فصل: هشام بن إسماعيل

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 خلافة الوليد بن عبد الملك باني جامع دمشق

لما رجع من دفن أبيه خارج باب الجابية الصغير - وكان ذلك في يوم الخميس وقيل الجمعة للنصف من شوال من هذه السنة - لم يدخل المنزل حتى صعد المنبر - منبر المسجد الأعظم بدمشق فخطب الناس فكان مما قال‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون، والله المستعان على مصيبتنا في أمير المؤمنين، والحمد لله على ما أنعم علينا من الخلافة، قوموا فبايعوا‏.‏ فكان أول من قام إليه عبد الله بن همام السلولي وهو يقول‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/85‏)‏

الله أعطاك التي لا فوقها * وقد أراد الملحدون عوقها

عنك ويأبى الله إلا سوقها * إليك حتى قلدوك طوقها

ثم بايعه وبايع الناس بعده‏.‏ وذكر الواقدي أنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ أيها الناس إنه لا مقدم لما أخر الله، ولا مؤخر لما قدم الله، وقد كان من قضاء الله وسابقته ما كتبه على أنبيائه وحملة عرشه وملائكته الموت، وقد صار إلى منازل الأبرار بما لاقاه في هذه الأمة - يعني بالذي يحق لله عليه - من الشدة على المريب واللين لأهل الحق والفضل وإقامة ما أقام الله من منار الإسلام وإعلائه من حج هذا البيت وغزو هذه الثغور وشن هذه الغارات على أعداء الله عز وجل فلم يكن عاجزاً ولا مفرطاً، أيها الناس عليكم بالطاعة ولزوم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد، أيها الناس من أبدى لنا ذات نفسه ضربنا الذي فيه عيناه، ومن سكت مات بدائه‏.‏

ثم نزل فنظر ما كان من دواب الخلافة فحازها‏.‏ وكان جباراً عنيداً‏.‏ وقد ورد في ولاية الوليد حديث غريب، وإنما هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك كما سيأتي، وكما تقدم تقريره في دلائل النبوة في باب الأخبار عن الغيوب المستقبلة، فيما يتعلق بدولة بني أمية، وأما الوليد بن عبد الملك هذا فقد كان صيناً في نفسه حازماً في رأيه، يقال إنه لا تعرف له صبوة، ومن جملة محاسنة ما صح عنه أنه قال‏:‏ لولا أن الله قص لنا قصة قوم لوط في كتابه ما ظننا أن ذكراً كان يأتي ذكراً كما تؤتى النساء، كما سيأتي ذلك في ترجمته عند ذكر وفاته، وهو باني مسجد جامع دمشق الذي لا يعرف في الآفاق أحسن بناء منه، وقد شرع في بنائه في ذا القعدة من هذه السنة، فلم يزل في بنائه وتحسينه مدة خلافته وهي عشر سنين، فلما أنهاه انتهت أيام خلافته كما سيأتي بيان ذلك مفصلاً‏.‏ وقد كان موضع هذا المسجد كنيسة يقال لها كنيسة يوحنا، فلما فتحت الصحابة دمشق جعلوها مناصفة، فأخذوا منها الجانب الشرقي فحولوه مسجداً، وبقى الجانب الغربي كنيسة بحاله من لدن سنة أربع عشرة إلى هذه السنة، فعزم الوليد على أخذ بقية الكنيسة منهم وعوضهم عنها كنيسة مريم لدخولها في جانب السيف، وقيل عوضهم عنها كنيسة توما، وهدم بقية هذه الكنيسة وأضافها إلى مسجد الصحابة، وجعل الجميع مسجداً واحداً على هيئة بديعة لا يعرف كثير من الناس أو أكثرهم لها نظيراً في البنيان والزينات والآثار والعمارات، والله سبحانه أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وثمانين

ففيها عزل الوليد بن عبد الملك هشام بن إسماعيل عن إمرة المدينة وولي عليها ابن عمه وزوج أخته فاطمة بنت عبد الملك عمر بن عبد العزيز، فدخلها على ثلاثين بعيراً في ربيع الأول منها، فنزل دار مروان وجاء الناس للسلام عليه، ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/86‏)‏ وعمره إذ ذاك خمس وعشرون سنة، فلما صلى الظهر دعا عشرة من فقهاء المدينة وهم عروة بن الزبير، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأبو بكر بن سليمان بن أبي خيثمة، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر، وأخوه عبيد الله بن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وخارجة بن زيد بن ثابت، فدخلوا عليه فجلسوا فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال‏:‏ إني إنما دعوتكم لأمر تؤجرون عليه وتكونون فيه أعواناً على الحق، إني لا أريد أن أقطع أمراً إلا برأيكم أو برأي من حضر منكم، فإن رأيتم أحداً يتعدى أو بلغكم عن عامل لي ظلامة، فأحرِّج على من بلغه ذلك إلا أبلغني‏.‏ فخرجوا من عنده يجزونه خيراً، وافترقوا على ذلك‏.‏ وكتب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز بأن يوقف هشام بن إسماعيل للناس عند دار مروان - وكان يسيء الرأي فيه - لأنه أساء إلى أهل المدينة في مدة ولايته عليهم، وكانت نحواً من أربع سنين ولا سيما إلى سعيد بن المسيب وعلي بن الحسين‏.‏ قال سعيد بن المسيب لابنه ومواليه‏:‏ لا يعرض منكم أحد لهذا الرجل فيَّ، تركت ذلك لله وللرحم‏.‏ وأما كلامه فلا أكلمه أبداً، وأما علي بن الحسين فإنه مر به وهو موقوف فلم يتعرض له وكان قد تقدم إلى خاصته أن لا يعرض أحد منهم له، فلما اجتاز به وتجاوزه ناداه هشام ‏{‏اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 124‏]‏‏.‏

وفي هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك بلاد الروم فقتل منهم خلقاً كثيراً، وفتح حصوناً كثيرة وغنم غنائم جمة، ويقال إن الذي غزا بلاد الروم في هذه السنة هشام بن عبد الملك ففتح حصن بولق، وحصن الأخرم، وبحيرة الفرمسان، وحصن بولس، وقميقم، وقتل من المستعربة نحواً من ألف وسبى ذراريهم‏.‏

وفيها غزا قتيبة بن مسلم بلاد الترك وصالحه ملكهم نيزك على مال جزيل، وعلى أن يطلق كل من ببلاده من أسارى المسلمين‏.‏

وفيها غزا قتيبة بيكند فاجتمع له من الأتراك، عندها بشر كثير وجم غفير وهي من أعمال بخارى، فلما نزل بأرضهم استنجدوا عليه بأهل الصغد ومن حولهم من الأتراك، فأتوهم في جمع عظيم فأخذوا على قتيبة الطرق والمضايق، فتواقف هو وهم قريباً من شهرين وهو لا يقدر أن يبعث إليهم رسولاً ولا يأتيه منهم رسول وأبطأ خبره على الحجاج حتى خاف عليه وأشفق على من معه من المسلمين من كثرة الأعداء من الترك، فأمر الناس بالدعاء لهم في المساجد وكتب بذلك إلى الأمصار‏.‏

وقد كان قتيبة ومن معه من المسلمين يقتتلون مع الترك في كل يوم، وكان لقتيبة عين من العجم يقال له تنذر، فأعطاه أهل بخارى مالاً جزيلاً على أن يأتي قتيبة فيخذله عنهم، فجاء إليه فقال له‏:‏ أخلني فأخلاه فلم يبق عنده سوى رجل يقال له ضرار بن حصين، فقال له تندر‏:‏ هذا عامل يقدم عليك سريعاً بعزل الحجاج، فلو انصرفت بالناس إلى مرو، فقال قتيبة لمولاه سياه اضرب عنقه فقتله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/87‏)‏

ثم قال لضرار‏:‏ لم يبق أحد سمع هذا غيري وغيرك وإني أعطي الله عهدا إن ظهر هذا حتى ينقضي حربنا ألحقتك به،فاملك علينا لسانك، فإن انتشار هذا في مثل هذا الحال ضعف في أعضاد الناس ونصرة للأعداء، ثم نهض قتيبة فحرض الناس على الحرب، ووقف على أصحاب الرايات يحرضهم، فاقتتل الناس قتالاً شديداً ثم أنزل الله على المسلمين الصبر فما انتصف النهار حتى أنزل الله عليهم النصر فهزمت الترك هزيمة عظيمة، واتبعهم المسلمون يقتلون فيهم ويأسرون ما شاؤوا، واعتصم من بقي منهم بالمدينة‏.‏

فأمر قتيبة الفعلة بهدمها فسألوه الصلح على مال عظيم فصالحهم، وجعل عليهم رجلاً من أهله وعنده طائفة من الجيش ثم سار راجعاً، فلما كان منهم على خمس مراحل نقضوا العهد وقتلوا الأمير وجدعوا أنوف من كان معه‏.‏

فرجع إليها وحاصرها شهراً‏.‏ وأمر النقابين والفعلة فعلقوا سورها على الخشب وهو يريد أن يضرم النهار فيها، فسقط السور فقتل من الفعلة أربعين نفساً، فسألوه الصلح فأبى، ولم يزل حتى افتتحها فقتل المقاتلة وسبى الذرية وغنم الأموال، وكان الذي ألب على المسلمين رجل أعور منهم‏.‏

فأسر فقال‏:‏ أنا أفتدي نفسي بخمسة آلاف أثواب صينية قيمتها ألف ألف، فأشار الأمراء على قتيبة بقبول ذلك منه‏.‏

فقال قتيبة‏:‏ لا والله لا أروع بك مسلماً مرة ثانية، وأمر به فضربت عنقه‏.‏ وهذا من الزهد في الدنيا، ثم إن الغنائم سيدخل فيها ما أراد أن يفتدي به نفسه فإن المسلمين قد غنموا من بيكند شيئاً كثيراً من آنية الذهب والفضة والأصنام من الذهب، وكان من جملتها صنم سبك فخرج منه مائة ألف وخمسون ألف دينار من الذهب، ووجدوا في خزائن الملك أموالاً كثيرةً وسلاحاً كثيراً وعدداً متنوعةً، وأخذوا من السبي شيئاً كثيراً، فكتب قتيبة إلى الحجاج يسأله أن يعطي ذلك للجند فأذن له فتمول المسلمون وتقووا على قتال الأعداء، وصار لكل واحد منهم مال مستكثر جداً‏.‏ وصارت لهم أسلحة وعدد وخيول كثيرة فقووا بذلك قوة عظيمة ولله الحمد والمنة‏.‏

وقد حج بالناس في هذه السنة عمر بن عبد العزيز نائب المدينة وقاضيه بها أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وعلى العراق والمشرق بكماله الحجاج، ونائبه على البصرة الجراح بن عبد الله الحكمي وقاضيه بها عبد الله بن أذينة، وعامله على الحرب بالكوفة زياد بن جرير بن عبد الله البجلي، وقاضيه بها أبو بكر بن أبي موسى الأشعري، ونائبه على خراسان وأعمالها قتيبة بن مسلم ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/88‏)‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 عتبة بن عبد السلمي

صحابي جليل، نزل حمص، يروى أنه شهد بني قريظة، وعن العرباض أنه كان يقول‏:‏ هو خير مني أسلم قبلي بسنة‏.‏

قال الواقدي وغيره‏:‏ توفي في هذه السنة، وقال غيره بعد التسعين، والله أعلم‏.‏

قال أبو سعيد بن الأعرابي‏:‏ كان عتبة بن عبد السلمي من أهل الصفة‏.‏

وروى بقية، عن بجير بن سعد، عن خالد بن معدان، عن عتبة بن عبد السلمي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لو أن رجلاً يجر على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرماً في مرضاة الله لحقره يوم القيامة‏)‏‏)‏‏.‏

وقال إسماعيل بن عياش، عن عقيل بن مدرك، عن لقمان بن عامر، عن عتبة بن عبد السلمي قال‏:‏ اشتكيت إلى رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ العُري فكساني خيشتين فلقد رأيتني وأنا أكسي الصحابة‏)‏‏)‏‏.‏

 المقدام بن معدي كرب

صحابي جليل، نزل حمص أيضاً، له أحاديث، وروى عنه غير واحد من التابعين‏.‏

قال محمد بن سعد والفلاس وأبو عبيدة‏:‏ توفي في هذه السنة، وقال غيرهم‏:‏ توفي بعد التسعين، فالله أعلم‏.‏

أبو أمامة الباهلي

واسمه صَديّ بن عجلان، نزل حمص، وهو راوي حديث ‏(‏‏(‏تلقين الميت بعد الدفن‏)‏‏)‏ رواه الطبراني في الدعاء، وقد تقدم له ذكر في الوفيات‏.‏

 قبيصة بن ذؤيب

أبو سفيان الخزاعي المدني، ولد عام الفتح وأُتي به النبي ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ ليدعو له، روى عن جماعة كثيرة من الصحابة، وأصيبت عينه يوم الحرة، وكان من فقهاء المدينة، وكانت له منزلة عند عبد الملك، ويدخل عليه بغير إذن، وكان يقرأ الكتب إذا وردت من البلاد ثم يدخل على عبد الملك فيخبره بما ورد من البلاد فيها، وكان صاحب سره، وكان له دار بدمشق بباب البريد، وتوفي بدمشق‏.‏

 عروة بن المغيرة بن شعبة

ولي إمرة الكوفة للحجاج، وكان شريفاً لبيباً مطاعاً في الناس، وكان أحول‏.‏

توفي بالكوفة ‏(‏يحيى بن يعمر‏)‏، كان قاضي مرو، وهو أول من نقط المصاحف، وكان من فضلاء الناس وعلمائهم وله أحوال ومعاملات، وله روايات، وكان أحد الفصحاء، أخذ العربية عن أبي الأسود الدؤلي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/89‏)‏

 شريح بن الحارث بن قيس القاضي

أدرك الجاهلية واستقضاه عمر على الكوفة فمكث بها قاضياً خمساً وستين سنة، وكان عالماً عادلاً كثير الخير، حسن الأخلاق، فيه دعابة كثيرة، وكان كوسجاً لا شعر بوجهه، وكذلك كان عبد الله بن الزبير، والأحنف بن قيس، وقيس بن سعد بن عبادة، وقد اختلف في نسبه وسنه وعام وفاته على أقوال، ورجح ابن خلكان وفاته في هذه السنة‏.‏

قلت‏:‏ قد تقدمت ترجمة شريح القاضي في سنة ثمان وسبعين بما فيها من الزيادة الكثيرة غير ما ذكره المؤلف هنا وهناك‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وثمانين

فيها غزا الصائفة مسلمة بن عبد الملك وابن أخيه العباس بن الوليد بن عبد الملك، فافتتحا بمن معهما من المسلمين حصن طوانه في جمادى من هذه السنة - وكان حصيناً منيعاً - اقتتل الناس عنده قتالاً عظيماً ثم حمل المسلمون على النصارى فهزموهم حتى أدخلوهم الكنيسة، ثم خرجت النصارى فحملوا على المسلمين فانهزم المسلمون ولم يبق أحد منهم في موقفه إلا العباس بن الوليد ومعه ابن محيريز الجمحي، فقال العباس لابن محيريز‏:‏ أين قراء القرآن الذين يريدون وجه الله عز وجل‏؟‏ فقال‏:‏ نادهم يأتوك، فنادى يا أهل القرآن، فتراجع الناس فحملوا على النصارى فكسروهم ولجأوا إلى الحصن فحاصروهم حتى فتحوه‏.‏

وذكر ابن جرير‏:‏ أنه في شهر ربيع الأول من هذه السنة قدم كتاب الوليد على عمر بن عبد العزيز يأمره بهدم المسجد النبوي وإضافة حجر أزواج رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏، وأن يوسعه من قبلته وسائر نواحيه، حتى يكون مائتي ذراع في مائتي ذراع، فمن باعك ملكه فاشتره منه وإلا فقوِّمه له قيمة عدل ثم اهدمه وادفع إليهم أثمان بيوتهم، فإن لك في ذلك سلف صدق عمر وعثمان‏.‏

فجمع عمر بن عبد العزيز وجوه الناس والفقهاء العشرة وأهل المدينة وقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين الوليد، فشق عليهم ذلك وقالوا‏:‏ هذه حجر قصيرة السقوف وسقوفها من جريد النخل، وحيطانها من اللبن، وعلى أبوابها المسوح، وتركها على حالها أولى لينظر إليها الحجاج والزوار والمسافرون، وإلى بيوت النبي ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ فينتفعوا بذلك ويعتبروا به، ويكون ذلك أدعى لهم إلى الزهد في الدنيا، فلا يعمرون فيها إلا بقدر الحاجة وهو ما يستر ويُكن، ويعرفون أن هذا البنيان العالي إنما هو من أفعال الفراعنة والأكاسرة، وكل طويل الأمل راغب في الدنيا وفي الخلود فيها‏.‏

فعند ذلك كتب عمر بن عبد العزيز إلى الوليد بما أجمع عليه الفقهاء العشرة المتقدم ذكرهم، فأرسل إليه يأمره بالخراب وبناء المسجد على ما ذكر، وأن يعلى سقوفه‏.‏

فلم يجد عمر بداً من هدمها، ولما شرعوا في الهدم صاح الأشراف ووجوه الناس من بني هاشم وغيرهم، وتباكوا مثل يوم مات النبي ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏، وأجاب من له ملك متاخم للمسجد للبيع فاشترى منهم، وشرع في بنائه وشمر عن إزاره واجتهد في ذلك، وأرسل الوليد إليه فعولاً كثيرة، فأدخل فيه الحجرة النبوية - حجرة عائشة - فدخل القبر في المسجد، ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/90‏)‏ وكانت حده من الشرق وسائر حجر أمهات المؤمنين كما أمر الوليد، وروينا أنهم لما حفروا الحائط الشرقي من حجرة عائشة بدت لهم قدم فخشوا أن تكون قدم النبي ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ حتى تحققوا أنها قدم عمر رضي الله عنه، ويحكى أن سعيد بن المسيب أنكر إدخال حجرة عائشة في المسجد - كأنه خشي أن يتخذ القبر مسجداً - والله أعلم‏.‏

وذكر ابن جرير‏:‏ أن الوليد كتب إلى ملك الروم يسأله أن يبعث له صناعاً للبناء، فبعث إليه بمائة صانع وفصوص كثيرة من أجل المسجد النبوي، والمشهور أن هذا إنما كان من أجل مسجد دمشق، فالله أعلم‏.‏

وكتب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز أن يحفر الفوارة بالمدينة، وأن يجري ماءها ففعل، وأمره أن يحفر الآبار وأن يسهل الطرق والثنايا، وساق إلى الفوارة الماء من ظاهر المدينة، والفوارة بنيت في ظاهر المسجد عند بقعة رآها فأعجبته‏.‏

وفيها غزا قتيبة بن مسلم ملك الترك كوربغانون ابن أخت ملك الصين، ومعه مائتا ألف مقاتل، من أهل الصغد وفرغانة وغيرهم، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وكان مع قتيبة نيزك ملك الترك مأسوراً فكسرهم قتيبة بن مسلم وغنم من أموالهم شيئاً كثيراً، وقتل منهم خلقاً وسبى وأسر‏.‏

وفيها حج بالناس عمر بن عبد العزيز ومعه جماعات من أشراف قريش، فلما كان بالتنعيم لقية طائفة من أهل مكة فأخبروه عن قلة الماء بمكة لقلة المطر، فقال لأصحابه‏:‏ ألا نستمطر‏؟‏ فدعا ودعا الناس فما زالوا يدعون حتى سقوا ودخلوا مكة ومعهم المطر، وجاء سيل عظيم حتى خاف أهل مكة من شدة المطر، ومطرت عرفة ومزدلفة ومنى، وأخصبت الأرض هذه السنة خصباً عظيماً بمكة وما حولها، وذلك ببركة دعاء عمر ومن كان معه من الصالحين‏.‏ وكان النواب على البلدان في هذه السنة هم الذين كانوا قبلها‏.‏

 وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

 عبد الله بن بُسر بن أبي بُسر المازني‏:‏

صحابي كأبيه، سكن حمص، وروى عنه جماعة من التابعين، قال الواقدي‏:‏ توفي في هذه السنة عن أربع وتسعين سنة، زاد غيره وهو آخر من توفي من الصحابة بالشام، وقد جاء في الحديث أنه يعيش قرناً، فعاش مائة سنة‏.‏

 عبد الله بن أبي أوفى

وعلقمة بن خالد بن الحارث الخزاعي ثم الأسلمي، صحابي جليل، وهو آخر من بقي من الصحابة بالكوفة، وكانت وفاته فيما قاله البخاري سنة تسع أو ثمان وثمانين، وقال الواقدي وغير واحد‏:‏ سنة ست وثمانين، وقد جاوز المائة، وقيل قاربها رضي الله عنه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/91‏)‏

 وفيها توفي هشام بن إسماعيل

ابن هشام بن الوليد المخزومي المدني، وكان حما عبد الملك بن مروان ونائبه على المدينة، وهو الذي ضرب سعيد بن المسيب كما تقدم، ثم قدم دمشق فمات بها، وهو أول من أحدث دراسة القرآن بجامع دمشق فمات فيها في السبع‏.‏

 عمير بن حكيم

العنسي الشامي، له رواية، ولم يكن أحد في الشام يستطيع أن يعيب الحجاج علانية إلا هو وابن محيريز أبو الأبيض، قتل في غزوة طوانة من بلاد الروم في هذه السنة‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع وثمانين

فيها غزا مسلمة بن عبد الملك وابن أخيه العباس بلاد الروم فقتلا خلقاً كثيراً وفتحا حصوناً كثيرةً، منها حصن سورية وعمورية وهرقلة وقمودية‏.‏ وغنما شيئاً كثيراً وأسرا جماً غفيراً‏.‏

وفيها غزا قتيبة بن مسلم بلاد الصغد ونسف وكش، وقد لقيه هنالك خلق من الأتراك فظفر بهم فقتلهم، وسار إلى بخارى فلقيه دونها خلق كثير من الترك فقاتلهم يومين وليلتين عند مكان يقال له خرقان، وظفر بهم فقال في ذلك نهار بن توسعة‏:‏

وباتت لهم منا بخرقان ليلة * وليلتنا كانت بخرقان أطولا

ثم قصد قتيبة وردان خُذاه ملك بخارى فقاتله وردان قتالاً شديداً فلم يظفر به قتيبة، فرجع عنه إلى مرو، فجاءه البريد بكتاب الحجاج يعنفه على الفرار والنكول عن أعداء الإسلام، وكتب إليه أن يبعث بصورة هذا البلد - يعني بخارى - فبعث إليه بصورتها فكتب إليه أن أرجع إليها وتب إلى الله من ذنبك وائتها من مكان كذا وكذا، ورد وردان خذاه، وإياك والتحويط، ودعني وبنيات الطريق‏.‏

وفي هذه السنة ولى الوليد بن عبد الملك إمرة مكة لخالد بن عبد الله القسري، فحفر بئراً بأمر الوليد عند ثنية طوى وثنية الحجون، فجاءت عذبة الماء طيبة، وكان يستقى منها الناس‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/92‏)‏

وروى الواقدي‏:‏ حدثني عمر بن صالح، عن نافع مولى بني مخزوم، قال‏:‏ سمعت خالد بن عبد الله القسري، يقول على منبر مكة وهو يخطب الناس‏:‏ أيها الناس ‏!‏ أيهما أعظم خليفة الرجل على أهله أم رسوله إليهم‏؟‏ والله لو لم تعلموا فضل الخليفة إلا أن إبراهيم خليل الرحمن استسقاه فسقاه ملحاً أجاجاً، واستسقى الخليفة فسقاه عذباً فراتاً - يعني البئر التي احتفرها بالثنيتين ثنية طوى وثنية الحجون - فكان ينقل ماؤها فيوضع في حوض من أدم إلى جنب زمزم ليعرف فضله على زمزم‏.‏ قال ثم غارت تلك البئر فذهب ماؤها فلا يدري أين هو إلى اليوم، وهذا الإسناد غريب، وهذا الكلام يتضمن كفراً إن صح عن قائله، وعندي أن خالد بن عبد الله لا يصح عنه هذا الكلام، وإن صح فهو عدو الله، وقد قيل عن الحجاج بن يوسف نحو هذا الكلام من أنه جعل الخليفة أفضل من الرسول الذي أرسله الله، وكل هذه الأقوال تتضمن كفر قائلها‏.‏

وفي هذه السنة غزا قتيبة بن مسلم الترك حتى بلغ باب الأبواب من ناحية أذربيجان وفتح حصوناً ومدائن كثيرة هنالك‏.‏

وحج بالناس فيها عمر بن عبد العزيز‏.‏

قال شيخنا الذهبي‏:‏ وفي هذه السنة فتحت صقلية وميورقة وقيل ميرقة، وهما في البحر بين جزيرة صقلية وخدرة من بلاد الأندلس‏.‏

وفيها سير موسى بن نصير ولده إلى النقريس ملك الفرنج فافتتح بلاداً كثيرةً‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏  عبد الله بن ثعلبة بن صُعَير أحد التابعين العَذَري الشاعر، وقد قيل إنه أدرك حياة النبي ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏، ومسح على رأسه، وكان الزهري يتعلم منه النسب‏.‏ والعمال في هذه السنة هم المذكورون في التي قبلها‏.‏

 ثم دخلت سنة تسعين من الهجرة

فيها غزا مسلمة بن عبد الملك والعباس بن الوليد بلاد الروم، ففتحا حصوناً وقتلا خلقاً من الروم وغنما وأسرا خلقاً كثيراً‏.‏

وفيها أسرت الروم خالد بن كيسان صاحب البحر، وذهبوا به إلى ملكهم فأهداه ملك الروم إلى الوليد بن عبد الملك‏.‏

وفيها عزل الوليد أخاه عبد الله بن عبد الملك عن إمرة مصر وولى عليها قرة بن شريك‏.‏

وفيها قتل محمد بن القاسم ملك السند داهر بن صصَّة، وكان محمد بن القاسم هذا على جيش من جهة الحجاج‏.‏

وفيها فتح قتيبة بن مسلم مدينة بخارى وهزم جميع العدو من الترك بها، وجرت بينهم فصول يطول ذكرها، وقد تقصاها ابن جرير‏.‏

وفيها طلب طرخون ملك الصغد بعد فتح بخارى من قتيبة أن يصالحه على مال يبذله في كل عام فأجابه قتيبة إلى ذلك وأخذ منه رهناً عليه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/93‏)‏

وفيها استنجد وردان خذاه بالترك فأتوه من جميع النواحي - وهو صاحب بخارى بعد أخذ قتيبة لها - وخرج وردان خذاه وحمل على المسلمين فحطموهم ثم عاد المسلمون عليهم فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وصالح قتيبة ملك الصغد، وفتح بخارى وحصونها، ورجع قتيبة بالجند إلى بلاده فأذن له الحجاج، فلما سار إلى بلاده بلغه أن صاحب الصغد قال لملوك الترك‏:‏ إن العرب بمنزلة اللصوص فإن أعطوا شيئاً ذهبوا، وإن قتيبة هكذا يقصد الملوك، فإن أعطوه شيئاً أخذه ورجع عنهم، وإن قتيبة ليس بملك ولا يطلب ملكاً‏.‏ فبلغ قتيبة قوله فرجع إليهم فكاتب نيزك ملك الترك ملوك ما وراء النهر منهم ملك الطالقان، وكان قد صالح قتيبة فنقض الصلح الذي كان بينه وبين قتيبة، واستجاش عليه بالملوك كلها، فأتاه ملوك كثيرة كانوا قد عاهدوا قتيبة على الصلح فنقضوا كلهم وصاروا يداً واحدةً على قتيبة، واتعدوا إلى الربيع وتعاهدوا وتعاقدوا على أن يجتمعوا فيقاتلوا كلهم في فصل الربيع من السنة الآتية، فقتل منهم قتيبة في ذلك الحين مقتلةً عظيمةً جداً لم يسمع بمثلها، وصلب منهم سماطين في مسافة أربعة فراسخ في نظام واحد، وذلك مما كسر جموعهم كلهم‏.‏

وفي هذه السنة هرب يزيد بن المهلب وأخواه المفضل وعبد الملك من سجن الحجاج، فلحقوا بسليمان بن عبد الملك فأمنهم من الحجاج، وذلك أن الحجاج كان قد احتاط عليهم قبل ذلك وعاقبهم عقوبة عظيمة، وأخذ منهم ستة آلاف ألف، وكان أصبرهم على العقوبة يزيد بن المهلب، كان لا يسمع له صوت ولو فعلوا به ما فعلوا نكاية لذلك، وكان ذلك يغيظ الحجاج، قال قائل للحجاج‏:‏ إن في ساقه أثر نشابة بقي نصلها فيه، وإنه متى أصابها شيء لا يملك نفسه أن يصرخ، فأمر الحجاج أن ينال ذلك الموضع منه بعذاب، فصاح فلما سمعت أخته هند بنت المهلب - وكانت تحت الحجاج - صوته بكت وناحت عليه فطلقها الحجاج ثم أودعهم السجن، ثم خرج الحجاج إلى بعض المحال لينفذ جيشاً إلى الأكراد واستصحبهم معه، فخندق حولهم ووكل بهم الحرس، فلما كان في بعض الليالي أمر يزيد بن المهلب بطعام كثير فصنع للحرس، ثم تنكر في هيئة بعض الطباخين وجعل لحيته لحية بيضاء وخرج فرآه رعض الحرس فقال‏:‏ ما رأيت مشية أشبه بمشية يزيد بن المهلب من هذا، ثم تبعه يتحققه، فلما رأى بياض لحيته انصرف عنه، ثم لحقه أخواه فركبوا السفن وساروا نحو الشام، فلما بلغ الحجاج هربهم انزعج لذلك وذهب وهمه أنهم ساروا إلى خراسان، فكتب إلى قتيبة بن مسلم يحذره قدومهم ويأمره بالاستعداد لهم، وأن يرصدهم في كل مكان، ويكتب إلى أمراء الثغور والكور بتحصيلهم وكتب إلى أمير المؤمنين يخبره بهربهم، وأنه لا يراهم هربوا إلا إلى خراسان، ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/94‏)‏ وخاف الحجاج من يزيد أن يصنع كما صنع ابن الأشعث من الخروج عليه وجمع الناس له، وتحقق عنده قول الراهب‏.‏

وأما يزيد بن المهلب فإنه سلك على البطائح وجاءته خيول كان قد أعدها له أخوة مروان بن المهلب لهذا اليوم، فركبها وسلك به دليل من بني كلب يقال له عبد الجبار بن يزيد، فأخذ بهم على السماوة، وجاء الخبر إلى الحجاج بعد يومين أن يزيد قد سلك نحو الشام، فكتب إلى الوليد يعلمه بذلك، وسار يزيد حتى نزل الأردن على وهيب بن عبد الرحمن الأزدي - وكان كريماً على سليمان بن عبد الملك - فسار وهيب إلى سليمان بن عبد الملك فقال له‏:‏ إن يزيد بن المهلب وأخويه في منزلي، قد جاؤوا مستعيذين بك من الحجاج، قال‏:‏ فاذهب فأتني بهم فهم آمنون ما دمت حياً، فجاءهم فذهب بهم حتى أدخلهم على سليمان بن عبد الملك، فأمنهم سليمان وكتب إلى أخيه الوليد‏:‏ إن آل المهلب قد أمنتهم، وإنما بقي للحجاج عندهم ثلاثة آلاف ألف، وهي عندي‏.‏ فكتب إليه الوليد‏:‏ لا والله لا أؤمنه حتى تبعث به إلي‏.‏ فكتب إليه‏:‏ لا والله لا أبعثه حتى أجيء معه، فأنشدك الله يا أمير المؤمنين أن تفضحني أو تخفرني في جواري‏.‏ فكتب إليه‏:‏ لا والله لا تجيء معه وابعث به إلي في وثاق‏.‏ فقال يزيد‏:‏ ابعث بي إليه فما أحب أن أوقع بينك وبينه عداوة وحراباً، فابعثني إليه وابعث معي ابنك واكتب إليه بألطف عبارة تقدر عليها فبعثه وبعث معه ابنه أيوب، وقال لابنه‏:‏ إذا دخلت في الدهليز فادخل مع يزيد في السلسلة، وادخلا عليه كذلك‏.‏ فلما رأى الوليد ابن أخيه في السلسلة، قال‏:‏ والله لقد بلغنا من سليمان‏.‏ ودفع أيوب كتاب أبيه إلى عمه وقال‏:‏ يا أمير المؤمنين نفسي فداؤك لا تخفر ذمة أبي وأنت أحق من منعها، ولا تقطع منا رجاء من رجا السلامة في جوارنا لمكاننا منك، ولا تذل من رجا العز في الانقطاع إلينا لعزنا بك‏.‏ ثم قرأ الوليد كتاب سليمان بن عبد الملك فإذا فيه‏:‏ أما بعد يا أمير المؤمنين فوالله إن كنت لأظن لو استجار بي عدو قد نابذك وجاهدك فأنزلته وأجرته أنك لا تذل جواري ولا تخفره، بل لم أجر إلا سامعاً مطيعاً، حسن البلاء والأثر في الإسلام هو وأبوه وأهل بيته، وقد بعثت به إليك فإن كنت إنما تعد قطيعتي واخفار ذمتي والإبلاغ في مساءتي فقد قدرت إن أنت فعلت، وأنا أعيذك بالله من احتراد قطيعتي وانتهاك حرمتي، وترك برّي وإجابتي إلى ما سألتك، ووصلتي، فوالله يا أمير المؤمنين ما تدري ما بقائي وبقاؤك، ولا متى يفرق الموت بيني وبينك، فإن استطاع أمير المؤمنين أدام الله سروره أن لا يأتي أجل الوفاة علينا إلا وهو لي واصل ولحقي مؤدٍ، وعن مساءتي نازع فليفعل، ووالله يا أمير المؤمنين ما أصبحت بشيء من أمر الدنيا بعد تقوى الله بأسر مني برضاك وسرورك، ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/95‏)‏ وإن رضاك وسرورك أحب إلي من رضائي وسروري، ومما ألتمس به رضوان الله عز وجل لصلتي ما بيني وبينك، وإن كنت يا أمير المؤمنين يوماً من الدهر تريد صلتي وكرامتي وإعظام حقي فتجاوز لي عن يزيد، وكل ما طلبته به فهو عليّ‏.‏

فلما قرأ الوليد كتابه قال‏:‏ لقد أشفقنا على سليمان، ثم دعا ابن أخيه فأدناه منه، وتكلم يزيد بن المهلب فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله ثم قال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن بلاءكم عندنا أحسن البلاء، فمن ينسى ذلك فلسنا ننساه، ومن يكفره فلسنا بكافريه، وقد كان من بلائنا أهل البيت في طاعتكم والطعن في أعين أعدائكم في المواطن العظام في المشارق والمغارب، ما أن المنة فيه علينا عظيمة‏.‏ فقال له‏:‏ اجلس فجلس فأمنه وكف عنه ورده إلى سليمان، فكان عنده حسن الهيئة، ويصف له ألوان الأطعمة الشهية، وكان حظياً عنده لا يهدي إليه بهديه إلا أرسل له بنصفها، وتقرب يزيد بن المهلب إلى سليمان بأنواع الهدايا والتحف والتقادم، وكتب الوليد إلى الحجاج‏:‏ إني لم أصل إلى يزيد بن المهلب وأهل بيته مع أخي سليمان، فاكفف عنهم واله عن الكتاب إلي فيهم‏.‏ فكف الحجاج عن آل المهلب وترك ما كان يطالبهم به من الأموال، حتى ترك لأبي عيينة بن المهلب ألف ألف درهم، ولم يزل يزيد بن المهلب عند سليمان بن عبد الملك حتى هلك الحجاج في سنة خمس وتسعين، ثم ولي يزيد بلاد العراق بعد الحجاج كما أخبره الراهب‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 يتاذوق الطبيب

الحاذق، له مصنفات في فنه وكان حظياً عند الحجاج، مات في حدود سنة تسعين بواسط‏.‏

وفيها توفي ‏(‏عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة‏)‏ وأبو العالية الرياحي، وسنان بن سلمة بن المحبق أحد الشجعان المذكورين، أسلم يوم الفتح، وتولى غزو الهند، وطال عمره‏.‏

 وتوفي في هذه السنة محمد بن يوسف الثقفي أخو الحجاج، وكان أميراً على اليمن، وكان يلعن علياً على المنابر، قيل‏:‏ إنه أمر حجر المنذري أن يلعن علياً فقال‏:‏ بل لعن الله من يلعن علياً، ولعنة الله على من لعنه الله‏.‏ وقيل‏:‏ إنه وري في لعنه، فالله أعلم‏.‏

 خالد بن يزيد بن معاوية

أبو هاشم الأموي الدمشقي وكانت داره بدمشق تلي دار الحجاجرة، وكان عالماً شاعراً، وينسب إليه شيء من علم الكيمياء، وكان يعرف شيئاً من علوم الطبيعة، روى عن أبيه ودحية الكلبي وعنه الزهري وغيره‏.‏

قال الزهري‏:‏ كان خالد يصوم الأعياد كلها الجمعة والسبت والأحد - يعني يوم الجمعة وهو عيد المسلمين، ويوم السبت وهو عيد اليهود، والأحد للنصارى -

وقال أبو زرعة الدمشقي‏:‏ كان هو وأخوه معاوية من خيار القوم، وقد ذكر للخلافة بعد أخيه معاوية بن يزيد، وكان ولي العهد من بعد مروان فلم يلتئم له الأمر، وكان مروان زوج أمه، ومن كلامه‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/96‏)‏ أقرب شيء الأجل، وأبعد شيء الأمل، وأرجى شيء العمل، وقد امتدحه بعض الشعراء فقال‏:‏

سألت الندا والجود حران أنتما * فردا وقالا إننا لعبيد

فقلت ومن مولاكما فتطاولا * علي وقالا خالد بن يزيد

قال‏:‏ فأمر له بمائة ألف‏.‏ قلت‏:‏ وقد رأيتهما قد أنشدا في خالد بن الوليد رضي الله عنه‏.‏ فقال‏:‏ وقالا خالد بن وليد‏.‏ والله أعلم‏.‏

وخالد بن يزيد هذا كان أميراً على حمص، وهو الذي بنى جامع حمص وكان له فيه أربعمائة عبد يعملون، فلما فرغ منه أعتقهم‏.‏

وكان خالد يبغض الحجاج، وهو الذي أشار على عبد الملك لما تزوج الحجاج بنت جعفر أن يرسل إليه فيطلقها ففعل‏.‏ ولما مات مشى الوليد في جنازته وصلى عليه، وكان قد تجدد على خالد اصفرار وضعف، فسأله عبد الملك عن هذا فلم يخبره فما زال حتى أخبره أنه من حب رملة أخت مصعب بن الزبير فأرسل عبد الملك يخطبها لخالد فقالت‏:‏ حتى يطلق نساءه فطلقهن وتزوجها وأنشد فيها الشعر‏.‏

وكانت وفاته في هذا العام، وقيل في سنة أربع وثمانين وقد ذكر هناك، والصحيح الأول‏.‏

 عبد الله بن الزبير

ابن سليم الأسدي الشاعر أبو كثير، ويقال أبو، سعيد وهو مشهور، وفد على عبد الله بن الزبير فامتدحه فلم يعطه شيئاً، فقال‏:‏ لعن الله ناقة حملتني إليك فقال ابن الزبير إن وصاحبها، يقال‏:‏ إنه مات في زمن الحجاج‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى وتسعين

فيها غزا الصائفة مسلمة بن عبد الملك وابن أخيه عبد العزيز بن الوليد‏.‏

وفيها غزا مسلمة بلاد الترك حتى بلغ الباب من ناحية أذربيجان، ففتح مدائن وحصوناً كثيرةً أيضاً، وكان الوليد قد عزل عمه محمد بن مروان عن الجزيرة وأذربيجان وولاهما أخاه مسلمة بن عبد الملك‏.‏ وفها غزا موسى بن نصير بلاد المغرب ففتح مدناً كثيرة ودخل في تلك البلاد وولج فيها حتى دخل أراضي غابرةً قاصيةً فيها آثار قصور وبيوت ليس بها ساكن، ووجد هناك من آثار نعمة أهل تلك البلاد ما يلوح على سماتها أن أهلها كانوا أصحاب أموال ونعمة دارَّة سائغة، فبادوا جميعاً فلا مخبر بها‏.‏

وفيها مهد قتيبة بن مسلم بلاد الترك الذين كانوا قد نقضوا ما كانوا عاهدوه عليه من المصالحة، وذلك بعد قتال شديد وحرب يشيب لها الوليد، وذلك أن ملوكهم كانوا قد اتعدوا في العام الماضي في أول الربيع أن يجتمعوا ويقاتلوا قتيبة، وأن لا يولوا عن القتال حتى يخرجوا العرب من بلادهم فاجتمعوا اجتماعاً هائلاً لم يجتمعوا مثله في موقف، فكسرهم قتيبة وقتل منهم أمماً كثيرة ورد الأمور إلى ما كانت عليه، حتى ذكر أنه صلب منهم في بعض المواضع من جملة من أخذه منهم سماطين طولهما أربعة فراسخ من ههنا وههنا، عن يمينه وشماله صلب الرجل منهم بجنب الرجل، وهذا شيء كثير وقتل في الكفار قتلاً ذريعاً، ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/97‏)‏ ثم لا يزال يتتبع نيزك خان ملك الترك الأعظم، من إقليم إلى إقليم، ومن كورة إلى كورة، ومن رستاق إلى رستاق، ولم يزل ذلك دأبه ودأبه حتى حصره في قلعة هنالك شهرين متتابعين حتى نفد ما عند نيزك خان من الأطعمة، وأشرف هو ومن معه على الهلاك، فبعث إليه قتيبة من جاء به مستأمناً مذموماً مخذولاً، فسجنه عنده ثم كتب إلى الحجاج في أمره فجاء الكتاب بعد أربعين يوماً بقتله فجمع قتيبة الأمراء فاستشارهم فيه فاختلفوا عليه فقائل يقول‏:‏ اقتله‏.‏ وقائل يقول‏:‏ لا تقتله‏.‏ فقال له بعض الأمراء‏:‏ إنك أعطيت الله عهداً أنك إن ظفرت به لتقتلنه، وقد أمكنك الله منه، فقال قتيبة‏:‏ والله إن لم يبق من عمري إلا ما يسع ثلاث كلمات لقتلته، ثم قال‏:‏ اقتلوه اقتلوه اقتلوه، فقتل هو وسبعمائة من أصحابه من أمرائه في غداة واحدة وأخذ قتيبة من أموالهم وخيولهم وثيابهم وأبنائهم ونسائهم شيئاً كثيراً‏.‏

وفتح في هذا العام مدناً كثيرةً، وقرر ممالك كثيرةً وأخذ حصوناً كثيرةً مشحونةً بالأموال والنساء، ومن آنية الذهب والفضة شيئاً كثيراً، ثم سار قتيبة إلى الطالقان -- وهي مدينة كبيرة وبها حصون وأقاليم - فأخذها واستعمل عليها، ثم سار إلى الفارياب وبها مدن ورساتيق، فخرج إليه ملكها سامعاً مطيعاً، فاستعمل عليها رجلاً من أصحابه، ثم سار إلى الجوزجان فأخذها من ملكها واستعمل عليها، ثم أتى بلخ فدخلها وأقام بها نهاراً واحداً، ثم خرج منه وقصد نيزك خان ببغلان، وقد نزل نيزك خان معسكراً على فم الشعب الذي منه يدخل إلى بلاده، وفي فم الشعب قلعة عظيمة تسمى شمسية، لعلوها وارتفاعها واتساعها‏.‏ فقدم على قتيبة الرؤب خان ملك الرؤب وسمنجان، فاستأمنه على أن يدله على مدخل القلعة، فأمنه وبعث معه رجالاً إلى القلعة فأتوها ليلاً ففتحوها وقتلوا خلقاً من أهلها وهرب الباقي، ودخل قتيبة الشعب وأتى سمنجان - وهي مدينة كبيرة - فأقام بها وأرسل أخاه عبد الرحمن خلف ملك تلك المدن والبلاد نيزك خان في جيش هائل، فسار خلفه إلى بغلان فحصره بها، وأقام بحصاره شهرين حتى نفد ما عنده من الأقوات، فأرسل قتيبة من عنده ترجماناً يسمى الناصح فقال له‏:‏ اذهب فائتني بنيزك خان ولئن عدت إلي وليس هو معك ضربت عنقك‏.‏ وأرسل قتيبة معه هدايا وأطعمة فاخرة، فسار الترجمان إلى نيزك حتى أتاه وقدم إليه الأطعمة فوقع عليها أصحابه يتخاطفونها - وكانوا قد أجهدهم الجوع - ثم أعطاه الناصح الأمان وحلف له فقدم به على قتيبة ومعه سبعمائة أمير من أصحابه ومن أهل بيته جماعة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/98‏)‏ وكذلك استأمن قتيبة جماعة من الملوك فأمنهم وولى على بلادهم، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

قال الواقدي وغيره‏:‏ وحج بالناس في هذه السنة أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك، فلما قرب من المدينة أمر عمر بن عبد العزيز أشراف المدينة فتلقوه فرحب بهم وأحسن إليهم، ودخل المدينة النبوية فأخلى له المسجد النبوي، فلم يبق به أحد سوى سعيد بن المسيب لم يتجاسر أحد أن يخرجه، وإنما عليه ثياب لا تساوي خمسة دراهم، فقالوا له‏:‏ تنح عن المسجد أيها الشيخ فإن أمير المؤمنين قادم‏.‏

فقال‏:‏ والله لا أخرج منه فدخل الوليد المسجد فجعل يدور فيه يصلي ههنا وههنا ويدعو الله عز وجل، قال عمر بن عبد العزيز‏:‏ وجعلت أعدل به عن موضع سعيد خشية أن يراه، فحانت منه التفاتة فقال‏:‏ من هذا هو سعيد بن المسيب‏؟‏

فقلت‏:‏ نعم يا أمير المؤمنين ولو علم بأنك قادم لقام إليك وسلم عليك‏.‏

فقال‏:‏ قد علمت بغضه لنا‏.‏

فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين إنه وإنه وشرعت أثني عليه، وشرع الوليد يثني عليه بالعلم والدين‏.‏

فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين إنه ضعيف البصر - وإنما قلت ذلك لأعتذر له - فقال‏:‏ نحن أحق بالسعي إليه، فجاء فوقف عليه فسلم عليه فلم يقم له سعيد‏.‏

ثم قال الوليد‏:‏ كيف الشيخ‏؟‏

فقال‏:‏ بخير والحمد لله، كيف أمير المؤمنين‏؟‏

فقال الوليد‏:‏ بخير والحمد لله وحده، ثم انصرف وهو يقول لعمر بن عبد العزيز‏:‏ هذا فقيه الناس‏.‏

فقال‏:‏ أجل يا أمير المؤمنين‏.‏

قالوا‏:‏ ثم خطب الوليد على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس في الخطبة الأولى وانتصب في الثانية‏.‏

قال وقال‏:‏ هكذا خطب عثمان، ثم انصرف فصرف على الناس من أهل المدينة ذهباً كثيراً وفضةً كثيرةً، ثم كسا المسجد النبوي كسوةً من كسوة الكعبة التي معه، وهي من ديباج غليظ‏.‏

 وتوفي في هذه السنة  السائب بن يزيد بن سعد بن تمامة، وقد حج به أبوه مع رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ وكان عمر السائب سبع سنين، رواه البخاري فلهذا قال الواقدي‏:‏ إنه ولد سنة سنة ثلاث من الهجرة، وتوفي سنة إحدى وتسعين‏.‏ وقال غيره‏:‏ سنة ست وقيل ثمان وثمانين، فالله أعلم‏.‏

 سهل بن سعد الساعدي

صحابي مدني جليل توفي رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ وله من العمر خمس عشرة سنة، وكان ممن ختمه الحجاج في عنقه هو وأنس بن مالك وجابر بن عبد الله في يده، ليذلهم كيلا يسمع الناس من رأيهم، قال الواقدي‏:‏ توفي سنة إحدى وتسعين عن مائة سنة وهو آخر من مات في المدينة من الصحابة‏.‏ قال محمد بن سعد‏:‏ ليس في هذا خلاف، وقد قال البخاري وغيره‏:‏ توفي سنة ثمان وثمانين، فالله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة ثنتين وتسعين

فيها غزا مسلمة وابن أخيه عمر بن الوليد بلاد الروم ففتحا حصوناً كثيرةً وغنما شيئاً كثيراً وهربت منهم الروم إلى أقصى بلادهم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/99‏)‏

وفيها غزا طارق بن زياد مولى موسى بن نصير بلاد الأندلس في اثني عشر ألفاً، فخرج إليه ملكها أدرينوق في جحافلة وعليه تاجه ومعه سرير ملكه، فقاتله طارق فهزمه وغنم ما في معسكره، فكان من جملة ذلك السرير، وتملك بلاد الأندلس بكمالها، قال الذهبي‏:‏ كان طارق بن زياد أمير طنجة وهي أقصى بلاد المغرب، وكان نائباً لمولاه موسى بن نصير، فكتب إليه صاحب الجزيرة الخضراء يستنجد به على عدوه، فدخل طارق إلى جزيرة الأندلس من زقاق سبتة وانتهز الفرصة لكون الفرنج قد اقتتلوا فيما بينهم، وأمعن طارق في بلاد الأندلس فافتتح قرطبة وقتل ملكها أدرينوق، وكتب إلى موسى بن نصير بالفتح، فحسده موسى على الانفراد بهذا الفتح، وكتب إلى الوليد يبشره بالفتح وينسبه إلى نفسه، وكتب إلى طارق يتوعده لكونه دخل بغير أمره، ويأمره أن لا يتجاوز مكانه حتى يلحق به، ثم سار إليه مسرعاً بجيوشه فدخل الأندلس ومعه حبيب بن أبي عبيدة الفهري، فأقام سنين يفتح في بلاد الأندلس ويأخذ المدن والأموال، ويقتل الرجال ويأسر النساء والأطفال، فغنم شيئاً لا يحد ولا يوصف ولا يعد، من الجواهر واليواقيت والذهب والفضة، ومن آنية الذهب والفضة والأثاث والخيول والبغال وغير ذلك شيئاً كثيراً، وفتح من الأقاليم الكبار والمدن شيئاً كثيراً‏.‏

وكان مما فتح مسلمة وابن أخيه عمر بن الوليد من حصون بلاد الروم حصن سوسنة وبلغا إلى خليج القسطنطينية‏.‏

وفيها فتح قتيبة بن مسلم شومان وكش ونسف، وامتنع عليه أهل فرياب فأحرقها، وجهز أخاه عبد الرحمن إلى الصغد إلى طرخون خان ملك تلك البلاد، ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/100‏)‏ وفيها فتح قتيبة بن مسلم شومان وكش ونسف، وامتنع عليه أهل فرياب فأحرقها، وجهز أخاه عبد الرحمن إلى الصغد إلى طرخون خان ملك تلك البلاد، ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/100‏)‏ فصالحه عبد الرحمن وأعطاه طرخون خان أموالاً كثيرةً، وقدم على أخيه وهو ببخارى فرجع إلى مرو، ولما صالح طرخون عبد الرحمن ورجل عنه اجتمعت الصغد وقالوا لطرخون‏:‏ إنك قد بؤت بالذل، وأديت الجزية، وأنت شيخٌ كبيرٌ، فلا حاجة لنا فيك، ثم عزلوه وولوا عليهم غورك خان - أخا طرخون خان - ثم إنهم عصوا ونقضوا العهد، وكان من أمرهم ما سيأتي‏.‏

وفيها غزا قتيبة سجستان يريد رتبيل ملك الترك الأعظم، فلما انتهى إلى أول مملكة رتبيل تلقته رسله يريدون منه الصلح على أموالٍ عظيمةٍ، خيول ورقيق ونساء من بنات الملوك، يحمل ذلك إليه، فصالحه‏.‏

حج بالناس فيها عمر بن عبد العزيز نائب المدينة‏.‏

 وتوفي فيها من الأعيان‏:‏

 مالك بن أوس

بن الحدثان النضري، أبو سعيد المدني، مختلف في صحبته، قال بعضهم‏:‏ ركب الخيل في الجاهلية ورأى أبا بكر، وقال محمد بن سعد‏:‏ رأى رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ ولم يحفظ منه شيئاً، وأنكر ذلك ابن معين والبخاري وأبو حاتم، وقالوا‏:‏ لا تصح له صحبة، والله أعلم‏.‏

مات في هذه السنة وقيل في التي قبلها، فالله أعلم‏.‏

 طويس المغني

اسمه عيسى بن عبد الله أبو عبد المنعم المدني مولى بني مخزوم، كان بارعاً في صناعته وكان طويلاً مضطرباً أحول العين، وكان مشؤوماً لأنه ولد يوم مات رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏، وفطم يوم توفي الصديق، واحتلم يوم قتل عمر، وتزوج يوم قتل عثمانٌ، وولدٌ له يوم قتل الحسين بن علي، وقيل‏:‏ ولد له يوم قتل علي حكاه ابن خلكان وغيره‏.‏

وكانت وفاته في هذه السنة عن ثنتين وثمانين سنة بالسويد وهي على مرحلتين من المدينة‏.‏

 الأخطل

كان شاعراً مطبقاً فاق أقرانه في الشعر

ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين

وفيها افتتح مسلمة بن عبد الملك حصوناً كثيرةً من بلاد الروم منها حصن الحديد وغزالة وماسة وغير ذلك‏.‏

وفيها غزا العباس بن الوليد ففتح سمسطية‏.‏

وفيها غزا مروان بن الوليد الروم حتى بلغ حنجرة‏.‏

وفيها كتب خوارزم شاه إلى قتيبة يدعوه إلى الصلح وأن يعطيه من بلاده مدائن، وأن يدفع إليه أموالاً ورقيقاً كثيراً على أن يقاتل أخاه ويسلمه إليه، فإنه قد أفسد في الأرض وبغى على الناس وعسفهم، وكان أخوه هذا لا يسمع بشيء حسن عند أحد إلا بعث إليه فأخذه منه، سواء كان مالاً أو نساءً أو صبياناً أو دواب أو غيره، فأقبل قتيبة نصره الله في الجيوش فسلم إليه خوارزم شاه ما صالحه عليه، وبعث قتيبة إلى بلاد أخي خوارزم شاه جيشاً فقتلوا منهم خلقاً كثيراً وأسروا أخاه ومعه أربعة آلاف أسير من كبارهم فدفع أخاه إليه، وأمر قتيبة بالأسارى فضربت أعناقهم بحضرته، قيل‏:‏ ألفاً بين يديه، وألفاً عن يمينه، وألفاً عن شماله، وألفا من وراء ظهره، ليرهب بذلك الأعداء من الأتراك وغيرهم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/101‏)‏

 فتح سمرقند

وذلك أن قتيبة لما فرغ من هذا كله وعزم على الرجوع إلى بلاده، قال له بعض الأمراء‏:‏ إن أهل الصغد قد أمنوك عامك هذا، فإن رأيت أن تعدل إليهم وهم لا يشعرون، فإنك متى فعلت ذلك أخذتها إن كنت تريدها يوماً من الدهر، فقال قتيبة لذلك الأمير‏:‏ هل قلت هذا لأحد‏؟‏ قال‏:‏ لا، قال‏:‏ فلأن يسمعه منك أحدٌ أضرب عنقك‏.‏ ثم بعث قتيبة أخاه عبد الرحمن بن مسلم بين يديه في عشرين ألفاً فسبقه إلى سمرقند، ولحقه قتيبة في بقية الجيش، فلما سمعت الأتراك بقدومهم إليهم انتخبوا من ينهم كل شديد السطوة من أبناء الملوك والأمراء، وأمروهم أن يسيروا إلى قتيبة في الليل فيكبسوا جيش المسلمين، وجاءت الأخبار إلى قتيبة بذلك فجرد أخاه صالح في ستمائة فارس من الأبطال الذين لا يطاقون، وقال‏:‏ خذوا عليهم الطريق فساروا فوقفوا لهم في أثناء الطريق وتفرقوا ثلاث فرق، فلما اجتازوا بهم بالليل - وهم لا يشعرون بهم - نادوا عليهم فاقتتل المسلمون هم وإياهم، فلم يفلت من أولئك الأتراك إلا النفر اليسير واحتزوا رؤوسهم وغنموا ما كان معهم من الأسلحة المحلاة بالذهب، والأمتعة، وقال لهم بعض أولئك‏:‏ تعلمون أنكم لم تقتلوا في مقامكم هذا إلا ابن ملك أو بطل من الأبطال المعدودين بمائة فارس أو بألف فارس، فنفلهم قتيبة جميع ما غنموه منهم من ذهب وسلاح، واقترب من المدينة العظمى التي بالصغد - وهي سمرقند - فنصب عليها المجانيق فرماها بها وهو مع ذلك يقاتلهم لا يقلع عنهم، وناصحه من معه عليها من بخارى وخوارزم، فقاتلوا أهل الصغد قتالاً شديداً، فأرسل إليه غورك ملك الصغد‏:‏ إنما تقاتلني بإخواني وأهل بيتي، فأخرج إليَّ في العرب‏.‏ فغضب عند ذلك قتيبة وميز العرب من العجم وأمر العجم باعتزالهم، وقدم الشجعان من العرب وأعطاهم جيد السلاح، وانتزعه من أيدي الجبناء، وزحف بالأبطال على المدينة ورماها بالمجانيق، فثلم فيها ثلمة فسدها الترك بغرار الدخن، وقام رجل منهم فوقها فجعل يشتم قتيبة فرماه رجل من المسلمين بسهم فقلع عينه حتى خرجت من قفاه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/ 102‏)‏ فلم يلبث أن مات قبحه الله فأعطى قتيبة الذي رماه عشرة آلاف، ثم دخل الليل، فلما أصبحوا رماهم بالمجانيق فثلم أيضاً ثلمة وصعد المسلمون فوقها، وتراموا هم وأهل البلد بالنشاب، فقالت الترك لقتيبة‏:‏ ارجع عنا يومك هذا ونحن نصالحك غداً، فرجع عنهم وصالحوه من الغد على ألفي ألفٍ ومائة ألفٍ يحملونها إليه في كل عام، وعلى أن يعطوه في هذه السنة ثلاثين ألف رأس من الرقيق ليس فيهم صغيرٌ ولا شيخٌ ولا عيبٌ، وفي روايةٍ مائة ألفٍ من رقيقٍ، وعلى أن يأخذ حلية الأصنام وما في بيوت النيران، وعلى أن يخلوا المدينة من المقاتلة حتى يبني فيها قتيبة مسجداً، ويوضع له فيه منبر يخطب عليه، ويتغدى ويخرج‏.‏ فأجابوه إلى ذلك، فلما دخلها قتيبة دخلها ومعه أربعة آلاف من الأبطال - وذلك بعد أن بنى المسجد ووضع فيه المنبر - فصلى في المسجد وخطب وتغدى وأتى بالأصنام التي لهم فسلبت بين يديه، وألقيت بعضها فوق بعضٍ، حتى صارت كالقصر العظيم، ثم أمر بتحريقها فتصارخوا وتباكوا، وقال المجوس‏:‏ إن فيها أصناماً قديمةً من أحرقها هلك، وجاء الملك غورك فنهى عن ذلك، وقال لقتيبة‏:‏ إني لك ناصح، فقام قتيبة وأخذ في يده شعلة نار، وقال‏:‏ أنا أحرقها بيدي فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون، ثم قام إليها وهو يكبر الله عز وجل، وألقى فيها النار فاحترقت، فوجد من بقايا ما كان فيها من الذهب خمسون ألف مثقال من ذهبٍ‏.‏ وكان من جملة ما أصاب قتيبة في السبي جارية من ولد يزدجرد، فأهداها إلى الوليد، فولدت له يزيد بن الوليد، ثم استدعى قتيبة بأهل سمرقند، فقال لهم‏:‏ إني لا أريد منكم أكثر مما صالحتكم عليه، ولكن لا بد من جند يقيمون عندكم من جهتنا‏.‏ فانتقل عنها ملكها غورك خان فتلا قتيبة‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى‏}‏ الآيات ‏[‏النجم‏:‏ 50-51‏]‏ ثم ارتحل عنها قتيبة إلى بلاد مرو، واستخلف على سمرقند أخاه عبد الله بن مسلم، وقال له‏:‏ لا تدع مشركاً يدخل باب سمرقند إلا مختوم اليد، ثم لا تدعه بها إلا مقدار ما تجف طينة ختمه، فإن جفت وهو بها فاقتله، ومن رأيت منهم ومعه حديدة أو سكينة فاقتله بها، وإذا أغلقت الباب فوجدت بها أحداً فاقتله، فقال في ذلك كعب الأشقري - ويقال هي لرجل من جعفي -‏:‏

كل يوم يحوي قتيبة نهبا * ويزيد الأموال مالاً جديدا ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/103‏)‏

باهليٌّ قد ألبس التاج حتى * شاب منه مفارق كن سودا

دوخ الصغد بالكتائب حتى * ترك الصغد بالعراء قعودا

فوليد يبكي لفقد أبيه * وأب موجع يبكي الوليدا

كلما حل بلدة أو أتاها * تركت خيله بها أخدودا

وفي هذه السنة عزل موسى بن نصير نائب بلاد المغرب مولاه طارقاً عن الأندلس، وكان قد بعثه إلى مدينة طليلطة ففتحها، فوجد فيها مائدة سليمان بن داود عليهما السلام، وفيها من الذهب والجواهر شيءٌ كثيرٌ جداً، فبعثوا بها إلى الوليد بن عبد الملك فما وصلت إليه حتى مات، وتولى أخوه سليمان بن عبد الملك، فوصلت مائدة سليمان عليه السلام إلى سليمان على ما سيأتي بيانه في موضعه، وكان فيها ما يبهر العقول لم ير منظرٌ أحسن منها، واستعمل موسى بن نصير مكان مولاه ولده عبد العزيز بن موسى بن نصير‏.‏

وفيها بعث موسى بن نصير العساكر وبثها في بلاد المغرب، فافتتحوا مدناً كثيرةً من جزيرة الأندلس منها قرطبة وطنجة، ثم سار موسى بنفسه إلى غرب الأندلس فافتتح مدينة باجة والمدينة البيضاء وغيرهما من المدن الكبار والأقاليم، ومن القرى والرساتيق شيء كثير، وكان لا يأتي مدينة فيبرح عنها حتى فتحها أو ينزلوا على حكمه، وجهز البعوث والسرايا غرباً وشرقاً وشمالاً، فجعلوا يفتتحون المغرب بلداً بلداً، وإقليماً إقليماً، ويغنمون الأموال ويسبون الذراري والنساء، ورجع موسى بن نصير بغنائم وأموال وتحف لا تحصى ولا تعد كثرة‏.‏

وفيها قحط أهل إفريقية وأجدبوا جدباً شديداً، فخرج بهم موسى بن نصير يستسقي بهم، فمازال يدعو حتى انتصف النهار، فلما أراد أن ينزل عن المنبر قيل له‏:‏ ألا تدعوا لأمير المؤمنين‏؟‏ قال‏:‏ ليس هذا الموضع موضع ذاك، فلما قال هذه المقالة أرسل الله عليهم الغيث فأمطروا مطراً غزيراً وحسن حالهم، وأخصبت بلادهم‏.‏

وفيها ضرب عمر بن عبد العزيز خبيب بن عبد الله بن الزبير خمسين سوطاً بأمر الوليد له في ذلك، وصب فوق رأسه قربة من ماءٍ باردٍ في يوم شتاءٍ باردٍ، وأقامه على باب المسجد يوم ذلك فمات رحمه الله‏.‏ وكان عمر بن عبد العزيز بعد موت خبيب شديد الخوف لا يأمن، وكان إذا بشر بشيء من أمر الآخرة يقول‏:‏ وكيف وخبيب لي بالطريق‏؟‏ وفي رواية يقول هذا إذا لم يكن خبيب في الطريق، ثم يصيح صياح المرأة الثكلى، وكان إذا أثني عليه يقول‏:‏ خبيب وما خبيب إن نجوت منه فأنا بخير‏.‏ وما زال على المدينة إلى أن ضرب خبيباً فمات فاستقال وركبه الحزن والخوف من حينئذ، وأخذ في الاجتهاد في العبادة والبكاء، وكانت تلك هفوة منه وزلة، ولكن حصل له بسببها خير كثير، من عبادة وبكاء وحزن وخوف وإحسان وعدل وصدقة وبر وعتق وغير ذلك‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/104‏)‏

وفيها افتتح محمد بن القاسم - وهو ابن عم الحجاج بن يوسف - مدينة الدبيل وغيرها من بلاد الهند، وكان قد ولاه الحجاج عزو الهند وعمره سبع عشرة سنة، فسار في الجيوش فلقوا الملك داهر وهو ملك الهند في جمع عظيم ومعه سبع وعشرون فيلاً منتخبةً، فاقتتلوا فهزمهم الله، وهرب الملك داهر، فلما كان الليل أقبل الملك ومعه خلقٌ كثيرٌ جداً، فاقتتلوا قتالاً شديداً فقتل الملك داهر وغالب من معه، وتبع المسلمون من انهزم من الهنود فقتلوه، ثم سار محمد بن القاسم فافتتح مدينة الكبرج وبرها، ورجع بغنائم كثيرة وأموال لا تحصى كثرة من الجواهر والذهب وغير ذلك‏.‏ فكانت سوق الجهاد قائمة في بني أمية ليس لهم شغل إلا ذلك، قد علت كلمة الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، وبرها وبحرها، وقد أذلوا الكفر وأهله وامتلأت قلوب المشركين من المسلمين رعباً، لا يتوجه المسلمون إلى قطر من الأقطار إلا أخذوه، وكان في عساكرهم وجيوشهم في الغزو الصالحون والأولياء والعلماء من كبار التابعين، في كل جيش منهم شرذمة عظيمة ينصر الله بهم دينه‏.‏ فقتيبة بن مسلم يفتح في بلاد الترك يقتل ويسبي ويغنم حتى وصل إلى تخوم الصين، وأرسل إلى ملكه يدعوه فخاف منه، وأرسل له هداياً وتحفاً وأموالاً كثيرةً هديةً، وبعث يستعطفه مع قوته وكثرة جنده بحيث أن ملوك تلك النواحي كلها تؤدي إليه الخراج خوفاً منه ولو عاش الحجاج لما أقلع عن بلاد الصين، ولم يبق إلا أن يلتقي مع ملكها، فلما مات الحجاج رجع الجيش كما مر‏.‏

ثم إن قتيبة قتل بعد ذلك، قتله بعض المسلمين‏.‏

ومسلمة بن عبد الملك بن مروان وابن أمير المؤمنين الوليد وأخوه الآخر يفتحون في بلاد الروم ويجاهدون بعساكر الشام حتى وصلوا إلى القسطنطينية، وبنى بها مسلمة جامعاً يعبد الله فيه وامتلأت قلوب الفرنج منهم رعباً‏.‏

ومحمد بن القاسم ابن أخي الحجاج يجاهد في بلاد الهند ويفتح مدنها في طائفة من جيش العراق وغيرهم‏.‏

وموسى بن نضير يجاهد في بلاد العرب ويفتح مدنها وأقاليمها في جيوش الديار المصرية وغيرها، وكل هذه النواحي إنما دخل أهلها في الإسلام وتركوا عبادة الأوثان‏.‏ وقبل ذلك قد كان الصحابة في زمن عمر وعثمان فتحوا غالب هذه النواحي ودخلوا في مبانيها بعد هذه الأقاليم الكبار مثل الشام ومصر والعراق واليمن وأوائل بلاد الترك، ودخلوا إلى ما وراء النهر وأوائل بلاد المغرب، وأوائل بلاد الهند‏.‏ فكان سوق الجهاد قائماً في القرن الأول من بعد الهجرة إلى انقضاء دولة بني أمية وفي أثناء خلافة بني العباس مثل أيام المنصور وأولاده، والرشيد وأولاده في بلاد الروم والترك والهند‏.‏ وقد فتح محمود سبكتكين وولده في أيام ملكهم بلاداً كثيرةً من بلاد الهند، ولما دخل طائفة ممن هرب من بني أمية إلى بلاد المغرب وتملكوها أقاموا سوق الجهاد في الفرنج بها‏.‏ ثم لما بطل الجهاد من هذه المواضع رجع العدو إليها فأخذ منها بلاداً كثيرةً، وضعف الإسلام فيها، ثم لما استولت دولة الفاطميين على الديار المصرية والشامية، وضعف الإسلام وقل ناصروه، وجاء الفرنج فاخذوا غالب بلاد الشام حتى أخذوا بيت المقدس وغيره من البلاد الشامية، فأقام الله سبحانه بني أيوب مع نور الدين، فاستلبوها من أيديهم وطردوهم عنه، فلله الحمد والمنة وسيأتي ذلك كله في مواضعه إن شاء الله تعالى‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/ 105‏)‏

وفيها عزل الوليد عمر بن عبد العزيز عن إمرة المدينة، وكان سبب ذلك، أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى الوليد يخبره عن أهل العراق أنهم في ضيم وضيق مع الحجاج من ظلمه وغشمه، فسمع بذلك الحجاج فكتب إلى الوليد‏:‏ إن عمر ضعيفٌ عن إمرة المدينة ومكة، وهذا وهن وضعف في الولاية، فاجعل على الحرمين من يضبط أمرهما‏.‏ فولي على المدينة عثمان بن حيان، وعلى مكة خالد بن عبد الله القسري، وفعل ما أمره به الحجاج‏.‏ فخرج عمر بن عبد العزيز من المدينة في شوال فنزل السويداء وقدم عثمان بن حيان المدينة لليلتين بقيتا من شوال من هذه السنة‏.‏

وحج بالناس فيها عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك‏.‏

وممن توفي في هذه السنة من الأعيان‏:‏

 أنس بن مالك ابن النضر بن ضمضم

بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، أبو حمزة ويقال أبو ثمامة الأنصاري النجاري، خادم رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ وصاحبه، وأمه أم حرام مليكة بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام، زوجة أبي طلحة زيد بن سهل الأنصاري‏.‏

روى عن رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ أحاديث جمة، وأخبر بعلوم مهمة، وروى عن أبي بكر وعمر وعثمان وابن مسعود وغيرهم‏.‏

وحدث عنه خلق من التابعين، قال أنس‏:‏ قدم رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ المدينة وأنا ابن عشر سنين، وتوفي وأنا ابن عشرين سنة، وقال محمد بن عبد الله الأنصاري، عن أبيه، عن ثمامة، قال‏:‏ قيل لأنس أشهدت بدراً‏؟‏ فقال‏:‏ وأين أغيب عن بدر لا أم لك‏؟‏ قال الأنصاري‏:‏ شهدها يخدم رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏‏.‏ قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي‏:‏ لم يذكر ذلك أحد من أصحاب المغازي، قلت‏:‏ الظاهر أنه إنما شهد ما بعد ذلك من المغازي، والله أعلم‏.‏

وقد ثبت أن أمه أتت به - وفي رواية عمه زوج أمه أبو طلحة إلى رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ فقالت‏:‏ يا رسول الله هذا أنس خادم لبيب يخدمك، فوهبته منه فقبله، وسألته أن يدعو له فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم أكثر ماله وولده وأدخله الجنة‏)‏‏)‏‏.‏ وثبت عنه أنه قال‏:‏ كنَّاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بنخلة كنت أجتنيها‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/106‏)‏

وقد استعمله أبو بكر ثم عمر على عمالة البحرين وشكراه في ذلك، وقد انتقل بعد النبي ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ فسكن البصرة، وكان له بها أربع دور، وقد ناله أذى من جهة الحجاج، وذلك في فتنة ابن الأشعث، توهم الججاج منه أنه له مداخلة في الأمر، وأنه أفتى فيه، فختمه الحجاج في عنقه، هذا عنق الحجاج، وقد شكاه أنس كما قدمنا إلى عبد الملك، فكتب إلى الحجاج يعنفه، ففزع الحجاج من ذلك وصالح أنساً‏.‏

وقد وفد أنس على الوليد بن عبد الملك في أيام ولايته، قيل‏:‏ في سنة ثنتين وتسعين، وهو يبني جامع دمشق، قال مكحول‏:‏ رأيت أنساً يمشي في مسجد دمشق، فقمت إليه فسألته عن الوضوء من الجنازة، فقال‏:‏ لا وضوء‏.‏

وقال الأوزاعي‏:‏ حدثني إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر، قال‏:‏ قدم أنس على الوليد فقال له الوليد‏:‏ ماذا سمعت من رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ يذكر به الساعة‏؟‏ فقال‏:‏ سمعت رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏أنتم والساعة كهاتين‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه عبد الرزاق بن عمر، عن إسماعيل قال‏:‏ قدم أنس على الوليد في سنة ثنتين وتسعين، فذكره‏.‏

وقال الزهري‏:‏ دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي فقلت‏:‏ ما يبكيك‏؟‏ قال‏:‏ لا أعرف مما كان رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ وأصحابه إلا هذه الصلاة، وقد صنعتم فيها ما صنعتم‏.‏ وفي رواية‏:‏ وهذه الصلاة قد ضيعت - يعني ما كان يفعله خلفاء بني أمية من تأخير الصلاة إلى آخر وقتها الموسع - كانوا يواظبون على التأخير إلا عمر بن عبد العزيز في أيام خلافته كما سيأتي‏.‏

وقال عبد بن حميد، عن عبد الرزاق، عن جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أنس‏.‏ قال‏:‏ جاءت بي أمي إلى رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ وأنا غلام، فقالت‏:‏ يا رسول خويدمك أنيس فادع الله له‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم أكثر ماله وولده وأدخله الجنة‏)‏‏)‏‏.‏ قال‏:‏ فقد رأيت اثنتين وأنا أرجو الثالثة، وفي رواية قال أنس‏:‏ فوالله إن مالي لكثير حتى نخلي وكرمي ليثمر في السنة مرتين، وإن ولدي وولد ولدي ليتعادون على نحو المائة، وفي رواية‏:‏ وإن ولدي لصلبي مائة وستة‏.‏ ولهذا الحديث طرق كثيرة وألفاظ منتشرة جداً، وفي رواية قال أنس‏:‏ وأخبرتني بنتي آمنة أنه دفن لصلبي إلى حين مقدم الحجاج عشرون ومائة، وقد تقصى ذلك بطرقه وأسانيده وأورد ألفاظه الحافظ ابن عساكر في ترجمة أنس، وقد أوردنا طرفاً من ذلك في كتاب دلائل النبوة في أواخر السيرة ولله الحمد‏.‏

وقال ثابت لأنس‏:‏ هل مست يدك كف رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ نعم ‏!‏ قال‏:‏ فأعطنيها أقبلها‏.‏

وقال محمد بن سعد، عن مسلم بن إبراهيم، عن المثنى بن سعيد الذراع، قال‏:‏ سمعت أنس بن مالك، يقول‏:‏ ما من ليلة إلا وأنا أرى فيها حبيبي رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ ثم يبكي‏.‏

وقال محمد بن سعد، عن أبي نعيم، عن يونس بن أبي إسحاق، عن المنهال بن عمرو، قال‏:‏ كان أنس صاحب نعل رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ وإداوته‏.‏

وقال أبو داود‏:‏ ثنا الحكم بن عطية، عن ثابت، عن أنس‏.‏ قال‏:‏ إني لأرجو أن ألقي رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ فأقول‏:‏ يا رسول الله خويدمك‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/107‏)‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يونس، ثنا حرب بن ميمون، عن النضر بن أنس، عن أنس، قال‏:‏ سألت رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ أن يشفع لي يوم القيامة‏:‏ ‏(‏‏(‏قال أنا فاعل، قلت‏:‏ فأين أطلبك يوم القيامة يا نبي الله‏؟‏ قال‏:‏ اطلبني أول ما تطلبني على الصراط، قلت‏:‏ فإذا لم ألقك‏؟‏ قال فأنا عند الميزان، قلت‏:‏ فإن لم ألقك عند الميزان‏؟‏ قال‏:‏ فأنا عند الحوض لا أخطئ هذه الثلاثة المواطن يوم القيامة‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه الترمذي وغيره من حديث حرب بن ميمون أبي الخطاب صاحب الأعمش الأنصاري به وقال‏:‏ حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه‏.‏

وقال شعبة، عن ثابت، قال‏:‏ قال أبو هريرة‏:‏ ما رأيت أحداً أشبه صلاة برسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ من ابن أم سليم - يعني أنس بن مالك -

وقال ابن سيرين‏:‏ كان أحسن الناس صلاة في الحضر والسفر‏.‏

وقال أنس‏:‏ خذ مني فأنا أخذت من رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ عن الله عز وجل، ولست تجد أوثق مني‏.‏

وقال معتمر بن سليمان، عن أبيه، سمعت أنساً يقول‏:‏ ما بقي أحدٌ صلى إلى القبلتين غيري‏.‏

وقال محمد بن سعد‏:‏ حدثنا عفان، حدثني شيخ لنا يكنى أبا جناب، سمعت الحريري، يقول‏:‏ أحرم أنس من ذات عرق فما سمعناه متكلماً إلا بذكر الله عز وجل حتى أحل، فقال لي‏:‏ يا ابن أخي هكذا الإحرام‏.‏

وقال صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف‏:‏ دخل علينا أنس يوم الجمعة ونحن في بعض أبيات أزواج النبي ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ نتحدث فقال‏:‏ مه، فلما أقيمت الصلاة قال‏:‏ إني لأخاف أن أكون قد أبطلت جمعتي بقولي لكم‏:‏ مه‏.‏

وقال ابن أبي الدنيا‏:‏ ثنا بشار بن موسى الخفاف، ثنا جعفر بن سليمان، عن ثابت، قال‏:‏ كنت مع أنس فجاءت قهرمانة فقالت‏:‏ يا أبا حمزة عطشت أرضنا، قال‏:‏ فقام أنس فتوضأ وخرج إلى البرية فصلى ركعتين ثم دعا فرأيت السحاب يلتئم ثم أمطرت حتى خيِّل إلينا أنها ملأت كل شيء، فلما سكن المطر بعث أنس بعض أهله فقال‏:‏ انظر أين بلغت السماء، فنظر فلم تعد أرضه إلا يسيراً‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا معاذ بن معاذ، ثنا ابن عون، عن محمد، قال‏:‏ كان أنس إذا حدث عن رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ حديثاً ففرغ منه قال‏:‏ أو كما قال رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏‏.‏

وقال الأنصاري، عن ابن عوف، عن محمد، قال‏:‏ بعث أمير من الأمراء إلى أنس شيئاً من الفيء فقال‏:‏ أخمس‏؟‏ قال‏:‏ لا، فلم يقبله‏.‏

وقال النضر بن شداد، عن أبيه‏:‏ مرض أنس، فقيل له‏:‏ ألا ندعو لك الطبيب‏؟‏ فقال‏:‏ الطبيب أمرضني‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/108‏)‏

وقال حنبل بن إسحاق‏:‏ ثنا أبو عبد الله الرقاشي، ثنا جعفر بن سليمان، ثنا علي بن يزيد، قال‏:‏ كنت في القصر مع الحجاج وهو يعرض الناس ليالي ابن الأشعث، فجاء أنس بن مالك، فقال الحجاج‏:‏ هي يا خبيث جوال في الفتن، مرة مع علي، ومرة مع ابن الزبير، ومرة مع ابن الأشعث، أما والذي نفس الحجاج بيده لأستأصلنك كما تستأصل الصمغة، ولأجردنك كما تجرد الضـب‏.‏ قال‏:‏ يقول أنس إياي يعني الأمير‏؟‏ قال‏:‏ إياك أعني، أصم الله سمعك، قال‏:‏ فاسترجع أنس، وشغل الحجاج، فخرج أنس فتبعناه إلى الرحبة، فقال‏:‏ لولا أني ذكرت ولدي - وفي رواية لولا أني ذكرت أولادي الصغار - وخفته عليهم ما باليت أي قتل أقتل، ولكلمته بكلام في مقامي هذا لا يتسخفني بعده أبداً‏.‏

وقد ذكر أبو بكر بن عياش‏:‏ أن أنساً بعث إلى عبد الملك يشكو إليه الحجاج ويقول‏:‏ والله لو أن اليهود والنصارى رأوا من خدم نبيهم لأكرموه، وأنا قد خدمت رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ عشر سنين‏.‏

كتب عبد الملك إلى الحجاج كتاباً فيه كلام جد وفيه‏:‏ إذا جاءك كتابي هذا فقم إلى أبي حمزة فترضّاه، وقبل يده ورجله، وإلا حل بك مني ما تستحقه‏.‏

فلما جاء كتاب عبد الملك إلى الحجاج بالغلظة والشدة، همَّ أن ينهض إليه فأشار عليه إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر، الذي قدم بالكتاب أن لا يذهب إلى أنس، وأشار على أنس أن يبادر إلى الحجاج بالمصالحة - وكان إسماعيل صديق الحجاج - فجاء أنس فقام إليه الحجاج يتلقاه، وقال‏:‏ إنما مثلي ومثلك إياك أعني واسمعي يا جارة‏.‏ أردت أن لا يبقى لأحد علي منطق‏.‏

وقال ابن قتيبة‏:‏ كتب عبد الملك إلى الحجاج - لما قال لأنس ما قال -‏:‏ يا ابن المستقرمة بعجم الزبيب لقد هممت أن أركلك ركلة تهوي بها إلى نار جهنم، قاتلك الله أخيفش العينين، أفيتل الرجلين، أسود العاجزين - ومعنى قوله المستقرمة عجم الزبيب - أي‏:‏ تضيق فرجها عند الجماع به، ومعنى أركلك أي‏:‏ أرفسك برجلي، وسيأتي بسط ذلك في ترجمة الحجاج في سنة خمس وتسعين‏.‏

وقال أحمد بن صالح العجلي‏:‏ لم يبتل أحد من الصحابة إلا رجلين، معيقيب كان به الجذام، وأنس بن مالك كان به وضح‏.‏

وقال الحميدي، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي جعفر، قال‏:‏ رأيت أنساً يأكل فرأيته يلقم لقماً عظاماً، رأيت به وضحاً شديداً‏.‏

وقال أبو يعلى‏:‏ ثنا عبد الله بن معاذ بن يزيد، عن أيوب، قال‏:‏ ضعف أنس عن الصوم فصنع طعاماً ودعا ثلاثين مسكيناً فأطعمهم‏.‏ وذكره البخاري تعليقاً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/109‏)‏

وقال شعبة، عن موسى السنبلاوي، قلت لأنس‏:‏ أنت آخر من بقي من أصحاب رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ قد بقي قوم من الأعراب، فأما من أصحابه فأنا آخر من بقي‏.‏

وقيل له في مرضه‏:‏ ألا ندعو لك طبيباً‏؟‏ فقال‏:‏ الطبيب أمرضني، وجعل يقول‏:‏ لقِّنوني لا إله إلا الله وهو محتضر، فلم يزل يقولها حتى قبض‏.‏

وكانت عنده عصية من رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ فأمر بها فدفنت معه‏.‏

قال عمر بن شبة وغير واحد‏:‏ مات وله مائة وسبع سنين‏.‏

وقال الإمام أحمد في مسنده‏:‏ ثنا معتمر بن سليمان، عن حميد‏:‏ أن أنساً عمّر مائة سنة غير سنة‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وهو آخر من مات من الصحابة بالبصرة، وكذا قال علي بن المديني والفلاس وغير واحد‏.‏

وقد اختلف المؤرخون في سنة وفاته، فقيل‏:‏ سنة تسعين، وقيل‏:‏ إحدى وتسعين، وقيل‏:‏ ثنتين وتسعين، وقيل‏:‏ ثلاث وتسعين، وهذا هو المشهور وعليه الجمهور، والله أعلم‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثني أبو نعيم، قال‏:‏ توفي أنس بن مالك وجابر بن زيد في جمعة واحدة، سنة ثلاث وتسعين‏.‏

وقال قتادة‏:‏ لما مات أنس قال مؤرق العجلي‏:‏ ذهب اليوم نصف العلم، قيل له‏:‏ وكيف ذاك يا أبا المعتمر‏؟‏ قال‏:‏ كان الرجل من أهل الأهواء إذا خالفونا في الحديث عن رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ قلنا‏:‏ لهم تعالوا إلى من سمعه منه‏.‏