فصل: سنة ست وسبعمائة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 ثم دخلت سنة اثنتين وسبعمائة من الهجرة

استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها، وفي يوم الأربعاء ثاني صفر فتحت جزيرة أرواد بالقرب من أنطرسوس، وكانت من أضر الأماكن على أهل السواحل، فجاءتها المراكب من الديار المصرية في البحر وأردفها جيوش طرابلس، ففتحت ولله الحمد نصف النهار، وقتلوا من أهلها قريباً من ألفين وأسروا قريباً من خمسمائة، وكان فتحها من تمام فتح السواحل، وأراح الله المسلمين من شر أهلها‏.‏

وفي يوم الخميس السابع عشر من شهر صفر وصل البريد إلى دمشق فأخبر بوفاة قاضي القضاة ابن دقيق العيد، ومعه كتاب من السلطان إلى قاضي القضاة ابن جماعة، فيه تعظيم له واحترام وإكرام يستدعيه إلى قربه ليباشر وظيفة القضاء بمصر على عادته فتهيأ لذلك، ولما خرج خرج معه نائب السلطنة الأفرم وأهل الحل والعقد، وأعيان الناس ليودعوه، وستأتي ترجمة ابن دقيق العيد في الوفيات، ولما وصل ابن جماعة إلى مصر أكرمه السلطان إكراماً زائداً‏.‏

وخلع عليه خلعة صوف وبغلة تساوي ثلاثة آلاف درهم، وباشر الحكم بمصر يوم السبت رابع ربيع الأول، ووصلت رسل التتار في أواخر ربيع الأول قاصدين بلاد مصر، وباشر شرف الدين الفزاري مشيخة دار الحديث الظاهرية يوم الخميس ثامن ربيع الآخر عوضاً عن شرف الدين الناسخ، وهو أبو حفص عمر بن محمد بن حسن بن خواجا إمام الفارسي، توفي بها عن سبعين سنة، وكان فيه بر ومعروف وأخلاق حسنة، رحمه الله‏.‏

وذكر الشيخ شرف الدين المذكور درساً مفيداً وحضر عنده جماعة من الأعيان، وفي يوم الجمعة حادي عشر جمادى الأولى خلع على قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى بقضاء الشام عوضاً عن ابن جماعة، وعلى الفارقي بالخطابة، وعلى الأمير ركن الدين بيبرس العلاوي بشد الدواوين وهنأهم الناس، وحضر نائب السلطنة والأعيان المقصورة لسماع الخطبة، وقرئ تقليد ابن صصرى بعد الصلاة ثم جلس في الشباك الكمالي وقرئ تقليده مرة ثانية‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 14/26‏)‏

وفي جمادى الأولى وقع بيد نائب السلطنة كتاب مزور فيه أن الشيخ تقي الدين بن تيمية والقاضي شمس الدين بن الحريري وجماعة من الأمراء والخواص الذين بباب السلطنة يناصحون التتر ويكاتبوهم، ويريدون تولية قبجق على الشام، وأن الشيخ كمال الدين بن الزملكاني يعلمهم بأحوال الأمير جمال الدين الأفرم، وكذلك كمال الدين بن العطار‏.‏

فلما وقف عليه نائب السلطنة عرف أن هذا مفتعل، ففحص عن واضعه فإذا هو فقير كان مجاوراً بالبيت الذي كان مجاور محراب الصحابة، يقال له اليعفوري، وآخر معه يقال له أحمد الغناري، وكانا معروفين بالشر والفضول، ووجد معهما مسودة هذا الكتاب، فتحقق نائب السلطنة ذلك فعزرا تعزيراً عنيفاً، ثم وسطا بعد ذلك، وقطعت يد الكاتب الذي كتب لهما هذا الكتاب، وهو التاج المناديلي‏.‏

وفي أواخر جمادى الأولى انتقل الأمير سيف الدين بلبان الجوكندار المنصوري إلى نيابة القلعة عوضاً عن أرجواش‏.‏

 عجيبة من عجائب البحر

قال الشيخ علم الدين البرزالي في تاريخه‏:‏ قرأت في بعض الكتب الواردة من القاهرة أنه لما كان بتاريخ يوم الخميس رابع جمادى الآخرة ظهرت دابة من البحر عجيبة الخلقة من بحر النيل إلى أرض المنوفية، بين بلاد منية مسعود واصطباري والراهب‏.‏

وهذه صفتها‏:‏ لونها لون الجاموس بلا شعر، وآذانها كأذن الجمل، وعيناها وفرجها مثل الناقة، يغطي فرجها ذنب طوله شبر ونصف طرفه كذنب السمكة، ورقبتها مثل غلظ التليس المحشو تبناً، وفمها وشفتاها مثل الكربال، ولها أربعة أنياب اثنان من فوق واثنان من أسفل، طول كل واحد دون الشبر في عرض أصبعين‏.‏

وفي فمها ثمان وأربعون ضرساً وسن مثل بيادق الشطرنج، وطول يديها من باطنها إلى الأرض شبران ونصف ومن ركبتها إلى حافرها مثل بطن الثعبان، أصفر مجعد، ودور حافرها مثل السكرجة بأربعة أظافير مثل أظافير الجمل، وعرض ظهرها مقدار ذراعين ونصف، وطولها من فمها إلى ذنبها خمسة عشر قدماً‏.‏

وفي بطنها ثلاثة كروش، ولحمها أحمر وزفر مثل السمك، وطعمه كلحم الجمل، وغلظه أربعة أصابع ما تعمل فيه السيوف، وحمل جلدها على خمسة جمال في مقدار ساعة من ثقله على جمل بعد جمل وأحضروه إلى بين يدي السلطان بالقلعة وحشوه تبناً وأقاموه بين يديه والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/27‏)‏

وفي شهر رجب قويت الأخبار بعزم التتار على دخول بلاد الشام، فانزعج الناس لذلك واشتد خوفهم جداً، وقنت الخطيب في الصلوات وقرئ البخاري، وشرع الناس في الجفل إلى الديار المصرية والكرك والحصون المنيعة، وتأخر مجيء العساكر المصرية عن إبانها فاشتد لذلك الخوف‏.‏

وفي شهر رجب باشر نجم الدين بن أبي الطيب نظر الخزانة عوضاً عن أمين الدين سليمان‏.‏

وفي يوم السبت ثالث شعبان باشر مشيخة الشيوخ بعد ابن جماعة القاضي ناصر الدين عبد السلام، وكان جمال الدين الزرعي يسد الوظيفة إلى هذا التاريخ‏.‏

وفي يوم السبت عاشر شعبان ضربت البشائر بالقلعة وعلى أبواب الأمراء بخروج السلطان بالعساكر من مصر لمناجزة التتار المخذولين، وفي هذا اليوم بعينه كانت وقعة عرض وذلك أنه التقى جماعة من أمراء الإسلام فيهم استدمر و بهادرأخي وكجكن وغرلو العادلي، وكل منهم سيف من سيوف الدين في ألف وخمسمائة فارس‏.‏

وكان التتار في سبعة آلاف فاقتتلوا وصبر المسلمون صبراً جيداً، فنصرهم الله وخذل التتر، فقتلوا منهم خلقاً وأسروا آخرين، وولوا عند ذلك مدبرين، وغنم المسلمون منهم غنائم، وعادوا سالمين لم يفقد منهم إلا القليل ممن أكرمه الله بالشهادة، ووقعت البطاقة بذلك، ثم قدمت الأسارى يوم الخميس نصف شعبان، وكان يوم خميس النصارى‏.‏

 أوائل وقعة شقحب

وفي ثامن عشر قدمت طائفة كبيرة من جيش المصريين فيهم الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، والأمير حسام الدين لاجين المعروف بالاستادار المنصوري، والأمير سيف الدين كراي المنصوري، ثم قدمت بعدهم طائفة أخرى فيهم بدر الدين أمير سلاح، وأيبك الخزندار فقويت القلوب واطمأن كثير من الناس‏.‏

ولكن الناس في جفل عظيم من بلاد حلب وحماه وحمص وتلك النواحي وتقهقر الجيش الحلبي والحموي إلى حمص، ثم خافوا أن يدهمهم التتر فجاؤوا فنزلوا المرج يوم الأحد خامس شعبان‏.‏

ووصل التتار إلى حمص وبعلبك وعاثوا في تلك الأراضي فساداً، وقلق الناس قلقاً عظيماً، وخافوا خوفاً شديداً، واختبط البلد لتأخر قدوم السلطان ببقية الجيش، وقال الناس‏:‏ لا طاقة لجيش الشام مع هؤلاء المصريين بلقاء التتار لكثرتهم، وإنما سبيلهم أن يتأخروا عنهم مرحلة مرحلة‏.‏

وتحدث الناس بالأراجيف فاجتمع الأمراء يوم الأحد المذكور بالميدان وتحالفوا على لقاء العدو، وشجعوا أنفسهم، ونودي بالبلد أن لا يرحل أحد منه، فسكن الناس وجلس القضاة بالجامع وحلفوا جماعة من الفقهاء والعامة على القتال‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/28‏)‏

وتوجه الشيخ تقي الدين بن تيمية إلى العسكر الواصل من حماه فاجتمع بهم في القطيعة فأعلمهم بما تحالف عليه الأمراء والناس من لقاء العدو، فأجابوا إلى ذلك وحلفوا معهم، وكان الشيخ تقي الدين بن تيمية يحلف للأمراء والناس إنكم في هذه الكرة منصورون، فيقول له الأمراء‏:‏ قل إن شاء الله، فيقول إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً‏.‏

وكان يتأول في ذلك أشياء من كتاب الله منها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 60‏]‏‏.‏

وقد تكلم الناس في كيفية قتال هؤلاء التتر من أي قبيل هو، فإنهم يظهرون الإسلام وليسوا بغاة على الإمام، فإنهم لم يكونوا في طاعته في وقت ثم خالفوه‏.‏

فقال الشيخ تقي الدين‏:‏ هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على علي ومعاوية، ورأوا أنهم أحق بالأمر منهما، وهؤلاء يزعمون أنهم أحق بإقامة الحق من المسلمين، ويعيبون على المسلمين ما هم متلبسون به من المعاصي والظلم، وهم متلبسون بما هو أعظم منه بأضعاف مضاعفة، فتفطن العلماء والناس لذلك‏.‏

وكان يقول للناس‏:‏ إذا رأيتموني من ذلك الجانب وعلى رأسي مصحف فاقتلوني، فتشجع الناس في قتال التتار وقويت قلوبهم ونياتهم ولله الحمد‏.‏

ولما كان يوم الرابع والعشرين من شعبان خرجت العساكر الشامية فخيمت على الجسورة من ناحية الكسوة، ومعهم القضاة، فصار الناس فيهم فريقين فريق يقولون إنما ساروا ليختاروا موضعاً للقتال فإن المرج فيه مياه كثيرة فلا يستطيعون معها القتال‏.‏

وقال فريق‏:‏ إنما ساروا لتلك الجهة ليهربوا وليلحقوا بالسلطان‏.‏

فلما كانت ليلة الخميس ساروا إلى ناحية الكسوة فقويت ظنون الناس في هربهم، وقد وصلت التتار إلى قارة‏.‏

وقيل إنهم وصلوا إلى القطيعة، فانزعج الناس لذلك شديداً ولم يبق حول القرى والحواضر أحد، وامتلأت القلعة والبلد وازدحمت المنازل والطرقات، واضطرب الناس وخرج الشيخ تقي الدين بن تيمية صبيحة يوم الخميس من الشهر المذكور من باب النصر بمشقة كبيرة، وصحبته جماعة ليشهد القتال بنفسه ومن معه، فظنوا إنما خرج هارباً فحصل اللوم من بعض الناس وقالوا أنت منعتنا من الجفل وهاأنت هارب من البلد‏؟‏ فلم يرد عليهم وبقي البلد ليس فيه حاكم‏.‏

وجلس اللصوص والحرافيش فيه وفي بساتين الناس يخربون وينتهبون ما قدروا عليه، ويقطعون المشمش قبل أوانه والباقلاء والقمح وسائر الخضراوات‏.‏

وحيل بين الناس وبين خبر الجيش، وانقطعت الطرق إلى الكسوة وظهرت الوحشة على البلد والحواضر، وليس للناس شغل غير الصعود إلى المآذن ينظرون يميناً وشمالاً، وإلى ناحية الكسوة فتارة يقولون‏:‏ رأينا غبرة فيخافون أن تكون من التتر، ويتعجبون من الجيش مع كثرتهم وجودة عدتهم وعددهم، أين ذهبوا‏؟‏ فلا يدرون ما فعل الله بهم، فانقطعت الآمال وألح الناس في الدعاء والابتهال وفي الصلوات وفي كل حال، وذلك يوم الخميس التاسع والعشرين من شعبان‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/29‏)‏

وكان الناس في خوف ورعب لا يعبر عنه، لكن كان الفرج من ذلك قريباً، ولكن أكثرهم لا يفلحون، كما جاء في حديث أبي رزين‏:‏

‏(‏‏(‏عجب ربك من قنوط عباده وقرب غيره ينظر إليكم أزلين قنطين فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب‏)‏‏)‏‏.‏

فلما كان آخر هذا اليوم وصل الأمير فخر الدين إياس المرقبي أحد أمراء دمشق، فبشر الناس بخير، هو أن السلطان قد وصل وقت اجتمعت العساكر المصرية والشامية، وقد أرسلني أكشف هل طرق البلد أحد من التتر، فوجد الأمر كما يحب لم يطرقها أحد منهم، وذلك أن التتار عرجوا من دمشق إلى ناحية العساكر المصرية، ولم يشتغلوا بالبلد، وقد قالوا إن غلبنا فإن البلد لنا، وإن غلبنا فلا حاجة لنا به‏.‏

ونودي بالبلد في تطييب الخواطر، وأن السلطان قد وصل، فاطمأن الناس وسكنت قلوبهم، وأثبت الشهر ليلة الجمعة القاضي تقي الدين الحنبلي، فإن السماء كانت مغيمة فعلقت القناديل وصليت التراويح واستبشر الناس بشهر رمضان وبركته، وأصبح الناس يوم الجمعة في هم شديد وخوف أكيد، لأنهم لا يعلمون ما خبر الناس‏.‏

فبينما هم كذلك إذ جاء الأمير سيف الدين غرلو العادلي فاجتمع بنائب القلعة ثم عاد سريعاً إلى العسكر، ولم يدر أحد ما أخبر به، ووقع الناس في الأراجيف والخوض‏.‏

 صفة وقعة شقحب

أصبح الناس يوم السبت على ما كانوا عليه من الخوف وضيق الأمر، فرأوا من المآذن سواداً وغبرة من ناحية العسكر والعدو، فغلب على الظنون أن الوقعة في هذا اليوم، فابتهلوا إلى الله عز وجل بالدعاء في المساجد والبلد، وطلع النساء والصغار على الأسطحة وكشفوا رؤوسهم وضج البلد ضجة عظيمة، ووقع في ذلك الوقت مطر عظيم غزير، ثم سكن الناس، فلما كان بعد الظهر قرئت بطاقة بالجامع تتضمن أن في الساعة الثانية من نهار السبت هذا اجتمعت الجيوش الشامية والمصرية مع السلطان في مرج الصفر، وفيها طلب الدعاء من الناس والأمر بحفظ القلعة‏.‏

والتحرز على الأسوار فدعا الناس في المآذن والبلد، وانقضى النهار وكان يوماً مزعجاً هائلاً، وأصبح الناس يوم الأحد يتحدثون بكسر التتر، وخرج الناس إلى ناحية الكسوة فرجعوا ومعهم شيء من المكاسب، ومعهم رؤوس من رؤوس التتر، وصارت كسرة التتار تقوى وتتزايد قليلاً قليلاً حتى اتضحت جملة، ولكن الناس لما عندهم من شدة الخوف وكثرة التتر لا يصدقون، فلما كان بعد الظهر قرئ كتاب السلطان إلى متولي القلعة يخبر فيه باجتماع الجيش ظهر يوم السبت بشقحب وبالكسوة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/30‏)‏

ثم جاءت بطاقة بعد العصر من نائب السلطان جمال الدين آقوش الأفرم إلى نائب القلعة مضمونها أن الوقعة كانت من العصر يوم السبت إلى الساعة الثانية من يوم الأحد، وأن السيف كان يعمل في رقاب التتر ليلاً ونهاراً وأنهم هربوا وفروا واعتصموا بالجبال والتلال، وأنه لم يسلم منهم إلا القليل، فأمسى الناس وقد استقرت خواطرهم وتباشروا لهذا الفتح العظيم والنصر المبارك، ودقت البشائر بالقلعة من أول النهار المذكور ونودي بعد الظهر بإخراج الجفال من القلعة لأجل نزول السلطان بها، وشرعوا في الخروج‏.‏

وفي يوم الاثنين رابع الشهر رجع الناس من الكسوة إلى دمشق فبشروا الناس بالنصر‏.‏

وفيه دخل الشيخ تقي الدين بن تيمية البلد ومعه أصحابه من الجهاد، ففرح الناس به ودعوا له وهنؤه بما يسر الله على يديه من الخير، وذلك أنه ندبه العسكر الشامي أن يسير إلى السلطان يستحثه على السير إلى دمشق فسار إليه فحثه على المجيء إلى دمشق بعد أن كاد يرجع إلى مصر‏.‏

فجاء هو وإياه جميعاً فسأله السلطان أن يقف معه في معركة القتال، فقال له الشيخ‏:‏ السنة أن يقف الرجل تحت راية قومه، ونحن من جيش الشام لا نقف إلا معهم، وحرض السلطان على القتال، وبشره بالنصر وجعل يحلف بالله الله لا إله إلا هو إنكم منصورون عليهم في هذه المرة، فيقول له الأمراء‏:‏ قل إن شاء الله، فيقول إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً‏.‏

وأفتى الناس بالفطر مدة قتالهم وأفطر هو أيضاً، وكان يدور على الأجناد والأمراء فيأكل من شيء معه في يده ليعلمهم أن إفطارهم ليتقووا على القتال أفضل فيأكل الناس، وكان يتأول في الشاميين قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏إنكم ملاقوا العدو غداً، والفطر أقوى لكم‏)‏‏)‏، فعزم عليهم في الفطر عام الفتح كما في حديث أبي سعيد الخدري‏.‏

وكان الخليفة أبو الربيع سليمان في صحبة السلطان، ولما اصطفت العساكر والتحم القتال ثبت السلطان ثباتاً عظيماً، وأمر بجواده فقيد حتى لا يهرب، وبايع الله تعالى في ذلك الموقف وجرت خطوب عظيمة، وقتل جماعة من سادات الأمراء يومئذ، منهم الأمير حسام الدين لاجين الرومي أستاذ دار السلطان، وثمانية من الأمراء المقدمين معه، وصلاح الدين بن الملك السعيد الكامل بن السعيد بن الصالح إسماعيل، وخلق من كبار الأمراء، ثم نزل النصر على المسلمين قريب العصر يومئذ، واستظهر المسلمون عليهم ولله الحمد والمنة‏.‏

فلما جاء الليل لجأ التتر إلى اقتحام التلول والجبال والآكام، فأحاط بهم المسلمون يحرسونهم من الهرب، ويرمونهم عن قوس واحدة إلى وقت الفجر، فقتلوا منهم ما لا يعلم عدده إلا الله عز وجل‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/31‏)‏

وجعلوا يجيئون بهم في الحبال فتضرب أعناقهم، ثم اقتحم منهم جماعة الهزيمة فنجا منهم قليل، ثم كانوا يتساقطون في الأودية والمهالك، ثم بعد ذلك غرق منهم جماعة في الفرات بسبب الظلام، وكشف الله بذلك عن المسلمين غمة عظيمة شديدة، ولله الحمد والمنة‏.‏

ودخل السلطان إلى دمشق يوم الثلاثاء خامس رمضان وبين يديه الخليفة، وزينت البلد، وفرح كل واحد من أهل الجمعة والسبت والأحد، فنزل السلطان في القصر الأبلق والميدان، ثم تحول إلى القلعة يوم الخميس وصلّى بها الجمعة وخلع على نواب البلاد وأمرهم بالرجوع إلى بلادهم، واستقرت الخواطر، وذهب اليأس وطابت قلوب الناس‏.‏

وعزل السلطان ابن النحاس عن ولاية المدينة، وجعل مكانة الأمير علاء الدين أيدغدي أمير علم، وعزل صارم الدين إبراهيم وإلى الخاص عن ولاية البر وجعل مكانه الأمير حسام الدين لاجين الصغير، ثم عاد السلطان إلى الديار المصرية يوم الثلاثاء ثالث شوال بعد أن صام رمضان وعيّد بدمشق‏.‏

وطلب الصوفية من نائب دمشق الأفرم أن يولي عليهم مشيخة الشيوخ للشيخ صفي الدين الهندي، فأذن له في المباشرة يوم الجمعة سادس شوال عوضاً عن ناصر الدين بن عبد السلام، ودخل السلطان القاهرة يوم الثلاثاء ثالث عشرين شوال، وكان يوماً مشهوداً، وزينت القاهرة‏.‏

وفيها‏:‏ جاءت زلزلة عظيمة يوم الخميس بكرة الثالث والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة، وكان جمهورها بالديار المصرية وتلاطمت بسببها البحار فكسرت المراكب وتهدمت الدور، ومات خلق كثير لا يعلمهم إلا الله، وشققت الحيطان ولم ير مثلها في هذه الأعصار، وكان منها بالشام طائفة لكن كان ذلك أخف من سائر البلاد غيرها‏.‏

وفي ذي الحجة باشر الشيخ أبو الوليد بن الحاج الإشبيلي المالكي إمام محراب المالكية بجامع دمشق بعد وفاة الشيخ شمس الدين محمد الصنهاجي‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 ابن دقيق العيد

الشيخ الإمام العالم العلامة الحافظ قاضي القضاة تقي الدين ابن دقيق العيد القشيري المصري، ولد يوم السبت الخامس والعشرين من شعبان سنة خمس وعشرين وستمائة، بساحل مدينة ينبع من أرض الحجاز، سمع الكثير ورحل في طلب الحديث، وخرج وصنف فيه إسناداً ومتناً مصنفات عديدة، فريدة مفيدة، وانتهت إليه رياسة العلم في زمانه، وفاق أقرانه ورحل إليه الطلبة ودرّس في أماكن كثيرة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/32‏)‏

ثم ولي قضاء الديار المصرية في سنة خمس وتسعين وستمائة، ومشيخة دار الحديث الكاملية، وقد اجتمع به الشيخ تقي الدين بن تيمية، فقال له تقي الدين بن دقيق العيد لما رأى تلك العلوم منه‏:‏ ما أظن بقي يخلق مثلك، وكان وقوراً قليل الكلام غزير الفوائد كثير العلوم في ديانة نزاهة، وله شعر رائق، توفي يوم الجمعة حادي عشر شهر صفر، وصلّي عليه يوم الجمعة المذكور بسوق الخيل، وحضر جنازته نائب السلطنة والأمراء، ودفن بالقرافة الصغرى رحمه الله‏.‏

 الشيخ برهان الدين الإسكندري

إبراهيم بن فلاح بن محمد بن حاتم، سمع الحديث وكان ديناً فاضلاً، ولد سنة ست وثلاثين وستمائة، وتوفي يوم الثلاثاء رابع وعشرين شوال عن خمس وستين سنة‏.‏

وبعد شهور بسواء كانت وفاة‏:‏

 الصدر جمال الدين بن العطار

كاتب الدرج منذ أربعين سنة، أبو العباس أحمد بن أبي الفتح محمود بن أبي الوحش أسد بن سلامة بن فتيان الشيباني، كان من خيار الناس وأحسنهم تقية، ودفن بتربة لهم تحت الكهف بسفح قاسيون، وتأسف الناس عليه لإحسانه إليهم رحمه الله‏.‏

 الملك العادل زين الدين كتبغا

توفي بحماه نائباً عليها بعد صرخد يوم الجمعة يوم عيد الأضحى ونقل إلى تربته بسفح قاسيون غربي الرباط الناصري، يقال لها العادلية، وهي تربة مليحة ذات شبابيك وبوابة ومأذنة، وله عليها أوقاف دارة على وظائف من قراءة وأذان وإمامة وغير ذلك، وكان من كبار الأمراء المنصورية‏.‏

وقد ملك البلاد بعد مقتل الأشرف خليل بن المنصور، ثم انتزع الملك منه لاجين وجلس في قلعة دمشق، ثم تحول إلى صرخد، وكان بها إلى أن قتل لاجين وأخذ الملك الناصر بن قلاوون، فاستنابه بحماه حتى كانت وفاته كما ذكرنا، وكان من خيار الملوك وأعد لهم وأكثرهم براً، وكان من خيار الأمراء والنواب رحمه الله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/33‏)‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وسبعمائة

استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها‏.‏

وفي صفر تولي الشيخ كمال الدين بن الشريشي نظارة الجامع الأموي وخلع عليه وباشره مباشرة مشكورة، وساوى بين الناس وعزل نفسه في رجب منها‏.‏

وفي شهر صفر تولى الشيخ شمس الدين الذهبي خطابة كفر بطنا وأقام بها‏.‏

ولما توفي الشيخ زين الدين الفارقي في هذه السنة كان نائب السلطنة في نواحي البلقاء يكشف بعض الأمور، فلما قدم تكلموا معه في وظائف الفارقي فعين الخطابة لشرف الدين الفزاري، وعين الشامية البرانية ودار الحديث للشيخ كمال الدين بن الشريشي، وذلك بإشارة الشيخ تقي الدين بن تيمية، وأخذ منه الناصرية للشيخ كمال الدين بن الزملكاني ورسم بكتابة التواقيع بذلك، وباشر الشيخ شرف الدين الإمامة والخطابة، وفرح الناس به لحسن قراءته وطيب صوته وجودة سيرته‏.‏

فلما كان بكرة يوم الاثنين ثاني عشرين ربيع الأول وصل البريد من مصر صحبة الشيخ صدر الدين بن الوكيل، وقد سبقه مرسوم السلطان له بجميع جهات الفارقي مضافاً إلى ما بيده من التدريس، فاجتمع بنائب السلطنة بالقصر، وخرج من عنده إلى الجامع ففتح له باب دار الخطابة فنزلها وجاءه الناس يهنئونه، وحضر عنده القراء والمؤذنون، وصلى بالناس العصر وباشر الإمامة يومين فأظهر الناس التألم من صلاته وخطابته، وسعوا فيه إلى نائب السلطنة فمنعه من الخطابة وأقره على التداريس ودار الحديث‏.‏

وجاء توقيع سلطاني للشيخ شرف الدين الفزاري بالخطابة، فخطب يوم الجمعة سابع عشر جمادى الأولى، وخلع عليه بطرحة، وفرح الناس به، وأخذ الشيخ كمال الدين بن الزملكاني تدريس الشامية البرانية من يد ابن الوكيل، وباشرها في مستهل جمادى الأولى واستقرت دار الحديث بيد ابن الوكيل مع مدرستيه الأوليتين، وأظنهما العذراوية والشامية الجوانية‏.‏

ووصل البريد في ثاني عشر جمادى الأولى بإعادة السنجري إلى نيابة القلعة وتولية نائبها الأمير سيف الدين الجوكندراني نيابة حمص عوضاً عن عز الدين الحموي، توفي‏.‏

وفي يوم السبت ثاني عشر رمضان قدمت ثلاثة آلاف فارس من مصر، وأضيف إليها ألفان من دمشق وساروا وأخذوا معهم نائب حمص الجوكندراني ووصلوا إلى حماه فصحبهم نائبها الأمير سيف الدين قبجق، وجاء إليهم استدمر نائب طرابلس، وانضاف إليهم قراسنقر نائب حلب وانفصلوا كلهم عنها وافترقوا فرقتين‏.‏

فرقة سارت صحبة قبجق إلى ناحية ملطية، وقلعة الروم، والفرقة الأخرى صحبة قراسنقر حتى دخلوا الدربندات وحاصروا تل حمدون فتسلموه عنوة في ثالث ذي القعدة بعد حصار طويل‏.‏

فدقت البشائر بدمشق لذلك، ووقع مع صاحب سيس على أن يكون للمسلمين من نهر جيهان إلى حلب وبلاد ما رواء النهر إلى ناحيتهم لهم، وأن يعجلوا حمل سنتين، ووقعت الهدنة على ذلك، وذلك بعد أن قتل خلق من أمراء الأرمن ورؤسائهم، وعادت العساكر إلى دمشق مؤيدين منصورين، ثم توجهت العساكر المصرية صحبة مقدمهم أمير سلاح إلى مصر‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/34‏)‏

وفي أواخر السنة كان موت قازان وتولية أخيه خربندا‏.‏

وهو ملك التتار قازان واسمه محمود بن أرغون بن أبغا، وذلك في رابع عشر شوال أو حادي عشرة أو ثالث عشرة، بالقرب من همدان، ونقل إلى تربته بيبرين بمكان يسمى الشام، ويقال إنه مات مسموماً، وقام في الملك بعده أخوه خربندا محمد بن أرغون، ولقبوه الملك غياث الدين، وخطب له على منابر العراق وخراسان وتلك البلاد‏.‏

وحج في هذه السنة الأمير سيف الدين سلار نائب مصر وفي صحبته أربعون أميراً، وجميع أولاد الأمراء، وحج معهم وزير مصر الأمير عز الدين البغدادي، وتولى مكانه بالبركة ناصر الدين محمد الشيخي‏.‏

وخرج سلار في أبهة عظيمة جداً، وأمير ركب المصريين الحاج إباق الحسامي، وترك الشيخ صفي الدين مشيخة الشيوخ فوليها القاضي عبد الكريم بن قاضي القضاة محي الدين بن الزكي، وحضر الخانقاه يوم الجمعة الحادي عشر من ذي القعدة وحضر عنده ابن صصرى وعز الدين القلانسي، والصاحب ابن ميسر، والمحتسب وجماعة‏.‏

وفي ذي القعدة وصل من التتر مقدم كبير قد هرب منهم إلى بلاد الإسلام وهو الأمير بدر الدين جنكي بن البابا، وفي صحبته نحو من عشرة، فحضروا الجمعة في الجامع، وتوجهوا إلى مصر، فأكرم وأعطى إمرة ألف، وكان مقامه ببلاد آمد، وكان يناصح السلطان ويكاتبه ويطلعه على عورات التتر، فلهذا عظم شأنه في الدولة الناصرية‏.‏

 من الأعيان ملك التتر قازان‏.‏

 الشيخ القدورة العابد أبو إسحاق

أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن محمد بن معالي بن محمد بن عبد الكريم الرقي الحنبلي، كان أصله من بلاد الشرق، ومولده بالرقة في سنة سبع وأربعين وستمائة، واشتغل وحصل وسمع شيئاً من الحديث، وقدم دمشق فسكن بالمئذنة الشرقية في أسفلها بأهله إلى جانب الطهارة بالجامع‏.‏

وكان معظماً عند الخاص والعام، فصيح العبارة كثير العبادة، خشن العيش حسن المجالسة لطيف الكلام كثير التلاوة، قوي التوجه من أفراد العالم، عارفاً بالتفسير والحديث والفقه والأصلين، وله مصنفات وخطب، وله شعر حسن‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/35‏)‏

توفي بمنزلة ليلة الجمعة خامس عشر المحرم وصلّي عليه عقيب الجمعة ونقل إلى تربة الشيخ أبي عمر بالسفح، وكانت جنازته حافلة رحمه الله وأكرم مثواه‏.‏

وفي هذا الشهر توفي الأمير زين الدين قراجا أستاذ دار الأفرم ودفن بتربته بميدان الحصا عند النهر‏.‏

 والشيخ شمس الدين محمد بن إبراهيم بن عبد السلام

عرف بابن الحبلى، كان من خيار الناس يتردد إلى عكا أياماً حين ما كانت في أيدي الفرنج، في فكاك أسارى المسلمين، جزاه الله خيراً وعتقه من النار وأدخله الجنة برحمته‏.‏

 الخطيب ضياء الدين

أبو محمد عبد الرحمن بن الخطيب جمال الدين أبي الفرج عبد الوهاب بن علي بن أحمد بن عقيل السلمي خطيب بعلبك نحواً من ستين سنة، هو ووالده، ولد سنة أربع عشرة وستمائة وسمع الكثير وتفرد عن القزويني، وكان رجلاً جيداً حسن القراءة من كبار العدول، توفي ليلة الاثنين ثالث صفر، ودفن بباب سطحا‏.‏

 الشيخ زين الدين الفارقي

عبد الله بن مروان بن عبد الله بن فهر بن الحسن، أبو محمد الفارقي شيخ الشافعية، ولد سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، وسمع الحديث الكثير، واشتغل ودرس بعدة مدارس، وأفتى مدة طويلة، وكانت له همة وشهامة وصرامة، وكان يباشر الأوقاف جيداً، وهو الذي عمر دار الحديث بعد خرابها بيد قازان‏.‏

وقد باشرها سبعا وعشرين سنة من بعد النووي إلى حين وفاته، وكانت معه الشامية البرانية وخطابة الجامع الأموي تسعة أشهر، باشر به الخطابة قبل وفاته، وقد انتقل إلى دار الخطابة وتوفي بها يوم الجمعة بعد العصر، وصلّي عليه ضحوة السبت، صلى عليه ابن صصرى عند باب الخطابة وبسوق الخيل قاضي الحنفية شمس الدين بن الحريري، وعند جامع الصالحية قاضي الحنابلة تقي الدين سليمان‏.‏

ودفن بتربة أهله شمالي تربة الشيخ أبي عمر رحمه الله، وباشر بعده الخطابة شرف الدين الفزاري ومشيخه دار الحديث ابن الوكيل، والشامية البرانية ابن الزملكاني وقد تقدم ذلك‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/36‏)‏

 الأمير الكبير عز الدين أيبك الحموي

ناب بدمشق مدة، ثم عزل عنها إلى صرخد، ثم نقل قبل موته بشهر إلى نيابة حمص، وتوفي بها يوم العشرين من ربيع الآخر، ونقل إلى تربته بالسفح غربي زاوية ابن قوام، وإليه ينسب الحمام بمسجد القصب الذي يقال له حمام الحموي، عمره في أيام نيابته‏.‏

 الوزير فتح الدين

أبو محمد عبد الله بن محمد بن أحمد بن خالد بن محمد بن نصر بن صقر القرشي المخزومي ابن القيسراني، كان شيخاً جليلاً أدبياً شاعراً مجوداً من بيت رياسة ووزارة، ولي وزارة دمشق مدة ثم أقام بمصر موقعاً مدة‏.‏

وكان له اعتناء بعلوم الحديث وسماعه، وله مصنف في أسماء الصحابة الذين خرج لهم في الصحيحين، وأورد شيئاً من أحاديثهم في مجلدين كبيرين موقوفين بالمدرسة الناصرية بدمشق، وكان له مذاكرة جيدة محررة باللفظ والمعنى، وقد خرج عنه الحافظ الدمياطي، وهو آخر من توفي من شيوخه، توفي بالقاهرة في يوم الجمعة الحادي والعشرين من ربيع الآخرة، وأصلهم من قيسارية الشام‏.‏

وكان جده موفق الدين أبو البقاء خالد وزيراً لنور الدين الشهيد، وكان من الكتاب المجيدين المتقنين، له كتابة جيدة محررة جداً، توفي في أيام صلاح الدين سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، وأبوه محمد بن نصر بن صقر ولد بعكة قبل أخذ الفرنج لها سنة ثمان وسبعين وأربعمائة، فلما أخذت بعد السبعين وأربعمائة انتقل أهلهم إلى حلب وكانوا بها، وكان شاعراً مطبقاً له ديوان مشهور، وكان له معرفة جيدة بالنجوم وعلم الهيئة وغير ذلك‏.‏

 ترجمة والد ابن كثير مؤلف هذا التاريخ

وفيها‏:‏ توفي الوالد وهو الخطيب شهاب الدين أبو حفص عمر بن كثير بن ضو بن كثير بن ضو بن درع القرشي من بني حصلة، وهم ينتسبون إلى الشرف وبأيديهم نسب، وقف على بعضها شيخنا المزي فأعجبه ذلك وابتهج به، فصار يكتب في نسبي بسبب ذلك‏:‏ القرشي، من قرية يقال لها الشركوين غربي بصرى، بينها وبين أذرعات، ولد بها في حدود سنة أربعين وستمائة‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 14/37‏)‏

واشتغل بالعلم عند أخواله بني عقبة ببصرى، فقرأ البداية في مذهب أبي حنيفة، وحفظ جمل الزجاجي، وعني بالنحو والعربية واللغة، وحفظ أشعار العرب حتى كان يقول الشعر الجيد الفائق الرائق في المدح والمراثي وقليل من الهجاء، وقرر بمدارس بصرى بمنزل الناقة شمالي البلد حيث يزار، وهو المبرك المشهور عند الناس والله أعلم بصحة ذلك‏.‏

ثم انتقل إلى خطابة القرية شرقي بصرى وتمذهب للشافعي، وأخذ عن النووي والشيخ تقي الدين الفزاري، وكان يكرمه ويحترمه فيما أخبرني شيخنا العلامة ابن الزملكاني، فأقام بها نحواً من ثنتي عشرة سنة، ثم تحول إلى خطابة مجيدل القرية التي منها الوالدة، فأقاما بها مدة طويلة في خير وكفاية وتلاوة كثيرة‏.‏

وكان يخطب جيداً، وله مقول عند الناس، ولكلامه وقع لديانته وفصاحته وحلاوته، وكان يؤثر الإقامة في البلاد لما يرى فيها من الرفق ووجود الحلال له ولعياله، وقد ولد له عدة أولاد من الوالدة ومن أخرى قبلها‏.‏

أكبرهم إسماعيل ثم يونس وإدريس، ثم من الوالدة عبد الوهاب، وعبد العزيز، ومحمد، وأخوات عدة، ثم أنا أصغرهم، وسميت باسم الأخ إسماعيل لأنه كان قد قدم دمشق فاشتغل بها بعد أن حفظ القرآن على والده وقرأ مقدمة في النحو، وحفظ ‏(‏التنبيه‏)‏ وشرحه على العلامة تاج الدين الفزاري وحصل ‏(‏المنتخب في أصول الفقة‏)‏ قاله لي شيخنا ابن الزملكاني، ثم إنه سقط من سطح الشامية البرانية فمكث أياماً ومات، فوجد الوالد عليه وجداً كثيراً، ورثاه بأبيات كثيرة‏.‏

فلما ولدت له أنا بعد ذلك سماني باسمه، فأكبر أولاده إسماعيل وآخرهم وأصغرهم إسماعيل، فرحم الله من سلف وختم بخير لمن بقي، توفي والدي في شهر جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعمائة، في قرية مجيدل القرية، ودفن بمقبرتها الشمالية عند الزيتون وكنت إذ ذاك صغيراً ابن ثلاث سنين أو نحوها لا أدركه إلا كالحلم‏.‏

ثم تحولنا من بعده في سنة سبع وسبعمائة إلى دمشق صحبة كمال الدين عبد الوهاب، وقد كان لنا شقيقاً، وبنا رفيقاً شفوقاً، وقد تأخرت وفاته إلى سنة خمسين، فاشتغلت على يديه في العلم فيسر الله تعالى منه ما يسر، وسهل منه ما تعسر والله أعلم‏.‏

وقد قال شيخنا الحافظ علم الدين البرازلي في معجمه فيما أخبرني عنه شمس الدين محمد بن سعد المقدسي مخرجه له، ومن خط المحدث شمس الدين بن سعد هذا نقلت، وكذلك وقفت على خط الحافظ البرزالي مثله في السفينة الثانية من السفن الكبار‏:‏ قال عمر بن كثير القرشي خطيب القرية وهي قرية من أعمال بصرى رجل فاضل له نظم جيد ويحفظ كثيراً من اللغز وله همة وقوة‏.‏

كتبت عنه من شعره بحضور شيخنا تاج الدين الفزاري‏.‏

وتوفي في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعمائة بمجيدل القرية من عمل بصرى، أنشدنا الخطيب شهاب الدين أبو حفص عمر بن كثير القرشي خطيب القرية بها لنفسه في منتصف شعبان من سنة سبع وثمانين وستمائة‏:‏

نأى النوم عن جفني فبت مسهداً * أخا كلف حلف الصبابة موجدا

سمير الثريا والنجوم مدلها * فمن ولهي خلت الكواكب ركدا

طريحاً على فرش الصبابة والأسى * فما ضركم لو كنتم لي عودا‏(‏ج/ص‏:‏ 14/38‏)‏

تقلبني أيدي الغرام بلوعةٍ * أرى النار من تلقائها لي أبردا

ومزق صبري بعد جيران حاجزٍ * سعير غرام بات في القلب موقدا

فأمطرته دمعي لعل زفيره * يقل فزادته الدموع توقدا

فبت بليل نابغي ولا أرى * على النأي من بعد الأحبة صعدا

فيالك من ليل تباعد فجره * عليَّ إلى أن خلته قد تخلدا

غراماً ووجداً لا يحد أقله * بأهيف معسول المراشف أغيدا

له طلعة كالبدر زان جمالها * بطرة شعر حالك اللون أسودا

يهز من القدر الرشيق مثقفاً * ويشهر من جفنيه سيفاً مهندا

وفي ورد خديه وآس عذاره * وضوء ثناياه فنيت تجلدا

غدا كل حسنٍ دونه متقاصرا * وأضحى له رب الجمال موحدا

إذا مارنا واهتز عند لقائه * سباك، فلم تملك لساناً ولا يدا

وتسجد إجلالاً له وكرامةً * وتقسم قد أمسيت في الحسن أوحدا

ورب أخي كفرٍ تأمل حسنه * فأسلم من إجلاله وتشهدا

وأنكر عيسى والصليب ومريماً * وأصبح يهوى بعد بغضٍ محمدا

أيا كعبة الحسن التي طاف حولها * فؤادي، أما للصد عندك من فدا‏؟‏

قنعت بطيفٍ من خيالك طارقٍ * وقد كنت لا أرضى بوصلك سرمدا

فقد شفني شوقٌ تجاوز حده * وحسبك من شوقٍ تجاوز واعتدا

سألتك إلا ما مررت بحينا * بفضلك يا رب الملاحة والندا

لعل جفوني أن تغيض دموعها * ويسكن قلبٌ مذ هجرت فما هدا

غلطت بهجراني ولو كنت صابياً * لما صدك الواشون عني ولا العدا

وعدتها ثلاثة وعشرون بيتاً والله يغفر له ما صنع من الشعر‏.‏

 ثم دخلت سنة أربع وسبعمائة

استهلت والخليفة والسلطان والحكام والمباشرون هم المذكورون في التي قبلها، وفي يوم الأحد ثالث ربيع الأول حضرت الدروس والوظائف التي أنشأها الأمير بيبرس الجاشنكير المنصوري بجامع الحاكم بعد أن جدده من خرابه بالزلزلة التي طرأت على ديار مصر في آخر سنة ثنتين وسبعمائة‏.‏

وجعل القضاة الأربعة هم المدرسين للمذاهب، وشيخ الحديث سعد الدين الحارثي، وشيخ النحو أثير الدين أبو حيان، وشيخ القراءات السبع الشيخ نور الدين الشطنوفي، وشيخ إفادة العلوم الشيخ علاء الدين القونوي‏.‏

وفي جمادى الآخرة باشر الأمير ركن الدين بيبرس الحجوبية مع الأمير سيف الدين بكتمر، وصارا حاجبين كبيرين في دمشق‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/39‏)‏

وفي رجب أحضر إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية شيخ كان يلبس دلقاً كبيراً متسعاً جداً يسمى المجاهد إبراهيم القطان، فأمر الشيخ بتقطيع ذلك الدلق فتناهبه الناس من كل جانب وقطعوه حتى لم يدعوا فيه شيئاً وأمر بحلق رأسه، وكان ذا شعر، وقلم أظفاره وكانوا طوالاً جداً، وحف شاربه المسبل على فمه المخالف للسنة، واستتابه من كلام الفحش وأكل ما يغير العقل من الحشيشة وما لا يجوز من المحرمات وغيرها‏.‏

وبعده استحضر الشيخ محمد الخباز البلاسي فاستتابه أيضاً عن أكل المحرمات ومخالطة أهل الذمة، وكتب عليه مكتوباً أن لا يتكلم في تعبير المنامات ولا في غيرها بما لاعلم له به‏.‏

وفي هذا الشهر بعينه راح الشيخ تقي الدين بن تيمية إلى مسجد النارنج وأمر أصحابه ومعهم حجارون بقطع صخرة كانت هناك بنهر قلوط تزار وينذر لها، فقطعها وأراح المسلمين منها ومن الشرك بها، فأزاح عن المسلمين شبهة كان شرها عظيماً‏.‏

وبهذا وأمثاله حسدوه وأبرزوا له العداوة، وكذلك بكلامه بابن عربي وأتباعه، فحسد على ذلك وعودي، ومع هذا لم تأخذه في الله لومة لائم، ولا بالى، ولم يصلوا إليه بمكروه، وأكثر ما نالوا منه الحبس مع أنه لم ينقطع في بحث لا بمصر ولا بالشام، ولم يتوجه لهم عليه ما يشين وإنما أخذوه وحبسوه بالجاه كما سيأتي، وإلى الله إياب الخلق وعليه حسابهم‏.‏

وفي رجب جلس قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى بالمدرسة العادلية الكبيرة وعملت التخوت بعدما جددت عمارة المدرسة، ولم يكن أحد يحكم بها بعد وقعة قازان بسبب خرابها، وجاء المرسوم للشيخ برهان الدين الفزاري بوكالة بيت المال فلم يقبل، وللشيخ كمال الدين بن الزملكاني بنظر الخزانة فقبل وخلع عليه بطرحة، وحضر بها يوم الجمعة، وهاتان الوظيفتان كانتا مع نجم الدين بن أبي الطيب توفي إلى رحمة الله‏.‏

وفي شعبان سعى جماعة في تبطيل الوقيد ليلة النصف وأخذوا خطوط العلماء في ذلك، وتكلموا مع نائب السلطنة فلم يتفق ذلك، بل أشعلوا وصليت صلاة ليلة النصف أيضاً‏.‏

وفي خامس رمضان وصل الشيخ كمال الدين بن الشريشي من مصر بوكالة بيت المال، ولبس الخلعة سابع رمضان، وحضر عند ابن صصرى بالشباك الكمالي‏.‏

وفي سابع شوال عزل وزير مصر ناصر الدين بن الشيخي وقطع إقطاعه ورسم عليه وعوقب إلى أن مات في ذي القعدة، وتولى الوزارة سعد الدين محمد بن محمد بن عطاء وخلع عليه‏.‏

وفي يوم الخميس الثاني والعشرين من ذي القعدة حكم قاضي القضاة جمال الدين الزواوي بقتل الشمس محمد بن جمال الدين بن عبد الرحمن الباجريقي، وإراقة دمه وإن تاب وإن أسلم، بعد إثبات محضر عليه يتضمن كفر الباجريقي المذكور، وكان ممن شهد فيه عليه الشيخ مجد الدين التونسي النحوي الشافعي، فهرب الباجريقي إلى بلاد الشرق فمكث بها مدة سنين ثم جاء بعد موت الحاكم المذكور كما سيأتي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/40‏)‏

وفي ذي القعدة كان نائب السلطنة في الصيد فقصدهم في الليل طائفة من الأعراب فقاتلهم الأمراء، فقتلوا من العرب نحو النصف، وتوغل في العرب الأمير يقال له‏:‏ سيف الدين بهادرتمر احتقاراً بالعرب، فضربه واحد منهم برمح فقتله، فكرت الأمراء عليهم فقتلوا منهم خلقاً أيضاً، وأخذوا واحداً منهم زعموا أنه هو الذي قتله فصلب تحت القلعة، ودفن الأمير المذكور بقبر الست‏.‏

وفي ذي القعدة تكلم الشيخ شمس الدين بن النقيب، وجماعة من العلماء في الفتاوى الصادرة من الشيخ علاء الدين بن العطار شيخ دار الحديث النورية والقوصية، وأنها مخالفة لمذهب الشافعي‏.‏

وفيها‏:‏ تخبيط كثير، فتوهم من ذلك وراح إلى الحنفي فحقن دمه وأبقاه على وظائفه، ثم بلغ ذلك نائب السلطنة فأنكر على المنكرين عليه، ورسم عليهم ثم اصطلحوا، ورسم نائب السلطنة أن لا تثار الفتن بين الفقهاء‏.‏

وفي مستهل ذي الحجة ركب الشيخ تقي الدين بن تيمية، ومعه جماعة من أصحابه إلى جبل الجرد والكسروانيين ومعه نقيب الأشراف زين الدين بن عدنان فاستتابوا خلقا منهم وألزموهم بشرائع الإسلام، ورجع مؤيداً منصوراً‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 الشيخ تاج الدين بن شمس الدين بن الرفاعي

شيخ الأحمدية بأم عبيدة من مدة مديدة، وعنه تكتب إجازات الفقراء، ودفن هناك عند سلفة بالبطائح‏.‏

 الصدر نجم الدين بن عمر

ابن أبي القاسم بن عبد المنعم بن محمد بن الحسن بن أبي الكتائب بن محمد بن أبي الطيب، وكيل بيت المال، وناظر الخزانة، وقد ولي في وقت نظر المارستان النوري وغير ذلك، وكان مشكور السيرة رجلاً جيداً، وقد سمع الحديث وروى أيضاً‏.‏

توفي ليلة الثلاثاء الخامس عشر من جمادى الآخرة، ودفن بتربتهم بباب الصغير‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس وسبعمائة

استهلت والخليفة المستكفي والسلطان الملك الناصر، والمباشرون هم المذكورون فيما مضى، وجاء الخبر أن جماعة من التتر كمنوا لجيش حلب وقتلوا منهم خلقاً من الأعيان وغيرهم، وكثر النوح ببلاد حلب بسبب ذلك‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14 /41‏)‏

وفي مستهل المحرم حكم جلال الدين القزويني أخو قاضي القضاة إمام الدين نيابة عن ابن صصرى، وفي ثانيه خرج نائب السلطنة بمن بقي من الجيوش الشامية، وقد كان تقدم بين يديه طائفة من الجيش مع ابن تيمية في ثاني المحرم، فساروا إلى بلاد الجرد والرفض والتيامنة‏.‏

فخرج نائب السلطنة الأفرم بنفسه بعد خروج الشيخ لغزوهم، فنصرهم الله عليهم وأبادوا خلقاً كثيراً منهم ومن فرقتهم الضالة، ووطئوا أراضي كثيرة من صنع بلادهم، وعاد نائب السلطنة إلى دمشق في صحبته الشيخ ابن تيمية والجيش‏.‏

وقد حصل بسبب شهود الشيخ هذه الغزوة خير كثير، وأبان الشيخ علماً وشجاعة في هذه الغزوة، وقد امتلأت قلوب أعدائه حسداً له وغماً‏.‏

وفي مستهل جمادى الأولى، قدم القاضي أمين الدين أبو بكر ابن القاضي وجيه الدين عبد العظيم بن الرفاقي المصري من القاهرة على نظر الدواوين بدمشق، عوضا عن عز الدين بن مبشر‏.‏

ما جرى للشيخ تقي الدين بن تيمية مع الأحمدية وكيف عقدت له المجالس الثلاثة

وفي يوم السبت تاسع جمادى الأولى حضر جماعة كثيرة من الفقراء الأحمدية إلى نائب السلطنة بالقصر الأبلق، وحضر الشيخ تقي الدين بن تيمية فسألوا من نائب السلطنة بحضرة الأمراء، أن يكف الشيخ تقي الدين إمارته عنهم، وأن يسلم لهم حالهم، فقال لهم الشيخ‏:‏ هذا ما يمكن، ولا بد لكل أحد أن يدخل تحت الكتاب والسنة، قولاً وفعلاً ومن خرج عنهما وجب الإنكار عليه‏.‏

فأرادوا أن يفعلوا شيئاً من أحوالهم الشيطانية التي يتعاطونها في سماعاتهم، فقال الشيخ‏:‏ تلك أحوال شيطانية باطلة، وأكثر أحوالهم من باب الحيل والبهتان، ومن أراد منهم أن يدخل النار فليدخل أولا إلى الحمام وليغسل جسده غسلاً جيداً، ويدلكه بالخل والأشنان، ثم يدخل بعد ذلك إلى النار إن كان صادقاً، ولو فرض أن أحداً من أهل البدع دخل النار بعد أن يغتسل، فإن ذلك لا يدل على صلاحه ولا على كرامته؛ بل حاله من أحوال الدجاجلة المخالفة للشريعة إذا كان صاحبها على السنة، فما الظن بخلاف ذلك‏.‏

فابتدر شيخ المنيبع الشيخ صالح وقال‏:‏ نحن أحوالنا إنما تنفق عند التتر ليست تنفق عند الشرع‏.‏

فضبط الحاضرون عليه تلك الكلمة، وكثر الإنكار عليهم من كل أحد، ثم اتفق الحال على أنهم يخلعون الأطواق الحديد من رقابهم، وأن من خرج عن الكتاب والسنة ضربت عنقه‏.‏

وصنف الشيخ جزءاً في طريقة الأحمدية، وبين فيه أحوالهم ومسالكهم وتخيلاتهم، وما في طريقتهم من مقبول ومردود بالكتاب، وأظهر الله السنة على يديه أخمد بدعتهم ولله الحمد والمنة‏.‏

وفي العشر الأوسط من هذا الشهر خلع علي جلال الدين بن معبد، وعز الدين خطاب، وسيف الدين بكتمر مملوك بكتاش الحسامي بالأمرة ولبس التشاريف، وركبوا بها وسلموا لهم جبل الجرد والكسروان والبقاع‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/42‏)‏

وفي يوم الخميس ثالث رجب خرج الناس للاستسقاء إلى سطح المزة، ونصبوا هناك منبراً، وخرج نائب السلطنة، وجميع الناس من القضاة والعلماء والفقراء، وكان مشهداً هائلاً وخطبة عظيمة بليغة، فاستسقوا فلم يسقوا يومهم ذلك

‏.‏

أول المجالس الثلاثة لشيخ الإسلام ابن تيمية

وفي يوم الاثنين ثامن رجب حضر القضاة والعلماء، وفيهم الشيخ تقي الدين بن تيمية عند نائب السلطنة بالقصر، وقرئت عقيدة الشيخ تقي الدين الواسطية، وحصل بحث في أماكن منها، وأخرت مواضع إلى المجلس الثاني‏.‏

فاجتمعوا يوم الجمعة بعد الصلاة ثاني عشر الشهر المذكور وحضر الشيخ صفي الدين الهندي، وتكلم مع الشيخ تقي الدين كلاماً كثيراً، ولكن ساقيته لاطمت بحراً، ثم اصطلحوا على أن يكون الشيخ كمال الدين بن الزملكاني هو الذي يحاققه من غير مسامحة، فتناظرا في ذلك، وشكر الناس من فضائل الشيخ كمال الدين بن الزملكاني وجودة ذهنه وحسن بحثه حيث قاوم ابن تيمية في البحث، وتكلم معه‏.‏

ثم انفصل الحال على قبول العقيدة، وعاد الشيخ إلى منزله معظماً مكرّماً، وبلغني أن العامة حملوا له الشمع من باب النصر إلى القصاعين على جاري عادتهم في أمثال هذه الأشياء، وكان الحامل على هذه الاجتماعات كتاب ورد من السلطان في ذلك، كان الباعث على إرساله قاضي المالكية ابن مخلوف، والشيخ نصر المنبجي شيخ الجاشنكير وغيرهما من أعدائه‏.‏

وذلك أن الشيخ تقي الدين بن تيمية كان يتكلم في المنبجي وينسبه إلى اعتقاد ابن عربي، وكان للشيخ تقي الدين من الفقهاء جماعة يحسدونه لتقدمه عند الدولة، وانفراده بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطاعة الناس له ومحبتهم له وكثرة أتباعه وقيامه في الحق وعلمه وعمله، ثم وقع بدمشق خبط كثير وتشويش بسبب غيبة نائب السلطنة، وطلب القاضي جماعة من أصحاب الشيخ وعزر بعضهم، ثم اتفق أن الشيخ جمال الدين المزي الحافظ قرأ فصلاً بالرد على الجهمية من كتاب ‏(‏أفعال العباد‏)‏ للبخاري تحت قبة النسر بعد قراءة ميعاد البخاري بسبب الاستسقاء‏.‏

فغضب بعض الفقهاء الحاضرين وشكاه إلى القاضي الشافعي ابن صصرى، وكان عدو الشيخ فسجن المزي، فبلغ الشيخ تقي الدين فتألم لذلك وذهب إلى السجن فأخرجه منه بنفسه، وراح إلى القصر فوجد القاضي هنالك، فتقاولا بسبب الشيخ جمال الدين المزي، فحلف ابن صصرى لا بد أن يعيده إلى السجن وإلا عزل نفسه، فأمر النائب بإعادته تطييباً لقلب القاضي فحبسه عنده في القوصية أياماً ثم أطلقه‏.‏

ولما قدم نائب السلطنة ذكر له الشيخ تقي الدين ما جرى في حقه وحق أصحابه في غيبته، فتألم النائب لذلك ونادى في البلد أن لا يتكلم أحد في العقائد، ومن عاد إلى تلك حل ماله ودمه، ورتبت داره وحانوته، فسكنت الأمور‏.‏

وقد رأيت فصلاً من كلام الشيخ تقي الدين في كيفية ما وقع في هذه المجالس الثلاثة من المناظرات‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/43‏)‏

ثم عقد المجلس الثالث في يوم سابع شعبان بالقصر واجتمع الجماعة على الرضى بالعقيدة المذكورة، وفي هذا اليوم عزل ابن صصرى نفسه عن الحكم بسبب كلام سمعه من بعض الحاضرين في المجلس المذكور، وهو من الشيخ كمال الدين بن الزملكاني، ثم جاء كتاب السلطان في السادس والعشرين من شعبان فيه إعادة ابن صصرى إلى القضاء، وذلك بإشارة المنبجي‏.‏

وفي الكتاب إنا كنا سمعنا بعقد مجلس للشيخ تقي الدين بن تيمية، وقد بلغنا ما عقد له من المجالس، وأنه على مذهب السلف وإنما أردنا بذلك براءة ساحته مما نسب إليه، ثم جاء كتاب آخر في خامس رمضان يوم الاثنين وفيه الكشف عن ما كان وقع للشيخ تقي الدين بن تيمية في أيام جاغان، والقاضي إمام الدين القزويني وأن يحمل هو والقاضي ابن صصرى إلى مصر، فتوجها على البريد نحو مصر، وخرج مع الشيخ خلق من أصحابه وبكوا وخافوا عليه من أعدائه، وأشار عليه نائب السلطنة ابن الأفرم بترك الذهاب إلى مصر، وقال له‏:‏

أنا أكاتب السلطان في ذلك، وأصلح القضايا‏.‏فامتنع الشيخ من ذلك، وذكر له أن في توجهه لمصر مصلحة كبيرة، ومصالح كثيرة‏.‏

فلما توجه لمصر ازدحم الناس لوداعه ورؤيته حتى انتشروا من باب داره إلى قرب الجسورة، فيما بين دمشق والكسوة، وهم فيما بين باكٍ وحزين، ومتفرج ومتنزه، ومزاحم متغال فيه‏.‏

فلا كان يوم السبت دخل الشيخ تقي الدين غزة فعمل في جامعها مجلساً عظيماً، ثم دخلا معاً إلى القاهرة والقلوب معه وبه متعلقة، فدخلا مصر يوم الاثنين الثاني والعشرين من رمضان، وقيل إنهما دخلاها يوم الخميس‏.‏

فلما كان يوم الجمعة بعد الصلاة عقد للشيخ مجلس بالقلعة اجتمع فيه القضاة وأكابر الدولة، وأراد أن يتكلم على عادته فلم يتمكن من البحث والكلام، وانتدب له الشمس ابن عدنان خصماً احتساباً، وادعى عليه عند ابن مخلوف المالكي أنه يقول‏:‏ إن الله فوق العرش حقيقة، وأن الله يتكلم بحرف وصوت‏.‏

فسأله القاضي جوابه فأخذ الشيخ في حمد الله والثناء عليه، فقيل له‏:‏ أجب ما جئنا بك لتخطب‏.‏

فقال‏:‏ ومن الحاكم في ‏؟‏

فقيل له‏:‏ القاضي المالكي‏.‏

فقال له الشيخ‏:‏ كيف تحكم في وأنت خصمي ‏؟‏

فغضب غضباً شديداً، وانزعج وأقيم مرسماً عليه وحبس في برج أياماً، ثم نقل منه ليلة العيد إلى الحبس المعروف بالجب، هو وأخوه شرف الدين عبد الله وزين الدين عبد الرحمن‏.‏

وأما ابن صصرى فإنه جدد له توقيع بالقضاء بإشارة المنبجي شيخ الجاشنكير حاكم مصر، وعاد إلى دمشق يوم الجمعة سادس ذي القعدة والقلوب له ماقتة، والنفوس منه نافرة، وقرئ تقليده بالجامع وبعده قرئ كتاب فيه الحط على الشيخ تقي الدين ومخالفته في العقيدة، وأن ينادي بذلك في البلاد الشامية، وألزم أهل مذهبه بمخالفته، وكذلك وقع بمصر‏.‏

قام عليه جاشنكير وشيخه نصر المنبجي، وساعدهم جماعة كثيرة من الفقهاء والفقراء، وجرت فتن كثيرة منتشرة، نعوذ بالله من الفتن، وحصل للحنابلة بالديار المصرية إهانة عظيمة كثيرة، وذلك أن قاضيهم كان قليل العلم مزجى البضاعة، وهو شرف الدين الحراني، فلذلك نال أصحابهم ما نالهم، وصارت حالهم حالهم‏.‏

وفي شهر رمضان جاء كتاب من مقدم الخدام بالحرم النبوي يستأذن السلطان في بيع طائفة من قناديل الحرم النبوي لينفق ذلك ببناء مئذنة عند باب السلام الذي عند المطهرة، فرسم له بذلك، وكان في جملة القناديل قنديلان من ذهب زنتهما ألف دينار، فباع ذلك وشرع في بنائها وولي سراج الدين عمر قضاءها مع الخطابة فشق ذلك على الروافض‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/44‏)‏

وفي يوم الخميس ثاني عشر ذي القعدة وصل البريد من مصر بتولية القضاء لشمس الدين محمد بن إبراهيم بن داود الأذرعي الحنفي قضاء الحنفية، عوضاً عن شمس الدين بن الحسيني معزولاً وبتولية الشيخ برهان الدين بن الشيخ تاج الدين الفزاري خطابة دمشق، عوضاً عن عمه الشيخ شرف الدين توفي إلى رحمة الله، وخلع عليهما بذلك وباشرا في يوم الجمعة ثالث عشر الشهر وخطب الشيخ برهان الدين خطبة حسنة حضرها الناس والأعيان‏.‏

ثم بعد خمسة أيام عزل نفسه عن الخطابة وآثر بقاءه على تدريس البادرائية حين بلغه أنها طلبت لتؤخذ منه، فبقي منصب الخطابة شاغراً ونائب الخطيب يصلي بالناس ويخطب، ودخل عيد الأضحى وليس للناس خطيب، وقد كاتب نائب السلطنة في ذلك فجاء المرسوم بإلزامه بذلك‏.‏

وفيه‏:‏ لعلمنا بأهليته وكفايته واستمراره على ما بيده من تدريس البادرائية، فباشرها القيسي جمال الدين بن الرحبي، سعى في البادرائية فأخذها وباشرها في صفر من السنة الآتية بتوقيع سلطاني، فعزل الفزاري نفسه عن الخطابة ولزم بيته، فراسله نائب السلطنة بذلك، فصمم على العزل وأنه لا يعود إليها أبداً، وذكر أنه عجز عنها، فلما تحقق نائب السلطنة ذلك أعاد إليه مدرسته وكتب له بها توقيعاً بالعشر الأول من ذي الحجة، وخلع على شمس الدين بن الخطيري بنظر الخزانة عوضاً عن ابن الزملكاني‏.‏

وحج بالناس الأمير شرف الدين حسن بن حيدر‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 الشيخ عيسى بن الشيخ سيف الدين الرحبي

ابن سابق بن الشيخ يونس القيسي ودفن بزاويتهم التي بالشرق الشمالي بدمشق غربي الوراقة والعزية يوم الثلاثاء سابع المحرم‏.‏

الملك الأوحد

 ابن الملك تقي الدين شادي بن الملك الزاهر مجير الدين داود بن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه بن ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه بن شادي، توفي بجبل الجرد في آخر نهار الأربعاء ثاني صفر، وله من العمر سبع وخمسون سنة فنقل إلى تربتهم بالسفح، وكان من خيار الملوك والدولة، معظماً عند الملوك والأمراء، وكان يحفظ القرآن وله معرفة بعلوم، ولديه فضائل‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/45‏)‏

 الصدر علاء الدين

علي بن معالي الأنصاري الحراني الحاسب، يعرف بابن الزريز، وكان فاضلاً بارعاً في صناعة الحساب انتفع به جماعة، توفي في آخر هذه السنة فجأة ودفن بقاسيون، وقد أخذت الحساب عن الحاضري عن علاء الدين الطيوري عنه‏.‏

 الخطيب شرف الدين أبو العباس

أحمد بن إبراهيم بن سباع بن ضياء الفزاري، الشيخ الإمام العلامة أخو العلامة شيخ الشافعية تاج الدين عبد الرحمن، ولد سنة ثلاثين وسمع الحديث الكثير، وانتفع على المشايخ في ذلك العصر كابن الصلاح وابن السخاوي وغيرهما، وتفقه وأفتى وناظر وبرع وساد أقرانه، وكان أستاذاً في العربية واللغة والقراءات وإيراد الأحاديث النبوية، والتردد إلى المشايخ للقراءة عليهم‏.‏

وكان فصيح العبارة حلو المحاضرة، لا تمل مجالسته، وقد درّس بالطبية، وبالرباط الناصري مدة، ثم تحول عنه إلى خطابة جامع جراح، ثم انتقل إلى خطابة جامع دمشق بعد الفارقي في سنة ثلاث ولم يزل به حتى توفي يوم الأربعاء عشية التاسع من شوال، عن خمس وسبعين سنة، وصلّي عليه صبيحة يوم الخميس على باب الخطابة، ودفن عند أبيه وأخيه بباب الصغير رحمهم الله، وولي الخطابة ابن أخيه‏.‏

 شيخنا العلامة برهان الدين الحافظ الكبير الدمياطي

وهو الشيخ الإمام العالم الحافظ شيخ المحدثين شرف الدين أبو محمد عبد المؤمن بن خلف بن أبي الحسن بن شرف بن الخضر بن موسى الدمياطي، حامل لواء هذا الفن - أعني صناعة الحديث وعلم اللغة - في زمانه مع كبر السن والقدر، وعلو الإسناد وكثرة الرواية، وجودة الدراية، وحسن التآليف وانتشار التصانيف، وتردد الطلبة إليه من سائر الآفاق، ومولده في آخر سنة ثلاث عشرة وستمائة‏.‏

وقد كان أول سماعه في سنة ثنتين وثلاثين بالإسكندرية، سمع الكثير على المشايخ ورحل وطاف وحصل وجمع فأوعى، ولكن ما منع ولا بخل، بل بذل وصنّف ونشر العلم، وولي المناصب بالديار المصرية، وانتفع الناس به كثيراً، وجمع معجماً لمشايخه الذين لقيهم بالشام والحجاز والجزيرة والعراق وديار مصر يزيدون على ألف وثلاثمائة شيخ، وهو مجلدان‏.‏

وله الأربعون المتباينة الإسناد وغيرها، وله كتاب في الصلاة الوسطى مفيد جداً، ومصنف في صيام ستة أيام من شوال أفاد فيه وأجاد، وجمع ما لم يسبق إليه، وله كتاب ‏(‏الذكر والتسبيح‏)‏ عقيب الصلوات، وكتاب ‏(‏التسلي في الاغتباط بثواب من يقدم من الإفراط‏)‏، وغير ذلك من الفوائد الحسان، ولم يزل في إسماع الحديث إلى أن أدركته وفاته وهو صائم في مجلس الإملاء غشي عليه فحمل إلى منزله فمات من ساعته يوم الأحد عاشر ذي القعدة بالقاهرة، ودفن من الغد بمقابر باب النصر وكانت جنازته حافلة جداً رحمه الله تعالى‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/46‏)‏

 ثم دخلت سنة ست وسبعمائة

استهلت والحكام هم المذكرون في التي قبلها والشيخ تقي الدين بن تيمية مسجون بالجب من قلعة الجبل، وفي يوم الأربعاء جاء البريد بتولية الخطابة للشيخ شمس الدين إمام الكلاسة وذلك في ربيع الأول، وهنئ بذلك فأظهر التكره لذلك والضعف عنه، ولم يحصل له مباشرة لغيبة نائب السلطنة في الصيد، فلما حضر أذن له فباشر يوم الجمعة العشرين من الشهر، فأول صلاة صلاها الصبح يوم الجمعة، ثم خلع عليه وخطب بها يومئذ‏.‏

وفي يوم الأربعاء ثامن عشر ربيع الأول باشر نيابة الحكم عن القاضي نجم الدين أحمد بن عبد المحسن بن حسن المعروف بالدمشقي عوضاً عن تاج الدين بن صالح بن تامر بن خان الجعبري، وكان معمراً قديم الهجرة كثير الفضائل، ديناً ورعاً، جيد المعاشرة، وكان قد ولي الحكم في سنة سبع وخمسين وستمائة، فلما ولي ابن صصرى كره نيابته‏.‏

وفي يوم الأحد العشرين من ربيع الآخر قدم البريد من القاهرة ومعه تجديد توقيع القاضي شمس الدين الأزرعي الحنفي، فظن الناس أنه بولاية القضاء لابن الحريري فذهبوا ليهنئوه مع البريد إلى الظاهرية، واجتمع الناس لقراءة التقليد على العادة فشرع الشيخ علم الدين البرزالي في قراءته فلما وصل إلى الاسم تبين له أنه ليس له وأنه للأزرعي، فبطل القارئ وقام الناس مع البريدي إلى الأزرعي، وحصلت كسرة وخمدة على الحريري والحضارين‏.‏

ووصل مع البريدي أيضاً كتاب فيه طلب الشيخ كمال الدين بن الزملكاني إلى القاهرة، فتوهم من ذلك وخاف أصحابه عليه سبب انتسابه إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية، فتلطف به نائب السلطنة، ودارى عنه حتى أعفي من الحضور إلى مصر، ولله الحمد‏.‏

وفي يوم الخميس تاسع جمادى الأولى دخل الشيخ ابن براق إلى دمشق وبصحبته مائة فقير كلهم محلقي ذقونهم موفري شواربهم عكس ما وردت به السنة، على رؤوسهم قرون لبابيد‏.‏

ومعه أجراس وكعاب وجواكين خشب، فنزلوا بالمنيبع وحضروا الجمعة برواق الحنابلة، ثم توجهوا نحو القدس فزاروا، ثم استأذنوا في الدخول إلى الديار المصرية فلم يؤذن لهم، فعادوا إلى دمشق فصاموا بها رمضان ثم انشمروا راجعين إلى بلاد الشرق، إذ لم يجدوا بدمشق قبولاً، وقد كان شيخهم براق رومياً من بعض قرى دوقات من أبناء الأربعين‏.‏

وقد كانت له منزلة عند قازان ومكانة، وذلك أنه سلط عليه نمراً فزجره فهرب منه وتركه، فحظي عنده وأعطاه في يوم واحد ثلاثين ألفاً ففرقها كلها فأحبه، ومن طريقة أصحابه أنهم لا يقطعون لهم صلاة، ومن ترك صلاة ضربوه أربعين جلدة، وكان يزعم أن طريقه الذي سلكه إنما سلكه ليخرب على نفسه، ويرى أنه زي المسخرة، وأن هذا هو الذي يليق بالدنيا، والمقصود إنما هو الباطن والقلب وعمارة ذلك، ونحن إنما نحكم بالظاهر، والله أعلم بالسرائر‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 14/47‏)‏

وفي يوم الأربعاء سادس جمادى الآخرة حضر مدرس النجيبية بهاء الدين يوسف بن كمال الدين أحمد بن عبد العزيز العجمي الحلبي، عوضاً عن الشيخ ضياء الدين الطوسي توفي، وحضر عنده ابن صصرى وجماعة من الفضلاء، وفي هذه السنة صليت صلاة الرغائب في النصف بجامع دمشق بعد أن كانت قد أبطلها ابن تيمية منذ أربع سنين‏.‏

ولما كانت ليلة النصف حضر الحاجب ركن الدين بيبرس العلائي ومنع الناس من الوصول إلى الجامع ليلتئذ، وغلقت أبوابه فبات كثير من الناس في الطرقات وحصل للناس أذى كثير، وإنما أراد صيانة الجامع من اللغو والرفث والتخليط‏.‏

وفي سابع عشر رمضان حكم القاضي تقي الدين الحنبلي بحقن دم محمد الباجريقي، وأثبت عنده محضراً بعداوة ما بينه وبين الشهود الستة الذين شهدوا عليه عند المالكي، حين حكم بإراقة دمه، وممن شهد بهذه العداوة ناصر الدين بن عبد السلام وزين الدين بن الشريف عدنان، وقطب الدين بن شيخ السلامية وغيرهم‏.‏

وفيها‏:‏ باشر كمال الدين بن الزملكاني نظر ديوان ملك الأمراء عوضاً عن شهاب الدين الحنفي، وذلك في آخر رمضان، وخلع عليه بطيلسان وخلعة، وحضر بها دار العدل‏.‏

وفي ليلة عيد الفطر أحضر الأمير سيف الدين سلار نائب مصر القضاة الثلاثة وجماعة من الفقهاء فالقضاة الشافعي والمالكي والحنفي، والفقهاء الباجي والجزري والنمراوي، وتكلموا في إخراج الشيخ تقي الدين بن تيمية من الحبس، فاشترط بعض الحاضرين عليه شروطاً بذلك، منها أنه يلتزم بالرجوع عن بعض العقيدة وأرسلوا إليه ليحضر ليتكلموا معه في ذلك، فامتنع من الحضور وصمم‏.‏

وتكررت الرسل إليه ست مرات، فصمم على عدم الحضور، ولم يلتفت إليهم ولم يعدهم شيئاً، فطال عليهم المجلس فتفرقوا وانصرفوا غير مأجورين‏.‏

وفي يوم الأربعاء ثاني شوال أذن نائب السلطنة الأفرم للقاضي جلال الدين القزويني أن يصلي بالناس ويخطب بجامع دمشق عوضاً عن الشيخ شمس الدين إمام الكلاسة توفي، فصلى الظهر يومئذ وخطب الجمعة واستمر بالإمامة والخطابة حتى وصل توقيعه بذلك من القاهرة، وفي مستهل ذي القعدة حضر نائب السلطنة والقضاة والأمراء والأعيان وشكرت خطبته‏.‏

وفي مستهل ذي القعدة كمل بناء الجامع الذي ابتناه وعمره الأمير جمال الدين نائب السلطنة الأفرم عند الرباط الناصري بالصالحية، ورتب فيه خطيباً يخطب يوم الجمعة وهو القاضي شمس الدين محمد بن العز الحنفي، وحضر نائب السلطنة والقضاة وشكرت خطبة الخطيب به، ومد الصاحب شهاب الدين الحنفي سماطاً بعد الصلاة بالجامع المذكور وهو الذي كان الساعي في عمارته، والمستحث عليها، فجاء في غاية الإتقان والحسن، تقبل الله منهم‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 14/48‏)‏

وفي ثالث ذي القعدة استناب ابن صصرى القاضي صدر الدين سليمان بن هلال بن شبل الجعبري خطيب داريا في الحكم، عوضاً عن جلال الدين القزويني، بسبب اشتغاله بالخطابة عن الحكم، وفي يوم الجمعة التاسع والعشرين من ذي القعدة قدم قاضي القضاة صدر الدين أبو الحسن علي بن الشيخ صفي الدين الحنفي البصراوي إلى دمشق من القاهرة متولياً قضاء الحنفية عوضاً عن الأزرعي، مع ما بيده من تدريس النورية والمقدمية وخرج الناس لتلقيه وهنأوه‏.‏

وحكم بالنورية وقرئ تقليده بالمقصورة الكندية في الزاوية الشرقية، من جامع بني أمية‏.‏

وفي ذي الحجة ولي الأمير عز الدين بن صبرة على البلاد القبلية والي الولاة، عوضاً عن الأمير جمال الدين آقوش الرستمي، بحكم ولايته شد الدواوين بدمشق، وجاء كتاب من السلطان بولاية وكالته للرئيس عز الدين بن حمزة القلانسي عوضاً عن ابن عمه شرف الدين، فكره ذلك‏.‏

وفي اليوم الثامن والعشرين من ذي الحجة أخبر نائب السلطنة بوصول كتاب من الشيخ تقي الدين من الحبس الذي يقال له‏:‏ الجب، فأرسل في طلبه فجيء به فقرئ على الناس فجعل يشكر الشيخ ويثني عليه وعلى علمه وديانته وشجاعته وزهده، وقال‏:‏ ما رأيت مثله، وإذا هو كتاب مشتمل على ما هو عليه في السجن من التوجه إلى الله، وأنه لم يقبل من أحد شيئاً لا من النفقات السلطانية ولا من الكسوة ولا من الإدرارات ولا غيرها، ولا تدنس بشيء من ذلك‏.‏

وفي هذا الشهر يوم الخميس السابع والعشرين منه طلب أخوا الشيخ تقي الدين شرف الدين وزين الدين من الحبس إلى مجلس نائب السلطان سلار، وحضر ابن مخلوف المالكي وطال بينهم كلام كثير فظهر شرف الدين بالحجة على القاضي المالكي بالنقل والدليل والمعرفة، وخطأه في مواضع ادّعى فيها دعاوى باطلة، وكان الكلام في مسألة العرش ومسألة الكلام، وفي مسألة النزول‏.‏

وفي يوم الجمعة ثاني عشرين ذي الحجة وصل على البريد من مصر نصر الدين محمد بن الشيخ فخر الدين بن أخي قاضي القضاة البصراوي، وزوج ابنته على الحسبة بدمشق عوضاً عن جمال الدين يوسف العجمي وخلع عليه بطيلسان ولبس الخلعة ودار بها في البلد في مستهل سنة سبع وسبعمائة، وفي هذه السنة عمر في حرم مكة بنحو مائة ألف‏.‏

وحج بالناس من الشام الأمير ركن الدين بيبرس المجنون‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 القاضي تاج الدين

صالح بن أحمد بن حامد بن علي الجعدي الشافعي نائب الحكم بدمشق ومفيد الناصرية‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/49‏)‏

كان ثقة ديناً عدلاً مرضياً زاهداً، حكم من سنة سبع وخمسين وستمائة، له فضائل وعلوم، وكان حسن الشكل والهيئة، توفي في ربيع الأول عن ست وسبعين سنة، ودفن بالسفح وناب في الحكم بعده نجم الدين الدمشقي‏.‏

 الشيخ ضياء الدين الطوسي

أبو محمد عبد العزيز بن محمد بن علي الشافعي مدرس النجيبية شارح ‏(‏الحاوي‏)‏، ومختصر ‏(‏ابن الحاجب‏)‏ كان شيخاً فاضلاً بارعاً، وأعاد في الناصرية أيضاً، توفي يوم الأربعاء بعد مرجعه من الحمام تاسع عشر من جمادى الأولى، وصلّي عليه يوم الخميس ظاهر باب النصر، وحضر نائب السلطنة وجماعة من الأمراء والأعيان، ودفن بالصوفية، ودرّس بعده بالمدرسة بهاء الدين بن العجمي‏.‏

 الشيخ جمال الدين إبراهيم بن محمد بن سعد الطيبي

المعروف بابن السوابلي، والسوابل الطاسات‏.‏

كان معظماً ببلاد الشرق جداً، كان تاجراً كبيراً توفي في هذا الشهر المذكور‏.‏

 الشيخ الجليل سيف الدين الرجيحي

ابن سابق بن هلال بن يونس شيخ اليونسية بمقامهم، صلّي عليه سادس رجب بالجامع ثم أعيد إلى داره التي سكنها داخل باب توما، وتعرف بدار أمين الدولة فدفن بها، وحضر جنازته خلق كثير من الأعيان والقضاة والأمراء، وكانت له حرمة كبيرة عند الدولة وعند طائفته، وكان ضخم الهامة جداً محلوق الشعر، وخلف أموالاً وأولاداً‏.‏

 الأمير فارس الدين الروادي

توفي في العشر الأخير من رمضان، وكان قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بأيام وهو يقول له‏:‏ أنت مغفور لك، أو نحو هذا، وهو من أمراء حسام الدين لاجين‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/50‏)‏

 الشيخ العابد خطيب دمشق شمس الدين

شمس الدين محمد بن الشيخ أحمد بن عثمان الخلاطي إمام الكلاسة، كان شيخاً حسناً بهي المنظر كثير العبادة، عليه سكون ووقار، باشر إمامة الكلاسة قريباً من أربعين سنة ثم طلب إلى أن يكون خطيباً بدمشق بالجامع من غير سؤال منه ولا طلب، فباشرها ستة أشهر ونصف أحسن مباشرة‏.‏

وكان حسن الصوت طيب النغمة عارفاً بصناعة الموسيقى، مع ديانة وعبادة، وقد سمع الحديث توفي فجأة بدار الخطابة يوم الأربعاء ثامن شوال عن ثنتين وستين سنة، وصلّي عليه بالجامع وقد امتلأ بالناس، ثم صلّي عليه بسوق الخيل وحضر نائب السلطنة والأمراء والعامة، وقد غلقت الأسواق ثم حمل إلى سفح قاسيون رحمه الله‏.‏