فصل: سنة خمس من الهجرة النبوية غزوة دومة الجندل

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 غزوة بني لحيان

ذكرها البيهقي في ‏(‏الدلائل‏)‏ وإنما ذكرها ابن إسحاق فيما رأيته من طريق هشام، عن زياد عنه، في جمادى الأولى من سنة ثنتين من الهجرة بعد الخندق وبني قريظة، وهو أشبه مما ذكره البيهقي، والله أعلم‏.‏

وقال الحافظ البيهقي‏:‏ أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس الأصم، حدثنا أحمد بن عبد الجبار وغيره قالوا‏:‏ لما أصيب خبيب وأصحابه، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم طالباً بدمائهم ليصيب من بني لحيان غرة، فسلك طريق الشام ليرى أنه لا يريد بني لحيان، حتى نزل بأرضهم من هذيل، ليصيب منهم غرة، فوجدهم قد حذروا وتمنعوا في رؤوس الجبال‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لو أنا هبطنا عسفان لرأت قريش أنا قد جئنا مكة‏)‏‏)‏ فخرج في مائتي راكب حتى نزل عسفان، ثم بعث فارسين حتى جاءا كراع الغميم ثم انصرفا، فذكر أبو عياش الزرقي‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بعُسفان صلاة الخوف‏.‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرزاق، حدثنا الثوري، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عياش قال‏:‏ كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعُسفان، فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد، وهم بيننا وبين القبلة، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر، فقالوا‏:‏ قد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 94‏)‏

ثم قالوا تأتي الآن عليهم صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم‏.‏

قال‏:‏ فنزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر والعصر، ‏{‏وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة‏}‏ قال‏:‏ فحضرت فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذوا السلاح، فصففنا خلفه صفين، ثم ركع فركعنا جميعاً، ثم رفع فرفعنا جميعاً، ثم سجد بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم، فلما سجدوا وقاموا، جلس الآخرون فسجدوا في مكانهم، ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، وجاء هؤلاء إلى مصاف هؤلاء‏.‏

قال‏:‏ ثم ركع فركعوا جميعاً، ثم رفع فرفعوا جميعاً، ثم سجد الصف الذي يليه، والآخرون قيام يحرسونهم، فلما جلسوا جلس الآخرون، فسجدوا، ثم سلم عليهم ثم انصرف‏.‏

قال‏:‏ فصلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين‏:‏ مرة بأرض عسفان، ومرة بأرض بني سليم‏.‏

ثم رواه أحمد، عن غندر، عن شعبة، عن منصور به نحوه‏.‏

وقد رواه أبو داود، عن سعيد بن منصور، عن جرير بن عبد الحميد‏.‏

والنسائي، عن الفلاس، عن عبد العزيز بن عبد الصمد، عن محمد بن المثنى وبندار، عن غندر، عن شعبة ثلاثتهم، عن منصور به‏.‏

وهذا إسناد على شرط الصحيحين، ولم يخرجه واحد منهما، لكن روى مسلم من طريق أبي خيثمة زهير بن معاوية، عن أبي الزبير، عن جابر قال‏:‏ غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً من جهينة فقاتلوا قتالاً شديداً، فلما أن صلى الظهر قال المشركون‏:‏ لو ملنا عليهم ميلة لاقتطعناهم، فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك‏.‏

وذكر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏وقالوا إنه ستأتيهم صلاة هي أحب إليهم من الأولاد‏.‏‏.‏‏)‏‏)‏ فذكر الحديث كنحو ما تقدم‏.‏

وقال أبو داود الطيالسي‏:‏ حدثنا هشام، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه الظهر بنخل، فهمَّ به المشركون ثم قالوا‏:‏ دعوهم فإن لهم صلاة بعد هذه الصلاة هي أحب إليهم من أبنائهم‏.‏

قال‏:‏ فنزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فصلى بأصحابه صلاة العصر، فصفهم صفين بين أيديهم رسول الله، والعدو بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكبر وكبروا جميعاً، وركعوا جميعاً، ثم سجد الذين يلونهم والآخرون قيام، فلما رفعوا رؤوسهم سجد الآخرون، ثم تقدم هؤلاء وتأخر هؤلاء، فكبروا جميعاً وركعوا جميعاً، ثم سجد الذين يلونه والآخرون قيام، فلما رفعوا رؤوسهم سجد الآخرون‏.‏

وقد استشهد البخاري في صحيحه برواية هشام هذه، عن أبي الزبير، عن جابر‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الصمد، حدثنا سعيد بن عبيد الهنائي، حدثنا عبد الله بن شقيق، حدثنا أبو هريرة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بين صنجنان وعسفان، فقال المشركون‏:‏ إن لهؤلاء صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأبكارهم، وهي العصر، فأجمعوا أمركم فميلوا عليهم ميلة واحدة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 95‏)‏

وإن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يقيم أصحابه شطرين فيصلي ببعضهم، ويقدم الطائفة الأخرى وراءهم، وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم، ثم تأتي الأخرى فيصلون معه، ويأخذ هؤلاء حذرهم وأسلحتهم ليكون لهم ركعة ركعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولرسول الله ركعتان‏.‏

ورواه الترمذي، والنسائي، من حديث عبد الصمد به‏.‏ وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏

قلت‏:‏ إن كان أبو هريرة شهد هذا فهو بعد خيبر، وإلا فهو من مرسلات الصحابي ولا يضر ذلك عند الجمهور، والله أعلم‏.‏

ولم يذكر في سياق حديث جابر عند مسلم، ولا عند أبي داود الطيالسي، أمر عسفان ولا خالد بن الوليد، لكن الظاهر أنها واحدة‏.‏

بقي الشأن في أن غزوة عسفان قبل الخندق أو بعدها، فإن من العلماء منهم الشافعي من يزعم أن صلاة الخوف إنما شرعت بعد يوم الخندق، فإنهم أخّروا الصلاة يومئذ عن ميقاتها لعذر القتال، ولو كانت صلاة الخوف مشروعة إذ ذاك لفعلوها ولم يؤخروها، ولهذا قال بعض أهل المغازي‏:‏ إن غزوة بني لحيان التي صلى فيها صلاة الخوف بعسفان، كانت بعد بني قريظة‏.‏

وقد ذكر الواقدي بإسناده، عن خالد بن الوليد قال‏:‏ لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية لقيته بعسفان، فوقفت بإزائه وتعرضت له، فصلى بأصحابه الظهر أمامنا، فهممنا أن نغير عليه، ثم لم يعزم لنا، فأطلعه الله على ما في أنفسنا من الهم به، فصلى بأصحابه صلاة العصر صلاة الخوف‏.‏

قلت‏:‏ وعمرة الحديبية كانت في ذي القعدة، سنة ست بعد الخندق وبني قريظة كما سيأتي‏.‏

وفي سياق حديث أبي عياش الزرقي ما يقتضي أن آية صلاة الخوف نزلت في هذه الغزوة يوم عسفان، فاقتضى ذلك أنها أول صلاة خوف صلاها، والله أعلم، وسنذكر إن شاء الله تعالى كيفية صلاة الخوف، واختلاف الروايات فيها في كتاب ‏(‏الأحكام الكبير‏)‏ إن شاء الله، وبه الثقة وعليه التكلان‏.‏

 غزوة ذات الرقاع

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد غزوة بني النضير شهري ربيع وبعض جمادى، ثم غزا نجداً يريد بني محارب وبني ثعلبة من غطفان، واستعمل على المدينة أبا ذر‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ ويقال عثمان بن عفان‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فسار حتى نزل نخلاً وهي غزوة ذات الرقاع‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ لأنهم رّقعوا فيها راياتهم، ويقال لشجرة هناك اسمها ذات الرقاع‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ بجبل فيه بقع حمر وسود وبيض‏.‏

وفي حديث أبي موسى‏:‏ إنما سميت بذلك لما كانوا يربطون على أرجلهم من الخرق من شدة الحر‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فلقي بها جمعاً عظيماً من غطفان، فتقارب الناس ولم يكن بينهم حرب، وقد خاف الناس بعضهم بعضاً حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس صلاة الخوف، ثم انصرف الناس‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 96‏)‏

وقد أسند ابن هشام حديث صلاة الخوف ههنا‏:‏ عن عبد الوارث بن سعيد التنوري، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، عن جابر بن عبد الله، وعن عبد الوارث، عن أيوب، عن أبي الزبير، عن جابر، وعن عبد الوارث، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر‏.‏

ولكن لم يذكر في هذه الطرق غزوة نجد، ولا ذات الرقاع، ولم يتعرض لزمان ولا مكان، وفي كون غزوة ذات الرقاع التي كانت بنجد لقتال بني محارب وبني ثعلبة بن غطفان قبل الخندق نظر‏.‏

وقد ذهب البخاري إلى أن ذلك كان بعد خيبر، واستدل على ذلك بأن أبا موسى الأشعري شهدها كما سيأتي، وقدومه إنما كان ليالي خيبر صحبة جعفر وأصحابه، وكذلك أبو هريرة، وقد قال‏:‏ صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة نجد صلاة الخوف‏.‏

ومما يدل على أنها بعد الخندق‏:‏ أن ابن عمر إنما أجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم في القتال أول ما أجازه يوم الخندق‏.‏

وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال‏:‏ غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد، فذكر صلاة الخوف‏.‏

وقول الواقدي‏:‏ إنه عليه السلام خرج إلى ذات الرقاع في أربعمائة، ويقال‏:‏ سبعمائة من أصحابه ليلة السبت لعشر خلون من المحرم سنة خمس فيه نظر، ثم لا يحصل به نجاة من أن صلاة الخوف إنما شرعت بعد الخندق، لأن الخندق كان في شوال سنة خمس على المشهور، وقيل‏:‏ في شوال سنة أربع، فتحصل على هذا القول مخلص من حديث ابن عمر، فأما حديث أبي موسى وأبي هريرة فلا‏.‏

 قصة غورث بن الحارث

قال ابن إسحاق في هذه الغزوة‏:‏ حدثني عمرو بن عبيد، عن الحسن، عن جابر بن عبد الله أن رجلاً من بني محارب، يقال له‏:‏ غورث، قال لقومه من غطفان ومحارب‏:‏ ألا أقتل لكم محمداً ‏؟‏

قالوا‏:‏ بلى، وكيف تقتله ‏؟‏

قال‏:‏ أفتك به‏.‏

قال‏:‏ فأقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس، وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجره، فقال‏:‏ يا محمد، انظر إلى سيفك هذا ‏؟‏

قال‏:‏ نعم، فأخذه ثم جعل يهزه ويهم، فكبته الله، ثم قال‏:‏ يا محمد أما تخافني ‏؟‏

قال‏:‏ لا ما أخاف منك‏.‏

قال‏:‏ أما تخافني وفي يدي السيف ‏؟‏

قال‏:‏ لا، يمنعني الله منك‏.‏

ثم عمد إلى سيف النبي صلى الله عليه وسلم فرده عليه، فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 11‏]‏‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني يزيد بن رومان‏:‏ أنها إنما نزلت في عمرو بن جحاش، أخي بني النضير وما همَّ به‏.‏

هكذا ذكر ابن إسحاق قصة غورث هذا، عن عمرو بن عبيد القدري، رأس الفرقة الضالة، وهو وإن كان لا يتهم بتعمد الكذب في الحديث، إلا أنه ممن لا ينبغي أن يروى عنه لبدعته ودعائه إليها‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 97‏)‏

وهذا الحديث ثابت في الصحيحين من غير هذا الوجه، ولله الحمد‏.‏

فقد أورد الحافظ البيهقي ها هنا طرقاً لهذا الحديث من عدة أماكن، وهي ثابتة في الصحيحين من حديث الزهري، عن سنان بن أبي سنان، وأبي سلمة، عن جابر‏:‏ أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة نجد، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركته القائلة في واد كثير العضاه، فتفرق الناس يستظلون بالشجر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت ظل شجرة، فعلق بها سيفه‏.‏

قال جابر‏:‏ فنمنا نومة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا فأجبناه، وإذا عنده أعرابي جالس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتاً‏)‏‏)‏ فقال‏:‏ من يمنعك مني‏؟‏

قلت‏:‏ ‏(‏‏(‏الله‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ من يمنعك مني ‏؟‏

قلت‏:‏ ‏(‏‏(‏الله‏)‏‏)‏ فشأم السيف وجلس، ولم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد فعل ذلك‏.‏

وقد رواه مسلم أيضاً عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عفان، عن أبان، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن جابر قال‏:‏ أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كنا بذات الرقاع، وكنا إذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه رجل من المشركين وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم معلق بشجرة، فأخذ سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترطه، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ تخافني ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فمن يمنعك مني ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏الله يمنعني منك‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فهدده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأغمد السيف وعلقه، قال‏:‏ ونودي بالصلاة فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا، وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين‏.‏

قال‏:‏ فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات، وللقوم ركعتان‏.‏

وقد علقه البخاري بصيغة الجزم عن أبان به‏.‏

قال البخاري‏:‏ وقال مسدد، عن أبي عوانة، عن أبي بشر‏:‏ أن اسم الرجل غورث بن الحارث‏.‏

وأسند البيهقي من طريق أبي عوانة، عن أبي بشر، عن سليمان بن قيس، عن جابر قال‏:‏ قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم محارب وغطفان بنخل، فرأوا من المسلمين غِرة، فجاء رجل منهم يقال له غورث بن الحارث، حتى قام على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف وقال‏:‏ من يمنعك مني ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏الله‏)‏‏)‏ فسقط السيف من يده، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏من يمعنك مني ‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ كن خير آخذ‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏تشهد أن لا إله إلا الله ‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ لا، ولكن أعاهدك على أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فخلى سبيله، فأتى أصحابه وقال‏:‏ جئتكم من عند خير الناس‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 98‏)‏

ثم ذكر صلاة الخوف وأنه صلى أربع ركعات بكل طائفة ركعتين‏.‏

وقد أورد البيهقي هنا طرق صلاة الخوف بذات الرقاع، عن صالح بن خوات بن جبير، عن سهل بن أبي حثمة‏.‏ وحديث الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن عمر، في صلاة الخوف بنجد، وموضع ذلك كتاب ‏(‏الأحكام‏)‏ والله أعلم‏.‏

 قصة الذي أصيبت امرأته يومذاك

قال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني عمي صدقة بن يسار، عن عقيل بن جابر، عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع من نخل، فأصاب رجل امرأة رجل من المشركين، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلاً، أتى زوجها وكان غائباً‏.‏

فلما أخبر الخبر حلف لا ينتهي حتى يهريق في أصحاب محمد دماً، فخرج يتبع إثر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلاً فقال‏:‏ من رجل يكلؤنا ليلتنا هذه ‏؟‏

فانتدب رجل من المهاجرين، ورجل من الأنصار فقالا‏:‏ نحن يا رسول الله‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فكونا بفم الشعب من الوادي‏)‏‏)‏ وهما‏:‏ عمار بن ياسر، وعباد بن بشر، فلما خرجا إلى فم الشعب قال الأنصاري للمهاجري‏:‏ أي الليل تحب أن أكفيكه، أوله أم آخره ‏؟‏

قال‏:‏ بل اكفني أوله، فاضطجع المهاجري فنام، وقام الأنصاري يصلي‏.‏

قال‏:‏ وأتى الرجل، فلما رأى شخص الرجل عرف أنه ربيئة القوم، فرمى بسهم فوضعه فيه، فانتزعه ووضعه وثبت قائماً‏.‏

قال‏:‏ ثم رمى بسهم آخر فوضعه فيه، فنزعه فوضعه وثبت قائماً‏.‏

قال‏:‏ ثم عاد له بالثالث فوضعه فيه، فنزعه فوضعه، ثم ركع وسجد، ثم أهبَّ صاحبه، فقال‏:‏ اجلس فقد أثبتُّ‏.‏

قال‏:‏ فوثب الرجل فلما رآهما عرف أنه قد نذرا به، فهرب‏.‏

قال‏:‏ ولما رأى المهاجري ما بالأنصاري من الدماء قال‏:‏ سبحان الله أفلا أهببتني أول ما رماك ‏؟‏

قال‏:‏ كنت في سورة أقرؤها فلم أحب أن أقطعها حتى أنفذها، فلما تابع علي الرمي ركعت فأذنتك، وأيم الله لولا أن أضيع ثغراً أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه، لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفذها‏.‏

هكذا ذكره ابن إسحاق في ‏(‏المغازي‏)‏‏.‏

وقد رواه أبو داود، عن أبي توبة، عن عبد الله بن المبارك، عن ابن إسحاق به‏.‏

وقد ذكر الواقدي، عن عبد الله العمري، عن أخيه عبيد الله، عن القاسم بن محمد، عن صالح بن خوات، عن أبيه حديث صلاة الخوف بطوله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 99‏)‏

قال‏:‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أصاب في محالهم نسوة، وكان في السبي جارية وضيئة، وكان زوجها يحبها، فحلف ليطلبن محمداً ولا يرجع حتى يصيب دماً أو يخلص صاحبته‏.‏

ثم ذكر من السياق نحو ما أورده محمد بن إسحاق‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وكان جابر بن عبد الله يقول‏:‏ بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل من أصحابه بفرخ طائر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه، فأقبل إليه أبواه أو أحدهما، حتى طرح نفسه في يدي الذي أخذ فرخه، فرأيت أن الناس عجبوا من ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أتعجبون من هذا الطائر أخذتم فرخه، فطرح نفسه رحمة لفرخه، فوالله لربكم أرحم بكم من هذا الطائر بفرخه‏)‏‏)‏‏.‏

 قصة جمل جابر

قال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني وهب بن كيسان، عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة ذات الرقاع من نخل على جمل لي ضعيف، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم، جعلت الرفاق تمضي وجعلت أتخلف، حتى أدركني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏مالك يا جابر ‏؟‏‏)‏‏)‏

قلت‏:‏ يا رسول الله أبطأ بي جملي هذا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أنخه‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فأنخته، وأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أعطني هذه العصا من يدك، أو اقطع عصا من الشجرة‏)‏‏)‏ ففعلت، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخسه بها نخسات، ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اركب‏)‏‏)‏ فركبت فخرج، والذي بعثه بالحق يواهق ناقته مواهقة‏.‏

قال‏:‏ وتحدثت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أتبيعني جملك هذا يا جابر ‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ قلت بل أهبه لك‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا ولكن بعنيه‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ فسُمْنيه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏قد أخذته بدرهم‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ لا، إذاً تغبنني يا رسول الله‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فبدرهمين‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فلم يزل يرفع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ الأوقية‏.‏

قال‏:‏ فقلت‏:‏ أفقد رضيت ‏؟‏

قال‏:‏ نعم، قلت‏:‏ فهو لك‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏قد أخذته‏)‏‏)‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا جابر هل تزوجت بعد‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ نعم يا رسول الله‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أثيباً أم بكراً ‏؟‏‏)‏‏)‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ بل ثيباً‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك‏)‏‏)‏‏.‏

قال قلت‏:‏ يا رسول الله إن أبي أصيب يوم أحد، وترك بنات له سبعاً، فنكحت امرأة جامعة تجمع رؤوسهن فتقوم عليهن‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أصبت إن شاء الله، أما إنا لو جئنا صراراً أمرنا بجزور فنحرت، فأقمنا عليها يومنا ذلك، وسمعت بنا فنفضت نمارقها‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فقلت‏:‏ والله يا رسول الله مالنا نمارق‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنها ستكون، فإذا أنت قدمت فاعمل عملاً كيساً‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فلما جئنا صراراً أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بجزور ونحرت، فأقمنا عليها ذلك اليوم، فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل ودخلنا‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 100‏)‏

قال‏:‏ فحدثت المرأة الحديث، وما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت‏:‏ فدونك فسمع وطاعة، فلما أصبحت أخذت برأس الجمل فأقبلت به حتى أنخته على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جلست في المسجد قريباً منه، قال‏:‏ وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى الجمل فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما هذا ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ يا رسول الله هذا جمل جاء به جابر‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فأين جابر ‏؟‏‏)‏‏)‏ فدعيت له‏.‏

قال‏:‏ فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا ابن أخي خذ برأس جملك فهو لك‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ودعا بلالاً فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اذهب بجابر فأعطه أوقية‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فذهبت معه فأعطاني أوقية، وزادني شيئاً يسيراً‏.‏

قال‏:‏ فوالله ما زال ينمي عندي، ويرى مكانه من بيتنا حتى أصيب أمس فيما أصيب لنا‏.‏ يعني يوم الحرة‏.‏

وقد أخرجه صاحب الصحيح من حديث عبيد الله بن عمر العمري، عن وهب بن كيسان، عن جابر بنحوه‏.‏

قال السهيلي‏:‏ في هذا الحديث إشارة إلى ما كان أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم جابر بن عبد الله‏:‏ أن الله أحيا والده وكلمه فقال له‏:‏ تمن علي، وذلك أنه شهيد، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم‏}‏ وزادهم على ذلك في قوله‏:‏ ‏{‏للذين أحسنوا الحسنى وزيادة‏}‏‏.‏

ثم جمع لهم بين العوض والمعوض، فرد عليهم أرواحهم التي اشتراها منهم فقال‏:‏ ‏{‏ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أموات بل أحياء عند ربهم يرزقون‏}‏ والروح للإنسان بمنزلة المطية كما قال عمر بن عبد العزيز‏.‏

قال‏:‏ فلذلك اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم من جابر جمله وهو مطيته، فأعطاه ثمنه، ثم رده عليه وزاده مع ذلك‏.‏

قال‏:‏ ففيه تحقيق لما كان أخبره به عن أبيه، وهذا الذي سلكه السهيلي ها هنا إشارة غريبة وتخيل بديع، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

وقد ترجم الحافظ البيهقي في كتابه ‏(‏دلائل النبوة‏)‏ على هذا الحديث في هذه الغزوة فقال‏:‏ باب ما كان ظهر في غزاته هذه من بركاته وآياته في جمل جابر بن عبد الله رضي الله عنه‏.‏

وهذا الحديث له طرق عن جابر، وألفاظ كثيرة، وفيه اختلاف كثير في كمية ثمن الجمل، وكيفية ما اشترط في البيع، وتحرير ذلك واستقصاؤه لائق بكتاب البيع من الأحكام والله أعلم‏.‏

وقد جاء تقييده بهذه الغزوة، وجاء تقييده بغيرها كما سيأتي، ومستبعد تعداد ذلك، والله أعلم‏.‏

غزوة بدر الآخرة

وهي بدر الموعد التي توعدوا إليها من أحد كما تقدم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة من غزوة ذات الرقاع أقام بها بقية جمادى الأولى وجمادى الآخرة ورجباً، ثم خرج في شعبان إلى بدر لميعاد أبي سفيان‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ واستعمل على المدينة عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 101‏)‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بدراً، وأقام عليه ثمانية ينتظر أبا سفيان، وخرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مجنة من ناحية الظهران، وبعض الناس يقول‏:‏ قد بلغ عسفان‏.‏

ثم بدا له في الرجوع فقال‏:‏ يا معشر قريش إنه لا يصلحكم إلا عام خصيب، ترعون فيه الشجر، وتشربون فيه اللبن، فإن عامكم هذا عام جدب، وإني راجع فارجعوا، فرجع الناس فسماهم أهل مكة جيش السويق، يقولون‏:‏ إنما خرجتم تشربون السويق‏.‏

قال‏:‏ وأتى مخشي بن عمرو الضمري، وقد كان وادع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة ودان على بني ضمرة، فقال‏:‏ يا محمد أجئت للقاء قريش على هذا الماء ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم يا أخا بني ضمرة، وإن شئت رددنا إليك ما كان بيننا وبينك، وجالدناك حتى يحكم الله بيننا وبينك‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ لا والله يا محمد ما لنا بذلك من حاجة، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ولم يلق كيداً‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وقد قال عبد الله بن رواحة يعني في انتظارهم أبا سفيان ورجوعه بقريش عامه ذلك، قال ابن هشام‏:‏ وقد أنشدنيها أبو زيد لكعب بن مالك‏:‏

وعدنا أبا سفيان بدراً فلم نجد * لميعاده صدقاً وما كان وافياً

فأقسمُ لو لاقيتنا فلقِيتَنا * لأبت ذميماً وافتقدت المواليا

تركنا به أوصال عتبة وابنه * وعمراً أبا جهل تركناه ثاوياً

عصيتم رسول الله أف لدينكم * وأمركم السيء الذي كان غاوياً

فإني وإن عنفتموني لقائل * فدى لرسول الله أهلي وماليا

أطعناه لم نعدله فينا بغيره * شهاباً لنا في ظلمة الليل هاديا

قال ابن إسحاق‏:‏ وقال حسان بن ثابت في ذلك‏:‏

دعوا فلجات الشام قد حال دونها *جلاد كأفواه المخاض الأوارك

بأيدي رجال هاجروا نحو ربهم * وأنصاره حقا وأيدي الملائك

إذا سلكت للغور من بطن عالج * فقولا لها ليس الطريق هنالك

أقمنا على الرس النزوع ثمانياً * بأرعن جرار عريض المبارك

بكل كميت جَوزُه نصف خَلْقه * وقُبٍّ طوال مشرفات الحوارك

ترى العرفج العامي تذري أصوله * مناسم أخفاف المطي الرواتك

فإن تلق في تطوافنا والتماسنا * فرات بن حيان يكن رهن هالك

وإن تلق قيس بن امرئ القيس بعده * يزد في سواد لونه لون حالك

فأبلغ أبا سفيان عني رسالة * فإنك من غر الرجال الصعالك

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 102‏)‏

قال‏:‏ فأجابه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وقد أسلم فيما بعد ذلك‏:‏

أحسان إنا يا ابن آكلة الفغا * وجدَّك نغتال الخروق كذلك

خرجنا وما تنجو اليعافير بيننا * ولو وألت منا بشد مدارك

إذا ما انبعثنا من مُناخ حسبته * مد من أهل الموسم المتعارك

أقمت على الرس النزوع تريدنا * وتتركنا في النخل عند المدارك

على الزرع تمشي خيلنا وركابنا * فما وطئت ألصقنه بالدكادك

أقمنا ثلاثاً بين سَلع وفارع * بجُرد الجياد والمطي الرواتك

حسبتم جلاد القوم عند فنائكم * كمأخذكم بالعين أرطال آنك

فلاتبعث الخيل الجياد وقل لها * على نحو قول المعصم المتماسك

سعدتم بها وغيركم كان أهلها * فوارس من أبناء فهر بن مالك

فإنك لا في هجرة إن ذكرتها * ولا حرمات دينها أنت ناسك

قال ابن هشام‏:‏ تركنا منها أبياتاً لاختلاف قوافيها، وقد ذكر موسى بن عقبة، عن الزهري وابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير‏:‏

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استنفر الناس لموعد أبي سفيان، وانبعث المنافقون في الناس يثبطونهم، فسلم الله أولياءه، وخرج المسلمون صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر، وأخذوا معهم بضائع وقالوا‏:‏ إن وجدنا أبا سفيان وإلا اشترينا من بضائع موسم بدر‏.‏

ثم ذكر نحو سياق ابن إسحاق في خروج أبي سفيان إلى مجنة ورجوعه، وفي مقاولة الضمري، وعرض النبي صلى الله عليه وسلم المنابذة فأبى ذلك‏.‏

قال الواقدي‏:‏ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها في ألف وخمسمائة من أصحابه، واستخلف على المدينة عبد الله بن رواحة، وكان خرجوه إليها في مستهل ذي القعدة يعني سنة أربع، والصحيح قول ابن إسحاق‏:‏ أن ذلك في شعبان من هذه السنة الرابعة، ووافق قول موسى بن عقبة أنها في شعبان، لكن قال في سنة ثلاث وهذا وهم‏.‏

فإن هذه تواعدوا إليها من أحد، وكان أحد في شوال سنة ثلاث كما تقدم، والله أعلم‏.‏

قال الواقدي‏:‏ فأقاموا ببدر مدة الموسم الذي كان يعقد فيها ثمانية أيام، فرجعوا وقد ربحوا من الدرهم درهمين، وقال غيره‏:‏ فانقلبوا كما قال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 174‏]‏‏.‏

 فصل في جملة من الحوادث الواقعة سنة أربع من الهجرة

قال ابن جرير‏:‏ وفي جمادى الأولى من هذه السنة مات عبد الله بن عثمان بن عفان رضي الله عنه، يعني من رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ابن ست سنين، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل في حفرته والده عثمان بن عفان رضي الله عنه‏.‏

قلت‏:‏ وفيه توفي أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي، وأمه برة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رضيع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ارتضعا من ثويبة مولاة أبي لهب، وكان إسلام أبي سلمة وأبي عبيدة وعثمان بن عفان والأرقم بن أبي الأرقم قديماً في يوم واحد‏.‏

وقد هاجر هو وزوجته أم سلمة إلى أرض الحبشة، ثم عاد إلى مكة وقد ولد لهما بالحبشة أولاد، ثم هاجر من مكة إلى المدينة، وتبعته أم سلمة إلى المدينة كما تقدم، وشهد بدراً وأحداً، ومات من آثار جرح جرحه بأحد رضي الله عنه وأرضاه، له حديث واحد في الاسترجاع عند المصيبة، سيأتي في سياق تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم سلمة قريباً‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وفي ليال خلون من شعبان منها، ولد الحسين بن علي من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم‏.‏

قال‏:‏ وفي شهر رمضان من هذه السنة تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت خزيمة بن الحارث بن عبد الله بن عمرو بن عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة الهلالية‏.‏

وقد حكى أبو عمر ابن عبد البر، عن علي بن عبد العزيز الجرجاني أنه قال‏:‏ كانت أخت ميمونة بنت الحارث‏.‏ ثم استغربه وقال‏:‏ لم أره لغيره‏.‏ وهي التي يقال لها أم المساكين لكثرة صدقاتها عليهم، وبرها لهم وإحسانها إليهم، وأصدقها ثنتي عشرة أوقية ونشا، ودخل بها في رمضان، وكانت قبله عند الطفيل بن الحارث فطلقها‏.‏

قال أبو عمر ابن عبد البر، عن علي بن عبد العزيز الجرجاني‏:‏ ثم خلف عليها أخوه عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف‏.‏

قال ابن الأثير في ‏(‏أسد الغابة‏)‏‏:‏ وقيل كانت تحت عبد الله بن جحش، فقتل عنها يوم أحد‏.‏

قال أبو عمر‏:‏ ولا خلاف أنها ماتت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل‏:‏ لم تلبث عنده إلا شهرين أو ثلاثة حتى توفيت رضي الله عنها‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 104‏)‏

وقال الواقدي‏:‏ في شوال من هذه السنة تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة بنت أبي أمية‏.‏

قلت‏:‏ وكانت قبله عند زوجها أبي أولادها أبي سلمة ابن عبد الأسد، وقد كان شهد أحداً كما تقدم، وجرح يوم أحد فداوى جرحه شهراً حتى برئ، ثم خرج في سرية فغنم منها نعماً ومغنماً جيداً، ثم أقام بعد ذلك سبعة عشر يوماً، ثم انتقض عليه جرحه فمات لثلاث بقين من جمادى الأولى من هذه السنة‏.‏

فلما حلت في شوال خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نفسها بنفسه الكريمة، وبعث إليها عمر بن الخطاب في ذلك مرراً، فتذكر أنها امرأة غيرى - أي‏:‏ شديدة الغيرة - وأنها مصبية - أي‏:‏ لها صبيان - يشغلونها عنه، ويحتاجون إلى مؤنة تحتاج معها أن تعمل لهم في قوتهم‏.‏

فقال‏:‏ أما الصبية فإلى الله وإلى رسوله - أي‏:‏ نفقتهم ليس إليك، وأما الغيرة فأدعو الله فيذهبها، فأذنت في ذلك وقالت لعمر آخر ما قالت له‏:‏ قم فزوج النبي صلى الله عليه وسلم - تعني قد رضيت وأذنت - فتوهم بعض العلماء أنها تقول لابنها عمر بن أبي سلمة، وقد كان إذ ذاك صغيراً لا يلي مثله العقد، وقد جمعت في ذلك جزءاً مفرداً بينت فيه الصواب في ذلك، ولله الحمد والمنة‏.‏

وإن الذي ولي عقدها عليه ابنها سلمة بن أبي سلمة - وهو أكبر ولدها - وساغ هذا لأن أباه ابن عمها، فللابن ولاية أمه إذا كان سبباً لها من غير جهة البنوة بالإجماع، وكذا إذا كان معتقاً أو حاكماً، فأما محض البنوة فلا يلي بها عقد النكاح عند الشافعي وحده، وخالفه الثلاثة أبو حنيفة ومالك وأحمد رحمهم الله، ولبسط هذا موضع آخر يذكر فيه، وهو كتاب النكاح من ‏(‏الأحكام الكبير‏)‏ إن شاء الله‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يونس، حدثنا ليث - يعني ابن سعد - عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، عن عمرو بن أبي عمرو، عن المطلب، عن أم سلمة قالت‏:‏ أتاني أبو سلمة يوماً من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ لقد سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً سررت به، قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يصيب أحداً من المسلمين مصيبة فيسترجع عند مصيبته ثم يقول‏:‏ اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها إلا فعل به‏)‏‏)‏‏.‏

قالت أم سلمة‏:‏ فحفظت ذلك منه، فلما توفي أبو سلمة استرجعت، وقلت‏:‏ اللهم آجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها، ثم رجعت إلى نفسي فقلت‏:‏ من أين لي خير من أبي سلمة، فلما انقضت عدتي استأذن علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أدبغ إهاباً لي، فغسلت يدي من القرظ وأذنت له، فوضعت له وسادة أدم حشوها ليف، فقعد عليها فخطبني إلى نفسي‏.‏

فلما فرغ من مقالته قلت‏:‏ يا رسول الله ما بي أن لا تكون بك الرغبة، ولكني امرأة بي غيرة شديدة، فأخاف أن ترى مني شيئاً يعذبني الله به، وأنا امرأة قد دخلت في السن، وأنا ذات عيال‏.‏

فقال‏:‏ أما ما ذكرت من الغيرة فسيذهبها الله عنك، وأما ما ذكرت من السن فقد أصابني مثل الذي أصابك، وأما ما ذكرت من العيال فإنما عيالك عيالي‏.‏

فقالت‏:‏ فقد سلمت لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فقالت أم سلمة‏:‏ فقد أبدلني الله بأبي سلمة خيراً منه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 105‏)‏

وقد رواه الترمذي والنسائي من حديث حماد بن سلمة عن ثابت، عن عمر بن أبي سلمة، عن أمه أم سلمة، عن أبي سلمة به‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ حسن غريب‏.‏

وفي رواية للنسائي، عن ثابت، عن ابن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه‏.‏

ورواه ابن ماجه، عن أبى بكر بن أبى شيبة، عن يزيد بن هارون، عن عبد الملك بن قدامة الجمحي، عن أبيه عمر بن أبي سلمة به‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني من بدر الموعد راجعاً إلى المدينة، فأقام بها حتى مضى ذو الحجة، وولى تلك الحجة المشركون وهي سنة أربع‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ وفي هذه السنة - يعني سنة أربع - أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت أن يتعلم كتاب يهود‏.‏

قلت‏:‏ فثبت عنه في الصحيح أنه قال‏:‏ تعلمته في خمسة عشر يوماً، والله أعلم‏.‏

 سنة خمس من الهجرة النبوية غزوة دومة الجندل في ربيع الأول منها

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم دومة الجندل‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ في ربيع الأول يعني من سنة خمس، واستعمل على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم رجع إلى المدينة قبل أن يصل إليها، ولم يلق كيداً فأقام بالمدينة بقية سنته‏.‏ هكذا قال ابن إسحاق‏.‏

وقد قال محمد بن عمر الواقدي بإسناده عن شيوخه، عن جماعة من السلف قالوا‏:‏ أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدنو إلى أداني الشام، وقيل له‏:‏ إن ذلك مما يفزع قيصر، وذكر له أن بدومة الجندل جمعاً كبيراً، وأنهم يظلمون من مر بهم، وكان لها سوق عظيم، وهم يريدون أن يدنو من المدينة‏.‏

فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فخرج في ألف من المسلمين، فكان يسير الليل ويكمن النهار، ومعه دليل له من بني عذرة يقال له‏:‏ مذكور، هاد خريت‏.‏

فلما دنا من دومة الجندل أخبره دليله بسوائم بني تميم، فسار حتى هجم على ماشيتهم ورعائهم، فأصاب من أصاب وهرب من هرب في كل وجه، وجاء الخبر أهل دومة الجندل فتفرقوا، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بساحتهم، فلم يجد فيها أحد، فأقام بها أياماً وبث السرايا‏.‏

ثم رجعوا وأخذ محمد بن سلمة رجلاً منهم، فأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن أصحابه فقال‏:‏ هربوا أمس، فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام فأسلم، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وكان خروجه عليه السلام إلى دومة الجندل في ربيع الآخر سنة خمس‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 106‏)‏

قال‏:‏ وفيه توفيت أم سعد بن عبادة وابنها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة‏.‏

وقد قال أبو عيسى الترمذي في ‏(‏جامعه‏)‏‏:‏ حدثنا محمد بن بشار، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب‏:‏ أن أم سعد ماتت والنبي صلى الله عليه وسلم غائب، فلما قدم صلى عليها، وقد مضى لذلك شهر، وهذا مرسل جيد، وهو يقتضي أنه عليه السلام غاب في هذه الغزوة شهراً فما فوقه، على ما ذكره الواقدي رحمه الله‏.‏

 غزوة الخندق أو الأحزاب

وقد أنزل الله تعالى فيها صدر سورة الأحزاب فقال تعالى

‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً * قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً * قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً * قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ * أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً * يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً * لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً * وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً * وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً * وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 9-27‏]‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 107‏)‏

وقد تكلمنا على كل من هذه الآيات الكريمات في التفسير، ولله الحمد والمنة، ولنذكر ها هنا ما يتعلق بالقصة إن شاء الله، وبه الثقة وعليه التكلان‏.‏

وقد كانت غزوة الخندق في شوال سنة خمس من الهجرة، نص على ذلك ابن إسحاق، وعروة بن الزبير، وقتادة والبيهقي، وغير واحد من العلماء سلفاً وخلفاً‏.‏

وقد روى موسى بن عقبة، عن الزهري أنه قال‏:‏ ثم كانت وقعة الأحزاب في شوال سنة أربع‏.‏

وكذلك قال الإمام مالك بن أنس، فيما رواه أحمد بن حنبل عن موسى بن داود عنه‏.‏

قال البيهقي‏:‏ ولا اختلاف بينهم في الحقيقة لأن مرادهم أن ذلك بعد مضي أربع سنين، وقبل استكمال خمس، ولا شك أن المشركين لما انصرفوا عن أحد، واعدوا المسلمين إلى بدر العام المقابل، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كما تقدم في شعبان سنة أربع، ورجع أبو سفيان بقريش لجدب ذلك العام، فلم يكونوا ليأتوا إلى المدينة بعد شهرين، فتعين أن الخندق في شوال من سنة خمس، والله أعلم‏.‏

وقد صرح الزهري بأن الخندق كانت بعد أحد بسنتين، ولا خلاف أن أُحداً في شوال سنة ثلاث إلا على قول من ذهب إلى أن أول التاريخ من محرم السنة الثانية لسنة الهجرة، ولم يعدوا الشهور الباقية من سنة الهجرة من ربيع الأول إلى آخرها، كما حكاه البيهقي‏.‏

وبه قال يعقوب بن سفيان الفسوي، وقد صرح بأن بدراً في الأولى، وأحداً في سنة ثنتين، وبدر الموعد في شعبان سنة ثلاث، والخندق في شوال سنة أربع، وهذا مخالف لقول الجمهور، فإن المشهور أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب جعل أول التاريخ من محرم سنة الهجرة، وعن مالك من ربيع الأول سنة الهجرة، فصارت الأقوال ثلاثة، والله أعلم‏.‏

والصحيح قول الجمهور أن أحداً في شوال سنة ثلاث، وأن الخندق في شوال سنة خمس من الهجرة، والله أعلم‏.‏

فأما الحديث المتفق عليه في الصحيحين من طريق عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال‏:‏ عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة، فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني، فقد أجاب عنها جماعة من العلماء منهم البيهقي بأنه عرض يوم أحد في أول الرابعة عشرة، ويوم الأحزاب في أواخر الخامسة عشرة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 108‏)‏

قلت‏:‏ ويحتمل أنه أراد أنه لما عرض عليه يوم الأحزاب كان قد استكمل خمس عشرة سنة التي يجاز لمثلها الغلمان، فلا يبقى على هذا زيادة عليها، ولهذا لما بلَّغ نافع عمر بن عبد العزيز هذا الحديث قال‏:‏

إن هذا الفرق بين الصغير والكبير، ثم كتب به إلى الآفاق، واعتمد على ذلك جمهور العلماء، والله أعلم‏.‏

وهذا سياق القصة مما ذكره ابن إسحاق وغيره‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم كانت غزوة الخندق في شوال سنة خمس، فحدثني يزيد بن رومان، عن عروة ومن لا أتهم، عن عبيد الله بن كعب بن مالك، ومحمد بن كعب القرظي، والزهري، وعاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر، وغيرهم من علمائنا، وبعضهم يحدث ما لا يحدث بعض قالوا‏:‏

إنه كان من حديث الخندق أن نفراً من اليهود منهم‏:‏ سلام بن أبي الحقيق النضري، وحيي بن أخطب النضري، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وهوذة بن قيس الوائلي، وأبو عمار الوائلي، في نفر من بني النضير، ونفر من بني وائل، وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا‏:‏ إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله‏.‏

فقالت لهم قريش‏:‏ يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول، والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه‏.‏

قالوا‏:‏ بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه، فهم الذين أنزل الله فيهم‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 51 -52‏]‏

فلما قالوا ذلك لقريش سرهم، ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجتمعوا لذلك واتعدوا له، ثم خرج أولئك النفر من يهود حتى جاؤوا غطفان من قيس عيلان، فدعوهم إلى حرب النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبروهم أنهم يكونون معهم عليه، وأن قريشاً قد تابعوهم على ذلك واجتمعوا معهم فيه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 109‏)‏

فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر في بني فزارة، والحارث بن عوف بن أبي حارثة المري في بني مرة، ومسعر بن رخيلة بن نويرة بن طريف بن سحمة بن عبد الله بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن ريث بن غطفان فيمن تابعه من قومه من أشجع‏.‏

فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أجمعوا له من الأمر، ضرب الخندق على المدينة‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ يقال إن الذي أشار به سلمان‏.‏

قال الطبري، والسهيلي‏:‏ أول من حفر الخنادق منوشهر بن أيرج بن أفريدون، وكان في زمن موسى عليه السلام‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ترغيباً للمسلمين في الأجر، وعمل معه المسلمون، وتخلف طائفة من المنافقين يعتذرون بالضعف، ومنهم من ينسل خفية بغير إذنه ولا علمه عليه الصلاة والسلام‏.‏

وقد أنزل الله تعالى في ذلك قوله تعالى‏:‏

{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 62-64‏]‏‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فعمل المسلمون فيه حتى أحكموه، وارتجزوا فيه برجل من المسلمين يقال له جُعيل سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عمراً، فقالوا فيما يقولون‏:‏

سماه من بعد جُعَيلِ عمراً * وكان للبائس يوماً ظهرا

وكانوا إذا قالوا عمراً، قال معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عمراً، وإذا قالوا ظهراً قال لهم ظهراً‏.‏

وقد قال البخاري‏:‏ حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا أبو إسحاق، عن حميد سمعت أنساً قال‏:‏ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة، ولم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم إن العيش عيش الآخرة فاغفر الأنصار والمهاجره‏)‏‏)‏ فقالوا مجيبين له‏:‏

نحن الذين بايعوا محمداً * على الجهاد ما بقينا أبدا

وفي الصحيحين من حديث شعبة، عن معاوية بن قرة، عن أنس نحوه‏.‏

وقد رواه مسلم من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت وحميد، عن أنس بنحوه‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، عن عبد العزيز، عن أنس قال‏:‏ جعل المهاجرون والأنصار يحفرون الخندق حول المدينة، وينقلون التراب على متونهم ويقولون‏:‏

نحن الذين بايعوا محمداً * على الإسلام ما بقينا أبدا

قال‏:‏ يقول النبي صلى الله عليه وسلم مجيباً لهم‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة، فبارك في الأنصار والمهاجرة‏)‏‏)‏

قال‏:‏ يؤتون بملء كفي من الشعير فيصنع لهم بإهالة سنخة توضع بين يدي القوم، والقوم جياع، وهي بشعة في الحلق ولها ريح منتن‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال‏:‏ كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق وهم يحفرون، ونحن ننقل التراب على أكتادنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للمهاجرين والأنصار‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه مسلم، عن القعنبي، عن عبد العزيز به‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل التراب يوم الخندق حتى أغمر بطنه، أو أغبر بطنه يقول‏:‏

والله لولا الله ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا * وثبت الأقدام إن لاقينا

إن الألى قد بغوا علينا * إذا أرادوا فتنة أبينا

ورفع بها صوته‏:‏ أبينا أبينا‏.‏

ورواه مسلم من حديث شعبة به‏.‏

ثم قال البخاري‏:‏ حدثنا أحمد بن عثمان، حدثنا شريح بن مسلمة، حدثني إبراهيم بن يوسف، حدثني أبي، عن أبي إسحاق، عن البراء يحدث قال‏:‏ لما كان يوم الأحزاب وخندق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيته ينقل من تراب الخندق، حتى وارى عني التراب جلدة بطنه، وكان كثير الشعر، فسمعته يرتجز بكلمات عبد الله بن رواحة، وهو ينقل من التراب يقول‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 111‏)‏

اللهم لولا أنت ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا * وثبت الأقدام إن لاقينا

إن الألى قد بغوا علينا * وإن أرادوا فتنة أبينا

ثم يمد صوته بآخرها‏.‏

وقال البيهقي في ‏(‏الدلائل‏)‏‏:‏ أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، حدثنا إسماعيل بن الفضل البجلي، حدثنا إبراهيم بن يوسف البلخي، حدثنا المسيب بن شريك، عن زياد بن أبي زياد، عن أبي عثمان، عن سلمان‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب في الخندق وقال‏:‏

بسم الله وبه هُدينا * ولو عبدنا غيره شقينا

يا حبذا رباً وحبَّ دينا

وهذا حديث غريب من هذا الوجه‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا سليمان، حدثنا شعبة، عن معاوية ابن قرة، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهم يحفرون الخندق‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم لا خير إلا خير الآخرة فأصلح الأنصار والمهاجرة‏)‏‏)‏‏.‏

وأخرجاه في الصحيحين من حديث غندر، عن شعبة‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وقد كان في حفر الخندق أحاديث بلغتني من الله فيها عبرة في تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحقيق نبوته، عاين ذلك المسلمون‏.‏

فمن ذلك أن جابر بن عبد الله كان يحدث‏:‏ أنه اشتدت عليهم في بعض الخندق كُدْيَة، فشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا بإناء من ماء، فتفل فيه ثم دعا بما شاء الله أن يدعو به، ثم نضح الماء على تلك الكدية‏.‏

فيقول من حضرها‏:‏ فوالذي بعثه بالحق نبياً، لانهالت حتى عادت كالكثيب، ما ترد فأساً ولا مسحاة‏.‏ هكذا ذكره ابن إسحاق منقطعاً عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه‏.‏

وقد قال البخاري - رحمه الله -‏:‏ حدثنا خلاد بن يحيى، حدثنا عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه قال‏:‏ أتيت جابراً فقال‏:‏ أنا يوم الخندق نحفر فعرضت كُدْيًة شديدة، فجاؤوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ هذه كدية عرضت في الخندق، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أنا نازل‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقاً، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول فضرب فعاد كثيباً أهيل، أو أهيم‏.‏ فقلت‏:‏ يا رسول الله ائذن لي إلى البيت‏.‏ فقلت لامرأتي‏:‏ رأيت النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ما كان في ذلك صبر، فعندك شيء‏؟‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 112‏)‏

قالت‏:‏ عندي شعير وعناق، فذبحت العناق، وطحنت الشعير، حتى جعلنا اللحم في البرمة، ثم جئت النبي صلى الله عليه وسلم والعجين قد انكسر، والبرمة بين الأثافي قد كادت أن تنضج، فقلت‏:‏ طعيم لي، فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان، قال‏:‏ ‏(‏‏(‏كم هو ‏؟‏‏)‏‏)‏ فذكرت له، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏كثير طيب، قل لها لا تنزع البرمة ولا الخبز من التنور حتى آتي‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏قوموا‏)‏‏)‏ فقام المهاجرون والأنصار، فلما دخل على امرأته قال‏:‏ ويحك، جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين والأنصار ومن معهم‏.‏

قالت‏:‏ هل سألك‏؟‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ادخلوا ولا تضاغطوا‏)‏‏)‏ فجعل يكسر الخبز، ويجعل عليه اللحم، ويخمر البرمة والتنور إذا أخذ منه، ويقرب إلى أصحابه، ثم ينزع فلم يزل يكسر الخبز، ويغرف حتى شبعوا، وبقي بقية‏.‏ قال‏:‏ كلي هذا وأهدي، فإن الناس أصابتهم مجاعة‏.‏ تفرد به البخاري‏.‏

وقد رواه الإمام أحمد عن وكيع، عن عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه أيمن الحبشي مولى بني مخزوم، عن جابر بقصة الكدية، وربط الحجر على بطنه الكريم‏.‏

ورواه البيهقي في ‏(‏الدلائل‏)‏ عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه، عن جابر قصة الكدية والطعام، وطوله أتم من رواية البخاري قال فيه‏:‏

لما علم النبي صلى الله عليه وسلم بمقدار الطعام، قال للمسلمين جميعاً‏:‏ ‏(‏‏(‏قوموا إلى جابر‏)‏‏)‏ فقاموا، قال‏:‏ فلقيت من الحياء ما لا يعلمه إلا الله، وقلت‏:‏ جاءنا بخلق على صاع من شعير وعناق، ودخلت على امرأتي أقول‏:‏ افتضحت جاءك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق أجمعين‏.‏

فقالت‏:‏ هل كان سألك كم طعامك‏؟‏

قلت‏:‏ نعم‏.‏

فقالت‏:‏ الله ورسوله أعلم قد أخبرناه ما عندنا‏.‏

قال‏:‏ فكشفت عني غماً شديداً‏.‏

قال‏:‏ فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏خدمي ودعيني من اللحم‏)‏‏)‏ وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يثرد، ويغرف اللحم، ويخمر هذا، ويخمر هذا، فما زال يقرب إلى الناس حتى شبعوا أجمعين، ويعود التنور والقدر أملأ ما كانا‏.‏

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏كلي وأهدي‏)‏‏)‏ فلم تزل تأكل وتهدي يومها‏.‏

وقد رواه كذلك أبو بكر بن أبي شيبة، عن عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه، عن جابر به، وأبسط أيضاً‏.‏

وقال في آخره‏:‏ وأخبرني أنهم كانوا ثمانمائة، أو قال ثلثمائة‏.‏

وقال يونس بن بكير‏:‏ عن هشام بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر فذكر القصة بطولها في الطعام فقط، وقال‏:‏ وكانوا ثلثمائة‏.‏

ثم قال البخاري‏:‏ حدثنا عمرو بن علي، حدثنا أبو عاصم، حدثنا حنظلة بن أبي سفيان، عن أبي الزبير، حدثنا ابن ميناء، سمعت جابر بن عبد الله قال‏:‏ لما حفر الخندق رأيت من النبي صلى الله عليه وسلم خمصاً، فانكفأت إلى امرأتي فقلت‏:‏ هل عندك شيء‏؟‏ فإني رأيت برسول الله صلى الله عليه وسلم خمصاً شديداً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 113‏)‏

فأخرجت لي جراباً فيه صاع من شعير، ولنا بهيمة داجن فذبحتها فطحنت، ففرغت إلى فراغي، وقطعتها في برمتها، ثم وليت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وسلم وبمن معه‏.‏

فجئته فساررته، فقلت‏:‏ يا رسول الله ذبحت بهيمة لنا، وطحنت صاعاً من شعير كان عندنا، فتعال أنت ونفر معك، فصاح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أهل الخندق إن جابراً قد صنع سؤراً فحيهلا بكم‏)‏‏)‏‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تنزلن برمتكم، ولا تخبزن عجينكم حتى أجيء‏)‏‏)‏ فجئت، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الناس، حتى جئت امرأتي فقالت‏:‏ بك وبك، فقلت‏:‏ قد فعلت الذي قلت، فأخرجت لنا عجيناً فبسق فيه وبارك، ثم عمد إلى برمتنا فبسق وبارك‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ادع خبازة فلتخبز معك، واقدحي من برمتك، ولا تنزلوها‏)‏‏)‏ وهم ألف، فأُقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجيننا كما هو‏.‏

ورواه مسلم عن حجاج بن الشاعر، عن أبي عاصم به نحوه‏.‏

وقد روى محمد بن إسحاق هذا الحديث، وفي سياقه غرابة من بعض الوجوه فقال‏:‏

حدثني سعيد بن ميناء، عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ عملنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق، وكانت عندي شويهة غير جد سمينة قال‏:‏ فقلت والله لو صنعناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ وأمرت امرأتي، فطحنت لنا شيئاً من شعير، فصنعت لنا منه خبزاً، وذبحت تلك الشاة، فشويناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فلما أمسينا وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الانصراف عن الخندق، قال وكنا نعمل فيه نهاراً، فإذا أمسينا رجعنا إلى أهالينا فقلت‏:‏ يا رسول الله إني قد صنعت لك شويهة كانت عندنا، وصنعنا معها شيئاً من خبز هذا الشعير، فأنا أحب أن تنصرف معي إلى منزلي‏.‏

قال‏:‏ وإنما أريد أن ينصرف معي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده‏.‏

قال‏:‏ فلما أن قلت ذلك، قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم‏)‏‏)‏ ثم أمر صارخاً فصرخ، أن انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت جابر بن عبد الله‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

قال‏:‏ فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل الناس معه، فجلس وأخرجناها إليه، قال‏:‏ فبرك وسمى الله تعالى، ثم أكل، وتواردها الناس كلما فرغ قوم قاموا، وجاء ناس حتى صدر أهل الخندق عنها‏.‏

والعجب أن الإمام أحمد إنما رواه من طريق سعيد بن ميناء، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن ابن إسحاق عنه، عن جابر مثله سواء‏.‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ وحدثني سعيد بن ميناء أنه قد حدث أن ابنة لبشير بن سعد أخت النعمان بن بشير قالت‏:‏ دعتني أمي عمرة بنت رواحة، فأعطتني حفنة من تمر في ثوبي، ثم قالت‏:‏ أي بنية اذهبي إلى أبيك وخالك عبد الله بن رواحة بغدائهما‏.‏

قالت‏:‏ فأخذتها وانطلقت بها فمررت برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا ألتمس أبي وخالي فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏تعالي يا بنية ما هذا معك ‏؟‏‏)‏‏)‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 114‏)‏

قالت‏:‏ قلت يا رسول الله هذا تمر بعثتني به أمي إلى أبي بشير بن سعد، وخالي عبد الله بن رواحة يتغديانه‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏هاتيه‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ فصببته في كفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما ملأتهما‏.‏ ثم أمر بثوب فبسط له، ثم دحا بالتمر عليه فتبدد فوق الثوب‏.‏

ثم قال لإنسان عنده‏:‏ ‏(‏‏(‏اصرخ في أهل الخندق أن هلم إلى الغداء‏)‏‏)‏ فاجتمع أهل الخندق عليه، فجعلوا يأكلون منه، وجعل يزيد حتى صدر أهل الخندق عنه، وإنه ليسقط من أطراف الثوب‏.‏

هكذا رواه ابن إسحاق وفيه انقطاع‏.‏

وهكذا رواه الحافظ البيهقي من طريقه، ولم يزد‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثت عن سلمان الفارسي أنه قال‏:‏ ضربت في ناحية من الخندق، فغلظت علي صخرة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قريب مني، فلما رآني أضرب، ورأى شدة المكان علي، نزل فأخذ المعول من يدي، فضرب به ضربة لمعت تحت المعول برقة، ثم ضرب به ضربة أخرى فلمعت تحته برقة أخرى‏.‏

قال‏:‏ ثم ضرب به الثالثة فلمعت برقة أخرى، قال‏:‏ قلت بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما هذا الذي رأيت، لمع تحت المعول وأنت تضرب‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أوقد رأيت ذلك يا سلمان ‏؟‏‏)‏‏)‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أما الأولى فإن الله فتح علي باب اليمن، وأما الثانية فإن الله فتح علي باب الشام والمغرب، وأما الثالثة فإن الله فتح علي بها المشرق‏)‏‏)‏‏.‏

قال البيهقي‏:‏ وهذا الذي ذكره ابن إسحاق قد ذكره موسى بن عقبة في ‏(‏مغازيه‏)‏‏.‏

وذكره أبو الأسود عن عروة‏.‏

ثم روى البيهقي من طريق محمد بن يونس الكديمي، وفي حديثه نظر‏.‏

لكن رواه ابن جرير في ‏(‏تاريخه‏)‏ عن محمد بن بشار وبندار، كلاهما عن محمد بن خالد بن عثمة، عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه، عن جده، فذكر حديثاً فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطَّ الخندق بين كل عشرة أربعين ذراعاً‏.‏

قال‏:‏ واحتق المهاجرون والأنصار في سلمان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏سلمان منا أهل البيت‏)‏‏)‏‏.‏

قال عمرو بن عوف‏:‏ فكنت أنا وسلمان، وحذيفة، والنعمان بن مقرن، وستة من الأنصار، في أربعين ذراعاً، فحفرنا حتى إذا بلغنا الندى، ظهرت لنا صخرة بيضاء مروة، فكسرت حديدنا، وشقت علينا‏.‏

فذهب سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في قبة تركية، فأخبره عنها، فجاء فأخذ المعول من سلمان، فضرب الصخرة ضربة فصدعها، وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتيها - يعني المدينة - حتى كأنها مصباح في جوف ليل مظلم، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح، وكبر المسلمون‏.‏

ثم ضربها الثانية فكذلك، ثم الثالثة فكذلك، وذكر ذلك سلمان والمسلمون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وسألوه عن ذلك النور، فقال‏:‏

‏(‏‏(‏لقد أضاء لي من الأولى قصور الحيرة ومدائن كسرى، كأنها أنياب الكلاب، فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، ومن الثانية أضاءت القصور الحمر من أرض الروم، كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، ومن الثالثة أضاءت قصور صنعاء، كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، فأبشروا‏)‏‏)‏ واستبشر المسلمون وقالوا‏:‏ الحمد لله موعود صادق‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 115‏)‏

قال‏:‏ ولما طلعت الأحزاب قال المؤمنون‏:‏ هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً، وقال المنافقون‏:‏ يخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة، ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم، وأنتم تحفرون الخندق لا تستطيعون أن تبرزوا، فنزل فيهم‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 12‏]‏ وهذا حديث غريب‏.‏

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني‏:‏ حدثنا هارون بن ملول، حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا عبد الرحمن بن زياد، عن عبد الله بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق، فخندق على المدينة قالوا‏:‏ يا رسول الله إنا وجدنا صفاة لا نستطيع حفرها‏.‏

فقام النبي صلى الله عليه وسلم وقمنا معه، فلما أتاها أخذ المعول فضرب أخرى فكبر، فسمعت هدة لم أسمع مثلها قط، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏فتحت فارس‏)‏‏)‏ ثم ضرب أخرى فكبر، فسمعت هدة لم أسمع مثلها قط، فقال ‏(‏‏(‏فتحت الروم‏)‏‏)‏ ثم ضرب أخرى فكبر‏.‏

فسمعت هدة لم أسمع مثلها قط فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏جاء الله بحمير أعواناً وأنصاراً‏)‏‏)‏ وهذا أيضاً غريب من هذا الوجه، وعبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي فيه ضعف، فالله أعلم‏.‏

وقال الطبراني أيضاً‏:‏ حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني سعيد بن محمد الجرمي، حدثنا أبو نميلة، حدثنا نعيم بن سعيد الغري أن عكرمة حدث عن ابن عباس قال‏:‏ احتفر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق، وأصحابه قد شدوا الحجارة على بطونهم من الجوع‏.‏

فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏هل دللتم على رجل يطعمنا أكلة ‏؟‏‏)‏‏)‏

قال رجل‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أما لا، فتقدم فدلنا عليه‏)‏‏)‏ فانطلقوا إلى بيت الرجل فإذا هو في الخندق يعالج نصيبه منه، فأرسلت امرأته أن جئ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أتانا‏.‏

فجاء الرجل يسعى وقال‏:‏ بأبي وأمي، وله معزة ومعها جديها، فوثب إليها فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏الجدي من ورائها‏)‏‏)‏ فذبح الجدي، وعمدت المرأة إلى طحينة لها فعجنتها وخبزت، فأدركت القدر، فثردت قصعتها فقربتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه‏.‏

فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم إصبعه فيها وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏بسم الله اللهم بارك فيها أطعموا‏)‏‏)‏ فأكلوا منها حتى صدروا، ولم يأكلوا منها إلا ثلثها وبقي ثلثاها، فسرح أولئك العشرة الذين كانوا معه أن اذهبوا وسرحوا إلينا بعدتكم، فذهبوا فجاء أولئك العشرة، فأكلوا منها حتى شبعوا، ثم قام ودعا لربة البيت، وسمت عليها، وعلى أهل بيتها‏.‏

ثم مشوا إلى الخندق فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اذهبوا بنا إلى سلمان‏)‏‏)‏ وإذا صخرة بين يديه قد ضعف عنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏دعوني فأكون أول من ضربها‏)‏‏)‏ فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏بسم الله‏)‏‏)‏ فضربها، فوقعت فلقة ثلثها، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏الله أكبر قصور الشام ورب الكعبة‏)‏‏)‏‏.‏

ثم ضرب أخرى فوقعت فلقة فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏الله أكبر قصور فارس ورب الكعبة‏)‏‏)‏ فقال عندها المنافقون‏:‏ نحن نخندق على أنفسنا، وهو يعدنا قصور فارس والروم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 116‏)‏

ثم قال الحافظ البيهقي‏:‏ أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، حدثنا محمد بن غالب بن حرب، حدثنا هوذة، حدثنا عوف، عن ميمون بن أستاذ الزهري، حدثني البراء بن عازب الأنصاري قال‏:‏

لما كان حين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق، عرض لنا في بعض الخندق صخرة عظيمة شديدة، لا تأخذ فيها المعاول، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآها أخذ المعول وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏بسم الله‏)‏‏)‏ وضرب ضربة فكسر ثلثها‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر إن شاء الله‏)‏‏)‏ ثم ضرب الثانية فقطع ثلثاً آخر، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض‏)‏‏)‏‏.‏

ثم ضرب الثالثة فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏بسم الله‏)‏‏)‏ فقطع بقية الحجر، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة‏)‏‏)‏ وهذا حديث غريب أيضاً، تفرد به ميمون بن أستاذ هذا، وهو بصري روى عن البراء، وعبد الله بن عمرو وعنه حميد الطويل، والجريري، وعوف الأعرابي‏.‏

قال أبو حاتم، عن إسحاق بن منصور، عن ابن معين‏:‏ كان ثقة‏.‏

وقال علي بن المديني‏:‏ كان يحيى بن سعيد القطان لا يحدث عنه‏.‏

وقال النسائي‏:‏ حدثنا عيسى بن يونس، حدثنا ضمرة، عن أبي زرعة السيباني، عن أبي سكينة - رجل من البحرين - عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق، عرضت لهم صخرة حالت بينهم وبين الحفر‏.‏

فقام النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ المعول، ووضع رداءه ناحية الخندق، وقال‏:‏ ‏{‏وتمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم‏}‏ فندر ثلث الحجر وسلمان الفارسي قائم ينظر، فبرق مع ضربة رسول الله صلى الله عليه وسلم برقة‏.‏

ثم ضرب الثانية وقال‏:‏ ‏{‏وتمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلمات الله وهو السميع العليم‏}‏ فندر الثلث الآخر وبرقت برقة، فرآها سلمان‏.‏

ثم ضرب الثالثة وقال‏:‏ ‏{‏وتمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم‏}‏ فندر الثلث الباقي‏.‏

وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ رداءه وجلس، فقال سلمان‏:‏ يا رسول الله رأيتك حين ضربت لا تضرب إلا كانت معها برقة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏يا سلمان رأيت ذلك ‏؟‏‏)‏‏)‏ قال‏:‏ أي والذي بعثك بالحق يا رسول الله‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فإني حين ضربت الضربة الأولى رفعت لي مدائن كسرى وما حولها، ومدائن كثيرة حتى رأيتها بعيني‏)‏‏)‏‏.‏

فقال له من حضره من أصحابه‏:‏ يا رسول الله ادع أن يفتحها علينا، ويغنمنا ذراريهم، ونخرب بأيدينا بلادهم‏.‏ فدعا بذلك‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ثم ضربت الثانية فرفعت لي مدائن قيصر وما حولها، حتى رأيتها بعيني‏)‏‏)‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله ادع الله أن يفتحها علينا، ويغنمنا ذراريهم، ونخرب بأيدينا بلادهم، فدعا‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ثم ضربت الثالثة فرفعت لي مدائن الحبشة وما حولها من القرى، حتى رأيتها بعيني‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 117‏)‏

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏دعوا الحبشة ما ودعوكم، واتركوا الترك وما تركوكم هكذا‏)‏‏)‏ رواه النسائي مطولاً وإنما روى منه أبو داود ‏(‏‏(‏دعوا الحبشة ما ودعوكم، واتركوا الترك ما تركوكم‏)‏‏)‏ عن عيسى بن محمد الرملي، عن ضمرة بن ربيعة، عن أبي زرعة يحيى بن أبي عمرو السيباني به‏.‏

ثم قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني من لا أتهم عن أبي هريرة أنه كان يقول، حين فتحت هذه الأمصار في زمان عمر، وزمان عثمان، وما بعده‏:‏ افتتحوا ما بدا لكم، فوالذي نفس أبي هريرة بيده ما افتتحتم من مدينة، ولا تفتحونها إلى يوم القيامة، إلا وقد أعطى الله محمداً صلى الله عليه وسلم مفاتيحها قبل ذلك‏.‏

وهذا من هذا الوجه منقطع أيضاً، وقد وصل من غير وجه ولله الحمد‏.‏

فقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا حجاج، حدثنا ليث، حدثني عقيل بن خالد، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، أن أبا هريرة قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏بعثت بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه البخاري منفرداً به عن يحيى بن بكير، وسعد بن عفير، كلاهما عن الليث به‏.‏ وعنده قال أبو هريرة‏:‏ فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنتم تنتثلونها‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يزيد، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏نصرت بالرعب، وأوتيت جوامع الكلم، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فتلت في يدي‏)‏‏)‏ وهذا إسناد جيد قوي على شرط مسلم، ولم يخرجوه‏.‏

وفي الصحيحين‏:‏ ‏(‏‏(‏إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله‏)‏‏)‏‏.‏

وفي الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏‏(‏إن الله زوى لي الأرض مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها‏)‏‏)‏‏.‏