فصل: (فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْيَمِينِ وَالِاسْتِحْلَافِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.(فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْيَمِينِ وَالِاسْتِحْلَافِ):

قَالَ (وَالْيَمِينُ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ دُونَ غَيْرِهِ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَذَرْ» وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ» (وَقَدْ تُؤَكَّدُ بِذِكْرِ أَوْصَافِهِ) وَهُوَ التَّغْلِيظُ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ: قُلْ وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَالَمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الَّذِي يَعْلَمُ مِنْ السِّرِّ مَا يَعْلَمُ مِنْ الْعَلَانِيَةِ، مَا لِفُلَانٍ هَذَا عَلَيْك وَلَا قِبَلَك هَذَا الْمَالُ الَّذِي ادَّعَاهُ وَهُوَ كَذَا وَكَذَا وَلَا شَيْءَ مِنْهُ.
وَلَهُ أَنْ يَزِيدَ فِي التَّغْلِيظِ عَلَى هَذَا وَلَهُ أَنْ يَنْقُصَ مِنْهُ، إلَّا أَنَّهُ يَحْتَاطُ فِيهِ كَيْ لَا يَتَكَرَّرَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ، لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ، وَالْقَاضِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ غَلَّظَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُغَلِّظْ فَيَقُولُ: قُلْ بِاَللَّهِ أَوْ وَاَللَّهِ، وَقِيلَ: لَا يُغَلِّظُ عَلَى الْمَعْرُوفِ بِالصَّلَاحِ وَيُغَلِّظُ عَلَى غَيْرِهِ، وَقِيلَ: يُغَلِّظُ فِي الْخَطِيرِ مِنْ الْمَالِ دُونَ الْحَقِيرِ.
الشَّرْحُ:
فَصْلٌ: فِي كَيْفِيَّةِ الْيَمِينِ وَالِاسْتِحْلَافِ: لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ نَفْسِ الْيَمِينِ وَالْمَوَاضِعِ الْوَاجِبَةِ هِيَ فِيهَا ذَكَرَ صِفَتَهَا، لِأَنَّ كَيْفِيَّةَ الشَّيْءِ وَهُوَ مَا تَقَعُ بِهِ الْمُشَابَهَةُ واللَّامُشَابَهَةُ صِفَتُهُ، وَالْيَمِينُ بِاَللَّهِ دُونَ غَيْرِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَذَرْ» وَكَلَامُهُ فِيهِ ظَاهِرٌ قَالَ (وَلَا يَسْتَحْلِفُ بِالطَّلَاقِ وَلَا بِالْعَتَاقِ) لِمَا رَوَيْنَا، وَقِيلَ فِي زَمَانِنَا إذَا أَلَحَّ الْخَصْمُ سَاغَ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْلِفَ بِذَلِكَ لِقِلَّةِ الْمُبَالَاةِ بِالْيَمِينِ بِاَللَّهِ وَكَثْرَةِ الِامْتِنَاعِ بِسَبَبِ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ.
الشَّرْحُ:
قَوْلُهُ وَلَا يُسْتَحْلَفُ بِالطَّلَاقِ وَلَا بِالْعَتَاقِ هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، وَجَوَّزَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ فِي زَمَانِنَا لِقِلَّةِ مُبَالَاةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْيَمِينِ بِاَللَّهِ، لَكِنَّهُمْ قَالُوا: إنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ لَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ لِأَنَّهُ نَكَلَ عَمَّا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ شَرْعًا، وَلَوْ قَضَى بِهِ لَمْ يَنْفُذْ قَضَاؤُهُ.
وَابْنُ صُورِيَّا بِالْقَصْرِ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ رُوِيَ {أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَأَى قَوْمًا مَرُّوا بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ سَخِمَ وَجْهُهُمَا فَسَأَلَ عَنْ حَالِهِمَا فَقَالُوا: إنَّهُمَا زَنَيَا: فَأَمَرَ بِإِحْضَارِ ابْنِ صُورِيَّا وَهُوَ حَبْرُهُمْ فَقَالَ: أَنْشُدُك بِاَللَّهِ: أَيْ أُحَلِّفُك بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى أَنَّ حُكْمَ الزِّنَى فِي كِتَابِكُمْ هَذَا؟} وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَحْلِيفِ الْيَهُودِيِّ بِذَلِكَ قَالَ (وَيَسْتَحْلِفُ الْيَهُودِيَّ بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالنَّصْرَانِيَّ بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ الْإِنْجِيلَ عَلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ) «لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِابْنِ صُورِيَّا الْأَعْوَرِ أَنْشُدُك بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى أَنَّ حُكْمَ الزِّنَا فِي كِتَابِكُمْ هَذَا» وَلِأَنَّ الْيَهُودِيَّ يَعْتَقِدُ نُبُوَّةَ مُوسَى وَالنَّصْرَانِيَّ نُبُوَّةَ عِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَيُغَلِّظُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِذِكْرِ الْمُنَزَّلِ عَلَى نَبِيِّهِ (وَ) يَسْتَحْلِفُ (الْمَجُوسِيُّ بِاَللَّهِ الَّذِي خَلَقَ النَّارَ) وَهَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأَصْلِ.
يُرْوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ لَا يَسْتَحْلِفُ أَحَدًا إلَّا بِاَللَّهِ خَالِصًا.
وَذَكَرَ الْخَصَّافُ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحْلِفُ غَيْرَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ إلَّا بِاَللَّهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ مَشَايِخِنَا لِأَنَّ فِي ذِكْرِ النَّارِ مَعَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى تَعْظِيمًا وَمَا يَنْبَغِي أَنْ تُعَظَّمَ، بِخِلَافِ الْكِتَابَيْنِ لِأَنَّ كُتُبَ اللَّهِ مُعَظَّمَةٌ (وَالْوَثَنِيُّ لَا يَحْلِفُ إلَّا بِاَللَّهِ) لِأَنَّ الْكَفَرَةَ بِأَسْرِهِمْ يَعْتَقِدُونَ اللَّهَ تَعَالَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} قَالَ (وَلَا يَحْلِفُونَ فِي بُيُوتِ عِبَادَتِهِمْ) لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَحْضُرُهَا بَلْ هُوَ مَمْنُوعٌ عَنْ ذَلِكَ. قَالَ (وَلَا يَجِبُ تَغْلِيظُ الْيَمِينِ عَلَى الْمُسْلِمِ بِزَمَانٍ وَلَا مَكَان) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَعْظِيمُ الْمُقْسَمِ بِهِ وَهُوَ حَاصِلٌ بِدُونِ ذَلِكَ، وَفِي إيجَابِ ذَلِكَ حَرَجٌ عَلَى الْقَاضِي حَيْثُ يُكَلَّفُ حُضُورَهَا وَهُوَ مَدْفُوعٌ.
الشَّرْحُ:
وَلَا يَجِبُ تَغْلِيظُ الْيَمِينِ عَلَى الْمُسْلِمِ بِزَمَانٍ وَلَا مَكَان، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَعْظِيمُ الْمُقْسَمِ بِهِ وَهُوَ حَاصِلٌ بِدُونِ ذَلِكَ وَفِي إيجَابِهِ حَرَجٌ عَلَى الْقَاضِي بِحُضُورِهِ وَهُوَ مَدْفُوعٌ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا كَانَتْ الْيَمِينُ فِي قَسَامَةٍ أَوْ لِعَانٍ أَوْ فِي مَالٍ عَظِيمٍ إنْ كَانَ بِمَكَّةَ فَبَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ، وَإِنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَعِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ عِنْدَ الصَّخْرَةِ، وَفِي سَائِرِ الْبِلَادِ فِي الْجَوَامِعِ، وَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَبَعْدَ الْعَصْرِ، وَفِيهِ مَا مَرَّ مِنْ الْحَرَجِ عَلَى الْحَاكِمِ. قَالَ (وَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ ابْتَاعَ مِنْ هَذَا عَبْدَهُ بِأَلْفٍ فَجَحَدَ اسْتَحْلَفَ بِاَللَّهِ مَا بَيْنَكُمَا بَيْعٌ قَائِمٌ فِيهِ وَلَا يَسْتَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا بِعْت) لِأَنَّهُ قَدْ يُبَاعُ الْعَيْنُ ثُمَّ يُقَالُ فِيهِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ ابْتَاعَ مِنْ هَذَا عَبْدَهُ بِأَلْفٍ فَجَحَدَ إلَخْ) هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ كَيْفِيَّةِ الْيَمِينِ وَهُوَ الْحَلِفُ عَلَى الْحَاصِلِ أَوْ السَّبَبُ.
وَالضَّابِطُ فِي ذَلِكَ أَنَّ السَّبَبَ، إمَّا أَنْ كَانَ مِمَّا يَرْتَفِعُ بِرَافِعٍ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَالتَّحْلِيفُ عَلَى السَّبَبِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَإِنْ تَضَرَّرَ الْمُدَّعِي بِالتَّحْلِيفِ عَلَى الْحَاصِلِ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَتَضَرَّرْ يَحْلِفْ عَلَى الْحَاصِلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعَلَى السَّبَبِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إلَّا إذَا عَرَضَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِرَفْعِ السَّبَبِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ قَوْلِ الْقَاضِي احْلِفْ بِاَللَّهِ مَا بِعْت أَيُّهَا الْقَاضِي إنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَبِيعُ شَيْئًا ثُمَّ يُقَالُ فِيهِ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ الْقَاضِيَ الِاسْتِحْلَافُ عَلَى الْحَاصِلِ، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ.
وَنُقِلَ عَنْ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيِّ مَا عَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ وَقِيلَ يُنْظَرُ فِي إنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ أَنْكَرَ السَّبَبَ يَحْلِفُ عَلَيْهِ وَإِنْ أَنْكَرَ الْحُكْمَ يَحْلِفُ عَلَى الْحَاصِلِ، فَعَلَى الظَّاهِرِ إذَا ادَّعَى الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ الْعِتْقَ عَلَى مَوْلَاهُ وَجَحَدَ الْمُوَلَّى يَحْلِفُ عَلَى السَّبَبِ لِعَدَمِ تَكَرُّرِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ بِتَقْدِيرِ وُقُوعِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ بَعْدَ الِارْتِدَادِ، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُسْلِمِ لَيْسَ بِمُتَصَوَّرٍ لِأَنَّهُ يُقْتَلُ بِالِارْتِدَادِ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْكَافِرِ وَالْأَمَةِ مُطْلَقًا، فَإِنَّ الرِّقَّ يَتَكَرَّرُ عَلَيْهِ بِنَقْضِ الْعَهْدِ وَاللِّحَاقِ وَعَلَيْهَا بِالرِّدَّةِ وَاللِّحَاقِ، وَإِذَا ادَّعَتْ الْمَبْتُوتَةُ نَفَقَةً وَالزَّوْجُ مِمَّنْ لَا يَرَاهَا أَوْ ادَّعَى شُفْعَةَ الْجِوَارِ وَالْمُشْتَرِي لَا يَرَاهَا يَحْلِفُ عَلَى السَّبَبِ، لِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ عَلَى الْحَاصِلِ لَصُدِّقَ فِي يَمِينِهِ فِي مُعْتَقَدِهِ فَيَتَضَرَّرُ الْمُدَّعِي.
فَإِنْ قِيلَ: بِالْحَلِفِ عَلَى السَّبَبِ يَتَضَرَّرُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَدْ اشْتَرَى وَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ أَوْ سَكَتَ عَنْ الطَّلَبِ وَلَيْسَ بِأَوْلَى بِالضَّرَرِ مِنْ الْمُدَّعِي؟ أُجِيبَ بِأَنَّهُ أَوْلَى بِذَلِكَ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ إلْحَاقِ الضَّرَرِ بِأَحَدِهِمَا وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي مَا هُوَ أَصْلٌ لِأَنَّ الشِّرَاءَ إذَا ثَبَتَ يَثْبُتُ الْحَقُّ لَهُ، وَسُقُوطُهُ إنَّمَا يَكُونُ بِأَسْبَابٍ عَارِضَةٍ فَيَجِبُ التَّمَسُّكُ بِالْأَصْلِ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى الْعَارِضِ، وَإِذَا ادَّعَى الطَّلَاقَ أَوْ الْغَصْبَ أَوْ النِّكَاحَ أَوْ الْبَيْعَ يَحْلِفُ عِنْدَهُمَا عَلَى الْحَاصِلِ بِاَللَّهِ مَا هِيَ بَائِنٌ مِنْك السَّاعَةَ وَمَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْك رَدُّهُ وَمَا بَيْنَكُمَا نِكَاحٌ أَوْ بَيْعٌ قَائِمٌ فِي الْحَالِ لِأَنَّ السَّبَبَ، مِمَّا يَتَكَرَّرُ فَبِالْحَلِفِ عَلَيْهِ يَتَضَرَّرُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَحْلِفُ عَلَى السَّبَبِ. (وَيَسْتَحْلِفُ فِي الْغَصْبِ بِاَللَّهِ مَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْك رَدَّهُ وَلَا يَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا غَصَبْت) لِأَنَّهُ قَدْ يَغْصِبُ ثُمَّ يَفْسَخُ بِالْهِبَةِ وَالْبَيْعِ (وَفِي النِّكَاحِ بِاَللَّهِ مَا بَيْنَكُمَا نِكَاحٌ قَائِمٌ فِي الْحَالِ) لِأَنَّهُ قَدْ يَطْرَأُ عَلَيْهِ الْخُلْعُ (وَفِي دَعْوَى الطَّلَاقِ بِاَللَّهِ مَا هِيَ بَائِنٌ مِنْك السَّاعَةَ بِمَا ذَكَرْت وَلَا يَسْتَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا طَلَّقَهَا) لِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ يُجَدَّدُ بَعْدَ الْإِبَانَةِ فَيَحْلِفُ عَلَى الْحَاصِلِ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ، لِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ عَلَى السَّبَبِ يَتَضَرَّرُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَحْلِفُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ عَلَى السَّبَبِ إلَّا إذَا عَرَّضَ بِمَا ذَكَرْنَا فَحِينَئِذٍ يَحْلِفُ عَلَى الْحَاصِلِ.
وَقِيلَ: يَنْظُرُ إلَى إنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إنْ أَنْكَرَ السَّبَبَ يَحْلِفُ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَنْكَرَ الْحُكْمَ يَحْلِفُ عَلَى الْحَاصِلِ.
فَالْحَاصِلُ هُوَ الْأَصْلُ عِنْدَهُمَا إذَا كَانَ سَبَبًا يَرْتَفِعُ إلَّا إذَا كَانَ فِيهِ تَرْكُ النَّظَرِ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي فَحِينَئِذٍ يَحْلِفُ عَلَى السَّبَبِ بِالْإِجْمَاعِ، وَذَلِكَ أَنْ تَدَّعِيَ مَبْتُوتَةٌ نَفَقَةَ الْعِدَّةِ وَالزَّوْجُ مِمَّنْ لَا يَرَاهَا، أَوْ ادَّعَى شُفْعَةً بِالْجِوَارِ وَالْمُشْتَرِي لَا يَرَاهَا، لِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ عَلَى الْحَاصِلِ يَصْدُقُ فِي يَمِينِهِ فِي مُعْتَقَدِهِ فَيَفُوتُ النَّظَرُ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي، وَإِنْ كَانَ سَبَبًا لَا يَرْتَفِعُ بِرَافِعٍ فَالتَّحْلِيفُ عَلَى السَّبَبِ بِالْإِجْمَاعِ (كَالْعَبْدِ الْمُسْلِمِ إذَا ادَّعَى الْعِتْقَ عَلَى مَوْلَاهُ، بِخِلَافِ الْأَمَةِ وَالْعَبْدِ الْكَافِرِ) لِأَنَّهُ يُكَرِّرُ الرِّقَّ عَلَيْهَا بِالرِّدَّةِ وَاللِّحَاقِ وَعَلَيْهِ بِنَقْضِ الْعَهْدِ وَاللِّحَاقِ، وَلَا يُكَرِّرُ عَلَى الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ. قَالَ: (وَمَنْ وَرِثَ عَبْدًا وَادَّعَاهُ آخَرُ يَسْتَحْلِفُ عَلَى عِلْمِهِ) لِأَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ بِمَا صَنَعَ الْمُوَرِّثُ فَلَا يَحْلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ (وَإِنْ وَهَبَ لَهُ أَوْ اشْتَرَاهُ يَحْلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ) لِوُجُودِ الْمُطْلَقِ لِلْيَمِينِ إذْ الشِّرَاءُ سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ وَضْعًا وَكَذَا الْهِبَةُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ وَرِثَ عَبْدًا وَادَّعَاهُ آخَرُ اُسْتُحْلِفَ عَلَى عِلْمِهِ إلَخْ) وَهَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ كَيْفِيَّةِ الْيَمِينِ وَهُوَ الْيَمِينُ عَلَى الْعِلْمِ أَوْ الْبَتَاتِ، الضَّابِطُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الدَّعْوَى إذَا وَقَعَتْ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ كَانَ الْحَلِفُ عَلَى الْعِلْمِ، وَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى فِعْلِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَانَ عَلَى الْبَتَاتِ، وَنُوقِضَ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا ادَّعَى أَنَّ الْعَبْدَ سَارِقٌ أَوْ آبِقٌ وَأَثْبَتَ ذَلِكَ فِي يَدِ نَفْسِهِ وَادَّعَاهُ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَأَرَادَ تَحْلِيفَ الْبَائِعِ يَحْلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ بِاَللَّهِ مَا أَبَقَ مَا سَرَقَ مَعَ أَنَّهُ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ، وَبِالْمُودَعِ إذَا ادَّعَى قَبْضَ صَاحِبِ الْوَدِيعَةِ فَإِنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ وَالْقَبْضُ فِعْلُ الْغَيْرِ، وَبِالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا بَاعَ وَسَلَّمَ إلَى الْمُشْتَرِي ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّ الْمُوَكِّلَ قَبَضَ الثَّمَنَ وَأَنْكَرَهُ الْمُوَكِّلُ يَحْلِفُ الْوَكِيلُ بِاَللَّهِ مَا قَبَضَ الْمُوَكِّلُ وَهُوَ فِعْلُ الْغَيْرِ، وَعَنْ هَذَا ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ التَّحْلِيفَ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْعِلْمِ إذَا قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا عِلْمَ لِي بِذَلِكَ، فَأَمَّا إذَا قَالَ لِي عِلْمٌ بِذَلِكَ حَلَفَ عَلَى الْبَتَاتِ.
وَفِي صُوَرِ النَّقْضِ يَدَّعِي الْعِلْمَ فَكَانَ الْحَلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ، وَتَخْرِيجُهَا عَلَى الْأَوَّلِ أَنَّ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ ضَمِنَ الْبَائِعُ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ سَلِيمًا عَنْ الْعُيُوبِ، فَالتَّحْلِيفُ يَرْجِعُ إلَى مَا ضَمِنَ بِنَفْسِهِ، وَفِي الْبَاقِيَيْنِ الْحَلِفُ يَرْجِعُ إلَى فِعْلِ نَفْسِهِ وَهُوَ التَّسْلِيمُ لَا إلَى فِعْلِ غَيْرِهِ وَهُوَ الْقَبْضُ (وَإِذَا وَرِثَ عَبْدًا وَادَّعَاهُ آخَرُ اُسْتُحْلِفَ عَلَى عِلْمِهِ، لِأَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ بِمَا صَنَعَ الْمُوَرِّثُ فَلَا يَحْلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ، وَإِنْ وُهِبَ لَهُ أَوْ اشْتَرَاهُ يَحْلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ لِوُجُودِ الْمُطْلَقِ لِلْيَمِينِ، إذْ الشِّرَاءُ سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ وَضْعًا وَكَذَا الْهِبَةُ) فَإِنْ قِيلَ: الْإِرْثُ كَذَلِكَ. أُجِيبَ بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ سَبَبٌ اخْتِيَارِيٌّ يُبَاشِرُهُ بِنَفْسِهِ فَيُعْلَمُ مَا صَنَعَ قَالَ (وَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ مَالًا فَافْتَدَى يَمِينَهُ أَوْ صَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى عَشْرَةٍ فَهُوَ جَائِزٌ) وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ عَلَى تِلْكَ الْيَمِينِ أَبَدًا) لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: وَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ مَالًا إلَخْ وَمَنْ افْتَدَى عَنْ يَمِينِهِ أَوْ صَالَحَ مِنْهَا عَلَى شَيْءٍ مِثْلِ الْمَالِ الْمُدَّعَى بِهِ أَوْ أَقَلَّ جَازَ وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَفْظُ الْكِتَابِ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ كَانَ مُدَّعًى عَلَيْهِ.
وَذَكَرَ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ أَنَّهُ ادَّعَى عَلَيْهِ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا فَأَعْطَى شَيْئًا وَافْتَدَى يَمِينَهُ وَلَمْ يَحْلِفْ، فَقِيلَ أَلَا تَحْلِفُ وَأَنْتَ صَادِقٌ؟ فَقَالَ: أَخَافُ أَنْ يُوَافِقَ قَدْرَ يَمِينِي فَيُقَالُ هَذَا بِسَبَبِ يَمِينِهِ الْكَاذِبَةِ.
وَذَكَرَ أَنَّ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ اسْتَقْرَضَ مِنْ عُثْمَانَ سَبْعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ ثُمَّ قَضَاهُ أَرْبَعَةَ آلَافٍ فَتَرَافَعَا إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خِلَافَتِهِ فَقَالَ الْمِقْدَادُ: لِيَحْلِفْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا يَقُولُ وَلْيَأْخُذْ سَبْعَةَ آلَافٍ فَقَالَ عُمَرُ لِعُثْمَانَ أَنْصَفَك الْمِقْدَادُ احْلِفْ إنَّهَا كَمَا تَقُولُ وَخُذْهَا فَلَمْ يَحْلِفْ عُثْمَانُ، فَلَمَّا خَرَجَ الْمِقْدَادُ قَالَ عُثْمَانُ لِعُمَرَ: إنَّهَا كَانَتْ سَبْعَةَ آلَافٍ قَالَ فَمَا مَنَعَك أَنْ تَحْلِفَ وَقَدْ جَعَلَ ذَلِكَ إلَيْك؟ فَقَالَ عُثْمَانُ عِنْدَ ذَلِكَ مَا قَالَهُ.
فَيَكُونُ دَلِيلًا لِلشَّافِعِيِّ عَلَى جَوَازِ رَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ كَانَ يَدَّعِي الْإِيفَاءَ عَلَى عُثْمَانَ.
وَبِهِ نَقُولُ.
ثُمَّ لَمَّا بَطَلَ حَقُّهُ فِي الْيَمِينِ فِي لَفْظِ الْفِدَاءِ وَالصُّلْحِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى يَمِينَهُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ لَمْ يُجْبَرْ وَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ، لِأَنَّ الشِّرَاءَ عَقْدُ تَمْلِيكِ الْمَالِ بِالْمَالِ وَالْيَمِينُ لَيْسَتْ بِمَالٍ.

.(بَابُ التَّحَالُفِ):

قَالَ: (وَإِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فِي الْبَيْعِ فَادَّعَى أَحَدُهُمَا ثَمَنًا وَادَّعَى الْبَائِعُ أَكْثَرَ مِنْهُ أَوْ اعْتَرَفَ الْبَائِعُ بِقَدْرٍ مِنْ الْمَبِيعِ وَادَّعَى الْمُشْتَرِي أَكْثَرَ مِنْهُ فَأَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ قَضَى لَهُ بِهَا) لِأَنَّ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ مُجَرَّدَ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةُ أَقْوَى مِنْهَا (وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً كَانَتْ الْبَيِّنَةُ الْمُثْبِتَةُ لِلزِّيَادَةِ أَوْلَى) لِأَنَّ الْبَيِّنَاتِ لِلْإِثْبَاتِ وَلَا تَعَارُضَ فِي الزِّيَادَةِ (وَلَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ جَمِيعًا فَبَيِّنَةُ الْبَائِعِ أَوْلَى فِي الثَّمَنِ وَبَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي أَوْلَى فِي الْمَبِيعِ) نَظَرًا إلَى زِيَادَةِ الْإِثْبَاتِ.
(وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ قِيلَ لِلْمُشْتَرِي إمَّا أَنْ تَرْضَى بِالثَّمَنِ الَّذِي ادَّعَاهُ الْبَائِعُ وَإِلَّا فَسَخْنَا الْبَيْعَ، وَقِيلَ لِلْبَائِعِ إمَّا أَنْ تُسَلِّمَ مَا ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْمَبِيعِ وَإِلَّا فَسَخْنَا الْبَيْعَ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ، وَهَذِهِ جِهَةٌ فِيهِ لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَرْضَيَانِ بِالْفَسْخِ فَإِذَا عَلِمَا بِهِ يَتَرَاضَيَانِ بِهِ (فَإِنْ لَمْ يَتَرَاضَيَا اسْتَحْلَفَ الْحَاكِمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى الْآخَرِ) وَهَذَا التَّحَالُفُ قَبْلَ الْقَبْضِ عَلَى وِفَاقِ الْقِيَاسِ، لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي زِيَادَةَ الثَّمَنِ وَالْمُشْتَرِيَ يُنْكِرُهُ، وَالْمُشْتَرِيَ يَدَّعِي وُجُوبَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ بِمَا نَقَدَ وَالْبَائِعَ يُنْكِرُهُ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْكِرٌ فَيَحْلِفُ؛ فَأَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَمُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَدَّعِي شَيْئًا لِأَنَّ الْمَبِيعَ سَالِمٌ لَهُ فَبَقِيَ دَعْوَى الْبَائِعِ فِي زِيَادَةِ الثَّمَنِ وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُهَا فَيُكْتَفَى بِحَلِفِهِ، لَكِنَّا عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ بِعَيْنِهَا تَحَالَفَا وَتَرَادَّا».
الشَّرْحُ:
بَابُ التَّحَالُفِ:
رَاعَى التَّرْتِيبَ الطَّبِيعِيَّ فَأَخَّرَ يَمِينَ الِاثْنَيْنِ عَنْ يَمِينِ الْوَاحِدِ لِيُنَاسِبَ الْوَضْعُ الطَّبْعَ (إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فِي الْبَيْعِ) فَادَّعَى الْمُشْتَرِي أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِمِائَةٍ وَادَّعَى الْبَائِعُ أَنَّهُ بَاعَهُ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ أَوْ اعْتَرَفَ الْبَائِعُ بِأَنَّ الْمَبِيعَ كُرٌّ مِنْ حِنْطَةٍ وَقَالَ الْمُشْتَرِي هُوَ كُرَّانِ، فَمَنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُضِيَ لَهُ بِهَا، لِأَنَّ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ مُجَرَّدَ الدَّعْوَى، وَالْبَيِّنَةُ أَقْوَى مِنْهَا لِأَنَّهَا تُوجِبُ الْحُكْمَ عَلَى الْقَاضِي وَمُجَرَّدُ الدَّعْوَى لَا يُوجِبُهُ، وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً كَانَتْ الْبَيِّنَةُ الْمُثْبِتَةُ لِلزِّيَادَةِ أَوْلَى، لِأَنَّ الْبَيِّنَاتِ لِلْإِثْبَاتِ وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا فِي الزِّيَادَةِ فَمُثْبِتُهَا كَانَ أَكْثَرَ إثْبَاتًا، وَلَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ جَمِيعًا فَقَالَ الْبَائِعُ بِعْتُك هَذِهِ الْجَارِيَةَ بِمِائَةِ دِينَارٍ وَقَالَ الْمُشْتَرِي بِعْتنِيهَا وَهَذِهِ مَعَهَا بِخَمْسِينَ دِينَارًا وَأَقَامَ بَيِّنَةً فَبَيِّنَةُ الْبَائِعِ أَوْلَى فِي الثَّمَنِ وَبَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي أَوْلَى فِي الْمَبِيعِ نَظَرًا إلَى زِيَادَةِ الْإِثْبَاتِ وَهُمَا جَمِيعًا لِلْمُشْتَرِي بِمِائَةِ دِينَارٍ.
وَقِيلَ هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ آخِرًا، وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ: يَقْضِي بِهِمَا لِلْمُشْتَرِي بِمِائَةٍ وَخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ دِينَارًا، وَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي جِنْسِ الثَّمَنِ كَمَا لَوْ قَالَ الْبَائِعُ بِعْتُك هَذِهِ الْجَارِيَةَ بِعَبْدِك هَذَا وَقَالَ الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْتهَا مِنْك بِمِائَةِ دِينَارٍ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَهِيَ لِمَنْ الِاتِّفَاقُ عَلَى قَوْلِهِ وَهُوَ الْبَائِعُ، لِأَنَّ حَقَّ الْمُشْتَرِي فِي الْجَارِيَةِ ثَابِتٌ بِاتِّفَاقِهِمَا، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي حَقِّ الْبَائِعِ فَبَيِّنَتُهُ عَلَى حَقِّهِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ يَقُولُ الْحَاكِمُ لِلْمُشْتَرِي إمَّا أَنْ تَرْضَى بِالثَّمَنِ الَّذِي يَدَّعِيهِ الْبَائِعُ وَإِلَّا فَسَخْنَا الْبَيْعَ، وَيَقُولُ الْبَائِعُ إمَّا أَنْ تُسَلِّمَ مَا ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْمَبِيعِ وَإِلَّا فَسَخْنَا الْبَيْعَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ وَهَذِهِ جِهَةٌ فِيهِ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَرْضَيَانِ بِالْفَسْخِ، فَإِذَا عَلِمَا بِهِ يَتَرَاضَيَانِ، فَإِنْ لَمْ يَتَرَاضَيَا اسْتَحْلَفَ الْحَاكِمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى الْآخَرِ، وَهَذَا التَّحَالُفُ قَبْلَ الْقَبْضِ عَلَى وِفَاقِ الْقِيَاسِ، لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي زِيَادَةَ الثَّمَنِ وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُهُ، وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي وُجُوبَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ بِمَا نَقَدَ وَالْبَائِعُ يُنْكِرُهُ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا مُنْكِرٌ وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ فَيَحْلِفَانِ، أَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَعَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَدَّعِي شَيْئًا، لِأَنَّ الْمَبِيعَ سَالِمٌ لَهُ فِي يَدِهِ، فَبَقِيَ دَعْوَى الْبَائِعِ فِي زِيَادَةِ الثَّمَنِ وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُهُ فَكَانَ الْقِيَاسُ الِاكْتِفَاءَ بِحَلِفِهِ لَكِنَّا عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ بِعَيْنِهَا تَحَالَفَا وَتَرَادَّا» وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا الْحَدِيثُ مُخَالِفٌ لِلْمَشْهُورِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا فَهُوَ مَرْجُوحٌ، وَإِنْ كَانَ فَكَذَلِكَ لِعُمُومِ الْمَشْهُورِ، أَوْ يَتَعَارَضَانِ وَلَا تَرْجِيحَ (وَيَبْتَدِئُ بِيَمِينِ الْمُشْتَرِي) وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ آخِرًا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَشَدُّهُمَا إنْكَارًا لِأَنَّهُ يُطَالِبُ أَوَّلًا بِالثَّمَنِ وَلِأَنَّهُ يَتَعَجَّلُ فَائِدَةَ النُّكُولِ وَهُوَ إلْزَامُ الثَّمَنِ، وَلَوْ بُدِئَ بِيَمِينِ الْبَائِعِ تَتَأَخَّرُ الْمُطَالَبَةُ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إلَى زَمَانِ اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ.
وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ أَوَّلًا: يَبْدَأُ بِيَمِينِ الْبَائِعِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فَالْقَوْلُ مَا قَالَهُ الْبَائِعُ» خَصَّهُ بِالذِّكْرِ، وَأَقَلُّ فَائِدَتِهِ التَّقْدِيمُ.
(وَإِنْ كَانَ بَيْعُ عَيْنٍ بِعَيْنٍ أَوْ ثَمَنٍ بِثَمَنٍ بَدَأَ الْقَاضِي بِيَمِينِ أَيُّهُمَا شَاءَ) لِاسْتِوَائِهِمَا.
الشَّرْحُ:
وَيُبْدَأُ بِيَمِينِ الْمُشْتَرِي وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ آخِرًا وَرِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الصَّحِيحُ دُونَ مَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ إنَّهُ يُبْدَأُ بِيَمِينِ الْبَائِعِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَشَدُّهُمَا إنْكَارًا لِكَوْنِهِ أَوَّلَ مَنْ يُطَالِبُ بِالثَّمَنِ فَهُوَ الْبَادِي بِالْإِنْكَارِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيمِ الْإِنْكَارِ دُونَ شِدَّتِهِ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِالشِّدَّةِ التَّقَدُّمَ وَهُوَ الْأَنْسَبُ بِالْمَقَامِ، لِأَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ فِي الْإِنْكَارِ تَقَدَّمَ فِي الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، أَوْ لِأَنَّ فَائِدَةَ النُّكُولِ تَتَعَجَّلُ بِالْبُدَاءَةِ بِهِ وَهُوَ إلْزَامُ الثَّمَنِ، وَلَوْ بُدِئَ بِيَمِينِ الْبَائِعِ تَأَخَّرَتْ الْمُطَالَبَةُ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إلَى زَمَنِ اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ.
وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ يَقُولُ أَوَّلًا يُبْدَأُ بِيَمِينِ الْبَائِعِ وَذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى وَأَبُو الْحَسَنِ فِي جَامِعِهِ أَنَّهُ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فَالْقَوْلُ مَا قَالَهُ الْبَائِعُ» وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَصَّهُ بِالذِّكْرِ، وَأَقَلُّ فَائِدَتِهِ التَّقْدِيمُ: يَعْنِي أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَهُ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الِاكْتِفَاءَ بِيَمِينِهِ، لَكِنْ لَا يُكْتَفَى بِهَا فَلَا أَقَلَّ مِنْ الْبُدَاءَةِ بِهَا، وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ مُقَابَضَةً أَوْ صَرْفًا يَبْدَأُ الْقَاضِي بِأَيِّهِمَا شَاءَ لِاسْتِوَائِهِمَا. (وَصِفَةُ الْيَمِينِ أَنْ يَحْلِفَ الْبَائِعُ بِاَللَّهِ مَا بَاعَهُ بِأَلْفٍ وَيَحْلِفَ الْمُشْتَرِي بِاَللَّهِ مَا اشْتَرَاهُ بِأَلْفَيْنِ) وَقَالَ فِي الزِّيَادَاتِ: يَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا بَاعَهُ بِأَلْفٍ وَلَقَدْ بَاعَهُ بِأَلْفَيْنِ، يَحْلِفُ الْمُشْتَرِي بِاَللَّهِ مَا اشْتَرَاهُ بِأَلْفَيْنِ وَلَقَدْ اشْتَرَاهُ بِأَلْفٍ يَضْمَنُ الْإِثْبَاتُ إلَى النَّفْيِ تَأْكِيدًا، وَالْأَصَحُّ الِاقْتِصَارُ عَلَى النَّفْيِ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ عَلَى ذَلِكَ وُضِعَتْ، دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْقَسَامَةِ «بِاَللَّهِ مَا قَتَلْتُمْ وَلَا عَلِمْتُمْ لَهُ قَاتِلًا».
قَالَ (فَإِنْ حَلَفَا فَسَخَ الْقَاضِي الْبَيْعَ بَيْنَهُمَا) وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ بِنَفْسِ التَّحَالُفِ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ مَا ادَّعَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَبْقَى بَيْعُ مَجْهُولٍ فَيَفْسَخُهُ الْقَاضِي قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ.
أَوْ يُقَالُ إذَا لَمْ يَثْبُتْ الْبَدَلُ يَبْقَى بَيْعًا بِلَا بَدَلٍ وَهُوَ فَاسِدٌ وَلَا بُدَّ مِنْ الْفَسْخِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ.
قَالَ: (وَإِنْ نَكَلَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْيَمِينِ لَزِمَهُ دَعْوَى الْآخَرِ) لِأَنَّهُ جُعِلَ بَاذِلًا فَلَمْ يَبْقَ دَعْوَاهُ مُعَارِضًا لِدَعْوَى الْآخَرِ فَلَزِمَ الْقَوْلُ بِثُبُوتِهِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَصِفَةُ الْيَمِينِ إلَخْ) ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ صِفَةَ الْيَمِينِ أَنْ يَحْلِفَ الْبَائِعُ بِاَللَّهِ مَا بَاعَهُ بِأَلْفٍ، وَيَحْلِفُ الْمُشْتَرِي بِاَللَّهِ مَا اشْتَرَاهُ بِأَلْفَيْنِ.
وَقَالَ فِي الزِّيَادَاتِ: يَحْلِفُ الْبَائِعُ بِاَللَّهِ مَا بَاعَهُ بِأَلْفٍ وَلَقَدْ بَاعَهُ بِأَلْفَيْنِ، وَيَحْلِفُ الْمُشْتَرِي بِاَللَّهِ مَا اشْتَرَاهُ بِأَلْفَيْنِ وَلَقَدْ اشْتَرَاهُ بِأَلْفٍ، يَضُمُّ الْإِثْبَاتَ إلَى النَّفْيِ تَأْكِيدًا، وَالْأَصَحُّ الِاقْتِصَارُ عَلَى النَّفْيِ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ وُضِعَتْ لِلنَّفْيِ كَالْبَيِّنَاتِ لِلْإِثْبَاتِ، دَلَّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ الْقَسَامَةِ «بِاَللَّهِ تَعَالَى مَا قَتَلْتُمْ وَلَا عَلِمْتُمْ لَهُ قَاتِلًا» وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي التَّأْكِيدَ، فَإِنْ حَلَفَا فَسَخَ الْقَاضِي الْبَيْعَ بَيْنَهُمَا إذَا طَلَبَاهُ أَوْ طَلَبَ أَحَدُهُمَا، لِأَنَّ الْفَسْخَ حَقُّهُمَا فَلَا بُدَّ مِنْ الطَّلَبِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ بِنَفْسِ التَّحَالُفِ، بَلْ لابد مِنْ الْفَسْخِ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَثْبُتْ مُدَّعَى كُلٍّ مِنْهُمَا بَقِيَ بَيْعًا مَجْهُولًا فَيَفْسَخُهُ الْحَاكِمُ قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ.
أَوْ يُقَالُ: إذَا لَمْ يَثْبُتْ الْبَدَلُ بَقِيَ بَيْعًا بِلَا بَدَلٍ وَهُوَ فَاسِدٌ وَسَبِيلُهُ الْفَسْخُ فَمَا لَمْ يُفْسَخْ كَانَ قَائِمًا.
قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: حَلَّ لِلْمُشْتَرِي وَطْءُ جَارِيَةٍ إذَا كَانَتْ الْمَبِيعَةَ، وَإِنْ نَكَلَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْيَمِينِ لَزِمَهُ دَعْوَى الْآخَرِ لِأَنَّهُ جُعِلَ بَاذِلًا لِصِحَّةِ الْبَذْلِ فِي الْأَعْوَاضِ، وَإِذَا كَانَ بَاذِلًا لَمْ تَبْقَ دَعْوَاهُ مُعَارِضَةً لِدَعْوَى الْآخَرِ فَلَزِمَ الْقَوْلُ بِثُبُوتِهِ لِعَدَمِ الْمُعَارِضِ. قَالَ (وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْأَجَلِ أَوْ فِي شَرْطِ الْخِيَارِ أَوْ فِي اسْتِيفَاءِ بَعْضِ الثَّمَنِ فَلَا تَحَالُفَ بَيْنَهُمَا) لِأَنَّ هَذَا اخْتِلَافٌ فِي غَيْرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَالْمَعْقُودِ بِهِ، فَأَشْبَهَ الِاخْتِلَافَ فِي الْحَطِّ وَالْإِبْرَاءِ، وَهَذَا لِأَنَّ بِانْعِدَامِهِ لَا يَخْتَلُّ مَا بِهِ قِوَامُ الْعَقْدِ، بِخِلَافِ الِاخْتِلَافِ فِي وَصْفِ الثَّمَنِ وَجِنْسِهِ حَيْثُ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الِاخْتِلَافِ فِي الْقَدْرِ فِي جَرَيَانِ التَّحَالُفِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الثَّمَنِ فَإِنَّ الثَّمَنَ دَيْنٌ وَهُوَ يُعْرَفُ بِالْوَصْفِ، وَلَا كَذَلِكَ الْأَجَلُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَصْفٍ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الثَّمَنَ مَوْجُودٌ بَعْدَ مُضِيِّهِ (وَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يُنْكِرُ الْخِيَارَ وَالْأَجَلَ مَعَ يَمِينِهِ) لِأَنَّهُمَا يَثْبُتَانِ بِعَارِضِ الشَّرْطِ وَالْقَوْلُ لِمُنْكِرِ الْعَوَارِضِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي الْأَجَلِ إلَخْ) وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي الْأَجَلِ فِي أَصْلِهِ أَوْ فِي قَدْرِهِ أَوْ فِي شَرْطِ الْخِيَارِ أَوْ فِي اسْتِيفَاءِ بَعْضِ الثَّمَنِ فَلَا تَحَالُفَ بَيْنَهُمَا وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ.
وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: يَتَحَالَفَانِ لِأَنَّ الْأَجَلَ جَارٍ مَجْرَى الْوَصْفِ، فَإِنَّ الثَّمَنَ يَزْدَادُ عِنْدَ زِيَادَةِ الْأَجَلِ، وَالِاخْتِلَافُ فِي وَصْفِ الثَّمَنِ يُوجِبُ التَّحَالُفَ فَكَذَا هَذَا.
وَلَنَا أَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ فِي غَيْرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَالْمَعْقُودِ بِهِ، وَالِاخْتِلَافُ فِي غَيْرِهِمَا لَا يُوجِبُ التَّحَالُفَ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّحَالُفَ وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فِيمَا يَتِمُّ بِهِ الْعَقْدُ وَالْأَجَلُ وَرَاءَ ذَلِكَ، كَشَرْطِ الْخِيَارِ فِي أَنَّ الْعَقْدَ بِعَدَمِهِمَا لَا يَخْتَلُّ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ حَتَّى يُلْحَقَ بِهِ فَصَارَ كَالِاخْتِلَافِ فِي الْحَطِّ وَالْإِبْرَاءِ عَنْ الثَّمَنِ، بِخِلَافِ الِاخْتِلَافِ فِي وَصْفِ الثَّمَنِ بِالْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ وَجِنْسِهِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ حَيْثُ يَكُونُ الِاخْتِلَافُ فِيهِمَا كَالِاخْتِلَافِ فِي قَدْرِهِ فِي جَرَيَانِ التَّحَالُفِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الثَّمَنِ لِكَوْنِهِ دَيْنًا وَهُوَ يُعْرَفُ بِالْوَصْفِ، بِخِلَافِ الْأَجَلِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِوَصْفٍ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الثَّمَنَ مَوْجُودٌ بَعْدَ مُضِيِّهِ وَالْوَصْفُ لَا يُفَارِقُ الْمَوْصُوفَ فَهُوَ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ لَكِنَّهُ يَثْبُتُ بِوَاسِطَةِ الشَّرْطِ، وَإِذَا لَمْ يَكُونَا وَصْفَيْنِ وَلَا رَاجِعَيْنِ إلَيْهِ كَانَا عَارِضَيْنِ بِوَاسِطَةِ الشَّرْطِ، وَالْقَوْلُ لِمَنْ يُنْكِرُ الْعَوَارِضَ، وَالْحُكْمُ بِاسْتِيفَاءِ بَعْضِ الثَّمَنِ كَذَلِكَ لِأَنَّ بِانْعِدَامِهِ لَا يَخْتَلُّ مَا بِهِ قِيَامُ الْعَقْدِ لِبَقَاءِ مَا يَحْصُلُ ثَمَنًا، وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي اسْتِيفَاءِ كُلِّ الثَّمَنِ فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ، لَكِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ لِكَوْنِهِ مَفْرُوغًا عَنْهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ صَارَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الدَّعَاوَى.
وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي مُضِيِّ الْأَجَلِ فَالْقَوْلُ لِلْمُشْتَرِي، لِأَنَّ الْأَجَلَ حَقُّهُ وَهُوَ يُنْكِرُ اسْتِيفَاءَهُ. قَالَ: (فَإِنْ هَلَكَ الْمَبِيعُ ثُمَّ اخْتَلَفَا لَمْ يَتَحَالَفَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَتَحَالَفَانِ وَيُفْسَخُ الْبَيْعُ عَلَى قِيمَةِ الْهَالِكِ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَعَلَى هَذَا إذَا خَرَجَ الْمَبِيعُ عَنْ مِلْكِهِ أَوْ صَارَ بِحَالٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ بِالْعَيْبِ.
لَهُمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي غَيْرَ الْعَقْدِ الَّذِي يَدَّعِيهِ صَاحِبُهُ وَالْآخَرُ يُنْكِرُهُ وَأَنَّهُ يُفِيدُ دَفْعَ زِيَادَةِ الثَّمَنِ فَيَتَحَالَفَانِ؛ كَمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي جِنْسِ الثَّمَنِ بَعْدَ هَلَاكِ السِّلْعَةِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ التَّحَالُفَ بَعْدَ الْقَبْضِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِأَنَّهُ سَلَّمَ لِلْمُشْتَرِي مَا يَدَّعِيهِ وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ فِي حَالِ قِيَامِ السِّلْعَةِ، وَالتَّحَالُفُ فِيهِ يُفْضِي إلَى الْفَسْخِ، وَلَا كَذَلِكَ بَعْدَ هَلَاكِهَا لِارْتِفَاعِ الْعَقْدِ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَاهُ وَلِأَنَّهُ لَا يُبَالِي بِالِاخْتِلَافِ فِي السَّبَبِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَإِنَّمَا يُرَاعَى مِنْ الْفَائِدَةِ مَا يُوجِبُهُ الْعَقْدُ، وَفَائِدَةُ دَفْعِ زِيَادَةِ الثَّمَنِ لَيْسَتْ مِنْ مُوجِبَاتِهِ وَهَذَا إذَا كَانَ الثَّمَنُ دَيْنًا، فَإِنْ كَانَ عَيْنًا يَتَحَالَفَانِ لِأَنَّ الْمَبِيعَ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ قَائِمٌ فَتُوَفَّرُ فَائِدَةُ الْفَسْخِ ثُمَّ يَرُدُّ مِثْلَ الْهَالِكِ إنْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ أَوْ قِيمَتَهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (فَإِنْ هَلَكَ الْمَبِيعُ ثُمَّ اخْتَلَفَا إلَخْ) فَإِنْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي أَوْ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ أَوْ صَارَ بِحَالٍ لَا يُقْدَرُ عَلَى رَدِّهِ بِالْعَيْبِ ثُمَّ اخْتَلَفَا لَمْ يَتَحَالَفَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ: يَتَحَالَفَانِ، وَيُفْسَخُ الْبَيْعُ عَلَى قِيمَةِ الْهَالِكِ لِأَنَّ الدَّلَائِلَ الدَّالَّةَ عَلَى التَّحَالُفِ لَا تَفْصِلُ بَيْنَ كَوْنِ السِّلْعَةِ قَائِمَةً أَوْ هَالِكَةً، أَمَّا الدَّلِيلُ النَّقْلِيُّ فَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا» وَلَا يُعَارِضُهُ مَا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ مِنْ قَوْلِهِ «وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ» لِأَنَّهُ مَذْكُورٌ عَلَى سَبِيلِ التَّنْبِيهِ: أَيْ تَحَالَفَا وَإِنْ كَانَتْ السِّلْعَةُ قَائِمَةً، فَإِنَّ عِنْدَ ذَلِكَ تَمْيِيزَ الصَّادِقِ مِنْ الْكَاذِبِ، فَتَحْكِيمُ قِيمَةِ السِّلْعَةِ فِي الْحَالِ مُتَأَتٍّ، وَلَا كَذَلِكَ بَعْدَ الْهَلَاكِ، فَإِذَا جَرَى التَّحَالُفُ مَعَ إمْكَانِ التَّمْيِيزِ فَمَعَ عَدَمِهِ أَوْلَى.
وَأَمَّا الْعَقْلِيُّ فَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي عَقْدًا غَيْرَ الَّذِي يَدَّعِيهِ صَاحِبُهُ وَالْآخَرُ يُنْكِرُهُ فَيَتَحَالَفَانِ كَمَا فِي حَالِ قِيَامِ السِّلْعَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا قِيَاسٌ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ حَالَ قِيَامِهَا يُفِيدُ التَّرَادَّ وَلَا فَائِدَةَ لَهُ بَعْدَ الْهَلَاكِ.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ (فَإِنَّهُ) يَعْنِي التَّحَالُفَ (يُفِيدُ دَفْعَ زِيَادَةِ الثَّمَنِ) يَعْنِي أَنَّ التَّحَالُفَ يَدْفَعُ عَنْ الْمُشْتَرِي زِيَادَةَ الثَّمَنِ الَّتِي يَدَّعِيهَا الْبَائِعُ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ وَإِذَا حَلَفَ الْبَائِعُ انْدَفَعَتْ الزِّيَادَةُ الْمُدَّعَاةُ فَكَانَ مُفِيدًا، كَمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي جِنْسِ الثَّمَنِ بَعْدَ هَلَاكِ السِّلْعَةِ فَادَّعَى أَحَدُهُمَا الْعَقْدَ بِالدَّرَاهِمِ وَالْآخَرُ بِالدَّنَانِيرِ تَحَالَفَا وَلَزِمَ الْمُشْتَرِيَ رَدُّ الْقِيمَةِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الدَّلِيلَ النَّقْلِيَّ وَالْعَقْلِيَّ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا، فَإِلْحَاقُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ جَمْعٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: حَكَمَ الشَّرْعُ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا وَذَلِكَ فَسَادُ الْوَضْعِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» يُوجِبُ الْيَمِينَ عَلَى الْمُشْتَرِي خَاصَّةً لِأَنَّ الْمُنْكِرَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْقَبْضِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ» وَلَا مَعْنَى لِمَا قِيلَ إنَّهُ مَذْكُورٌ عَلَى سَبِيلِ التَّنْبِيهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْنًى مَقْصُودٍ بَلْ هُوَ كَالتَّأْكِيدِ، وَالتَّأْسِيسُ أَوْلَى عَلَى أَنَّهُ إمَّا مَعْطُوفٌ عَلَى الشَّرْطِ أَوْ حَالٌ فَيَكُونُ مَذْكُورًا عَلَى سَبِيلِ الشَّرْطِ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ التَّحَالُفَ بَعْدَ الْقَبْضِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لَمَّا سَلَّمَ لِلْمُشْتَرِي مَا يَدَّعِيهِ، وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ حَالَ قِيَامِ السِّلْعَةِ لِمَا ذَكَرْنَا فَلَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَلْيَكُنْ مُلْحَقًا بِالدَّلَالَةِ.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ وَالتَّحَالُفُ فِيهِ: أَيْ فِي حَالِ الْقِيَامِ يُفْضِي إلَى الْفَسْخِ فَيَنْدَفِعُ بِهِ الضَّرَرُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِرَدِّ رَأْسِ مَالِهِ بِعَيْنِهِ إلَيْهِ، وَلَا كَذَلِكَ بَعْدَ هَلَاكِهَا؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ بِالْإِقَالَةِ وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ فَكَذَا بِالتَّحَالُفِ فَلَيْسَ فِي مَعْنَاهُ فَبَطَلَ الْإِلْحَاقُ بِالدَّلَالَةِ أَيْضًا قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ لَا يُبَالِي جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي غَيْرَ الْعَقْدِ الَّذِي يَدَّعِيهِ صَاحِبُهُ وَهُوَ قَوْلٌ بِمُوجَبِ الْعِلَّةِ: أَيْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ، لَكِنْ لَا يَضُرُّنَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّ اخْتِلَافَ السَّبَبِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ إذَا أَفْضَى إلَى التَّنَاكُرِ، وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُشْتَرِي وَهُوَ تَمَلُّكُ الْمَبِيعِ قَدْ حَصَلَ بِقَبْضِهِ وَتَمَّ بِهَلَاكِهِ، وَلَيْسَ يَدَّعِي عَلَى الْبَائِعِ شَيْئًا يُنْكِرُهُ لِيَجِبَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ، وَنُوقِضَ بِحَالِ قِيَامِ السِّلْعَةِ وَبِمَا إذَا اخْتَلَفَا بَيْعًا وَهِبَةً، فَإِنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمَقْصُودَ حَاصِلٌ وَالتَّحَالُفَ مَوْجُودٌ لِاخْتِلَافِ السَّبَبِ.
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِثُبُوتِهِ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ وَالْمَذْكُورِ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ.
وَقَوْلُهُ (وَإِنَّمَا يُرَاعَى) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا وَأَنَّهُ يُفِيدُ دَفْعَ زِيَادَةِ الثَّمَنِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمُرَاعَى مِنْ الْفَائِدَةِ مَا يَكُونُ مِنْ مُوجِبَاتِ الْعَقْدِ وَمَا ذَكَرْتُمْ لَيْسَ مِنْهَا فَإِنَّهُ مِنْ مُوجِبَاتِ النُّكُولِ، وَالنُّكُولُ مِنْ مُوجِبَاتِ التَّحَالُفِ، وَالتَّحَالُفُ لَيْسَ مِنْ مُوجِبَاتِ الْعَقْدِ فَلَا يُتْرَكُ بِهِ مَا هُوَ مِنْ مُوجِبَاتِهِ.
وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ مِلْكِ الْمَبِيعِ وَقَبْضِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّا قَدْ اعْتَبَرْنَا حَالَ قِيَامِ السِّلْعَةِ التَّرَادَّ فَائِدَةَ التَّحَالُفِ، وَلَيْسَ التَّحَالُفُ مِنْ مُوجِبَاتِ الْعَقْدِ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ ثَبَتَ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ (وَهَذَا) أَيْ هَذَا الِاخْتِلَافُ (إذَا كَانَ الثَّمَنُ دَيْنًا) ثَابِتًا فِي الذِّمَّةِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ الْمَوْصُوفَةِ الثَّابِتَةِ فِي الذِّمَّةِ (فَأَمَّا إذَا كَانَ عَيْنًا) بِأَنْ كَانَ الْعَقْدُ مُقَايَضَةً وَهَلَكَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ، فَإِنَّهُمَا (يَتَحَالَفَانِ لِأَنَّ الْمَبِيعَ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ قَائِمٌ فَتَتَوَفَّرُ فَائِدَةُ الْفَسْخِ) وَهُوَ التَّرَادُّ (ثُمَّ يُرَدُّ مِثْلُ الْهَالِكِ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا أَوْ قِيمَتُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ) قَالَ (وَإِنْ هَلَكَ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ لَمْ يَتَحَالَفَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ أَنْ يَتْرُكَ حِصَّةَ الْهَالِكِ مِنْ الثَّمَنِ.
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَ الْعَبْدَ الْحَيَّ وَلَا شَيْءَ لَهُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَتَحَالَفَانِ فِي الْحَيِّ وَيُفْسَخُ الْعَقْدُ فِي الْحَيِّ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَتَحَالَفَانِ عَلَيْهِمَا وَيَرُدُّ الْحَيَّ وَقِيمَةَ الْهَالِكِ) لِأَنَّ هَلَاكَ كُلِّ السِّلْعَةِ لَا يَمْنَعُ التَّحَالُفَ عِنْدَهُ فَهَلَاكُ الْبَعْضِ أَوْلَى.
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ امْتِنَاعَ التَّحَالُفِ لِلْهَلَاكِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّحَالُفَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فِي حَالِ قِيَامِ السِّلْعَةِ وَهِيَ اسْمٌ لِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا فَلَا تَبْقَى السِّلْعَةُ بِفَوَاتِ بَعْضِهَا، وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَالُفُ فِي الْقَائِمِ إلَّا عَلَى اعْتِبَارِ حِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْقِسْمَةِ وَهِيَ تُعْرَفُ بِالْحَذَرِ وَالظَّنِّ فَيُؤَدِّي إلَى التَّحَالُفِ مَعَ الْجَهْلِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ أَنْ يَتْرُكَ حِصَّةَ الْهَالِكِ أَصْلًا لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ الثَّمَنُ كُلُّهُ بِمُقَابَلَةِ الْقَائِمِ وَيَخْرُجُ الْهَالِكُ عَنْ الْعَقْدِ فَيَتَحَالَفَانِ.
هَذَا تَخْرِيجُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ وَيُصْرَفُ الِاسْتِثْنَاءُ عِنْدَهُمْ إلَى التَّحَالُفِ كَمَا ذَكَرْنَا وَقَالُوا: إنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يَأْخُذُ الْحَيَّ وَلَا شَيْءَ لَهُ، مَعْنَاهُ: لَا يَأْخُذُ مِنْ ثَمَنِ الْهَالِكِ شَيْئًا أَصْلًا.
وَقَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: يَأْخُذُ مِنْ ثَمَنِ الْهَالِكِ بِقَدْرِ مَا أَقَرَّ بِهِ الْمُشْتَرِي، وَإِنَّمَا لَا يَأْخُذُ الزِّيَادَةَ.
وَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ يَنْصَرِفُ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى يَمِينِ الْمُشْتَرِي لَا إلَى التَّحَالُفِ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَخَذَ الْبَائِعُ بِقَوْلِ الْمُشْتَرِي فَقَدْ صَدَّقَهُ فَلَا يَحْلِفُ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ تَفْسِيرُ التَّحَالُفِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ مَا بَيَّنَّاهُ فِي الْقَائِمِ.
وَإِذَا حَلَفَا وَلَمْ يَتَّفِقَا عَلَى شَيْءٍ فَادَّعَى أَحَدُهُمَا الْفَسْخَ أَوْ كِلَاهُمَا يُفْسَخُ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا وَيَأْمُرُ الْقَاضِي الْمُشْتَرِيَ بِرَدِّ الْبَاقِي وَقِيمَةِ الْهَالِكِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِهِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَحْلِفُ الْمُشْتَرِي بِاَللَّهِ مَا اشْتَرَيْتُهُمَا بِمَا يَدَّعِيهِ الْبَائِعُ، فَإِنْ نَكَلَ لَزِمَهُ دَعْوَى الْبَائِعِ، وَإِنْ حَلَفَ يَحْلِفُ الْبَائِعُ بِاَللَّهِ مَا بِعْتُهُمَا بِالثَّمَنِ الَّذِي يَدَّعِيهِ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ نَكَلَ لَزِمَهُ دَعْوَى الْمُشْتَرِي، وَإِنْ حَلَفَ يَفْسَخَانِ الْعَقْدَ فِي الْقَائِمِ وَتَسْقُطُ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ وَيَلْزَمُ الْمُشْتَرِي حِصَّةَ الْهَالِكِ وَيُعْتَبَرُ قِيمَتُهُمَا فِي الِانْقِسَامِ يَوْمَ الْقَبْضِ (وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ يَوْمَ الْقَبْضِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ، وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ.
وَإِنْ أَقَامَاهَا فَبَيِّنَةُ الْبَائِعِ أَوْلَى) وَهُوَ قِيَاسُ مَا ذُكِرَ فِي بُيُوعِ الْأَصْلِ (اشْتَرَى عَبْدَيْنِ وَقَبَضَهُمَا ثُمَّ رَدَّ أَحَدَهُمَا بِالْعَيْبِ وَهَلَكَ الْآخَرُ عِنْدَهُ يَجِبُ عَلَيْهِ ثَمَنُ مَا هَلَكَ عِنْدَهُ وَيَسْقُطُ عَنْهُ ثَمَنُ مَا رَدَّهُ وَيَنْقَسِمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَتِهِمَا.
فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ) لِأَنَّ الثَّمَنَ قَدْ وَجَبَ بِاتِّفَاقِهِمَا ثُمَّ الْمُشْتَرِي يَدَّعِي زِيَادَةَ السُّقُوطِ بِنُقْصَانِ قِيمَةِ الْهَالِكِ وَالْبَائِعُ يُنْكِرُهُ وَالْقَوْلُ لِلْمُنْكِرِ (وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَبَيِّنَةُ الْبَائِعِ أَوْلَى) لِأَنَّهَا أَكْثَرُ إثْبَاتًا ظَاهِرًا لِإِثْبَاتِهَا الزِّيَادَةَ فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ وَهَذَا لِفِقْهٍ.
وَهُوَ أَنَّ فِي الْأَيْمَانِ تُعْتَبَرُ الْحَقِيقَةُ لِأَنَّهَا تَتَوَجَّهُ عَلَى أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ وَهُمَا يَعْرِفَانِ حَقِيقَةَ الْحَالِ فَبُنِيَ الْأَمْرُ عَلَيْهَا وَالْبَائِعُ مُنْكِرٌ حَقِيقَةً فَلِذَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَفِي الْبَيِّنَاتِ يُعْتَبَرُ الظَّاهِرُ لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ لَا يَعْلَمَانِ حَقِيقَةَ الْحَالِ فَاعْتُبِرَ الظَّاهِرُ فِي حَقِّهِمَا وَالْبَائِعُ مُدَّعٍ ظَاهِرًا فَلِهَذَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ أَيْضًا وَتَتَرَجَّحُ بِالزِّيَادَةِ الظَّاهِرَةِ عَلَى مَا مَرَّ، وَهَذَا يُبَيِّنُ لَك مَعْنَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِنْ هَلَكَ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ ثُمَّ اخْتَلَفَا إلَخْ) وَإِذَا بَاعَ الرَّجُلُ عَبْدَيْنِ صَفْقَةً وَاحِدَةً وَقَبَضَهُمَا الْمُشْتَرِي فَهَلَكَ أَحَدُهُمَا ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ فَقَالَ الْبَائِعُ بِعْتهمَا مِنْك بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَقَالَ الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْتهمَا مِنْك بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَمْ يَتَحَالَفَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ أَنْ يَتْرُكَ حِصَّةَ الْهَالِكِ (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَ الْحَيَّ وَلَا شَيْءَ لَهُ) وَاخْتِلَافُ هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ فِي اللَّفْظِ لَا يَخْفَى.
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي تَوْجِيهِ قَوْلِهِ أَنْ يَتْرُكَ حِصَّةَ الْهَالِكِ، وَقَوْلِهِ أَنْ يَأْخُذَ الْحَيَّ وَلَا شَيْءَ لَهُ، وَفِي مَصْرِفِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الرِّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا قَالُوا: مَعْنَى الْأَوَّلِ أَنْ يَخْرُجَ الْهَالِكُ مِنْ الْعَقْدِ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَصَارَ الثَّمَنُ كُلُّهُ بِمُقَابِلِ الْقَائِمِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ يَنْصَرِفُ إلَى التَّحَالُفِ لِأَنَّهُ الْمَذْكُورُ فِي الْكَلَامِ فَكَانَ تَقْدِيرُ كَلَامِهِ لَمْ يَتَحَالَفَا إلَّا إذَا تَرَكَ الْبَائِعُ حِصَّةَ الْهَالِكِ فَيَتَحَالَفَانِ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يَأْخُذُ الْحَيَّ وَلَا شَيْءَ لَهُ مَعْنَاهُ: لَا يَأْخُذُ مِنْ ثَمَنِ الْهَالِكِ شَيْئًا أَصْلًا وَعَلَى هَذَا عَامَّتُهُمْ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ لَمْ يَتَحَالَفَا، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ إلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَ الْحَيَّ وَلَا يَأْخُذَ مِنْ ثَمَنِ الْهَالِكِ شَيْئًا آخَرَ زَائِدًا عَلَى مَا أَقَرَّ بِهِ الْمُشْتَرِي، وَعَلَى هَذَا يَنْصَرِفُ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى يَمِينِ الْمُشْتَرِي لَا إلَى التَّحَالُفِ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَخَذَ الْبَائِعُ بِقَوْلِ الْمُشْتَرِي وَصَدَّقَهُ لَا يَحْلِفُ الْمُشْتَرِي، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ يُشِيرُ إلَى أَنَّ أَخْذَ الْحَيِّ لَمْ يَكُنْ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ كَمَا نَقَلَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ عَنْ الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ، بَلْ بِطَرِيقِ تَصْدِيقِ الْمُشْتَرِي فِي قَوْلِهِ وَتَرْكِ مَا يَدَّعِيهِ عَلَيْهِ وَهُوَ أَوْلَى لِمَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ إنَّهُ لَوْ كَانَ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ لَكَانَ مُعَلَّقًا بِمَشِيئَتِهَا.
قِيلَ: وَالصَّحِيحُ هُوَ الثَّانِي لِأَنَّ الْبَائِعَ لَا يَتْرُكُ مِنْ ثَمَنِ الْمَيِّتِ شَيْئًا مِمَّا أَقَرَّ بِهِ الْمُشْتَرِي، إنَّمَا يَتْرُكُ دَعْوَى الزِّيَادَةِ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَتَحَالَفَانِ فِي الْحَيِّ وَيُفْسَخُ الْعَقْدُ فِي الْحَيِّ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ) وَقَوْلُهُ (فِي تَحْرِيرِ الْمَذَاهِبِ يَتَحَالَفَانِ فِي الْحَيِّ) لَيْسَ بِصَحِيحٍ عَلَى مَا سَيَأْتِي (وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَتَحَالَفَانِ عَلَيْهِمَا) وَيُفْسَخُ الْعَقْدُ فِيهِمَا (وَيَرُدُّ الْحَيَّ وَقِيمَةَ الْهَالِكِ لِأَنَّ هَلَاكَ كُلِّ السِّلْعَةِ لَا يَمْنَعُ التَّحَالُفَ عِنْدَهُ فَهَلَاكُ الْبَعْضِ أَوْلَى) وَالْجَوَابُ أَنَّ هَلَاكَ الْبَعْضِ مُحْوِجٌ إلَى مَعْرِفَةِ الْقِيمَةِ بِالْحَزْرِ وَذَلِكَ مُجْهَلٌ فِي الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ (وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ امْتِنَاعَ التَّحَالُفِ لِلْهَلَاكِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ) وَالْجَوَابُ هُوَ الْجَوَابُ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّحَالُفَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فِي حَالِ قِيَامِ السِّلْعَةِ وَهِيَ اسْمٌ لِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا) وَالْجَمِيعُ لَا يَبْقَى بِفَوَاتِ الْبَعْضِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَيْهِ وَلَا يُلْحَقُ بِهِ بِالدَّلَالَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، لِأَنَّ التَّحَالُفَ فِي الْقَائِمِ لَا يُمْكِنُ إلَّا عَلَى اعْتِبَارِ حِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْقِسْمَةِ وَهِيَ تُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَتُؤَدِّي إلَى التَّحَالُفِ مَعَ الْجَهْلِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَتَفْطِنُ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ أَحَدَ الدَّلِيلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْمَتْنِ لِإِثْبَاتِ الْمُدَّعَى بِنَفْيِ الْقِيَاسِ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَنْ مَسْأَلَةِ الْإِجَارَةِ، فَإِنَّ الْقَصَّارَ مَثَلًا إذَا أَقَامَ بَعْضَ الْعَمَلِ فِي الثَّوْبِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الْأُجْرَةِ فَفِي حِصَّةِ الْعَمَلِ الْقَوْلُ لِرَبِّ الثَّوْبِ مَعَ يَمِينِهِ، وَفِي حِصَّةِ مَا بَقِيَ يَتَحَالَفَانِ بِالْإِجْمَاعِ، فَكَانَ اسْتِيفَاءُ بَعْضِ الْمَنْفَعَةِ كَهَلَاكِ أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ.
وَفِيهِ التَّحَالُفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا دُونَ هَلَاكِ أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ السِّلْعَةَ فِي الْبَيْعِ وَاحِدَةٌ، فَإِذَا تَعَذَّرَ الْفَسْخُ بِالْهَلَاكِ فِي الْبَعْضِ تَعَذَّرَ فِي الْبَاقِي.
وَأَمَّا الْإِجَارَةُ فَهِيَ عُقُودٌ مُتَفَرِّقَةٌ تَتَجَدَّدُ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْعَمَلِ بِمَنْزِلَةِ مَعْقُودٍ عَلَيْهِ عَلَى حِدَةٍ فَبِتَعَذُّرِ الْفَسْخِ فِي بَعْضٍ لَا يَتَعَذَّرُ فِي الْبَاقِي.
وَالثَّانِي يَنْفِي الْإِلْحَاقَ بِالدَّلَالَةِ.
وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ كَمَا ذَكَرْنَاهُ (ثُمَّ تَفْسِيرُ التَّحَالُفِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ مَا بَيَّنَّاهُ فِي الْقَائِمِ) وَهُوَ قَوْلُهُ وَصِفَةُ الْيَمِينِ أَنْ يَحْلِفَ الْبَائِعُ بِاَللَّهِ مَا بَاعَهُ بِأَلْفٍ إلَخْ، وَإِنَّمَا لَمْ تَخْتَلِفْ صِفَةُ التَّحَالُفِ عِنْدَهُ فِي الصُّورَتَيْنِ لِأَنَّ قِيَامَ السِّلْعَةِ عِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطِ التَّحَالُفِ (فَإِذَا لَمْ يَتَّفِقَا وَحَلَفَا ثُمَّ ادَّعَى أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا الْفَسْخَ يُفْسَخُ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا وَيَأْمُرُ الْقَاضِي الْمُشْتَرِيَ بِرَدِّ الْبَاقِي وَقِيمَةِ الْهَالِكِ) وَالْقَوْلُ فِي الْقِيمَةِ قَوْلُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي عَلَيْهِ زِيَادَةَ قِيمَةٍ وَهُوَ يُنْكِرُ كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْمَغْصُوبِ (وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِهِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ) فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَتَحَالَفَانِ عَلَى الْقَائِمِ لَا غَيْرُ لِأَنَّ الْعَقْدَ يُفْسَخُ فِي الْقَائِمِ لَا فِي الْهَالِكِ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ حَلَفَ بِاَللَّهِ مَا اشْتَرَيْت الْقَائِمَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ الَّذِي يَدَّعِيهِ الْبَائِعُ كَانَ صَادِقًا، وَكَذَا لَوْ حَلَفَ الْبَائِعُ بِاَللَّهِ مَا بِعْت الْقَائِمَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ الَّذِي يَدَّعِيهِ الْمُشْتَرِي صُدِّقَ فَلَا يُفِيدُ التَّحَالُفَ (وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَحْلِفُ الْمُشْتَرِي بِاَللَّهِ مَا اشْتَرَيْتهمَا بِمَا يَدَّعِيهِ الْبَائِعُ، فَإِنْ نَكَلَ لَزِمَهُ دَعْوَى الْبَائِعِ، وَإِنْ حَلَفَ يَحْلِفُ الْبَائِعُ بِاَللَّهِ مَا بِعْتهمَا بِالثَّمَنِ الَّذِي يَدَّعِيهِ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ نَكَلَ لَزِمَهُ دَعْوَى الْمُشْتَرِي، وَإِنْ حَلَفَ يَفْسَخَانِ الْعَقْدَ فِي الْقَائِمِ وَتَسْقُطُ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ وَيَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ حِصَّةُ الْهَالِكِ) مِنْ الثَّمَنِ الَّذِي يُقِرُّ بِهِ الْمُشْتَرِي، وَلَا يَلْزَمُهُ قِيمَةُ الْهَالِكِ لِأَنَّ الْقِيمَةَ تَجِبُ إذَا انْفَسَخَ الْعَقْدُ وَالْعَقْدُ فِي الْهَالِكِ لَمْ يَنْفَسِخْ عِنْدَهُ (وَيُعْتَبَرُ قِيمَتُهُمَا فِي الِانْقِسَامِ يَوْمَ الْقَبْضِ) يَعْنِي يُقْسَمُ الثَّمَنُ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الْمُشْتَرِي عَلَى الْعَبْدِ الْقَائِمِ وَالْهَالِكِ عَلَى قَدْرِ قِيمَتِهِمَا يَوْمَ الْقَبْضِ فَإِنْ اتَّفَقَا أَنَّ قِيمَتَهُمَا يَوْمَ الْقَبْضِ كَانَتْ وَاحِدَةً يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي نِصْفُ الثَّمَنِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الْمُشْتَرِي وَيَسْقُطُ عَنْهُ نِصْفُ الثَّمَنِ، وَإِنْ تَصَادَقَا أَنَّ قِيمَتَهُمَا يَوْمَ الْقَبْضِ كَانَتْ عَلَى التَّفَاوُتِ، فَإِنْ تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ قِيمَةَ الْهَالِكِ كَانَتْ عَلَى النِّصْفِ مِنْ قِيمَةِ الْقَائِمِ يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي ثُلُثُ مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ الثَّمَنِ (وَإِنْ اخْتَلَفَا) فِي ذَلِكَ فَقَالَ الْمُشْتَرِي كَانَتْ قِيمَةُ الْقَائِمِ يَوْمَ الْقَبْضِ أَلْفًا وَقِيمَةُ الْهَالِكِ خَمْسَمِائَةٍ وَقَالَ الْبَائِعُ عَلَى الْعَكْسِ (فَالْقَوْلُ لِلْبَائِعِ) لِأَنَّ الثَّمَنَ قَدْ وَجَبَ بِاتِّفَاقِهِمَا ثُمَّ الْمُشْتَرِي يَدَّعِي زِيَادَةَ السُّقُوطِ.
بِنُقْصَانِ قِيمَةِ الْهَالِكِ وَالْبَائِعُ يُنْكِرُهُ، وَطُولِبَ بِوَجْهِ تَعَيُّنِ قِيمَتِهِ يَوْمَ الْقَبْضِ دُونَ الْقِيمَةِ يَوْمَ الْعَقْدِ وَالْمَبِيعُ يُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ انْقِسَامِ الثَّمَنِ، دَلَّ عَلَى ذَلِكَ مَسَائِلُ الزِّيَادَاتِ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: قِيمَةُ الْأُمِّ يَوْمَ الْعَقْدِ، وَقِيمَةُ الزِّيَادَةِ يَوْمَ الزِّيَادَةِ، وَقِيمَةُ الْوَلَدِ يَوْمَ الْقَبْضِ، لِأَنَّ الْأُمَّ صَارَتْ مَقْصُودَةً بِالْعَقْدِ وَالزِّيَادَةُ بِالزِّيَادَةِ وَالْوَلَدُ بِالْقَبْضِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَبْدَيْنِ هُنَا صَارَ مَقْصُودًا بِالْعَقْدِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ قِيمَتِهِمَا يَوْمَ الْعَقْدِ لَا يَوْمَ الْقَبْضِ.
وَقَالَ ظَهِيرُ الدِّينِ: هَذَا إشْكَالٌ هَائِلٌ أَوْرَدْته عَلَى كُلِّ قَرْمٍ نِحْرِيرٍ فَلَمْ يَهْتَدِ أَحَدٌ إلَى جَوَابِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَاَلَّذِي تَخَايَلَ لِي بَعْدَ طُولِ التَّجَشُّمِ أَنَّ فِيمَا ذَكَرَ مِنْ الْمَسَائِلِ لَمْ يَتَحَقَّقْ مَا يُوجِبُ الْفَسْخَ فِيمَا صَارَ مَقْصُودًا بِالْعَقْدِ، وَفِيمَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ تَحَقَّقَ مَا يُوجِبُ الْفَسْخَ فِيمَا صَارَ مَقْصُودًا بِالْعَقْدِ وَهُوَ التَّحَالُفُ، أَمَّا فِي الْحَيِّ مِنْهُمَا فَظَاهِرٌ، وَكَذَلِكَ فِي الْمَيِّتِ مِنْهُمَا، لِأَنَّهُ إنْ تَعَذَّرَ الْفَسْخُ مِنْ الْهَالِكِ لِمَكَانِ الْهَلَاكِ لَمْ يَتَعَذَّرْ اعْتِبَارُ مَا هُوَ مِنْ لَوَازِمِ الْفَسْخِ فِي الْهَالِكِ وَهُوَ اعْتِبَارُ قِيمَتِهِ يَوْمَ الْقَبْضِ، لِأَنَّ الْهَالِكَ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ يَوْمَ الْقَبْضِ عَلَى تَقْدِيرِ الْفَسْخِ فِيهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مُحَمَّدٍ حَتَّى قَالَ: يَضْمَنُ الْمُشْتَرِي قِيمَةَ الْهَالِكِ عَلَى تَقْدِيرِ التَّحَالُفِ عِنْدَهُ، فَيَجِبُ إعْمَالُ التَّحَالُفِ فِي اعْتِبَارِ قِيمَةِ الْهَالِكِ يَوْمَ الْقَبْضِ فَلِهَذَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُمَا يَوْمَ الْقَبْضِ.
هَذَا مَا قَالَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَغَيْرُهُ مِنْ الشَّارِحِينَ.
وَأَقُولُ: الْأَصْلُ فِيمَا هَلَكَ وَكَانَ مَقْصُودًا بِالْعَقْدِ أَنْ تُعْتَبَرَ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْعَقْدِ، إلَّا إذَا وُجِدَ مَا يُوجِبُ فَسْخَ الْعَقْدِ فَإِنَّهُ تُعْتَبَرُ حِينَئِذٍ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْقَبْضِ، لِأَنَّهُ لَمَّا انْفَسَخَ الْعَقْدُ وَهُوَ مَقْبُوضٌ عَلَى جِهَةِ الضَّمَانِ تَعَيَّنَ اعْتِبَارُ قِيمَتِهِ يَوْمَ قَبْضِهِ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَمَّا كَانَتْ الصَّفْقَةُ وَاحِدَةً وَانْفَسَخَ الْعَقْدُ فِي الْقَائِمِ دُونَ الْهَالِكِ صَارَ الْعَقْدُ مَفْسُوخًا فِي الْهَالِكِ نَظَرًا إلَى اتِّحَادِ الصَّفْقَةِ غَيْرَ مَفْسُوخٍ نَظَرًا إلَى وُجُودِ الْمَانِعِ وَهُوَ الْهَلَاكُ فَعَمِلْنَا فِيهِ بِالْوَجْهَيْنِ، وَقُلْنَا بِلُزُومِ الْحِصَّةِ مِنْ الثَّمَنِ نَظَرًا إلَى عَدَمِ الِانْفِسَاخِ وَبِانْقِسَامِهِ عَلَى قِيمَتِهِ يَوْمَ الْقَبْضِ نَظَرًا إلَى الِانْفِسَاخِ (وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ) لِأَنَّهُ نَوَّرَ دَعْوَاهُ بِالْحُجَّةِ (وَإِنْ أَقَامَاهَا فَبَيِّنَةُ الْبَائِعِ أَوْلَى) لِأَنَّهَا أَكْثَرُ إثْبَاتًا لِإِثْبَاتِهَا الزِّيَادَةَ فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ، وَلَا مُعْتَبَرَ لِدَعْوَى الْمُشْتَرِي زِيَادَةً فِي قِيمَةِ الْقَائِمِ لِأَنَّهَا ضِمْنِيَّةٌ، وَالِاخْتِلَافُ الْمَقْصُودُ هُوَ مَا كَانَ فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ مَا هُوَ عَلَى قِيَاسِهِ مِنْ بُيُوعِ الْأَصْلِ وَهُوَ ظَاهِرٌ مِمَّا ذَكَرْنَا وَذَكَرَ الْفِقْهُ فِي أَنَّ الْقَوْلَ هَاهُنَا قَوْلُ الْبَائِعِ، وَالْبَيِّنَةُ أَيْضًا بَيِّنَتُهُ مَعَ أَنَّ الْمَعْهُودَ خِلَافُ ذَلِكَ، إذْ الْبَائِعُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُدَّعِيًا أَوْ مُدَّعًى عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَعَلَيْهِ الْيَمِينُ إذَا أَنْكَرَ، فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا جَمْعٌ بَيْنَ الْمُتَنَافِيَيْنِ، وَذَلِكَ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْيَمِينِ وَالْبَيِّنَةِ يَنْبَنِي عَلَى أَمْرٍ جَازَ أَنْ يَجْتَمِعَ مَعَ الْآخَرِ بِاعْتِبَارَيْنِ فَجَازَ اجْتِمَاعُهُمَا كَذَلِكَ، فَمَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى حَقِيقَةِ الْحَالِ لِئَلَّا يَلْزَمَ الْإِقْدَامُ عَلَى الْقَسَمِ بِجَهَالَةٍ، وَمَبْنَى الْبَيِّنَاتِ عَلَى الظَّاهِرِ لِأَنَّ الشَّاهِدَ يُخْبِرُ عَنْ فِعْلِ غَيْرِهِ لَا عَنْ فِعْلِ نَفْسِهِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْحَالُ فِي الْوَاقِعِ عَلَى خِلَافِ مَا ظَهَرَ عِنْدَهُ بِهَزْلٍ أَوْ تَلْجِئَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
وَإِذَا ظَهَرَ هَذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ لِلْبَائِعِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ حَقِيقَةً إذْ هُوَ أَعْلَمُ بِحَالِ نَفْسِهِ، وَأَنْ تُقْبَلَ بَيِّنَتُهُ لِأَنَّهُ مُدَّعٍ فِي الظَّاهِرِ.
وَإِذَا أَقَامَا الْبَيِّنَةَ تَتَرَجَّحُ بِالزِّيَادَةِ الظَّاهِرَةِ عَلَى مَا مَرَّ، وَفِي كَلَامِهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ عَلَّلَ اعْتِبَارَ الْحَقِيقَةِ فِي الْأَيْمَانِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهَا تَتَوَجَّهُ عَلَى أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ وَهُمَا يَعْرِفَانِ حَقِيقَةَ.
الْحَالِ فَهُوَ مُفَرَّعٌ عَلَى الْمُدَّعِي، فَإِنَّ تَوَجُّهَ الْيَمِينِ عَلَى أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ دُونَ الْوَكِيلِ وَالنَّائِبِ إنَّمَا هُوَ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْأَيْمَانِ هُوَ الْحَقِيقَةُ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ دَلِيلٌ لَا تَعْلِيلٌ، وَالْفَرْقُ بَيِّنٌ عِنْدَ الْمُحَصَّلَيْنِ (قَوْلُهُ وَهَذَا) أَيْ مَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ (يُبَيِّنُ مَعْنَى مَا ذَكَرْنَاهُ) مِنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فِي التَّحَالُفِ وَتَفْرِيعَاتِهِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً وَقَبَضَهَا ثُمَّ تَقَايَلَا ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَيَعُودُ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ) وَنَحْنُ مَا أَثْبَتْنَا التَّحَالُفَ فِيهِ بِالنَّصِّ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ وَالْإِقَالَةُ فَسْخٌ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَإِنَّمَا أَثْبَتْنَاهُ بِالْقِيَاسِ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَفْرُوضَةٌ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالْقِيَاسُ يُوَافِقُهُ عَلَى مَا مَرَّ وَلِهَذَا نَقِيسُ الْإِجَارَةَ عَلَى الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالْوَارِثَ عَلَى الْعَاقِدِ وَالْقِيمَةَ عَلَى الْعَيْنِ فِيمَا إذَا اسْتَهْلَكَهُ فِي يَدِ الْبَائِعِ غَيْرُ الْمُشْتَرِي.
الشَّرْحُ:

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً إلَخْ) وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً وَنَقَدَ ثَمَنَهَا وَقَبَضَهَا ثُمَّ تَقَايَلَا وَلَمْ يَقْبِضْ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ بَعْدَ الْإِقَالَةِ حَتَّى اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَيَعُودُ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ حَتَّى يَكُونَ حَقُّ الْبَائِعِ فِي الثَّمَنِ وَحَقُّ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ كَمَا كَانَ قَبْلَ الْإِقَالَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْفَسْخِ سَوَاءٌ فَسَخَاهَا بِأَنْفُسِهِمَا أَوْ فَسَخَهَا الْقَاضِي لِأَنَّهَا كَالْبَيْعِ لَا تَنْفَسِخُ إلَّا بِالْفَسْخِ.
فَإِنْ قِيلَ: النَّصُّ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْإِقَالَةَ فَمَا وَجْهُ جَرَيَانِ التَّحَالُفِ فِيهَا؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَنَحْنُ مَا أَثْبَتْنَا التَّحَالُفَ بِالنَّصِّ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ وَالْإِقَالَةُ فَسْخٌ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ) فَلَا تَدْخُلُ تَحْتَهُ وَإِنَّمَا أَثْبَتْنَاهُ بِالْقِيَاسِ لِأَنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ مَسْأَلَةِ الْإِقَالَةِ مَفْرُوضَةٌ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَالْقِيَاسُ يُوَافِقُهُ عَلَى مَا مَرَّ وَلِهَذَا نَقِيسُ الْإِجَارَةَ إذَا اخْتَلَفَ الْآجِرُ وَالْمُسْتَأْجِرُ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي الْأُجْرَةِ (عَلَى الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالْوَارِثَ عَلَى الْعَاقِدِ) إذَا اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ قَبْلَ الْقَبْضِ (وَالْقِيمَةَ عَلَى الْعَيْنِ فِيمَا إذَا اسْتَهْلَكَهُ فِي يَدِ الْبَائِعِ غَيْرِ الْمُشْتَرِي) يَعْنِي اسْتَهْلَكَ غَيْرُ الْمُشْتَرِي الْعَيْنَ الْمَبِيعَةَ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَضَمِنَ الْقِيمَةَ قَامَتْ الْقِيمَةُ مَقَامَ الْعَيْنِ الْمُسْتَهْلَكَةِ.
فَإِنْ اخْتَلَفَ الْعَاقِدَانِ فِي الْقِيمَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَجْرِي التَّحَالُفُ بَيْنَهُمَا بِالْقِيَاسِ عَلَى جَرَيَانِ التَّحَالُفِ عِنْدَ بَقَاءِ الْعَيْنِ الْمُشْتَرَى لِكَوْنِ النَّصِّ إذْ ذَاكَ مَعْقُولَ الْمَعْنَى قَالَ (وَلَوْ قَبَضَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ بَعْدَ الْإِقَالَةِ فَلَا تَحَالُفَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ) لِأَنَّهُ يَرَى النَّصَّ مَعْلُولًا بَعْدَ الْقَبْضِ أَيْضًا.
الشَّرْحُ:
(وَلَوْ قَبَضَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ بَعْدَ الْإِقَالَةِ فَلَا تَحَالُفَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ يَرَى النَّصَّ مَعْلُولًا بَعْدَ الْقَبْضِ أَيْضًا) لِأَنَّهُ مَعْلُولٌ بِوُجُودِ الْإِنْكَارِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَبَايِعَيْنِ لِمَا يَدَّعِيهِ الْآخَرُ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَفَاوَتُ بَيْنَ كَوْنِ الْمَبِيعِ مَقْبُوضًا أَوْ غَيْرَ مَقْبُوضٍ. قَالَ (وَمَنْ أَسْلَمَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ ثُمَّ تَقَايَلَا ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ وَلَا يَعُودُ السَّلَمُ) لِأَنَّ الْإِقَالَةَ فِي بَابِ السَّلَمِ لَا تَحْتَمِلُ النَّقْضَ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ فَلَا يَعُودُ السَّلَمُ، بِخِلَافِ الْإِقَالَةِ فِي الْبَيْعِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ لَوْ كَانَ عَرَضًا فَرَدَّهُ بِالْعَيْبِ وَهَلَكَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ إلَى رَبِّ السَّلَمِ لَا يَعُودُ السَّلَمُ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ يَعُودُ الْبَيْعُ دَلَّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ أَسْلَمَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ إلَخْ) وَمَنْ أَسْلَمَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي كُرٍّ حِنْطَةً ثُمَّ تَقَايَلَا ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ لَا يَتَحَالَفَانِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَلَا يَعُودُ السَّلَمُ، لِأَنَّ فَائِدَةَ التَّحَالُفِ الْفَسْخُ وَالْإِقَالَةُ فِي بَابِ السَّلَمِ لَا تَحْتَمِلُهُ لِكَوْنِهِ فِيهِ إسْقَاطُ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَهُوَ دَيْنٌ وَالدَّيْنُ السَّاقِطُ لَا يَعُودُ، بِخِلَافِ الْإِقَالَةِ فِي الْبَيْعِ فَإِنَّهَا تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَيَعُودُ الْبَيْعُ لِكَوْنِهِ عَيْنًا إلَى الْمُشْتَرِي بَعْدَ عَوْدِهِ إلَى الْبَائِعِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ لَوْ كَانَ عَرْضًا فَرَدَّهُ بِالْعَيْبِ يَعْنِي قَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ وَهَلَكَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ إلَى رَبِّ السَّلَمِ لَا تُرْفَعُ الْإِقَالَةُ وَلَا يَعُودُ السَّلَمُ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ عَادَ الْبَيْعُ، وَإِنَّمَا كَانَ الْقَوْلُ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ لِأَنَّ رَبَّ السَّلَمِ يَدَّعِي عَلَيْهِ زِيَادَةً مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَهُوَ يُنْكِرُ، وَأَمَّا هُوَ فَلَا يَدَّعِي عَلَى رَبِّ السَّلَمِ شَيْئًا لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ قَدْ سَقَطَ بِالْإِقَالَةِ.
قَبْلَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَدْ فَاتَ فِي إقَالَةِ السَّلَمِ وَفِيمَا إذَا هَلَكَتْ السِّلْعَةُ ثُمَّ اخْتَلَفَا، فَمَا الْفَرْقُ لِمُحَمَّدٍ فِي إجْرَاءِ التَّحَالُفِ فِي صُورَةِ هَلَاكِ السِّلْعَةِ دُونَ إقَالَةِ السَّلَمِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْإِقَالَةَ فِي السَّلَمِ قَبْلَ قَبْضِ الْمُسْلَمِ فِيهِ فَسْخٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَالتَّحَالُفُ بَعْدَ هَلَاكِ السِّلْعَةِ يَجْرِي فِي الْبَيْعِ لَا فِي الْفَسْخِ. قَالَ (وَإِذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي الْمَهْرِ فَادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بِأَلْفٍ وَقَالَتْ تَزَوَّجَنِي بِأَلْفَيْنِ فَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ) لِأَنَّهُ نَوَّرَ دَعْوَاهُ بِالْحُجَّةِ.
(وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمَرْأَةِ) لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الزِّيَادَةَ، مَعْنَاهُ إذَا كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَقَلَّ مِمَّا ادَّعَتْهُ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ تَحَالَفَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا يُفْسَخُ النِّكَاحُ) لِأَنَّ أَثَرَ التَّحَالُفِ فِي انْعِدَامِ التَّسْمِيَةِ، وَأَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ لِأَنَّ الْمَهْرَ تَابِعٌ فِيهِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّ عَدَمَ التَّسْمِيَةِ يُفْسِدُهُ عَلَى مَا مَرَّ فَيُفْسَخُ، (وَلَكِنْ يَحْكُمُ مَهْرُ الْمِثْلِ، فَإِنْ كَانَ مِثْلَ مَا اعْتَرَفَ بِهِ الزَّوْجُ أَوْ أَقَلَّ قَضَى بِمَا قَالَ الزَّوْجُ) لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ (وَإِنْ كَانَ مِثْلَ مَا ادَّعَتْهُ الْمَرْأَةُ أَوْ أَكْثَرَ قَضَى بِمَا ادَّعَتْهُ الْمَرْأَةُ، وَإِنْ كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ أَكْثَرَ مِمَّا اعْتَرَفَ بِهِ الزَّوْجُ وَأَقَلَّ مِمَّا ادَّعَتْهُ الْمَرْأَةُ قَضَى لَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ) لِأَنَّهُمَا لَمَّا تَحَالَفَا لَمْ تَثْبُتْ الزِّيَادَةُ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ وَلَا الْحَطُّ عَنْهُ.
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: ذَكَرَ التَّحَالُفَ أَوَّلًا ثُمَّ التَّحْكِيمَ، وَهَذَا قَوْلُ الْكَرْخِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ لَا اعْتِبَارَ لَهُ مَعَ وُجُودِ التَّسْمِيَةِ وَسُقُوطِ اعْتِبَارِهَا بِالتَّحَالُفِ وَلِهَذَا يُقَدَّمُ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا، وَيَبْدَأُ بِيَمِينِ الزَّوْجِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ تَعْجِيلًا لِفَائِدَةِ النُّكُولِ كَمَا فِي الْمُشْتَرِي، وَتَخْرِيجُ الرَّازِيِّ بِخِلَافِهِ وَقَدْ اسْتَقْصَيْنَاهُ فِي النِّكَاحِ وَذَكَرْنَا خِلَافَ أَبِي يُوسُفَ فَلَا نُعِيدُهُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي الْمَهْرِ إلَخْ) إذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي الْمَهْرِ فَادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بِأَلْفٍ وَقَالَتْ تَزَوَّجَنِي بِأَلْفَيْنِ فَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ لِأَنَّهُ نَوَّرَ دَعْوَاهُ بِالْحُجَّةِ.
أَمَّا قَبُولُ بَيِّنَةِ الْمَرْأَةِ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهَا تَدَّعِي الزِّيَادَةَ، وَإِنَّمَا الْإِشْكَالُ فِي قَبُولِ بَيِّنَةِ الزَّوْجِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ فَكَانَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ لَا الْبَيِّنَةُ، وَإِنَّمَا قُبِلَتْ لِأَنَّهُ مُدَّعٍ فِي الصُّورَةِ وَهِيَ كَافِيَةٌ لِقَبُولِهَا كَمَا ذَكَرْنَا (وَإِنْ أَقَامَا) فَلَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ يَكُونَ مَهْرُ الْمِثْلِ أَقَلَّ مِمَّا ادَّعَتْهُ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ (فَالْبَيِّنَةُ لِلْمَرْأَةِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الزِّيَادَةَ) وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَالْبَيِّنَةُ لِلزَّوْجِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الْحَطَّ وَبَيِّنَتُهَا لَا تُثْبِتُ شَيْئًا لِثُبُوتِ مَا ادَّعَتْهُ بِشَهَادَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ (وَإِنْ عَجَزَا عَنْهَا تَحَالَفَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا يُفْسَخُ النِّكَاحُ لِأَنَّ أَثَرَ التَّحَالُفِ فِي انْعِدَامِ التَّسْمِيَةِ وَإِنَّهُ لَا يُخِلُّ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ لِأَنَّ الْمَهْرَ تَابِعٌ فِيهِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّ عَدَمَ التَّسْمِيَةِ يُخِلُّ بِصِحَّتِهِ) لِبَقَائِهِ بِلَا ثَمَنٍ وَهُوَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ (فَيَنْفَسِخُ) الْبَيْعُ.
فَإِنْ قِيلَ: التَّحَالُفُ مَشْرُوعٌ فِي الْبَيْعِ وَالنِّكَاحُ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ سَلَّمْنَاهُ، لَكِنَّ فَائِدَتَهُ فَسْخُ الْعَقْدِ وَالنِّكَاحُ هَاهُنَا لَا يُفْسَخُ.
أُجِيبَ بِأَنَّ مُوجِبَهُ فِي الْبَيْعِ كَوْنُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مُدَّعِيًا وَمُنْكِرًا مَعَ عَدَمِ إمْكَانِ التَّرْجِيحِ، وَهُوَ هَاهُنَا مَوْجُودٌ فَأُلْحِقَ بِهِ، وَإِنَّمَا لَا يُفْسَخُ النِّكَاحُ لِمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ.
وَتَوْضِيحُهُ أَنَّ الْفَسْخَ فِي الْبَيْعِ إنَّمَا كَانَ لِبَقَاءِ الْعَقْدِ بِلَا بَدَلٍ وَالنِّكَاحُ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ لَهُ مُوجِبًا أَصْلِيًّا يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ انْعِدَامِ التَّسْمِيَةِ.
هَذَا عَلَى طَرِيقِ تَخْصِيصِ الْعِلَلِ وَالْمُجَوِّزُ مُخَلِّصٌ وَمُخَلِّصُ غَيْرِهِ مَعْلُومٌ (قَوْلُهُ وَلَكِنْ يُحَكَّمُ مَهْرُ الْمِثْلِ) اسْتِدْرَاكٌ مِنْ قَوْلِهِ وَلَا يُفْسَخُ النِّكَاحُ: أَيْ لَكِنْ يُحَكَّمُ مَهْرُ الْمِثْلِ لِقَطْعِ النِّزَاعِ (فَإِنْ كَانَ مِثْلَ مَا اعْتَرَفَ بِهِ الزَّوْجُ أَوْ أَقَلَّ قُضِيَ بِمَا قَالَ الزَّوْجُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ، وَإِنْ كَانَ مِثْلَ مَا ادَّعَتْهُ الْمَرْأَةُ) أَوْ أَكْثَرَ قُضِيَ بِمَا قَالَتْ وَكَذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِمَّا اعْتَرَفَ بِهِ وَأَقَلَّ مِمَّا ادَّعَتْهُ قُضِيَ لَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ، لِأَنَّهُمَا لَمَّا تَحَالَفَا لَمْ تَثْبُتْ الزِّيَادَةُ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ وَلَا الْحَطُّ عَنْهُ (قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: ذَكَرَ التَّحَالُفَ أَوَّلًا ثُمَّ التَّحْكِيمَ، وَهَذَا قَوْلُ الْكَرْخِيِّ لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ لَا اعْتِبَارَ لَهُ مَعَ وُجُودِ التَّسْمِيَةِ) لِأَنَّهُ مُوجِبُ نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ (وَسُقُوطُ اعْتِبَارِهَا) إنَّمَا هُوَ (بِالتَّحَالُفِ فَلِهَذَا يُقَدَّمُ) التَّحَالُفُ (فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا) يَعْنِي فِيمَا إذَا كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ مِثْلَ مَا اعْتَرَفَ بِهِ الزَّوْجُ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ، أَوْ مِثْلَ مَا ادَّعَتْهُ الْمَرْأَةُ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ، أَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا، فَهِيَ خَمْسَةُ وُجُوهٍ.
وَأَمَّا فِي قَوْلِ الرَّازِيِّ فَلَا تَحَالُفَ إلَّا فِي وَجْهٍ وَاحِدٍ وَهُوَ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَهْرُ الْمِثْلِ شَاهِدًا لِأَحَدِهِمَا، وَفِيمَا عَدَاهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ إذَا كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ مِثْلَ مَا يَقُولُهُ أَوْ أَقَلَّ، وَقَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا إذَا كَانَ مِثْلَ مَا ادَّعَتْهُ أَوْ أَكْثَرَ.
قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّ تَحْكِيمَ مَهْرِ الْمِثْلِ لَيْسَ لِإِيجَابِ مَهْرِ الْمِثْلِ بَلْ لِمَعْرِفَةِ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ، ثُمَّ الْأَصْلُ فِي الدَّعَاوَى أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ مَعَ يَمِينِهِ.
وَذَكَرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ قَالُوا: إنَّ قَوْلَ الْكَرْخِيِّ هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ وُجُودَ التَّسْمِيَةِ يَمْنَعُ الْمَصِيرَ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ بِاتِّفَاقِهِمَا.
وَأَقُولُ: إنْ أَرَادُوا بِقَوْلِهِمْ هُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ غَيْرَهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَصَحَّ فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّ غَيْرَهُ فَاسِدٌ فَالْحَقُّ مَا قَالَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ تَمْنَعُ الْمَصِيرَ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ لِإِيجَابِهِ، وَأَمَّا لِتَحْكِيمِهِ لِمَعْرِفَةِ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ فَمَمْنُوعٌ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَا بَالُهُمْ لَا يُحَكِّمُونَ قِيمَةَ الْمَبِيعِ إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فِي الثَّمَنِ لِمَعْرِفَةِ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ كَمَا فِي النِّكَاحِ فَإِنَّهُ لَا مَحْظُورَ فِيهِ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ مَعْلُومٌ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا.
بِخِلَافِ الْقِيمَةِ فَإِنَّهَا تُعْلَمُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَلَا تُفِيدُ الْمَعْرِفَةَ فَلَا تُجْعَلُ حُكْمًا (وَيُبْدَأُ بِيَمِينِ الزَّوْجِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ تَعْجِيلًا لِفَائِدَةِ النُّكُولِ) فَإِنَّ أَوَّلَ التَّسْلِيمَيْنِ عَلَيْهِ (كَمَا فِي الْمُشْتَرِي وَتَخْرِيجُ الرَّازِيِّ بِخِلَافِهِ) وَهُوَ التَّحْكِيمُ أَوَّلًا ثُمَّ التَّحْلِيفُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَذَكَرْنَا خِلَافَ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ أَنَّ الْقَوْلَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ قَوْلُ الزَّوْجِ قَبْلَ الطَّلَاقِ وَبَعْدَهُ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِشَيْءٍ مُسْتَنْكَرٍ: يَعْنِي فِي بَابِ الْمَهْرِ فَلَا نُعِيدُهُ (وَلَوْ ادَّعَى الزَّوْجُ النِّكَاحَ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةُ تَدَّعِيهِ عَلَى هَذِهِ الْجَارِيَةِ فَهُوَ كَالْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، إلَّا أَنَّ قِيمَةَ الْجَارِيَةِ إذَا كَانَتْ مِثْلَ مَهْرِ الْمِثْلِ يَكُونُ لَهَا قِيمَتُهَا دُونَ عَيْنِهَا) لِأَنَّ تَمَلُّكَهَا لَا يَكُونُ إلَّا بِالتَّرَاضِي وَلَمْ يُوجَدْ فَوَجَبَتْ الْقِيمَةُ.
الشَّرْحُ:
(وَلَوْ ادَّعَى الزَّوْجُ النِّكَاحَ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةُ تَدَّعِيهِ عَلَى هَذِهِ الْجَارِيَةِ فَهُوَ كَالْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ) يَعْنِي أَنَّهُ يُحَكَّمُ مَهْرُ الْمِثْلِ أَوَّلًا، فَمَنْ شَهِدَ لَهُ فَالْقَوْلُ لَهُ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَإِلَيْهِ مَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَهُوَ تَخْرِيجُ الرَّازِيِّ.
وَأَمَّا عَلَى تَخْرِيجِ الْكَرْخِيِّ فَيَتَحَالَفَانِ أَوَّلًا كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِلَّا أَنَّ قِيمَةَ الْجَارِيَةِ إذَا كَانَتْ مِثْلَ مَهْرِ الْمِثْلِ يَكُونُ لَهَا قِيمَتُهَا دُونَ عَيْنِهَا لِأَنَّ تَمَلُّكَهَا لَا يَكُونُ إلَّا بِالتَّرَاضِي وَلَمْ يُوجَدْ فَوَجَبَتْ الْقِيمَةُ. (وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْإِجَارَةِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا) مَعْنَاهُ اخْتَلَفَا فِي الْبَدَلِ أَوْ فِي الْمُبْدَلِ لِأَنَّ التَّحَالُفَ فِي الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ عَلَى وِفَاقِ الْقِيَاسِ عَلَى مَا مَرَّ، وَالْإِجَارَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ الْمَنْفَعَةُ نَظِيرُ الْبَيْعِ قَبْلَ قَبْضِ الْمَبِيعِ وَكَلَامُنَا قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ (فَإِنْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الْأُجْرَةِ يَبْدَأُ بِيَمِينِ الْمُسْتَأْجِرِ) لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِوُجُوبِ الْأُجْرَةِ (وَإِنْ وَقَعَ فِي الْمَنْفَعَةِ يَبْدَأُ بِيَمِينِ الْمُؤَجِّرِ، وَأَيُّهُمَا نَكَلَ لَزِمَهُ دَعْوَى صَاحِبِهِ، وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ، وَلَوْ أَقَامَاهَا فَبَيِّنَةُ الْمُؤَجِّرِ أَوْلَى إنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الْأُجْرَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَنَافِعِ فَبَيِّنَةُ الْمُسْتَأْجِرِ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ فِيهِمَا قُبِلَتْ بَيِّنَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ الْفَضْلِ) نَحْوُ أَنْ يَدَّعِيَ هَذَا شَهْرًا بِعَشْرَةٍ وَالْمُسْتَأْجِرُ شَهْرَيْنِ بِخَمْسَةٍ يَقْضِي بِشَهْرَيْنِ بِعَشْرَةٍ.
قَالَ (وَإِنْ اخْتَلَفَا بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ لَمْ يَتَحَالَفَا وَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُسْتَأْجِرِ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ هَلَاكَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ يَمْنَعُ التَّحَالُفَ عِنْدَهُمَا، وَكَذَا عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ الْهَلَاكَ إنَّمَا لَا يُمْنَعُ عِنْدَهُ فِي الْمَبِيعِ لِمَا أَنَّ لَهُ قِيمَةً تَقُومُ مَقَامَهُ فَيَتَحَالَفَانِ عَلَيْهَا، وَلَوْ جَرَى التَّحَالُفُ هَاهُنَا وَفَسْخُ الْعَقْدِ فَلَا قِيمَةَ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تَتَقَوَّمُ بِنَفْسِهَا بَلْ بِالْعَقْدِ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا عَقْدَ.
وَإِذَا امْتَنَعَ فَالْقَوْلُ لِلْمُسْتَأْجِرِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ عَلَيْهِ (وَإِنْ اخْتَلَفَا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ بَعْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ تَحَالَفَا وَفُسِخَ الْعَقْدُ فِيمَا بَقِيَ وَكَانَ الْقَوْلُ فِي الْمَاضِي قَوْلَ الْمُسْتَأْجِرِ) لِأَنَّ الْعَقْدَ يَنْعَقِدُ سَاعَةً فَسَاعَةً فَيَصِيرُ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْمَنْفَعَةِ كَأَنَّ ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ عَلَيْهَا، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِيهِ دَفْعَةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِذَا تَعَذَّرَ فِي الْبَعْضِ تَعَذَّرَ فِي الْكُلِّ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْإِجَارَةِ إلَخْ) إذَا اخْتَلَفَا فِي الْإِجَارَةِ فِي الْبَدَلِ: أَيْ الْأُجْرَةِ أَوْ الْمُبْدَلِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ كُلِّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ بَعْضِهِ، فَمَنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ لِأَنَّهُ نَوَّرَ دَعْوَاهُ بِالْحُجَّةِ.
وَإِنْ أَقَامَاهَا، فَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الْأُجْرَةِ فَبَيِّنَةُ الْمُؤَجِّرِ أَوْلَى لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الزِّيَادَةَ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَنْفَعَةِ فَبَيِّنَةُ الْمُسْتَأْجِرِ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمَا قُبِلَتْ بَيِّنَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ الْفَضْلِ مِثْلُ أَنْ يَدَّعِيَ هَذَا شَهْرًا بِعِشْرِينَ وَذَاكَ شَهْرَيْنِ بِعَشَرَةٍ فَيُقْضَى بِشَهْرَيْنِ بِعِشْرِينَ، وَإِنْ عَجَزَا تَحَالَفَا وَتَرَادَّا فِي الْأَوَّلِ لِأَنَّ التَّحَالُفَ فِي الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ عَلَى وِفَاقِ الْقِيَاسِ كَمَا مَرَّ، وَالْإِجَارَةُ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ نَظِيرُ الْبَيْعِ قَبْلَ قَبْضِ الْمَبِيعِ فِي كَوْنِهِمَا عَقْدَ مُعَاوَضَةٍ يُقْبَلُ الْفَسْخُ، فَإِنْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الْأُجْرَةِ بُدِئَ بِيَمِينِ الْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِوُجُوبِ الزِّيَادَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُبْدَأَ بِيَمِينِ الْآجِرِ لِتَعْجِيلِ فَائِدَةِ النُّكُولِ فَإِنَّ تَسْلِيمَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَاجِبٌ أَوَّلًا عَلَى الْآجِرِ ثُمَّ وَجَبَتْ الْأُجْرَةُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ بَعْدَهُ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْأُجْرَةَ إنْ كَانَتْ مَشْرُوطَةَ التَّعْجِيلِ فَهُوَ الْأَسْبَقُ إنْكَارًا فَيُبْدَأُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ تُشْتَرَطْ لَا يَمْتَنِعُ الْآجِرُ مِنْ تَسْلِيمِ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ لِأَنَّ تَسْلِيمَهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَبْضِ الْأُجْرَةِ فَبَقِيَ إنْكَارُ الْمُسْتَأْجِرِ لِزِيَادَةِ الْأُجْرَةِ فَيَحْلِفُ، وَإِنْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الْمَنْفَعَةِ بُدِئَ بِيَمِينِ الْآجِرِ لِذَلِكَ، وَأَيُّهُمَا نَكَلَ لَزِمَهُ دَعْوَى صَاحِبِهِ وَلَمْ يَتَحَالَفَا فِي الثَّانِي وَالْقَوْلُ لِلْمُسْتَأْجِرِ.
وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ هَلَاكَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ يَمْنَعُ التَّحَالُفَ عَلَى أَصْلِهِمَا، وَكَذَا عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ، لِأَنَّ فَائِدَةَ التَّحَالُفِ فَسْخُ الْعَقْدِ وَيَقْتَضِي وُجُودَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَمَا قَامَ مَقَامَهُ مِنْ الْقِيمَةِ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُمَا بِمَوْجُودٍ فِي الْإِجَارَةِ، وَأَمَّا الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ فَلِأَنَّهُ عَرَضٌ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ، وَأَمَّا مَا يَقُومُ مَقَامَهُ فَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تَتَقَوَّمُ بِنَفْسِهَا بَلْ بِالْعَقْدِ وَتَبَيَّنَ بِحَلِفِهِمَا أَنْ لَا عَقْدَ بَيْنَهُمَا لِانْفِسَاخِهِ مِنْ أَصْلِ الْعَقْدِ فَلَا يَكُونُ لَهَا قِيمَةٌ يُرَدُّ عَلَيْهَا الْفَسْخُ، وَإِذَا امْتَنَعَ التَّحَالُفُ فَالْقَوْلُ لِلْمُسْتَأْجِرِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ، وَفِي الثَّالِثِ يَتَحَالَفَانِ، وَفُسِخَ الْعَقْدُ فِيمَا بَقِيَ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَنْعَقِدُ سَاعَةً فَسَاعَةً فَيَصِيرُ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْمَنْفَعَةِ كَأَنَّ ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ عَلَيْهِمَا، فَكَانَ الِاخْتِلَافُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا بَقِيَ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ وَفِيهِ التَّحَالُفُ، وَأَمَّا الْمَاضِي فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ الْمَاضِيَةَ هَالِكَةٌ، فَكَانَ الِاخْتِلَافُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ، وَلَا تَحَالُفَ فِيهِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ بِالِاتِّفَاقِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَنْعَقِدُ فِيهِ دَفْعَةً وَاحِدَةً، فَإِذَا تَعَذَّرَ فِي الْبَعْضِ تَعَذَّرَ فِي الْكُلِّ. قَالَ (وَإِذَا اخْتَلَفَ الْمَوْلَى وَالْمُكَاتَبُ فِي مَالِ الْكِتَابَةِ لَمْ يَتَحَالَفَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَا: يَتَحَالَفَانِ وَتُفْسَخُ الْكِتَابَةُ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَقْبَلُ الْفَسْخَ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ، وَالْجَامِعُ أَنَّ الْمَوْلَى يَدَّعِي بَدَلًا زَائِدًا يُنْكِرُهُ الْعَبْدُ وَالْعَبْدُ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ الْعِتْقِ عَلَيْهِ عِنْدَ أَدَاءِ الْقَدْرِ الَّذِي يَدَّعِيهِ وَالْمَوْلَى يُنْكِرُهُ فَيَتَحَالَفَانِ كَمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْبَدَلَ مُقَابَلٌ بِفَكِّ الْحَجْرِ فِي حَقِّ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ لِلْحَالِ وَهُوَ سَالِمٌ لِلْعَبْدِ وَإِنَّمَا يَنْقَلِبُ مُقَابَلًا بِالْعِتْقِ عِنْدَ الْأَدَاءِ فَقَبْلَهُ لَا مُقَابَلَةَ فَبَقِيَ اخْتِلَافًا فِي قَدْرِ الْبَدَلِ لَا غَيْرُ فَلَا يَتَحَالَفَانِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِذَا اخْتَلَفَ الْمَوْلَى وَالْمُكَاتَبُ فِي مَالِ الْكِتَابَةِ إلَخْ) إذَا اخْتَلَفَ الْمَوْلَى وَالْمُكَاتَبُ فِي مَالِ الْكِتَابَةِ لَمْ يَتَحَالَفَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: يَتَحَالَفَانِ وَتُفْسَخُ الْكِتَابَةُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَقْبَلُ الْفَسْخَ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَوْلَى يَدَّعِي بَدَلًا زَائِدًا يُنْكِرُهُ الْعَبْدُ، وَالْعَبْدُ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ الْعِتْقِ عَلَيْهِ عِنْدَ أَدَاءِ النَّذْرِ الَّذِي يَدَّعِيهِ وَالْمَوْلَى يُنْكِرُهُ، فَكَانَ كَالْبَيْعِ الَّذِي اخْتَلَفَ الْعَاقِدَانِ فِيهِ فِي الثَّمَنِ فَيَتَحَالَفَانِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْكِتَابَةَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وَجَبَ بِهِ الْبَدَلُ عَلَى الْعَبْدِ فِي مُقَابَلَةِ فَكِّ الْحَجْرِ فِي حَقِّ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْحَالِ وَهُوَ سَالِمٌ لِلْعَبْدِ بِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى ثُبُوتِ الْكِتَابَةِ، وَإِنَّمَا يَنْقَلِبُ مُقَابِلًا لِلْعِتْقِ عِنْدَ الْأَدَاءِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْبَدَلَ لابد لَهُ مِنْ مُبْدَلٍ وَلَيْسَ فِي الْعَبْدِ سِوَى الْيَدِ وَالرَّقَبَةِ، فَلَوْ كَانَ الْبَدَلُ مُقَابِلًا لِلرَّقَبَةِ لِلْحَالِ لَعَتَقَ عِنْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ كَمَا فِي الْبَيْعِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَمْلِكُ رَقَبَةَ الْمَبِيعِ عِنْدَ تَمَامِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ لِلْحَالِ مُقَابِلًا لِلْيَدِ ثُمَّ يَنْقَلِبُ مُقَابِلًا لِلْعِتْقِ عِنْدَ الْأَدَاءِ فَقَبْلَهُ لَا مُقَابَلَةَ فَبَقِيَ اخْتِلَافًا فِي قَدْرِ الْبَدَلِ لَا غَيْرُ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَدَّعِي شَيْئًا بَلْ هُوَ مُنْكِرٌ لِمَا يَدَّعِيهِ الْمَوْلَى مِنْ الزِّيَادَةِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ. قَالَ (وَإِذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ فَمَا يَصْلُحُ لِلرِّجَالِ فَهُوَ لِلرَّجُلِ كَالْعِمَامَةِ) لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ (وَمَا يَصْلُحُ لِلنِّسَاءِ فَهُوَ لِلْمَرْأَةِ كَالْوِقَايَةِ) لِشَهَادَةِ الظَّاهِرِ لَهَا (وَمَا يَصْلُحُ لَهُمَا كَالْآنِيَةِ فَهُوَ لِلرَّجُلِ) لِأَنَّ الْمَرْأَةَ وَمَا فِي يَدِهَا فِي يَدِ الزَّوْجِ وَالْقَوْلُ فِي الدَّعَاوَى لِصَاحِبِ الْيَدِ، بِخِلَافِ مَا يَخْتَصُّ بِهَا لِأَنَّهُ يُعَارِضُهُ ظَاهِرٌ أَقْوَى مِنْهُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ أَوْ بَعْدَمَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ إلَخْ) إذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ فَمَا يَصْلُحُ لِلرِّجَالِ كَالْعِمَامَةِ وَالْقَوْسِ وَالدِّرْعِ وَالْمِنْطَقَةِ فَهُوَ لِلرَّجُلِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ وَمَا يَصْلُحُ لِلنِّسَاءِ كَالْوِقَايَةِ وَهِيَ الْمُعْجِزَةُ، وَهِيَ مَا تَشُدُّهُ الْمَرْأَةُ عَلَى اسْتِدَارَةِ رَأْسِهَا كَالْعِصَابَةِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَقِي الْخِمَارَ، كَالْمِلْحَفَةِ فَهِيَ لِلْمَرْأَةِ مَعَ الْيَمِينِ لِشَهَادَةِ الظَّاهِرِ لَهَا.
قَالَ الْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ إلَّا إذَا كَانَ الرَّجُلُ صَائِغًا وَلَهُ أَسَاوِرُ وَخَوَاتِيمُ النِّسَاءِ وَالْحُلِيُّ وَالْخَلْخَالُ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ مِثْلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَهَا، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَبِيعُ ثِيَابَ الرِّجَالِ (وَمَا يَصْلُحُ لَهُمَا كَالْآنِيَةِ) وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْأَمْتِعَةِ وَالْعَقَارِ (فَهُوَ لِلرَّجُلِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ وَمَا فِي يَدِهَا فِي يَدِ الزَّوْجِ، وَالْقَوْلُ فِي الدَّعَاوَى لِصَاحِبِ الْيَدِ) بِخِلَافِ مَا يَخْتَصُّ بِهَا لِأَنَّهُ يُعَارِضُ ظَاهِرَ الزَّوْجِ بِالْيَدِ (ظَاهِرٌ أَقْوَى مِنْهُ) وَهُوَ يَدُ الِاخْتِصَاصِ بِالِاسْتِعْمَالِ، فَإِنَّ مَا هُوَ صَالِحٌ لِلرِّجَالِ فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ لِلرِّجَالِ، وَمَا هُوَ صَالِحٌ لِلنِّسَاءِ فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ لِلنِّسَاءِ، فَإِذَا وَقَعَ الِاشْتِبَاهُ يُرَجَّحُ بِالِاسْتِعْمَالِ.
وَيَنْدَفِعُ بِهَذَا مَا إذَا اخْتَلَفَ الْعَطَّارُ وَالْإِسْكَافُ فِي آلَاتِ الْأَسَاكِفَةِ وَالْعَطَّارِينَ وَهِيَ فِي أَيْدِيهِمَا فَإِنَّهَا تَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا، وَلَمْ يُرَجَّحْ بِالِاخْتِصَاصِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا هُوَ بِالِاسْتِعْمَالِ لَا بِالشَّبَهِ، وَلَمْ نُشَاهِدْ اسْتِعْمَالَ الْأَسَاكِفَةِ وَالْعَطَّارِينَ وَشَاهَدْنَا كَوْنَ هَذِهِ الْآلَاتِ فِي أَيْدِيهِمَا عَلَى السَّوَاءِ فَجَعَلْنَاهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ (وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ أَوْ بَعْدَ الْفُرْقَةِ) (فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا وَاخْتَلَفَتْ وَرَثَتُهُ مَعَ الْآخَرِ فَمَا يَصْلُحُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَهُوَ لِلْبَاقِي مِنْهُمَا) لِأَنَّ الْيَدَ لِلْحَيِّ دُونَ الْمَيِّتِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَدْفَعُ إلَى الْمَرْأَةِ مَا يُجَهَّزُ بِهِ مِثْلُهَا، وَالْبَاقِي لِلزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَأْتِي بِالْجِهَازِ وَهَذَا أَقْوَى فَيَبْطُلُ بِهِ ظَاهِرُ يَدِ الزَّوْجِ، ثُمَّ فِي الْبَاقِي لَا مُعَارِضَ لِظَاهِرٍ فَيُعْتَبَرُ (وَالطَّلَاقُ وَالْمَوْتُ سَوَاءٌ) لِقِيَامِ الْوَرَثَةِ مَقَامَ مُوَرِّثِهِمْ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ: وَمَا كَانَ لِلرِّجَالِ فَهُوَ لِلرَّجُلِ، وَمَا كَانَ لِلنِّسَاءِ فَهُوَ لِلْمَرْأَةِ، وَمَا يَكُونُ لَهُمَا فَهُوَ لِلرَّجُلِ أَوْ لِوَرَثَتِهِ) لِمَا قُلْنَا لِأَبِي حَنِيفَةَ (وَالطَّلَاقُ وَالْمَوْتُ سَوَاءٌ) لِقِيَامِ الْوَارِثِ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ (وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَمْلُوكًا فَالْمَتَاعُ لِلْحُرِّ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ) لِأَنَّ يَدَ الْحُرِّ أَقْوَى (وَلِلْحَيِّ بَعْدَ الْمَمَاتِ) لِأَنَّهُ لَا يَدَ لِلْمَيِّتِ فَخَلَتْ يَدُ الْحَيِّ عَنْ الْمُعَارِضِ (وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَا: الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَالْمُكَاتَبُ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ) لِأَنَّ لَهُمَا يَدًا مُعْتَبَرَةً فِي الْخُصُومَاتِ.
الشَّرْحُ:
(فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا وَاخْتَلَفَ وَرَثَتُهُ مَعَ الْآخَرِ فَمَا يَصْلُحُ لَهُمَا فَهُوَ لِلْبَاقِي مِنْهُمَا) أَيَّهُمَا كَانَ (لِأَنَّ الْيَدَ لِلْحَيِّ دُونَ الْمَيِّتِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ) يَعْنِي مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ لَا التَّفْصِيلُ (قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ) لِأَنَّ الْمَذْكُورَ مِنْ حَيْثُ التَّفْصِيلُ لَيْسَ بِقَوْلِهِ خَاصَّةً، فَإِنَّ كَوْنَ مَا يَصْلُحُ لِلرِّجَالِ فَهُوَ لِلرَّجُلِ وَمَا يَصْلُحُ لِلنِّسَاءِ فَهُوَ لِلْمَرْأَةِ بِالْإِجْمَاعِ فَلَا اخْتِصَاصَ لَهُ بِذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُدْفَعُ إلَى الْمَرْأَةِ مَا يُجَهَّزُ بِهِ مِثْلُهَا) مَعْنَاهُ مِمَّا يَصْلُحُ لَهَا (وَالْبَاقِي لِلزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَأْتِي بِالْجِهَازِ وَهَذَا) ظَاهِرٌ (أَقْوَى) لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِذَلِكَ فَيَبْطُلُ بِهِ ظَاهِرُ الزَّوْجِ، وَأَمَّا فِي الْبَاقِي فَلَا مُعَارِضَ لِظَاهِرِهِ فَكَانَ مُعْتَبَرًا (وَالطَّلَاقُ وَالْمَوْتُ سَوَاءٌ لِقِيَامِ الْوَرَثَةِ مَقَامَ مُوَرِّثِهِمْ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: مَا كَانَ لِلرِّجَالِ فَهُوَ لِلرَّجُلِ؛ وَمَا كَانَ لِلنِّسَاءِ فَهُوَ لِلْمَرْأَةِ، وَمَا يَصْلُحُ لَهُمَا فَهُوَ لِلرَّجُلِ إنْ كَانَ حَيًّا أَوْ لِوَرَثَتِهِ) إنْ كَانَ مَيِّتًا (لِمَا قُلْنَا لِأَبِي حَنِيفَةَ) مِنْ الدَّلِيلِ وَهُوَ أَنَّ الْمَرْأَةَ وَمَا فِي يَدِهَا فِي يَدِ الزَّوْجِ لِصَاحِبِ الْيَدِ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَيَاةِ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَمَاتِ فَقَوْلُهُ (وَالطَّلَاقُ وَالْمَوْتُ سَوَاءٌ لِقِيَامِ الْوَارِثِ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَمْلُوكًا فَالْمَتَاعُ لِلْحُرِّ فِي حَالِ الْحَيَاةِ لِأَنَّ الْحُرَّ أَقْوَى) لِكَوْنِ الْيَدِ يَدَ نَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ وَيَدَ الْمَمْلُوكِ لِغَيْرِهِ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ الْمَوْلَى وَالْأَقْوَى أَوْلَى، وَلِهَذَا قُلْنَا فِي الْحُرَّيْنِ: فَمَا يَصْلُحُ لِلرِّجَالِ فَهُوَ لِلرَّجُلِ لِقُوَّةِ يَدِهِ فِيهِ، وَمَا يَصْلُحُ لِلنِّسَاءِ فَهُوَ لِلْمَرْأَةِ لِذَلِكَ (وَلِلْحَيِّ) مِنْهُمَا (بَعْدَ الْمَمَاتِ) حُرًّا كَانَ أَوْ مَمْلُوكًا، هَكَذَا وَقَعَ فِي عَامَّةِ نُسَخِ شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَلِلْحُرِّ بَعْدَ الْمَمَاتِ، ثُمَّ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ لِلْحَيِّ مِنْهُمَا وَهُوَ سَهْوٌ، وَالْمُصَنِّفُ اخْتَارَ اخْتِيَارَ الْعَامَّةِ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّهُ لَا يَدَ لِلْمَيِّتِ فَخَلَتْ يَدُ الْحَيِّ عَنْ الْمُعَارِضِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَالْمُكَاتَبُ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ لِأَنَّ لَهُمَا يَدًا مُعْتَبَرَةً فِي الْخُصُومَاتِ) وَلِهَذَا لَوْ اخْتَصَمَ الْحُرُّ وَالْمُكَاتَبُ فِي شَيْءٍ فِي أَيْدِيهِمَا قُضِيَ بِهِ بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْيَدِ، وَلَوْ كَانَ فِي يَدِ ثَالِثٍ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ اسْتَوَيَا فِيهِ، فَكَمَا لَا يَتَرَجَّحُ الْحُرُّ بِالْحُرِّيَّةِ فِي سَائِرِ الْخُصُومَاتِ فَكَذَلِكَ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْيَدَ عَلَى مَتَاعِ الْبَيْتِ بِاعْتِبَارِ السُّكْنَى فِيهِ وَالْحَرُّ فِي السُّكْنَى أَصْلٌ دُونَ الْمَمْلُوكِ فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا.