فصل: فصل: في فضل ماء زمزم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.فصل: في فضل ماء زمزم:

(ثُمَّ يَأْتِي زَمْزَمَ فَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا) لِمَا رُوِيَ {أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اسْتَقَى دَلْوًا بِنَفْسِهِ فَشَرِبَ مِنْهُ ثُمَّ أَفْرَغَ بَاقِيَ الدَّلْوِ فِي الْبِئْرِ} وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْتِيَ الْبَابَ وَيُقَبِّلُ الْعَتَبَةَ (ثُمَّ يَأْتِي الْمُلْتَزَمَ، وَهُوَ مَا بَيْنَ الْحَجَرِ إلَى الْبَابِ فَيَضَعُ صَدْرَهُ وَوَجْهَهُ عَلَيْهِ وَيَتَشَبَّثُ بِالْأَسْتَارِ سَاعَةً ثُمَّ يَعُودُ إلَى أَهْلِهِ) هَكَذَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَعَلَ بِالْمُلْتَزَمِ ذَلِكَ.
قَالُوا: وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْصَرِفَ وَهُوَ يَمْشِي وَرَاءَهُ وَوَجْهُهُ إلَى الْبَيْتِ مُتَبَاكِيًا مُتَحَسِّرًا عَلَى فِرَاقِ الْبَيْتِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ.
فَهَذَا بَيَانُ تَمَامِ الْحَجِّ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَيَأْتِي زَمْزَمَ) أَيْ بَعْدَ تَقْبِيلِ الْعَتَبَةِ وَإِتْيَانِهِ الْمُلْتَزَمَ وَإِلْصَاقِهِ خَدَّهُ بِجِدَارِ الْكَعْبَةِ يَأْتِي زَمْزَمَ فَشَرِبَ مِنْ مَائِهِ وَيَصُبُّ مِنْهُ عَلَى جَسَدِهِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك رِزْقًا وَاسِعًا وَعِلْمًا نَافِعًا وَشِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ.
وَقَوْلُهُ (فَهَذَا بَيَانُ تَمَامِ الْحَجِّ) يَعْنِي الْحَجَّ الَّذِي أَرَادَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِهِ {مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ} كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ.

.(فَصْلٌ) في دخول مكة:

(فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ الْمُحْرِمُ مَكَّةَ وَتَوَجَّهَ إلَى عَرَفَاتٍ وَوَقَفَ بِهَا) عَلَى مَا بَيَّنَّا (سَقَطَ عَنْهُ طَوَافُ الْقُدُومِ) لِأَنَّهُ شُرِعَ فِي ابْتِدَاءِ الْحَجِّ عَلَى وَجْهٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ سَائِرُ الْأَفْعَالِ، فَلَا يَكُونُ الْإِتْيَانُ بِهِ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْوَجْهِ سُنَّةً (وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِتَرْكِهِ) لِأَنَّهُ سُنَّةٌ، وَبِتَرْكِ السُّنَّةِ لَا يَجِبُ الْجَابِرُ.
الشَّرْحُ:
فَصْلٌ:
لَمَّا ذَكَرَ أَفْعَالَ الْحَجِّ عَلَى التَّرْتِيبِ وَأَتَمَّهَا أَلْحَقَ مَسَائِلَ شَتَّى مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ (فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ الْمُحْرِمُ مَكَّةَ وَتَوَجَّهَ إلَى عَرَفَاتٍ وَوَقَفَ بِهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا) مِنْ أَحْكَامِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ (سَقَطَ عَنْهُ طَوَافُ الْقُدُومِ) عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ. (وَمَنْ أَدْرَكَ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ مَا بَيْنَ زَوَالِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِهَا إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ) فَأَوَّلُ وَقْتِ الْوُقُوفِ بَعْدَ الزَّوَالِ عِنْدَنَا لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَفَ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَهَذَا بَيَانُ أَوَّلِ الْوَقْتِ.
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ بِلَيْلٍ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ، وَمَنْ فَاتَهُ عَرَفَةُ بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ} وَهَذَا بَيَانُ آخِرِ الْوَقْتِ.
وَمَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ كَانَ يَقُولُ: إنَّ أَوَّلَ وَقْتِهِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَوْ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَهُوَ مَحْجُوجٌ عَلَيْهِ بِمَا رَوَيْنَا (ثُمَّ إذَا وَقَفَ بَعْدَ الزَّوَالِ وَأَفَاضَ مِنْ سَاعَتِهِ أَجْزَأَهُ) عِنْدَنَا لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَهُ بِكَلِمَةٍ أَوْ فَإِنَّهُ قَالَ {الْحَجُّ عَرَفَةَ فَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ سَاعَةً مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ قَدْ تَمَّ حَجُّهُ} وَهِيَ كَلِمَةُ التَّخْيِيرِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُجْزِيهِ إلَّا أَنْ يَقِفَ فِي الْيَوْمِ وَجُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ، وَلَكِنَّ الْحُجَّةَ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَاهُ.
الشَّرْحُ:
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ وَمَنْ أَدْرَكَ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ (وَمَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَانَ يَقُولُ: إنَّ أَوَّلَ وَقْتِهِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَوْ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {الْحَجُّ عَرَفَةَ، فَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ سَاعَةً مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ} وَالنَّهَارُ اسْمٌ لِلْوَقْتِ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ (وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِمَا رَوَيْنَا) أَنَّهُ وَقَفَ بَعْدَ الزَّوَالِ وَكَانَ مُبَيِّنًا وَقْتَ الْوُقُوفِ بِفِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ابْتِدَاءَ الْوُقُوفِ بَعْدَ الزَّوَالِ.
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ إذَا وَقَفَ بَعْدَ الزَّوَالِ) ظَاهِرٌ (وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُجْزِيهِ إلَّا أَنْ يَقِفَ فِي الْيَوْمِ وَجُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ) وَذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ إفَاضَتُهُ بَعْدَ الْغُرُوبِ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ بِلَيْلٍ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ، وَمَنْ فَاتَهُ عَرَفَةُ بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ} وَقُلْنَا: هَذِهِ الزِّيَادَةُ غَيْرُ مَشْهُورَةٍ، وَإِنَّمَا الْمَشْهُورُ: {مَنْ فَاتَهُ عَرَفَةُ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ} وَفِيمَا رَوَيْنَا وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {سَاعَةٌ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بِنَفْسِ الْوُقُوفِ فِي جُزْءٍ مِنْ وَقْتِهِ يَصِيرُ مُدْرِكًا فَكَانَ حُجَّةً عَلَيْهِ. (وَمَنْ اجْتَازَ بِعَرَفَاتٍ نَائِمًا أَوْ مُغْمًى عَلَيْهِ أَوْ لَا يَعْلَمُ أَنَّهَا عَرَفَاتٌ جَازَ عَنْ الْوُقُوفِ) لِأَنَّ مَا هُوَ الرُّكْنُ قَدْ وُجِدَ وَهُوَ الْوُقُوفُ، وَلَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ بِالْإِغْمَاءِ وَالنَّوْمِ كَرُكْنِ الصَّوْمِ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا لَا تَبْقَى مَعَ الْإِغْمَاءِ، وَالْجَهْلُ يُخِلُّ بِالنِّيَّةِ وَهِيَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِكُلِّ رُكْنٍ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ اجْتَازَ بِعَرَفَاتٍ نَائِمًا أَوْ مُغْمًى عَلَيْهِ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَالْجَهْلُ يُخِلُّ بِالنِّيَّةِ وَهِيَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِكُلِّ رُكْنٍ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الْجَهْلُ يُخِلُّ بِالنِّيَّةِ لَا مَحَالَةَ، وَالْإِخْلَالُ بِهَا إخْلَالٌ بِالْحَجِّ لِكَوْنِهَا شَرْطًا، وَتَقْرِيرُهُ: سَلَّمْنَا أَنَّ الْجَهْلَ يُخِلُّ بِالنِّيَّةِ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِخْلَالَ بِهَا إخْلَالٌ بِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ أَنْ لَوْ كَانَتْ شَرْطًا لِكُلِّ رُكْنٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ إذَا كَانَتْ مَوْجُودَةً عِنْدَ أَصْلِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ وَهُوَ الْإِحْرَامُ حَقِيقَةً أَوْ دَلَالَةً اُسْتُغْنِيَ عَنْهَا عِنْدَ وُجُودِ كُلِّ رُكْنٍ إذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ صَارِفٌ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا إذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ صَارِفٌ احْتِرَازًا عَمَّا إذَا طَافَ بِالْبَيْتِ هَارِبٌ أَوْ طَالِبُ غَرِيمٍ وَلَمْ يَنْوِ الطَّوَافَ عَنْ الْحَجِّ فَإِنَّهُ لَمْ يُجْزِهِ، وَإِنْ كَانَتْ النِّيَّةُ مَوْجُودَةً عِنْدَ الْإِحْرَامِ لِأَنَّ قَصْدَهُ الْهُرُوبُ أَوْ اللُّحُوقُ، وَذَلِكَ صَارِفٌ لَهُ عَنْ النِّيَّةِ السَّابِقَةِ لِأَنَّهَا لِكَوْنِهَا بَاقِيَةً بِالِاسْتِصْحَابِ ضَعِيفَةً تَنْصَرِفُ بِصَارِفٍ. (وَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فَأَهَلَّ عَنْهُ رُفَقَاؤُهُ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) رَحِمَهُ اللَّهُ (وَقَالَا: لَا يَجُوزُ، وَلَوْ أَمَرَ إنْسَانًا بِأَنْ يُحْرِمَ عَنْهُ إذَا أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوْ نَامَ فَأَحْرَمَ الْمَأْمُورُ عَنْهُ صَحَّ) بِالْإِجْمَاعِ، حَتَّى إذَا أَفَاقَ أَوْ اسْتَيْقَظَ وَأَتَى بِأَفْعَالِ الْحَجِّ جَازَ.
لَهُمَا أَنَّهُ لَمْ يُحْرِمْ بِنَفْسِهِ وَلَا أَذِنَ لِغَيْرِهِ بِهِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِالْإِذْنِ وَالدَّلَالَةُ تَقِفُ عَلَى الْعِلْمِ، وَجَوَازُ الْإِذْنِ بِهِ لَا يَعْرِفُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ فَكَيْفَ يَعْرِفُهُ الْعَوَامُّ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَمَرَ غَيْرَهُ بِذَلِكَ صَرِيحًا.
وَلَهُ أَنَّهُ لَمَّا عَاقَدَهُمْ عَقْدَ الرُّفْقَةِ فَقَدْ اسْتَعَانَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيمَا يَعْجِزُ عَنْ مُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ.
وَالْإِحْرَامُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِهَذَا السَّفَرِ فَكَانَ الْإِذْنُ بِهِ ثَابِتًا دَلَالَةً، وَالْعِلْمُ ثَابِتٌ نَظَرًا إلَى الدَّلِيلِ وَالْحُكْمُ يُدَارُ عَلَيْهِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فَأَهَلَّ عَنْهُ رُفَقَاؤُهُ) اتَّفَقَ عُلَمَاؤُنَا أَنَّ الْإِحْرَامَ يَقْبَلُ النِّيَابَةَ حَتَّى لَوْ أَمَرَ إنْسَانًا أَنْ يُحْرِمَ عَنْهُ إذَا أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوْ نَامَ فَفَعَلَ صَحَّ عِنْدَهُمْ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ بِمَنْزِلَةِ الْوُضُوءِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَلَيْسَ بِنُسُكٍ فَاسْتَقَامَ النِّيَابَةُ بَعْدَ وُجُودِ نِيَّةِ الْعِبَادَةِ مِنْهُ وَهُوَ خُرُوجُهُ لِحَجِّ الْبَيْتِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ عَقْدَ الرُّفْقَةِ اسْتِنَابَةٌ كَالْإِذْنِ بِهِ أَوْ لَا، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّهُ اسْتِنَابَةٌ كَالْإِذْنِ بِهِ وَقَالَا: لَيْسَ بِاسْتِنَابَةٍ.
وَصُورَةُ ذَلِكَ أَنْ يُحْرِمَ عَنْهُ الرُّفَقَاءُ نِيَابَةً مَعَ أَنَّهُمْ أَحْرَمُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَيْضًا فَيَصِيرُ الرَّفِيقُ مُحْرِمًا عَنْ نَفْسِهِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ وَمُحْرِمًا عَنْهُ أَيْضًا بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ كَالْأَبِ يُحْرِمُ عَنْ ابْنٍ صَغِيرٍ مَعَهُ فَكَانَ الْمُحْرِمُ حُكْمًا فِي إحْرَامِ النِّيَابَةِ هُوَ الْمَنُوبَ لَا النَّائِبَ، وَعِبَادَةُ النَّائِبِ فِيهِ كَعِبَادَةِ الْمَنُوبِ، حَتَّى لَوْ أَصَابَ النَّائِبُ صَيْدًا كَانَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ مِنْ قِبَلِ إهْلَالِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ إهْلَالِهِ عَنْ الْمُغْمَى عَلَيْهِ شَيْءٌ.
وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الرَّفِيقَ إذَا كَانَ مُحْرِمًا عَنْ نَفْسِهِ فَبِإِحْرَامِهِ عَنْ غَيْرِهِ يَلْزَمُ تَدَاخُلُ الْإِحْرَامَيْنِ وَالثَّانِي أَنَّهُمْ شَبَّهُوا الْإِحْرَامَ بِالْوُضُوءِ فِي قَبُولِ النِّيَابَةِ، وَلَيْسَ مِثْلَهُ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا تَوَضَّأَ لَا يَكُونُ غَيْرُهُ بِهِ مُتَوَضِّئًا وَإِنْ نَوَى التَّوَضُّؤَ عَنْهُ، وَهَاهُنَا يَصِيرُ غَيْرُهُ مُحْرِمًا بِإِحْرَامِهِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ التَّدَاخُلَ إنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ لَوْ كَانَ الْمُحْرِمُ هُوَ النَّائِبَ فِي الْإِحْرَامَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْمُحْرِمُ فِي إحْرَامِهِ النِّيَابَةُ هُوَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ لَا النَّائِبُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا.
وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ التَّشْبِيهَ بِالْوُضُوءِ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَرْطٌ يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ، وَلَكِنَّ النِّيَابَةَ فِي الْوُضُوءِ بِالتَّوْضِئَةِ بِأَنْ يُجْرِيَ الْمَاءَ عَلَى أَعْضَاءِ الْمَنُوبِ فَيَصِحُّ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِذَلِكَ الْوُضُوءِ، وَفِي هَذَا يَتَوَلَّى النَّائِبُ الْإِحْرَامَ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ فَائِدَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ (إذَا أَفَاقَ أَوْ اسْتَيْقَظَ وَأَتَى بِأَفْعَالِ الْحَجِّ جَازَ) عِنْدَهُ كَمَا لَوْ أَمَرَ بِهِ (لَهُمَا أَنَّهُ لَمْ يُحْرِمْ بِنَفْسِهِ وَلَا أَذِنَ لِغَيْرِهِ بِهِ) وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَيْسَ بِمُحْرِمٍ لَا مَحَالَةَ، أَمَّا أَنَّهُ لَمْ يُحْرِمْ بِنَفْسِهِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا أَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لِغَيْرِهِ فَلِأَنَّ الْإِذْنَ إمَّا أَنْ يَكُونَ صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً وَهُوَ لَمْ يُصَرِّحْ بِالْإِذْنِ إذْ هُوَ الْمَفْرُوضُ، وَمَا ثَمَّةَ دَلَالَةٌ لِأَنَّهَا تَقِفُ عَلَى الْعِلْمِ بِجَوَازِ الْإِذْنِ بِالْإِحْرَامِ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِجَوَازِهِ لَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ (وَجَوَازُ الْإِذْنِ بِهِ لَا يَعْرِفُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ فَكَيْفَ يَعْرِفُهُ الْعَوَامُّ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَمَرَ غَيْرَهُ بِذَلِكَ صَرِيحًا.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِذْنَ ثَابِتٌ دَلَالَةً، لِأَنَّهُ لَمَّا عَاقَدَهُمْ عَقْدَ الرُّفْقَةِ فَقَدْ اسْتَعَانَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيمَا يَعْجِزُ عَنْ مُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ) وَقَدْ عَجَزَ عَنْ مُبَاشَرَةِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِهَذَا السَّفَرِ وَهُوَ الْإِحْرَامُ فَكَانَ مُسْتَعِينًا بِهِمْ عَلَى تَحْصِيلِهِ، وَالِاسْتِعَانَةُ إذْنٌ بِالْإِعَانَةِ لَا مَحَالَةَ (فَكَانَ الْإِذْنُ بِهِ ثَابِتًا دَلَالَةً) وَقَوْلُهُ (وَالْعِلْمُ ثَابِتٌ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا وَالدَّلَالَةُ تَقِفُ عَلَى الْعِلْمِ.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْعِلْمَ إذَا كَانَ شَرْطَ الدَّلَالَةِ فَهُوَ ثَابِتٌ نَظَرًا إلَى الدَّلِيلِ وَهُوَ عَقْدُ الرُّفْقَةِ، وَالْحُكْمُ يُدَارُ عَلَى الدَّلِيلِ فَيَثْبُتُ الْإِذْنُ دَلَالَةً، وَالدَّلَالَةُ تَعْمَلُ عَمَلَ الصَّرِيحِ إذَا لَمْ يُخَالِفْهَا صَرِيحٌ.
فَإِنْ قُلْت: هَذَا حُكْمُ الْإِحْرَامِ فَمَا حُكْمُ سَائِرِ الْمَنَاسِكِ؟ قُلْت: الْأَصَحُّ أَنَّ نِيَابَتَهُمْ عَنْهُ فِي أَدَائِهِ صَحِيحَةٌ، إلَّا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَقِفُوا بِهِ وَأَنْ يَطُوفُوا بِهِ لِيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى أَدَائِهِ لَوْ كَانَ مُفِيقًا.
وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ فَقَالَ: إنَّمَا صَحَّتْ النِّيَابَةُ فِي الْإِحْرَامِ لِتَحَقُّقِ الْعَجْزِ وَهُوَ لَيْسَ بِمُتَحَقِّقٍ فِي الْأَفْعَالِ، لِأَنَّهُمْ إذَا أَحْضَرُوهُ الْمَوَاقِفَ كَانَ هُوَ الْوَاقِفَ، وَإِذَا طَافُوا بِهِ كَانَ هُوَ الطَّائِفَ.
فَإِنْ قُلْت: هَلْ لِتَقْيِيدِ الْإِهْلَالِ بِالرُّفَقَاءِ فَائِدَةٌ؟ قُلْت.
اُخْتُلِفَ فِيهِ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيُّ: كَانَ يَقُولُ الْجَصَّاصُ: لَا يَجُوزُ إحْرَامُ غَيْرِ الرُّفَقَاءِ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: الرُّفَقَاءُ وَغَيْرُهُمْ فِي الْجَوَازِ سَوَاءٌ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْإِعَانَةِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} وَالرُّفَقَاءُ وَغَيْرُهُمْ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ. قَالَ (وَالْمَرْأَةُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ كَالرَّجُلِ) لِأَنَّهَا مُخَاطَبَةٌ كَالرَّجُلِ (غَيْرَ أَنَّهَا لَا تَكْشِفُ رَأْسَهَا) لِأَنَّهُ عَوْرَةٌ (وَتَكْشِفُ وَجْهَهَا) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {إحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا} (وَلَوْ سَدَلَتْ شَيْئًا عَلَى وَجْهِهَا وَجَافَتْهُ عَنْهُ جَازَ) هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِظْلَالِ بِالْمُحْمَلِ (وَلَا تَرْفَعُ صَوْتَهَا بِالتَّلْبِيَةِ) لِمَا فِيهِ مِنْ الْفِتْنَةِ (وَلَا تَرْمُلُ وَلَا تَسْعَى بَيْنَ الْمِيلَيْنِ) لِأَنَّهُ مُخِلٌّ بِسِتْرِ الْعَوْرَةِ (وَلَا تَحْلِقُ وَلَكِنْ تُقَصِّرُ) لِمَا رُوِيَ {أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى النِّسَاءَ عَنْ الْحَلْقِ وَأَمَرَهُنَّ بِالتَّقْصِيرِ} وَلِأَنَّ حَلْقَ الشَّعْرِ فِي حَقِّهَا مُثْلَةٌ كَحَلْقِ اللِّحْيَةِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ (وَتَلْبَسُ مِنْ الْمَخِيطِ مَا بَدَا لَهَا) لِأَنَّ فِي لُبْسِ غَيْرِ الْمَخِيطِ كَشْفُ الْعَوْرَةِ.
قَالُوا: وَلَا تَسْتَلِمُ الْحَجَرَ إذَا كَانَ هُنَاكَ جَمْعٌ، لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ عَنْ مُمَاسَّةِ الرِّجَالِ إلَّا أَنْ تَجِدَ الْمَوْضِعَ خَالِيًا.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَالْمَرْأَةُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ كَالرَّجُلِ) الْمَرْأَةُ فِي جَمِيعِ مَنَاسِكِ الْحَجِّ كَالرَّجُلِ لِأَنَّ الْخِطَابَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} يَتَنَاوَلُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ فَتَفْعَلُ مِثْلَ مَا يَفْعَلُ الرَّجُلُ إلَّا أَشْيَاءَ ذَكَرَهَا فِي الْكِتَابِ: لَا تَكْشِفُ رَأْسَهَا وَتَكْشِفُ وَجْهَهَا وَلَا تَرْفَعُ صَوْتَهَا بِالتَّلْبِيَةِ، وَلَا تَرْمُلُ وَلَا تَسْعَى بَيْنَ الْمِيلَيْنِ، وَلَا تَحْلِقُ وَلَكِنْ تُقَصِّرُ، وَتَلْبَسُ مَا بَدَا لَهَا مِنْ الْمَخِيطِ مِنْ الْقَمِيصِ وَالدِّرْعِ وَالْخِمَارِ وَالْخُفَّيْنِ وَالْقُفَّازَيْنِ، وَلَا تَسْتَلِمُ الْحَجَرَ إذَا كَانَ هُنَاكَ جَمْعٌ إلَّا أَنْ تَجِدَ الْمَوْضِعَ خَالِيًا.
وَوَجْهُ جَمِيعِ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ. قَالَ (وَمَنْ قُلِّدَ بَدَنَةً تَطَوُّعًا أَوْ نَذْرًا أَوْ جَزَاءَ صَيْدٍ أَوْ شَيْئًا مِنْ الْأَشْيَاءِ وَتَوَجَّهَ مَعَهَا يُرِيدُ الْحَجَّ فَقَدْ أَحْرَمَ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {مَنْ قَلَّدَ بَدَنَةً فَقَدْ أَحْرَمَ} وَلِأَنَّ سَوْقَ الْهَدْيِ فِي مَعْنَى التَّلْبِيَةِ فِي إظْهَارِ الْإِجَابَةِ لِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ إلَّا مَنْ يُرِيدُ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ، وَإِظْهَارُ الْإِجَابَةِ قَدْ يَكُونُ بِالْفِعْلِ كَمَا يَكُونُ بِالْقَوْلِ فَيَصِيرُ بِهِ مُحْرِمًا لِاتِّصَالِ النِّيَّةِ بِفِعْلٍ وَهُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِحْرَامِ.
وَصِفَةُ التَّقْلِيدِ أَنْ يَرْبِطَ عَلَى عُنُقِ بَدَنَتِهِ قِطْعَةَ نَعْلٍ أَوْ عُرْوَةَ مُزَادَةٍ أَوْ لِحَاءَ شَجَرَةٍ (فَإِنْ قَلَّدَهَا وَبَعَثَ بِهَا وَلَمْ يَسْقِهَا لَمْ يَصِرْ مُحْرِمًا) لِمَا رُوِيَ عَنْ {عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: كُنْت أَفْتِلُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَبَعَثَ بِهَا وَأَقَامَ فِي أَهْلِهِ حَلَالًا} (فَإِنْ تَوَجَّهَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَصِرْ مُحْرِمًا حَتَّى يُلْحِقَهَا) لِأَنَّ عِنْدَ التَّوَجُّهِ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ هَدْيٌ يَسُوقُهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إلَّا مُجَرَّدَ النِّيَّةِ، وَبِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا، فَإِذَا أَدْرَكَهَا وَسَاقَهَا أَوْ أَدْرَكَهَا فَقَدْ اقْتَرَنَتْ نِيَّتُهُ بِعَمَلٍ هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِحْرَامِ فَيَصِيرُ مُحْرِمًا كَمَا لَوْ سَاقَهَا فِي الِابْتِدَاءِ.
قَالَ (إلَّا فِي بَدَنَةِ الْمُتْعَةِ فَإِنَّهُ مُحْرِمٌ حِينَ تَوَجَّهَ) مَعْنَاهُ إذَا نَوَى الْإِحْرَامَ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ.
وَجْهُ الْقِيَاسِ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا.
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذَا الْهَدْيَ مَشْرُوعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ نُسُكًا مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ وَضْعًا لِأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِمَكَّةَ، وَيَجِبُ شُكْرًا لِلْجَمْعِ بَيْنَ أَدَاءِ النُّسُكَيْنِ، وَغَيْرُهُ قَدْ يَجِبُ بِالْجِنَايَةِ وَإِنْ لَمْ يَصِلْ إلَى مَكَّةَ فَلِهَذَا اكْتَفَى فِيهِ بِالتَّوَجُّهِ، وَفِي غَيْرِهِ تَوَقُّفٌ عَلَى حَقِيقَةِ الْفِعْلِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ قَلَّدَ بَدَنَةً تَطَوُّعًا أَوْ نَذْرًا أَوْ جَزَاءَ صَيْدٍ) يَعْنِي صَيْدًا قَتَلَهُ فِي إحْرَامٍ مَاضٍ (أَوْ شَيْئًا مِنْ الْأَشْيَاءِ) كَبَدَنَةِ الْمُتْعَةِ أَوْ الْقِرَانِ, وَتَوَجَّهَ مَعَهَا يُرِيدُ الْحَجَّ فَقَدْ أَحْرَمَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {مَنْ قَلَّدَ بَدَنَةً فَقَدْ أَحْرَمَ} وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِحْرَامَ عِنْدَنَا لَا يَنْعَقِدُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، بَلْ لابد مِنْ انْضِمَامِ شَيْءٍ آخَرَ إلَيْهَا كَتَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ فِي الصَّلَاةِ، وَتَقْلِيدُ الْبَدَنَةِ وَالتَّوَجُّهُ مَعَهَا إلَى الْحَجِّ يَقُومُ مَقَامَ التَّلْبِيَةِ (وَلِأَنَّ سَوْقَ الْهَدْيِ فِي مَعْنَى التَّلْبِيَةِ فِي إظْهَارِ إجَابَةِ دُعَاءِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ إلَّا مَنْ يُرِيدُ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ) قِيلَ قَوْلُهُ وَإِظْهَارُ الْإِجَابَةِ مَعْطُوفٌ عَلَى اسْمِ إنَّ إنْ قُرِئَ مَنْصُوبًا، وَعَلَى مَحَلِّهِ إنْ قُرِئَ مَرْفُوعًا، فَهُوَ دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى كَوْنِ السَّوْقِ فِي مَعْنَى التَّلْبِيَةِ.
وَأَقُولُ: هُوَ مِنْ تَمَامِ الْأَوَّلِ.
وَتَقْرِيرُهُ: الْمَقْصُودُ مِنْ التَّلْبِيَةِ إظْهَارُ الْإِجَابَةِ، وَإِظْهَارُ الْإِجَابَةِ قَدْ يَكُونُ بِالْفِعْلِ كَمَا يَكُونُ بِالْقَوْلِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ يَا فُلَانُ فَإِجَابَتُهُ تَارَةً تَكُونُ بِلَبَّيْكَ وَتَارَةً بِالْحُضُورِ وَالِامْتِثَالِ بَيْنَ يَدَيْهِ (فَيَصِيرُ بِهِ) أَيْ بِالسَّوْقِ (مُحْرِمًا لِاتِّصَالِ النِّيَّةِ بِفِعْلٍ هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِحْرَامِ) فَحَصَلَ الْإِجَابَةُ لَبَّى أَوْ لَمْ يُلَبِّ، وَإِنَّمَا قَالَ بَدَنَةً لِأَنَّ الْغَنَمَ لَا تُقَلَّدُ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّقْلِيدَ لِئَلَّا يُمْنَعَ مِنْ الْمَاءِ وَالْعَلَفِ إذَا عُلِمَ أَنَّهُ هَدْيٌ، وَهَذَا فِيمَا يَغِيبُ عَنْ صَاحِبِهِ كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ صَاحِبُهُ يَضِيعُ.
وَقَوْلُهُ (فَإِنْ قَلَّدَهَا وَبَعَثَ بِهَا) ظَاهِرٌ وَكَانَتْ الصَّحَابَةُ مُخْتَلِفِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إذَا قَلَّدَهَا صَارَ مُحْرِمًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إذَا تَوَجَّهَ فِي أَثَرِهَا صَارَ مُحْرِمًا.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إذَا أَدْرَكَهَا وَسَاقَهَا صَارَ مُحْرِمًا، فَأَخَذْنَا بِالْمُتَيَقَّنِ وَقُلْنَا إذَا أَدْرَكَهَا وَسَاقَهَا صَارَ مُحْرِمًا لِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.
وَقَوْلُهُ (فَإِذَا أَدْرَكَهَا وَسَاقَهَا أَوْ أَدْرَكَهَا) رَدَّدَ بَيْنَ السَّوْقِ وَعَدَمِهِ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ قَدْ اخْتَلَفَتْ فِيهِ.
شَرَطَ فِي الْمَبْسُوطِ السَّوْقَ مَعَ اللُّحُوقِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ السَّوْقَ بَعْدَ اللُّحُوقِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَالْمُصَنِّفُ جَمَعَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ.
وَقَوْلُهُ (فَقَدْ اقْتَرَنَتْ نِيَّتُهُ بِعَمَلٍ هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِحْرَامِ) أَمَّا إذَا سَاقَ الْهَدْيَ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا إذَا أَدْرَكَ وَلَمْ يَسُقْ وَسَاقَ غَيْرُهُ فَلِأَنَّ فِعْلَ الْوَكِيلِ بِحَضْرَةِ الْمُوَكِّلِ كَفِعْلِ الْمُوَكِّلِ.
وَقَوْلُهُ (إلَّا فِي بَدَنَةِ الْمُتْعَةِ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ لَمْ يَصِرْ مُحْرِمًا حَتَّى يَلْحَقَهَا.
قَالَ فِي النِّهَايَةِ: هَاهُنَا قَيْدٌ لابد مِنْ ذِكْرِهِ وَهُوَ أَنَّهُ فِي بَدَنَةِ الْمُتْعَةِ إنَّمَا يَصِيرُ مُحْرِمًا بِالتَّقْلِيدِ وَالتَّوَجُّهِ إذَا حَصَلَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَإِنْ حَصَلَا فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا مَا لَمْ يُدْرِكْ الْهَدْيَ وَيَسِرْ مَعَهُ، هَكَذَا فِي الرُّقَيَّاتِ لِأَنَّ تَقْلِيدَ هَدْيِ الْمُتْعَةِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ لَا يُعْتَدُّ بِهِ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِ الْمُتْعَةِ، وَأَفْعَالُ الْمُتْعَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ لَا يُعْتَدُّ بِهَا فَيَكُونُ تَطَوُّعًا، وَفِي هَدْيِ التَّطَوُّعِ مَا لَمْ يُدْرِكْ وَيَسِرْ مَعَهُ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا، كَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِقَاضِي خَانْ.
وَقَوْلُهُ (وَجْهُ الْقِيَاسِ مَا ذَكَرْنَاهُ) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إلَّا مُجَرَّدُ النِّيَّةِ إلَخْ.
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ.
وَقَوْلُهُ (عَلَى الِابْتِدَاءِ) احْتِزَازٌ عَمَّا وَجَبَ جَزَاءً.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِمَكَّةَ) دَلِيلُ كَوْنِهِ نُسُكًا.
وَقَوْلُهُ (وَيَجِبُ شُكْرًا لِلْجَمْعِ بَيْنَ أَدَاءِ النُّسُكَيْنِ) بَيَانُ اخْتِصَاصِهِ بِمَكَّةَ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ لَا يَكُونُ إلَّا بِمَكَّةَ فَكَانَ هَدْيُ الْمُتْعَةِ مُخْتَصًّا بِمَكَّةَ (وَغَيْرُهُ قَدْ يَجِبُ بِالْجِنَايَةِ) بِأَنْ أَصَابَ صَيْدًا قَبْلَ وُصُولِهِ إلَى مَكَّةَ. (فَإِنْ جَلَّلَ بَدَنَةً أَوْ أَشْعَرَهَا أَوْ قَلَّدَ شَاةً لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا) لِأَنَّ التَّجْلِيلَ لِدَفْعِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالذُّبَابِ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ خَصَائِصِ الْحَجِّ.
وَالْإِشْعَارُ مَكْرُوهٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَلَا يَكُونُ مِنْ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ.
وَعِنْدَهُمَا إنْ كَانَ حَسَنًا فَقَدْ يُفْعَلُ لِلْمُعَالَجَةِ، بِخِلَافِ التَّقْلِيدِ لِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْهَدْيِ، وَتَقْلِيدُ الشَّاةِ غَيْرُ مُعْتَادٍ وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ أَيْضًا.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (فَإِنْ جَلَّلَ بَدَنَةً أَوْ أَشْعَرَهَا) التَّجْلِيلُ: إلْبَاسُ الْجَلِّ، وَإِشْعَارُ الْبَدَنَةِ: إعْلَامُهَا بِشَيْءٍ أَنَّهَا هَدْيٌ، مِنْ الشِّعَارِ: وَهُوَ الْعَلَامَةُ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ. قَالَ (وَالْبُدْنُ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: مِنْ الْإِبِلِ خَاصَّةً لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ الْجُمُعَةِ {فَالْمُتَعَجِّلُ مِنْهُمْ كَالْمُهْدِي بَدَنَةً، وَاَلَّذِي يَلِيه كَالْمُهْدِي بَقَرَةً} فَصَلَ بَيْنَهُمَا.
وَلَنَا أَنَّ الْبَدَنَةَ تُنْبِئُ عَنْ الْبَدَانَةِ وَهِيَ الضَّخَامَةُ، وَقَدْ اشْتَرَكَا فِي هَذَا الْمَعْنَى وَلِهَذَا يُجْزِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ سَبْعَةٍ.
وَالصَّحِيحُ مِنْ الرِّوَايَةِ فِي الْحَدِيثِ {كَالْمُهْدِي جَزُورًا} وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَالصَّحِيحُ مِنْ الرِّوَايَةِ فِي الْحَدِيثِ «كَالْمُهْدِي جَزُورًا») يَعْنِي فِي مَوْضِعِ الْبَدَنَةِ: وَلَئِنْ ثَبَتَتْ تِلْكَ الرِّوَايَةُ الَّتِي رَوَاهَا.
قُلْنَا: التَّمْيِيزُ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ بِالْعَطْفِ لَا يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ الْجِنْسِيَّةِ، وَكَذَا التَّخْصِيصُ بِاسْمٍ خَاصٍّ لَا يَمْنَعُ الدُّخُولَ تَحْتَ اسْمِ الْعَامِّ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ}
باب: القران:
(الْقِرَانُ أَفْضَلُ مِنْ التَّمَتُّعِ وَالْإِفْرَادِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْإِفْرَادُ أَفْضَلُ.
وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: التَّمَتُّعُ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَانِ لِأَنَّ لَهُ ذِكْرًا فِي الْقُرْآنِ وَلَا ذِكْرَ لِلْقِرَانِ فِيهِ.
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {الْقِرَانُ رُخْصَةٌ} وَلِأَنَّ فِي الْإِفْرَادِ زِيَادَةَ التَّلْبِيَةِ وَالسَّفَرَ وَالْحَلْقَ.
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {يَا آلَ مُحَمَّدٍ أَهِلُّوا بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا} وَلِأَنَّ فِيهِ جَمْعًا بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ فَأَشْبَهَ الصَّوْمَ مَعَ الِاعْتِكَافِ وَالْحِرَاسَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَعَ صَلَاةِ اللَّيْلِ.
وَالتَّلْبِيَةُ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ وَالسَّفَرُ غَيْرُ مَقْصُودٍ، وَالْحَلْقُ خُرُوجٌ عَنْ الْعِبَادَةِ فَلَا تَرْجِيحَ بِمَا ذُكِرَ.
وَالْمَقْصِدُ بِمَا رُوِيَ نَفْيُ قَوْلِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ إنَّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ.
وَلِلْقِرَانِ ذِكْرٌ فِي الْقُرْآنِ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} أَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ عَلَى مَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ.
ثُمَّ فِيهِ تَعْجِيلُ الْإِحْرَامِ وَاسْتِدَامَةُ إحْرَامِهِمَا مِنْ الْمِيقَاتِ إلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنْهُمَا، وَلَا كَذَلِكَ التَّمَتُّعُ فَكَانَ الْقِرَانُ أَوْلَى مِنْهُ.
وَقِيلَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَارِنَ عِنْدَنَا يَطُوفُ طَوَافَيْنِ وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ، وَعِنْدَهُ طَوَافًا وَاحِدًا سَعْيًا وَاحِدًا.
الشَّرْحُ:
بَابُ: الْقِرَانِ.
لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ الْمُفْرَدِ شَرَعَ فِي بَيَانِ الْمُرَكَّبِ وَهُوَ الْقِرَانُ وَالتَّمَتُّعُ، إلَّا أَنَّ الْقِرَانَ أَفْضَلُ مِنْ التَّمَتُّعِ فَقَدَّمَهُ فِي الذِّكْرِ.
اعْلَمْ أَنَّ الْمُحْرِمَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ: مُفْرِدٌ بِالْحَجِّ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، وَمُفْرِدٌ بِالْعُمْرَةِ وَهُوَ مَنْ يَنْوِي الْعُمْرَةَ بِقَلْبِهِ وَيَقُولُ: لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ يَأْتِي بِأَفْعَالِهَا، وَقَارِنٌ وَهُوَ مَنْ يَجْمَعُ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ فَيَنْوِيهِمَا وَيَقُولُ: لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ وَيَأْتِي بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ ثُمَّ بِأَفْعَالِ الْحَجِّ مِنْ غَيْرِ تَحَلُّلٍ بَيْنَهُمَا، وَمُتَمَتِّعٌ وَهُوَ مَنْ يَأْتِي بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ أَوْ بِأَكْثَرِ طَوَافِهَا ثُمَّ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ وَيَحُجُّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ عَلَى وَصْفِ الصِّحَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلِمَّ بِأَهْلِهِ إلْمَامًا صَحِيحًا.
وَالْقِرَانُ أَفْضَلُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ عِنْدَنَا (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْإِفْرَادُ) أَيْ إفْرَادُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِإِحْرَامٍ عَلَى حِدَةٍ أَفْضَلُ، وَقَالَ مَالِكٌ: التَّمَتُّعُ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَانِ لِأَنَّ لَهُ ذِكْرًا فِي الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ} (وَلَا ذِكْرَ لِلْقِرَانِ فِيهِ) وَلِلشَّافِعِيِّ حَدِيثُ عَائِشَةَ: {إنَّمَا أَجْرُك عَلَى قَدْرِ نَصَبِك} وَإِنَّمَا الْقِرَانُ رُخْصَةٌ وَالْإِفْرَادُ عَزِيمَةٌ وَالْأَخْذُ بِالْعَزِيمَةِ أَوْلَى (وَلِأَنَّ فِي الْإِفْرَادِ زِيَادَةَ الْإِحْرَامِ وَالسَّفَرِ وَالْحَلْقِ) فَإِنَّ الْقَارِنَ يُؤَدِّي النُّسُكَيْنِ بِسَفَرٍ وَاحِدٍ وَيُلَبِّي لَهُمَا تَلْبِيَةً وَاحِدَةً وَيَحْلِقُ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَالْمُفْرِدُ يُؤَدِّي كُلَّ نُسُكٍ بِصِفَةِ الْكَمَالِ وَالْأَخْذُ بِصِفَةِ الْكَمَالِ أَوْلَى (وَلَنَا) مَا رَوَى الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ لِلْآثَارِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قَالَ {يَا آلَ مُحَمَّدٍ أَهِلُّوا بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا} وَلِأَنَّ فِي الْقِرَانِ جَمْعًا بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ) وَذَلِكَ أَفْضَلُ كَمَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالِاعْتِكَافِ وَبَيْنَ الْحِرَاسَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِحِمَايَةِ الْغُزَاةِ بِاللَّيْلِ وَالصَّلَاةِ فِيهِ.
وَقَوْلُهُ (وَالتَّلْبِيَةُ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَلِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةَ التَّلْبِيَةِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمُفْرِدَ كَمَا يُكَرِّرُ التَّلْبِيَةَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، فَكَذَلِكَ الْقَارِنُ فَيَجُوزُ أَنْ تَقَعَ تَلْبِيَةُ الْقَارِنِ أَكْثَرَ مِنْ تَلْبِيَةِ الْمُفْرَدِ.
وَقَوْلُهُ (وَالسَّفَرُ غَيْرُ مَقْصُودٍ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَالسَّفَرُ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْحَجُّ وَالسَّفَرُ وَسِيلَةٌ إلَيْهِ فَلَا يُوجِبُ عَدَمُهُ نَقْصًا فِي الْحَجِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَتَقَدَّمُ عَلَى الْإِحْرَامِ فَعَدَمُهُ لَا يُوجِبُ نَقْصًا فِيهِ.
وَقَوْلُهُ (وَالْحَلْقُ خُرُوجٌ عَنْ الْعِبَادَةِ) يَعْنِي فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهَا لِيَتَرَجَّحَ بِهِ.
وَقَوْلُهُ (وَالْمَقْصِدُ بِمَا رُوِيَ) يَعْنِي قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {الْقِرَانُ رُخْصَةٌ} (نَفْيُ قَوْلِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ: إنَّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ) أَيْ مِنْ أَسْوَإِ السَّيِّئَاتِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالرُّخْصَةِ مَا هُوَ الْمُصْطَلَحُ لِأَنَّ الْقِرَانَ عَزِيمَةٌ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ التَّوْسِعَةُ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ قَبْلَ الْإِسْلَامِ كَانَتْ لِلْحَجِّ، فَأَدْخَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ إسْقَاطًا لِلسَّفَرِ الْجَدِيدِ عَنْ الْغُرَبَاءِ، فَكَانَ اجْتِمَاعُهُمَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ تَوْسِعَةً عَلَى النَّاسِ فَسَمَّاهُ رُخْصَةً.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْمُصْطَلَحُ وَيَكُونُ رُخْصَةَ إسْقَاطٍ كَشَطْرِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ، وَالرُّخْصَةُ فِي مِثْلِهِ عَزِيمَةٌ عِنْدَنَا.
وَقَوْلُهُ (وَلِلْقِرَانِ ذِكْرٌ فِي الْقُرْآنِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ مَالِكٍ (لِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} أَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ عَلَى مَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ) يَعْنِي فِي فَصْلِ الْمَوَاقِيتِ.
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ فِيهِ) أَيْ فِي الْقِرَانِ شُرُوعٌ فِي التَّرْجِيحِ بَعْدَ تَمَامِ الْجَوَابِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْمَأْمُورُ بِالْحَجِّ إذَا قَرَنَ يَصِيرُ مُخَالِفًا، وَلَوْ كَانَ الْقِرَانُ أَفْضَلَ لَمَا كَانَ مُخَالِفًا، لِأَنَّهُ أَتَى بِالْمَأْمُورِ بِهِ مَعَ زِيَادَةٍ.
أُجِيبَ بِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِصَرْفِ النَّفَقَةِ إلَى عِبَادَةٍ تَقَعُ لِلْآمِرِ عَلَى الْخُلُوصِ وَهِيَ إفْرَادُ الْحَجِّ لَهُ وَقَدْ صَرَفَهَا إلَى عِبَادَةٍ تَقَعُ لِلْآمِرِ وَعِبَادَةٌ تَقَعُ لِنَفْسِهِ فَكَانَ مُخَالِفًا.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ هَلْ دَخَلَ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ نَقْصٌ بِالْقِرَانِ أَوْ لَا؟ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ الْقِرَانُ أَفْضَلَ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلَا يَكُونُ مُخَالِفًا.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ دَخَلَ نَقْصٌ، وَالْقِرَانُ الْأَفْضَلُ الَّذِي كَانَ الْعِبَادَتَانِ فِيهِ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ فِيهِ الْجَمْعَ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ حَقِيقَةً.
وَقَوْلُهُ (وَقِيلَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَنَا) يَعْنِي أَنَّ النِّزَاعَ لَفْظِيٌّ، قَالَ (وَصِفَةُ الْقِرَانِ أَنْ يُهِلَّ بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ مَعًا مِنْ الْمِيقَاتِ وَيَقُولُ عَقِيبَ الصَّلَاةِ: اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَيَسِّرْهُمَا لِي وَتَقَبَّلْهُمَا مِنِّي) لِأَنَّ الْقِرَانَ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مِنْ قَوْلِك قَرَنْت الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ إذَا جَمَعْت بَيْنَهُمَا، وَكَذَا إذَا أَدْخَلَ حَجَّةً عَلَى عُمْرَةٍ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ لَهَا أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ لِأَنَّ الْجَمْعَ قَدْ تَحَقَّقَ إذْ الْأَكْثَرُ مِنْهَا قَائِمٌ، وَمَتَى عَزَمَ عَلَى أَدَائِهِمَا يَسْأَلُ التَّيْسِيرَ فِيهِمَا وَقَدَّمَ الْعُمْرَةَ عَلَى الْحَجِّ فِيهِ وَلِذَلِكَ يَقُولُ: لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ مَعًا لِأَنَّهُ يَبْدَأُ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فَكَذَلِكَ يَبْدَأُ بِذِكْرِهَا، وَإِنْ أَخَّرَ ذَلِكَ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّلْبِيَةِ لَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ، وَلَوْ نَوَى بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَذْكُرْهُمَا فِي التَّلْبِيَةِ أَجْزَأَهُ اعْتِبَارًا بِالصَّلَاةِ (فَإِذَا دَخَلَ مَكَّةَ ابْتَدَأَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ يَرْمُلُ فِي الثَّلَاثِ الْأُوَلِ مِنْهَا، وَيَسْعَى بَعْدَهَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَهَذِهِ أَفْعَالُ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ يَبْدَأُ بِأَفْعَالِ الْحَجِّ فَيَطُوفُ طَوَافَ الْقُدُومِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ وَيَسْعَى بَعْدَهُ كَمَا بَيَّنَّا فِي الْمُفْرِدِ) وَيُقَدِّمُ أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ} وَالْقِرَانُ فِي مَعْنَى الْمُتْعَةِ.
وَلَا يَحْلِقُ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ لِأَنَّ ذَلِكَ جِنَايَةٌ عَلَى إحْرَامِ الْحَجِّ، وَإِنَّمَا يَحْلِقُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ كَمَا يَحْلِقُ الْمُفْرِدُ، وَيَتَحَلَّلُ بِالْحَلْقِ عِنْدَنَا لَا بِالذَّبْحِ كَمَا يَتَحَلَّلُ الْمُفْرِدُ ثُمَّ هَذَا مَذْهَبُنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَطُوفُ طَوَافًا وَاحِدًا وَيَسْعَى سَعْيًا وَاحِدًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} وَلِأَنَّ مَبْنَى الْقِرَانِ عَلَى التَّدَاخُلِ حَتَّى اكْتَفَى فِيهِ بِتَلْبِيَةٍ وَاحِدَةٍ وَسَفَرٍ وَاحِدٍ وَحَلْقٍ وَاحِدٍ فَكَذَلِكَ فِي الْأَرْكَانِ.
وَلَنَا أَنَّهُ لَمَّا طَافَ صَبِيُّ بْنُ مَعْبَدٍ طَوَافَيْنِ وَسَعَى سَعْيَيْنِ قَالَ لَهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّك، وَلِأَنَّ الْقِرَانَ ضَمُّ عِبَادَةٍ إلَى عِبَادَةٍ وَذَلِكَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِأَدَاءِ عَمَلِ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى الْكَمَالِ، وَلِأَنَّهُ لَا تَدَاخُلَ فِي الْعِبَادَاتِ.
وَالسَّفَرُ لِلتَّوَسُّلِ، وَالتَّلْبِيَةُ لِلتَّحْرِيمِ، وَالْحَلْقُ لِلتَّحَلُّلِ، فَلَيْسَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ بِمَقَاصِدَ، بِخِلَافِ الْأَرْكَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّ شَفْعَيْ التَّطَوُّعِ لَا يَتَدَاخَلَانِ وَبِتَحْرِيمَةٍ وَاحِدَةٍ يُؤَدِّيَانِ وَمَعْنَى مَا رَوَاهُ دَخَلَ وَقْتُ الْعُمْرَةِ فِي وَقْتِ الْحَجِّ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَصِفَةُ الْقِرَانِ أَنْ يُهِلَّ بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ مَعًا مِنْ الْمِيقَاتِ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (وَكَذَا إذَا أَدْخَلَ حَجَّةً عَلَى عُمْرَةٍ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ لَهَا أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ) يَعْنِي يَكُونُ قَارِنًا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا لِوُجُودِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَصُورَتُهُ أَنْ يُحْرِمَ بِعُمْرَةٍ فَيَطُوفَ لَهَا أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْوَاطٍ ثُمَّ أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ، وَلَوْ طَافَ لَهَا أَرْبَعَةً لَا يَصِيرُ قَارِنًا بِالْإِجْمَاعِ.
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ أَخَّرَ ذَلِكَ) أَيْ ذَكَرَ الْعُمْرَةَ (فِي الدُّعَاءِ وَالتَّلْبِيَةِ) بِأَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ وَلَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ (لَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ) وَلَكِنَّ تَقْدِيمَ ذِكْرِهَا فِيهِمَا جَمِيعًا أَوْلَى لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَ ذِكْرَهَا فِي قَوْلِهِ {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ} وَكَلِمَةُ إلَى لِلْغَايَةِ (وَلِأَنَّهُ يَبْدَأُ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فَكَذَا يَبْدَأُ بِذِكْرِهَا) وَقَوْلُهُ (اعْتِبَارًا بِالصَّلَاةِ) يَعْنِي أَنَّ الذِّكْرَ بِاللِّسَانِ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِيهَا وَإِنَّمَا الشَّرْطُ أَنْ يَعْلَمَ بِقَلْبِهِ أَيَّ صَلَاةٍ هِيَ فَكَذَلِكَ هَذَا.
وَقَوْلُهُ (فَإِذَا دَخَلَ) يَعْنِي الْقَارِنُ بَيَانٌ لِكَيْفِيَّةِ الْعَمَلِ.
وَقَوْلُهُ (وَالْقِرَانُ فِي مَعْنَى الْمُتْعَةِ) يَعْنِي أَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِتَقْدِيمِ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ فِي التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانُ فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا جَمْعًا بَيْنَ النُّسُكَيْنِ فِي سَفَرٍ فَيَكُونُ وَارِدًا فِيهِ أَيْضًا دَلَالَةً.
وَقَوْلُهُ (عِنْدَنَا) احْتِرَازٌ عَنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ يَتَحَلَّلُ عِنْدَهُ بِالذَّبْحِ.
وَقِيلَ لَيْسَ هَذَا بِمَشْهُورٍ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَإِنَّمَا الْمَشْهُورُ عَنْهُ أَنَّهُ يَتَحَلَّلُ بِرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ.
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ هَذَا مَذْهَبُنَا) أَيْ إتْيَانُ الْقَارِنِ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ وَأَفْعَالِ الْحَجِّ جَمِيعًا هُوَ مَذْهَبُنَا, وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَطُوفُ طَوَافًا وَاحِدًا وَيَسْعَى سَعْيًا وَاحِدًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} فَيُكْتَفَى بِأَفْعَالِ الْحَجِّ عَنْ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ وَإِلَّا لَا تَكُونُ الْعُمْرَةُ دَاخِلَةً (وَلِأَنَّ مَبْنَى الْقِرَانِ عَلَى التَّدَاخُلِ حَتَّى اُكْتُفِيَ بِتَلْبِيَةٍ وَاحِدَةٍ وَسَفَرٍ وَاحِدٍ وَحَلْقٍ وَاحِدٍ) وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِحْرَامَ عِنْدَهُ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ وَالرُّكْنَانِ مِنْ عِبَادَتَيْنِ لَا يُتَصَوَّرُ تَأْدِيهِمَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَحَيْثُ جَاءَ الشَّرْعُ بِالْقِرَانِ دَلَّ عَلَى التَّدَاخُلِ، فَكَمَا وُجِدَ التَّدَاخُلُ فِي الْإِحْرَامِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ أَيْضًا مَوْجُودًا دَفْعًا لِلتَّحَكُّمِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ يَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ فَكَذَلِكَ فِي الْأَرْكَانِ: أَيْ فِي بَقِيَّةِ الْأَرْكَانِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَنَا أَنَّهُ لَمَّا طَافَ صَبِيُّ بْنِ مَعْبَدٍ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّهُ لَا تَدَاخُلَ فِي الْعِبَادَاتِ) مَنْقُوضٌ بِسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ فَإِنَّهَا عِبَادَةٌ وَفِيهَا التَّدَاخُلُ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ الْعِبَادَةُ الْمَقْصُودَةُ وَالسَّجْدَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، وَبِأَنَّ التَّدَاخُلَ فِيهَا لِدَفْعِ الْحَرَجِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا وَلَا يُلْحَقُ بِهَا الْحَجُّ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَاهَا فِي وُجُودِ الْحَرَجِ.
وَقَوْلُهُ (وَالسَّفَرُ لِلتَّوَسُّلِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ حَتَّى اُكْتُفِيَ فِيهِ بِتَلْبِيَةٍ وَاحِدَةٍ إلَخْ.
لَا يُقَالُ: قَوْلُهُ وَالسَّفَرُ لِلتَّوَسُّلِ وَالتَّلْبِيَةُ لِلتَّحَرُّمِ وَالْحَلْقُ لِلتَّحَلُّلِ وَقَعَ تَكْرَارًا فِي دَلِيلِ الْخَصْمِ وَفِي الْجَوَابِ عَنْهُ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ فِي أَوَّلِ الْبَابِ مَرَّةً لِأَنَّهُ ذُكِرَ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الْإِفْرَادِ أَفْضَلَ، وَهَاهُنَا بِاعْتِبَارِ إفْرَادِ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ فَيُحْتَاجُ إلَى الْجَوَابِ عَنْهُ بِالِاعْتِبَارَيْنِ، وَمِثْلُهُ مِنْ التَّكْرَارِ لَيْسَ بِمُنْكَرٍ.
وَقَوْلُهُ (وَمَعْنَى مَا رَوَاهُ) يَعْنِي قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ} (دَخَلَ وَقْتُ الْعُمْرَةِ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَ أَشْهُرَ الْحَجِّ قَبْلَ الْإِسْلَامِ لِلْحَجِّ فَأَدْخَلَ اللَّهُ وَقْتَ الْعُمْرَةِ فِي وَقْتِ الْحَجِّ إسْقَاطًا لِلسَّفَرِ الْجَدِيدِ عَنْ الْغُرَبَاءِ تَوْسِعَةً. قَالَ (فَإِنْ طَافَ طَوَافَيْنِ لِعُمْرَتِهِ وَحَجَّتِهِ وَسَعَى سَعْيَيْنِ يُجْزِيهِ) لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا هُوَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ وَقَدْ أَسَاءَ بِتَأْخِيرِ سَعْيِ الْعُمْرَةِ وَتَقْدِيمُ طَوَافِ التَّحِيَّةِ عَلَيْهِ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ.
أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ لِأَنَّ التَّقْدِيمَ وَالتَّأْخِيرَ فِي الْمَنَاسِكِ لَا يُوجِبُ الدَّمَ عِنْدَهُمَا.
وَعِنْدَهُ طَوَافُ التَّحِيَّةِ سُنَّةٌ وَتَرْكُهُ لَا يُوجِبُ الدَّمَ فَتَقْدِيمُهُ أَوْلَى.
وَالسَّعْيُ بِتَأْخِيرِهِ بِالِاشْتِغَالِ بِعَمَلٍ آخَرَ لَا يُوجِبُ الدَّمَ فَكَذَا بِالِاشْتِغَالِ بِالطَّوَافِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ طَافَ طَوَافَيْنِ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَالسَّعْيُ بِتَأْخِيرِهِ) يَعْنِي أَنَّ تَأْخِيرَ سَعْيِ الْعُمْرَةِ (بِالِاشْتِغَالِ بِعَمَلٍ آخَرَ) كَالْأَكْلِ وَالنَّوْمِ، وَإِنْ كَانَ يَوْمًا (لَا يُوجِبُ الدَّمَ فَكَذَا بِالِاشْتِغَالِ بِطَوَافِ التَّحِيَّةِ) قَالَ (وَإِذَا رَمَى الْجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ ذَبَحَ شَاةً أَوْ بَقَرَةً أَوْ بَدَنَةً أَوْ سُبُعَ بَدَنَةٍ فَهَذَا دَمُ الْقِرَانِ) لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُتْعَةِ وَالْهَدْيُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِيهَا، وَالْهَدْيُ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَرَادَ بِالْبَدَنَةِ هَاهُنَا الْبَعِيرَ وَإِنْ كَانَ اسْمُ الْبَدَنَةِ يَقَعُ عَلَيْهِ وَعَلَى الْبَقَرَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَكَمَا يَجُوزُ سُبُعُ الْبَعِيرِ يَجُوزُ سُبُعُ الْبَقَرَةِ (فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يَذْبَحُ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ آخِرُهَا يَوْمُ عَرَفَةَ، وَسَبْعَةَ أَيَّامٍ إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} فَالنَّصُّ وَإِنْ وَرَدَ فِي التَّمَتُّعِ فَالْقِرَانُ مِثْلُهُ لِأَنَّهُ مُرْتَفِقٌ بِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ.
وَالْمُرَادُ بِالْحَجِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَقْتُهُ لِأَنَّ نَفْسَهُ لَا يَصْلُحُ ظَرْفًا، إلَّا أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَصُومَ قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ وَيَوْمَ التَّرْوِيَةَ وَيَوْمَ عَرَفَةَ لِأَنَّ الصَّوْمَ بَدَلٌ عَنْ الْهَدْيِ فَيُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهُ إلَى آخِرِ وَقْتِهِ رَجَاءَ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الْأَصْلِ (وَإِنْ صَامَهَا بِمَكَّةَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْحَجِّ جَازَ) وَمَعْنَاهُ بَعْدَ مُضِيِّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لِأَنَّ الصَّوْمَ فِيهَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مُعَلَّقٌ بِالرُّجُوعِ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْمَقَامَ فَحِينَئِذٍ يُجْزِيهِ لِتَعَذُّرِ الرُّجُوعِ.
وَلَنَا أَنَّ مَعْنَاهُ رَجَعْتُمْ عَنْ الْحَجِّ: أَيْ فَرَغْتُمْ، إذْ الْفَرَاغُ سَبَبُ الرُّجُوعِ إلَى أَهْلِهِ فَكَانَ الْأَدَاءُ بَعْدَ السَّبَبِ فَيَجُوزُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِذَا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ ذَبَحَ شَاةً أَوْ بَقَرَةً أَوْ بَدَنَةً أَوْ سُبُعَ بَدَنَةٍ فَهَذَا دَمُ الْقِرَانِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُتْعَةِ) لِمَا تَقَدَّمَ وَالْهَدْيُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِيهَا (بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} وَلِهَذَا عَيْنُ الذَّبْحِ هَاهُنَا)، وَقَالَ فِي الْمُفْرِدِ: ثُمَّ يَذْبَحُ إنْ أَحَبَّ (وَالْهَدْيُ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ عَلَى مَا يُذْكَرُ فِي بَابِهِ) وَأَرَادَ بِالْبَدَنَةِ هَاهُنَا الْبَعِيرَ، وَكَأَنَّهُ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ: أَنْتُمْ تَقُولُونَ الْبَدَنَةُ تُطْلَقُ عَلَى الْبَعِيرِ وَالْبَقَرَةِ فَكَيْفَ قَالَ هَاهُنَا بَدَنَةً أَوْ بَقَرَةً؟ وَتَقْرِيرُهُ: نَحْنُ لَا نُنْكِرُ جَوَازَ إطْلَاقِ الْبَدَنَةِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مَعْنَيَيْهِ مُفْرَدًا وَهَاهُنَا كَذَلِكَ.
فَإِنْ قِيلَ: سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكِنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ هَدْيٌ وَهُوَ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى: أَيْ يُنْقَلُ إلَى الْحَرَمِ وَسُبُعُ الْبَدَنَةِ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ هَدْيٌ فَفَعَلَ كَانَ عَلَيْهِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ وَهُوَ شَاةٌ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْقِيَاسَ مَا ذَكَرْتُمْ، وَلَكِنْ ثَبَتَ جَوَازُ سُبُعِ الْبَدَنَةِ أَوْ الْبَقَرَةِ بِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: {اشْتَرَكْنَا حِينَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَقَرَةِ سَبْعَةٌ، وَفِي الْبَدَنَةِ سَبْعَةٌ، وَفِي الشَّاةِ وَاحِدٌ} وَأَمَّا فِي النَّذْرِ إذَا نَوَى سُبُعَ بَدَنَةٍ فَلَا رِوَايَةَ فِيهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ فَالْفَرْقُ أَنَّ النَّذْرَ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ كَالْيَمِينِ وَبَعْضُ الْهَدْيِ لَيْسَ بِهَدْيٍ عُرْفًا (فَإِذَا لَمْ يَجِدْ مَا يَذْبَحُ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ) أَيْ فِي وَقْتِهِ بَعْدَ أَنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَصُومَ قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ وَيَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمَ عَرَفَةَ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ (وَسَبْعَةً إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}، وَهَذَا النَّصُّ وَإِنْ وَرَدَ فِي التَّمَتُّعِ لَكِنَّ الْقِرَانَ فِي مَعْنَاهُ) كَمَا مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَالْمُرَادُ بِالرُّجُوعِ إلَى الْأَهْلِ الْفَرَاغُ مِنْ الْحَجِّ مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْمُسَبَّبِ وَهُوَ الرُّجُوعُ وَإِرَادَةِ السَّبَبِ وَهُوَ الْفَرَاغُ (فَكَانَ الْأَدَاءُ بَعْدَ السَّبَبِ فَيَجُوزُ) وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: ذِكْرُ الْمُسَبَّبِ وَإِرَادَةُ السَّبَبِ لَا يَصِحُّ فِي الْمَجَازِ كَمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُخْتَصًّا وَالْفَرَاغُ سَبَبٌ مُخْتَصٌّ بِالرُّجُوعِ فَيَجُوزُ.
فَإِنْ قِيلَ: لَا مَجَازَ إلَّا بِقَرِينَةٍ فَمَا هِيَ؟ قُلْت: إطْلَاقُ ذِكْرِ الرُّجُوعِ عَنْ ذِكْرِ الْأَهْلِ، وَقَوْلُهُ (ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ) فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَسَبْعَةً إذَا رَجَعْتُمْ عَمَّا كُنْتُمْ مُقْبِلِينَ عَلَيْهِ فِيهِ.
قِيلَ وَفَائِدَةُ الْفَذْلَكَةِ نَفْيُ الْإِبَاحَةِ الَّتِي تُتَوَهَّمُ مِنْ كَلِمَةِ الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ {وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ} كَمَا فِي قَوْلِك: جَالِسْ الْحَسَنَ وَابْنَ سِيرِينَ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كَامِلَةً فِي وُقُوعِهَا بَدَلًا مِنْ الْهَدْيِ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ. (فَإِنْ فَاتَهُ الصَّوْمُ حَتَّى أَتَى يَوْمَ النَّحْرِ لَمْ يُجْزِهِ إلَّا الدَّمُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَصُومُ بَعْدَ هَذِهِ الْأَيَّامِ لِأَنَّهُ صَوْمٌ مُوَقَّتٌ فَيَقْضِي كَصَوْمِ رَمَضَانَ.
وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَصُومُ فِيهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} وَهَذَا وَقْتُهُ.
وَلَنَا النَّهْيُ الْمَشْهُورُ عَنْ الصَّوْمِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَيَتَقَيَّدُ بِهِ النَّصُّ أَوْ يَدْخُلُهُ النَّقْصُ فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ مَا وَجَبَ كَامِلًا، وَلَا يُؤَدِّي بَعْدَهَا لِأَنَّ الصَّوْمَ بَدَلٌ وَالْأَبْدَالُ لَا تُنْصَبُ إلَّا شَرْعًا، وَالنَّصُّ خَصَّهُ بِوَقْتِ الْحَجِّ وَجَوَازُ الدَّمِ عَلَى الْأَصْلِ.
وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ أَمَرَ فِي مِثْلِهِ بِذَبْحِ الشَّاةِ، فَلَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْهَدْيِ تَحَلَّلَ وَعَلَيْهِ دَمَانِ: دَمُ التَّمَتُّعِ، وَدَمُ التَّحَلُّلِ قَبْلَ الْهَدْيِ.
الشَّرْحُ:
قَوْلُهُ (وَقَالَ مَالِكٌ يَصُومُ فِيهَا) يَعْنِي فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ دُونَ يَوْمِ النَّحْرِ لِأَنَّ الصَّوْمَ فِيهِ لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَنَا النَّهْيُ الْمَشْهُورُ) يَعْنِي قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {أَلَا لَا تَصُومُوا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ} وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَفِي التَّعَرُّضِ بِلَفْظِ الْمَشْهُورِ إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَمَّا يُقَالُ: النَّصُّ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الصَّوْمِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ بِقَوْلِهِ {فِي الْحَجِّ} فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ بِغَيْرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بِالْخَبَرِ لِأَنَّهُ نَسْخٌ لِلْكِتَابِ، وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ أَنَّ الْخَبَرَ مَشْهُورٌ فَيَجُوزُ التَّقْيِيدُ بِهِ.
وَقَوْلُهُ (أَوْ يَدْخُلُهُ النَّقْصُ) يَعْنِي لَوْ لَمْ يُقَيَّدْ بِهِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يُورِثَ نَقْصًا، وَمَا وَجَبَ كَامِلًا لَا يَتَأَدَّى نَاقِصًا فَلَا يَتَأَدَّى فِيهَا (وَلَا يُؤَدَّى بَعْدَهَا) أَيْ بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ (لِأَنَّ الصَّوْمَ بَدَلٌ وَالْأَبْدَالُ لَا تُنَصَّبُ إلَّا شَرْعًا) لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي مَعْرِفَةِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ إرَاقَةِ الدَّمِ وَالصَّوْمِ (وَالنَّصُّ خَصَّهُ) بَدَلًا (بِوَقْتِ الْحَجِّ) فَلَا يَجُوزُ بَعْدَهُ، وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا أَنَّ الْبَدَلَ إنَّمَا يَجِبُ إذَا كَانَ الْأَصْلُ مُتَصَوَّرًا وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ إنْ قَدَرَ عَلَى الْهَدْيِ لَا يَجُوزُ ذَبْحُهُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ فَكَانَ كَمَسْأَلَةِ الْغَمُوسِ.
وَالثَّانِي أَنَّ الْبَدَلَ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْمُبْدَلِ، وَالْعَجْزُ عَنْهُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا مَضَى يَوْمُ النَّحْرِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يَجُوزُ الْبَدَلُ عَنْهُ قَبْلَهُ.
وَالثَّالِثُ أَنَّ الدَّمَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ عِنْدَنَا إذَا فَاتَ صَوْمُ الثَّلَاثَةِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَهُوَ غَيْرُ مَعْقُولٍ لِأَنَّهُ فَاتَ بِنَفْسِهِ وَبِبَدَلِهِ فَكَيْفَ يَجِبُ بَعْدَ ذَلِكَ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ الصَّوْمَ بَدَلٌ عَنْ الْهَدْيِ إذَا لَمْ يَجِدْهُ بَعْدَمَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ بِالنَّصِّ، وَأَصْلٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُوَقَّتٌ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ، وَلَوْ كَانَ بَدَلًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَانَ كَالْمُبْدَلِ فِي الْإِطْلَاقِ بَعْدَ أَيَّامِ النَّحْرِ لِأَنَّ حُكْمَ الْبَدَلِ حُكْمُ الْأَصْلِ فِي الْإِطْلَاقِ كَالتَّيَمُّمِ مَعَ الْوُضُوءِ، فَبِالنَّظَرِ إلَى أَصَالَتِهِ جَازَ بِغَيْرِ تَصَوُّرِ الْأَصْلِ وَقَبْلَ تَحَقُّقِ تَمَامِ الْعَجْزِ عَنْهُ، وَبِالنَّظَرِ إلَى الْبَدَلِيَّةِ يَلْزَمُ الْهَدْيُ إذَا قَدَرَ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّحَلُّلِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ لِلْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ.
قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْخُلْفِ.
وَأَمَّا وُجُوبُ الدَّمِ بَعْدَ مُضِيِّ أَيَّامِ النَّحْرِ إذَا لَمْ يَصُمْ الثَّلَاثَةَ فَبِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ.
قِيلَ لِأَنَّ الدَّمَ هُوَ الْأَصْلُ، وَلَيْسَ مُقَيَّدًا بِأَيَّامِ النَّحْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِوَقْتٍ فَيَجُوزُ ذَبْحُهُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَفِيمَا بَعْدَهُ.
وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ ذَبْحَ هَدْيِ الْمُتْعَةِ مُوَقَّتٌ بِأَيَّامِ النَّحْرِ وَهُوَ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى هَذَا النَّصِّ.
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُقَيَّدًا لَجَازَ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
وَالثَّانِي أَنَّ الدَّمَ وَاجِبٌ إذَا فَاتَهُ صَوْمُ الثَّلَاثَةِ عَنْ وَقْتِهِ فَكَيْفَ عَبَّرَ الْمُصَنِّفُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ وَجَوَازُ الدَّمِ؟ وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ هَدْيَ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ يَخْتَصُّ ذَبْحُهُ بِيَوْمِ النَّحْرِ بِدَلِيلٍ يَقْتَضِيهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَلَا يَجُوزُ قَبْلَهُ.
وَالْمُرَادُ بِالْأَصْلِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ مَا هُوَ الْمَعْهُودُ أَنَّ الشَّيْءَ إذَا وَجَبَ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ الْمُكَلَّفُ بِهِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْ ذِمَّتِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ، وَهَاهُنَا وَجَبَ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ فَيَأْتِي بِهِ فِي أَيِّ وَقْتٍ قَدَرَ عَلَيْهِ.
وَعَنْ الثَّانِي أَنَّهُ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْجَوَازِ نَظَرًا إلَى الصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَهَذَا جَائِزٌ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْجَوَازِ.
هَذَا الَّذِي سَنَحَ لِي فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
وَقَوْلُهُ (وَعَنْ عُمَرَ) اعْتِضَادٌ لِإِيجَابِ الدَّمِ بَعْدَ فَوَاتِ الصَّوْمِ وَهُوَ ظَاهِرٌ. (فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ الْقَارِنُ مَكَّةَ وَتَوَجَّهَ إلَى عَرَفَاتٍ فَقَدْ صَارَ رَافِضًا لِعُمْرَتِهِ بِالْوُقُوفِ) لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهَا لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَانِيًا أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَذَلِكَ خِلَافُ الْمَشْرُوعِ.
وَلَا يَصِيرُ رَافِضًا بِمُجَرَّدِ التَّوَجُّهِ هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْضًا.
وَالْفَرْقُ لَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُصَلِّي الظُّهْرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إذَا تَوَجَّهَ إلَيْهَا أَنَّ الْأَمْرَ هُنَالِكَ بِالتَّوَجُّهِ مُتَوَجِّهٌ بَعْدَ أَدَاءِ الظُّهْرِ، وَالتَّوَجُّهُ فِي الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ قَبْلَ أَدَاءِ الْعُمْرَةِ فَافْتَرَقَا.
قَالَ (وَسَقَطَ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ) لِأَنَّهُ لَمَّا ارْتَفَضَتْ الْعُمْرَةُ لَمْ يَرْتَفِقْ بِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ (وَعَلَيْهِ دَمٌ لِرَفْضِ الْعُمْرَةِ) بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهَا (وَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا) لِصِحَّةِ الشُّرُوعِ فِيهَا فَأَشْبَهَ الْمُحْصَرَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَذَلِكَ خِلَافُ الْمَشْرُوعِ) يَعْنِي أَنَّ الْمَشْرُوعَ أَنْ يَكُونَ الْوُقُوفُ مُرَتَّبًا عَلَى أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ.
وَقَوْلُهُ (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَصِيرُ رَافِضًا لِلْعُمْرَةِ بِالتَّوَجُّهِ إلَى عَرَفَاتٍ قِيَاسًا عَلَى التَّوَجُّهِ إلَى الْجُمُعَةِ.
وَوَجْهُ الصَّحِيحِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ بَيِّنٌ.
وَوَجْهُ كَوْنِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِابْتِدَاءِ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ} وَالْأَمْرُ بِالشَّيْءِ يَقْتَضِي كَرَاهَةَ ضِدِّهِ وَلَا كَرَاهَةَ إلَّا بِالنَّهْيِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَكُونُ رَافِضًا لِعُمْرَتِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ طَوَافَ الْعُمْرَةِ يَدْخُلُ فِي طَوَافِ الْحَجِّ عِنْدَهُ فَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ طَوَافٌ مَقْصُودٌ لِلْعُمْرَةِ، وَالْفَائِدَةُ تَظْهَرُ فِي وُجُوبِ الدَّمِ.
فَعِنْدَنَا يَسْقُطُ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ الَّذِي هُوَ نُسُكٌ، وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ دَمٌ لِرَفْضِ الْعُمْرَةِ لِأَنَّ رَفْعَ الْإِحْرَامِ قَبْلَ أَدَاءِ الْأَفْعَالِ يُوجِبُ ذَلِكَ كَمَا فِي الْإِحْصَارِ، وَعِنْدَهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ وَيَقْضِيهَا لِصِحَّةِ الشُّرُوعِ فِيهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.