فصل: ذكر أيام خلفاء بني العباس والأحداث التي جرت في عهدهم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التنبيه والإشراف (نسخة منقحة)



.ذكر أيام خلفاء بني العباس والأحداث التي جرت في عهدهم:

.خلافة أبي العباس السفاح:

وبويع أبو العباس السفاح عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس ابن عبد المطلب، وأمه ريطة ابنة عبيد الله بن عبد الله بن عبد المدان بن الديان ابن قطن بن زياد بن الحارث بن مالك بن ربيعة بن كعب بن الحارث بن كعب ابن عمرو بن علة بن جلد بن مالك بن أدد بن زيد بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وقد كان لقب أولاً بالمهدي ليلة الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر سنة 132 بالكوفة.
وكان مبدأ الدعوة العباسية بالكوفة وخراسان وغيرها من الأمصار في سنة 100 للهجرة، وذلك أن أبا هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية، كان قدم على سليمان بن عبد الملك سنة 98 فأعجب به، وقضى حوائجه وصرفه وضم إليه من سمه في الطريق، فلما أحس بذلك غدا إلى محمد بن علي بن عبد الله بن العباس ابن عبد المطلب، وهو يومئذ بالحميمة، وقيل بكرار من جبال الشراة والبلقاء من أعمال دمشق، فأفضى إليه بسرائر الدعوة، وعرف بينه وبين الدعاة، وأعلمه أن الخلافة صائرة إلى ولده، وأن الأمر إلى ابن الحارثية منهم، وأمر ببث الدعوة عند تمام المائة سنة للهجرة.
فلما حضرت محمداً الوفاة أوصى إلى ابنه إبراهيم، فكانت الدعوة إليه، وسمي الإمام، وإليه دعا أبو مسلم بخراسان، فلما وقف مروان بن محمد الجعدي على ذلك كتب إلى عامله بدمشق، وهو الوليد بن معاوية بن مروان بن الحكم يأمره بتوجيه بعض ثقاته إلى الحميمة أو كرار فيأتيه بإبراهيم الإمام، فحمله إلى مروان فحبسه في المحرم من هذه السنة وهي سنة 132، فقتل في محبسه بعد شهرين، وعهد بالأمر بعده إلى أخيه أبي العباس عبد الله بن محمد وهو ابن الحارثية.
وتوفي أبو العباس بالأنبار في مدينته التي بناها وسماها الهاشمية يوم الأحد لاثنتي عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة 136 وله ثلاث وثلاثون سنة، وكانت خلافته أربع سنين وثمانية أشهر ويوماً وكان طويلاً أبيض أقنى، حسن الوجه، جعد الشعر، له وفرة، سديد الرأي، ماضي العزيمة، كريم الأخلاق، متألفاً للرجال، سمحاً بالأموال، يهون عليه أن يأمر بسفك دماء عالم من أعدائه من غير أن يعاين ذلك قال المسعودي: وكان أول من وقع عليه اسم الوزارة في دولة بني العباس أبو سلمة حفص بن سليمان الخلال، مولى السبيع من همذان وزر لأبي العباس السفاح، وكان يقال له وزير آل محمد، وفيه يقول بعض الشعراء:
إن المساءة قد تسر وربما ** كان السرور بما كرهت جديرا

إن الوزير وزير آل محمدٍ ** أودى فمن يشتاك كان وزيرا

وقد أتينا على أخباره وسبب قتله في كتاب مروج الذهب، ومعادن الجوهر وهو أول وزير وزر لبني العباس، وأبوه حي، وكانت ملوك بني أمية تنكر أن تخاطب كاتباً لها بالوزارة وتقول الوزير بدمشق من الوزارة، والخليفة أجل من أن يحتاج إلى الموازرة، وكانت العرب تسمي وزير الملك من ملوك اليمن والشأم والحيرة الراهن والزعيم والكافي والكامل تريد بذلك أنه مرتهن بالتدبير زعيم بصواب الرأي كاف للملك مهمات الأمور كامل الفضائل، وكانت العجم تسمي وزير الملك من ملوكها حامل الثقل ووساد العضد ورئيس الكفاة ومدبر الأمور العظام إذ بهم نظام الأمور وجمال الملك وبهاء السلطان وهم الألسن الناطقة عن الملوك وخزان أموالهم وأمناؤهم على رعيتهم وبلادهم، وأعظم الناس غناء عن الملوك والرعية وأولاهم بالحياء والكرامة وكذلك كان اليونانيون والروم يسمون وزير الملك الذي يدور عليه أمره ويرجع إلى رأيه وتدبيره فلما جاء الله بالإسلام ونزل القرآن فيما قص الله من خبر نبيه موسى عليه السلام في قوله: {واجعل لي وزيراً من أهلي * هرون أخي * أشدد به أزري * وأشركه في أمري} استخارت بنو العباس تسمية الكاتب وزيراً فلم يكن الخلفاء والملوك تستوزر إلا الكامل من كتابها، والأمين العفيف من خاصتها والناصح الصدوق من رجالها، ومن تأمنه على أسرارها وأموالها، وتثق بحزمه وفضل رأيه، وصحة تدبيره في أمورها واستوزر أبو العباس بعد أبي سلمة أبا العباس خالد بن برمك وكان نقش خاتمه الله ثقة عبد الله وبه يؤمن وقاضيه ابن أبي ليلى الأنصاري ثم الأوسي ويحيى بن سعيد الأنصاري، وحاجبه أبو غسان صالح بن الهيثم مولاه.

.ذكر خلافة أبي جعفر المنصور:

وبويع أبو جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس وأمه سلامة ابنة بشير، مولدة البصرة، وقيل بربرية- في اليوم الذي توفي فيه السفاح، وقتل أبا مسلم القائم بدولتهم، والمنتقم لهم من عدوهم برومية المدائن في شعبان سنة 137 وكان ظهور محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب بالمدينة لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة 145 وبايعه خلق كثير من الحاضرة والبادية، وتسمى بالمهدي، فوجه إليه المنصور عيسى بن موسى في أربعة آلاف فالتقوا بظاهر المدينة فقتل محمد في عدة ممن كان معه، وذلك في شهر رمضان من هذه السنة.
وكان ظهور أخيه إبراهيم بالبصرة مستهل شهر رمضان، فغلب عليها وعلى الأهواز، وواسط، وكسكر، وعظمت جموعه، وسار يريد الكوفة فوجه المنصور عيسى بن موسى في العساكر، فالتقوا بباخمري على ستة عشر فرسخاً من الكوفة يوم الاثنين لأربع بقين من ذي القعدة، من هذه السنة أيضاً فقتل إبراهيم في جمع كثيف ممن كان معه، وانهزم الباقون وبعقب قتل محمد وإبراهيم لقب بالمنصور وكانت وفاة المنصور ببئر ميمون على أميال من مكة يوم السبت لست ليال خلون من ذي الحجة سنة 158 وله ثلاث وستون سنة، ودفن بالحرم، وكانت خلافته إحدى وعشرين سنة، وأحد عشر شهراً، وعشرين يوماً وكان طويلاً، أسمر، نحيفاً، خفيف العارضين يخضب بالسواد، محنك السن، حازم الرأي، قد عركته الدهور، وحلت الأيام سطوته، وروى العلم وعرف الحلال والحرام، لا يدخله فتور عند حادثة، ولا تعرض له ونية عند مخوفة، يجود بالأموال حتى يقال هو أسمح الناس، ويمنع في الأوقات حتى يقال هو أبخل الناس ويسوس سياسة الملوك، ويثب وثوب الأسد العادي، لا يبالي أن يحرس ملكه بهلاك غيره، وخلف من الأموال ما لم يجتمع مثله لخليفة قبله ولا بعده، وهو تسعمائة ألف ألف وستون ألف ألف ففرق المهدي جميع ذلك حين أفضى الأمر إلهي واستوزر خالد بن برمك مديدة، ثم غلب عليه أبو أيوب المورياني الخوزي فاستوزره، وقد أتينا بخبر مقتله وخبر من طرأ بعده من الوزراء فيما سلف من كتبنا، ثم استوزر مولاه الربيع، وكتب له عدة غير هؤلاء منهم سليمان بن مجالد وعبد الحميد بن عدي، وابن أبي عطية الباهلي وكان نقش خاتمه الله ثقة عبد الله وبه يؤمن وعلى قضائه يحيى ابن سعيد الأنصاري، وأبان بن صدقة، وعثمان بن عمرو البتي، وعبد الله بن محمد بن صفوان، وحاجبه عيسى بن روضة، وأبو الخطيب مرزوق مولاه، والربيع مولاه قبل أن يستوزره.

.ذكر خلافة المهدي محمد بن عبد الله المنصور:

وبويع المهدي محمد بن عبد الله المنصور ويكنى أبا عبد الله وأمه أم موسى ابنة منصور بن عبد الله بن شهر الحميري ثم الرعيني في الوقت الذي توفي فيه المنصور، وتوفي بالرذ والراق من أرض ماسبذان من الجبال، لسبع بقين من المحرم سنة 169، وله اثنتان وأربعون سنة أسمر طوالاً، بعينه اليمنى نكتة بياض، كريماً حبيباً، بذولاً للأموال، حسن العفو، كريم الظفر، لا يدخله غفلة عند مخوفة، ولا يتكل في الأمور على غير ثقة، وصولاً لأرحامه، براً بأهله، فيه لين جانب، كثير الولاية والعزل لغير سبب، واستوزر أبا عبيد الله معاوية بن عبيد الله الأشعري الطبراني من مدينة طبرية من بلاد الأردن من أرض الشأم ثم يعقوب بن داود مولى بني سيم، ثم أبا صالح الفيض.
وكان نقش خاتمه الله ثقة محمد وبه يؤمن وعلى قضائه عافية بن يزيد الأزدي، وابن علاثة العقيلي. وحجبه الربيع، والخضر بن سليمان، والفضل ابن الربيع.

.ذكر خلافة موسى الهادي بن محمد المهدي:

وبويع موسى الهادي بن محمد المهدي، يكنى أبا جعفر، وأمه أم ولد يقال لها الخيزران ابنة عطاء مولدة جرش من أرض اليمن في الوقت الذي توفي فيه المهدي، وتوفي بعيساباذ نحو مدينة السلام لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة 170 وله خمس وعشرون سنة وكانت خلافته سنة وشهراً وخمسة وعشرون يوماً، وكان طوالاً جسيماً، أبيض، أفوه، بشفته العليا بياض، شجاعاً بطلاً، أشد الناس بدناً، وأجرأه مقدماً في تسرع، وجبرية ينسب بهما إلى الهوج وكان كاتبه عبيد الله بن زياد بن أبي ليلى، ثم استوزر الربيع مولاه واستكتب عمر بن بزيع، وإبراهيم بن ذكوان الحراني قال المسعودي: هذا قول الأكثر ممن عني بأخبار حلفاء بني العباس ووررائهم وكتابهم وقد ذكر أبو عبد الله محمد بن داود بن الجراح عم أبي الحسن علي بن عيسى الوزير في كتابه في أخبار الوزراء مما شرحه وزاد فيه أبو العباس أحمد بن عبيد الله بن محمد بن عمار أن موسى الهادي استوزر إبراهيم بن ذكروان الحراني الأعور صاحب طاق الحراني ببغداد من الجانب الغربي مولى الربيع الأزمة والخاتم وذكر أبو عبد الله محمد بن عبدوس الجهشياري في كتابه في أخبار الوزراء والكتاب أن الهاد لما قدم مدينة السلام استوزر الربيع مولاه، ثم صرفه عن الوزارة، وقلدها إبراهيم بن ذكوان الحراني، وأقر الربيع على دواوين الأزمة ولم يزل عليها حتى توفي في سنة 169 وله ثمان وخمسون سنة فقلد موسى ديوان الأزمة إبراهيم بن ذكوان وأبو عبد الله محمد بن عبدوس أحد المتأخرين ممن صنف في أخبار الوزراء والكتاب، وكذلك المعروف بابن الماشطة الكاتب، وأبو بكر محمد بن يحيى الصولي الجليس وعلي بن الفتح المعروف بالمطوق صنف من أخبارهم إلى سنة 320 وكان نقش خاتم الهادي الله ربي وعلى قضائه أبو يوسف صاحب الرأي حنيفة النعمان بن ثابت، وهو يعقوب بن إبراهيم بن حبيب من أنمار بن إراش ابن عمرو بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان، وعداده في الأنصار ثم في بني عمرو بن عوف من الأوس، وسعيد بن عبد الرحمن الجمحي، وحاجبه الفضل بن الربيع.

.ذكر خلافة الرشيد:

وبويع الرشيد هارون بن المهدي، ويكنى أبا جعفر وأمه الخيزران أم أخيه الهادي في الوقت الذي توفي فيه الهادي، وبايع لابنه محمد بن زبيدة بالعهد بعده ثم لعبد الله المأمون بعد محمد، وولاه الري وخراسان، وما اتصل بذلك، وأخذ عليهما العهود والمواثيق بالوفاء، وكتب عليهما بذلك كتابين علقهما في الكعبة، ثم بايع لابنه القاسم بولاية العهد بعد المأمون، وجعل أمر القاسم للمأمون إذا صار الأمر إليه، فإن رأى إقراره أقره وإن رأى خلعه خلعه وتوفي بقرية يقال لها سناباذ من طوس من أرض خراسان يوم السبت لأربع خلون من جمادى الآخرة سنة 193، وهو ابن أربع وأربعين سنة وأربعة أشهر، فكانت خلافته ثلاثاً وعشرين سنة وشهرين وستة عشر يوماً.
وكان تام الخلقة جميلاً، طويلاً أبيض مسمناً، قد وخطه الشيب، له وفرة إذا حج حلقها.
وكان كامل الأخلاق سمحاً شجاهاً كثير الحج والجهاد، وحج في خلافته ثماني حجج وغزا ثماني غزوات، وتسلط على الأمور بعد مدة من خلافته، فأفسد الصنائع، وأحب جمع الأموال واستوزر البرامكة يحيى بن خالد بن برمك وابنيه جعفر والفضل، ثم نكبهم في صفر سنة 187، وقتل جعفراً، وذلك لسبع عشرة سنة خلت من خلافته. ودفع خاتم الخلافة بعد إيقاعه بهم إلى علي بن يقطين، وغلب عليه الفضل بن الربيع، وإسماعيل بن صبيح إلى أن مات.
وكان صبيح أبو إسماعيل مولى عتاقة لسالم الأفطس، وسالم الأفطس مولى عتاقة لبني أمية واختلت أموره بعد البرامكة، وبان للناس قبح تدبيره وسوء سياسته.
وكان نقش خاتمه بالله يثق هارون وقضى له عهده منهم علي بن حرملة، وعون بن عبد الله المسعودي، وحفص بن غياث، وشريك بن عبد الله بن أبي شريك النخعي، ومحمد بن سماعة الحنفي، وحجبه بشر بن ميمون، ثم محمد بن خالد بن برمك، ثم الفضل بن الربيع.

.ذكر خلافة الأمين:

وبويع الأمين محمد بن هارون الرشيد ويكنى أبا موسى وأمه زبيدة أم جعفر ابنة جعفر بن أبي جعفر المنصور يوم السبت للنصف من جمادى الآخرة سنة 193، وبايع له المأمون بخراسان، وكتب إليه بالطاعة والخضوع وامتثال أمره ونهيه، انقيادًا إلى ما تقدم به العهد فعمل الأمين في خلعه والاحتيال لذلك وكتب إليه يأمره بتسليم بعض أعماله إلى من يرسم له، فامتنع من ذلك، فكتب إليه يأمره بالمصير إليه لمعاونته على تدبير ملكه، فاعتل بأمور ذكرها، فوجه إليه يسأله تقديم ابنه عليه بولاية العهد، ويرغبه في ذلك ويرهبه، فأبى وقوّى الفضل بن سهل ذو الرئاستين عزمه على محاربته.
فلما عادت الرسل إلى الأمين بذلك بايع لابنه موسى ولقبه الناطق بالحق وهو يومئذ صبي صغير وسرح علي بن عيسى بن ماهان في خمسين ألفاً بأعظم ما يكون من القوة والعدد ليجيئه بالمأمون، فندب المأمون للقائه طاهر بن الحسين بن مصعب بن زريق بن حمزة الرستمي من ولد رستم بن دستان الشديد وهم موالي خزاعة في الإسلام وإليهم ينتمون فنزل الري وسار علي بن عيسى حتى قرب منهما فالتقيا فاقتتلا قتالاً شديداً، فقتل علي بن عيسى وفضت جموعه واحتوى على عسكره وذلك لعشر خلون من شعبان سنة 195 فحينئذ سلم على المأمون بأمرة المؤمنين وسمي طاهر ذا اليمينين، وسار طاهر يفتح بلداً بلداً ويكسر من تلقائه الجيوش إلا أن نزل حلوان فلحق به هرثمة بن أعين في جيش كثيف، وكتب إليه المأمون أن يخلي بين هرثمة وبين المسير إلى مدينة السلام ويسير هو إليها على طريق الأهواز فسار هرثمة حتى نزل ظاهر الجانب الشرقي من مدينة السلام وسار طاهر فافتتح الأهواز وواسط والمدائن واحتوى على الكوفة والبصرة ونزل بظاهر الجانب الغربي من مدينة السلام وذلك في سنة 196 فحاصرها و غادوهم القتال وراوحوهم وقد كان الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان قدم من الرقة قبل وصول طاهر وهرثمة مدينة السلام في جيش كثيف، وكان مع عبد الملك بن صالح ابن علي بن عبد الله بن العباس، فلما مات عبد الملك سار إلى مدينة السلام لثلاث خلون من رجب من هذه السنة فخلع محمداً ودعا إلى المأمون، فأجابه الناس إلى ذلك وسجن محمداً وأمه وولده في مدينة أبي جعفر، وطلب منه الجند أرزاقهم فلم يكن عنده ما يعطيهم ومناهم قدوم هرثمة فأخرجوا محمداً بعد حبس يومين وأعادوه إلى حاله وجددوا له البيعة يوم الجمعة لست عشرة ليلة خلت من رجب من هذه السنة وجاءوه بالحسين بن علي فصفح عنه وولاه أمره ودفع إليه خاتمه فغدر وهرب يريد هرثمة فلحق فقتل على فرسخ من بغداد على الطريق النهروان وأتى محمد برأسه ودخل هرثمة الجانب الشرقي وطاهر الجانب الغربي في المحرم سنة 198 وجد طاهر في القتال إلى أن استولى على أكثر الجانب الغربي وحصر محمدا بمدينة أبي جعفر المنصور.
فراسل الأمين هرثمة خفية في المصير إليه، وكان أوثق عنده من طاهر، فتأهب هرثمة لذلك، وصار في حراقة له إلى بعض المشارع، وركب معه الأمين وعلم طاهر بذلك، فوجه بعضاً من خاصته، فرجموا الحرافة، ونجا محمد الأمين سباحة إلى الشط، وصار في يد بعض أصحاب طاهر، فقبض عليه، وعرف ظاهر خبره، فوجه من قتله، وجاءوه برأسه، فأنفذه إلى المأمون إلى خراسان.
وكان مقتله يوم الأحد لخمس ليال بقين من المحرم من هذه السنة، وهي سنة 198، وله ثلاث وثلاثون سنة.
وكانت خلافته أربع سنين وسبعة أشهر وعشرة أيام، وكان حسن الوجه، تام القامة، أبيض مسمناً، صغير العينين، بعيد ما بين المنكبين، شديداً في بدنه، باسطاً يده بالعطاء، قبيح السيرة، ضعيف الرأي، سفاكاً للدماء، يركب هواه ويهمل أمره، ويتكل في جليلات الخطوب على غيره، ويثق بمن لا ينصحه، واستوزر الفضل بن الربيع إلى أن استتر الفضل لما تبين من اختلال أمر محمد، ووهاء أمره، فقام بوزارته من حضر من كتابه، كإسماعيل بن صبيح، وغاب عليه عدة من الأولياء، منهم محمد بن عيسى بن نهيك، والسندي بن شاهك، وسليمان بن أبي جعفر المنصور.
وكان نقش خاتمه نعم القادر الله، وقيل سائل الله لا يخيب، وقضاته محمد بن سماعة، ومحمد بن حبيب، وإسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة، وأبو البختري وهب بن وهب القرشي، وحاجبه العباس بن الفضل بن الربيع.

.ذكر خلافة المأمون:

وبويع المأمون عبد الله بن هارون، ويكنى أبا جعفر، وأمه أم ولد باذغيسية تسمى مراجل- البيعة العامة بعد قتل المخلوع يوم الأحد لخمس ليال بقين من المحرم سنة 198 وبايع للرضا علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب بالعهد بعده، وأزال لبس السواد ولبس بدله الخضرة وأخذ الناس بذلك فاضطرب من بمدينة السلام من الهاشميين، وعظم ذلك على أهل بغداد عامة وعلى الهاشميين خاصة لزوال الملك عنهم ومصيره إلى ولد أبي طالب فأخرجوا الحسن بن سهل أخاذي الرئاستين، وكان خليفة المأمون على العراق وبايعوا المنصور بن المهدي فلم يتم له أمر، وكان مضعفاً فبايعوا أخاه إبراهيم ابن المهدي بالخلافة لخمس خلون من المحرم سنة 202 ودعي له على المنابر بمدينة السلام وغيرها فوجه الجيوش لمحاربة الحسن بن سهل وهو بناحية المدائن فكانت الحروب بينهم سجالاً وسار المأمون عن مرو يريد بغداد ومعه علي بن موسى الرضا وزيره القائم بدولته الفضل بن سهل ذو الرئاستين، وقتل الفضل بن سهل غيلة في حمام بسرخس يوم الاثنين لخمس خلون من شعبان من هذه السنة، فقتل الرضا في طوس في أول صفر سنة 203 ولما قرب المأمون من بغداد اضطرب على إبراهيم من كان يعتمد على نصرته، وقعد عنه أكثر من بايعه من الهاشميين وغيرهم فاستتر لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي الحجة من هذه السنة، وقال معاتباً للعباسيين:
فلا جزيت بنو العباس خيراً ** على رغمي ولا اغتبطت بري

أتوني مهطعين وقد أتاهم ** بوار الدهر بالخبر الجلي

وقد ذهل الحواضن عن بنيها ** وصد الثدي عن فم الصبي

وحل عصائب الأملاك منها ** فشدت في رقاب بني علي

فضجت أن تشد على رءوس ** تطالبها بميراث النبي

وكانت أيامه منذ بويع إلى أن استتر سنة وإحدى عشر شهراً وأياماً، ودخل المأمون مدينة السلام يوم السبت لثمان عشرة ليلة خلت من صفر سنة 204 وأمر بإعادة لبس السواد وتخريق الخضرة بعد ثمانية أيام من قدومه ولم يزل إبراهيم مستتراً منتقلاً بمدينة السلام إلى أن ظفر به في استتاره ليلة الأحد لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الآخر سنة 210 فعفا عنه المأمون واعتقل مديدة ثم أطلقه ورد عليه نعمته، وأعاده إلى رتبته وتوفي المأمون على عين البدندون من أرض الروم مما يلي طرسوس لثلاث عشرة ليلة بقيت من رجب سنة 218 وله تسعة وأربعون سنة ودفن بطرسوس فكانت خلافته عشرين سنة وخمسة أشهر وثمانية عشر يوماً، وكان أبيض يعلوه صفرة أجنى طويل اللحية ضيق الجبين كاملاً عالماً، جواداً، عظيم العفو، كريم المقدرة، ميمون النقيبة، حسن التدبير، جليل الصنائع، لا تخدعه الأماني، ولا تجوز عليه الخدائع، علمه بما بعد عنه من ملكه كعلمه بما حضره، وربما حرك منه الغضب فعجل بالعقوبة واستوزر الفضل بن سهل، ثم أخاه الحسن بن سهل. فلما أظهر العجز عن الخدمة لعوارض من العلل، ولزم منزله، عدل المأمون إلى استكتاب كتاب لعلمه بكتابتهم وجزالتهم، وأنه ليس في عصرهم من يوازيهم ولا يدانيهم، فاستوزرهم واحداً بعد واحد:
أولهم أحمد بن أبي خالد الأحول. وكان ينوب عن الحسن بن سهل لما تخلف في منزله، فلما دعاه المأمون إلى أن يستوزره قال يا أمير المؤمنين اجعل بيني وبين الناس منزلة يرجوني لها صديقي، ويخافني بها عدوي، فمابعد الغايات إلا الآفات ثم أحمد بن يوسف، ثم أبا عباد ثابت بن يحيى، وعمرو ابن مسعدة بن صول. وكان يجري مجراهم، ولا يعده كثير من الناس في الوزراء ثم استوزر بعد هؤلاء محمد بن يزداد بن سويد. وتوفي المأمون، وهو على وزارته، ولم يملا المأمون بعد الفضل بن سهل كتابه أمره لقيامه بالملك واضطلاعه به، ولم ير أحمد أنه مفتقر إلى وزير يشركه في تدبيره، ولم يكن يسمي بين يديه أحد من كتابه وزيرا، ولا يكاتب بذلك، فلأجل ذلك ترك كثير من الناس، أن يعد من ذكرنا في الوزراء، ورأيت من صنف كتاباً في أخبار الوزراء والكتاب، كأبي عبد الله محمد بن داود بن الجراح، ومحمد ابن يحيى الصولي الجليس، ومحمد بن عبدوس الجهشياري، والمعروف بابن الماشطة الكاتب منهم من عدهم في الوزراء، ومنهم من لم يعدهم للسبب الذي بيننا.
وكان نقش خاتمه الله ثقة عبد الله، وبه يؤمن وقاضيه محمد بن عمر الواقدي، ويحيى بن أكثم وحجابه شبيب بن حميد بن قحطبة، ثم علي بن صالح صاحب المصلى، ثم محمد بن حماد بن دنقش.