِي وَكَمَالِ الْمَهْرِ وَالْعِدَّةِ وَثُبُوتِ الْإِحْصَانِ وَالنَّسَبِ فِي الدُّخُولِ (فَلَوْ لَمْ تُقْبَلْ فِيهَا الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ أَدَّى إلَى ذَلِكَ) وَهُوَ بَاطِلٌ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ مِمَّا يَسْمَعُهُ كُلُّ أَحَدٍ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الِاسْتِحْسَانُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ فَإِنَّ الْعِلْمَ مَشْرُوطٌ فِي الْكِتَابِ وَلَا عِلْمَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَإِنَّمَا يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ) يَعْنِي لَا نُسَلِّمُ أَنْ لَا عِلْمَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ (أَنْ يَشْهَدَ بِالِاشْتِهَارِ وَذَلِكَ التَّوَاتُرُ أَوْ بِإِخْبَارِ مَنْ يَثِقُ بِهِ كَمَا قَالَ فِي الْكِتَابِ) وَبَيَّنَ أَنَّ الْعَدَدَ فِيمَنْ يَثِقُ بِهِ شَرْطٌ وَهُوَ (أَنْ يُخْبِرَهُ رَجُلَانِ عَدْلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ لِيَحْصُلَ لَهُ نَوْعُ عِلْمٍ) وَهَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ مَا لَمْ يَسْمَعْ ذَلِكَ مِنْ الْعَامَّةِ بِحَيْثُ يَقَعُ فِي قَلْبِهِ صِدْقُ الْخَبَرِ، وَإِذَا ثَبَتَتْ الشُّهْرَةُ عِنْدَهُمَا بِخَبَرِ عَدْلَيْنِ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْإِخْبَارُ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ عَلَى مَا قَالُوا؛ لِأَنَّهَا تُوجِبُ زِيَادَةَ عِلْمٍ شَرْعًا لَا يُوجِبُهَا لَفْظُ الْخَبَرِ (وَقِيلَ يُكْتَفَى فِي الْمَوْتِ بِإِخْبَارِ وَاحِدٍ أَوْ وَاحِدَةٍ) فَرَّقُوا جَمِيعًا بَيْنَ الْمَوْتِ وَالْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ: أَيْ النِّكَاحِ وَالْوِلَادَةِ وَتَقْلِيدِ الْإِمَامِ الْقَضَاءَ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهَا أَنْ تَكُونَ بَيْنَ الْجَمَاعَةِ، أَمَّا النِّكَاحُ فَإِنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِشَهَادَةِ اثْنَيْنِ، وَالْوِلَادَةُ فَإِنَّهَا تَكُونُ بَيْنَ الْجَمَاعَةِ فِي الْغَالِبِ، وَكَذَلِكَ تَقْلِيدُ الْإِمَامِ لِلْقَضَاءِ.
وَأَمَّا الْمَوْتُ (فَإِنَّهُ قَلَّمَا يُشَاهِدُهُ غَيْرُ الْوَاحِدِ إذْ الْإِنْسَانُ يَهَابُهُ وَيَكْرَهُهُ فَيَكُونُ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ بَعْضُ الْحَرَجِ) بِخِلَافِ النَّسَبِ وَالنِّكَاحِ وَقَوْلُهُ (: وَيَنْبَغِي أَنْ يُطْلِقَ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ) بَيَانٌ لِكَيْفِيَّةِ الْأَدَاءِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُطْلِقَ ذَلِكَ فَيَقُولَ فِي النَّسَبِ أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ كَمَا يَشْهَدُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ابْنَا أَبِي قُحَافَةَ وَالْخَطَّابِ وَلَمْ يُشَاهِدْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ (فَأَمَّا إذَا فَسَّرَ لِلْقَاضِي أَنَّهُ يَشْهَدُ بِالتَّسَامُعِ لَمْ تُقْبَلْ كَمَا أَنَّ مُعَايَنَةَ الْيَدِ فِي الْأَمْلَاكِ تُطْلِقُ الشَّهَادَةَ وَإِذَا فَسَّرَ) بِأَنَّهُ إنَّمَا يَشْهَدُ؛ لِأَنَّهُ رَآهُ فِي يَدِهِ (لَا تُقْبَلُ كَذَلِكَ هَذَا، وَلَوْ رَأَى إنْسَانًا جَلَسَ مَجْلِسَ الْقَضَاءِ يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْخُصُومُ حَلَّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِكَوْنِهِ قَاضِيًا) وَإِنْ لَمْ يُعَايِنْ تَقْلِيدَ الْإِمَامِ إيَّاهُ (وَإِذَا رَأَى رَجُلًا وَامْرَأَةً يَسْكُنَانِ بَيْتًا وَيَنْبَسِطُ كُلٌّ مِنْهُمَا إلَى الْآخَرِ انْبِسَاطَ الْأَزْوَاجِ) جَازَ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِأَنَّهَا امْرَأَتُهُ، فَإِنْ سَأَلَهُ الْقَاضِي هَلْ كُنْت حَاضِرًا؟ فَقَالَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِالتَّسَامُعِ كَمَا يَشْهَدُ بِأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَلَى الرُّؤْيَةِ أَوْلَى.
وَقِيلَ لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ لَمْ يُعَايِنْ الْعَقْدَ تَبَيَّنَ لِلْقَاضِي أَنَّهُ شَهِدَ بِهِ بِالتَّسَامُعِ، وَلَوْ قَالَ أَشْهَدُ؛ لِأَنِّي سَمِعْت لَا تُقْبَلُ فَكَذَا هَذَا (وَمَنْ شَهِدَ أَنَّهُ شَهِدَ دَفْنَ فُلَانٍ أَوْ صَلَّى عَلَى جِنَازَتِهِ فَهُوَ مُعَايَنَةٌ حَتَّى لَوْ فَسَّرَ لِلْقَاضِي قَبْلَهُ)؛ لِأَنَّهُ لَا يُدْفَنُ إلَّا الْمَيِّتُ وَلَا يُصَلَّى إلَّا عَلَيْهِ.
وَلَوْ قَالَا نَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا مَاتَ أَخْبَرَنَا بِذَلِكَ مَنْ نَثِقُ بِهِ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا هُوَ الْأَصَحُّ.
وَأَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى الدُّخُولِ بِالشُّهْرَةِ وَالتَّسَامُعِ فَقَدْ ذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ تَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ مَشْهُورَةٌ كَمَا ذَكَرْنَا فَفِي عَدَمِ قَبُولِهَا حَرَجٌ وَتَعْطِيلٌ.
وَقَوْلُهُ: (ثُمَّ قَصَرَ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْكِتَابِ) بَيَانُ أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالتَّسَامُعِ هَلْ هِيَ مَحْصُورَةٌ فِيمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ أَوْ لَا فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَحْصُورَةٌ (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ آخِرًا أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْوَلَاءِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ») وَالشَّهَادَةُ عَلَى النَّسَبِ بِالتَّسَامُعِ جَائِزَةٌ كَمَا مَرَّ فَكَذَا عَلَى الْوَلَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّا نَشْهَدُ أَنَّ قَنْبَرًا مَوْلَى عَلِيٍّ وَعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَإِنْ لَمْ نُدْرِكْ ذَلِكَ (وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا تُقْبَلُ فِي الْوَقْفِ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى عَلَى مَرِّ الْأَعْصَارِ). وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْوَلَاءَ يَبْتَنِي عَلَى إزَالَةِ مِلْكِ الْيَمِينِ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْمُعَايَنَةِ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِكَلَامٍ تَسْمَعُهُ النَّاسُ وَلَيْسَ كَالْوِلَادَةِ فَلَا حَاجَةَ فِيهِ إلَى إقَامَةِ التَّسَامُعِ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ.
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ الشَّهَادَةُ عَلَى الْعِتْقِ بِالتَّسَامُعِ لَا تُقْبَلُ بِالْإِجْمَاعِ وَأَمَّا الْوَقْفُ فَذَهَبَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ إلَى أَنَّهَا لَا تَحِلُّ فِيهِ بِالتَّسَامُعِ مُطْلَقًا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ عِبَارَةُ الْكِتَابِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تُقْبَلُ فِي أَصْلِهِ وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ دُونَ شَرَائِطِهِ؛ لِأَنَّ أَصْلَهُ هُوَ الَّذِي يَشْتَهِرُ، وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْجِهَةِ بِأَنْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ وُقِفَ عَلَى هَذَا الْمَسْجِدِ أَوْ الْمَقْبَرَةِ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ حَتَّى لَوْ لَمْ يَذْكُرُوا ذَلِكَ فِي شَهَادَتِهِمْ لَا تُقْبَلُ، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ. قَالَ (وَمَنْ كَانَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ سِوَى الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ وَسِعَك أَنْ تَشْهَدَ أَنَّهُ لَهُ) لِأَنَّ الْيَدَ أَقْصَى مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْمِلْكِ إذْ هِيَ مَرْجِعُ الدَّلَالَةِ فِي الْأَسْبَابِ كُلِّهَا فَيَكْتَفِي بِهَا.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ لَهُ.
قَالُوا: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا تَفْسِيرًا لِإِطْلَاقِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الرِّوَايَةِ فَيَكُونُ شَرْطًا عَلَى الِاتِّفَاقِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: دَلِيلُ الْمِلْكِ الْيَدُ مَعَ التَّصَرُّفِ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ لِأَنَّ الْيَدَ مُتَنَوِّعَةٌ إلَى إنَابَةٍ وَمِلْكٍ.
قُلْنَا: وَالتَّصَرُّفُ يَتَنَوَّعُ أَيْضًا إلَى نِيَابَةٍ وَأَصَالَةٍ.
ثُمَّ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وُجُوهٍ: إنْ عَايَنَ الْمَالِكُ الْمِلْكَ حَلَّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ، وَكَذَا إذَا عَايَنَ الْمِلْكَ بِحُدُودِهِ دُونَ الْمَالِكِ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ بِالتَّسَامُعِ فَيَحْصُلُ مَعْرِفَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يُعَايِنْهَا أَوْ عَايَنَ الْمَالِكَ دُونَ الْمِلْكِ لَا يَحِلُّ لَهُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ وَمَنْ كَانَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ إلَخْ رَجُلٌ رَأَى عَيْنًا فِي يَدِ آخَرَ ثُمَّ رَآهَا فِي يَدِ غَيْرِهِ وَالْأَوَّلُ يَدَّعِي عَلَيْهِ الْمِلْكَ وَسِعَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِأَنَّهُ لِلْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ الْيَدَ أَقْصَى مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْمِلْكِ إذْ هِيَ مَرْجِعُ الدَّلَالَةِ فِي الْأَسْبَابِ كُلِّهَا، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ وَإِنْ عَايَنَ الْبَيْعَ أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ لَا يَعْلَمُ مِلْكَ الْمُشْتَرِي إلَّا بِمِلْكِ الْبَائِعِ وَمِلْكُ الْبَائِعِ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِالْيَدِ، وَأَقْصَى مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ كَافٍ فِي الدَّلَالَةِ لِئَلَّا يَلْزَمَ انْسِدَادُ بَابِ الشَّهَادَةِ الْمَفْتُوحِ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنَّهَا إذَا لَمْ تَجُزْ بِحُكْمِ الْيَدِ انْسَدَّ بَابُهَا.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّ لَهُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّهَادَةِ الْعِلْمُ بِالنَّصِّ وَعِنْدَ إعْوَازِ ذَلِكَ يُصَارُ إلَى مَا يَشْهَدُ بِهِ الْقَلْبُ (قَالُوا: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا) أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ شَهَادَةِ الْقَلْبِ (تَفْسِيرَ إطْلَاقِ مُحَمَّدٍ فِي الرِّوَايَةِ) وَهُوَ قَوْلُهُ: وَسِعَك أَنْ تَشْهَدَ أَنَّهُ لَهُ: يَعْنِي إذَا وَقَعَ فِي الْقَلْبِ.
قِيلَ لَوْ كَانَ ذَلِكَ كَافِيًا فِي الشَّهَادَةِ لَقَبِلَهَا الْقَاضِي إذَا قَيَّدَهَا الشَّاهِدُ بِمَا اسْتَفَادَ الْعِلْمَ بِهِ مِنْ مُعَايَنَةِ الْيَدِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّا جَعَلْنَا الْعِيَانَ مُجَوِّزًا لِلشَّاهِدِ أَنْ يَقْدَمَ عَلَى الشَّهَادَةِ وَذَلِكَ ثَابِتٌ لِمَا قُلْنَا، وَأَمَّا أَنْ يَلْزَمَ الْقَاضِيَ الْعَمَلُ بِهِ فَلَمْ يَلْتَزِمْهُ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ الرَّجُلَ إذَا كَانَ فِي يَدِهِ دَارٌ يَتَصَرَّفُ فِيهَا تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ بِيعَتْ دَارٌ بِجَنْبِهَا وَأَرَادَ ذُو الْيَدِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ فَالْقَاضِي لَا يَقْضِي لَهُ عِنْدَ إنْكَارِ الْمُشْتَرِي أَنْ تَكُونَ الدَّارُ مِلْكَ الشَّفِيعِ؛ لِأَنَّ الْعِيَانَ لَيْسَ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ.
(وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: دَلِيلُ الْمِلْكِ الْيَدُ مَعَ التَّصَرُّفِ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا) وَهُوَ الْخَصَّافُ؛ (لِأَنَّ الْيَدَ مُتَنَوِّعَةٌ إلَى إنَابَةٍ وَمِلْكٍ) فَلَا تُفِيدُ الْعِلْمَ فَلَا بُدَّ مِنْ ضَمِّ التَّصَرُّفِ إلَيْهَا.
وَالْجَوَابُ أَنَّ التَّصَرُّفَ كَذَلِكَ، وَضَمُّ مُحْتَمَلٍ إلَى مُحْتَمَلٍ يَزِيدُ الِاحْتِمَالَ فَيَنْتَفِي الْعِلْمَ (ثُمَّ) هَذِهِ (الْمَسْأَلَةُ عَلَى وُجُوهٍ) أَرْبَعَةٍ بِالْقِسْمَةِ الْعَقْلِيَّةِ:؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُعَايِنَ الْمِلْكَ وَالْمَالِكَ، أَوْ لَمْ يُعَايِنْهُمَا، أَوْ عَايَنَ الْمِلْكَ دُونَ الْمَالِكِ أَوْ بِالْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ.
فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ بِأَنْ عَرَفَ الْمَالِكَ بِوَجْهِهِ وَاسْمِهِ وَنَسَبِهِ وَعَرَفَ الْمِلْكَ بِحُدُودِهِ وَحُقُوقِهِ وَرَآهُ فِي يَدِهِ وَوَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ لَهُ حَلَّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ عَنْ عِلْمٍ.
وَإِنْ كَانَ الثَّانِي وَسَمِعَ مِنْ النَّاسِ أَنَّ لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ ضَيْعَةً فِي بَلَدِ كَذَا حُدُودُهَا كَذَا وَكَذَا لَا يَشْهَدُ؛ لِأَنَّهُ مُجَازِفٌ فِي الشَّهَادَةِ.
وَإِنْ كَانَ الثَّالِثُ وَهُوَ إنْ عَايَنَ الْمِلْكَ بِحُدُودِهِ يُنْسَبُ إلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ وَلَمْ يُعَايِنْهُ بِوَجْهِهِ وَلَمْ يَعْرِفْهُ بِنَسَبِهِ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَحِلَّ لَهُ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ بِالْمِلْكِ لِلْمَالِكِ مَعَ جَهَالَةِ الْمَشْهُودِ لَهُ وَجَهَالَةُ الْمَشْهُودِ بِهِ تَمْنَعُ جَوَازَ الشَّهَادَةِ فَكَذَا جَهَالَةُ الْمَشْهُودِ لَهُ.
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَحِلُّ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ مَعْلُومٌ وَالنَّسَبَ يَثْبُتُ بِالشُّهْرَةِ وَالتَّسَامُعِ فَكَانَتْ شَهَادَةً بِمَعْلُومٍ لِمَعْلُومٍ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ صَاحِبَ الْمِلْكِ إنْ كَانَتْ امْرَأَةً لَا تَبْرُزُ وَلَا تَخْرُجُ كَانَ اعْتِبَارُ مُشَاهَدَتِهَا وَتَصَرُّفِهَا بِنَفْسِهَا لِجَوَازِ الشَّهَادَةِ بِالْمِلْكِ مُبْطِلًا لِحَقِّهَا وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ.
وَعُورِضَ بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الشَّهَادَةَ بِالتَّسَامُعِ فِي الْأَمْوَالِ وَهِيَ بَاطِلَةٌ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَالِ لَيْسَتْ بِالتَّسَامُعِ بَلْ بِالْعِيَانِ، وَالتَّسَامُعُ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّسَبِ قَصْدًا وَهُوَ مَقْبُولٌ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَفِي ضِمْنِ ذَلِكَ يَثْبُتُ الْمَالُ وَالِاعْتِبَارُ لِلْمُتَضَمِّنِ.
وَإِنْ كَانَ الرَّابِعُ فَهُوَ كَالثَّانِي لِجَهَالَةِ الْمَشْهُودِ بِهِ. وَأَمَّا الْعَبْدُ وَالْأَمَةُ، فَإِنْ كَانَ يَعْرِفُ أَنَّهُمَا رَقِيقَانِ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّقِيقَ لَا يَكُونُ فِي يَدِ نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ أَنَّهُمَا رَقِيقَانِ إلَّا أَنَّهُمَا صَغِيرَانِ لَا يُعَبِّرَانِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا فَكَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَدَ لَهُمَا، وَإِنْ كَانَا كَبِيرَيْنِ فَذَلِكَ مَصْرِفُ الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّ لَهُمَا يَدًا عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَيُدْفَعُ يَدُ الْغَيْرِ عَنْهُمَا فَانْعَدَمَ دَلِيلُ الْمِلْكِ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ فِيهِمَا أَيْضًا اعْتِبَارًا بِالثِّيَابِ، وَالْفَرْقُ مَا بَيِّنَاهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
قَوْلُهُ: وَأَمَّا الْعَبْدُ وَالْأَمَةُ مَرْدُودٌ إلَى قَوْلِهِ سِوَى الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا رَأَى عَبْدًا أَوْ أَمَةً فِي يَدِ شَخْصٍ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَعْرِفَ رِقَّهُمَا أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ حَلَّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ أَنَّهُمَا مِلْكُ مَنْ هُمَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ الرَّقِيقَ لَا يَكُونُ فِي يَدِ نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَإِمَّا أَنْ يَكُونَا صَغِيرَيْنِ لَا يُعَبِّرَانِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا أَوْ كَبِيرَيْنِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَ لَهُمَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي وَهُوَ مَنْ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ عَاقِلًا غَيْرَ بَالِغٍ كَانَ أَوْ بَالِغًا فَذَلِكَ مَصْرِفُ الِاسْتِثْنَاءِ بِقَوْلِهِ سِوَى الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ، فَإِنَّ الْيَدَ فِي ذَلِكَ لَا تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُمَا فِي أَيْدِي أَنْفُسِهِمَا وَذَلِكَ يَرْفَعُ يَدَ الْغَيْرِ عَنْهُمَا حُكْمًا، حَتَّى إنَّ الصَّبِيَّ الَّذِي يَعْقِلُ إنْ أَقَرَّ بِالرِّقِّ عَلَى نَفْسِهِ لِغَيْرِهِ جَازَ وَيَصْنَعُ بِهِ الْمُقَرُّ لَهُ مَا يَصْنَعُ بِمُلُوكِهِ.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ لَوْ كَانَا لِتَعْبِيرِهِمَا عَنْ أَنْفُسِهِمَا لَاعْتُبِرَ دَعْوَى الْحُرِّيَّةِ مِنْهُمَا بَعْدَ الْكِبَرِ فِي يَدِ مَنْ يَدَّعِي رِقَّهُمَا.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ لِثُبُوتِ الرِّقِّ عَلَيْهِمَا لِلْمَوْلَى فِي الصِّغَرِ وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ بِذَلِكَ إذَا لَمْ يَثْبُتْ لِأَحَدٍ عَلَيْهِمَا رِقٌّ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ: يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ فِيهِمَا أَيْضًا اعْتِبَارًا بِالثِّيَابِ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، فَجَعَلُوا الْيَدَ دَلِيلًا عَلَى الْمِلْكِ فِي الْكُلِّ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ ادَّعَى عَبْدًا أَوْ أَمَةً فِي يَدِ غَيْرِهِ وَذُو الْيَدِ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ فَالْقَوْلُ لِذِي الْيَدِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ لِقِيَامِ يَدِهِ كَمَا فِي الثِّيَابِ وَالدَّوَابِّ، وَالْفَرْقُ مَا بَيَّنَّا وَهُوَ قَوْلُهُ:؛ لِأَنَّ لَهُمَا يَدًا عَلَى أَنْفُسِهِمَا يَدْفَعَانِ بِهَا يَدَ الْغَيْرِ عَنْهُمَا، بِخِلَافِ الثِّيَابِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

.(بَابُ مَنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَمَنْ لَا تُقْبَلُ):

قَالَ: وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَعْمَى.
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: تُقْبَلُ فِيمَا يَجْرِي فِيهِ التَّسَامُعُ لِأَنَّ الْحَاجَةَ فِيهِ إلَى السَّمَاعِ وَلَا خَلَلَ فِيهِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: يَجُوزُ إذَا كَانَ بَصِيرًا وَقْتَ التَّحَمُّلِ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِالْمُعَايَنَةِ، وَالْأَدَاءُ يَخْتَصُّ بِالْقَوْلِ وَلِسَانُهُ غَيْرُ مُوفٍ وَالتَّعْرِيفُ يَحْصُلُ بِالنِّسْبَةِ كَمَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْمَيِّتِ.
وَلَنَا أَنَّ الْأَدَاءَ يَفْتَقِرُ إلَى التَّمْيِيزِ بِالْإِشَارَةِ بَيْنَ الْمَشْهُودِ لَهُ وَالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَلَا يُمَيِّزُ الْأَعْمَى إلَّا بِالنَّغْمَةِ، وَفِيهِ شُبْهَةٌ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهَا بِجِنْسِ الشُّهُودِ وَالنِّسْبَةِ لِتَعْرِيفِ الْغَائِبِ دُونَ الْحَاضِرِ فَصَارَ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ.
وَلَوْ عَمِيَ بَعْدَ الْأَدَاءِ يَمْتَنِعُ الْقَضَاءُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، لِأَنَّ قِيَامَ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ شَرْطٌ وَقْتَ الْقَضَاءِ لِصَيْرُورَتِهَا حُجَّةً عِنْدَهُ وَقَدْ بَطَلَتْ وَصَارَ كَمَا إذَا خَرِسَ أَوْ جُنَّ أَوْ فَسَقَ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتُوا أَوْ غَابُوا، لِأَنَّ الْأَهْلِيَّةَ بِالْمَوْتِ قَدْ انْتَهَتْ وَبِالْغَيْبَةِ مَا بَطَلَتْ.
الشَّرْحُ:
بَابُ مَنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَمَنْ لَا تُقْبَلُ: لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ مَا تُسْمَعُ فِيهِ الشَّهَادَةُ وَمَا لَا تُسْمَعُ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَنْ تُسْمَعُ مِنْهُ الشَّهَادَةُ وَمَنْ لَا تُسْمَعُ، وَقَدَّمَ ذَلِكَ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّهُ مَحَالُّ الشَّهَادَةِ وَالْمَحَالُّ شُرُوطٌ وَالشُّرُوطُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْمَشْرُوطِ، وَأَصْلُ رَدِّ الشَّهَادَةِ وَمَبْنَاهُ التُّهْمَةُ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا شَهَادَةَ لِمُتَّهَمٍ» وَلِأَنَّهَا خَبَرٌ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ وَحُجَّتُهُ يَتَرَجَّحُ جَانِبُ الصِّدْقِ فِيهِ وَبِالتُّهْمَةِ لَا يَتَرَجَّحُ، وَهِيَ قَدْ تَكُونُ لِمَعْنًى فِي الشَّاهِدِ كَالْفِسْقِ، فَإِنَّ مَنْ لَا يَنْزَجِرُ عَنْ غَيْرِ الْكَذِبِ مِنْ مَحْظُورَاتِ دِينِهِ فَقَدْ لَا يَنْزَجِرُ عَنْهُ أَيْضًا فَكَانَ مُتَّهَمًا بِالْكَذِبِ، وَقَدْ تَكُونُ لِمَعْنًى فِي الْمَشْهُودِ لَهُ مِنْ قَرَابَةٍ يُتَّهَمُ بِهَا بِإِيثَارِ الْمَشْهُودِ لَهُ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ كَالْوِلَادَةِ وَقَدْ تَكُونُ لِخَلَلٍ فِي أَدَاءِ التَّمْيِيزِ كَالْعَمَى الْمُفْضِي إلَى تُهْمَةِ الْغَلَطِ فِيهَا وَقَدْ تَكُونُ بِالْعَجْزِ عَمَّا جَعَلَ الشَّرْعُ دَلِيلَ صِدْقِهِ كَالْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ} قَالَ (وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَعْمَى إلَخْ) شَهَادَةُ الْأَعْمَى إمَّا أَنْ تَكُونَ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَتْ بِمَقْبُولَةٍ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ فِيمَا يَجْرِي فِيهِ التَّسَامُعُ كَالنَّسَبِ وَالْمَوْتِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ قُبِلَتْ عِنْدَ زُفَرَ وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ شُجَاعٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي، فَإِنْ كَانَ بَصِيرًا وَقْتَ التَّحَمُّلِ وَالْمَشْهُودِ بِهِ غَيْرُ مَنْقُولٍ قُبِلَتْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ، وَإِنْ انْتَفَى أَحَدُهُمَا لَمْ تُقْبَلْ بِالِاتِّفَاقِ.
فَالْمُعْتَبَرُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْإِبْصَارُ عِنْدَ التَّحَمُّلِ، وَعِنْدَهُمَا اسْتِمْرَارُهُ، حَتَّى لَوْ عَمِيَ بَعْدَ الْأَدَاءِ قَبْلَ الْقَضَاءِ امْتَنَعَ الْقَضَاءُ.
أَمَّا عَدَمُ الْقَبُولِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَلِأَنَّهَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَالصَّوْتُ وَالنَّغْمَةُ فِي حَقِّ الْأَعْمَى يَقُومُ مَقَامَ الْمُعَايَنَةِ، وَالْحُدُودُ لَا تَثْبُتُ بِمَا يَقُومُ مَقَامَ الْغَيْرِ.
وَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ فَهُوَ أَنَّ الْحَاجَةَ فِيهِ إلَى السَّمَاعِ وَلَا خَلَلَ فِيهِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِيمَا لَا يَجْرِي فِيهِ التَّسَامُعُ لَا تُقْبَلُ فِيمَا يَجْرِي فِيهِ ذَلِكَ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَسَيَأْتِي جَوَابٌ آخَرُ.
وَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ فَهُوَ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْمُعَايَنَةِ حَصَلَ عَنْهُ التَّحَمُّلُ، وَمَنْ حَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ بِالْمُعَايَنَةِ عِنْدَ التَّحَمُّلِ صَحَّ تَحَمُّلُهُ لَا مَحَالَةَ، وَالْأَدَاءُ إنَّمَا يَكُونُ بِالْقَوْلِ وَلَا خَلَلَ فِي الْقَوْلِ؛ لِأَنَّ لِسَانَهُ غَيْرُ مُوَفٍّ فَكَانَ الْمُقْتَضِي لِصِحَّةِ التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ مَوْجُودًا وَالْمَانِعُ وَهُوَ عَدَمُ التَّعْرِيفِ مُنْتَفٍ؛ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ يَحْصُلُ بِالنِّسْبَةِ فَصَارَ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْمَيِّتِ إذَا شَهِدَا عَلَى الْمَيِّتِ بِأَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيْهِ كَذَا مِنْ الدَّيْنِ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ بِالِاتِّفَاقِ إذَا ذَكَرَ نِسْبَتَهُ.
وَالْجَوَابُ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْقَوْلَ يَسْتَبِدُّ بِتَحْصِيلِ الْأَدَاءِ بَلْ الْأَدَاءُ مُفْتَقِرٌ إلَى التَّمْيِيزِ بِالْإِشَارَةِ بَيْنَ الْمَشْهُودِ لَهُ وَالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَلَا يُمَيِّزُ الْأَعْمَى إلَّا بِالنَّغْمَةِ، وَفِيهِ أَيْ فِي النَّغْمَةِ بِتَأْوِيلِ الصَّوْتِ شُبْهَةٌ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهَا بِجِنْسِ الشُّهُودِ، فَإِنَّ بِالشُّهُودِ الْبُصَرَاءِ كَثْرَةً وَفِيهِمْ غُنْيَةً عَنْ شَهَادَةِ الْأَعْمَى، وَالْمُرَادُ بِالتَّمْيِيزِ بِالْإِشَارَةِ التَّمَكُّنُ مِنْهُ لِئَلَّا يُنْتَقَضَ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْغَائِبِ لِأَجْلِ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فَإِنَّهَا تُقْبَلُ، وَلَا إشَارَةَ ثَمَّةَ لِتَمَكُّنِهِمْ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ الْحُضُورِ، بِخِلَافِ الْأَعْمَى.
وَفِي قَوْلِهِ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ إشَارَةً إلَى الْجَوَابِ عَنْ الْمَيِّتِ، فَإِنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْهُ بِجِنْسِ الشُّهُودِ غَيْرُ مُمْكِنٍ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ وَإِنْ اسْتَكْثَرَ مِنْ الشُّهُودِ يَحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ الِاسْمِ، وَالنِّسْبَةِ مَقَامَ الْإِشَارَةِ عِنْدَ مَوْتِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ أَوْ غَيْبَتِهِ، وَإِلَى الْجَوَابِ عَمَّا يُقَالُ قَدْ اعْتَبَرْتُمْ النَّغْمَةَ مُمَيَّزَةً لِلْأَعْمَى فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ خَطَرًا مِنْ الْأَمْوَالِ وَهُوَ وَطْءُ زَوْجَتِهِ وَجَارِيَتِهِ فَإِنَّهُ لَا يُمَيِّزُهُمَا عَنْ غَيْرِهِمَا إلَّا بِالنَّغْمَةِ وَذَلِكَ تَنَاقُضٌ.
وَتَقْرِيرُ ذَلِكَ أَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْهَا بِغَيْرِهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ مَعَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَاتِ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَلَا نُسَلِّمُ انْتِفَاءَ الْمَانِعِ فَإِنَّ انْتِفَاءَهُ بِحُصُولِ التَّعْرِيفِ بِالنِّسْبَةِ وَالنِّسْبَةُ لِتَعْرِيفِ الْغَائِبِ دُونَ الْحَاضِرِ، وَفِيهِ إشَارَةٌ أَيْضًا إلَى الْجَوَابِ عَنْ الْمَيِّتِ فَصَارَ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فِي كَوْنِ النِّسْبَةِ غَيْرَ مُفِيدَةٍ لِلتَّعْرِيفِ.
وَأَمَّا وَجْهُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِمَنْعِ الْقَضَاءِ بِالْعَمَى الطَّارِئِ بَعْدَ الْأَدَاءِ فَهُوَ أَنَّ شَرْطَ الْقَضَاءِ قِيَامُ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ وَقْتَ الْقَضَاءِ لِصَيْرُورَةِ الشَّهَادَةِ حُجَّةً عِنْدَهُ، وَلَا قِيَامَ لَهَا بِالْعَمَى فَصَارَ كَمَا إذَا خَرِسَ أَوْ جُنَّ أَوْ فَسَقَ، فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الشَّاهِدَ إذَا خَرِسَ أَوْ جُنَّ أَوْ ارْتَدَّ بَعْدَ الْأَدَاءِ قَبْلَ الْقَضَاءِ لَا يَقْضِي الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِ، وَالْأَمْرُ الْكُلِّيُّ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَا يَمْنَعُ الْأَدَاءَ يَمْنَعُ الْقَضَاءَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ أَدَائِهَا الْقَضَاءُ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ تَمْنَعُ الْأَدَاءَ بِالْإِجْمَاعِ فَتَمْنَعُ الْقَضَاءَ، وَالْعَمَى الطَّارِئُ بَعْدَ التَّحَمُّلِ يَمْنَعُ الْأَدَاءَ عِنْدَهُمَا فَيَمْنَعُ الْقَضَاءَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَمْنَعُ الْأَدَاءَ فَلَا يَمْنَعُ الْقَضَاءَ (قَوْلُهُ: بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتُوا أَوْ غَابُوا) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ قِيَامَ الْأَهْلِيَّةِ وَقْتَ الْقَضَاءِ شَرْطٌ، فَإِنَّ الشَّاهِدَ إذَا مَاتَ أَوْ غَابَ قَبْلَ الْقَضَاءِ لَا يُمْنَعُ الْقَضَاءُ وَلَا أَهْلِيَّةَ عِنْدَهُ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَهْلِيَّةَ بِالْمَوْتِ انْتَهَتْ وَالشَّيْءُ يَتَقَرَّرُ بِانْتِهَائِهِ وَبِالْغَيْبَةِ مَا بَطَلَتْ (قَالَ وَلَا الْمَمْلُوكِ) لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ وَهُوَ لَا يَلِي نَفْسَهُ فَأَوْلَى أَنْ لَا تَثْبُتَ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَى غَيْرِهِ.
الشَّرْحُ:
(قَالَ وَلَا الْمَمْلُوكِ إلَخْ) لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَمْلُوكِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ وِلَايَةٌ مُتَعَدِّيَةٌ، وَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةٌ قَاصِرَةٌ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ وِلَايَةٌ مُتَعَدِّيَةٌ (وَلَا الْمَحْدُودِ فِي قَذْفٍ وَإِنْ تَابَ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} وَلِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ لِكَوْنِهِ مَانِعًا فَيَبْقَى بَعْدَ التَّوْبَةِ كَأَصْلِهِ، بِخِلَافِ الْمَحْدُودِ فِي غَيْرِ الْقَذْفِ لِأَنَّ الرَّدَّ لِلْفِسْقِ وَقَدْ ارْتَفَعَ بِالتَّوْبَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تُقْبَلُ إذَا تَابَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إلَّا الَّذِينَ تَابُوا} اسْتَثْنَى التَّائِبَ.
قُلْنَا: الِاسْتِثْنَاءُ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَلِيه وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} أَوْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ بِمَعْنَى لَكِنْ.
الشَّرْحُ:
وَلَا الْمَحْدُودِ فِي قَذْفٍ وَإِنْ تَابَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى الْأَبَدِ وَهُوَ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَالتَّنْصِيصُ عَلَيْهِ يُنَافِي الْقَبُولَ فِي وَقْتٍ مَا، وَأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ لَهُمْ: أَيْ لِلْمَحْدُودِينَ فِي الْقَذْفِ وَبِالتَّوْبَةِ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهِ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ؛ وَلِأَنَّهُ يَعْنِي رَدَّ الشَّهَادَةِ مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ لِكَوْنِهِ مَانِعًا عَنْ الْقَذْفِ كَالْجَلْدِ وَالْحَدِّ وَهُوَ الْأَصْلُ يَبْقَى بَعْدَ التَّوْبَةِ لِعَدَمِ سُقُوطِهِ بِهَا فَكَذَا تَتِمَّتُهُ اعْتِبَارًا لَهُ بِالْأَصْلِ (قَوْلُهُ: بِخِلَافِ الْمَحْدُودِ فِي غَيْرِ الْقَذْفِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ فَاسِقٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} وَالْفَاسِقُ إذَا تَابَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ كَالْمَحْدُودِ فِي غَيْرِ الْقَذْفِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ رَدَّ الشَّهَادَةِ إنْ كَانَ لِلْفِسْقِ زَالَ بِزَوَالِهِ بِالتَّوْبَةِ فَقُبِلَتْ كَالْمَحْدُودِ فِي غَيْرِ الْقَذْفِ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَالْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ فَإِنَّهُ مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ كَمَا ذَكَرْنَا، وَلَيْسَ لِلْفِسْقِ إذْ الْحُكْمُ الثَّابِتُ لَهُ التَّوَقُّفُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} لَا النَّهْيُ عَنْ الْقَبُولِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إذَا تَابَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إلَّا الَّذِينَ تَابُوا} اسْتَثْنَى التَّائِبَ وَالِاسْتِثْنَاءُ يَنْصَرِفُ إلَى الْجَمِيعِ فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا إلَّا الَّذِينَ تَابُوا.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ مُنْصَرِفٌ إلَى مَا يَلِيهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} وَهُوَ لَيْسَ بِمَعْطُوفٍ عَلَى مَا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ طَلَبِيٌّ وَهُوَ إخْبَارِيٌّ.
فَإِنْ قُلْت: فَاجْعَلْهُ بِمَعْنَى الطَّلَبِيِّ لِيَصِحَّ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَبِالْوَالِدِينَ إحْسَانًا} قُلْت: يَأْبَاهُ ضَمِيرُ الْفَصْلِ، فَإِنَّهُ يُفِيدُ حَصْرَ أَحَدِ الْمُسْنَدَيْنِ فِي الْآخَرِ وَهُوَ يُؤَكِّدُ الْإِخْبَارِيَّةَ.
سَلَّمْنَاهُ لَكِنْ يَلْزَمُ جَعْلُ الْكَلِمَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، سَلَّمْنَاهُ لَكِنَّهُ كَانَ إذْ ذَاكَ جَزَاءً فَلَا يَرْتَفِعُ بِالتَّوْبَةِ كَأَصْلِ الْحَدِّ وَهُوَ تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ.
سَلَّمْنَاهُ لَكِنَّهُ كَانَ أَبَدًا مَجَازًا عَنْ مُدَّةٍ غَيْرِ مُتَطَاوِلَةٍ وَلَيْسَ بِمَعْهُودٍ.
سَلَّمْنَاهُ لَكِنَّ جَعْلَهُ مَجَازًا لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ جَعْلِ الِاسْتِثْنَاءِ مُنْقَطِعًا بَلْ جَعْلُهُ مُنْقَطِعًا أَوْلَى دَفْعًا لِلْمَحْذُورَاتِ، وَتَمَامُ الْعُثُورِ عَلَى هَذَا الْمَبْحَثِ يَقْتَضِي مُطَالَعَةَ تَقْرِيرِنَا فِي تَقْرِيرِنَا فِي الِاسْتِدْلَالَاتِ الْفَاسِدَةِ. (وَلَوْ حُدَّ الْكَافِرُ فِي قَذْفٍ ثُمَّ أَسْلَمَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ) لِأَنَّ لِلْكَافِرِ شَهَادَةٌ فَكَانَ رَدُّهَا مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ، وَبِالْإِسْلَامِ حَدَّثَتْ لَهُ شَهَادَةٌ أُخْرَى، بِخِلَافِ الْعَبْدِ إذَا حُدَّ ثُمَّ أُعْتِقَ لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ لِلْعَبْدِ أَصْلًا فَتَمَامُ حَدِّهِ يَرُدُّ شَهَادَتَهُ بَعْدَ الْعِتْقِ.
الشَّرْحُ:
قَوْلُهُ: (وَلَوْ حُدَّ الْكَافِرُ) يَعْنِي إذَا حُدَّ الْكَافِرُ فِي قَذْفٍ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْكُفَّارِ، فَإِذَا أَسْلَمَ جَازَتْ شَهَادَتُهُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ لِلْكَافِرِ شَهَادَةً عَلَى مِثْلِهِ، وَمَنْ لَهُ ذَلِكَ وَحُدَّ فِي الْقَذْفِ كَانَ رَدُّ شَهَادَتِهِ مِنْ تَتِمَّةِ حَدِّهِ، وَبِالْإِسْلَامِ حَدَّثَتْ لَهُ شَهَادَةٌ مُطْلَقَةٌ غَيْرُ الْأُولَى فَلَا يَكُونُ الرَّدُّ مِنْ تَمَامِهَا، وَالْعَبْدُ إذَا حُدَّ فِي الْقَذْفِ ثُمَّ أُعْتِقَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَهَادَةٌ إلَّا مَا كَانَ بَعْدَ الْعِتْقِ فَجُعِلَ رَدُّهَا مِنْ تَمَامِ حَدِّهِ، وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ مُسْلِمٍ زَنَى فِي دَارِ الْحَرْبِ فَخَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَبَيْنَ الْعَبْدِ إذَا حُدَّ فِي الْقَذْفِ حَيْثُ جُعِلَ الْقَذْفُ قَائِمًا فِي حَقِّهِ إلَى حُصُولِ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ وَلَمْ يَجْعَلْ الزِّنَا قَائِمًا إلَى حُصُولِ نُفُوذِ الْوِلَايَةِ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الزِّنَا لَمْ يَنْعَقِدْ مُوجِبًا فِي دَارِ الْحَرْبِ لِلْحَدِّ لِانْقِطَاعِ الْوِلَايَةِ فَلَا يَنْقَلِبُ مُوجِبًا، وَالْقَذْفُ مُوجِبٌ فِي حَقِّ الْأَصْلِ فَيُوجِبُ الْوَصْفَ عِنْدَ إمْكَانِهِ.
وَاعْتُرِضَ عَلَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي تَقْيِيدِ الْحَدِّ بِكَوْنِهِ قَبْلَ الْإِعْتَاقِ؛ لِأَنَّهُ إذَا حُدَّ بَعْدَ الْإِعْتَاقِ تُرَدُّ الشَّهَادَةُ أَيْضًا لِمُلَاقَاةِ الْحَدِّ وَقْتَ قَبُولِ الشَّهَادَةِ فَأَوْجَبَ الرَّدَّ.
وَأَمَّا إذَا قَذَفَ الْكَافِرُ مُسْلِمًا ثُمَّ أَسْلَمَ فَحُدَّ فِي حَالِ إسْلَامٍ لَمْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَلَوْ حُدَّ قَبْلَ الْإِسْلَامِ قُبِلَتْ فَكَانَ ذِكْرُ الْحَدِّ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مُفِيدًا.
وَالْجَوَابُ أَنَّ فَائِدَتَهُ تَطْبِيقُ الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي عُرُوضِ مَا يَعْرِضُ بَعْدَ الْحَدِّ مَعَ وُقُوعِ الِاخْتِلَافِ الْمُحْوِجِ إلَى الْفَرْقِ.
وَأَمَّا أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُقْبَلُ بَعْدَ الْإِعْتَاقِ كَمَا أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ قَبْلَهُ فَلَا مُنَافَاةَ فِيهِ. (قَالَ وَلَا شَهَادَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ، وَلَا شَهَادَةُ الْوَلَدِ لِأَبَوَيْهِ وَأَجْدَادِهِ) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ وَلَا الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ وَلَا الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا وَلَا الزَّوْجِ لِامْرَأَتِهِ وَلَا الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ وَلَا الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ وَلَا الْأَجِيرِ لِمَنْ اسْتَأْجَرَهُ» وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ بَيْنَ الْأَوْلَادِ وَالْآبَاءِ مُتَّصِلَةٌ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ أَدَاءُ الزَّكَاةِ إلَيْهِمْ فَتَكُونُ شَهَادَةٌ لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ أَوْ تَتَمَكَّنُ فِيهِ التُّهْمَةُ.
قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ: وَالْمُرَادُ بِالْأَجِيرِ عَلَى مَا قَالُوا التِّلْمِيذُ الْخَاصُّ الَّذِي يَعُدُّ ضَرَرَ أُسْتَاذِهِ ضَرَرَ نَفْسِهِ وَنَفْعَهُ نَفْعَ نَفْسِهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا شَهَادَةَ لِلْقَانِعِ بِأَهْلِ الْبَيْتِ» وَقِيلَ الْمُرَادُ الْأَجِيرُ مُسَانَهَةً أَوْ مُشَاهِرَةً أَوْ مُيَاوَمَةً فَيَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ بِمَنَافِعِهِ عِنْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَيَصِيرُ كَالْمُسْتَأْجَرِ عَلَيْهَا.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ، وَلَا شَهَادَةُ الْوَلَدِ لِأَبَوَيْهِ وَأَجْدَادِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ وَلَا الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ وَلَا الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا وَلَا الزَّوْجِ لِامْرَأَتِهِ وَلَا الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ وَلَا الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ وَلَا الْأَجِيرِ لِمَنْ اسْتَأْجَرَهُ») قِيلَ: مَا فَائِدَةُ قَوْلِهِ لِسَيِّدِهِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا شَهَادَةَ لَهُ فِي حَقِّ أَحَدٍ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ ذَكَرَهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِطْرَادِ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا عَدَّ مَوَاضِعَ التُّهْمَةِ ذَكَرَ الْعَبْدَ مَعَ السَّيِّدِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَوْ قُبِلَتْ شَهَادَةُ الْعَبْدِ فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ لَمْ تُقْبَلْ فِي حَقِّ سَيِّدِهِ؛ وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ بَيْنَ الْأَوْلَادِ وَالْآبَاءِ مُتَّصِلَةٌ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَيْهِمْ، وَاتِّصَالُهَا يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ أَوْ أَنْ يَتَمَكَّنَ فِيهِ شُبْهَةٌ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ (وَالْمُرَادُ بِالْأَجِيرِ عَلَى مَا قَالَ الْمَشَايِخُ هُوَ التِّلْمِيذُ الْخَاصُّ الَّذِي يَعُدُّ ضُرَّ أُسْتَاذِهِ ضَرَرَ نَفْسِهِ وَنَفْعَهُ نَفْعَ نَفْسِهِ) قِيلَ: التِّلْمِيذُ الْخَاصُّ هُوَ الَّذِي يَأْكُلُ مَعَهُ وَفِي عِيَالِهِ وَلَيْسَ لَهُ أُجْرَةٌ مَعْلُومَةٌ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا شَهَادَةَ لِلْقَانِعِ بِأَهْلِ الْبَيْتِ» مِنْ الْقُنُوعِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ السَّائِلِ يَطْلُبُ مَعَاشَهُ مِنْهُمْ.
وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ الْأَجِيرُ مُسَانَهَةً أَوْ مُشَاهَرَةً، وَهُوَ الْأَجِيرُ الْوَاحِدُ فَيَسْتَوْجِبُ: أَيْ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرُ بِمَنَافِعِهِ، وَأَدَاءُ الشَّهَادَةِ مِنْ جُمْلَتِهَا فَيَصِيرُ كَالْمُسْتَأْجَرِ عَلَيْهَا، وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ تُرِكَ بِهِ وَجْهُ الْقِيَاسِ وَهُوَ قَبُولُهَا لِكَوْنِهَا شَهَادَةَ عَدْلٍ لِغَيْرِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، إذْ لَيْسَ لَهُ فِيمَا شَهِدَ فِيهِ مِلْكٌ وَلَا حَقٌّ وَلَا شُبْهَةُ اشْتِبَاهٍ بِسَبَبِ اتِّصَالِ الْمَنَافِعِ، وَلِهَذَا جَازَ شَهَادَةُ الْأُسْتَاذِ لَهُ وَوَضْعُ الزَّكَاةِ فِيهِ، لَكِنَّ الْإِجْمَاعَ الْمُنْعَقِدَ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ حُجَّةٌ يُتْرَكُ بِهِ الْقِيَاسُ.
وَأَمَّا شَهَادَةُ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ فَمَقْبُولَةٌ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهُ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ لِأُسْتَاذِهِ، وَلِهَذَا لَهُ أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ مِنْ غَيْرِهِ فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ. قَالَ (وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: تُقْبَلُ لِأَنَّ الْأَمْلَاكَ بَيْنَهُمَا مُتَمَيِّزَةٌ وَالْأَيْدِي مُتَحَيِّزَةٌ وَلِهَذَا يَجْرِي الْقِصَاصُ وَالْحَبْسُ بِالدَّيْنِ بَيْنَهُمَا، وَلَا مُعْتَبَرَ بِمَا فِيهِ مِنْ النَّفْعِ لِثُبُوتِهِ ضِمْنًا كَمَا فِي الْغَرِيمِ إذَا شَهِدَ لِمَدْيُونِهِ الْمُفْلِسِ.
وَلَنَا مَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّ الِانْتِفَاعَ مُتَّصِلٌ عَادَةً وَهُوَ الْمَقْصُودُ فَيَصِيرُ شَاهِدًا لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ أَوْ يَصِيرُ مُتَّهَمًا، بِخِلَافِ شَهَادَةِ الْغَرِيمِ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ عَلَى الْمَشْهُودِ بِهِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ، وَقَالَ: الشَّافِعِيُّ تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الْأَمْلَاكَ بَيْنَهُمَا مُتَمَيِّزَةٌ وَالْأَيْدِيَ مُتَحَيِّزَةٌ) أَيْ يَدُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُجْتَمِعَةٌ بِنَفْسِهَا غَيْرُ مُتَفَرِّقَةٍ فِي مِلْكِ الْآخَرِ غَيْرُ مُتَعَدِّيَةٍ إلَيْهِ، وَلِهَذَا يُقْضَى مِنْ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ وَيُحْبَسُ بِدَيْنِهِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ كَالْأَخَوَيْنِ وَأَوْلَادِ الْعَمِّ وَغَيْرِهِمْ.
لَا يُقَالُ: فِي قَبُولِ شَهَادَةِ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ نَفْعٌ لِلشَّاهِدِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعُدُّ نَفْعَ صَاحِبِهِ نَفْعَ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِقَصْدِيٍّ بَلْ حَصَلَ فِي ضِمْنِ الشَّهَادَةِ فَلَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا.
كَرَبِّ الدَّيْنِ إذَا شَهِدَ لِمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَهُوَ مُفْلِسٌ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ فِيهِ نَفْعٌ لِحُصُولِهِ ضِمْنًا (وَلَنَا مَا رَوَيْنَا) مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ وَلَا الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ وَلَا الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا وَلَا الزَّوْجِ لِامْرَأَتِهِ» (وَلِأَنَّ الِانْتِفَاعَ مُتَّصِلٌ) وَلِهَذَا لَوْ وَطِئَ جَارِيَةَ امْرَأَتِهِ وَقَالَ ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي لَا يُحَدُّ (وَهُوَ) أَيْ الِانْتِفَاعُ (هُوَ الْمَقْصُودُ) مِنْ الْأَمْوَالِ (فَيَصِيرُ شَاهِدًا لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ أَوْ يَصِيرُ مُتَّهَمًا) فِي شَهَادَتِهِ بِجَرِّ النَّفْعِ إلَى نَفْسِهِ وَشَهَادَةُ الْمُتَّهَمِ مَرْدُودَةٌ (قَوْلُهُ: بِخِلَافِ شَهَادَةِ الْغَرِيمِ) جَوَابٌ عَمَّا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْغَرِيمَ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْمَشْهُودِ بِهِ إذْ هُوَ مَالُ الْمَدْيُونِ وَلَا تَصَرُّفَ لَهُ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الرَّجُلِ فَإِنَّهُ لِكَوْنِهِ قَوَّامًا عَلَيْهَا هُوَ الَّذِي يَتَصَرَّفُ فِي مَالِهَا عَادَةً.
لَا يُقَالُ: الْغَرِيمُ إذَا ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ يَأْخُذُهُ؛ لِأَنَّ الظَّفَرَ أَمْرٌ مَوْهُومٌ وَحَقُّ الْأَخْذِ بِنَاءً عَلَيْهِ وَلَا كَذَلِكَ الزَّوْجَانِ. (وَلَا شَهَادَةُ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ) لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ لِنَفْسِهِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَوْ مِنْ وَجْهِ إنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِأَنَّ الْحَالَ مَوْقُوفٌ مُرَاعَى (وَلَا لِمُكَاتَبِهِ) لِمَا قُلْنَا.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَلَا شَهَادَةُ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ إلَخْ) لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ لِمَا رَوَيْنَا؛ وَلِأَنَّ شَهَادَتَهُ لَهُ شَهَادَةٌ لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ أَوْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَهِيَ لَهُ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ الْحَالَ مَوْقُوفٌ مُرَاعًى بَيْنَ أَنْ يَصِيرَ الْعَبْدُ لِلْغُرَمَاءِ بِسَبَبِ بَيْعِهِمْ فِي دَيْنِهِمْ وَبَيْنَ أَنْ يَبْقَى لِلْمَوْلَى كَمَا كَانَ بِسَبَبِ قَضَاءِ دَيْنِهِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَهِيَ لَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ وَمَا يَمْلِكُ لِمَوْلَاهُ (وَلَا) تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَوْلَى (لِمُكَاتَبِهِ لِمَا قُلْنَا) مِنْ كَوْنِ الْحَالِ مَوْقُوفًا مُرَاعًى؛ لِأَنَّهُ إنْ أَدَّى بَدَلَ الْكِتَابَةِ صَارَ أَجْنَبِيًّا، وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ عَادَ رَقِيقًا فَكَانَتْ شَهَادَةً لِنَفْسِهِ. (وَلَا شَهَادَةُ الشَّرِيكِ لِشَرِيكِهِ فِيمَا هُوَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا) لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ لِاشْتِرَاكِهِمَا، وَلَوْ شَهِدَ بِمَا لَيْسَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا تُقْبَلُ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ.
الشَّرْحُ:
(وَلَا شَهَادَةُ الشَّرِيكِ لِشَرِيكِهِ فِيمَا هُوَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا)؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ شَاهِدًا لِنَفْسِهِ فِي الْبَعْضِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، وَإِذَا بَطَلَ الْبَعْضُ بَطَلَ الْكُلُّ لِكَوْنِهَا غَيْرَ مُتَجَزِّئَةٍ إذْ هِيَ شَهَادَةٌ وَاحِدَةٌ (وَلَوْ شَهِدَ بِمَا لَيْسَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا قُبِلَتْ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ) قِيلَ: هَذَا إذَا كَانَا شَرِيكَيْ عِنَانٍ.
أَمَّا إذَا كَانَا مُتَفَاوِضَيْنِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا لِصَاحِبِهِ إلَّا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَالنِّكَاحِ؛؛ لِأَنَّ مَا عَدَاهَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فَكَانَتْ شَهَادَتُهُ لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ. (وَتَقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَخِ لِأَخِيهِ وَعَمِّهِ) لِانْعِدَامِ التُّهْمَةِ لِأَنَّ الْأَمْلَاكَ وَمَنَافِعَهَا مُتَبَايِنَةٌ وَلَا بُسُوطَةَ لِبَعْضِهِمْ فِي مَالِ الْبَعْضِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَخِ لِأَخِيهِ إلَخْ) تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَخِ لِأَخِيهِ وَشَهَادَةُ الرَّجُلِ لِعَمِّهِ وَلِسَائِرِ الْأَقَارِبِ غَيْرِ الْوِلَادِ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ بِتَبَايُنِ الْأَمْلَاكِ وَمَنَافِعِهَا. قَالَ (وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُخَنَّثِ) وَمُرَادُهُ الْمُخَنَّثُ فِي الرَّدِيءِ مِنْ الْأَفْعَالِ لِأَنَّهُ فَاسِقٌ، فَأَمَّا الَّذِي فِي كَلَامِهِ لِينٌ وَفِي أَعْضَائِهِ تَكَسُّرٌ فَهُوَ مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ.
الشَّرْحُ:
(وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مُخَنَّثٍ وَهُوَ فِي الْعُرْفِ مَنْ عُرِفَ بِالرَّدِيءِ مِنْ الْأَفْعَالِ) أَيْ التَّمَكُّنِ مِنْ اللِّوَاطَةِ (فَأَمَّا الَّذِي فِي كَلَامِهِ لِينٌ وَفِي أَعْضَائِهِ تَكَسُّرٌ فَهُوَ مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ). (وَلَا نَائِحَةٍ وَلَا مُغَنِّيَةٍ) لِأَنَّهُمَا يَرْتَكِبَانِ مُحَرَّمًا فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «نَهَى عَنْ الصَّوْتَيْنِ الْأَحْمَقَيْنِ النَّائِحَةُ وَالْمُغَنِّيَةُ» (وَلَا مُدْمِنِ الشُّرْبِ عَلَى اللَّهْوِ) لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مُحَرَّمَ دِينِهِ.
(وَلَا مَنْ يَلْعَبُ بِالطُّيُورِ) لِأَنَّهُ يُورِثُ غَفْلَةً وَلِأَنَّهُ قَدْ يَقِفُ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ بِصُعُودِهِ عَلَى سَطْحِهِ لِيُطَيِّرَ طَيْرَهُ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: وَلَا مَنْ يَلْعَبُ بِالطُّنْبُورِ وَهُوَ الْمُغَنِّي (وَلَا مَنْ يُغَنِّي لِلنَّاسِ) لِأَنَّهُ يَجْمَعُ النَّاسَ عَلَى ارْتِكَابِ كَبِيرَةٍ.
(وَلَا مَنْ يَأْتِي بَابًا مِنْ الْكَبَائِرِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا الْحَدُّ) لِلْفِسْقِ.
الشَّرْحُ:
(وَلَا نَائِحَةٍ وَلَا مُغَنِّيَةٍ) لِارْتِكَابِهِمَا الْمُحَرَّمَ طَمَعًا فِي الْمَالِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى الْحُرْمَةِ «نَهْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّوْتَيْنِ الْأَحْمَقَيْنِ النَّائِحَةِ وَالْمُغَنِّيَةِ» وَصَفَ الصَّوْتَ بِصِفَةِ صَاحِبِهِ، وَالْمُرَادُ بِالنَّائِحَةِ الَّتِي تَنُوحُ فِي مُصِيبَةِ غَيْرِهَا وَاِتَّخَذَتْ ذَلِكَ مَكْسَبًا.
وَالتَّغَنِّي لِلَّهْوِ مَعْصِيَةٌ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ.
قَالَ فِي الزِّيَادَاتِ: إذَا أَوْصَى بِمَا هُوَ مَعْصِيَةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَذَكَرَ مِنْهَا الْوَصِيَّةَ لِلْمُغَنِّينَ وَالْمُغَنِّيَاتِ خُصُوصًا إذَا كَانَ الْغِنَاءُ مِنْ الْمَرْأَةِ فَإِنَّ نَفْسَ رَفْعِ الصَّوْتِ مِنْهَا حَرَامٌ فَضْلًا عَنْ ضَمِّ الْغِنَاءِ إلَيْهِ، وَلِهَذَا لَمْ يُقَيِّدُهَا هُنَا بِقَوْلِهِ لِلنَّاسِ وَقَيَّدَ بِهِ فِيمَا ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا فِي غِنَاءِ الرَّجُلِ (وَلَا مُدْمِنِ الشُّرْبِ عَلَى اللَّهْوِ؛ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مُحَرَّمَ دِينِهِ) وَالْمُرَادُ بِهِ كُلُّ مَنْ أَدْمَنَ عَلَى شُرْبِ شَيْءٍ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ خَمْرًا كَانَتْ أَوْ غَيْرَهَا مِثْلَ السُّكَّرِ وَنَقِيعِ الزَّبِيبِ وَالْمُنَصَّفِ.
وَشَرَطَ الْإِدْمَانَ لِيَظْهَرَ ذَلِكَ عِنْدَ النَّاسِ، فَإِنَّ الْمُتَّهَمَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ فِي بَيْتِهِ مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ وَإِنْ كَانَ كَبِيرَةً (وَلَا مَنْ يَلْعَبُ بِالطُّيُورِ؛ لِأَنَّهُ يُورِثُ غَفْلَةً لَا يُؤْمَنُ بِهَا عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَى الشَّهَادَةِ مَعَ نِسْيَانِ بَعْضِ الْحَادِثَةِ) ثُمَّ هُوَ مُصِرٌّ عَلَى نَوْعِ لَعِبٍ (وَلِأَنَّهُ قَدْ يَقِفُ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ بِصُعُودِهِ عَلَى سَطْحِهِ لِتَطْيِيرِ طَيْرِهِ) وَذَلِكَ فِسْقٌ.
فَأَمَّا إذَا كَانَ يَسْتَأْنِسُ بِالْحَمَامِ فِي بَيْتِهِ فَهُوَ عَدْلٌ مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ، إلَّا إذَا خَرَجَتْ مِنْ الْبَيْتِ فَإِنَّهَا تَأْتِي بِحَمَامَاتِ غَيْرِهِ فَتُفَرِّخُ فِي بَيْتِهِ وَهُوَ يَبِيعُهُ وَلَا يَعْرِفُهُ مِنْ حَمَامِ نَفْسِهِ فَيَكُونُ آكِلًا لِلْحَرَامِ.
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: وَلَا مَنْ يَلْعَبُ بِالطُّنْبُورِ وَهُوَ الْمُغَنِّي فَهُوَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ بِقَوْلِهِ وَلَا مَنْ يُغَنِّي لِلنَّاسِ فَإِنَّهُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ آلَةُ لَهْوٍ أَوْ لَا، وَإِنَّمَا لَمْ يَكْتَفِ عَنْ ذِكْرِهِ بِمَا ذَكَرَ مِنْ الْمُغَنِّيَةِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَهَذَا مُقَيَّدٌ بِكَوْنِهِ لِلنَّاسِ حَتَّى لَوْ كَانَ غِنَاؤُهُ لِنَفْسِهِ لِإِزَالَةِ وَحْشَتِهِ لَا بَأْسَ بِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ، وَاخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ، وَعَلَّلَ بِأَنَّهُ يَجْمَعُ النَّاسَ عَلَى ارْتِكَابِ كَبِيرَةٍ.
وَأَصْلُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَخِيهِ الْبَرَاءِ بْنِ مَالِكٍ وَهُوَ يَتَغَنَّى وَكَانَ مِنْ زُهَّادِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ كَرِهَ جَمِيعَ ذَلِكَ، وَبِهِ أَخَذَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ، وَحَمَلَ حَدِيثَ الْبَرَاءِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُنْشِدُ الْأَشْعَارَ الْمُبَاحَةَ الَّتِي فِيهَا الْوَعْظُ وَالْحِكْمَةُ وَاسْمُ الْغِنَاءِ قَدْ يَنْطَلِقُ عَلَى ذَلِكَ.
قَالَ (وَلَا مَنْ يَأْتِي بَابًا مِنْ الْكَبَائِرِ إلَخْ) مَنْ أَتَى بِشَيْءٍ مِنْ الْكَبَائِرِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا الْحَدُّ فَسَقَ وَسَقَطَتْ عَدَالَتُهُ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكَبِيرَةَ أَعَمُّ مِمَّا فِيهِ حَدٌّ أَوْ قَتْلٌ.
وَقَالَ أَهْلُ الْحِجَازِ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ: هِيَ السَّبْعُ الَّتِي ذَكَرهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ وَهِيَ: الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ، وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَبَهْتُ الْمُؤْمِنِ، وَالزِّنَا، وَشُرْبُ الْخَمْرِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا كَانَ حَرَامًا لِعَيْنِهِ فَهُوَ كَبِيرَةٌ. قَالَ (وَلَا مَنْ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ مِنْ غَيْرِ مِئْزَرٍ) لِأَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ حَرَامٌ.
الشَّرْحُ:
(وَلَا مَنْ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ بِغَيْرِ إزَارٍ؛ لِأَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ حَرَامٌ). (أَوْ يَأْكُلُ الرِّبَا أَوْ يُقَامِرُ بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ).
لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ الْكَبَائِرِ، وَكَذَلِكَ مَنْ تَفُوتُهُ الصَّلَاةُ لِلِاشْتِغَالِ بِهِمَا، فَأَمَّا مُجَرَّدُ اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ فَلَيْسَ بِفِسْقٍ مَانِعٍ مِنْ الشَّهَادَةِ، لِأَنَّ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ مَسَاغًا.
وَشَرَطَ فِي الْأَصْلِ أَنْ يَكُونَ آكِلُ الرِّبَا مَشْهُورًا بِهِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَلَّمَا يَنْجُو عَنْ مُبَاشَرَةِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ رِبَا.
الشَّرْحُ:
(وَلَا مَنْ يَأْكُلُ الرِّبَا؛ لِأَنَّهُ كَبِيرَةٌ، وَلَا مَنْ يَلْعَبُ بِالنَّرْدِ أَوْ الشِّطْرَنْجِ) إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ أَحَدُ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: الْقِمَارُ، أَوْ تَفْوِيتُ الصَّلَاةِ بِالِاشْتِغَالِ بِهِ أَوْ إكْثَارُ الْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِنْ الْكَبَائِرِ وَالْمُصَنِّفُ لَمْ يَذْكُرْ الثَّالِثَةَ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ الْأَوَّلَانِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ النَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ فِي شَرْطِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ.
وَفَرَّقَ فِي الذَّخِيرَةِ، وَجَعَلَ اللَّعِبَ بِالنَّرْدِ مُسْقِطًا لِلْعَدَالَةِ مُجَرَّدًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَلْعُونٌ مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ» وَالْمَلْعُونُ لَا يَكُونُ عَدْلًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إفْرَادُ قَوْلِهِ فَأَمَّا مُجَرَّدُ اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ فَلَيْسَ بِفِسْقٍ مَانِعٍ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ إشَارَةً إلَى ذَلِكَ (قَوْلُهُ:؛ لِأَنَّ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ مَسَاغًا) قِيلَ:؛ لِأَنَّ مَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ يَقُولَانِ بِحِلِّ اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ، وَشَرَطَ أَنْ يَكُونَ آكِلُ الرَّبَّا مَشْهُورًا بِهِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَلَّمَا يَنْجُوَ عَنْ مُبَاشَرَةِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ رِبًا، فَلَوْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ إذَا اُبْتُلِيَ بِهِ لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ غَالِبًا، وَهَذَا بِخِلَافِ أَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ فَإِنَّهُ يُسْقِطُ الْعَدَالَةَ وَإِنْ لَمْ يَشْتَهِرْ بِهِ لِعَدَمِ عُمُومِ الْبَلْوَى. قَالَ (وَلَا مَنْ يَفْعَلُ الْأَفْعَالَ الْمُسْتَحْقَرَةَ كَالْبَوْلِ عَلَى الطَّرِيقِ وَالْأَكْلِ عَلَى الطَّرِيقِ) لِأَنَّهُ تَارِكٌ لِلْمُرُوءَةِ، وَإِذَا كَانَ لَا يَسْتَحْيِ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ عَنْ الْكَذِبِ فَيُتَّهَمُ.
الشَّرْحُ:
(وَلَا مَنْ يَفْعَلُ الْأَفْعَالَ الْمُسْتَحْقَرَةَ) وَفِي نُسْخَةِ الْمُحْتَقَرَةَ، وَفِي أُخْرَى الْمُسْتَقْبَحَةَ، وَفِي أُخْرَى الْمُسْتَخَفَّةَ، وَفِي أُخْرَى الْمُسَخِّفَةَ كُلُّهَا عَلَى اسْمِ الْمَفْعُولِ سِوَى الْمُسَخِّفَةِ بِلَفْظِ اسْمِ الْفَاعِلِ مِنْ التَّسْخِيفِ وَهُوَ النِّسْبَةُ إلَى السُّخْفِ: رِقَّةُ الْعَقْلِ، مِنْ قَوْلِهِمْ ثَوْبٌ سَخِيفٌ إذَا كَانَ قَلِيلَ الْغَزْلِ، وَصَحَّحَ صَاحِبُ الْمُغْرِبِ هَذِهِ الْأَخِيرَةَ (كَالْبَوْلِ وَالْأَكْلِ عَلَى الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَرْكَ الْمُرُوءَةِ، وَإِذَا كَانَ لَا يَسْتَحِي مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ) فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ (لَا يَمْتَنِعُ عَنْ الْكَذِبِ) فَكَانَ مُتَّهَمًا. (وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ يُظْهِرُ سَبَّ السَّلَفِ) لِظُهُورِ فِسْقِهِ بِخِلَافِ مَنْ يَكْتُمُهُ.
الشَّرْحُ:
وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ يُظْهِرُ سَبَّ السَّلَفِ وَهُمْ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ (لِظُهُورِ فِسْقِهِ) وَقَيَّدَ بِالْإِظْهَارِ حَتَّى لَوْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ وَلَمْ يُظْهِرْهُ فَهُوَ عَدْلٌ.
رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: لَا أَقْبَلُ شَهَادَةَ مَنْ سَبَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَقْبَلُ شَهَادَةَ مَنْ يَبْرَأُ مِنْهُمْ.
وَفَرَّقُوا بِأَنَّ إظْهَارَ سَبِّهِ لَا يَأْتِي بِهِ إلَّا الْأَسْقَاطُ السَّخَفَةُ، وَشَهَادَةُ السَّخِيفِ لَا تُقْبَلُ، وَلَا كَذَلِكَ الْمُتَبَرِّئُ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ دِينًا وَإِنْ كَانَ عَلَى بَاطِلٍ فَلَمْ يَظْهَرْ فِسْقُهُ. (وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ إلَّا الْخَطَّابِيَّةُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُ أَغْلَظُ وُجُوهُ الْفِسْقِ.
وَلَنَا أَنَّهُ فِسْقٌ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِقَادُ وَمَا أَوْقَعَهُ فِيهِ إلَّا تَدَيُّنُهُ بِهِ وَصَارَ كَمَنْ يَشْرَبُ الْمُثَلَّثَ أَوْ يَأْكُلُ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا مُسْتَبِيحًا لِذَلِكَ، بِخِلَافِ الْفِسْقِ مِنْ حَيْثُ التَّعَاطِي.
أَمَّا الْخَطَّابِيَّةُ فَهُمْ مِنْ غُلَاةِ الرَّوَافِضِ يَعْتَقِدُونَ الشَّهَادَةَ لِكُلِّ مَنْ حَلَفَ عِنْدَهُمْ.
وَقِيلَ يَرَوْنَ الشَّهَادَةَ لِشِيعَتِهِمْ وَاجِبَةً فَتَمَكَّنَتْ التُّهْمَةُ فِي شَهَادَتِهِمْ.
الشَّرْحُ:
(وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ إلَّا الْخَطَّابِيَّةَ) مِنْهُمْ، وَالْهَوَى مَيَلَانُ النَّفْسِ إلَى مَا يَسْتَلِذُّ بِهِ مِنْ الشَّهَوَاتِ، وَإِنَّمَا سُمُّوا بِهِ لِمُتَابَعَتِهِمْ النَّفْسَ وَمُخَالَفَتِهِمْ السُّنَّةَ كَالْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ، فَإِنَّ أُصُولَ الْأَهْوَاءِ الْجَبْرُ وَالْقَدْرُ وَالرَّفْضُ وَالْخُرُوجُ وَالتَّشْبِيهُ وَالتَّعْطِيلُ، ثُمَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَفْتَرِقُ اثْنَتَيْ عَشَرَةَ فِرْقَةً.
(وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّهُ أَغْلَظُ وُجُوهِ الْفِسْقِ) إذْ الْفِسْقُ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِقَادُ شَرٌّ مِنْهُ مِنْ حَيْثُ التَّعَاطِي (وَلَنَا أَنَّهُ فِسْقٌ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِقَادُ) وَمَا هُوَ كَذَلِكَ فَهُوَ تَدَيُّنٌ لَا تَرْكُ تَدَيُّنٍ، وَالْمَانِعُ مِنْ الْقَبُولِ تَرْكُ مَا يَكُونُ دِينًا فَصَارَ كَحَنَفِيٍّ شَرِبَ الْمُثَلَّثَ أَوْ شَافِعِيٍّ أَكَلَ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا مُعْتَقِدًا إبَاحَتَهُ فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ بِهِ مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ.
وَالْخَطَّابِيَّةُ قِيلَ هُمْ غُلَاةٌ مِنْ الرَّوَافِضِ يُنْسَبُونَ إلَى أَبِي الْخَطَّابِ رَجُلٍ كَانَ بِالْكُوفَةِ قَتَلَهُ عِيسَى بْنُ مُوسَى وَصَلَبَهُ بِالْكَنَائِسِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَزْعُمُ أَنَّ عَلِيًّا الْإِلَهُ الْأَكْبَرُ وَجَعْفَرًا الصَّادِقَ الْإِلَهُ الْأَصْغَرُ.
وَقِيلَ هُمْ قَوْمٌ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مَنْ ادَّعَى مِنْهُمْ شَيْئًا عَلَى غَيْرِهِ يَجِبُ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ بَقِيَّةُ شِيعَتِهِ بِذَلِكَ، وَقِيلَ لِكُلِّ مَنْ حَلَفَ عِنْدَهُمْ تُرَدُّ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ كَافِرُونَ إنْ كَانُوا كَمَا قِيلَ أَوَّلًا، وَلِتَمَكُّنِ التُّهْمَةِ فِي شَهَادَتِهِمْ إنْ كَانُوا كَمَا قِيلَ ثَانِيًا أَوْ ثَالِثًا. قَالَ (وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ) وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مِلَلُهُمْ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُ فَاسِقٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ} فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ فِي خَبَرِهِ، وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى الْمُسْلِمِ فَصَارَ كَالْمُرْتَدِّ.
وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَجَازَ شَهَادَةَ النَّصَارَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ عَلَى نَفْسِهِ وَأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ عَلَى جِنْسِهِ، وَالْفِسْقُ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِقَادُ غَيْرُ مَانِعٍ لِأَنَّهُ يَجْتَنِبُ مَا يَعْتَقِدُهُ مُحَرَّمَ دِينِهِ، وَالْكَذِبُ مَحْظُورُ الْأَدْيَانِ، بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ، وَبِخِلَافِ شَهَادَةِ الذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ بِالْإِضَافَةِ إلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ يَتَقَوَّلُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يَغِيظُهُ قَهْرُهُ إيَّاهُ، وَمِلَلُ الْكُفْرِ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ فَلَا قَهْرَ فَلَا يَحْمِلُهُمْ الْغَيْظُ عَلَى التَّقَوُّلِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ إلَخْ) شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ مَقْبُولَةٌ عِنْدَنَا وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مِلَلُهُمْ كَالْيَهُودِيِّ مَعَ النَّصْرَانِيِّ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: إنْ اتَّفَقَتْ مِلَلُهُمْ قُبِلَتْ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا شَهَادَةَ لِأَهْلِ مِلَّةٍ عَلَى أَهْلِ مِلَّةٍ أُخْرَى إلَّا الْمُسْلِمِينَ فَشَهَادَتُهُمْ مَقْبُولَةٌ عَلَى أَهْلِ الْمِلَلِ كُلِّهَا» وَالْجَوَابُ أَنَّهُ مُخَالِفُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} وَالْمُرَادُ بِهِ الْوِلَايَةُ دُونَ الْمُوَالَاةِ فَإِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ {مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} وَالْعَطْفُ قَرِينَةٌ يُرَاعَى بِهِ تَنَاسُبُ الْمَعَانِي, وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ فَاسِقٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ} وَالظَّالِمُ فَاسِقٌ (فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ فِي خَبَرِهِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} وَصَارَ كَالْمُرْتَدِّ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُرْتَدِّ لِجِنْسِهِ وَلِخِلَافِ جِنْسِهِ (وَلَنَا مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَازَ شَهَادَةَ النَّصَارَى بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ») رَوَاهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبُو مُوسَى (وَلِأَنَّ الذِّمِّيَّ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ عَلَى نَفْسِهِ وَأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ) وَكُلُّ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ (فَلَهُ أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ عَلَى جِنْسِهِ) كَالْمُسْلِمِينَ.
فَإِنْ قِيلَ: الْمُسْلِمُ لَهُ أَهْلِيَّةٌ عَلَى جِنْسِهِ وَعَلَى خِلَافِ جِنْسِهِ دُونَ الذِّمِّيِّ فَبَطَلَ الْقِيَاسُ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْقِيَاسَ فِي الذِّمِّيِّ كَذَلِكَ، لَكِنَّ تَرْكَ خِلَافِ الْجِنْسِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ} وَالْكَافِرُ لَيْسَ بِمَرْضِيٍّ.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَرْضِيٍّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الشَّهَادَةِ عَلَيْنَا أَوْ مُطْلَقًا.
وَالْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ وَلَيْسَتْ بِمَقْبُولَةٍ.
وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ إذْ لَيْسَ مَا يَمْنَعُ رِضَانَا يَمْنَعُ شَهَادَةَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ (قَوْلُهُ: وَالْفِسْقُ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِقَادُ غَيْرُ مَانِعٍ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ فَاسِقٌ.
وَتَقْرِيرُهُ: الْفِسْقُ مَانِعٌ مِنْ حَيْثُ تَعَاطِي مُحَرَّمِ الدِّينِ أَوْ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِقَادُ.
وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ وَالْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ، لَكِنْ فِسْقُ الْكُفْرِ لَيْسَ مِنْ بَابِهِ فَإِنَّ الْكَافِرَ يَجْتَنِبُ مُحَرَّمَ دِينِهِ.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الِاجْتِنَابَ عَنْ مَحْظُورِ الدِّين يُعْتَبَرُ دَلِيلًا عَلَى الِاجْتِنَابِ عَنْ الْكَذِبِ الَّذِي هُوَ مِنْ بَابِ شَهَادَةِ الزُّورِ، وَهُمْ ارْتَكَبُوا الْكَذِبَ بِإِنْكَارِ الْآيَاتِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِحَقِيقَتِهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْإِخْبَارُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَوَاطِئُونَ عَلَى كِتْمَانِ بَعْثِهِ وَنُبُوَّتِهِ وَلَا شَهَادَةَ لَهُمْ عِنْدَنَا وَمِنْ بَعْدِهِمْ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ فَالتَّكْذِيبُ مِنْهُمْ تَدَيُّنٌ وَمُطْبَقُونَ عَلَى كَوْنِ الْكَذِبِ عَلَى أَحَدِ مَحْظُورٍ إذْ هُوَ مَحْظُورُ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا.
وَقَوْلُهُ: (بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ فَصَارَ كَالْمُرْتَدِّ فَإِنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ لَا عَلَى نَفْسِهِ وَلَا عَلَى أَوْلَادِهِ وَهِيَ رُكْنُ الدَّلِيلِ.
وَقَوْلُهُ (وَبِخِلَافِ شَهَادَةِ الذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى الْمُسْلِمِ وَعَمَّا يُقَالُ لَوْ اسْتَلْزَمَتْ الْوِلَايَةُ أَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ لَقُبِلَتْ شَهَادَةُ الذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ لِوُجُودِهَا كَمَا ذَكَرْتُمْ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ وِلَايَتَهُ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْمُسْلِمِ مَعْدُومَةٌ، وَهُوَ كَمَا تَرَى مُنِعَ لِوُجُودِ الْمَلْزُومِ، وَقَدْ مَرَّ لَنَا جَوَابٌ آخَرُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ؛ وَلِأَنَّهُ يَتَقَوَّلُ عَلَيْهِ جَوَابٌ آخَرُ.
وَتَقْرِيرُهُ: سَلَّمْنَا أَنَّ عِلَّةَ قَبُولِ شَهَادَتِهِ وَهُوَ الْوِلَايَةُ مُتَحَقِّقَةٌ لَكِنْ الْمَانِعُ مُتَحَقِّقٌ وَهُوَ تَغَيُّظُهُ بِقَهْرِ الْمُسْلِمِ إيَّاهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُهُ عَلَى التَّقَوُّلِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مِلَلِ الْكُفْرِ فَإِنَّهَا وَإِنْ اخْتَلَفَتْ فَلَا قَهْرَ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا يَحْمِلُهُمْ الْغَيْظُ عَلَى التَّقَوُّلِ. قَالَ (وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْحَرْبِيِّ عَلَى الذِّمِّيِّ) أَرَادَ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الْمُسْتَأْمَنُ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا وَهُوَ أَعْلَى حَالًا مِنْهُ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الذِّمِّيِّ عَلَيْهِ كَشَهَادَةِ الْمُسْلِمِ عَلَيْهِ وَعَلَى الذِّمِّيِّ (وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُسْتَأْمَنِينَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ إذَا كَانُوا مِنْ أَهْلِ دَارٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنْ كَانُوا مِنْ دَارَيْنِ كَالرُّومِ وَالتُّرْكِ لَا تُقْبَلُ) لِأَنَّ اخْتِلَافَ الدَّارَيْنِ يَقْطَعُ الْوِلَايَةَ وَلِهَذَا يَمْنَعُ التَّوَارُثَ، بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا، وَلَا كَذَلِكَ الْمُسْتَأْمَنُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْحَرْبِيِّ عَلَى الذِّمِّيِّ إلَخْ) لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْحَرْبِيِّ عَلَى الذِّمِّيِّ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (أَرَادَ بِالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنَ) وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْحَرْبِيِّ الَّذِي لَمْ يُسْتَأْمَنْ عَلَى الذِّمِّيِّ غَيْرُ مُتَصَوَّرَةٍ؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَمِنْ شَرْطِ الْقَضَاءِ الْمِصْرُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.
لَا يُقَالُ: يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ حَرْبِيٌّ دَارَ الْإِسْلَامِ بِلَا اسْتِئْمَانٍ فَيُحْضَرُ مَجْلِسَ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ قَهْرًا فَيَصِيرُ عَبْدًا، وَلَا شَهَادَةَ لِلْعَبْدِ لِأَحَدٍ وَلَا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ الْمُسْتَأْمَنِ عَلَى الذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الذِّمِّيِّ لِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا وَالْمُسْتَأْمَنُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ، وَاخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ حُكْمًا يَقْطَعُ الْوِلَايَةَ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي شَرْحِ رِسَالَتِنَا فِي الْفَرَائِضِ، وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ: وَهُوَ أَعْلَى حَالًا مِنْهُ: أَيْ أَقْرَبُ إلَى الْإِسْلَامِ مِنْ الْمُسْتَأْمَنِ وَلِهَذَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ دُونَ الْمُسْتَأْمَنِ اسْتِظْهَارًا عَلَى الِاخْتِلَافِ لِتَمَامِ الدَّلِيلِ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جُزْءُ الْعِلَّةِ انْقِطَاعَ الْوِلَايَةِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى الذِّمِّيِّ وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الذِّمِّيِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لِكَوْنِهِ أَعْلَى حَالًا أَقْرَبُ إلَى الْإِسْلَامِ فَصَارَتْ شَهَادَتُهُ كَشَهَادَةِ الْمُسْلِمِ تُقْبَلُ عَلَى الذِّمِّيِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الدَّارَيْنِ حُكْمًا عِلَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ فِي انْقِطَاعِ الْوِلَايَةِ بَيْنَ الْحَرْبِيَّيْنِ إذَا كَانَا مِنْ دَارَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَدَخَلَا دَارَنَا مُسْتَأْمَنَيْنِ فَضُمَّ ذَلِكَ إلَيْهِ لِلْعِلِّيَّةِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ دُونَ بَعْضِ الْحُكْمِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ.
فَإِنْ قُلْت: أَمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِقَبُولِ شَهَادَةِ الذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ لَا جُزْءًا لِعِلَّةِ انْقِطَاعِ الْوِلَايَةِ.
قُلْت: بَلَى لَكِنَّ تَرْكِيبَ كَلَامِهِ لَا يُسَاعِدُهُ فَتَأَمَّلْ.
وَسَنَذْكُرُ الْجَوَابَ عَنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ مَعَ اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ حُكْمًا عَلَى وَجْهٍ لَا يُلْزِمُ ذَلِكَ.
قَالَ (وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُسْتَأْمَنِينَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ إلَخْ) الْمُسْتَأْمَنُونَ فِي دَارِنَا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونُوا مِنْ دَارٍ وَاحِدَةٍ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأُوَلُ قُبِلَتْ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي كَالتُّرْكِ وَالرُّومِ لَمْ تُقْبَلْ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الدَّارَيْنِ يَقْطَعُ الْوِلَايَةَ كَمَا مَرَّ وَلِهَذَا يُمْنَعُ التَّوَارُثُ (قَوْلُهُ: بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ لَوْ قَطَعَ الْوِلَايَةَ لَمَا قُبِلَتْ شَهَادَةُ الذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ لِوُجُودِهِ لَكِنَّهَا قُبِلَتْ.
وَوَجْهُهُ أَنْ يُقَالَ الذِّمِّيُّ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا وَمَنْ هُوَ كَذَلِكَ فَلَهُ الْوِلَايَةُ الْعَامَّةُ لِشَرَفِهَا، فَكَانَ الْوَاجِبُ قَبُولَ شَهَادَةِ الذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ لِوُجُودِهِ لَكِنَّهَا قُبِلَتْ.
وَوَجْهُهُ أَنْ يُقَالَ الذِّمِّيُّ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا وَمَنْ هُوَ كَذَلِكَ فَلَهُ الْوِلَايَةُ الْعَامَّةُ لِشَرَفِهَا فَكَانَ الْوَاجِبُ قَبُولَ شَهَادَةِ الذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ كَعَكْسِهِ، لَكِنْ تَرَكْنَا بِالنَّصِّ كَمَا مَرَّ، وَلَا نَصَّ فِي الْمُسْتَأْمَنِ فَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الذِّمِّيِّ عَلَيْهِ، وَلَا كَذَلِكَ الْمُسْتَأْمَنُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ إذَا كَانُوا مِنْ دَارَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ قُبِلَتْ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ دَارِنَا فَهِيَ تَجْمَعُهُمْ، بِخِلَافِ الْمُسْتَأْمَنِينَ. (وَإِنْ كَانَتْ الْحَسَنَاتُ أَغْلَبُ مِنْ السَّيِّئَاتِ وَالرَّجُلُ مِمَّنْ يَجْتَنِبُ الْكَبَائِرَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ وَإِنْ أَلَمَّ بِمَعْصِيَةٍ) هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي حَدِّ الْعَدَالَةِ الْمُعْتَبَرَةِ، إذْ لابد مِنْ تَوَقِّي الْكَبَائِرِ كُلِّهَا وَبَعْدَ ذَلِكَ يُعْتَبَرُ الْغَالِبُ كَمَا ذَكَرْنَا، فَأَمَّا الْإِلْمَامُ بِمَعْصِيَةٍ لَا تَنْقَدِحُ بِهِ الْعَدَالَةُ الْمَشْرُوطَةُ فَلَا تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ الْمَشْرُوعَةُ لِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ اجْتِنَابِهِ الْكُلَّ سَدَّ بَابِهِ وَهُوَ مَفْتُوحٌ إحْيَاءً لِلْحُقُوقِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَإِنْ كَانَتْ الْحَسَنَاتُ أَكْثَرَ مِنْ السَّيِّئَاتِ إلَخْ) وَإِذَا كَانَتْ الْحَسَنَاتُ أَكْثَرَ مِنْ السَّيِّئَاتِ وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يَتْرُكُ الْفَرْضَ وَيَجْتَنِبُ الْكَبَائِرَ وَالْإِصْرَارُ عَلَى الصَّغِيرَةِ كَبِيرَةٌ يُعْتَبَرُ غَالِبُ أَحْوَالِهِ فِي تَعَاطِي الصَّغَائِرِ.
فَإِنْ كَانَ إتْيَانُهُ بِمَا هُوَ مَأْذُونٌ فِي الشَّرْعِ أَغْلَبَ مِنْ إلْمَامِهِ بِالصَّغَائِرِ جَازَتْ شَهَادَتُهُ وَلَا تَنْقَدِحُ عَدَالَتُهُ بِإِلْمَامِ الصَّغَائِرِ لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى تَضْيِيعِ حُقُوقِ النَّاسِ بِسَدِّ بَابِ الشَّهَادَةِ الْمَفْتُوحِ لِإِحْيَائِهَا. قَالَ (وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَقْلَفِ) لِأَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِالْعَدَالَةِ إلَّا إذَا تَرَكَهُ اسْتِخْفَافًا بِالدِّينِ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بِهَذَا الصَّنِيعِ عَدْلًا.
الشَّرْحُ:
(وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَقْلَفِ وَهُوَ مَنْ لَمْ يُخْتَنْ)؛ لِأَنَّ الْخِتَانَ سُنَّةٌ عِنْدَ عُلَمَائِنَا، وَتَرْكُ السُّنَّةِ لَا يُخِلُّ بِالْعَدَالَةِ إلَّا إذَا تَرَكَهَا اسْتِخْفَافًا بِالدِّينِ فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى حِينَئِذٍ عَدْلًا بَلْ مُسْلِمًا، وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يُقَدِّرْ لَهُ وَقْتًا مُعَيَّنًا، إذْ الْمَقَادِيرُ بِالشَّرْعِ وَلَمْ يَرِدْ فِي ذَلِكَ نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ، وَالْمُتَأَخِّرُونَ بَعْضُهُمْ قَدَّرَهُ مِنْ سَبْعِ سِنِينَ إلَى عَشْرٍ، وَبَعْضُهُمْ الْيَوْمَ السَّابِعَ مِنْ وِلَادَتِهِ أَوْ بَعْدَهُ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا خُتِنَا الْيَوْمَ السَّابِعَ أَوْ بَعْدَ السَّابِعِ، لَكِنَّهُ شَاذٌّ. (وَالْخَصِيِّ) لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَبِلَ شَهَادَةَ عَلْقَمَةَ الْخَصِيِّ، وَلِأَنَّهُ قُطِعَ عُضْوٌ مِنْهُ ظُلْمًا فَصَارَ كَمَا إذَا قُطِعَتْ يَدُهُ.
الشَّرْحُ:
(وَ) تُقْبَلُ شَهَادَةُ (الْخَصِيِّ) وَهُوَ مَنْزُوعُ الْخُصْيَةِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَبِلَ شَهَادَةَ عَلْقَمَةَ الْخَصِيِّ، وَلِأَنَّهَا قُطِعَتْ ظُلْمًا فَصَارَ كَمَنْ قُطِعَتْ يَدُهُ. (وَوَلَدِ الزِّنَا) لِأَنَّ فِسْقَ الْأَبَوَيْنِ لَا يُوجِبُ فِسْقَ الْوَلَدِ كَكُفْرِهِمَا وَهُوَ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا تُقْبَلُ فِي الزِّنَا لِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ كَمِثْلِهِ فَيُتَّهَمُ.
قُلْنَا: الْعَدْلُ لَا يَخْتَارُ ذَلِكَ وَلَا يَسْتَحِبُّهُ، وَالْكَلَامُ فِي الْعَدْلِ.
الشَّرْحُ:
(وَ) تُقْبَلُ شَهَادَةُ (وَلَدِ الزِّنَا)؛ لِأَنَّ فِسْقَ الْأَبَوَيْنِ لَا يَرْبُو عَلَى كُفْرِهِمَا وَكُفْرُهُمَا غَيْرُ مَانِعٍ لِشَهَادَةِ الِابْنِ فَفِسْقُهُمَا أَوْلَى (وَقَالَ مَالِكٌ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي الزِّنَا؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ كَمِثْلِهِ) وَالْكَافُ زَائِدَةٌ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فَيُهْتَمُّ: قُلْنَا: الْكَلَامُ فِي الْعَدْلِ وَحُبُّهُ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ لَيْسَ بِقَادِحٍ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِهِ مَا لَمْ يَتَحَدَّثْ بِهِ، سَلَّمْنَاهُ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعَدْلَ يَخْتَارُ ذَلِكَ أَوْ يَسْتَحِبُّهُ. قَالَ (وَشَهَادَةُ الْخُنْثَى جَائِزَةٌ) لِأَنَّهُ رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ وَشَهَادَةُ الْجِنْسَيْنِ مَقْبُولَةٌ بِالنَّصِّ.
الشَّرْحُ:
(وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْخُنْثَى؛ لِأَنَّهُ رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ وَشَهَادَةُ الْجِنْسَيْنِ مَقْبُولَةٌ بِالنَّصِّ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} وَيَشْهَدُ مَعَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ لِلِاحْتِيَاطِ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ كَالنِّسَاءِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً. (وَشَهَادَةُ الْعُمَّالِ جَائِزَةٌ) وَالْمُرَادُ عُمَّالُ السُّلْطَانِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ، لِأَنَّ نَفْسَ الْعَمَلِ لَيْسَ بِفِسْقٍ إلَّا إذَا كَانُوا أَعْوَانًا عَلَى الظُّلْمِ.
وَقِيلَ الْعَامِلُ إذَا كَانَ وَجِيهًا فِي النَّاسِ ذَا مُرُوءَةٍ لَا يُجَازِفُ فِي كَلَامِهِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ كَمَا مَرَّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْفَاسِقِ، لِأَنَّهُ لِوَجَاهَتِهِ لَا يَقْدُمُ عَلَى الْكَذِبِ حِفْظًا لِلْمُرُوءَةِ وَلِمَهَابَتِهِ لَا يُسْتَأْجَرُ عَلَى الشَّهَادَةِ الْكَاذِبَةِ.
الشَّرْحُ:
(قَالَ وَشَهَادَةُ الْعُمَّالِ جَائِزَةٌ) قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ: وَعَامَّةُ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إنَّهُ كَانَ يَعْنِي أَبَا حَنِيفَةَ يُجِيزُ شَهَادَةَ الْعُمَّالِ عُمَّالِ السُّلْطَانِ الَّذِينَ يُعِينُونَهُ فِي أَخْذِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ كَالْخَرَاجِ وَزَكَاةِ السَّوَائِمِ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْعَمَلِ لَيْسَ بِفِسْقٍ، لِأَنَّ أَجِلَّاءَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا عُمَّالًا وَلَا يُظَنُّ بِهِمْ فِعْلُ مَا يَقْدَحُ فِي الْعَدَالَةِ، إلَّا إذَا كَانُوا أَعْوَانَ السُّلْطَانِ مُعِينِينَ عَلَى الظُّلْمِ فَإِنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ (قَوْلُهُ: وَقِيلَ الْعَامِلُ إذَا كَانَ وَجِيهًا فِي النَّاسِ ذَا مُرُوءَةٍ لَا يُجَازِفُ فِي كَلَامِهِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ) لَعَلَّهُ يُرِيدُ بِهِ إذَا كَانَ عَوْنًا لَهُ عَلَى الظُّلْمِ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ ذَلِكَ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ تَمْثِيلُهُ بِمَا مَرَّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْفَاسِقِ؛ (لِأَنَّهُ لِوَجَاهَتِهِ لَا يُقْدِمُ عَلَى الْكَذِبِ حِفْظًا لِلْمُرُوءَةِ وَلِمَهَابَتِهِ لَا يُسْتَأْجَرُ عَلَى الشَّهَادَةِ الْكَاذِبَةِ) وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْعُمَّالِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِأَيْدِيهِمْ أَوْ يُؤَاجِرُونَ أَنْفُسَهُمْ؛ لِأَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، فَيَكُونُ إيرَادُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رَدًّا لِقَوْلِهِمْ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُمْ أَطْيَبُ الْأَكْسَابِ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَفْضَلُ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْ يَأْكُلُ مِنْ كَسْبِ يَدِهِ» فَأَنَّى يُوجِبُ جَرْحًا؟ قَالَ. قَالَ (وَإِذَا شَهِدَ الرَّجُلَانِ أَنَّ أَبَاهُمَا أَوْصَى إلَى فُلَانٍ وَالْوَصِيُّ يَدَّعِي ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا، وَإِنْ أَنْكَرَ الْوَصِيُّ لَمْ يَجُزْ) وَفِي الْقِيَاسِ: لَا يَجُوزُ إنْ ادَّعَى، وَعَلَى هَذَا إذَا شَهِدَ الْمُوصِي لَهُمَا بِذَلِكَ أَوْ غَرِيمَانِ لَهُمَا عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ أَوْ لِلْمَيِّتِ عَلَيْهِمَا دَيْنٌ أَوْ شَهِدَ الْوَصِيَّانِ أَنَّهُ أَوْصَى إلَى هَذَا الرَّجُلِ مَعَهُمَا.
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهَا شَهَادَةٌ لِلشَّاهِدِ لِعَوْدِ الْمَنْفَعَةِ إلَيْهِ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةَ نَصْبِ الْوَصِيِّ إذَا كَانَ طَالِبًا وَالْمَوْتُ مَعْرُوفٌ، فَيَكْفِي الْقَاضِي بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ مُؤْنَةَ التَّعْيِينِ لَا أَنْ يَثْبُتَ بِهَا شَيْءٌ فَصَارَ كَالْقُرْعَةِ وَالْوَصِيَّانِ إذَا أَقَرَّا أَنَّ مَعَهُمَا ثَالِثًا يَمْلِكُ الْقَاضِي نَصْبَ ثَالِثٍ مَعَهُمَا لِعَجْزِهِمَا عَنْ التَّصَرُّفِ بِاعْتِرَافِهِمَا، بِخِلَافِ مَا إذَا أَنْكَرَا وَلَمْ يَعْرِفْ الْمَوْتَ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ نَصْبِ الْوَصِيِّ فَتَكُونُ الشَّهَادَةُ هِيَ الْمُوجِبَةُ، وَفِي الْغَرِيمَيْنِ لِلْمَيِّتِ عَلَيْهِمَا دَيْنٌ تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَوْتُ مَعْرُوفًا لِأَنَّهُمَا يُقِرَّانِ عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَيَثْبُتُ الْمَوْتُ بِاعْتِرَافِهِمَا فِي حَقِّهِمَا (وَإِنْ شَهِدَا أَنَّ أَبَاهُمَا الْغَائِبَ وَكَّلَهُ بِقَبْضِ دُيُونِهِ بِالْكُوفَةِ فَادَّعَى الْوَكِيلُ أَوْ أَنْكَرَهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا) لِأَنَّ الْقَاضِي لَا يَمْلِكُ نَصْبَ الْوَكِيلِ عَنْ الْغَائِبِ، فَلَوْ ثَبَتَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِمَا وَهِيَ غَيْرُ مُوجِبَةٍ لِمَكَانِ التُّهْمَةِ.
الشَّرْحُ:
(وَإِذَا شَهِدَ الرَّجُلَانِ أَنَّ أَبَاهُمَا أَوْصَى إلَى فُلَانٍ إلَخْ) إذَا شَهِدَ رَجُلَانِ أَنَّ أَبَاهُمَا أَوْصَى إلَى فُلَانٍ أَوْ شَهِدَ الْمُوصِي لَهُمَا بِذَلِكَ أَوْ شَهِدَ غَرِيمَانِ لَهُمَا عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ أَوْ شَهِدَ غَرِيمَانِ لِلْمَيِّتِ عَلَيْهِمَا دَيْنٌ أَوْ شَهِدَ وَصِيَّانِ أَنَّهُ أَوْصَى إلَى ثَالِثٍ مَعَهُمَا فَذَلِكَ خَمْسُ مَسَائِلَ، فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَوْتُ مَعْرُوفًا وَالْوَصِيُّ رَاضِيًا أَوْ لَمْ يَكُنْ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَمْ يَجُزْ فِي الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ إلَّا فِي الرَّابِعَةِ فَإِنَّ ظُهُورَ الْمَوْتِ لَيْسَ بِشَرْطٍ كَمَا سَنَذْكُرُهُ وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ جَازَ اسْتِحْسَانًا.
وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةُ مُتَّهَمٍ لِعَوْدِ الْمَنْفَعَةِ إلَيْهِ بِنَسَبِ مَنْ يَقُومُ بِإِحْيَاءِ حُقُوقِهِ أَوْ فَرَاغِ ذِمَّتِهِ وَلَا شَهَادَةَ لِمُتَّهَمٍ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَهَادَةٍ حَقِيقَةٍ؛ لِأَنَّهَا مَا تُوجِبُ عَلَى الْقَاضِي مَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ بِدُونِهَا وَهَذِهِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ نَصْبِ الْوَصِيِّ إذَا رَضِيَ الْوَصِيُّ وَالْمَوْتُ مَعْرُوفٌ حِفْظًا لِأَمْوَالِ النَّاسِ عَنْ الضَّيَاعِ لَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ يَتَأَمَّلَ فِي صَلَاحِيَّةِ مَنْ يُنَصِّبُهُ وَأَهْلِيَّتِهِ وَهَؤُلَاءِ بِشَهَادَتِهِمْ كَفَوْهُ مُؤْنَةَ التَّعْيِينِ وَلَمْ يُثْبِتُوا بِهَا شَيْئًا فَصَارَ كَالْقُرْعَةِ فِي كَوْنِهَا لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ بَلْ هِيَ دَافِعَةٌ مُؤْنَةَ تَعْيِينِ الْقَاضِي.
فَإِنْ قِيلَ لَيْسَ لِلْقَاضِي نَصْبُ وَصِيٍّ ثَالِثٍ فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ مُوجِبَةً عَلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ.
أَجَابَ بِأَنَّ الْوَصِيَّيْنِ إذَا اعْتَرَفَا بِعَجْزِهِمَا كَانَ لَهُ نَصْبُ ثَالِثٍ وَشَهَادَتُهُمَا هَاهُنَا بِثَالِثٍ مَعَهُمَا اعْتِرَافٌ بِعَجْزِهِمَا عَنْ التَّصَرُّفِ لِعَدَمِ اسْتِقْلَالِهَا بِهِ فَكَانَ كَمَا تَقَدَّمَ بِخِلَافِ مَا إذَا أَنْكَرَ وَلَمْ يَعْرِفْ الْمَوْتَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ نَصْبُ وِلَايَةِ الْوَصِيِّ إذْ ذَاكَ فَكَانَتْ هِيَ الْمُوجِبَةَ إلَّا فِي الْغَرِيمَيْنِ لَهُ عَلَيْهِمَا دَيْنٌ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ الْمَوْتَ؛ لِأَنَّهُمَا يُقِرَّانِ عَلَى أَنْفُسِهِمَا بِالْمَالِ فَيَثْبُتُ الْمَوْتُ فِي حَقِّهِمَا بِاعْتِرَافِهِمَا، وَإِنْ شَهِدَا أَنَّ أَبُوهُمَا الْغَائِبَ وَكَّلَ فُلَانًا بِقَبْضِ دُيُونِهِ بِالْكُوفَةِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا أَنْكَرَ الْوَكِيلُ ذَلِكَ أَوْ ادَّعَاهُ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَمْلِكُ نَصْبَ الْوَكِيلِ عَنْ الْغَائِبِ، فَلَوْ ثَبَتَ كَانَتْ مُوجِبَةً وَالتُّهْمَةُ تَرُدُّ ذَلِكَ. قَالَ (وَلَا يَسْمَعُ الْقَاضِي الشَّهَادَةَ عَلَى جَرْحٍ وَلَا يَحْكُمُ بِذَلِكَ) لِأَنَّ الْفِسْقَ مِمَّا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ لِأَنَّ لَهُ الدَّفْعَ بِالتَّوْبَةِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِلْزَامُ، وَلِأَنَّهُ هَتْكُ السِّرِّ وَالسَّتْرُ وَاجِبٌ وَالْإِشَاعَةُ حَرَامٌ، وَإِنَّمَا يُرَخَّصُ ضَرُورَةَ إحْيَاءِ الْحُقُوقِ وَذَلِكَ فِيمَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ (إلَّا إذَا شَهِدُوا عَلَى إقْرَارِ الْمُدَّعِي بِذَلِكَ تُقْبَلُ) لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَا يَسْمَعُ الْقَاضِي الشَّهَادَةَ عَلَى جَرْحٍ إلَخْ) الْجَرْحُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُجَرَّدًا أَوْ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ حُكْمِ الْحَاكِمِ أَوْ لَا.
وَالثَّانِي هُوَ الْمُفْرَدُ لِتَجَرُّدِهِ عَمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الثَّانِي وَلَك أَنْ تُسَمِّيَهُ مُرَكَّبًا، فَإِذَا شَهِدَ شُهُودُ الْمُدَّعِي عَلَى الْغَرِيمِ بِشَيْءٍ وَأَقَامَ الْغَرِيمُ بَيِّنَةً عَلَى الْجَرْحِ الْمُفْرَدِ مِثْلَ إنْ قَالُوا هُمْ فَسَقَةٌ أَوْ زُنَاةٌ أَوْ آكِلُو رِبًا فَالْقَاضِي لَا يَسْمَعُهَا.
وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ:؛ لِأَنَّ الْفِسْقَ مِمَّا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ لِتَمَكُّنِ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ مِنْ رَفْعِهِ بِالتَّوْبَةِ وَرَفْعِ الْإِلْزَامِ، وَسَمَاعُهَا إنَّمَا هُوَ لِلْحُكْمِ وَالْإِلْزَامِ.
وَالثَّانِي قِيلَ وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ أَنَّ فِي الْجَرْحِ الْمُفْرَدِ هَتْكَ السِّرِّ وَهُوَ إظْهَارُ الْفَاحِشَةِ وَهُوَ حَرَامٌ بِالنَّصِّ فَكَانَ الشَّاهِدُ فَاسِقًا بِهَتْكِ وَاجِبِ السَّتْرِ وَتَعَاطِي إظْهَارِ الْحَرَامِ فَلَا يَسْمَعُهَا الْحَاكِمُ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا بَالُهُمْ لَمْ يَجْعَلُوا مُعَدِّلِينَ فِي الْعَلَانِيَةِ فَيُسْمَعُ مِنْهُمْ الْجَرْحُ الْمُفْرَدُ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ مَنْ شَرَطَ ذَلِكَ فِي زَمَانِنَا أَنْ يَقُولَ لَا أَعْلَمُ مِنْ حَالِهِ أَوْ يُعْلِمَ الْقَاضِيَ بِذَلِكَ سِرًّا إذَا سَأَلَهُ الْقَاضِي تَفَادِيًا عَنْ التَّعَادِي وَاحْتِرَازًا عَنْ إظْهَارِ الْفَاحِشَةِ، وَلَيْسَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا قَالَ وَلَا يَحْكُمُ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ عَدَمُ السَّمَاعِ يُفِيدُهُ لِجَوَازِ أَنْ يَحْكُمَ بِذَلِكَ بِعِلْمِهِ فَقَالَ وَلَا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ أَيْضًا (قَوْلُهُ: إلَّا أَنَّهُ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْفِسْقَ وَهُوَ مُنْقَطِعٌ: أَيْ لَكِنْ إذَا شَهِدَ شُهُودُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى الْمُدَّعِي أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ شُهُودِي فَسَقَةٌ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ (لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ) وَلَمْ يُظْهِرُوا الْفَاحِشَةَ وَإِنَّمَا حَكَوْهَا عَنْ غَيْرِهِمْ وَهُوَ الْمُدَّعِي، وَالْحَاكِي لِإِظْهَارِهَا لَيْسَ كَمُظْهِرِهَا.
وَكَذَا إذَا شَهِدُوا بِأَنَّ الْمُدَّعِيَ اسْتَأْجَرَ الشُّهُودَ لَمْ يَسْمَعْهَا؛ لِأَنَّهُ جَرْحٌ مُجَرَّدٌ، وَضَمُّ الِاسْتِئْجَارِ إلَيْهِ لَيْسَ بِمُخْرِجٍ لَهُ عَنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَيَحْتَاجُ إلَى خَصْمٍ يَحْكُمُ لَهُ الْحَاكِمُ وَلَا خَصْمَ فِيهِ لِكَوْنِهِ أَجْنَبِيًّا عَنْهُ. قَالَ (وَلَوْ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ اسْتَأْجَرَ الشُّهُودَ لَمْ تُقْبَلْ) لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ عَلَى جَرْحٍ مُجَرَّدٍ، وَالِاسْتِئْجَارُ وَإِنْ كَانَ أَمْرًا زَائِدًا عَلَيْهِ فَلَا خَصْمَ فِي إثْبَاتِهِ لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ أَجْنَبِيٌّ عَنْهُ، حَتَّى لَوْ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ اسْتَأْجَرَ الشُّهُودَ بِعَشْرَةِ دَرَاهِمَ لِيُؤَدُّوا الشَّهَادَةَ وَأَعْطَاهُمْ الْعَشَرَةَ مِنْ مَالِي الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ تُقْبَلُ لِأَنَّهُ خَصْمٌ فِي ذَلِكَ ثُمَّ يَثْبُتُ الْجَرْحُ بِنَاءً عَلَيْهِ، وَكَذَا إذَا أَقَامَهَا عَلَى أَنِّي صَالَحْت الشُّهُودَ عَلَى كَذَا مِنْ الْمَالِ.
وَدَفَعْتُهُ إلَيْهِمْ عَلَى أَنْ لَا يَشْهَدُوا عَلَيَّ بِهَذَا الْبَاطِلِ وَقَدْ شَهِدُوا وَطَالَبَهُمْ بِرَدِّ ذَلِكَ الْمَالِ، وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّهُ لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الشَّاهِدَ عَبْدٌ أَوْ مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ أَوْ شَارِبُ خَمْرٍ أَوْ قَاذِفٌ أَوْ شَرِيكُ الْمُدَّعِي تُقْبَلُ.
الشَّرْحُ:
(حَتَّى لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ اسْتَأْجَرَهُمْ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ لِيُؤَدُّوا الشَّهَادَةَ وَأَعْطَاهُمْ الْعَشَرَةَ مِنْ مَالِي الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ قُبِلَتْ؛ لِأَنَّهُ خَصْمٌ فِي ذَلِكَ) فَكَانَ جَرْحًا مُرَكَّبًا فَدَخَلَ تَحْتَ الْحُكْمِ وَثَبَتَ الْجَرْحُ بِنَاءً عَلَيْهِ (وَكَذَا إذَا أَقَامَهَا عَلَى أَنِّي صَالَحْت الشُّهُودَ عَلَى كَذَا مِنْ الْمَالِ وَدَفَعْته إلَيْهِمْ عَلَى أَنْ لَا يَشْهَدُوا عَلَيَّ بِهَذَا الزُّورِ وَقَدْ شَهِدُوا وَطَالَبَهُمْ بِرَدِّ الْمَالِ) لِمَا قُلْنَا، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ ذَلِكَ وَلَمْ يَقُلْ دَفَعْته إلَيْهِمْ فَإِنَّهُ جَرْحٌ مُجَرَّدٌ غَيْرُ مَسْمُوعٍ (قَوْلُهُ: وَلِهَذَا قِيلَ) أَيْ وَلِمَا قُلْنَا إنَّهُ لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى جَرْحٍ فِيهِ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ أَوْ مِنْ حُقُوقِ الشَّرْعِ وَلَيْسَ لَهُ ذِكْرُ فِي الْمَتْنِ، وَقِيلَ لِمَا قُلْنَا مِنْ الدَّلِيلَيْنِ فِي الْجَرْحِ الْمُجَرَّدِ قُلْنَا كَذَا وَهُوَ بَعِيدٌ وَكَانَ الْمُنَاسِبُ أَنْ يَقُولَ وَلِذَلِكَ وَهَذَا أَسْهَلُ، وَالْمَعْنَى إذَا أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ (أَنَّ الشَّاهِدَ عَبْدٌ أَوْ مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ أَوْ شَارِبُ خَمْرٍ أَوْ سَارِقٌ أَوْ قَاذِفٌ أَوْ شَرِيكُ الْمُدَّعِي قُبِلَتْ)؛ لِأَنَّهُ إثْبَاتُ حَقٍّ يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ إشَاعَةِ فَاحِشَةٍ.
أَمَّا قَوْلُهُ: إنَّهُ عَبْدٌ فَلِمَا أَنَّهُ يَثْبُتُ الرِّقُّ وَهُوَ ضَعْفٌ حُكْمِيٌّ أَثَرُهُ فِي سَلْبِ الْوِلَايَةِ وَهُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّهُ مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ فَلِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ وَهُوَ إكْمَالُ الْحَدِّ بِرَدِّ شَهَادَتِهِ وَهُوَ حَقُّ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ حَدُّ الشُّرْبِ وَحَدُّ الْقَذْفِ وَحَدُّ السَّرِقَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ إظْهَارُ الْفَاحِشَةِ كَمَا فِيمَا تَقَدَّمَ فَكَيْفَ سُمِعَتْ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ إظْهَارَ الْفَاحِشَةِ إذَا دَعَتْ إلَيْهِ ضَرُورَةٌ جَائِزٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اُذْكُرُوا الْفَاجِرَ بِمَا فِيهِ» وَقَدْ تَحَقَّقَتْ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ.
لَا يُقَالُ: وَقَدْ تَحَقَّقَتْ فِي الْجَرْحِ الْمُجَرَّدِ أَيْضًا لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ بِشُهُودٍ غَيْرِ مَرْضِيَّةٍ عَنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا تَنْدَفِعُ بِأَنْ يَقُولَ لِلْقَاضِي سِرًّا وَلَا يُظْهِرُهُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ، وَعَلَى هَذَا فِي إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ اعْتِبَارَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ بِجَرْحِ الشَّهَادَةِ وَهُوَ غَيْرُ مَقْبُولٍ.
وَالثَّانِي لِإِقَامَةِ الْحَدِّ وَهُوَ مَقْبُولٌ، وَمِنْ عَلَامَاتِهِ عَدَمُ التَّقَادُمِ.
وَأَمَّا إثْبَاتُ الشَّرِكَةِ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الدَّفْعِ بِالتُّهْمَةِ كَمَا إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الشَّاهِدَ ابْنَ الْمُدَّعِي أَوْ أَبُوهُ. قَالَ (وَمَنْ شَهِدَ وَلَمْ يَبْرَحْ حَتَّى قَالَ أُوهِمْتُ بَعْضَ شَهَادَتِي، فَإِنْ كَانَ عَدْلًا جَازَتْ شَهَادَتُهُ) وَمَعْنَى قَوْلِهِ أُوهِمْتُ أَيْ أَخْطَأْت بِنِسْيَانِ مَا كَانَ يَحِقُّ عَلَيَّ ذِكْرُهُ أَوْ بِزِيَادَةٍ كَانَتْ بَاطِلَةً.
وَوَجْهُهُ أَنَّ الشَّاهِدَ قَدْ يُبْتَلَى بِمِثْلِهِ لِمَهَابَةِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَكَانَ الْعُذْرُ وَاضِحًا فَتُقْبَلُ إذَا تَدَارَكَهُ فِي أَوَانِهِ وَهُوَ عَدْلٌ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَامَ عَنْ الْمَجْلِسِ ثُمَّ عَادَ وَقَالَ أُوهِمْتُ، لِأَنَّهُ يُوهِمُ الزِّيَادَةَ مِنْ الْمُدَّعِي بِتَلْبِيسٍ وَخِيَانَةٍ فَوَجَبَ الِاحْتِيَاطُ، وَلِأَنَّ الْمَجْلِسَ إذَا اتَّحَدَ لَحِقَ الْمُلْحَقُ بِأَصْلِ الشَّهَادَةِ فَصَارَ كَكَلَامٍ وَاحِدٍ، وَلَا كَذَلِكَ إذَا اخْتَلَفَ.
وَعَلَى هَذَا إذَا وَقَعَ الْغَلَطُ فِي بَعْضِ الْحُدُودِ أَوْ فِي بَعْضِ النَّسَبِ وَهَذَا إذَا كَانَ مَوْضِعَ شُبْهَةٍ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فَلَا بَأْسَ بِإِعَادَةِ الْكَلَامِ أَصْلًا مِثْلُ أَنْ يَدَعَ لَفْظَةَ الشَّهَادَةِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ وَإِنْ قَامَ عَنْ الْمَجْلِسِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي غَيْرِ الْمَجْلِسِ إذَا كَانَ عَدْلًا، وَالظَّاهِرُ مَا ذَكَرْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ شَهِدَ وَلَمْ يَبْرَحْ إلَخْ) وَمَنْ شَهِدَ ثُمَّ قَالَ أَوْهَمْت بَعْضَ شَهَادَتِي قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ: أَيْ أَخْطَأَتْ بِنِسْيَانِ مَا يَحِقُّ عَلَيَّ ذِكْرُهُ أَوْ بِزِيَادَةٍ كَانَتْ بَاطِلَةً: يَعْنِي تَرَكْت مَا يَجِبُ عَلَيَّ أَوْ أَتَيْت بِمَا لَا يَجُوزُ لِي، فَإِمَّا أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ وَهُوَ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي أَوْ بَعْدَمَا قَامَ عَنْهُ ثُمَّ عَادَ إلَيْهِ، وَعَلَى كُلٍّ مِنْ التَّقْدِيرَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَدْلًا أَوْ غَيْرَهُ، وَالْمُتَدَارَكُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْضِعَ شُبْهَةِ التَّلْبِيسِ وَالتَّغْرِيرِ مِنْ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَدْلٍ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ مُطْلَقًا: أَيْ سَوَاءٌ قَالَهُ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ بَعْدَهُ فِي مَوْضِعِ الشُّبْهَةِ أَوْ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ عَدْلًا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الشُّبْهَةِ مِثْلَ أَنْ يَدَّعِيَ لَفْظَةَ الشَّهَادَةِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ مِثْلَ أَنْ يَتْرُكَ ذِكْرَ اسْمِ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ الْإِشَارَةَ إلَى أَحَدِهِمَا سَوَاءٌ كَانَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ أَوْ فِي غَيْرِهِ، وَتَدَارُكُ تَرْكِ لَفْظِ الشَّهَادَةِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ قَبْلَ الْقَضَاءِ؛ إذْ مِنْ شَرْطِ الْقَضَاءِ أَنْ يَتَكَلَّمَ الشَّاهِدُ بِلَفْظِ أَشْهَدُ وَالْمَشْرُوطُ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الشَّرْطِ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ فِي مَوْضِعِ شُبْهَةِ التَّلْبِيسِ كَمَا إذَا شَهِدَ بِأَلْفٍ ثُمَّ قَالَ غَلِطْت بَلْ هِيَ خَمْسُمِائَةٍ أَوْ بِالْعَكْسِ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ إذَا قَالَ فِي الْمَجْلِسِ بِجَمِيعِ مَا شَهِدَ أَوَّلًا عِنْدَ بَعْضِ الْمَشَايِخِ،؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ لَهُ اسْتَحَقَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْقَضَاءِ بِشَهَادَتِهِ وَوَجَبَ قَضَاؤُهُ فَلَا يَسْقُطُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ أَوْهَمْت وَبِمَا بَقِيَ أَوْ زَادَ عِنْدَ آخَرِينَ؛ لِأَنَّ الْحَادِثَ بَعْدَ الشَّهَادَةِ مِنْ الْعَدْلِ فِي الْمَجْلِسِ كَالْمَقْرُونِ بِأَصْلِهَا وَإِلَيْهِ مَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهَذَا التَّدَارُكُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ وَبَعْدَهَا.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَوَجْهُهُ أَنَّ الشَّاهِدَ قَدْ يُبْتَلَى بِمِثْلِهِ لِمَهَابَةِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَكَانَ الْعُذْرُ وَاضِحًا فَيُقْبَلُ إذَا تَدَارَكَهُ فِي أَوَانِهِ) وَهُوَ قَبْلَ الْبَرَاحِ مِنْ الْمَجْلِسِ (وَهُوَ عَدْلٌ وَأَمَّا إذَا كَانَ بَعْدَمَا قَامَ عَنْ الْمَجْلِسِ فَلَمْ يُقْبَلْ)؛ لِأَنَّهُ يُوهِمُ الزِّيَادَةَ مِنْ الْمُدَّعِي بِإِطْمَاعِهِ الشَّاهِدَ بِحُطَامِ الدُّنْيَا وَالنُّقْصَانَ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ (فَوَجَبَ الِاحْتِيَاطُ) (قَوْلُهُ: وَلِأَنَّ الْمَجْلِسَ إذَا اتَّحَدَ) دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى ذَلِكَ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى مَا مَالَ إلَيْهِ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فَإِنَّهُ أَلْحَقَ الْمُلْحَقَ بِأَصْلِ الشَّهَادَةِ فَصَارَ كَكَلَامٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا يُوجِبُ الْعَمَلَ بِالشَّهَادَةِ الثَّانِيَةِ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ (وَعَلَى هَذَا) أَيْ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَجْلِسِ فِي دَعْوَى التَّوَهُّمِ (إذَا وَقَعَ الْغَلَطُ فِي بَعْضِ الْحُدُودِ) فَذَكَرَ الشَّرْقِيَّ مَكَانَ الْغَرْبِيِّ أَوْ بِالْعَكْسِ (أَوْ فِي بَعْضِ النَّسَبِ) كَأَنْ ذَكَرَ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ بَدَلَ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عُمَرَ مَثَلًا، فَإِنْ تَدَارَكَهُ قَبْلَ الْبَرَاحِ عَنْ الْمَجْلِسِ قُبِلَتْ وَإِلَّا فَلَا (وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ:) فِي غَيْرِ الْمَجْلِسِ أَيْضًا فِي جَمِيعِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فَرْضَ عَدَالَتِهِ يَنْفِي تَوَهُّمَ التَّلْبِيسِ وَالتَّغْرِيرِ (وَالظَّاهِرُ مَا ذَكَرْنَاهُ) أَوَّلًا مِنْ تَقَيُّدِ مَا فِيهِ شُبْهَةُ التَّغْرِيرِ بِالْمَجْلِسِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.