فصل: فَصْلٌ فِيمَا يُؤْكَلُ وَمَا لَا يُؤْكَلُ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.فَصْلٌ فِيمَا يُؤْكَلُ وَمَا لَا يُؤْكَلُ:

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ أَكْلُ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَلَا ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطُّيُورِ) لِأَنَّ «النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطُّيُورِ وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ».
وَقَوْلُهُ (مِنْ السِّبَاعِ ذُكِرَ عَقِيبَ النَّوْعَيْنِ) فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِمَا فَيَتَنَاوَلُ سِبَاعَ الطُّيُورِ وَالْبَهَائِمِ لِأَكْلِ مَا لَهُ مِخْلَبٌ أَوْ نَابٌ.
وَالسَّبُعُ كُلُّ مُخْتَطِفٍ مُنْتَهِبٍ جَارِحٍ قَاتِلٍ عَادٍ عَادَةً.
وَمَعْنَى التَّحْرِيمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ كَرَامَةُ بَنِي آدَمَ كَيْ لَا يَعْدُوَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ الذَّمِيمَةِ إلَيْهِمْ بِالْأَكْلِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الضَّبُعُ وَالثَّعْلَبُ، فَيَكُونُ الْحَدِيثُ حُجَّةً عَلَى الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي إبَاحَتِهِمَا، وَالْفِيلُ ذُو نَابٍ فَيُكْرَهُ، وَالْيَرْبُوعُ وَابْنُ عِرْسٍ مِنْ السِّبَاعِ الْهَوَامِّ.
الشَّرْحُ:
فَصْلٌ فِيمَا يُؤْكَلُ وَمَا لَا يُؤْكَلُ:
ذَكَرَ هَذَا الْفَصْلَ عَقِيبَ الذَّبَائِحِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنْ الذَّبَائِحِ وَالْوَسِيلَةُ إلَى الشَّيْءِ تُقَدَّمُ عَلَيْهِ فِي الذِّكْرِ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ أَوْصَافَ السَّبْعِ لِيَبْنِيَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلَهُ (كَيْ لَا يَعْدُوَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ الذَّمِيمَةِ إلَيْهِمْ) وَالْفَرْقُ بَيْنَ الِاخْتِطَافِ وَالِانْتِهَابِ أَنَّ الِاخْتِطَافَ مِنْ فِعْلِ الطُّيُورِ وَالِانْتِهَابَ مِنْ فِعْلِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ، قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: فَالْمُرَادُ بِذِي الْخَطْفَةِ مَا يَخْطِفُ بِمِخْلَبِهِ مِنْ الْهَوَاءِ كَالْبَازِي وَالْعُقَابِ، وَمِنْ ذِي النُّهْيَةِ مَا يَنْتَهِبُ بِنَابِهِ مِنْ الْأَرْضِ كَالْأَسَدِ وَالذِّئْبِ (قَوْلُهُ وَيَدْخُلُ فِي الضَّبُعِ.
وَالثَّعْلَبُ) لِأَنَّ لَهُمَا نَابًا يُقَاتِلَانِ بِهِ فَلَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُمَا كَالذِّئْبِ فَيَكُونُ الْحَدِيثُ حُجَّةً عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي إبَاحَتِهِمَا فَإِنْ قِيلَ: يُعَارِضُهُ حَدِيثُ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الضَّبُعِ أَصَيْدٌ هُوَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقِيلَ أَيُؤْكَلُ لَحْمُهُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقِيلَ أَشَيْءٌ سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ» فَلَا يَكُونُ حُجَّةً.
أُجِيبَ بِأَنَّ حَدِيثَنَا مَشْهُورٌ لَا يُعَارِضُهُ حَدِيثُ جَابِرٍ إنْ صَحَّ، وَقَدْ قِيلَ إنَّهُ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثُ} وَابْنُ عِرْسٍ دُوَيْبَّةٌ، وَالرَّخَمُ جَمْعُ رَخَمَةٍ وَهُوَ طَائِرٌ أَبْلَقُ يُشْبِهُ النِّسْرَ فِي الْخِلْقَةِ، وَالْبُغَاثُ مَا لَا يَصِيدُ مِنْ صِغَارِ الطَّيْرِ وَضِعَافِهِ، وَأَمَّا الْغُرَابُ الْأَسْوَدُ وَالْأَبْقَعُ فَهُوَ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ: نَوْعٌ يَلْتَقِطُ الْحَبَّ وَلَا يَأْكُلُ الْجِيَفَ وَلَيْسَ بِمَكْرُوهٍ، وَنَوْعٌ مِنْهُ لَا يَأْكُلُ إلَّا الْجِيَفَ وَهُوَ الَّذِي سَمَّاهُ الْمُصَنِّفُ الْأَبْقَعُ الَّذِي يَأْكُلُ الْجِيَفَ وَأَنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَنَوْعٌ يَخْلِطُ بِأَكْلِ الْحَبِّ مَرَّةً وَالْجِيَفِ أُخْرَى وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ غَيْرُ مَكْرُوهٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَكْرُوهٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَكَرِهُوا أَكْلَ الرَّخَمِ وَالْبُغَاثِ لِأَنَّهُمَا يَأْكُلَانِ الْجِيَفَ قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِغُرَابِ الزَّرْعِ) لِأَنَّهُ يَأْكُلُ الْحَبَّ وَلَا يَأْكُلُ الْجِيَفَ وَلَيْسَ مِنْ سِبَاعِ الطَّيْرِ. قَالَ (وَلَا يُؤْكَلُ الْأَبْقَعُ الَّذِي يَأْكُلُ الْجِيَفَ، وَكَذَا الْغُدَافُ)
الشَّرْحُ:
(قَوْلُهُ وَكَذَا الْغُدَافُ) وَهُوَ غُرَابُ الْقَيْظِ لَا يُؤْكَلُ.
وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ مَا يَأْكُلُ الْجِيَفَ فَلَحْمُهُ نَبَتَ مِنْ الْحَرَامِ فَيَكُونُ خَبِيثًا عَادَةً، وَمَا يَأْكُلُ الْحَبَّ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِيهِ، وَمَا خَلَطَ كَالدَّجَاجِ وَالْعَقْعَقِ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْأَصَحُّ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلَ الدَّجَاجَةَ وَهِيَ مِمَّا يَخْلِطُ. (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا بَأْسَ بِأَكْلِ الْعَقْعَقِ) لِأَنَّهُ يُخَلَّطُ فَأَشْبَهَ الدَّجَاجَةَ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُكْرَهُ لِأَنَّ غَالِبَ أَكْلِهِ الْجِيَفُ قَالَ (وَيُكْرَهُ أَكْلُ الضَّبُعِ وَالضَّبِّ وَالسُّلَحْفَاةِ وَالزُّنْبُورِ وَالْحَشَرَاتِ كُلِّهَا) أَمَّا الضَّبُعُ فَلِمَا ذَكَرْنَا، وَأَمَّا الضَّبُّ فَلِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حِينَ سَأَلَتْهُ عَنْ أَكْلِهِ.
وَهِيَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي إبَاحَتِهِ، وَالزُّنْبُورُ مِنْ الْمُؤْذِيَاتِ.
وَالسُّلَحْفَاةُ مِنْ خَبَائِثِ الْحَشَرَاتِ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِقَتْلِهِ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا تُكْرَهُ الْحَشَرَاتُ كُلُّهَا اسْتِدْلَالًا بِالضَّبِّ لِأَنَّهُ مِنْهَا.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (أَمَّا الضَّبُعُ فَلَمَّا ذَكَرْنَا) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ وَيَدْخُلُ فِيهِ الضَّبُعُ: يَعْنِي أَنَّهُ ذُو نَابٍ وَقَوْلُهُ (وَهِيَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ) يَعْنِي نَهْيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّثَهُ لِتَأْنِيثِ الْخَبَرِ.
فَإِنْ قِيلَ: يُعَارِضُهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الضَّبِّ فَقَالَ: لَمْ يَكُنْ مِنْ طَعَامِ قَوْمِي، فَأَجِدُ نَفْسِي تَعَافُهُ فَلَا أُحِلُّهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ» وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ «أُكِلَ الضَّبُّ عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي الْآكِلِينَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ» أُجِيبَ بِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْحَاظِرَ وَالْمُبِيحَ إذَا تَعَارَضَا يُرَجَّحُ الْحَاظِرُ، عَلَى أَنَّ الْمُبِيحَ مُؤَوَّلٌ بِمَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ. قَالَ (وَلَا يَجُوزُ أَكْلُ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَالْبِغَالِ) لِمَا رَوَى خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ لُحُومِ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ» وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَهْدَرَ الْمُتْعَةَ وَحَرَّمَ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ»
الشَّرْحُ:
وَلَا تُؤْكَلُ الْحُمُرُ الْأَهْلِيَّةُ لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، وَذَهَبَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ إلَى إبَاحَتِهِ، وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَشَبُّثًا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ ذَلِكَ فَتَلَتْ قَوْله تَعَالَى {قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا} الْآيَةُ، وَبِحَدِيثِ غَالِبِ بْنِ أَبْجَرَ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَمْ يَبْقَ مِنْ مَالِي إلَّا حُمَيْرَاتٌ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُلْ مِنْ سَمِينِ مَالِكِ» وَاسْتِدْلَالًا بِحِلِّ أَكْلِ الْوَحْشِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ.
أَمَّا الْآيَةُ فَلِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ حُرْمَةِ لَحْمِ الْحُمُرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ حُرْمَةُ الْأَشْيَاءِ الْمُحَرَّمَةِ الْخَارِجَةِ عَنْ مَدْلُولِهَا.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلِأَنَّهُ مُؤَوَّلٌ بِأَكْلِ ثَمَنِهَا.
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال فَلِأَنَّ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ لَا يَكُونَ الْفَرْعُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ وَالنَّصُّ النَّاهِي عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ قَائِمٌ فَبَطَلَ الْقِيَاسُ قَالَ (وَيُكْرَهُ لَحْمُ الْفَرَسِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ: لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ لِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، وَأَذِنَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ يَوْمَ خَيْبَرَ» وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لَتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} خَرَجَ مَخْرَجَ الِامْتِنَانِ وَالْأَكْلُ مِنْ أَعْلَى مَنَافِعِهَا، وَالْحَكَمُ لَا يَتْرُكُ الِامْتِنَانَ بِأَعْلَى النِّعَمِ وَيَمْتَنُّ بِأَدْنَاهَا، وَلِأَنَّهُ آلَةُ إرْهَابِ الْعَدُوِّ فَيُكْرَهُ أَكْلُهُ احْتِرَامًا لَهُ وَلِهَذَا يُضْرَبُ لَهُ بِسَهْمٍ فِي الْغَنِيمَةِ، وَلِأَنَّ فِي إبَاحَتِهِ تَقْلِيلَ آلَةِ الْجِهَادِ، وَحَدِيثُ.
جَابِرٍ مُعَارَضٌ بِحَدِيثِ خَالِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَالتَّرْجِيحُ لِلْمُحَرِّمِ.
ثُمَّ قِيلَ: الْكَرَاهَةُ عِنْدَهُ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ.
وَقِيلَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ.
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
وَأَمَّا لَبَنُهُ فَقَدْ قِيلَ: لَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي شُرْبِهِ تَقْلِيلُ آلَةِ الْجِهَادِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَيُكْرَهُ لَحْمُ الْفَرَسِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَخْ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ.
وَقَدْ اُعْتُرِضَ عَلَى قَوْلِهِ وَالْحَكِيمُ لَا يَتْرُكُ الِامْتِنَانَ بِأَعْلَى النِّعَمِ وَيَمْتَنُّ بِأَدْنَاهَا بِأَنَّهُ تَرَكَ ذِكْرَ الْحَمْلِ عَلَيْهِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَحِلَّ الْحَمْلُ عَلَيْهِ وَهُوَ فَاسِدٌ، فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي أَنَّ تَرْكَ أَعْلَى النِّعَمِ وَالذَّهَابَ إلَى مَا دُونَهُ دَلِيلُ حُرْمَةِ الْأَعْلَى وَالْحَمْلُ لَيْسَ كَذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ (وَالْأَوَّلُ) يَعْنِي كَوْنَ الْكَرَاهَةِ لِلتَّحْرِيمِ (أَصَحُّ) لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ سَأَلَ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: إذَا قُلْت فِي شَيْءٍ أَكْرَهُهُ فَمَا رَأْيُك فِيهِ؟ قَالَ التَّحْرِيمُ وَمَبْنَى اخْتِلَافِ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى اخْتِلَافِ اللَّفْظِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ: رَخَّصَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي لَحْمِ الْخَيْلِ، فَأَمَّا أَنَا فَلَا يُعْجِبُنِي أَكْلُهُ، وَهَذَا يُلَوِّحُ إلَى التَّنْزِيهِ.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ أَكْرَهُهُ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ عَلَى مَا رَوَيْنَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِ الْأَرْنَبِ) لِأَنَّ «النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَكَلَ مِنْهُ حِينَ أُهْدِيَ إلَيْهِ مَشْوِيًّا وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِالْأَكْلِ مِنْهُ»، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ السِّبَاعِ وَلَا مِنْ أَكَلَةِ الْجِيَفِ فَأَشْبَهَ الظَّبْيَ قَالَ (وَإِذَا ذُبِحَ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَهُرَ جِلْدُهُ وَلَحْمُهُ إلَّا الْآدَمِيَّ وَالْخِنْزِيرَ) فَإِنَّ الذَّكَاةَ لَا تَعْمَلُ فِيهِمَا، أَمَّا الْآدَمِيُّ فَلِحُرْمَتِهِ وَكَرَامَتِهِ وَالْخِنْزِيرُ لِنَجَاسَتِهِ كَمَا فِي الدِّبَاغِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الذَّكَاةُ لَا تُؤَثِّرُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي إبَاحَةِ اللَّحْمِ أَصْلًا.
وَفِي طَهَارَتِهِ وَطَهَارَةِ الْجِلْدِ تَبَعًا وَلَا تَبَعَ بِدُونِ الْأَصْلِ وَصَارَ كَذَبْحِ الْمَجُوسِيِّ.
وَلَنَا أَنَّ الذَّكَاةَ مُؤَثِّرَةٌ فِي إزَالَةِ الرُّطُوبَاتِ وَالدِّمَاءِ السَّيَّالَةِ وَهِيَ النَّجِسَةُ دُونَ ذَاتِ الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ، فَإِذَا زَالَتْ طَهُرَ كَمَا فِي الدِّبَاغِ.
وَهَذَا الْحُكْمُ مَقْصُودٌ فِي الْجِلْدِ كَالتَّنَاوُلِ فِي اللَّحْمِ وَفِعْلُ الْمَجُوسِيِّ إمَاتَةٌ فِي الشَّرْعِ فَلَا بُدَّ مِنْ الدِّبَاغِ، وَكَمَا يَطْهُرُ لَحْمُهُ يَطْهُرُ شَحْمُهُ، حَتَّى لَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ لَا يُفْسِدُهُ خِلَافًا لَهُ.
وَهَلْ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي غَيْرِ الْأَكْلِ؟ قِيلَ: لَا يَجُوزُ اعْتِبَارًا بِالْأَكْلِ.
وَقِيلَ يَجُوزُ كَالزَّيْتِ إذَا خَالَطَهُ وَدَكُ الْمَيْتَةِ.
وَالزَّيْتُ غَالِبٌ لَا يُؤْكَلُ وَيُنْتَفَعُ بِهِ فِي غَيْرِ الْأَكْلِ قَالَ (وَلَا يُؤْكَلُ مِنْ حَيَوَانِ الْمَاءِ إلَّا السَّمَكَ) وَقَالَ مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِإِطْلَاقِ جَمِيعِ مَا فِي الْبَحْرِ.
وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ الْخِنْزِيرَ وَالْكَلْبَ وَالْإِنْسَانَ.
وَعَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ أَطْلَقَ ذَاكَ كُلَّهُ، وَالْخِلَافُ فِي الْأَكْلِ وَالْبَيْعِ وَاحِدٌ لَهُمْ قَوْله تَعَالَى {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَقَوْلُهُ (عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْبَحْرِ «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ وَالْحِلُّ مَيْتَتُهُ») وَلِأَنَّهُ لَا دَمَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إذْ الدَّمَوِيُّ لَا يَسْكُنُ الْمَاءَ وَالْمُحَرَّمُ هُوَ الدَّمُ فَأَشْبَهَ السَّمَكَ.
قُلْنَا: قَوْله تَعَالَى {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} وَمَا سِوَى السَّمَكِ خَبِيثٌ.
«وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ دَوَاءٍ يُتَّخَذُ فِيهِ الضُّفْدَعُ»، وَنَهَى عَنْ بَيْعِ السَّرَطَانِ وَالصَّيْدُ الْمَذْكُورُ فِيمَا تَلَا مَحْمُولٌ عَلَى الِاصْطِيَادِ وَهُوَ مُبَاحٌ فِيمَا لَا يَحِلُّ، وَالْمَيْتَةُ الْمَذْكُورَةُ فِيمَا رَوَى مَحْمُولَةٌ عَلَى السَّمَكِ وَهُوَ حَلَالٌ مُسْتَثْنًى مِنْ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، أَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالسَّمَكُ وَالْجَرَادُ وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ» قَالَ (وَيُكْرَهُ أَكْلُ الطَّافِي مِنْهُ) وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّ مَيْتَةَ الْبَحْرِ مَوْصُوفَةٌ بِالْحِلِّ بِالْحَدِيثِ.
وَلَنَا مَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ.
النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ «مَا نَضَبَ عَنْهُ الْمَاءُ فَكُلُوا، وَمَا لَفَظَهُ الْمَاءُ فَكُلُوا، وَمَا طَفَا فَلَا تَأْكُلُوا» وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِثْلُ مَذْهَبِنَا، وَمَيْتَةُ الْبَحْرِ مَا لَفَظَهُ الْبَحْرُ لِيَكُونَ مَوْتُهُ مُضَافًا إلَى الْبَحْرِ لَا مَا مَاتَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ آفَةٍ.
الشَّرْحُ:
(قَوْلُهُ وَلَا يُؤْكَلُ مِنْ حَيَوَانِ الْمَاءِ إلَّا السَّمَكُ) وَاضِحٌ وَالطَّافِي اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ طَفَا الشَّيْءُ فَوْقَ الْمَاءِ يَطْفُو إذَا عَلَا، وَالْمُرَادُ مِنْ السَّمَكِ الطَّافِي الَّذِي يَمُوتُ فِي الْمَاءِ حَتْفَ أَنْفِهِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ فَيَعْلُو، وَالْجِرِّيثُ نَوْعٌ مِنْ السَّمَكِ وَالْمَارْمَاهِي كَذَلِكَ. قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِ الْجِرِّيثِ وَالْمَارْمَاهِيِّ وَأَنْوَاعِ السَّمَكِ وَالْجَرَادِ بِلَا ذَكَاةٍ) وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَحِلُّ الْجَرَادُ إلَّا أَنْ يَقْطَعَ الْآخِذُ رَأْسَهُ أَوْ يَشْوِيَهُ لِأَنَّهُ صَيْدُ الْبَرِّ، وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِقَتْلِهِ جَزَاءٌ يَلِيقُ بِهِ فَلَا يَحِلُّ إلَّا بِالْقَتْلِ كَمَا فِي سَائِرِهِ.
وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَا.
وَسُئِلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ الْجَرَادِ يَأْخُذُهُ الرَّجُلُ مِنْ الْأَرْضِ وَفِيهَا الْمَيِّتُ وَغَيْرُهُ فَقَالَ: كُلْهُ كُلَّهُ.
وَهَذَا عُدَّ مِنْ فَصَاحَتِهِ، وَدَلَّ عَلَى إبَاحَتِهِ وَإِنْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ، بِخِلَافِ السَّمَكِ إذَا مَاتَ مِنْ غَيْرِ آفَةٍ لِأَنَّا خَصَّصْنَاهُ بِالنَّصِّ الْوَارِدِ فِي الطَّافِي، ثُمَّ الْأَصْلُ فِي السَّمَكِ عِنْدَنَا أَنَّهُ إذَا مَاتَ بِآفَةٍ يَحِلُّ كَالْمَأْخُوذِ، وَإِذَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ مِنْ غَيْرِ آفَةٍ لَا يَحِلُّ كَالطَّافِي، وَتَنْسَحِبُ عَلَيْهِ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ بَيَّنَّاهَا فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى.
وَعِنْدَ التَّأَمُّلِ يَقِفُ الْمُبَرِّزُ عَلَيْهَا: مِنْهَا إذَا قَطَعَ بَعْضَهَا فَمَاتَ يَحِلُّ أَكْلُ مَا أُبِينَ وَمَا بَقِيَ.
لِأَنَّ مَوْتَهُ بِآفَةٍ وَمَا أُبِينَ مِنْ الْحَيِّ وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا فَمَيْتَتُهُ حَلَالٌ.
وَفِي الْمَوْتِ بِالْحَرِّ وَالْبَرْدِ رِوَايَتَانِ.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَا) يَعْنِي قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ» إلَخْ وَقَوْلُهُ (وَتَنْسَحِبُ عَلَيْهِ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ بَيَّنَّاهَا فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى) مِنْهَا أَنَّهُ لَوْ وَجَدَ فِي بَطْنِ السَّمَكَةِ سَمَكَةً أُخْرَى فَإِنَّهَا تُؤْكَلُ لِأَنَّ ضِيقَ الْمَكَانِ سَبَبٌ لِمَوْتِهَا، وَكَذَلِكَ إنْ قَتَلَهَا طَيْرُ الْمَاءِ وَغَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَتْ فِي جُبِّ مَاءٍ لِأَنَّ ضِيقَ الْمَكَانِ سَبَبٌ لِمَوْتِهَا، وَكَذَلِكَ إنْ جَمَعَهَا فِي حَظِيرَةٍ لَا تَسْتَطِيعُ الْخُرُوجَ مِنْهَا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهَا بِغَيْرِ صَيْدٍ فَمُتْنَ فِيهَا كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُؤْخَذُ بِغَيْرِ صَيْدٍ فَلَا خَيْرَ فِي أَكْلِهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لِمَوْتِهَا سَبَبٌ، وَإِذَا مَاتَتْ السَّمَكَةُ فِي الشَّبَكَةِ وَهِيَ لَا تَقْدِرُ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْهَا أَوْ أَكَلَ شَيْئًا أَلْقَاهُ فِي الْمَاءِ لِتَأْكُلَ مِنْهُ فَمَاتَتْ مِنْهُ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهَا، وَهُوَ فِي مَعْنَى مَا انْحَسَرَ عَنْهُ الْمَاءُ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا انْحَسَرَ عَنْهُ الْمَاءُ فَكُلْ»، وَقَوْلُهُ (وَفِي الْمَوْتِ بِالْحَرِّ وَالْبَرْدِ رِوَايَتَانِ) إحْدَاهُمَا أَنَّهَا تُؤْكَلُ لِأَنَّهُ مَاتَ بِسَبَبٍ حَادِثٍ فَكَانَ كَمَا لَوْ أَلْقَاهُ الْمَاءُ عَلَى الْيَبَسِ، وَالْأُخْرَى أَنَّهَا لَا تُؤْكَلُ لِأَنَّ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ صِفَتَانِ مِنْ صِفَاتِ الزَّمَانِ وَلَيْسَتَا مِنْ أَسْبَابِ الْمَوْتِ فِي الْغَالِبِ، وَأَطْلَقَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الرِّوَايَتَيْنِ وَلَمْ يَنْسِبْهُمَا لِأَحَدٍ.
وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَحِلُّ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَحِلُّ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

.كتاب الأضحية:

قَالَ (الْأُضْحِيَّةُ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ حُرٍّ مُسْلِمٍ مُقِيمٍ مُوسِرٍ فِي يَوْمِ الْأَضْحَى عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ وَلَدِهِ الصِّغَارِ) أَمَّا الْوُجُوبُ فَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَالْحَسَنِ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
وَعَنْهُ أَنَّهَا سُنَّةٌ، ذَكَرَهُ فِي الْجَوَامِعِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَاجِبَةٌ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَهَكَذَا ذَكَرَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ الِاخْتِلَافَ.
وَجْهُ السُّنَّةِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ مِنْكُمْ فَلَا يَأْخُذْ مِنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ شَيْئًا» وَالتَّعْلِيقُ بِالْإِرَادَةِ يُنَافِي الْوُجُوبَ، وَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَى الْمُقِيمِ لَوَجَبَتْ عَلَى الْمُسَافِرِ لِأَنَّهُمَا لَا يَخْتَلِفَانِ فِي الْوَظَائِفِ الْمَالِيَّةِ كَالزَّكَاةِ وَصَارَ كَالْعَتِيرَةِ.
وَوَجْهُ الْوُجُوبِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ وَجَدَ سَعَةً وَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا» وَمِثْلُ هَذَا الْوَعِيدِ لَا يَلْحَقُ بِتَرْكِ غَيْرِ الْوَاجِبِ، وَلِأَنَّهَا قُرْبَةٌ يُضَافُ إلَيْهَا وَقْتُهَا.
يُقَالُ يَوْمَ الْأَضْحَى، وَذَلِكَ يُؤْذِنُ بِالْوُجُوبِ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ لِلِاخْتِصَاصِ وَهُوَ بِالْوُجُودِ، وَالْوُجُوبُ هُوَ الْمُفْضِي إلَى الْوُجُودِ ظَاهِرًا بِالنَّظَرِ إلَى الْجِنْسِ، غَيْرَ أَنَّ الْأَدَاءَ يَخْتَصُّ بِأَسْبَابٍ يَشُقُّ عَلَى الْمُسَافِرِ اسْتِحْضَارُهَا وَيَفُوتُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْجُمُعَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْإِرَادَةِ فِيمَا رُوِيَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا هُوَ ضِدُّ السَّهْوِ لَا التَّخْيِيرُ.
وَالْعَتِيرَةُ مَنْسُوخَةٌ، وَهِيَ شَاةٌ تُقَامُ فِي رَجَبٍ عَلَى مَا قِيلَ، وَإِنَّمَا اخْتَصَّ الْوُجُوبُ بِالْحُرِّيَّةِ لِأَنَّهَا وَظِيفَةٌ مَالِيَّةٌ لَا تَتَأَدَّى إلَّا بِالْمِلْكِ، وَالْمَالِكُ هُوَ الْحُرُّ؛ وَبِالْإِسْلَامِ لِكَوْنِهَا قُرْبَةً، وَبِالْإِقَامَةِ لِمَا بَيَّنَّا، وَالْيَسَارِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ اشْتِرَاطِ السَّعَةِ؛ وَمِقْدَارُهُ مَا يَجِبُ بِهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ وَقَدْ مَرَّ فِي الصَّوْمِ، وَبِالْوَقْتِ وَهُوَ يَوْمُ الْأَضْحَى لِأَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِهِ، وَسَنُبَيِّنُ مِقْدَارَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَتَجِبُ عَنْ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ أَصْلٌ فِي الْوُجُوبِ عَلَيْهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَعَنْ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى نَفْسِهِ فَيَلْحَقُ بِهِ كَمَا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ.
وَهَذِهِ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا تَجِبُ عَنْ وَلَدِهِ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، بِخِلَافِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ لِأَنَّ السَّبَبَ هُنَاكَ رَأْسٌ يَمُونُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ وَهُمَا مَوْجُودَانِ فِي الصَّغِيرِ وَهَذِهِ قُرْبَةٌ مَحْضَةٌ.
وَالْأَصْلُ فِي الْقُرَبِ أَنْ لَا تَجِبَ عَلَى الْغَيْرِ بِسَبَبِ الْغَيْرِ وَلِهَذَا لَا تَجِبُ عَنْ عَبْدِهِ وَإِنْ كَانَ يَجِبُ عَنْهُ صَدَقَةُ فِطْرِهِ، وَإِنْ كَانَ لِلصَّغِيرِ مَالٌ يُضَحِّي عَنْهُ أَبُوهُ أَوْ وَصِيُّهُ مِنْ مَالِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ: يُضَحِّي مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لَا مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ، فَالْخِلَافُ فِي هَذَا كَالْخِلَافِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ.
وَقِيلَ لَا تَجُوزُ التَّضْحِيَةُ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ، فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، لِأَنَّ هَذِهِ الْقُرْبَةَ تَتَأَدَّى بِالْإِرَاقَةِ وَالصَّدَقَةُ بَعْدَهَا تَطَوُّعٌ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْكُلَ كُلَّهُ.
وَالْأَصَحُّ أَنْ يُضَحِّيَ مِنْ مَالِهِ وَيَأْكُلَ مِنْهُ مَا أَمْكَنَهُ وَيَبْتَاعَ بِمَا بَقِيَ مَا يَنْتَفِعُ بِعَيْنِهِ.
الشَّرْحُ:
(كِتَابُ الْأُضْحِيَّةِ) أَوْرَدَ الْأُضْحِيَّةَ عَقِيبَ الذَّبَائِحِ لِأَنَّ التَّضْحِيَةَ ذَبْحٌ خَاصٌّ وَالْخَاصُّ بَعْدَ الْعَامِّ، وَالْأُضْحِيَّةُ فِي اللُّغَةِ: اسْمُ مَا يُذْبَحُ فِي يَوْمِ الْأُضْحِيَّةِ وَهِيَ أُفْعُولَةٌ وَكَانَ أَصْلُهُ أُضْحُويَةٌ اجْتَمَعَتْ الْوَاوُ وَالْيَاءُ وَسَبَقَتْ إحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ فَقُلِبَتْ الْوَاوُ يَاءً وَأُدْغِمَتْ الْيَاءُ فِي الْيَاءِ وَكُسِرَتْ الْحَاءُ لِتُنَاسِبَ الْيَاءَ، وَيُجْمَعُ عَلَى أَضَاحِيٍّ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: وَفِيهَا أَرْبَعُ لُغَاتٍ: أُضْحِيَّةٌ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَبِكَسْرِهَا وَضَحِيَّةٌ بِفَتْحِ الضَّادِ عَلَى وَزْنِ فَعِيلَةٍ كَهَدِيَّةٍ وَهَدَايَا وَأَضْحَاةٌ وَجَمْعُهُ أَضْحَى كَأَرْطَاةَ وَأَرْطَى وَقَالَ الْفَرَّاءُ الْأَضْحَى يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ.
وَفِي الشَّرِيعَةِ: عِبَارَةٌ عَنْ ذَبْحِ حَيَوَانٍ مَخْصُوصٍ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ يَوْمُ الْأَضْحَى.
وَشَرَائِطُهَا سَتُذْكَرُ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ.
وَسَبَبُهَا الْوَقْتُ وَهُوَ أَيَّامُ النَّحْرِ، لِأَنَّ السَّبَبَ إنَّمَا يُعْرَفُ بِنِسْبَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ وَتَعَلُّقِهِ بِهِ، إذْ الْأَصْلُ فِي إضَافَةِ الشَّيْءِ إلَى الشَّيْءِ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا، وَكَذَا إذَا لَازَمَهُ فَتَكَرَّرَ بِتَكَرُّرِهِ كَمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ.
ثُمَّ إنَّ الْأُضْحِيَّةَ تَكَرَّرَتْ بِتَكَرُّرِ الْوَقْتِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَقَدْ أُضِيفَ السَّبَبُ إلَى حُكْمِهِ.
يُقَالُ يَوْمُ الْأَضْحَى فَكَانَ كَقَوْلِهِمْ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَيَوْمُ الْعِيدِ، وَلَا نِزَاعَ فِي سَبَبِيَّةِ ذَلِكَ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى سَبَبِيَّةِ الْوَقْتِ امْتِنَاعُ التَّقْدِيمِ عَلَيْهِ كَامْتِنَاعِ تَقْدِيمِ الصَّلَاةِ عَلَى وَقْتِهَا، لَا يُقَالُ: لَوْ كَانَ الْوَقْتُ سَبَبًا لَوَجَبَ عَلَى الْفَقِيرِ لِتَحَقُّقِ السَّبَبِ، لِأَنَّ الْغِنَى شَرْطُ الْوُجُوبِ وَالْفَرْضَ عَدَمُهُ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ بِالْقُدْرَةِ الْمُمْكِنَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُوسِرَ إذَا اشْتَرَى شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ فِي أَوَّلِ يَوْمِ النَّحْرِ وَلَمْ يُضَحِّ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ ثُمَّ أَفَاتَهُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِعَيْنِهَا أَوْ بِقِيمَتِهَا وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ الْأُضْحِيَّةُ، فَلَوْ كَانَتْ بِالْقُدْرَةِ الْمُيَسَّرَةِ لَكَانَ دَوَامُهَا شَرْطًا كَمَا فِي الزَّكَاةِ وَالْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ حَيْثُ تَسْقُطُ بِهَلَاكِ النِّصَابِ وَالْخَارِجِ وَاصْطِلَامُ الزَّرْعِ آفَةٌ.
لَا يُقَالُ: أَدْنَى مَا يَتَمَكَّنُ بِهِ الْمَرْءُ مِنْ إقَامَتِهَا تَمْلِكُ قِيمَةِ مَا يَصْلُحُ لِلْأُضْحِيَّةِ وَلَمْ تَجِبْ إلَّا بِمِلْكِ النِّصَابِ فَدَلَّ أَنَّ وُجُوبَهَا بِالْقُدْرَةِ الْمُيَسَّرَةِ، لِأَنَّ اشْتِرَاطَ النِّصَابِ لَا يُنَافِي وُجُوبَهَا بِالْمُمْكِنَةِ كَمَا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَهَذَا لِأَنَّهَا وَظِيفَةٌ مَالِيَّةٌ نَظَرًا إلَى شَرْطِهَا وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ فَيُشْتَرَطُ فِيهَا الْغِنَى كَمَا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ لَا يُقَالُ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ التَّمْلِيكُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْقُرَبَ الْمَالِيَّةَ قَدْ تَحْصُلُ بِالْإِتْلَافِ كَالْإِعْتَاقِ، وَالْمُضَحِّي إنْ تَصَدَّقَ بِاللَّحْمِ فَقَدْ حَصَلَ النَّوْعَانِ: أَعْنِي التَّمْلِيكَ وَالْإِتْلَافَ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ، وَإِنْ لَمْ يَتَصَدَّقْ حَصَلَ الْأَخِيرُ.
وَأَمَّا حُكْمُهَا فَالْخُرُوجُ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ فِي الدُّنْيَا وَالْوُصُولُ إلَى الثَّوَابِ بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْعُقْبَى قَالَ (الْأُضْحِيَّةُ وَاجِبَةٌ إلَخْ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ، وَالْجَوَامِعُ اسْمُ كِتَابٍ فِي الْفِقْهِ صَنَّفَهُ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ فِي الْوَظَائِفِ الْمَالِيَّةِ احْتِرَازًا عَنْ الْبَدَنِيَّةِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَإِنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ فِيهَا لِأَنَّ الْمُسَافِرَ يَلْحَقُهُ الْمَشَقَّةُ فِي أَدَائِهَا.
وَالْعَتِيرَةُ ذَبِيحَةٌ كَانَتْ تُذْبَحُ فِي رَجَبٍ يَتَقَرَّبُ بِهَا أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْمُسْلِمُونَ فِي الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَ.
قَوْلُهُ وَمِثْلُ هَذَا الْوَعِيدِ لَا يَلْحَقُ بِتَرْكِ غَيْرِ الْوَاجِبِ اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ تَرَكَ سُنَّتِي لَمْ تَنَلْهُ شَفَاعَتِي».
أُجِيبَ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّرْكِ اعْتِقَادًا أَوْ التَّرْكِ أَصْلًا، فَإِنَّ تَرْكَ السُّنَّةِ أَصْلًا حَرَامٌ قَدْ تَجِبُ الْمُقَاتَلَةُ بِهِ، لِأَنَّ فِيهِ تَرْكَ الْأَذَانِ وَلَا مُقَاتَلَةَ فِي غَيْرِ الْحَرَامِ، وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الْإِضَافَةَ لِلِاخْتِصَاصِ) ظَاهِرٌ، وَقَوْلُهُ (وَهُوَ) أَيْ الِاخْتِصَاصُ (بِالْوُجُودِ) لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ لَا يَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِهِ فَضْلًا عَنْ الِاخْتِصَاصِ (وَالْوُجُوبُ هُوَ الْمُفْضِي إلَى الْوُجُودِ ظَاهِرًا بِالنَّظَرِ إلَى الْجِنْسِ) لِجَوَازِ أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَى تَرْكِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ السُّنَّةَ أَيْضًا تُفْضِي إلَى الْوُجُودِ ظَاهِرًا بِالنَّظَرِ إلَى الْجِنْسِ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى تَرْكِ السُّنَّةِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْوُجُوبَ يُفْضِي إلَيْهِ لِاسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ بِتَرْكِهِ، وَقَوْلُهُ (غَيْرَ أَنَّ الْأَدَاءَ اخْتَصَّ بِأَسْبَابٍ) أَيْ بِشَرَائِطَ يَشُقُّ عَلَى الْمُسَافِرِ اسْتِحْضَارُهَا وَهِيَ تَحْصِيلُ الشَّاةِ وَالِاشْتِغَالُ بِذَبْحِهَا فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ وَقَدْ تَعَيَّنَ لَهُ السَّفَرُ قَبْلَ ذَلِكَ وَفِي ذَلِكَ مَشَقَّةٌ وَالسَّفَرُ مُؤَثِّرٌ فِي التَّخْفِيفِ؛ أَلَا تَرَى إلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ عِنْدَ زِيَادَةِ ثَمَنِ الْمَاءِ الَّتِي لَا تَبْلُغُ قِيمَةَ الْأُضْحِيَّةِ وَلَا عُشْرَهَا فَأَوْلَى أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ وُجُوبُ الْأُضْحِيَّةِ وَهُوَ أَقْوَى حَرَجًا مِنْ زِيَادَةِ ثَمَنِ الْمَاءِ.
وَقَوْلُهُ (وَالْمُرَادُ بِالْإِرَادَةِ) جَوَابٌ عَمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ مِنْكُمْ فَكَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنْ أَرَادَ مِنْ قَصْدِ التَّضْحِيَةِ الَّتِي هِيَ وَاجِبَةٌ، كَقَوْلِ مَنْ يَقُولُ مَنْ أَرَادَ الصَّلَاةَ فَلْيَتَوَضَّأْ.
قَوْلُهُ (وَالْعَتِيرَةُ) جَوَابٌ عَمَّا اسْتَشْهَدُوا بِهِ.
وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا قِيلَ) يُشِيرُ إلَى أَنَّ فِي تَفْسِيرِهَا اخْتِلَافًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا يُوَافِقُ تَفْسِيرَ الْمُصَنِّفِ وَذَكَرَ فِي الْإِيضَاحِ أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَمَّا إذَا وَلَدَتْ النَّاقَةُ أَوْ الشَّاةُ وَذَبَحَ أَوَّلَ وَلَدِهَا فَأَكَلَ وَأَطْعَمَ، وَهِيَ مَنْسُوخَةٌ بِالْأُضْحِيَّةِ.
وَعُورِضَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «كُتِبَتْ عَلَيَّ الْأُضْحِيَّةُ وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَيْكُمْ» وَقَوْلُهُ (عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «ضَحُّوا فَإِنَّهَا سُنَّةُ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ») وَبِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَا لَا يُضَحِّيَانِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ مَخَافَةَ أَنْ يَرَاهَا النَّاسُ وَاجِبَةً.
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْمَكْتُوبَةَ الْفَرْضُ وَنَحْنُ نَقُولُ بِأَنَّهَا غَيْرُ فَرْضٍ وَإِنَّمَا هِيَ وَاجِبَةٌ.
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّهُ مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ «ضَحُّوا» أَمْرٌ وَهُوَ لِلْوُجُوبِ، وَقَوْلُهُ «فَإِنَّهَا سُنَّةُ أَبِيكُمْ» أَيْ طَرِيقَتُهُ، فَالسُّنَّةُ هِيَ الطَّرِيقَةُ الْمَسْلُوكَةُ فِي الدِّينِ.
وَعَنْ الثَّالِثِ بِأَنَّهُمَا كَانَ لَا يُضَحِّيَانِ فِي حَالَةِ الْإِعْسَارِ مَخَافَةَ أَنْ يَرَاهَا النَّاسُ وَاجِبَةً عَلَى الْمُعْسِرِينَ.
وَقَوْلُهُ (وَإِنَّمَا اخْتَصَّ الْوُجُوبُ بِالْحُرِّيَّةِ) بَيَانٌ لِلشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ فِي أَوَّلِ الْبَابِ.
وَقَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ غَيْرَ أَنَّ الْأَدَاءَ يَخْتَصُّ بِأَسْبَابٍ يَشُقُّ عَلَى الْمُسَافِرِ اسْتِحْضَارُهَا.
قَوْلُهُ (لِمَا رَوَيْنَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ «مَنْ وَجَدَ سَعَةً وَلَمْ يُضَحِّ» الْحَدِيثُ.
وَقَوْلُهُ (سَنُبَيِّنُ مِقْدَارَهُ) أَيْ مِقْدَارَ الْوَقْتِ.
وَقَوْلُهُ (لَا تَجِبُ عَنْ وَلَدِهِ) يَعْنِي سَوَاءً كَانَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالُهُ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ.
وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهَا تَجِبُ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ (وَالْأَصَحُّ أَنْ يُضَحِّيَ مِنْ مَالِهِ) أَيْ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ (وَيَأْكُلَ) أَيْ الصَّغِيرُ مِنْ الْأُضْحِيَّةِ الَّتِي هِيَ مِنْ مَالِهِ (مَا أَمْكَنَهُ وَيَبْتَاعَ بِمَا بَقِيَ مَا يَنْتَفِعُ بِعَيْنِهِ) كَالْغِرْبَالِ وَالْمُنْخُلِ كَمَا فِي الْجِلْدِ وَهُوَ اخْتِيَارُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ، وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
وَقِيلَ ذَلِكَ يَصِحُّ فِي جِلْدِ الْأُضْحِيَّةِ مِنْ غَيْرِ خِلَافِ أَحَدٍ، وَأَمَّا فِي لَحْمِهَا فَلَيْسَ لَهُ إلَّا أَنْ يُطْعِمَ أَوْ يَأْكُلَ. قَالَ (وَيَذْبَحُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَاةً أَوْ يَذْبَحُ بَقَرَةً أَوْ بَدَنَةً عَنْ سَبْعَةٍ) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَجُوزَ إلَّا عَنْ وَاحِدٍ، لِأَنَّ الْإِرَاقَةَ وَاحِدَةٌ وَهِيَ الْقُرْبَةُ، إلَّا أَنَّا تَرَكْنَاهُ بِالْأَثَرِ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ «نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ».
وَلَا نَصَّ فِي الشَّاةِ، فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ.
وَتَجُوزُ عَنْ سِتَّةٍ أَوْ خَمْسَةٍ أَوْ ثَلَاثَةٍ، ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأَصْلِ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ عَنْ السَّبْعَةِ فَعَمَّنْ دُونَهُمْ أَوْلَى، وَلَا تَجُوزُ عَنْ ثَمَانِيَةٍ أَخْذًا بِالْقِيَاسِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ وَكَذَا إذَا كَانَ نَصِيبُ أَحَدِهِمْ أَقَلَّ مِنْ السُّبُعِ، وَلَا تَجُوزُ عَنْ الْكُلِّ لِانْعِدَامِ وَصْفِ الْقُرْبَةِ فِي الْبَعْضِ، وَسَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَالَ مَالِكٌ: تَجُوزُ عَنْ أَهْلِ بَيْتٍ وَاحِدٍ وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ سَبْعَةٍ، وَلَا تَجُوزُ عَنْ أَهْلِ بَيْتَيْنِ وَإِنْ كَانُوا أَقَلَّ مِنْهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «عَلَى كُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ فِي كُلِّ عَامٍ أَضْحَاةٌ وَعَتِيرَةٌ» قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَيِّمُ أَهْلِ الْبَيْتِ لِأَنَّ الْيَسَارَ لَهُ يُؤَيِّدُهُ مَا يُرْوَى: «عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي كُلِّ عَامٍ أَضْحَاةٌ وَعَتِيرَةٌ» وَلَوْ كَانَتْ الْبَدَنَةُ بَيْنَ اثْنَيْنِ نِصْفَيْنِ تَجُوزُ فِي الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ ثَلَاثَةُ الْأَسْبَاعِ جَازَ نِصْفُ السُّبُعِ تَبَعًا، وَإِذَا جَازَ عَلَى الشَّرِكَةِ فَقِسْمَةُ اللَّحْمِ بِالْوَزْنِ لِأَنَّهُ مَوْزُونٌ، وَلَوْ اقْتَسَمُوا جُزَافًا لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا كَانَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْأَكَارِعِ وَالْجِلْدِ اعْتِبَارًا بِالْبَيْعِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَيَذْبَحُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَاةً) كَلَامُهُ وَاضِحٌ.
قَوْلُهُ (وَكَذَا إذَا كَانَ نَصِيبُ أَحَدِهِمْ أَقَلَّ مِنْ السُّبُعِ لَا يَجُوزُ) كَمَا إذَا مَاتَ وَتَرَكَ امْرَأَةً وَابْنًا وَبَقَرَةً فَضَحَّيَا بِهَا يَوْمَ الْعِيدِ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ نَصِيبَ الْمَرْأَةِ أَقَلُّ مِنْ السُّبُعِ فَلَمْ يَجُزْ نَصِيبُهَا وَلَا نَصِيبُ الِابْنِ أَيْضًا.
وَقَوْلُهُ (يَجُوزُ فِي الْأَصَحِّ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ إنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَةُ أَسْبَاعٍ وَنِصْفُ سُبُعٍ وَنِصْفُ السُّبُعُ لَا يَجُوزُ فِي الْأُضْحِيَّةِ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ الْبَعْضُ لَمْ يَجُزْ الْبَاقِي.
وَجْهُ الْأَصَحِّ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ وَالصَّدْرُ الشَّهِيدُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَقَوْلُهُ (إلَّا إذَا كَانَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْأَكَارِعِ وَالْجِلْدِ) بِأَنْ يَكُونَ مَعَ أَحَدِهِمَا بَعْضُ اللَّحْمِ مَعَ الْأَكَارِعِ وَمَعَ الْآخَرِ الْبَعْضُ مَعَ الْجِلْدِ صَرْفًا لِلْجِنْسِ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ.
وَقَوْلُهُ (اعْتِبَارًا بِالْبَيْعِ) لِأَنَّ فِي الْقِسْمَةِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ فَلَمْ يَجُزْ مُجَازَفَةٌ عِنْدَ وُجُودِ الْقَدْرِ وَالْجِنْسِ. قَالَ (وَلَوْ اشْتَرَى بَقَرَةً يُرِيدُ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ ثُمَّ اشْتَرَكَ فِيهَا سِتَّةٌ مَعَهُ جَازَ اسْتِحْسَانًا) وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لِأَنَّهُ أَعَدَّهَا لِلْقُرْبَةِ فَيُمْنَعُ عَنْ بَيْعِهَا تَمَوُّلًا وَالِاشْتِرَاكُ هَذِهِ صِفَتُهُ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ قَدْ يَجِدُ بَقَرَةً سَمِينَةً يَشْتَرِيهَا وَلَا يَظْفَرُ بِالشُّرَكَاءِ وَقْتَ الْبَيْعِ، وَإِنَّمَا يَطْلُبُهُمْ بَعْدَهُ فَكَانَتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ مَاسَّةً فَجَوَّزْنَاهُ دَفْعًا لِلْحَرَجِ، وَقَدْ أَمْكَنَ لِأَنَّ بِالشِّرَاءِ لِلتَّضْحِيَةِ لَا يَمْتَنِعُ الْبَيْعُ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ الشِّرَاءِ لِيَكُونَ أَبْعَدَ عَنْ الْخِلَافِ، وَعَنْ صُورَةِ الرُّجُوعِ فِي الْقُرْبَةِ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُكْرَهُ الِاشْتِرَاكُ بَعْدَ الشِّرَاءِ لِمَا بَيَّنَّا.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَقَدْ أَمْكَنَ) يَعْنِي دَفْعَ الْحَرَجِ لِأَنَّ بِالشِّرَاءِ لِلتَّضْحِيَةِ لَا يَمْتَنِعُ الْبَيْعُ، وَلِهَذَا لَوْ اشْتَرَى أُضْحِيَّةً ثُمَّ بَاعَهَا وَاشْتَرَى مِثْلَهُ لَمْ يَكُنْ بَأْسٌ.
وَقَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّا) أَرُدُّ بِهِ قَوْلَهُ لِأَنَّهُ أَعَدَّهَا لِلْقُرْبَةِ فَيَمْتَنِعُ عَنْ بَيْعِهَا إلَى آخِرِهِ. قَالَ (وَلَيْسَ عَلَى الْفَقِيرِ وَالْمُسَافِرِ أُضْحِيَّةٌ) لِمَا بَيَّنَّا.
وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ كَانَا لَا يُضَحِّيَانِ إذَا كَانَا مُسَافِرَيْنِ، وَعَنْ عَلِيٍّ: وَلَيْسَ عَلَى الْمُسَافِرِ جُمُعَةٌ وَلَا أُضْحِيَّةٌ قَالَ (وَوَقْتُ الْأُضْحِيَّةِ يَدْخُلُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ)، إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَهْلِ الْأَمْصَارِ الذَّبْحُ حَتَّى يُصَلِّيَ الْإِمَامُ الْعِيدَ، فَأَمَّا أَهْلُ السَّوَادِ فَيَذْبَحُونَ بَعْدَ الْفَجْرِ.
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ ذَبَحَ شَاةً قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيُعِدْ ذَبِيحَتَهُ، وَمَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَقَدْ تَمَّ نُسُكُهُ وَأَصَابَ سُنَّةَ الْمُسْلِمِينَ» وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا فِي هَذَا الْيَوْمِ الصَّلَاةُ ثُمَّ الْأُضْحِيَّةُ» غَيْرُ أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ فِي حَقِّ مَنْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَهُوَ الْمِصْرِيُّ دُونَ أَهْلِ السَّوَادِ، لِأَنَّ التَّأْخِيرَ لِاحْتِمَالِ التَّشَاغُلِ بِهِ عَنْ الصَّلَاةِ، وَلَا مَعْنَى لِلتَّأْخِيرِ فِي حَقِّ الْقَرَوِيِّ وَلَا صَلَاةَ عَلَيْهِ، وَمَا رَوَيْنَاهُ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي نَفْيِهِمَا الْجَوَازَ بَعْدَ الصَّلَاةِ قَبْلَ نَحْرِ الْإِمَامِ، ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ مَكَانُ الْأُضْحِيَّةِ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ فِي السَّوَادِ وَالْمُضَحِّي فِي الْمِصْرِ يَجُوزُ كَمَا انْشَقَّ الْفَجْرُ، وَلَوْ كَانَ عَلَى الْعَكْسِ لَا يَجُوزُ إلَّا بَعْدَ الصَّلَاةِ.
وَحِيلَةُ الْمِصْرِيِّ إذَا أَرَادَ التَّعْجِيلَ أَنْ يَبْعَثَ بِهَا إلَى خَارِجِ الْمِصْرِ فَيُضَحِّيَ بِهَا كَمَا طَلَعَ الْفَجْرُ، لِأَنَّهَا تُشْبِهُ الزَّكَاةَ مِنْ حَيْثُ أَنَّهَا تَسْقُطُ بِهَلَاكِ الْمَالِ قَبْلَ مُضِيِّ أَيَّامِ النَّحْرِ كَالزَّكَاةِ بِهَلَاكِ النِّصَابِ فَيُعْتَبَرُ فِي الصَّرْفِ مَكَانُ الْمَحَلِّ لَا مَكَانُ الْفَاعِلِ اعْتِبَارًا بِهَا، بِخِلَافِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ لِأَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِهَلَاكِ الْمَالِ بَعْدَمَا طَلَعَ الْفَجْرُ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَا رَوَيْنَاهُ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ «وَمَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَقَدْ تَمَّ نُسُكُهُ وَأَصَابَ سُنَّةَ الْمُسْلِمِينَ» فَإِنَّهُ بِإِطْلَاقِهِ يَتَنَاوَلُ مَا قَبْلَ نَحْرِ الْإِمَامِ وَمَا بَعْدَهُ. وَلَوْ ضَحَّى بَعْدَمَا صَلَّى أَهْلُ الْمَسْجِدِ وَلَمْ يُصَلِّ أَهْلُ الْجَبَّانَةِ أَجْزَأَهُ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّهَا صَلَاةٌ مُعْتَبَرَةٌ، حَتَّى لَوْ اكْتَفَوْا بِهَا أَجْزَأَتْهُمْ وَكَذَا عَلَى عَكْسِهِ.
وَقِيلَ هُوَ جَائِزٌ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ ضَحَّى بَعْدَمَا صَلَّى أَهْلُ الْمَسْجِدِ) مَعْنَاهُ أَنْ يَخْرُجَ الْإِمَامُ بِالنَّاسِ إلَى الْجَبَّانَةِ وَيَسْتَخْلِفَ مَنْ يُصَلِّي بِالضَّعَفَةِ فِي الْجَامِعِ هَكَذَا فَعَلَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ قَدِمَ الْكُوفَةَ وَقَوْلُهُ (أَجْزَأَهُ اسْتِحْسَانًا) يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قِيَاسًا، لِأَنَّ اعْتِبَارَ جَانِبِ أَهْلِ الْجَبَّانَةِ يَمْنَعُ الْجَوَازَ وَاعْتِبَارَ جَانِبِ أَهْلِ الْمَسْجِدِ يُجَوِّزُ، وَفِي الْعِبَادَاتِ يُؤْخَذُ بِالِاحْتِيَاطِ.
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ.
وَقَوْلُهُ (وَقِيلَ وَهُوَ جَائِزٌ) أَيْ الْعَكْسُ جَائِزٌ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا.
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَسْنُونَ فِي الْعِيدِ هُوَ الْخُرُوجُ إلَى الْجَبَّانَةِ، وَأَهْلُ الْجَبَّانَةِ هُمْ الْأَصْلُ وَقَدْ صَلَّوْا فَيَجُوزُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا قَالَ (وَهِيَ جَائِزَةٌ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ: يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ كُلُّهَا أَيَّامُ ذَبْحٍ» وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: أَيَّامُ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ أَفْضَلُهَا أَوَّلُهَا وَقَدْ قَالُوهُ سَمَاعًا لِأَنَّ الرَّأْيَ لَا يَهْتَدِي إلَى الْمَقَادِيرِ، وَفِي الْأَخْبَارِ تَعَارُضٌ فَأَخَذْنَا بِالْمُتَيَقَّنِ وَهُوَ الْأَقَلُّ، وَأَفْضَلُهَا أَوَّلُهَا كَمَا قَالُوا وَلِأَنَّ فِيهِ مُسَارَعَةً إلَى أَدَاءِ الْقُرْبَةِ وَهُوَ الْأَصْلُ إلَّا لِمُعَارِضٍ.
وَيَجُوزُ الذَّبْحُ فِي لَيَالِيِهَا إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِاحْتِمَالِ الْغَلَطِ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَأَيَّامُ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ ثَلَاثَةٌ، وَالْكُلُّ يَمْضِي بِأَرْبَعَةٍ أَوَّلُهَا نَحْرٌ لَا غَيْرُ وَآخِرُهَا تَشْرِيقٌ لَا غَيْرُ، وَالْمُتَوَسِّطَانِ نَحْرٌ وَتَشْرِيقٌ، وَالتَّضْحِيَةُ فِيهَا أَفْضَلُ مِنْ التَّصَدُّقِ بِثَمَنِ الْأُضْحِيَّةِ لِأَنَّهَا تَقَعُ وَاجِبَةً أَوْ سُنَّةً، وَالتَّصَدُّقُ تَطَوُّعٌ مَحْضٌ فَتَفْضُلُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا تَفُوتُ بِفَوَاتِ وَقْتِهَا، وَالصَّدَقَةُ يُؤْتَى بِهَا فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا فَنَزَلَتْ مَنْزِلَةَ الطَّوَافِ وَالصَّلَاةِ فِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَهِيَ جَائِزَةٌ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إلَخْ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ.
قَوْلُهُ (وَيَجُوزُ الذَّبْحُ فِي لَيَالِيهَا) أَيْ فِي لَيَالِي أَيَّامِ النَّحْرِ الْمُرَادُ بِهَا اللَّيْلَتَانِ الْمُتَوَسِّطَانِ لَا غَيْرُ، فَلَا تَدْخُلُ اللَّيْلَةُ الْأُولَى وَهِيَ لَيْلَةُ الْعَاشِرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَلَا لَيْلَةُ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، لِأَنَّ وَقْتَ الْأُضْحِيَّةِ يَدْخُلُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ، وَيَفُوتُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ الْيَوْمِ الثَّانِيَ عَشَرَ، فَلَا يَجُوزُ فِي لَيْلَةِ النَّحْرِ أَلْبَتَّةَ لِوُقُوعِهَا قَبْلَ وَقْتِهَا وَلَا فِي لَيْلَةِ التَّشْرِيقِ الْمَحْضِ لِخُرُوجِهِ، وَإِنَّمَا جَازَتْ فِي اللَّيْلِ لِأَنَّ اللَّيَالِيَ تَبَعٌ لِلْأَيَّامِ، وَأَمَّا الْكَرَاهَةُ فَلِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ.
وَقَوْلُهُ (وَالتَّضْحِيَةُ فِيهَا) أَيْ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ (أَفْضَلُ مِنْ التَّصَدُّقِ بِثَمَنِ الْأُضْحِيَّةِ) أَمَّا فِي حَقِّ الْمُوسِرِ فَلِأَنَّهَا تَقَعُ وَاجِبَةً فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَوْ سُنَّةً فِي أَحَدِ قَوْلَيْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَالتَّصَدُّقُ بِالثَّمَنِ تَطَوُّعٌ مَحْضٌ، وَلَا شَكَّ فِي أَفْضَلِيَّةِ الْوَاجِبِ أَوْ السُّنَّةِ عَلَى التَّطَوُّعِ، وَأَمَّا فِي حَقِّ الْمُعْسِرِ فَلِأَنَّ فِيهَا جَمْعًا بَيْنَ التَّقَرُّبِ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ، وَالتَّصَدُّقُ وَالْإِرَاقَةُ قُرْبَةٌ تَفُوتُ بِفَوَاتِ هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْقَرْيَتَيْنِ أَفْضَلُ، وَهَذَا الدَّلِيلُ يَشْمَلُ الْغَنِيَّ وَالْفَقِيرَ وَتَشْبِيهُهُ بِالصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ الطَّوَافَ فِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ لِفَوَاتِهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ الَّتِي لَا تَفُوتُ، بِخِلَافِ الْمَكِّيِّ فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِي حَقِّهِ أَفْضَلُ (وَلَوْ لَمْ يُضَحِّ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ إنْ كَانَ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ كَانَ فَقِيرًا وَقَدْ اشْتَرَى الْأُضْحِيَّةَ تَصَدَّقَ بِهَا حَيَّةً وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا تَصَدَّقَ بِقِيمَةِ شَاةٍ اشْتَرَى أَوْ لَمْ يَشْتَرِ) لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْغَنِيِّ.
وَتَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ بِالشِّرَاءِ بِنِيَّةِ التَّضْحِيَةِ عِنْدَنَا، فَإِذَا فَاتَ الْوَقْتُ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ إخْرَاجًا لَهُ عَنْ الْعُهْدَةِ، كَالْجُمُعَةِ تُقْضَى بَعْدَ فَوَاتِهَا ظُهْرًا، وَالصَّوْمِ بَعْدَ الْعَجْزِ فِدْيَةً.
الشَّرْحُ:
(لَوْ لَمْ يُضَحِّ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ إنْ كَانَ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ) بِأَنْ عَيَّنَ شَاةً فَقَالَ: لِلَّهِ عَلِيَّ أَنْ أُضَحِّيَ بِهَذِهِ الشَّاةِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُوجِبُ فَقِيرًا أَوْ غَنِيًّا (أَوْ كَانَ) الْمُضَحِّي (فَقِيرًا وَقَدْ اشْتَرَى شَاةً بِنِيَّةِ الْأُضْحِيَّةِ تَصَدَّقَ بِهَا حَيَّةً وَإِنْ كَانَ) مَنْ لَمْ يُضَحِّ (غَنِيًّا) وَلَمْ يُوجِبْ عَلَى نَفْسِهِ شَاةً بِعَيْنِهَا (تَصَدَّقَ بِقِيمَةِ اشْتَرَى أَوْ لَمْ يَشْتَرِ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْغَنِيِّ) عَيَّنَهَا أَوْ لَمْ يُعَيِّنْهَا (وَعَلَى الْفَقِيرِ بِالشِّرَاءِ بِنِيَّةِ التَّضْحِيَةِ عِنْدَنَا فَإِذَا فَاتَ وَقْتُ التَّقَرُّبِ بِالْإِرَاقَةِ) وَالْحَقُّ مُسْتَحَقٌّ (وَجَبَ التَّصَدُّقُ) بِالْعَيْنِ أَوْ الْقِيمَةِ (إخْرَاجًا لَهُ عَنْ الْعُهْدَةِ، كَالْجُمُعَةِ تُقْضَى بَعْدَ فَوَاتِهَا ظُهْرًا، وَالصَّوْمِ بَعْدَ الْعَجْزِ فِدْيَةً) وَالْجَامِعُ بَيْنُهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّ قَضَاءَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ فِي الْأَدَاءِ بِجِنْسٍ خِلَافُ الْأَدَاءِ. قَالَ: (وَلَا يُضَحِّي بِالْعَمْيَاءِ وَالْعَوْرَاءِ وَالْعَرْجَاءِ الَّتِي لَا تَمْشِي إلَى الْمَنْسِكِ وَلَا الْعَجْفَاءِ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا تُجْزِئُ فِي الضَّحَايَا أَرْبَعَةٌ: الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ عَرْجُهَا وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنْقِي» قَالَ (وَلَا تُجْزِئُ مَقْطُوعَةُ الْأُذُنِ وَالذَّنَبِ).
أَمَّا الْأُذُنُ فَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اسْتَشْرِفُوا الْعَيْنَ وَالْأُذُنَ» أَيْ اُطْلُبُوا سَلَامَتَهُمَا.
وَأَمَّا الذَّنَبُ فَلِأَنَّهُ عُضْوٌ كَامِلٌ مَقْصُودٌ فَصَارَ كَالْأُذُنِ.
قَالَ (وَلَا الَّتِي ذَهَبَ أَكْثَرُ أُذُنِهَا وَذَنَبِهَا، وَإِنْ بَقِيَ أَكْثَرُ الْأُذُنِ وَالذَّنَبِ جَازَ) لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ بَقَاءً وَذَهَابًا وَلِأَنَّ الْعَيْبَ الْيَسِيرَ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَجُعِلَ عَفْوًا، وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي مِقْدَارِ الْأَكْثَرِ.
فَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَنْهُ: وَإِنْ قُطِعَ مِنْ الذَّنَبِ أَوْ الْأُذُنِ أَوْ الْعَيْنِ أَوْ الْأَلْيَةِ الثُّلُثُ أَوْ أَقَلُّ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّ الثُّلُثَ تَنْفُذُ فِيهِ الْوَصِيَّةُ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْوَرَثَةِ فَاعْتُبِرَ قَلِيلًا، وَفِيمَا زَادَ لَا تَنْفُذُ إلَّا بِرِضَاهُمْ فَاعْتُبِرَ كَثِيرًا، وَيُرْوَى عَنْهُ الرُّبُعُ لِأَنَّهُ يَحْكِي حِكَايَةَ الْكَمَالِ عَلَى مَا مَرَّ فِي الصَّلَاةِ، وَيُرْوَى الثُّلُثُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ الْوَصِيَّةِ: «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إذَا بَقِيَ الْأَكْثَرُ مِنْ النِّصْفِ أَجْزَأَهُ اعْتِبَارًا لِلْحَقِيقَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: أَخْبَرْت بِقَوْلِي أَبَا حَنِيفَةَ، فَقَالَ قَوْلِي هُوَ قَوْلُك.
قِيلَ هُوَ رُجُوعٌ مِنْهُ إلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ قَوْلِي قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِك.
وَفِي كَوْنِ النِّصْفِ مَانِعًا رِوَايَتَانِ عَنْهُمَا كَمَا فِي انْكِشَافِ الْعُضْوِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، ثُمَّ مَعْرِفَةُ الْمِقْدَارِ فِي غَيْرِ الْعَيْنِ مُتَيَسَّرٌ، وَفِي الْعَيْنِ قَالُوا: تُشَدُّ الْعَيْنُ الْمَعِيبَةُ بَعْدَ أَنْ لَا تَعْتَلِفَ الشَّاةُ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمَّ يُقَرَّبُ الْعَلَفُ إلَيْهَا قَلِيلًا قَلِيلًا، فَإِذَا رَأَتْهُ مِنْ مَوْضِعٍ أُعْلِمَ عَلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ ثُمَّ تُشَدُّ عَيْنُهَا الصَّحِيحَةُ وَقُرِّبَ إلَيْهَا الْعَلَفُ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى إذَا رَأَتْهُ مِنْ مَكَان أُعْلِمَ عَلَيْهِ.
ثُمَّ يُنْظَرُ إلَى تَفَاوُتِ مَا بَيْنَهُمَا، فَإِنْ كَانَ ثُلُثًا فَالذَّاهِبُ الثُّلُثُ، وَإِنْ كَانَ نِصْفًا فَالنِّصْفُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَلَا يُضَحَّى بِالْعَمْيَاءِ وَالْعَوْرَاءِ) هَذَا بَيَانُ مَا لَا يَجُوزُ التَّضْحِيَةُ بِهِ.
وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْعَيْبَ الْفَاحِشَ مَانِعٌ وَالْيَسِيرَ غَيْرُ مَانِعٍ، لِأَنَّ الْحَيَوَانَ قَلَّمَا يَنْجُو عَنْ يَسِيرِ الْعَيْبِ، وَالْيَسِيرُ مَا لَا أَثَرَ لَهُ فِي لَحْمِهَا، وَلِلْعَوَرِ أَثَرٌ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُبْصِرُ بِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ مِنْ الْعَلَفِ مَا يُبْصِرُ بِعَيْنَيْنِ، وَقِلَّةُ الْعَلَفِ تُورِثُ الْهُزَالَ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ دَالٌّ عَلَى ذَلِكَ.
وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ عَرَجُهَا: هِيَ مَا لَا يُمْكِنُهَا الْمَشْيُ بِرِجْلِهَا الْعَرْجَاءِ، وَإِنَّمَا تَمْشِي بِثَلَاثِ قَوَائِمَ حَتَّى لَوْ كَانَتْ تَضَعُ الرَّابِعَةَ عَلَى الْأَرْضِ وَتَسْتَعِينُ بِهَا جَازَ.
وَالْعَجْفَاءُ: الَّتِي لَا تُنَقَّى: هِيَ الَّتِي لَيْسَ لَهَا نِقًى: أَيْ مُخٌّ مِنْ شِدَّةِ الْعَجَفِ، وَبَقِيَّةُ كَلَامِهِ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (وَقِيلَ مَعْنَاهُ قَوْلِي قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِك) أَيْ قَوْلِي الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنَّ الْأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ مَانِعٌ لَا مَا دُونَهُ أَقْرَبُ إلَى قَوْلِك الَّذِي هُوَ أَنَّ الْأَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ إذَا بَقِيَ أَجْزَأَهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّ الرُّبُعَ أَوْ الثُّلُثَ مَانِعٌ.
وَفِي كَوْنِ النِّصْفِ مَانِعًا عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ رِوَايَتَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ ذَلِكَ فِي الْكَشَّافِ الْعُضْوُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ. قَالَ (وَيَجُوزُ أَنْ يُضَحِّيَ بِالْجَمَّاءِ) وَهِيَ الَّتِي لَا قَرْنَ لَهَا لِأَنَّ الْقَرْنَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَقْصُودٌ، وَكَذَا مَكْسُورَةُ الْقَرْنِ لِمَا قُلْنَا (وَالْخَصِيِّ) لِأَنَّ لَحْمَهَا أَطْيَبُ وَقَدْ صَحَّ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ مَوْجُوءَيْنِ» (وَالثَّوْلَاءِ) وَهِيَ الْمَجْنُونَةُ، وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَتْ تَعْتَلِفُ لِأَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ، أَمَّا إذَا كَانَتْ لَا تَعْتَلِفُ فَلَا تُجْزِئُهُ.
وَالْجَرْبَاءُ إنْ كَانَتْ سَمِينَةً جَازَ لِأَنَّ الْجَرَبَ فِي الْجِلْدِ وَلَا نُقْصَانَ فِي اللَّحْمِ، وَإِنْ كَانَتْ مَهْزُولَةً لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْجَرَبَ فِي اللَّحْمِ فَانْتَقَصَ.
وَأَمَّا الْهَتْمَاءُ وَهِيَ الَّتِي لَا أَسْنَانَ لَهَا؛ فَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي الْأَسْنَانِ الْكَثْرَةُ وَالْقِلَّةُ، وَعَنْهُ إنْ بَقِيَ مَا يُمْكِنُهُ الِاعْتِلَافُ بِهِ أَجْزَأَهُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ.
وَالسَّكَّاءُ وَهِيَ الَّتِي لَا أُذُنَ لَهَا خِلْقَةً لَا تَجُوزُ، لِأَنَّ مَقْطُوعَ أَكْثَرِ الْأُذُنِ إذَا كَانَ لَا يَجُوزُ فَعَدِيمُ الْأُذُنِ أَوْلَى.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الْقَرْنَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَقْصُودُ) أَلَا تَرَى أَنَّ التَّضْحِيَةَ بِالْإِبِلِ جَائِزَةٌ وَلَا قَرْنَ لَهُ، وَالْكَبْشُ الْأَمْلَحُ مَا فِيهِ مُلْحَةٌ، وَهِيَ بَيَاضٌ يَشُوبُهُ شُعَيْرَاتٌ سُودٌ.
وَالْوَجْءُ نَوْعٌ مِنْ الْخِصَاءِ، وَهُوَ أَنْ تُرَضَّ الْعُرُوقُ مِنْ غَيْرِ إخْرَاجِ الْخُصْيَتَيْنِ. (وَهَذَا) الَّذِي ذَكَرْنَا (إذَا كَانَتْ هَذِهِ الْعُيُوبُ قَائِمَةً وَقْتَ الشِّرَاءِ، وَلَوْ اشْتَرَاهَا سَلِيمَةً ثُمَّ تَعَيَّبَتْ بِعَيْبٍ مَانِعٍ إنْ كَانَ غَنِيًّا عَلَيْهِ غَيْرُهَا، وَإِنْ فَقِيرًا تُجْزِئُهُ هَذِهِ) لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْغَنِيِّ بِالشَّرْعِ ابْتِدَاءً لَا بِالشِّرَاءِ فَلَمْ تَتَعَيَّنْ بِهِ، وَعَلَى الْفَقِيرِ بِشِرَائِهِ بِنِيَّةِ الْأُضْحِيَّةِ فَتَعَيَّنَتْ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ نُقْصَانِهِ كَمَا فِي نِصَابِ الزَّكَاةِ، وَعَنْ هَذَا الْأَصْلِ قَالُوا: إذَا مَاتَتْ الْمُشْتَرَاةُ لِلتَّضْحِيَةِ؛ عَلَى الْمُوسِرِ مَكَانَهَا أُخْرَى وَلَا شَيْءَ عَلَى الْفَقِيرِ، وَلَوْ ضَلَّتْ أَوْ سُرِقَتْ فَاشْتَرَى أُخْرَى ثُمَّ ظَهَرَتْ الْأُولَى فِي أَيَّامِ النَّحْرِ عَلَى الْمُوسِرِ ذَبْحُ إحْدَاهُمَا وَعَلَى الْفَقِيرِ ذَبْحُهُمَا (وَلَوْ أَضْجَعَهَا فَاضْطَرَبَتْ فَانْكَسَرَتْ رِجْلُهَا فَذَبَحَهَا أَجْزَأَهُ اسْتِحْسَانًا) عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، لِأَنَّ حَالَةَ الذَّبْحِ وَمُقَدِّمَاتِهِ مُلْحَقَةٌ بِالذَّبْحِ فَكَأَنَّهُ حَصَلَ بِهِ اعْتِبَارًا وَحُكْمًا (وَكَذَا لَوْ تَعَيَّبَتْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَانْفَلَتَتْ ثُمَّ أُخِذَتْ مِنْ فَوْرِهِ، وَكَذَا بَعْدَ فَوْرِهِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ) لِأَنَّهُ حَصَلَ بِمُقَدِّمَاتِ الذَّبْحِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (فَتَعَيَّنَتْ) يَعْنِي هَذِهِ الشَّاةَ الْمُشْتَرَاةَ لِلْأُضْحِيَّةِ.
وَقَوْلُهُ (كَمَا فِي نِصَابِ الزَّكَاةِ) فَإِنَّهُ إذَا نَقَصَ بَعْدَمَا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهِ يَسْقُطُ بِقَدْرِهِ وَلَا يَضْمَنُهُ رَبُّ الْمَالِ لِأَنَّ النُّقْصَانَ لَمْ يَكُنْ بِفِعْلِهِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ مَحِلَّ الْوُجُوبِ فِيهِمَا جَمِيعًا الْمَالُ لَا الذِّمَّةُ، فَإِذَا هَلَكَ الْمَالُ سَقَطَ الْوُجُوبُ (وَعَنْ هَذَا الْأَصْلِ) يَعْنِي كَوْنَ الْوُجُوبِ عَلَى الْغَنِيِّ بِالشِّرْعَةِ لَا بِالشِّرَاءِ وَعَلَى الْفَقِيرِ بِالْعَكْسِ.
وَقَوْلُهُ (وَعَلَى الْفَقِيرِ ذَبْحُهُمَا) لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَيْهِ بِالشِّرَاءِ وَقَدْ تَعَدَّدَ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ الْأَصْلِ يُوَافِقُ مَا ذَكَرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا كَانَ مُوسِرًا لَا تَصِيرُ وَاجِبَةً بِالشِّرَاءِ بِنِيَّةِ الْأُضْحِيَّةِ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَجِبُ.
وَرَوَى الزَّعْفَرَانِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا لَا تَجِبُ وَهُوَ رِوَايَةُ النَّوَادِرِ.
وَقَوْلُهُ (فَانْكَسَرَتْ رِجْلُهَا) مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْخَاصِّ وَإِرَادَةِ الْعَامِّ، فَإِنَّهُ إذَا أَصَابَهَا مَانِعٌ غَيْرُ الِانْكِسَارِ بِالِاضْطِرَابِ حَالَةَ الْإِضْجَاعِ لِلذَّبْحِ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا قُيِّدَ الْإِجْزَاءُ بِالِاسْتِحْسَانِ لِأَنَّ وَجْهَ الْقِيَاسِ بِخِلَافِهِ، لِأَنَّ تَأْدِي الْوَاجِبِ بِالتَّضْحِيَةِ لَا بِالْإِضْجَاعِ وَهِيَ مَعِيبَةٌ عِنْدَهَا فَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ قَبْلَهُ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ حَصَلَ بِمُقَدِّمَاتِ الذَّبْحِ) دَلِيلُ مُحَمَّدٍ.
وَدَلِيلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الْفَوْرَ لَمَّا انْقَطَعَ خَرَجَ الْفِعْلُ الَّذِي تَعَيَّنَتْ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ هَذَا الذَّبْحِ الَّذِي وُجِدَ بَعْدَ الْفَوْرِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَا حَصَلَ بِفِعْلٍ آخَرَ. قَالَ (وَالْأُضْحِيَّةُ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ) لِأَنَّهَا عُرِفَتْ شَرْعًا وَلَمْ تُنْقَلْ التَّضْحِيَةُ بِغَيْرِهَا مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَا مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
قَالَ (وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ الثَّنِيُّ فَصَاعِدًا.
إلَّا الضَّأْنَ فَإِنَّ الْجَذَعَ مِنْهُ يُجْزِئُ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «ضَحُّوا بِالثَّنَايَا إلَّا أَنْ يُعْسِرَ عَلَى أَحَدِكُمْ فَلْيَذْبَحْ الْجَذَعَ مِنْ الضَّأْنِ» وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «نِعْمَتْ الْأُضْحِيَّةُ الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ» قَالُوا: وَهَذَا إذَا كَانَتْ عَظِيمَةً بِحَيْثُ لَوْ خُلِطَتْ بِالثُّنْيَانِ يَشْتَبِهُ عَلَى النَّاظِرِ مِنْ بَعِيدٍ.
وَالْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ مَا تَمَّتْ لَهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فِي مَذْهَبِ الْفُقَهَاءِ، وَذَكَرَ الزَّعْفَرَانِيُّ أَنَّهُ ابْنُ سَبْعَةِ أَشْهُرٍ.
وَالثَّنِيُّ مِنْهَا وَمِنْ الْمَعَزِ سَنَةٌ، وَمِنْ الْبَقَرِ ابْنُ سَنَتَيْنِ، وَمِنْ الْإِبِلِ ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ، وَيَدْخُلُ فِي الْبَقَرِ الْجَامُوسُ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِهِ، وَالْمَوْلُودُ بَيْنَ الْأَهْلِيِّ وَالْوَحْشِيِّ يَتْبَعُ الْأُمَّ لِأَنَّهَا هِيَ الْأَصْلُ فِي التَّبَعِيَّةِ، حَتَّى إذَا نَزَا الذِّئْبُ عَلَى الشَّاةِ يُضَحَّى بِالْوَلَدِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَالْأُضْحِيَّةُ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ إلَخْ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ، وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ فِي مَذْهَبِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ الْجَذَعُ مِنْ الشِّيَاهِ مَا تَمَّتْ لَهَا سَنَةٌ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهَا هِيَ الْأَصْلُ فِي التَّبَعِيَّةِ) لِأَنَّهُ جُزْؤُهَا وَلِهَذَا يَتْبَعُهَا فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُنْفَصِلَ مِنْ الْفَحْلِ هُوَ الْمَاءُ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مَحِلٍّ لِهَذَا الْحُكْمِ، وَالْمُنْفَصِلُ مِنْ الْأُمِّ هُوَ الْحَيَوَانُ وَهُوَ مَحِلٌّ لَهُ فَاعْتُبِرَ بِهَا قَالَ (وَإِذَا اشْتَرَى سَبْعَةٌ بَقَرَةً لِيُضَحُّوا بِهَا فَمَاتَ أَحَدُهُمْ قَبْلَ النَّحْرِ وَقَالَتْ الْوَرَثَةُ اذْبَحُوهَا عَنْهُ وَعَنْكُمْ أَجْزَأَهُمْ، وَإِنْ كَانَ شَرِيكُ السِّتَّةِ نَصْرَانِيًّا أَوْ رَجُلًا يُرِيدُ اللَّحْمَ لَمْ يُجْزِ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ) وَوَجْهُهُ أَنَّ الْبَقَرَةَ تَجُوزُ عَنْ سَبْعَةٍ، وَلَكِنَّ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ قَصْدُ الْكُلِّ الْقُرْبَةَ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ جِهَاتُهَا كَالْأُضْحِيَّةِ وَالْقِرَانِ وَالْمُتْعَةِ عِنْدَنَا لِاتِّحَادِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الْقُرْبَةُ، وَقَدْ وُجِدَ هَذَا الشَّرْطُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الضَّحِيَّةَ عَنْ الْغَيْرِ عُرِفَتْ قُرْبَةً؛ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ضَحَّى عَنْ أَمَتِهِ عَلَى مَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي لِأَنَّ النَّصْرَانِيَّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا، وَكَذَا قَصْدُ اللَّحْمِ يُنَافِيهَا.
وَإِذَا لَمْ يَقَعْ الْبَعْضُ قُرْبَةً وَالْإِرَاقَةُ لَا تَتَجَزَّأُ فِي حَقِّ الْقُرْبَةِ لَمْ يَقَعْ الْكُلُّ أَيْضًا فَامْتَنَعَ الْجَوَازُ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ اسْتِحْسَانٌ.
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، لِأَنَّهُ تَبَرَّعَ بِالْإِتْلَافِ فَلَا يَجُوزُ عَنْ غَيْرِهِ كَالْإِعْتَاقِ عَنْ الْمَيِّتِ، لَكِنَّا نَقُولُ: الْقُرْبَةُ قَدْ تَقَعُ عَنْ الْمَيِّتِ كَالتَّصَدُّقِ، بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ لِأَنَّ فِيهِ إلْزَامَ الْوَلَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ (فَلَوْ ذَبَحُوهَا عَنْ صَغِيرٍ فِي الْوَرَثَةِ أَوْ أُمِّ وَلَدٍ جَازَ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ قُرْبَةٌ (وَلَوْ مَاتَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَذَبَحَهَا الْبَاقُونَ بِغَيْرِ إذْنِ الْوَرَثَةِ لَا تُجْزِيهِمْ) لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ بَعْضُهَا قُرْبَةً، وَفِيمَا تَقَدَّمَ وُجِدَ الْإِذْنُ مِنْ الْوَرَثَةِ فَكَانَ قُرْبَةً.
الشَّرْحُ:
قَوْلُهُ (لَكِنْ مِنْ شَرْطِ أَنْ يَكُونَ قَصَدَ بِالْكُلِّ الْقُرْبَةَ) لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فِي ذَلِكَ.
فَإِنْ قِيلَ: النَّصُّ وَرَدَ فِي الْأُضْحِيَّةِ فَكَيْفَ جَوَّزْتُمْ مَعَ اخْتِلَافِ جِهَاتِ الْقُرَبِ كَالْأُضْحِيَّةِ وَالْقِرَانِ وَالْمُتْعَةِ؟ قُلْنَا: اعْتَمَدَ عَلَى ذَلِكَ زُفَرُ وَلَمْ يُجَوِّزْ عِنْدَ اخْتِلَافِهَا.
لَكِنَّا نَقُولُ: إذَا كَانَتْ الْجِهَاتُ قُرَبًا اتَّحَدَ مَعْنَاهَا مِنْ حَيْثُ كَوْنِهَا قُرْبَةً فَجَازَ الْإِلْحَاقُ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بَعْضُهَا غَيْرَ قُرْبَةٍ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَاهَا، وَإِذَا بَطَلَ فِي ذَلِكَ بَطَلَ فِي الْبَاقِي لِعَدَمِ التَّجَزِّي.
وَقَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ قُرْبَةٌ) يُشِيرُ إلَى وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ.
وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْإِرَاقَةَ لَا تَتَجَزَّأُ، وَبَعْضُ الْإِرَاقَةِ وَقَعَ نَفْلًا أَوْ لَحْمًا فَصَارَ الْكُلُّ كَذَلِكَ، وَلَمْ يُعْكَسْ لِأَنَّ الْوَاجِبَ قَدْ يَنْقَلِبُ تَطَوُّعًا بِخِلَافِ الْعَكْسِ وَالْإِرَاقَةُ قَدْ تَصِيرُ لِلَحْمٍ مَعَ نِيَّةِ الْقُرْبَةِ إذَا لَمْ تُصَادِفْ مَحِلَّهَا أَوْ كَانَتْ فِي غَيْرِ وَقْتِ الْأُضْحِيَّةِ، وَالْإِرَاقَةُ لِلَحْمٍ لَا تَصِيرُ قُرْبَةً بِحَالٍ. قَالَ (وَيَأْكُلُ مِنْ لَحْمِ الْأُضْحِيَّةِ وَيُطْعِمُ الْأَغْنِيَاءَ وَالْفُقَرَاءَ وَيَدَّخِرُ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَكُلُوا مِنْهَا وَادَّخِرُوا» وَمَتَى جَازَ أَكْلُهُ وَهُوَ غَنِيٌّ جَازَ أَنْ يُؤَكِّلَهُ غَنِيًّا.
الشَّرْحُ:
وَقَالَ (وَيَأْكُلُ مِنْ لَحْمِ الْأُضْحِيَّةِ إلَخْ) الْأُضْحِيَّةُ إمَّا أَنْ تَكُونَ مَنْذُورَةً أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَالْحُكْمُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ لِصَاحِبِهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْ لَحْمِهَا وَلَا أَنْ يُطْعِمَ الْأَغْنِيَاءَ لِأَنَّ سَبِيلَهَا التَّصَدُّقُ، وَلَيْسَ لِلْمُتَصَدِّقِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ صَدَقَتِهِ، وَلَوْ أَكَلَ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ مَا أَكَلَ. قَالَ (وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَنْقُصَ الصَّدَقَةَ عَنْ الثُّلُثِ) لِأَنَّ الْجِهَاتِ ثَلَاثَةٌ: الْأَكْلُ وَالِادِّخَارُ لِمَا رَوَيْنَا، وَالْإِطْعَامُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} فَانْقَسَمَ عَلَيْهِمْ أَثْلَاثًا.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (لِمَا رَوَيْنَا) يَعْنِي قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «فَكُلُوا مِنْهَا وَادَّخِرُوا» وَالْقَانِعُ: هُوَ السَّائِلُ، مِنْ الْقَنُوعِ لَا مِنْ الْقَنَاعَةِ، وَالْمُعْتَرُّ: هُوَ الَّذِي يَتَعَرَّضُ لِلسُّؤَالِ وَلَا يَسْأَلُ. قَالَ (وَيَتَصَدَّقُ بِجِلْدِهَا) لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْهَا (أَوْ يَعْمَلُ مِنْهُ آلَةً تُسْتَعْمَلُ فِي الْبَيْتِ) كَالنِّطْعِ وَالْجِرَابِ وَالْغِرْبَالِ وَنَحْوِهَا، لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ غَيْرُ مُحَرَّمٍ (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ مَا يَنْتَفِعُ بِعَيْنِهِ فِي الْبَيْتِ مَعَ بَقَائِهِ) اسْتِحْسَانًا، وَذَلِكَ مِثْلُ مَا ذَكَرْنَا لِأَنَّ لِلْبَدَلِ حُكْمَ الْمُبْدَلِ، (وَلَا يَشْتَرِي بِهِ مَا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ إلَّا بَعْدَ اسْتِهْلَاكِهِ كَالْخَلِّ وَالْأَبَازِيرِ) اعْتِبَارًا بِالْبَيْعِ بِالدَّرَاهِمِ.
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ تَصَرُّفٌ عَلَى قَصْدِ التَّمَوُّلِ، وَاللَّحْمُ بِمَنْزِلَةِ الْجِلْدِ فِي الصَّحِيحِ، فَلَوْ بَاعَ الْجِلْدَ أَوْ اللَّحْمَ بِالدَّرَاهِمِ أَوْ بِمَا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ إلَّا بَعْدَ اسْتِهْلَاكِهِ تَصَدَّقَ بِثَمَنِهِ، لِأَنَّ الْقُرْبَةَ انْتَقَلَتْ إلَى بَدَلِهِ، وَقَوْلُهُ (عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ بَاعَ جِلْدَ أُضْحِيَّتِهِ فَلَا أُضْحِيَّةَ لَهُ») يُفِيدُ كَرَاهَةَ الْبَيْعِ، الْبَيْعُ جَائِزٌ لِقِيَامِ الْمِلْكِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (كَالْخَلِّ) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمُهْمَلَةِ (وَالْأَبَازِيرُ) التَّوَابِلُ جَمْعُ أَبْزَارٍ بِالْفَتْحِ.
وَقَوْلُهُ (فِي الصَّحِيحِ) احْتِرَازًا عَمَّا قَبْلُ إنَّهُ لَيْسَ فِي اللَّحْمِ إلَّا الْأَكْلَ وَالْإِطْعَامَ، فَلَوْ بَاعَ بِشَيْءٍ يُنْتَفَعُ بِهِ بِعَيْنِهِ لَا يَجُوزُ، وَالصَّحِيحُ مَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ إنَّ اللَّحْمَ بِمَنْزِلَةِ الْجِلْدِ، إنْ بَاعَهُ بِشَيْءٍ يُنْتَفَعُ بِهِ بِعَيْنِهِ جَازَ.
وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى بِاللَّحْمِ ثَوْبًا فَلَا بَأْسَ بِلُبْسِهِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الْقُرْبَةَ انْتَقَلَتْ إلَى بَدَلِهِ) لِأَنَّ تَمَلُّكَ الْبَدَلِ مِنْ حَيْثُ التَّمَوُّلِ سَاقِطٌ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا جِهَةُ الْقُرْبَةِ وَسَبِيلُهَا التَّصَدُّقُ. قَالَ (وَلَا يُعْطِي أُجْرَةَ الْجَزَّارِ مِنْ الْأُضْحِيَّةِ) «لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَصَدَّقْ بِجِلَالِهَا وَخِطَامِهَا وَلَا تُعْطِ أَجْرَ الْجَزَّارِ مِنْهَا شَيْئًا» وَالنَّهْيُ عَنْهُ نَهْيٌ عَنْ الْبَيْعِ أَيْضًا لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ. قَالَ (وَيُكْرَهُ أَنْ يَجُزَّ صُوفَ أُضْحِيَّتِهِ وَيَنْتَفِعَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَهَا) لِأَنَّهُ الْتَزَمَ إقَامَةَ الْقُرْبَةِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الذَّبْحِ لِأَنَّهُ أُقِيمَتْ الْقُرْبَةُ بِهَا كَمَا فِي الْهَدْيِ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَحْلُبَ لَبَنَهَا فَيَنْتَفِعَ بِهِ كَمَا فِي الصُّوفِ. قَالَ (وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَذْبَحَ أُضْحِيَّتَهُ بِيَدِهِ إنْ كَانَ يُحْسِنُ الذَّبْحَ) وَإِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُهُ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِغَيْرِهِ، وَإِذَا اسْتَعَانَ بِغَيْرِهِ يَنْبَغِي أَنْ يَشْهَدَهَا بِنَفْسِهِ «لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قُومِي فَاشْهَدِي أُضْحِيَّتَك، فَإِنَّهُ يُغْفَرُ لَك بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهَا كُلُّ ذَنْبٍ»
الشَّرْحُ:
قَوْلُهُ (مِنْ دَمِهَا كُلُّ ذَنْبٍ)، تَمَامُ الْحَدِيثِ «أَمَّا أَنَّهُ يُجَاءُ بِدَمِهَا وَلَحْمِهَا فَيُوضَعُ فِي مِيزَانِك وَسَبْعُونَ ضَعْفًا فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَذَا لِآلِ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً أَمْ لِآلِ مُحَمَّدٍ وَالْمُسْلِمِينَ عَامَّةً؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِآلِ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً، وَلِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً». قَالَ (وَيُكْرَهُ أَنْ يَذْبَحَهَا الْكِتَابِيُّ) لِأَنَّهُ عَمَلٌ هُوَ قُرْبَةٌ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا، فَلَوْ أَمَرَهُ فَذَبَحَ جَازَ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الذَّكَاةِ، وَالْقُرْبَةُ أُقِيمَتْ بِإِنَابَتِهِ وَنِيَّتِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَمَرَ الْمَجُوسِيَّ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الذَّكَاةِ فَكَانَ إفْسَادًا. قَالَ (وَإِذَا غَلِطَ رَجُلَانِ فَذَبَحَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أُضْحِيَّةَ الْآخَرِ أَجْزَأَ عَنْهُمَا وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ مَنْ ذَبَحَ أُضْحِيَّةَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهَا، وَلَا يُجْزِئُهُ عَنْ الْأُضْحِيَّةِ فِي الْقِيَاسِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الذَّابِحِ، وَهُوَ قَوْلُنَا.
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ ذَبَحَ شَاةَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَيَضْمَنُ، كَمَا إذَا ذَبَحَ شَاةً اشْتَرَاهَا الْقَصَّابُ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهَا تَعَيَّنَتْ لِلذَّبْحِ لِتَعَيُّنِهَا لِلْأُضْحِيَّةِ حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا بِعَيْنِهَا فِي أَيَّامِ النَّحْرِ.
وَيُكْرَهُ أَنْ يُبْدِلَ بِهَا غَيْرَهَا فَصَارَ الْمَالُ مُسْتَعِينًا بِكُلِّ مَنْ يَكُونُ أَهْلًا لِلذَّبْحِ آذِنًا لَهُ دَلَالَةً لِأَنَّهَا تَفُوتُ بِمُضِيِّ هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَعَسَاهُ يَعْجَزُ عَنْ إقَامَتِهَا بِعَوَارِضَ فَصَارَ كَمَا إذَا ذَبَحَ شَاةً شَدَّ الْقَصَّابُ رِجْلَهَا، فَإِنْ قِيلَ: يَفُوتُهُ أَمْرٌ مُسْتَحَبٌّ وَهُوَ أَنْ يَذْبَحَهَا بِنَفْسِهِ أَوْ يَشْهَدَ الذَّبْحَ فَلَا يَرْضَى بِهِ.
قُلْنَا: يَحْصُلُ لَهُ بِهِ مُسْتَحَبَّانِ آخَرَانِ، صَيْرُورَتُهُ مُضَحِّيًا لِمَا عَيَّنَهُ، وَكَوْنُهُ مُعَجِّلًا بِهِ فَيَرْتَضِيهِ، وَلِعُلَمَائِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ مَسَائِلُ اسْتِحْسَانِيَّةٌ، وَهِيَ أَنَّ مَنْ طَبَخَ لَحْمَ غَيْرِهِ أَوْ طَحَنَ حِنْطَتَهُ أَوْ رَفَعَ جَرَّتَهُ فَانْكَسَرَتْ أَوْ حَمَّلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَعَطِبَتْ كُلُّ ذَلِكَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمَالِكِ يَكُونُ ضَامِنًا، وَلَوْ وَضَعَ الْمَالِكُ اللَّحْمَ فِي الْقِدْرِ وَالْقِدْرَ عَلَى الْكَانُونِ وَالْحَطَبَ تَحْتَهُ، أَوْ جَعَلَ الْحِنْطَةَ فِي الدَّوْرَقِ وَرَبَطَ الدَّابَّةَ عَلَيْهِ، أَوْ رَفَعَ الْجَرَّةَ وَأَمَالَهَا إلَى نَفْسِهِ أَوْ حَمَّلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَسَقَطَ فِي الطَّرِيقِ، فَأَوْقَدَ هُوَ النَّارَ فِيهِ وَطَبَخَهُ، أَوْ سَاقَ الدَّابَّةَ فَطَحَنَهَا، أَوْ أَعَانَهُ عَلَى رَفْعِ الْجَرَّةِ فَانْكَسَرَتْ فِيمَا بَيْنَهُمَا، أَوْ حَمَّلَ عَلَى دَابَّتِهِ مَا سَقَطَ فَعَطِبَتْ لَا يَكُونُ ضَامِنًا فِي هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا اسْتِحْسَانًا لِوُجُودِ الْإِذْنِ دَلَالَةً.
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ: ذَبَحَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أُضْحِيَّةَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ صَرِيحًا فَهِيَ خِلَافِيَّةُ زُفَرَ بِعَيْنِهَا وَيَتَأَتَّى فِيهَا الْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ كَمَا ذَكَرْنَا، فَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَسْلُوخَةً مِنْ صَاحِبِهِ، وَلَا يُضَمِّنُهُ لِأَنَّهُ وَكِيلُهُ فِيمَا فَعَلَ دَلَالَةً، فَإِذَا كَانَا قَدْ أَكَلَا ثُمَّ عَلِمَا فَلْيُحَلِّلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ وَيُجْزِيهِمَا، لِأَنَّهُ لَوْ أَطْعَمَهُ فِي الِابْتِدَاءِ يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فَكَذَا لَهُ أَنْ يُحَلِّلَهُ فِي الِانْتِهَاءِ وَإِنْ، تَشَاحَّا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُضَمِّنَ صَاحِبَهُ قِيمَةَ لَحْمِهِ ثُمَّ يَتَصَدَّقُ بِتِلْكَ الْقِيمَةِ لِأَنَّهَا بَدَلٌ عَنْ اللَّحْمِ فَصَارَ كَمَا لَوْ بَاعَ أُضْحِيَّتَهُ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّضْحِيَةَ لَمَّا وَقَعَتْ عَنْ صَاحِبِهِ كَانَ اللَّحْمُ لَهُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا بِعَيْنِهَا فِي أَيَّامِ النَّحْرِ) أَيْ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُضَحِّي فَقِيرًا (وَيُكْرَهُ أَنْ يُبْدِلَ بِهَا غَيْرَهَا) أَيْ فِيمَا إذَا كَانَ غَنِيًّا قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: هَكَذَا وَجَدْت بِخَطِّ شَيْخِي رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَوْلُهُ (فَصَارَ كَمَا لَوْ بَاعَ أُضْحِيَّتَهُ) يَعْنِي لَوْ بَاعَ أُضْحِيَّتَهُ وَاشْتَرَى بِقِيمَتِهَا غَيْرَهَا، فَلَوْ كَانَ غَيْرَهَا انْتَقَصَ مِنْ الْأُولَى تَصَدَّقَ بِمَا فَضَلَ عَلَى الثَّانِيَةِ، وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ تَصَدَّقَ بِثَمَنِهَا كُلِّهِ. وَمَنْ أَتْلَفَ لَحْمَ أُضْحِيَّةِ غَيْرِهِ كَانَ الْحُكْمُ مَا ذَكَرْنَاهُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ أَتْلَفَ لَحْمَ أُضْحِيَّةِ غَيْرِهِ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ وَإِنْ تَشَاحَّا: يَعْنِي إنْ تَشَاحَّا عَنْ التَّحْلِيلِ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتْلِفًا لَحْمَ أُضْحِيَّةِ صَاحِبِهِ.
وَمَنْ أَتْلَفَ لَحْمَ أُضْحِيَّةِ صَاحِبِهِ كَانَ الْحُكْمُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُضَمِّنَ صَاحِبَهُ قِيمَةَ لَحْمِهِ. (وَمَنْ غَصَبَ شَاةً فَضَحَّى بِهَا ضَمِنَ قِيمَتَهَا وَجَازَ عَنْ أُضْحِيَّتِهِ) لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِسَابِقِ الْغَصْبِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أُودِعَ شَاةً فَضَحَّى بِهَا لِأَنَّهُ يُضَمِّنُهُ بِالذَّبْحِ فَلَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ لَهُ إلَّا بَعْدَ الذَّبْحِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِسَابِقِ الْغَصْبِ) يَعْنِي فَكَانَتْ التَّضْحِيَةُ وَارِدَةً عَلَى مِلْكِهِ، وَهَذَا يَكْفِي فِي التَّضْحِيَةِ.
لَا يُقَالُ: الِاسْتِنَادُ يَظْهَرُ فِي الْقَائِمِ وَالتَّضْحِيَةُ بِالْإِرَاقَةِ وَالْإِرَاقَةُ قَدْ فَاتَتْ لِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ فِعْلِ الْمُضَحِّي، لِأَنَّا نَقُولُ: الْإِرَاقَةُ لَيْسَتْ مِنْ الْمَمْلُوكِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ صِفَةً لِلشَّاةِ لِيَصِحَّ أَنْ يُقَالَ يَظْهَرُ الِاسْتِنَادُ فِيهَا أَوْ لَا يَظْهَرُ، فَإِنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ فِي الشَّاةِ الْمَذْبُوحَةِ وَيَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ الْغَصْبِ فَتَكُونُ الْإِرَاقَةُ وَالتَّضْحِيَةُ وَاقِعَةً عَلَى مِلْكِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.