فصل: فصل في السرايا التي كانت في سنة ست من الهجرة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 سياق البخاري لعمرة الحديبية

قال في كتاب ‏(‏المغازي‏)‏‏:‏ حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا سفيان، سمعت الزهري حين حدث هذا الحديث حفظت بعضه، وثبتني معمر، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم يزيد أحدهما على صاحبه، قالا‏:‏

خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه، فلما أتى ذا الحليفة قلد الهدي، وأشعره وأحرم منها بعمرة، وبعث عيناً له من خزاعة، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بغدير الأشطاط أتاه عينه قال‏:‏ إن قريشاً قد جمعوا لك جموعاً، وقد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت ومانعوك‏.‏

فقال‏:‏ أشيروا أيها الناس عليَّ أترون أن أميل إلى عيالهم، وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت، فإن يأتونا كان الله قد قطع عيناً من المشركين، وإلا تركنا لهم محروبين‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 198‏)‏

قال أبو بكر‏:‏ يا رسول الله خرجت عامداً لهذا البيت لا تريد قتل أحد ولا حرب أحد، فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏امضوا على اسم الله‏)‏‏)‏ هكذا رواه ها هنا، ووقف ولم يزد شيئاً على هذا‏.‏

وقال في كتاب ‏(‏الشهادات‏)‏‏:‏ حدثني عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، أخبرني الزهري، أخبرني عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه، قالا‏:‏

خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين‏)‏‏)‏‏.‏

فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش، فانطلق يركض نذيراً لقريش، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي هبط عليهم منها، بركت به راحلته فقال الناس‏:‏ حل حل، فألحت‏.‏

فقالوا‏:‏ خلأت القصواء، خلأت القصواء‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها‏)‏‏)‏‏.‏

ثم زجرها فوثبت، فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتبرضه الناس تبرضاً، فلم يلبثه الناس حتى نزحوه، وشكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهماً من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه‏.‏

فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة - وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة - فقال‏:‏ إني تركت كعب بن لؤي، وعامر بن لؤي، نزلوا أعداد مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت‏.‏

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكن جئنا معتمرين، وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا، وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ولينفذن أمر الله‏)‏‏)‏‏.‏

قال بديل‏:‏ سأبلغهم ما تقول، فانطلق حتى أتى قريشاً فقال‏:‏ إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل، وسمعناه يقول قولاً فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 199‏)‏

فقال سفهاؤهم‏:‏ لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء‏.‏

وقال ذوو الرأي منهم‏:‏ هات ما سمعته يقول‏.‏

قال‏:‏ سمعته يقول كذا وكذا، فحدثهم بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام عروة بن مسعود فقال‏:‏ أي قوم ألست بالوالد ‏؟‏

قالوا‏:‏ بلى‏.‏

قال‏:‏ أولستم بالولد ‏؟‏

قالوا‏:‏ بلى‏.‏

قال‏:‏ فهل تتهموني ‏؟‏

قالوا‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ، فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني ‏؟‏

قالوا‏:‏ بلى‏.‏

قال‏:‏ فإن هذا قد عرض لكم خطة رشد اقبلوها ودعوني آتيه‏.‏

فقالوا‏:‏ ائته‏.‏

فأتاه فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحواً من قوله لبديل‏.‏

فقال عروة عند ذلك‏:‏ أي محمد أرأيت إن استأصلت أمر قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك‏؟‏ وإن تكن الأخرى فإني والله لا أرى وجوهاً، وإني لأرى أشواباً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك‏.‏

فقال له أبو بكر‏:‏ امصص بظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه ‏؟‏

قال‏:‏ من ذا ‏؟‏

قالوا‏:‏ أبو بكر‏.‏

قال‏:‏ أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك‏.‏

قال‏:‏ وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فكلما تكلم أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ضرب يده بنعل السيف وقال له‏:‏ أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فرفع عروة رأسه فقال‏:‏ من هذا ‏؟‏

قالوا‏:‏ المغيرة بن شعبة‏.‏

فقال‏:‏ أي غدر، ألست أسعى في غدرتك ‏؟‏

وكان المغيرة بن شعبة صحب قوماً في الجاهلية، فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم‏.‏

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء‏)‏‏)‏‏.‏

ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينيه‏.‏

قال‏:‏ فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له‏.‏

فرجع عروة إلى أصحابه فقال‏:‏ أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، وفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً‏.‏

والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه تعظيماً له، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها‏.‏

فقال رجل من بني كنانة‏:‏ دعوني آتيه‏.‏

فقالوا‏:‏ ائته‏.‏

فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له‏)‏‏)‏‏.‏

فبعثت له واستقبله الناس يلبون، فلما رأى ذلك قال‏:‏ سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، فلما رجع إلى أصحابه قال‏:‏ رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت‏.‏

فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص فقال‏:‏ دعونى آتيه‏.‏

قالوا‏:‏ ائته، فلما أشرف عليهم، فلما أشرف عليهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏هذا مكرز وهو رجل فاجر‏)‏‏)‏‏.‏

فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو‏.‏

قال معمر‏:‏ فأخبرني أيوب عن عكرمة‏:‏ أنه لما جاء سهيل بن عمرو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لقد سهل لكم من أمركم‏)‏‏)‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 200‏)‏

قال معمر‏:‏ قال الزهري في حديثه‏:‏ فجاء سهيل فقال‏:‏ هات فاكتب بيننا وبينكم كتاباً‏.‏

فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏اكتب بسم الله الرحمن الرحيم‏)‏‏)‏‏.‏

فقال سهيل‏:‏ أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب‏.‏

فقال المسلمون‏:‏ والله لا نكتبها إلا باسم الله الرحمن الرحيم‏.‏

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏اكتب باسمك اللهم‏)‏‏)‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله‏)‏‏)‏‏.‏

فقال سهيل‏:‏ والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب محمد بن عبد الله‏)‏‏)‏‏.‏

قال الزهري‏:‏ وذلك لقوله‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها‏)‏‏)‏‏.‏

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به‏)‏‏)‏‏.‏

قال سهيل‏:‏ والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة، ولكن ذلك من العام المقبل‏.‏ فكتب‏.‏

فقال سهيل‏:‏ وعلى أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا‏.‏

قال المسلمون‏:‏ سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً ‏؟‏

فبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين‏.‏

فقال سهيل‏:‏ هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي‏.‏

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إنا لم نقض الكتاب بعد‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فوالله إذاً لم أصالحك على شيء أبداً‏.‏

قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏فأجزه لي‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ما أنا بمجيزه لك‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏بلى فافعل‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ما أنا بفاعل‏.‏

قال مكرز‏:‏ بلى قد أجزناه لك‏.‏

قال أبو جندل‏:‏ أي معشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلماً، ألا ترون ما قد لقيت - وكان قد عذب عذاباً شديداً في الله -

فقال عمر رضي الله عنه‏:‏ فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ ألست نبي الله حقاً‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏بلى‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏بلى‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ فلم نعطي الدنية في ديننا إذن ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العام ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فإنك آتيه ومطوف به‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فأتيت أبا بكر فقلت‏:‏ يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقاً ‏؟‏

قال‏:‏ بلى‏.‏

قلت‏:‏ ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ‏؟‏

قال‏:‏ بلى‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ فلم نعطي الدنية في ديننا إذن ‏؟‏

قال‏:‏ أيها الرجل إنه لرسول الله وليس يعصي ربه وهو ناصره، فاستمسك بغرزه، فوالله إنه على الحق‏.‏

قلت‏:‏ أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ‏؟‏

قال‏:‏ بلى، أفأخبرك أنك تأتيه العام ‏؟‏

فقلت‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فإنك آتيه ومطوف به‏.‏

قال الزهري‏:‏ قال عمر‏:‏ فعملت لذلك أعمالاً‏.‏

قال‏:‏ فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه‏:‏ ‏(‏‏(‏قوموا فانحروا ثم احلقوا‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس‏.‏

فقالت أم سلمة‏:‏ يا نبي الله أتحب ذلك‏؟‏ اخرج ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك‏:‏ نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 201‏)‏

ثم جاءه نسوة مؤمنات فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ‏}‏ حتى بلغ ‏{‏بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 10‏]‏‏.‏

فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك، فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان، والأخرى صفوان بن أمية‏.‏

ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا‏:‏ العهد الذي جعلت لنا، فدفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلون من تمر لهم‏.‏

فقال أبو بصير لأحد الرجلين‏:‏ والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيداً، فاستله الآخر فقال‏:‏ أجل والله إنه لجيد، لقد جربت به ثم جربت‏.‏

فقال أبو بصير‏:‏ أرني أنظر إليه، فأمكنه منه فضربه به حتى برد، وفر الآخر حتى أتى المدينة، فدخل المسجد يعدو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه‏:‏ ‏(‏‏(‏لقد رأى هذا ذعراً‏)‏‏)‏ فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ قتل والله صاحبي وإني لمقتول‏.‏

فجاء أبو بصير فقال‏:‏ يا نبي الله، قد والله أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم، ثم أنجاني الله منهم‏.‏

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد‏)‏‏)‏‏.‏

فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر‏.‏

قال‏:‏ وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل بن عمرو فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة، فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها، فقتلوهم وأخذوا أموالهم‏.‏

فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده بالله والرحم لما أرسل إليهم، فمن أتاه فهو أمن، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ‏}‏ حتى بلغ ‏{‏الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 26‏]‏‏.‏

وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله، ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم، وحالوا بينهم وبين البيت‏.‏

فهذا سياق فيه زيادات وفوائد حسنة ليست في رواية ابن إسحاق عن الزهري‏.‏

فقد رواه عن الزهري عن جماعة منهم‏:‏ سفيان بن عيينة، ومعمر، ومحمد بن إسحاق، كلهم عن الزهري، عن عروة، عن مروان ومسور، فذكر القصة‏.‏

وقد رواه البخاري في أول كتاب الشروط عن يحيى بن بكير، عن الليث بن سعد، عن عقيل، عن الزهري، عن عروة، عن مروان بن الحكم، والمسور بن مخرمة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر القصة‏.‏

وهذا هو الأشبه فإن مروان ومسوراً كانا صغيرين يوم الحديبية، والظاهر أنهما أخذاه عن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا الحسن بن إسحاق، حدثنا محمد بن سابق، حدثنا مالك بن مغول، سمعت أبا حصين قال‏:‏ قال أبو وائل‏:‏ لما قدم سهيل بن حنيف من صفين أتيناه نستخبره فقال‏:‏

اتهموا الرأي، فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره لرددت، والله ورسوله أعلم، وما وضعنا أسيافنا عن عواتقنا لأمر يقطعنا إلا أسهلن بنا إلى أمر نعرفه قبل هذا الأمر، ما نسد منها خصماً إلا انفجر علينا خصم، ما ندري كيف نأتي له‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 202‏)‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن زيد بن أسلم، عن أبيه‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره، وكان عمر بن الخطاب يسير معه ليلاً، فسأله عمر بن الخطاب عن شيء فلم يجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سأله فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه‏.‏

فقال عمر بن الخطاب‏:‏ ثكلتك أمك يا عمر نزرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك‏.‏

قال عمر‏:‏ فحركت بعيري، ثم تقدمت أمام المسلمين وخشيت أن ينزل فيَّ قرآن، فما نشبت أن سمعت صارخاً يصرخ بي‏.‏

قال‏:‏ فقلت‏:‏ لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قرأ‏:‏ ‏{‏إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً‏}‏‏.‏

قلت‏:‏ وقد تكلمنا على سورة الفتح بكمالها في كتابنا التفسير بما فيه الكفاية، ولله الحمد والمنة، ومن أحب أن يكتب ذلك هنا فليفعل‏.‏

 فصل في السرايا التي كانت في سنة ست من الهجرة

وتلخيص ذلك ما أورده الحافظ البيهقي، عن الواقدي‏:‏

في ربيع الأول منها أو الآخر بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عكاشة بن محصن في أربعين رجلاً إلى الغمر، وفيهم ثابت بن أقرن وسباع بن وهب، فأغذا السير ونذر القوم بهم، فهربوا منه ونزل على مياههم، وبعث في آثارهم وأخذ منهم مائتي بعير فاستاقها إلى المدينة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 203‏)‏

وفيها كان بعث أبي عبيدة بن الجراح إلى ذي القصة بأربعين رجلاً أيضاً، فساروا إليهم مشاة، حتى أتوها في عماية الصبح، فهربوا منه في رؤوس الجبال، فأسر منهم رجلاً فقدم به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعثه محمد بن مسلمة في عشرة نفر، وكمن القوم لهم حتى باتوا، فما شعروا إلا بالقوم فقتل أصحاب محمد بن مسلمة كلهم، وأفلت هو جريحاً‏.‏

وفيها كان بعث زيد بن حارثة بالحموم، فأصاب امرأة من مزينة يقال لها حليمة، فدلتهم على محلة من محال بني سليم، فأصابوا منها نعماً وشاءً وأسروا من المشركين، وكان فيهم زوج حليمة هذه، فوهبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لزوجها وأطلقهما‏.‏

وفيها كان بعث زيد بن حارثة أيضاً في جمادى الأولى إلى بني ثعلبة في خمسة عشر رجلاً، فهربت منه الأعراب فأصاب من نعمهم عشرين بعيراً، ثم رجع بعد أربع ليال‏.‏

وفيها خرج زيد بن حارثة في جمادى الأولى إلى العيص‏.‏

قال‏:‏ وفيها أخذت الأموال التي كانت مع أبي العاص بن الربيع فاستجار بزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجارته‏.‏

وقد ذكر ابن إسحاق قصته حين أخذت العير التي كانت معه، وقتل أصحابه وفر هو من بينهم حتى قدم المدينة، وكانت امرأته زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد هاجرت بعد بدر، فلما جاء المدينة استجار بها فأجارته بعد صلاة الصبح، فأجاره لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر الناس برد ما أخذوا من عيره فردوا كل شيء كانوا أخذوه منه حتى لم يفقد منه شيئاً‏.‏

فلما رجع بها إلى مكة وأدى إلى أهلها ما كان لهم معه من الودائع أسلم، وخرج من مكة راجعاً إلى المدينة، فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجته بالنكاح الأول، ولم يحدث نكاحاً ولا عقداً كما تقدم بيان ذلك‏.‏

وكان بين إسلامه وهجرتها ست سنين، وقد بينا أنه لا منافاة بين الروايتين، وأن إسلامه تأخر عن وقت تحريم المؤمنات على الكفار بسنتين، وكان إسلامه في سنة ثمان في سنة الفتح، لا كما تقدم في كلام الواقدي من أنه سنة ست، فالله أعلم‏.‏

وذكر الواقدي في هذه السنة أن دحية بن خليفة الكلبي أقبل من عند قيصر قد أجازه بأموال وخلع، فلما كان بحسمى لقيه ناس من جذام فقطعوا عليه الطريق فلم يتركوا معه شيئاً، فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة أيضاً رضي الله عنه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 204‏)‏

قال الواقدي‏:‏ حدثني عبد الله بن جعفر، عن يعقوب بن عتبة قال‏:‏ خرج علي رضي الله عنه في مائة رجل إلى أن نزل إلى حي من بني أسد بن بكر، وذلك أنه بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لهم جمعاً يريدون أن يمدوا يهود خيبر، فسار إليهم بالليل وكمن بالنهار، وأصاب عيناً لهم فأقر له أنه بعث إلى خيبر يعرض عليهم على أن يجعلوا لهم تمر خيبر‏.‏

قال الواقدي رحمه الله تعالى‏:‏ وفي سنة ست في شعبان كانت سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إن هم أطاعوا فتزوج بنت ملكهم‏)‏‏)‏ فأسلم القوم وتزوج عبد الرحمن بنت ملكهم تماضر بنت الأصبع الكلبية، وهي أم أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف‏.‏

قال الواقدي‏:‏ في شوال سنة ست كانت سرية كرز بن جابر الفهري إلى العرنيين الذين قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستاقوا النعم، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم كرز بن جابر في عشرين فارساً، فردوهم وكان من أمرهم ما أخرجه البخاري ومسلم‏:‏ من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك‏:‏

أن رهطاً من عكل وعرينة - وفي رواية‏:‏ من عكل أو عرينة - أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ يا رسول الله أنا أناس أهل ضرع ولم نكن أهل ريف، فاستوخمنا المدينة، فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذود وراع وأمرهم أن يخرجوا فيه، فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فانطلقوا حتى إذا كانوا بناحية الحرة، قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستاقوا الذود، وكفرو بعد إسلامهم‏.‏

فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلبهم فأمر بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمَّر أعينهم، وتركهم في الحَّرة حتى ماتوا وهم كذلك‏.‏

قال قتادة‏:‏ فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب بعد ذلك حض على الصدقة، ونهى عن المثلة‏.‏

وهذا الحديث قد رواه جماعة عن قتادة‏.‏

ورواه جماعة عن أنس بن مالك‏.‏

وفي رواية مسلم‏:‏ عن معاوية بن قرة، عن أنس‏:‏ أن نفراً من عرينة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا وبايعوه، وقد وقع في المدينة الموم - وهو البرسام - فقالوا‏:‏ هذا الموم قد وقع يا رسول الله، لو أذنت لنا فرجعنا إلى الإبل‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 205‏)‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم فاخرجوا فكونوا فيها‏)‏‏)‏ فخرجوا فقتلوا الراعيين، وذهبوا بالإبل، وعنده سار من الأنصار قريب عشرين، فأرسلهم إليهم وبعث معهم قائفاً يقتص أثرهم، فأتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمَّر أعينهم‏.‏

وفي صحيح البخاري‏:‏ من طريق أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس أنه قال‏:‏ قدم رهط من عكل فأسلموا واجتووا المدينة، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏الحقوا بالإبل واشربوا من أبوالها وألبانها‏)‏‏)‏‏.‏

فذهبوا وكانوا فيها ما شاء الله، فقتلوا الراعي واستاقوا الإبل، فجاء الصريخ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم ترتفع الشمس حتى أتى بهم، فأمر بمسامير فأحميت فكواهم بها، وقطع أيديهم وأرجلهم، وألقاهم في الحرة يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا ولم يحمهم‏.‏

وفي رواية عن أنس قال‏:‏ فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه من العطش‏.‏

قال أبو قلابة‏:‏ فهؤلاء قتلوا، وسرقوا، وكفروا بعد إيمانهم، وحاربوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقد روى البيهقي‏:‏ من طريق عثمان بن أبي شيبة، عن عبد الرحمن بن سليمان، عن محمد بن عبيد الله، عن أبي الزبير، عن جابر‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث في آثارهم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم عمِ عليهم الطريق واجعلها عليهم أضيق من مسك جمل‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فعمَّى الله عليهم السبيل فأدركوا، فأتي بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمَّل أعينهم‏.‏

وفي صحيح مسلم‏:‏ إنما سملهم لأنهم سملوا أعين الرعاء‏.‏

 فصل فيما وقع من الحوادث في هذه السنة

أعني سنة ست من الهجرة، فيها نزل فرض الحج كما قرره الشافعي رحمه الله، زمن الحديبية في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏ ولهذا ذهب إلى أن الحج على التراخي لا على الفور، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يحج إلا في سنة عشر‏.‏

وخالفه الثلاثة‏:‏ مالك، وأبو حنيفة، وأحمد، فعندهم أن الحج يجب على كل من استطاعه على الفور، ومنعوا أن يكون الوجوب مستفاداً من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأتموا الحج والعمرة لله‏}‏ وإنما في هذه الآية الأمر بالإتمام بعد الشروع فقط، واستدلوا بأدلة قد أوردنا كثيراً منها عند تفسير هذه الآية من كتابنا التفسير، ولله الحمد والمنة، بما فيه الكفاية‏.‏

وفي هذه السنة حُرِّمت المسلمات على المشركين تخصيصاً لعموم ما وقع به الصلح عام الحديبية، على أنه لا يأتيك منا أحد، وإن كان على دينك إلا رددته علينا، فنزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ‏[‏الممتحنة‏:‏ 10‏]‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 206‏)‏

وفي هذه السنة كانت غزوة المريسيع، التي كان فيها قصة الإفك ونزول براءة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، كما تقدم‏.‏

وفيها كانت عمرة الحجيبية، وما كان من صد المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف وقع الصلح بينهم على وضع الحرب بينهم عشر سنين، فأمن الناس فيهن بعضهم بعضاً، وعلى أنه لا إغلال ولا إسلال، وقد تقدم كل ذلك مبسوطاً في أماكنه، ولله الحمد والمنة‏.‏

وولي الحج في هذه السنة المشركون‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وفيها في ذي الحجة منها‏:‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة نفر، مصطحبين حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب الإسكندرية، وشجاع بن وهب بن أسد بن جذيمة، شهد بدراً، إلى الحارث بن أبي شمر الغساني يعني‏:‏ ملك عرب النصارى‏.‏

ودحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر، وهو هرقل ملك الروم، وعبد الله بن حذافة السهمي، إلى كسرى ملك الفرس، وسليط بن عمرو العامري، إلى هوذة بن علي الحنفي، وعمرو بن أمية الضمري، إلى النجاشي ملك النصارى بالحبشة وهو أصحمة بن الحر‏.‏

 سنة سبع من الهجرة غزوة خيبر في أولها

قال شعبة‏:‏ عن الحاكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى في قوله‏:‏ ‏{‏وأثابهم فتحاً قريباً‏}‏ قال‏:‏ خيبر‏.‏

وقال موسى بن عقبة‏:‏ لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية مكث عشرين يوماً أو قريباً من ذلك، ثم خرج إلى خيبر، وهي التي وعده الله إياها‏.‏

وحكى موسى عن الزهري أن افتتاح خيبر في سنة ست، والصحيح أن ذلك في أول سنة سبع كما قدمنا‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة حين رجع من الحديبية، ذا الحجة، وبعض المحرم، ثم خرج في بقية المحرم إلى خيبر‏.‏

وقال يونس بن بكير‏:‏ عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عروة، عن مروان والمسور قالا‏:‏ انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، فنزلت عليه سورة الفتح بين مكة والمدينة، فقدم المدينة في ذي الحجة، فأقام بها حتى سار إلى خيبر‏.‏

فنزل بالرجيع - واد بين خيبر وغطفان - فتخوف أن تمدهم غطفان فبات به حتى أصبح، فغدا عليهم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 207‏)‏

قال البيهقي‏:‏ وبمعناه رواه الواقدي عن شيوخه في خروجه أول سنة سبع من الهجرة‏.‏

وقال عبد الله بن إدريس عن ابن إسحاق‏:‏ حدثني عبد الله بن أبي بكر قال‏:‏ لما كان افتتاح خيبر في عقيب المحرم، وقدم النبي صلى الله عليه وسلم في آخر صفر‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ واستعمل على المدينة نميلة بن عبد الله الليثي‏.‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عفان، حدثنا وهيب، حدثنا حسيم يعني‏:‏ ابن عراك، عن أبيه، أن أبا هريرة قدم المدينة في رهط من قومه، والنبي صلى الله عليه وسلم في خيبر، وقد استخلف سباع بن عرفطة، يعني‏:‏ الغطفاني، على المدينة‏.‏

قال‏:‏ فانتهيت إليه، وهو يقرأ في صلاة الصبح في الركعة الأولى‏:‏ ‏{‏كهيعص‏}‏ وفي الثانية‏:‏ ‏{‏ويل للمطففين‏}‏ فقلت في نفسي‏:‏ ويل لفلان إذا اكتال اكتال بالوافي، وإذا كال كال بالناقص‏.‏

قال‏:‏ فلما صلى رددنا شيئاً حتى أتينا خيبر، وقد افتتح النبي صلى الله عليه وسلم خيبر‏.‏

قال‏:‏ فكلم المسلمين، فأشركونا في سهامهم‏.‏

وقد رواه البيهقي من حديث سليمان بن حرب، عن وهيب، عن خيثم بن عراك، عن أبيه، عن نفر من بني غفار، قال‏:‏ إن أبا هريرة قدم المدينة، فذكره‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من المدينة إلى خيبر سلك على عصر، وبنى له فيها مسجداً، ثم على الصهباء‏.‏

ثم أقبل بجيشه حتى نزل به بواد يقال له‏:‏ الرجيع، فنزل بينهم وبين غطفان ليحول بينهم وبين أن يمدوا أهل خيبر، وكانوا لهم مظاهرين على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فبلغني أن غطفان لما سمعوا بذلك جمعوا، ثم خرجوا ليظاهروا اليهود عليه، حتى إذا ساروا منقلة، خلفهم في أموالهم وأهليهم حساً، ظنوا أن القوم قد خالفوا إليهم، فرجعوا على أعقابهم، فأقاموا في أموالهم وأهليهم، وخلوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين خيبر‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن بشير أن سويد بن النعمان أخبره أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر، حتى إذا كانوا بالصهباء - وهي من أدنى خيبر - صلى العصر ثم دعا بالأزواد، فلم يؤتَ إلا بالسويق، فأمر به فثرى، فأكل وأكلنا، ثم قام إلى المغرب، فمضمض ثم صلى ولم يتوضأ‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 208‏)‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة بن الأكوع قال‏:‏ خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، فسرنا ليلاً، فقال رجل من القوم لعامر‏:‏ يا عامر لا تسمعنا من هنيهاتك - وكان عامر رجلاً شاعراً - فنزل يحدو بالقوم يقول‏:‏

لا هُم لولا أنت ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا

فاغفر فداء لك ما أبقينا * وألقين سكينة علينا

وثبت الأقدام إن لاقينا * إنا إذا صيح بنا أبينا

وبالصياح عولوا علينا

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏من هذا السائق ‏؟‏‏)‏‏)‏ قالوا‏:‏ عامر بن الأكوع‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏يرحمه الله‏)‏‏)‏ فقال رجل من القوم‏:‏ وجبت يا نبي الله، لولا أمتعتنا به‏.‏

فأتينا خيبر فناصرناهم حتى أصابتنا مخمصة شديدة، ثم إن الله فتحها عليهم، فلما أمسى الناس مساء اليوم الذي فتحت عليهم، أوقدوا نيراناً كثيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ما هذه النيران على أي شيء توقدون ‏؟‏‏)‏‏)‏

قالوا‏:‏ على لحم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏على أي لحم ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ لحم الحمر الأنسية‏.‏

قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏اهريقوها واكسروها‏)‏‏)‏ فقال رجل‏:‏ يا رسول الله أونهريقها ونغسلها‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أو ذاك‏)‏‏)‏‏.‏

فلما تصاف الناس كان سيف عامر قصيراً، فتناول به ساق يهودي ليضربه، فيرجع ذباب سيفه فأصاب عين ركبة عامر فمات منه‏.‏

فلما قفلوا قال سلمة‏:‏ رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيدي، قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما لك ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ فداك أبي وأمي، زعموا أن عامراً حبط عمله‏.‏

قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏كذب من قاله، إن له لأجرين - وجمع بين إصبعيه - إنه لجاهد مجاهد، قل عربي مشى بها مثله‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه مسلم من حديث حاتم بن إسماعيل، وغيره، عن يزيد بن أبي عبيد مثله‏.‏

ويكون منصوباً على الحالية من نكرة، وهو سائغ، إذا دلت على تصحيح معنى، كما جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏‏(‏فصلى وراءه رجل قياماً‏)‏‏)‏‏.‏

وقد روى ابن إسحاق قصة عامر بن الأكوع من وجه آخر فقال‏:‏ حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن أبي الهيثم بن نصر بن دهر الأسلمي، أن أباه حدثه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في مسيره إلى خيبر لعامر بن الأكوع، وهو عم سلمة بن عمرو بن الأكوع‏:‏ ‏(‏‏(‏انزل يا ابن الأكوع فخذ لنا من هناتك‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ فنزل يرتجز لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

والله لو الله ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا

إنا إذا قوم بغوا علينا * وإن أرادوا فتنة أبينا

فأنزلن سكينة علينا * وثبت الأقدام إن لاقينا

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏يرحمك ربك‏)‏‏)‏ فقال عمر بن الخطاب‏:‏ وجبت يا رسول الله لو أمتعتنا به‏.‏ فقتل يوم خيبر شهيداً‏.‏

ثم ذكر صفة قتله كنحو ما ذكره البخاري‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني من لا أتهم، عن عطاء بن أبي مروان الأسلمي، عن أبيه، عن أبي معتب بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أشرف على خيبر قال لأصحابه وأنا فيهم‏:‏ ‏(‏‏(‏قفوا‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم رب السموات وما أظللن، ورب الأرضين وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما أذرين، فإنا نسألك خير هذه القرية، وخير أهلها، وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرها، وشر أهلها، وشر ما فيها اقدموا بسم الله‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا حديث غريب جداً من هذا الوجه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 209‏)‏

وقد رواه الحافظ البيهقي‏:‏ عن الحاكم، عن الأصم، عن العطاردي، عن يونس بن بكير، عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، عن صالح بن كيسان، عن أبي مروان الأسلمي، عن أبيه، عن جده قال‏:‏

خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، حتى إذا كنا قريباً وأشرفنا عليها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس‏:‏ ‏(‏‏(‏قفوا‏)‏‏)‏ فوقف الناس‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم رب السموات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، فإنا نسألك خير هذه القرية، وخير أهلها، وخير ما فيها، ونعوذ بك من شر هذه القرية، وشر أهلها، وشر ما فيها، اقدموا بسم الله الرحمن الرحيم‏)‏‏)‏‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني من لا أتهم، عن أنس بن مالك قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا قوماً لم يغر عليهم حتى يصبح، فإن سمع أذاناً أمسك، وإن لم يسمع أذاناً أغار، فنزلنا خيبر ليلاً فبات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح لم يسمع أذاناً‏.‏

فركب وركبنا معه، وركبت خلف أبي طلحة، وإن قدمي لتمس قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستقبلنا عمال خيبر غادين قد خرجوا بمساحيهم ومكاتلهم، فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والجيش، قالوا‏:‏ محمد والخميس معه، فأدبروا هراباً‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين‏)‏‏)‏‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ حدثنا هارون عن حميد عن أنس بمثله‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا مالك، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك، أن رسول الله أتى خيبر ليلاً، وكان إذا أتى قوماً بليل لم يغر بهم حتى يصبح، فلما أصبح خرجت اليهود بمساحيهم ومكاتلهم، فلما رأوه قالوا‏:‏ محمد والله محمد والخميس‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين‏)‏‏)‏‏.‏

تفرد به دون مسلم‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا صدقة بن الفضل، حدثنا أبو عيينة، حدثنا أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أنس بن مالك قال‏:‏ صبحنا خيبر بكرة، فخرج أهلها بالمساحي، فلما أبصروا بالنبي صلى الله عليه وسلم قالوا‏:‏ محمد والله، محمد والخميس ‏!‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فأصبنا من لحوم الحمر، فنادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر، فإنها رجس‏.‏ تفرد به البخاري دون مسلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 210‏)‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن قتادة، عن أنس قال‏:‏ لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم خيبر، فوجدهم حين خرجوا إلى زرعهم ومساحيهم، فلما رأوه ومعه الجيش نكصوا فرجعوا إلى حصنهم‏.‏

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين‏)‏‏)‏‏.‏

تفرد به أحمد، وهو على شرط الصحيحين‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس بن مالك قال‏:‏ صلى النبي صلى الله عليه وسلم الصبح قريب من خيبر بغلس، ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين‏)‏‏)‏‏.‏

فخرجوا يسعون بالسكك، فقتل النبي صلى الله عليه وسلم المقاتلة، وسبى الذرية، وكان في السبي صفية، فصارت إلى دحية الكلبي، ثم صارت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل عتقها صداقها‏.‏

قال عبد العزيز بن صهيب لثابت‏:‏ يا أبا محمد أأنت قلت لأنس ما أصدقها، فحرك ثابت رأسه تصديقاً له‏.‏

تفرد به دون مسلم‏.‏

وقد أورد البخاري ومسلم النهي عن لحوم الحمر الأهلية من طرق تذكر في كتاب ‏(‏الأحكام‏)‏‏.‏

وقد قال الحافظ البيهقي‏:‏ أنبأنا أبو طاهر الفقيه، أنبأنا حاجب بن أحمد الطوسي، حدثنا محمد بن حميد الأبيوردي، حدثنا محمد بن الفضل، عن مسلم الأعور الملائي، عن أنس بن مالك قال‏:‏

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود المريض، ويتبع الجنائز، ويجيب دعوة الملوك، ويركب الحمار، وكان يوم بني قريظة والنضير على حمار، ويوم خيبر على حمار مخطوم برسن ليف، وتحته أكاف من ليف‏.‏

وقد روى هذا الحديث بتمامه الترمذي، عن علي بن حجر، عن علي بن مسهر، وابن ماجه، عن محمد بن الصباح، عن سفيان، وعن عمر بن رافع، عن جرير، كلهم عن مسلم وهو ابن كيسان الملائي الأعور الكوفي، عن أنس به‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ لا نعرفه إلا من حديثه، وهو يضعف‏.‏

قلت‏:‏ والذي ثبت في الصحيح عند البخاري عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجرى في رفاق خيبر، حتى انحسر الإزار عن فخذه، فالظاهر أنه كان يومئذ على فرس لا على حمار‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 211‏)‏

ولعل هذا الحديث إن كان صحيحاً محمول على أنه ركبه في بعض الأيام وهو محاصرها، والله أعلم‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا محمد بن سعيد الخزاعي، حدثنا زياد بن الربيع، عن أبي عمران الجوني قال‏:‏ نظر أنس إلى الناس يوم الجمعة، فرأى طيالسة فقال كأنهم الساعة يهود خيبر‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا حاتم، عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة بن الأكوع قال‏:‏ كان علي بن أبي طالب تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيبر، وكان رمداً، فقال‏:‏ أنا أتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فلحق به‏.‏

فلما بتنا الليلة التي فتحت خيبر، قال‏:‏ لأعطين الراية غداً، أو ليأخذن الراية غداً رجل يحبه الله ورسوله، يفتح عليه، فنحن نرجوها‏.‏

فقيل‏:‏ هذا علي فأعطاه، ففتح عليه‏.‏

وروى البخاري أيضاً، ومسلم، عن قتيبة، عن حاتم به‏.‏

ثم قال البخاري‏:‏ حدثنا قتيبة، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبي حازم قال‏:‏ أخبرني سهل بن سعد‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر‏:‏ ‏(‏‏(‏لأعطين هذه الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها، فلما أصبح الناس غدوا على النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أين علي بن أبي طالب ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقالوا‏:‏ هو يا رسول الله، يشتكي عينيه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فأرسل إليه‏)‏‏)‏ فأتى، فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه، ودعا له فبرأ، حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية‏.‏

فقال علي‏:‏ يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا‏؟‏

فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏انفذ على رسلك، حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه مسلم، والنسائي جميعاً، عن قتيبة به‏.‏

وفي صحيح مسلم، والبيهقي من حديث سهيل ابن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله عليه‏)‏‏)‏‏.‏

قال عمر‏:‏ فما أحببت الإمارة إلا يومئذ، فدعا علياً، فبعثه، ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اذهب فقاتل حتى يفتح الله عليك، ولا تلتفت‏)‏‏)‏‏.‏

قال علي‏:‏ على ما أقاتل الناس‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منا دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله‏)‏‏)‏ لفظ البخاري‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا مصعب بن المقدام، وجحش بن المثنى، قالا‏:‏ حدثنا إسرائيل، حدثنا عبد الله بن عصمة العجلي، سمعت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يقول‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الراية فهزها، ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من يأخذها بحقها ‏؟‏‏)‏‏)‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 212‏)‏

فجاء فلان فقال‏:‏ أنا، قال‏:‏ ‏(‏‏(‏امض‏)‏‏)‏‏.‏

ثم جاء رجل آخر فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏امض‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏والذي كرم وجه محمد لأعطينها رجلاً لا يفر‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏هاك يا علي‏)‏‏)‏ فانطلق حتى فتح الله عليه خيبر، وفدك، وجاء بعجوتها وقديدها‏.‏

تفرد به أحمد، وإسناده لا بأس به، وفيه غرابة، وعبد الله بن عصمة، ويقال ابن أعصم، وهكذا يكنى بأبي علوان العجلي، وأصله من اليمامة سكن الكوفة، وقد وثقه ابن معين‏.‏

وقال أبو زرعة‏:‏ لا بأس به‏.‏

وقال أبو حاتم‏:‏ شيخ‏.‏

وذكره ابن حبان في الثقات، وقال‏:‏ يخطئ كثيراً، وذكره في الضعفاء، وقال‏:‏ يحدث عن الإثبات مما لا يشبه حديث الثقات، حتى يسبق إلى القلب أنها موهومة أو موضوعة‏.‏

وقال يونس بن بكير‏:‏ عن محمد بن إسحاق، حدثني بريدة بن سفيان بن فروة الأسلمي، عن أبيه، عن سلمة بن عمرو بن الأكوع رضي الله عنه قال‏:‏ بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه إلى بعض حصون خيبر فقاتل، ثم رجع ولم يكن فتح، وقد جهد‏.‏

ثم بعث عمر رضي الله عنه فقاتل، ثم رجع ولم يكن فتح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لأعطين الراية غداً رجلاً يحبه الله ورسوله، ويحب الله ورسوله، يفتح الله على يديه، وليس بفرَّار‏)‏‏)‏‏.‏

قال سلمة‏:‏ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو يومئذ أرمد، فتفل في عينيه، ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏خذ الراية وامض بها حتى يفتح الله عليك‏)‏‏)‏‏.‏

فخرج بها، والله يصول، يهرول هرولة، وأنا لخلفه نتبع أثره حتى ركز رايته في رضم من حجارة تحت الحصن، فاطلع يهودي من رأس الحصن، فقال‏:‏ من أنت‏؟‏

قال‏:‏ أنا علي بن أبي طالب‏.‏

فقال اليهودي‏:‏ غلبتم، وما أُنزل على موسى، فما رجع حتى فتح الله على يديه‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ أنبأنا الحاكم، أنبأنا الأصم، أنبأنا العطاردي، عن يونس بن بكير، عن الحسين بن واقد، عن عبد الله بن بريدة، أخبرني أبي قال‏:‏ لما كان يوم خيبر أخذ اللواء أبو بكر، فرجع ولم يفتح له، و لما كان الغد أخذه عمر فرجع و لم يفتح له، وقتل محمود بن مسلمة، ورجع الناس‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لأدفعن لوائي غداً إلى رجل يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، لن يرجع حتى يفتح الله له‏)‏‏)‏ فبتنا طيبة نفوسنا أن الفتح غداً، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الغداة‏.‏

ثم دعا باللواء وقام قائماً، فما منا من رجل له منزلة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو يرجو أن يكون ذلك الرجل، حتى تطاولت أنا لها، ورفعت رأسي لمنزلة كانت لي منه‏.‏

فدعا علي بن أبي طالب وهو يشتكي عينيه، قال‏:‏ فمسحها، ثم دفع إليه اللواء، ففتح له، فسمعت عبد الله بن بريدة يقول‏:‏ حدثني أبي أنه كان صاحب مرحب‏.‏

قال يونس‏:‏ قال ابن إسحاق‏:‏ كان أول حصون خيبر فتحاً حصن ناعم، وعنده قتل محمود بن مسلمة ألقيت عليه رحى منه فقتلته‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 213‏)‏

ثم روى البيهقي عن يونس بن بكير، عن المسيببن مسلمة الأزدي، حدثنا عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما أخذته الشقيقة، فلبث اليوم واليومين لا يخرج، فلما نزل خيبر أخذته الشقيقة، فلم يخرج إلى الناس، وإن أبا بكر أخذ راية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نهض فقاتل قتالاً شديداً، ثم رجع‏.‏

فأخذها عمر فقاتل قتالاً شديداً هو أشد من القتال الأول‏.‏

ثم رجع فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لأعطينها غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يأخذها عنوة‏)‏‏)‏ وليس ثم علي‏.‏

فتطاولت لها قريش، ورجا كل رجل منهم أن يكون صاحب ذلك، فأصبح‏.‏

وجاء علي بن أبي طالب على بعير له، حتى أناخ قريباً وهو أرمد، قد عصب عينه بشقة برد قطري، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ما لك ‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ رمدت بعدك‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ادن مني‏)‏‏)‏ فتفل في عينه، فما وجعها حتى مضى لسبيله‏.‏

ثم أعطاه الراية فنهض بها وعليه جبة أرجوان حمراء، قد أخرج خملها فأتى مدينة خيبر، وخرج مرحب صاحب الحصن وعليه مغفر يماني، وحجر قد ثقبه مثل البيضة على رأسه، وهو يرتجز ويقول‏:‏

قد علمت خيبر أني مرحب * شاكٍ سلاحي بطلٌ مجرب

إذا الليوثُ أقبلت تلهب * وأحجمت عن صولة المغلب

فقال علي رضي الله عنه‏:‏

أنا الذي سمتني أمي حيدره * كليثِ غاباتٍ شديد القسوره

أكيلكم بالصاع كيل السندره

قال‏:‏ فاختلفا ضربتين، فبدره علي بضربه فقدَّ الحجر والمغفر ورأسه، ووقع في الأضراس، وأخذ المدينة‏.‏

وقد روى الحافظ البزار‏:‏ عن عباد بن يعقوب، عن عبد الله بن بكر، عن حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قصة بعث أبي بكر، ثم عمر يوم خيبر، ثم بعث علي، فكان الفتح على يديه، وفي سياقه غرابة ونكارة، وفي إسناده من هو متهم بالتشيع، والله أعلم‏.‏

وقد روى مسلم، والبيهقي، واللفظ له من طريق عكرمة بن عمار، عن إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه، فذكر حديثاً طويلاً وذكر فيه رجوعهم من غزوة بني فزارة قال‏:‏ فلم نمكث إلا ثلاثاً حتى خرجنا إلى خيبر‏.‏

قال‏:‏ وخرج عامر فجعل يقول‏:‏

والله لولا أنت ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا

ونحن من فضلك ما استغنينا * فأنزلن سكينة علينا

وثبت الأقدام إن لاقينا

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 214‏)‏

قال‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏من هذا القائل ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقالوا‏:‏ عامر، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏غفر لك ربك‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ وما خصَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قط أحداً به إلا استشهد‏.‏

فقال عمر وهو على جمل‏:‏ لولا متعتنا بعامر‏.‏

قال‏:‏ فقدمنا خيبر فخرج مرحب وهو يخطر بسيفه، ويقول‏:‏

قد علمت خيبر أني مرحب * شاكي السلاح بطل مجرب

إذا الحروب أقبلت تلهب

قال‏:‏ فبرز له عامر رضي الله عنه وهو يقول‏:‏

قد علمت خيبر أني عامر * شاكي السلاح بطل مغامر

قال‏:‏ فاختلفا ضربتين فوقع سيف مرحب في ترس عامر فذهب يسعل له، فرجع على نفسه، فقطع أكحله فكانت فيها نفسه‏.‏

قال سلمة‏:‏ فخرجت فإذا نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون‏:‏ بطل عمل عامر قتل نفسه‏.‏

قال‏:‏ فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما لك ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقلت‏:‏ قالوا إن عامراً بطل عمله‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏من قال ذلك ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقلت‏:‏ نفر من أصحابك، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏كذب أولئك بل له الأجر مرتين‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي رضي الله عنه يدعوه وهو أرمد، وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لأعطين الراية اليوم رجلاً يحب الله ورسوله‏)‏‏)‏ قال فجئت به أقوده، قال‏:‏ فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينه فبرأ، فأعطاه الراية فبرز مرحب وهو يقول‏:‏

قد علمت خيبر أني مرحب * شاكي السلاح بطل مجرب

إذا الحروب أقبلت تلهب

قال‏:‏ فبرز له علي وهو يقول‏:‏

أنا الذي سمتني أمي حيدره * كليث غاباتٍ كريه المنظره

أوفيهم بالصاع كيل السندره

قال‏:‏ فضرب مرحباً ففلق رأسه فقتله‏.‏ وكان الفتح‏.‏

هكذا وقع في هذا السياق أن علياً هو الذي قتل مرحباً اليهودي، لعنه الله‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا حسين بن حسن الأشقر، حدثني قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن جده، عن علي قال‏:‏ لما قتلت مرحباً، جئت برأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقد روى موسى عن عقبة، عن الزهري أن الذي قتل مرحباً هو محمد بن مسلمة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 215‏)‏

وكذلك قال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني عبد الله بن سهل أحد بني حارثة، عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ خرج مرحب اليهودي من حصن خيبر، وهو يرتجز ويقول‏:‏

قد علمت خيبر أني مرحب * شاكي السلاح بطل مجرب

أطعن أحياناً وحيناً أضرب * إذا الليوث أقبلت تلهب

إن حماي للحمى لا يقرب

قال‏:‏ فأجابه كعب بن مالك‏:‏

قد علمت خيبر أني كعب * مفرج الغماء جريء صلب

إذ شبت الحرب وثار الحرب * معي حسام كالعقيق عضب

يطأكمو حتى يذل الصعب * بكف ماضٍ ليس فيه عيب

قال‏:‏ وجعل مرحب يرتجز ويقول‏:‏ هل من مبارز‏؟‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏من لهذا ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقال محمد بن مسلمة‏:‏ أنا له يا رسول الله، أنا والله الموتور والثائر، قتلوا أخي بالأمس‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏قم إليه، اللهم أعنه عليه‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فلما دنا أحدهما من صاحبه، دخلت بينهما شجرة عمرية من الشجر العشر المسد، فجعل كل واحد منهما يلوذ من صاحبه بها، كلما لاذ بها أحدهما اقتطع بسيفه ما دونه، حتى برز كل واحد منهما لصاحبه، وصارت بينهما كالرجل القائم ما فيها فنن‏.‏

ثم حمل على محمد بن مسلمة فضربه فأتقاه بالدرقة فوقع سيفه فيها، فعضت فاستله، وضربه محمد بن مسلمة حتى قتله‏.‏

وقد رواه الإمام أحمد عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن إسحاق بنحوه‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وزعم بعض الناس أن محمداً ارتجز حين ضربه وقال‏:‏

قد علمت خيبر أني ماض * حلو إذا شئت وسمُّ قاض

وهكذا رواه الواقدي‏:‏ عن جابر وغيره من السلف‏:‏ أن محمد بن مسلمة هو الذي قتل مرحباً‏.‏

ثم ذكر الواقدي أن محمداً قطع رجلي مرحب، فقال له‏:‏ أجهز علي‏.‏

فقال‏:‏ لا ذق الموت كما ذاقه محمود بن مسلمة، فمر به علي وقطع رأسه، فاختصما في سلبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة سيفه، ورمحه، ومغفره، وبيضته‏.‏

قال‏:‏ وكان مكتوباً على سيفه‏:‏

هذا سيف مرحب * من يذقه يعطب

ثم ذكر ابن إسحاق أن أخا مرحب وهو ياسر، خرج بعده وهو يقول‏:‏ هل من مبارز‏؟‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 216‏)‏

فزعم هشام ابن عروة أن الزبير خرج له، فقالت أمه صفية بنت عبد المطلب‏:‏ يقتل ابني يا رسول الله ‏!‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏بل ابنك يقتله إن شاء الله‏)‏‏)‏‏.‏

فالتقيا فقتله الزبير‏.‏

قال‏:‏ فكان الزبير إذا قيل له‏:‏ والله إن كان سيفك يومئذ صارماً‏.‏

يقول‏:‏ والله ما كان بصارم، ولكني أكرهته‏.‏

وقال يونس عن ابن إسحاق حدثني عبد الله بن الحسن عن بعض أهله، عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ خرجنا مع علي إلى خيبر، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم برايته‏.‏

فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم، فضربه رجل منهم من يهود، فطرح ترسه من يده، فتناول علي باب الحصن فترس به عن نفسه فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه، ثم ألقاه من يده، فلقد رأيتني في نفر معي سبعة أنا ثامنهم، نجهد على أن نقلب ذلك الباب فما استطعنا أن نقلبه‏.‏

وفي هذا الخبر جهالة وانقطاع ظاهر‏.‏

ولكن روى الحافظ البيهقي، والحاكم، من طريق مطلب بن زياد، عن ليث بن أبي سليم، عن أبي جعفر الباقر، عن جابر‏:‏ أن علياً حمل الباب يوم خيبر حتى صعد المسلمون عليه فافتتحوها وأنه جرب بعد ذلك فلم يحمله أربعون رجلاً‏.‏

وفيه ضعف أيضاً‏.‏

وفي رواية ضعيفة عن جابر‏:‏ ثم اجتمع عليه سبعون رجلاً، وكان جهدهم أن أعادوا الباب‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا مكي بن إبراهيم، حدثنا يزيد بن أبي عبيد، قال‏:‏ رأيت أثر ضربة في ساق سلمة، فقلت‏:‏ يا أبا مسلم ما هذه الضربة‏؟‏

قال‏:‏ هذه ضربة أصابتني يوم خيبر، فقال الناس‏:‏ أصيب سلمة، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فنفث فيه ثلاث نفثات فما اشتكيتها حتى الساعة‏.‏

ثم قال البخاري‏:‏ حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا ابن أبي حازم، عن أبيه، عن سهل قال‏:‏ التقى النبي صلى الله عليه وسلم والمشركون في بعض مغازيه فاقتتلوا، فمال كل قوم إلى عسكرهم، وفي المسلمين رجل لا يدع من المشركين شاذة ولا فاذة إلا اتبعها فضربها بسيفه، فقيل‏:‏ يا رسول الله ما أجزأ منا أحد، ما أجزأ فلان‏.‏

قال‏:‏ إنه من أهل النار‏.‏

فقالوا‏:‏ أينا من أهل الجنة إن كان هذا من أهل النار‏؟‏

فقال رجل من القوم‏:‏ لأتبعنه فإذا أسرع وأبطأ كنت معه، حتى جرح فاستعجل الموت فوضع نصاب سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل عليه فقتل نفسه‏.‏

فجاء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أشهد أنك رسول الله‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏وما ذاك ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فأخبره فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وإنه من أهل النار، ويعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وأنه من أهل الجنة‏)‏‏)‏‏.‏

رواه أيضاً عن قتيبة، عن يعقوب عن أبي حازم، عن سهل، فذكره مثله أو نحوه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 217‏)‏

ثم قال البخاري‏:‏ حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، عن الزهري،‏:‏ أخبرني سعيد بن المسيب أن أبا هريرة قال‏:‏ شهدنا خيبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل ممن معه يدعي الإسلام‏:‏ ‏(‏‏(‏هذا من أهل النار‏)‏‏)‏‏.‏

فلما حضر القتال قاتل الرجل أشد القتال حتى كثرت به الجراحة حتى كاد بعض الناس يرتاب‏.‏

فوجد الرجل ألم جراحه فأهوى بيده إلى كنانته فاستخرج منها أسهماً فنحر بها نفسه فاشتد رجال من المسلمين، فقالوا‏:‏ يا رسول الله صدَّق الله حديثك، انتحر فلان فقتل نفسه‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏قم يا فلان فأذن أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وأن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر‏)‏‏)‏‏.‏

وقد روى موسى بن عقبة، عن الزهري قصة العبد الأسود الذي رزقه الله الإيمان والشهادة في ساعة واحدة‏.‏

وكذلك رواها ابن لهيعة عن أبي الأسود، عن عروة قالا‏:‏ وجاء عبد حبشي أسود من أهل خيبر، كان في غنم لسيده فلما رأى أهل خيبر قد أخذوا السلاح سألهم، قال‏:‏ ما تريدون‏؟‏

قالوا‏:‏ نقاتل هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي‏.‏

فوقع في نفسه ذكر النبي، فأقبل بغنمه حتى عمد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إلى ما تدعو‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أدعوك إلى الإسلام إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن لا تعبدوا إلا الله‏)‏‏)‏

قال‏:‏ فقال العبد‏:‏ فماذا يكون لي إن شهدت بذلك وآمنت بالله‏؟‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏الجنة إن مت على ذلك‏)‏‏)‏‏.‏

فأسلم العبد، فقال‏:‏ يا نبي الله إن هذه الغنم عندي أمانة‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أخرجها من عسكرنا وارمها بالحصا فإن الله سيؤدي عنك أمانتك‏)‏‏)‏‏.‏ ففعل فرجعت الغنم إلى سيدها، فعرف اليهودي أن غلامه قد أسلم‏.‏

فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعظ الناس فذكر الحديث في إعطائه الراية علياً، ودنوه من حصن اليهود، وقتله مرحباً، وقتل مع علي ذلك العبد الأسود، فاحتمله المسلمون إلى عسكرهم، فأدخل في الفسطاط، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اطلع في الفسطاط، ثم اطلع على أصحابه، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لقد أكرم الله هذا العبد وساقه إلى خير، قد كان الإسلام في قلبه حقاً، وقد رأيت عند رأسه اثنتين من الحور العين‏)‏‏)‏‏.‏

وقد روى الحافظ البيهقي‏:‏ من طريق ابن وهب، عن حيوة بن شريح، عن ابن الهاد، عن شرحبيل بن سعد، عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر، فخرجت سرية فأخذوا إنساناً معه غنم يرعاها، فذكر نحو قصة هذا العبد الأسود، وقال فيه‏:‏ قتل شهيداً وما سجد لله سجدة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 218‏)‏

ثم قال البيهقي‏:‏ حدثنا محمد بن محمد بن محمد الفقيه، حدثنا أبو بكر القطان، حدثنا أبو الأزهر، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، حدثنا ثابت، عن أنس‏:‏ أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله إني رجل أسود اللون، قبيح الوجه، لا مال لي، فإن قاتلت هؤلاء حتى أقتل أدخل الجنة‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم‏)‏‏)‏‏.‏

فتقدم فقاتل حتى قتل، فأتى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مقتول، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لقد حسن الله وجهك وطيب روحك، وكثر مالك‏)‏‏)‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لقد رأيت زوجتيه من الحور العين يتنازعان جبته عليه، يدخلان فيما بين جلده وجبته‏)‏‏)‏‏.‏

ثم روى البيهقي من طريق ابن جريج‏:‏ أخبرني عكرمة بن خالد عن ابن أبي عمار، عن شداد بن الهاد‏:‏ أن رجلاً من الأعراب جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه، فقال‏:‏ أُهاجر معك، فأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه، فلما كانت غزوة خيبر غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمه، وقسم له فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوه إليه؛ فقال‏:‏ ما هذا‏؟‏

قالوا‏:‏ قسم قسمه لك رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فأخذه فجاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ما هذا يا محمد‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏قسم قسمته لك‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أرمي ها هنا وأشار إلى حلقه بسهم فأموت فأدخل الجنة‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن تصدق الله يصدقك‏)‏‏)‏‏.‏

ثم نهضوا إلى قتال العدو، فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل وقد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏هو هو ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏صدق الله فصدقه‏)‏‏)‏‏.‏

وكفنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قدمه فصلى عليه، وكان مما ظهر من صلاته‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم هذا عبدك خرج مهاجراً في سبيلك، قتل شهيداً وأنا عليه شهيد‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه النسائي عن سويد بن نصر، عن عبد الله بن المبارك، عن ابن جريج به نحوه‏.‏

فصل فتح رسول الله عليه السلام للحصون‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وتدَّنى رسول الله صلى الله عليه وسلم الأموال يأخذها مالاً مالاً، ويفتتحها حصناً حصناً، وكان أول حصونهم فتح حصن ناعم، وعنده قتل محمود بن مسلمة، ألقيت عليه رحى منه فقتلته، ثم القموص حصن بني أبي الحقيق‏.‏

وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم سبايا منهن صفية بنت حيي بن أخطب، وكانت عند كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وبنتي عم لها، فاصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية لنفسه، وكان دحية بن خليفة قد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية، فلما اصطفاها لنفسه أعطاه ابنتي عمها‏.‏

قال‏:‏ وفشت السبايا من خيبر في المسلمين، وأكل الناس لحوم الحمر، فذكر نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم عن أكلها‏.‏

وقد اعتنى البخاري بهذا الفصل، فأورد النهي عنها من طرق جيدة وتحريمها مذهب جمهور العلماء سلفاً وخلفاً، وهو مذهب الأئمة الأربعة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 219‏)‏

وقد ذهب بعض السلف منهم‏:‏ ابن عباس إلى إباحتها، وتنوعت أجوبتهم عن الأحاديث الواردة في النهي عنها؛ فقيل‏:‏ لأنها كانت ظهراً يستعينون بها في الحمولة، وقيل‏:‏ لأنها لم تكن خمست بعد، وقيل‏:‏ لأنها كانت تأكل العذرة يعني‏:‏ جلالة‏.‏

والصحيح أنه نهى عنها لذاتها، فإنه في الأثر الصحيح أنه نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر فإنها رجس، فأكفئوها والقدور تفور بها، وموضع تقرير ذلك في كتاب ‏(‏الأحكام‏)‏‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ حدثني سلام بن كركرة، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله - ولم يشهد جابر خيبر - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نهى الناس عن أكل لحوم الحمر، أذن لهم في لحوم الخيل‏.‏

وهذا الحديث أصله ثابت في الصحيحين، من حديث حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن محمد بن علي، عن جابر رضي الله عنه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر، ورخَّص في الخيل‏)‏‏)‏‏.‏

لفظ البخاري‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثنا عبد الله بن أبي نجيح، عن مكحول، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم يومئذ عن أربع‏:‏ عن إتيان الحبالى من النساء، وعن أكل الحمار الأهلي، وعن أكل كل ذي ناب من السباع، وعن بيع المغانم حتى تقسم‏.‏ وهذا مرسل‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني يزيد بن أبي حبيب، عن أبي مرزوق مولى نجيب، عن حسن الصنعاني، قال‏:‏ غزونا مع رويفع بن ثابت الأنصاري المغرب، فافتتح قرية من قرى المغرب يقال له‏:‏ جربة، فقام فيها خطيباً فقال‏:‏ أيها الناس، إني لا أقول فيكم إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فينا يوم خيبر، قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏

‏(‏‏(‏لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماء زرع غيره يعني‏:‏ إتيان الحبالى من السبي، لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يصيب امرأة من السبي حتى يستبرئها، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيع مغنماً حتى يقسم، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يركب دابة من فيء المسلمين، حتى إذا أعجفها ردهاً فيه، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلبس يوماً من فيء المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه‏)‏‏)‏‏.‏

وهكذا روى هذا الحديث أبو داود من طريق محمد بن إسحاق‏.‏

ورواه الترمذي عن حفص بن عمرو الشيباني، عن ابن وهب، عن يحيى بن أيوب، عن ربيعة بن سليم، عن بشر بن عبيد الله، عن رويفع بن ثابت مختصراً، وقال‏:‏ حسن‏.‏

وفي صحيح البخاري‏:‏ عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، وعن أكل الثوم‏.‏

وقد حكى ابن حزم عن علي وشريك بن حنبل، أنهما ذهبا إلى تحريم البصل والثوم النيء، والذي نقله الترمذي عنهما الكراهة، فالله أعلم‏.‏

وقد تكلم الناس في الحديث الوارد في الصحيحين من طريق الزهري، عن عبد الله والحسن ابني محمد بن الحنفية، عن أبيهما، عن أبيه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الأهلية‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 220‏)‏

هذا لفظ الصحيحين من طريق مالك وغيره، عن الزهري، وهو يقتضي تقييد تحريم نكاح المتعة بيوم خيبر، وهو مشكل من وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يوم خيبر لم يكن ثم نساء يتمتعون بهن، إذ قد حصل لهم الاستغناء بالسباء عن نكاح المتعة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه قد ثبت في صحيح مسلم عن الربيع بن سبرة، عن معبد، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لهم في المتعة زمن الفتح، ثم لم يخرج من مكة حتى نها عنها وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن الله قد حرمها إلى يوم القيامة‏)‏‏)‏‏.‏

فعلى هذا يكون قد نهى عنها ثم أذن فيها، ثم حرمت، فيلزم النسخ مرتين، وهو بعيد‏.‏

ومع هذا فقد نصَّ الشافعي على أنه لا يعلم شيئاً أبيح ثم حرم، ثم أبيح ثم حرم، غير نكاح المتعة، وما حداه على هذا رحمه الله إلا اعتماده على هذين الحديثين كما قدمناه‏.‏

وقد حكى السهيلي وغيره عن بعضهم‏:‏ أنه ادعى أنها أبيحت ثلاث مرات، وحرمت ثلاث مرات‏.‏

وقال آخرون‏:‏ أربع مرات، وهذا بعيد جداً، والله أعلم‏.‏

واختلفوا أي وقت أول ما حرمت، فقيل‏:‏ في خيبر، وقيل‏:‏ في عمرة القضاء، وقيل‏:‏ في عام الفتح، وهذا يظهر، وقيل‏:‏ في أوطاس، وهو قريب من الذي قبله، وقيل‏:‏ في تبوك، وقيل‏:‏ في حجة الوداع‏.‏

رواه أبو داود‏.‏

وقد حاول بعض العلماء أن يجيب عن حديث علي رضي الله عنه بأنه وقع فيه تقديم وتأخير، وإنما المحفوظ فيه ما رواه الإمام أحمد‏:‏ حدثنا سفيان، عن الزهري، عن الحسن وعبد الله ابني محمد، عن أبيهما - وكان حسن أرضاهما في أنفسهما - أن علياً قال لابن عباس‏:‏

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر‏.‏

قالوا‏:‏ فاعتقدنا الراوي أن قوله خيبر ظرف للمنهي عنهما، وليس كذلك، إنما هو ظرف للنهي عن لحوم الحمر؛ فأما نكاح المتعة فلم يذكر له ظرفاً، وإنما جمعه معه لأن علياً رضي الله عنه بلغه أن ابن عباس أباح نكاح المتعة، ولحوم الحمر الأهلية، كما هو المشهور عنه‏.‏

فقال له أمير المؤمنين علي‏:‏ إنك امرؤ تائه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة ولحوم الحمر الأهلية يوم خيبر، فجمع له النهي ليرجع عما كان يعتقده في ذلك من الإباحة‏.‏

وإلى هذا التقرير كان ميل شيخنا الحافظ أبي الحجاج المزي تغمده الله برحمته أمين‏.‏

ومع هذا ما رجع ابن عباس عما كان يذهب إليه من إباحة الحمر والمتعة، أما النهي عن الحمر فتأوله بأنها كانت حمولتهم، وأما المتعة فإنما كان يبيحها عند الضرورة في الأسفار، وحمل النهي على ذلك في حال الرفاهية والوجدان‏.‏

وقد تبعه على ذلك طائفة من أصحابه وأتباعهم، ولم يزل ذلك مشهوراً عن علماء الحجاز إلى زمن ابن جريج وبعده‏.‏

وقد حكي عن الإمام أحمد بن حنبل رواية كمذهب ابن عباس وهي ضعيفة، وحاول بعض من صنف في الحلال نقل رواية عن الإمام بمثل ذلك، ولا يصح أيضاً، والله أعلم‏.‏ وموضع تحرير ذلك في كتاب ‏(‏الأحكام‏)‏ وبالله المستعان‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 221‏)‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتدنى الحصون والأموال، فحدثني عبد الله بن أبي بكر أنه حدثه بعض من أسلم أن بني سهم من أسلم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ يا رسول الله لقد جهدنا وما بأيدينا شيء، فلم يجدوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً يعطيهم إياه‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم إنك قد عرفت حالهم، وإن ليست لهم قوة، وإن ليس بيدي شيء أعطيهم إياه، فافتح عليهم أعظم حصونها عنهم غنى، وأكثرها طعاماً وودكاً‏)‏‏)‏‏.‏

فغدا الناس ففتح عليهم حصن الصعب بن معاذ وما بخيبر حصن كان أكثر طعاماً وودكاً منه‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ولما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم ما افتتح، وحاز من الأموال ما حاز، انتهوا إلى حصنهم الوطيح والسلالم، وكان آخر حصون خيبر افتتاحاً، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بضع عشر ليلة‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وكان شعارهم يوم خيبر‏:‏ يا منصور أمت أمت‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني بريدة بن سفيان الأسدي الأسلمي، عن بعض رجال بني سلمة، عن أبي اليسر بن كعب بن عمرو، قال‏:‏ إني لمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر ذات عشية، إذ أقبلت غنم لرجل من يهود تريد حصنهم، ونحن محاصروهم‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏من رجل يطعمنا من هذه الغنم ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال أبو اليسر‏:‏ فقلت أنا يا رسول الله‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فافعل‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فخرجت أشتد مثل الظليم، فلما نظر إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم مولياً قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم أمتعنا به‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فأدركت الغنم وقد دخلت أولها الحصن، فأخذت شاتين من أخراها فاحتضنتهما تحت يدي، ثم جئت بهما أشتد كأنه ليس معي شيء حتى ألقيتهما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فذبحوهما فأكلوهما‏.‏

فكان أبو اليسر من آخر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم موتاً، وكان إذا حدث هذا الحديث بكى، ثم قال‏:‏ أمتعوا بي لعمري حتى كنت من آخرهم‏.‏

وقال الحافظ البيهقي في ‏(‏الدلائل‏)‏‏:‏ أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يوسف الأصبهاني، حدثنا أبو سعيد بن الأعرابي، حدثنا سعدان بن نصر، حدثنا أبو معاوية، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان النهدي، أو عن أبي قلابة قال‏:‏ لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر، قدم والثمرة خضرة‏.‏

قال‏:‏ فأسرع الناس إليها فحموا، فشكوا ذلك إليه، فأمرهم أن يقرسوا الماء في الشنان ثم يجرونه عليهم إذا أتى الفجر، ويذكرون اسم الله عليه، ففعلوا ذلك فكأنما نشطوا من عقل‏.‏

قال البيهقي‏:‏ ورويناه عن عبد الرحمن بن رافع موصولاً، وعنه بين صلاتي المغرب والعشاء‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 222‏)‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يحيى وبهز، قالا‏:‏ حدثنا سليمان بن المغيرة، حدثنا حميد بن هلال، حدثنا عبد الله بن مغفل، قال‏:‏ دلى جراب من شحم يوم خيبر فالتزمته فقلت‏:‏ لا أعطى أحداً منه شيئاً‏.‏

قال‏:‏ فالتفتُّ فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا عفان، حدثنا شعبة، عن حميد بن هلال، عن عبد الله بن مغفل، قال‏:‏ كنا نحاصر قصر خيبر، فأُلقي إلينا جراب في شحم، فذهبت فأخذته فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم فاستحيت‏.‏

وقد أخرجه صاحبا الصحيح من حديث شعبة‏.‏

ورواه مسلم أيضاً عن شيبان بن فروخ، عن عثمان بن المغيرة‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني من لا أتهم عن عبد الله بن مغفل المزني قال‏:‏ أصبت من فيء خيبر جراب شحم، قال‏:‏ فاحتملته على عنقي إلى رحلي وأصحابي، قال‏:‏ فلقيني صاحب المغانم الذي جعل عليها فأخذ بناحيته، وقال‏:‏ هلم حتى تقسمه بين المسلمين، قال‏:‏ وقلت‏:‏ لا والله لا أعطيكه، قال‏:‏ وجعل يجاذبني الجراب‏.‏

قال‏:‏ فرآنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نصنع ذلك، فتبسم ضاحكاً، ثم قال لصاحب المغانم خلِّ بينه وبينه، قال‏:‏ فأرسله فانطلقت به إلى رحلي وأصحابي فأكلناه‏.‏

وقد استدل الجمهور بهذا الحديث على الإمام مالك في تحريمه شحوم ذبائح اليهود، وما كان غلبهم عليه غيرهم من المسلمين، لأن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم‏}‏ قال لكم‏.‏

قال‏:‏ وليس هذا من طعامهم، فاستدلوا عليه بهذا الحديث، وفيه نظر، وقد يكون هذا الشحم مما كان حلالاً لهم، والله أعلم‏.‏

وقد استدلوا بهذا الحديث على أن الطعام لا يخمس ويعضد، ذلك ما رواه الإمام أبو داود‏:‏ حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا أبو معاوية، حدثنا إسحاق الشيباني، عن محمد بن أبي مجالد، عن عبد الله بن أبي أوفى، قال‏:‏

قلت‏:‏ كنتم تخمسون الطعام في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ أصبنا طعاماً يوم خيبر، وكان الرجل يجيء فيأخذ منه قدر ما يكفيه ثم ينصرف‏.‏

تفرد به أبو داود، وهو حسن‏.‏