فصل: فصل عطف رسول الله عليه السلام على ابن جعفر عند إصابة أبيه‏.‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 فصل إصابة جعفر وأصحابه‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ حدثني عبد الله بن أبي بكر، عن أم عيسى الخزاعية، عن أم جعفر بنت محمد بن جعفر بن أبي طالب، عن جدتها أسماء بنت عميس قالت‏:‏ لما أصيب جعفر وأصحابه دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد دبغت أربعين مناء، وعجنت عجيني، وغسلت بني ودهنتهم ونظفتهم‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ائتني بابني جعفر‏)‏‏)‏ فأتيته بهم فشمهم وذرفت عيناه‏.‏

فقلت‏:‏ يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما يبكيك أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم أصيبوا هذا اليوم‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ فقمت أصيح واجتمع إلي النساء، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تغفلوا عن آل جعفر أن تصنعوا لهم طعاماً فإنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم‏)‏‏)‏‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 287‏)‏

وهكذا رواه الإمام أحمد من حديث ابن إسحاق‏.‏

ورواه ابن إسحاق من طريق عبد الله بن أبي بكر، عن أم عيسى، عن أم عون بنت محمد بن جعفر، عن أسماء فذكر الأمر بعمل الطعام، والصواب أنها أم جعفر وأم عون‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا سفيان، ثنا جعفر بن خالد، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر قال‏:‏ لما جاء نعي جعفر حين قتل قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم أمر يشغلهم أو أتاهم ما يشغلهم‏)‏‏)‏‏.‏

وهكذا رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه من حديث سفيان بن عيينة، عن جعفر بن خالد بن سارة المخزومي المكي، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ حسن‏.‏

ثم قال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت‏:‏ لما أتى نعي جعفر عرفنا في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم الحزن‏.‏

قالت‏:‏ فدخل عليه رجل فقال‏:‏ يا رسول الله إن النساء عييننا وفتننا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ارجع إليهن فأسكتهن‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ فذهب، ثم رجع فقال له مثل ذلك‏.‏

قالت‏:‏ يقول‏:‏ وربما ضر التكلف - يعني أهله -

قالت‏:‏ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فاذهب فأسكتهن فإن أبين فاحثوا في أفواههن التراب‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ وقلت في نفسي‏:‏ أبعدك الله ‏!‏ فوالله ما تركت نفسك وما أنت بمطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قالت‏:‏ وعرفت أنه لا يقدر يحثي في أفواههن التراب‏.‏

انفرد به ابن إسحاق من هذا الوجه، وليس في شيء من الكتب‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا قتيبة، ثنا عبد الوهاب، سمعت يحيى بن سعيد قال‏:‏ أخبرتني عمرة قالت‏:‏ سمعت عائشة تقول‏:‏ لما قتل زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الحزن‏.‏

قالت عائشة‏:‏ وأنا أطلع من صاير الباب - شق - فأتاه رجل فقال‏:‏ أي رسول الله إن نساء جعفر وذكر بكاءهن، فأمره أن ينهاهن‏.‏

قالت‏:‏ فذهب الرجل ثم أتى فقال‏:‏ قد نهيتهن وذكر أنه لم يطعنه، قال فأمر أيضاً فذهب ثم أتى فقال‏:‏ والله لقد غلبننا فزعمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فاحث في أفواههن من التراب‏)‏‏)‏‏.‏

قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ فقلت‏:‏ أرغم الله أنفك فوالله ما أنت تفعل ذلك، وما تركت رسول الله صلى الله عليه وسلم من العناء‏.‏

وهكذا رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي، من طرق، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عمرة عنها‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا وهب بن جرير، ثنا أبي، سمعت محمد بن أبي يعقوب يحدث عن الحسن بن سعيد، عن عبد الله بن جعفر قال‏:‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً استعمل عليهم زيد بن حارثة وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن قتل زيد أو استشهد فأميركم جعفر، فإن قتل أو استشهد فأميركم عبد الله بن رواحة‏)‏‏)‏‏.‏

فلقوا العدو فأخذ الراية زيد فقاتل حتى قتل، ثم أخذ الراية جعفر فقاتل حتى قتل، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل، ثم أخذ الراية خالد بن الوليد ففتح الله عليه‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 288‏)‏

وأتى خبرهم النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج إلى الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن إخوانكم لقوا العدو، وإن زيداً أخذ الراية فقاتل حتى قتل أو استشهد، ثم أخذ الراية بعده جعفر بن أبي طالب فقاتل حتى قتل أو استشهد، ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل أو استشهد، ثم أخذ الراية سيفاً من سيوف الله خالد بن الوليد ففتح الله عليه‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ثم أمهل آل جعفر ثلاثاً أن يأتهم، ثم أتاهم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تبكوا على أخي بعد اليوم ادعوا لي بني أخي‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فجيء بنا كأننا أفراخ‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ادعوا لي الحلاق‏)‏‏)‏‏.‏

فجيء بالحلاق فحلق رؤسنا، ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أما محمد فشبيه عمنا أبي طالب، وأما عبد الله فشبيه خلقي وخلقي‏)‏‏)‏‏.‏

ثم أخذ بيدي فأشألها وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم اخلف جعفراً في أهله، وبارك لعبد الله في صفقة يمينه‏)‏‏)‏ قالها ثلاث مرات‏.‏

قال‏:‏ فجاءت أمنا فذكرت له يتمنا وجعلت تفرح له فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏العيلة تخافين عليهم وأنا وليهم في الدنيا والآخرة‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه أبو داود ببعضه، والنسائي في السير بتمامه من حديث وهب بن جرير به، وهذا يقتضي أنه عليه الصلاة والسلام أرخص لهم في البكاء ثلاثة أيام، ثم نهاهم عنه بعدها‏.‏

ولعله معنى الحديث الذي رواه الإمام أحمد من حديث الحكم بن عبد الله بن شداد، عن أسماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها لما أصيب جعفر‏:‏ ‏(‏‏(‏تسلبي ثلاثاً ثم اصنعي ما شئت‏)‏‏)‏‏.‏

تفرد به أحمد، فيحتمل أنه أذن لها في التسلب وهو المبالغة في البكاء وشق الثياب، ويكون هذا من باب التخصيص لها بهذا لشدة حزنها على جعفر أبي أولادها، وقد يحتمل أن يكون أمراً لها بالتسلب وهو المبالغة في الإحداد ثلاثة أيام، ثم تصنع ما شاءت مما يفعله المعتدات على أزواجهن من الإحداد المعتاد، والله أعلم‏.‏

ويروى‏:‏ ‏(‏‏(‏تسلي ثلاثاً‏)‏‏)‏ أي‏:‏ تصبري ثلاثاً وهذا بخلاف الرواية الأخرى، والله أعلم‏.‏

فأما الحديث الذي قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يزيد، ثنا محمد بن طلحة، ثنا الحكم بن عيينة، عن عبد الله بن شداد، عن أسماء بنت عميس قالت‏:‏ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم الثالث من قتل جعفر فقال‏:‏

‏(‏‏(‏لا تحدي بعد يومك هذا‏)‏‏)‏ فإنه من إفراد أحمد أيضاً، وإسناده لا بأس به، ولكنه مشكل إن حمل على ظاهره لأنه قد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميتها أكثر من ثلاثة أيام، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرة‏)‏‏)‏‏.‏

فإن كان ما رواه الإمام أحمد محفوظاً فتكون مخصوصة بذلك، أو هو أمر بالمبالغة في الإحداد هذه الثلاثة أيام كما تقدم، والله أعلم‏.‏

قلت‏:‏ ورثت أسماء بنت عميس زوجها بقصيدة تقول فيها‏:‏

فآليت لا تنفك نفسي حزينة * عليك ولا ينفك جلدي أغبرا

فلله عيناً من رأى مثله فتى * أكر وأحمى في الهياج وأصبرا

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 289‏)‏

ثم لم تنشب أن انقضت عدتها فخطبها أبو بكر الصديق رضي الله عنه فتزوجها، فأولم وجاء الناس للوليمة، فكان فيهم علي بن أبي طالب، فلما ذهب الناس استأذن علي أبا بكر رضي الله عنهما في أن يكلم أسماء من وراء الستر، فأذن له، فلما اقترب من الستر نفحه ريح طيبها فقال لها علي‏:‏ على وجه البسط من القائلة في شعرها‏:‏

فآليت لا تنفك نفسي حزينة * عليك ولا ينفك جلدي أغبرا

قالت‏:‏ دعنا منك يا أبا الحسن فإنك امرؤ فيك دعابة، فولدت للصديق محمد بن أبي بكر، ولدته بالشجرة بين مكة والمدينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ذاهب إلى حجة الوداع، فأمرها أن تغتسل وتهل وسيأتي في موضعه‏.‏

ثم لما توفي الصديق تزوجها بعده علي بن أبي طالب، وولدت له أولاداً رضي الله عنه عنها، وعنهم أجمعين‏.‏

 فصل عطف رسول الله عليه السلام على ابن جعفر عند إصابة أبيه‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير قال‏:‏ فلما دنوا من المدينة تلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، قال‏:‏ ولقيهم الصبيان يشتدون ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقبل مع القوم على دابة فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏خذوا الصبيان فاحملوهم، وأعطوني ابن جعفر‏)‏‏)‏‏.‏

فأتي بعبد الله بن جعفر فحمله بين يديه‏.‏

قال‏:‏ وجعل الناس يحثون على الجيش التراب ويقولون‏:‏ يا فرار أفررتم في سبيل الله‏.‏

قال‏:‏ فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله‏)‏‏)‏ وهذا مرسل‏.‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ ثنا أبو معاوية، ثنا عاصم، عن مؤرق العجلي، عن عبد الله بن جعفر قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر تلقى الصبيان من أهل بيته، وأنه قدم من سفر فسبق بي إليه قال‏:‏ فحملني بين يديه، ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏جيء بأحد بني فاطمة‏)‏‏)‏ إما حسن وإما حسين، فأردفه خلفه فدخلنا المدينة ثلاثة على دابة‏.‏

وقد رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه من حديث عاصم الأحول عن مؤرق به‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا روح، حدثنا ابن جريج، ثنا خالد بن سارة‏:‏ أن أباه أخبره أن عبد الله بن جعفر قال‏:‏ لو رأيتني وقثماً وعبيد الله ابني العباس ونحن صبيان نلعب، إذ مر النبي صلى الله عليه وسلم على دابة فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ارفعوا هذا إلي‏)‏‏)‏ فحملني أمامه وقال لقثم‏:‏ ‏(‏‏(‏ارفعوا هذا إلي‏)‏‏)‏ فجعله وراءه‏.‏

وكان عبيد الله أحب إلى عباس من قثم، فما استحى من عمه أن حمل قثماً وتركه، قال‏:‏ ثم مسح على رأسه ثلاثاً وقال كلما مسح‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم اخلف جعفراً في ولده‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ قلت لعبد الله‏:‏ ما فعل قثم ‏؟‏

قال‏:‏ استشهد‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ الله ورسوله أعلم بالخير‏.‏

قال‏:‏ أجل‏.‏

ورواه النسائي في ‏(‏اليوم والليلة‏)‏ من حديث ابن جريج به‏.‏ وهذا كان بعد الفتح، فإن العباس إنما قدم المدينة بعد الفتح‏.‏

فأما الحديث رواه الإمام أحمد‏:‏ ثنا إسماعيل، ثنا حبيب بن الشهيد، عن عبد الله بن أبي مليكة قال‏:‏ قال عبد الله بن جعفر لابن الزبير‏:‏ أتذكر إذ تلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأنت وابن عباس ‏؟‏

قال‏:‏ نعم، فحملنا وتركك‏.‏

وبهذا اللفظ أخرجه البخاري، ومسلم من حديث حبيب بن الشهيد، وهذا يعد من الأجوبة المسكتة‏.‏

ويروى أن عبد الله بن عباس أجاب به ابن الزبير أيضاً، وهذه القصة قصة أخرى كانت بعد الفتح كما قدمنا بيانه، والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 290‏)‏

 فصل في فضل هؤلاء الأمراء الثلاثة زيد وجعفر وعبد الله رضي الله عنهم

أما زيد بن حارثة بن شراحيل بن كعب بن عبد العزى بن امرئ القيس بن عامر بن النعمان بن عامر بن عبدود بن عوف بن كنانة بن بكر بن عوف بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة بن ثعلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة الكلبي القضاعي، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وذلك أن أمه ذهبت تزور أهلها فأغارت عليهم خيل فأخذوه، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد‏.‏

وقيل‏:‏ اشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم لها، فوهبته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل النبوة، فوجده أبوه فاختار المقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه وتبناه، فكان يقال له‏:‏ زيد بن محمد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه حباً شديداً‏.‏

وكان أول من أسلم من الموالي، ونزل فيه آيات من القرآن منها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 4‏]‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 5‏]‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 40‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا‏}‏ الآية ‏[‏الأحزاب‏:‏ 37‏]‏‏.‏

أجمعوا أن هذه الآيات أنزلت فيه، ومعنى ‏{‏أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ‏}‏ أي‏:‏ بالإسلام‏.‏

‏{‏وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ‏}‏ أي‏:‏ بالعتق‏.‏

وقد تكلمنا عليها في التفسير، والمقصود أن الله تعالى لم يسم أحداً من الصحابة في القرآن غيره، وهداه إلى الإسلام وأعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوجه مولاته أم أيمن واسمها بركة، فولدت له أسامة بن زيد، فكان يقال له‏:‏ الحب ابن الحب‏.‏

ثم زوجه بابنة عمته زينب بنت جحش، وآخى بينه وبين عمه حمزة بن عبد المطلب، وقدمه في الإمرة على ابن عمه جعفر بن أبي طالب يوم مؤتة كما ذكرناه‏.‏

وقد قال الإمام أحمد، والإمام الحافظ أبو بكر ابن أبي شيبة - وهذا لفظه -‏:‏ ثنا محمد بن عبيد، عن وائل بن داود، سمعت البهي يحدث‏:‏ أن عائشة كانت تقول‏:‏ ما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في سرية إلا أمره عليهم، ولو بقي بعد لاستخلفه‏.‏

ورواه النسائي عن أحمد بن سلمان، عن محمد بن عبيد الطنافسي به، وهذا إسناد جيد قوي على شرط الصحيح، وهو غريب جداً، والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 291‏)‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا سليمان، ثنا إسماعيل، أخبرني ابن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنه‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعثاً وأمر عليهم أسامة بن زيد، فطعن بعض الناس في أمرته، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏

‏(‏‏(‏إن تطعنوا في أمرته فقد كنتم تطعنون في أمرة أبيه من قبل، وأيم الله إن كان لخليقاً للأمارة، وإن كان لمن أحب الناس إلي، وإن هذا لمن أحب الناس إلي بعده‏)‏‏)‏‏.‏

وأخرجاه في الصحيحين‏:‏ عن قتيبة، عن إسماعيل- هو ابن جعفر بن أبي كثير المدني - عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر فذكره‏.‏

ورواه البخاري من حديث موسى بن عقبة، عن سالم، عن أبيه‏.‏

ورواه البزار من حديث عاصم بن عمر، عن عبيد الله بن عمر العمري، عن نافع، عن ابن عمر، ثم استغربه من هذا الوجه‏.‏

وقال الحافظ أبو بكر البزار‏:‏ ثنا عمر بن إسماعيل، عن مجالد، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة قالت‏:‏ لما أصيب زيد بن حارثة، وجيء بأسامة بن زيد وأوقف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخر، ثم عاد من الغد فوقف بين يديه فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ألاقي منك اليوم ما لقيت منك أمس‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا الحديث فيه غرابة، والله أعلم‏.‏

وقد تقدم في الصحيحين‏:‏ أنه لما ذكر مصابهم وهو عليه السلام فوق المنبر جعل يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب، ثم أخذها سيف من سيوف الله ففتح الله عليه‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ وإن عينيه لتذرفان وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏وما يسرهم أنهم عندنا‏)‏‏)‏

وفي الحديث الآخر‏:‏ أنه شهد لهم بالشهادة، فهم ممن يقطع لهم بالجنة‏.‏

وقد قال حسان بن ثابت يرثي زيد بن حارثة، وابن رواحة‏:‏

عين جودي بدمعك المنزور * واذكري في الرخاء أهل القبور

واذكري مؤتة وما كان فيها * يوم راحوا في وقعة التغوير

حين راحوا وغادروا ثم زيداً * نعم مأوى الضريك والمأسور

حب خير الأنام طُزا جميعاً * سيد الناس حبه في الصدور

ذاكم أحمد الذي لا سواه * ذاك حزني له معا وسروري

إن زيداً قد كان منا بأمر * ليس أمر المكذب المغرور

ثم جودي للخزرجي بدمع * سيداً كان ثم غير نزور

قد أتانا من قتلهم ما كفانا * فبحزن نبيت غير سرور

وأما جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم‏:‏ فهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أكبر من أخيه علي بعشر سنين، وكان عقيل أسن من جعفر بعشر سنين، وكان طالب أسن من عقيل بعشر سنين‏.‏

أسلم جعفر قديماً وهاجر إلى الحبشة، وكانت له هناك مواقف مشهورة ومقامات محمودة، وأجوبة سديدة، وأحوال رشيدة، وقد قدمنا ذلك في هجرة الحبشة، ولله الحمد‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 292‏)‏

وقد قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر، فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏‏(‏ما أدري أنا بأيهما أسر بقدوم جعفر أم بفتح خيبر‏)‏‏)‏ وقام إليه واعتنقه وقبل بين عينيه‏.‏

وقال له يوم خرجوا من عمرة القضية‏:‏ ‏(‏‏(‏أشبهت خلقي وخلقي‏)‏‏)‏ فيقال‏:‏ إنه حجل عند ذلك فرحاً كما تقدم في موضعه، ولله الحمد والمنة‏.‏

ولما بعثه إلى مؤتة جعل في الإمرة مصلياً - أي‏:‏ نائباً - لزيد بن حارثة، ولما قتل وجدوا فيه بضعاً وتسعين ما بين ضربة بسيف، وطعنة برمح، ورمية بسهم، وهو في ذلك كله مقبل غير مدبر، وكانت قد طعنت يده اليمنى، ثم اليسرى وهو ممسك للواء، فلما فقدهما احتضنه حتى قتل، وهو كذلك‏.‏

فيقال‏:‏ إن رجلاً من الروم ضربه بسيف فقطعه باثنتين، رضي الله عن جعفر ولعن قاتله، وقد أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه شهيد، فهو ممن يقطع له بالجنة، وجاء بالأحاديث تسميته بذي الجناحين‏.‏

وروى البخاري، عن ابن عمر‏:‏ أنه كان إذا سلم على أبيه عبد الله بن جعفر يقول‏:‏ السلام عليك يا ابن ذي الجناحين، وبعضهم يرويه عن عمر بن الخطاب نفسه، والصحيح ما في الصحيح عن ابن عمر قالوا‏:‏ لأن الله تعالى عوضه عن يديه بجناحين في الجنة‏.‏

وقد تقدم بعض ما روي في ذلك‏.‏

قال الحافظ أبو عيسى الترمذي‏:‏ حدثنا علي بن حجر، ثنا عبد الله بن جعفر، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏رأيت جعفراً يطير في الجنة مع الملائكة‏)‏‏)‏‏.‏

وتقدم في حديث أنه رضي الله عنه قتل وعمره ثلاث وثلاثين سنة‏.‏

وقال ابن الأثير في ‏(‏الغابة‏)‏‏:‏ كان عمره يوم قتل إحدى وأربعين‏.‏

قال‏:‏ وقيل غير ذلك‏.‏

قلت‏:‏ وعلى ما قيل إنه كان أسن من علي بعشر سنين يقتضي أن عمره يوم قتل تسع وثلاثون سنة، لأن علياً أسلم وهو ابن ثمان سنين على المشهور، فأقام بمكة ثلاث عشرة سنة، وهاجر وعمره إحدى وعشرين سنة، ويوم مؤتة كان في سنة ثمان من الهجرة، والله أعلم‏.‏

وقد كان يقال لجعفر بعد قتله الطيار لما ذكرنا، وكان كريماً جواداً ممدحاً، وكان لكرمه يقال له أبا المساكين لإحسانه إليهم‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ وحدثنا عفان بن وهيب، ثنا خالد، عن عكرمة، عن أبي هريرة قال‏:‏ ما احتذى النعال، ولا انتعل ولا ركب المطايا، ولا لبس الثياب من رجل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من جعفر بن أبي طالب‏.‏

وهذا إسناد جيد إلى أبي هريرة، وكأنه إنما يفضله في الكرم، فأما في الفضيلة الدينية فمعلوم أن الصديق والفاروق بل وعثمان بن عفان أفضل منه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 293‏)‏

وأما أخوه علي رضي الله عنهما فالظاهر أنهما متكافئان، أو علي أفضل منه، وإنما أراد أبو هريرة تفضيله في الكرم بدليل ما رواه البخاري‏:‏ ثنا أحمد بن أبي بكر، ثنا محمد بن إبراهيم بن دينار أبو عبد الله الجهني، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة‏:‏

أن الناس كانوا يقولون أكثر أبو هريرة، وأني كنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطني خبز، لا آكل الخمير، ولا ألبس الحرير، ولا يخدمني فلان وفلانة، وكنت ألصق بطني بالحصباء من الجوع، وإن كنت لاستقرئ الرجل الآية هي معي كي ينقلب بي فيطعمني‏.‏

وكان خير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب، وكان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته، حتى إن كان ليخرج إلينا العكة التي ليس فيها شيء فنشقها فنلعق ما فيها‏.‏

تفرد به البخاري‏.‏

وقال حسان بن ثابت يرثي جعفراً‏:‏

ولقد بكيت وعز مهلك جعفر * حب النبي على البرية كلها

ولقد جزعت وقلت حين نعيت لي * من للجلاد لدى العقاب وظلها

بالبيض حين تسل من أغمادها * ضرباً وأنهال الرماح وعلها

بعد ابن فاطمة المبارك جعفر * خير البرية كلها وأجلها

رزءاً وأكرمها جميعاً محتداً * وأعزها متظلماً وأذلها

للحق حين ينوب غير تنحل * كذباً وأنداها يداً وأقلها

فحشاً وأكثرها إذا ما يجتدي * فضلاً وأنداها يداً وأبلها

بالعرف غير محمد لا مثله * حي من أحياء البرية كلها

وأما ابن رواحة‏:‏ فهو عبد الله بن رواحة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن عمرو بن امرئ القيس الأكبر بن مالك بن الأغر بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج أبو محمد

ويقال أبو رواحة، ويقال أبو عمرو الأنصاري الخزرجي، وهو خال النعمان بن بشير أخته عمرة بنت رواحة، أسلم قديماً وشهد العقبة، وكان أحد النقباء ليلتئذ لبني الحارث بن الخزرج، وشهد بدراً وأحداً والخندق، والحديبية، وخيبر، وكان يبعثه على خرصها كما قدمنا‏.‏

وشهد عمرة القضاء ودخل يومئذ وهم ممسك بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل بغرزها - يعني الركاب - وهو يقول‏:‏

خلوا بني الكفار عن سبيله *

الأبيات كما تقدم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 294‏)‏

وكان أحد الأمراء الشهداء يوم مؤتة كما تقدم، وقد شجع المسلمين للقاء الروم حين اشتوروا في ذلك، وشجع نفسه أيضاً حتى نزل بعد ما قتل صاحباه، وقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهادة، فهو ممن يقطع له بدخول الجنة، ويروى أنه لما أنشد النبي صلى الله عليه وسلم شعره حين ودعه الذي يقول فيه‏:‏

فثبت الله ما آتاك من حسن * تثبيت موسى ونصراً كالذي نصروا

قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏وأنت فثبتك الله‏)‏‏)‏‏.‏

قال هشام بن عروة‏:‏ فثبته الله حتى قتل شهيداً ودخل الجنة‏.‏

وروى حماد بن زيد، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى‏:‏ أن عبد الله بن رواحة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب فسمعه يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏اجلسوا‏)‏‏)‏ فجلس مكانه خارجاً من المسجد حتى فرغ الناس من خطبته، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏زادك الله حرصاً على طواعية الله وطواعية رسوله‏)‏‏)‏‏.‏

وقال البخاري في صحيحه‏:‏ وقال ابن معاذ‏:‏ اجلس بنا نؤمن ساعة‏.‏

وقد ورد الحديث المرفوع في ذلك عن عبد الله بن رواحة بنحو ذلك‏.‏

فقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الصمد، عن عمارة، عن زياد النحوي، عن أنس قال‏:‏ كان عبد الله بن رواحة إذا لقي الرجل من أصحابه يقول‏:‏ تعال نؤمن بربنا ساعة‏.‏

فقال ذات يوم لرجل، فغضب الرجل، فجاء فقال‏:‏ يا رسول الله إلا ترى ابن رواحة يرغب عن إيمانك إلى إيمان ساعة ‏!‏

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏رحم الله ابن رواحة إنه يحب المجالس التي تتباهى بها الملائكة‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا حديث غريب جداً‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ ثنا الحاكم، ثنا أبو بكر، ثنا محمد بن أيوب، ثنا أحمد بن يونس، ثنا شيخ من أهل المدينة، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار أن عبد الله بن رواحة قال لصاحب له‏:‏ تعال نؤمن ساعة‏.‏

قال‏:‏ أولسنا مؤمنين ‏؟‏

قال‏:‏ بلى، ولكنا نذكر الله فيزداد إيماناً‏.‏

وقد روى الحافظ أبو القاسم اللاكائي من حديث أبي اليمان، عن صفوان بن سليم، عن شريح بن عبيد‏:‏ أن عبد الله بن رواحة كان يأخذ بيد الرجل من أصحابه فيقول‏:‏ قم بنا نؤمن ساعة، فنجلس في مجلس ذكر، وهذا مرسل من هذين الوجهين، وقد استقصينا الكلام على ذلك في أول شرح البخاري، ولله الحمد والمنة‏.‏

وفي صحيح البخاري عن أبي الدرداء قال‏:‏ كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر في حر شديد، وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة رضي الله عنه، وقد كان من شعراء الصحابة المشهورين، ومما نقله البخاري من شعره في رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

وفينا رسول الله نتلو كتابه * إذا انشق معروف من الفجر ساطع

يبيت يجافي جنبه عن فراشه * إذا استثقلت بالمشركين المضاجع

أتى بالهدي بعد العمي فقلوبنا * به موقنات أن ما قال واقع

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/295‏)‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا عمران بن ميسرة، ثنا محمد بن فضيل، عن حصين، عن عامر، عن النعمان بن بشير قال‏:‏ أغمي على عبد الله بن رواحة فجعلت أخته عمرة تبكي، واجبلاه واكذا واكذا تعدد عليه، فقال حين أفاق‏:‏ ما قلت شيئاً إلا قيل لي أنت كذلك ‏؟‏

حدثنا قتيبة، ثنا خيثمة، عن حصين، عن الشعبي، عن النعمان بن بشير قال‏:‏ أغمي على عبد الله بن رواحة بهذا‏.‏

فلما مات لم تبك عليه، وقد قدمنا ما رثاه به حسان بن ثابت مع غيره‏.‏

وقال شاعر من المسلمين ممن رجع من مؤتة مع من رجع رضي الله عنهم‏:‏

كفى حزناً إني رجعت وجعفر * وزيد وعبد الله في رمس أقبُر

قضوا نحبهم لما مضوا لسبيلهم * وخلفت للبلوى مع المتغير

وسيأتي إن شاء الله تعالى بقية ما رثي به هؤلاء الأمراء الثلاث من شعر حسان بن ثابت، وكعب بن مالك رضي الله عنهما وأرضاهما‏.‏

 فصل في من استشهد يوم مؤتة

فمن المهاجرين‏:‏ جعفر بن أبي طالب، ومولاهم زيد بن حارثة الكلبي، ومسعود بن الأسود بن حارثة بن نضلة العدوي، ووهب بن سعد بن أبي سرح، فهؤلاء أربعة نفر‏.‏

ومن الأنصار‏:‏ عبد الله بن رواحة، وعباد بن قيس الخزرجيان، والحارث بن النعمان بن أساف بن نضلة النجاري، وسراقة بن عمرو بن عطية بن خنساء المازني أربعة نفر، فمجموع من قتل من المسلمين يومئذ هؤلاء الثمانية على ما ذكره ابن إسحاق‏.‏

لكن قال ابن هشام‏:‏ وممن استشهد يوم مؤتة فيما ذكره ابن شهاب الزهري‏:‏ أبو كليب، وجابر ابنا عمرو بن زيد بن عوف بن مبذول المازنيان، وهما شقيقان لأب وأم، وعمرو وعامر ابنا سعد بن الحارث بن عباد بن سعد بن عامر بن ثعلبة بن مالك بن أقصى، فهؤلاء أربعة من الأنصار أيضاً‏.‏

فالمجموع على القولين اثنا عشر رجلاً، وهذا عظيم جداً أن يتقاتل جيشان متعاديان في الدين، أحدهما وهو الفئة التي تقاتل في سبيل الله عدتها ثلاثة آلاف، وأخرى كافرة وعدتها مائتا ألف مقاتل، من الروم مائة ألف، ومن نصارى العرب مائة ألف، يتبارزون ويتصاولون، ثم مع هذا كله لا يقتل من المسلمين إلا اثنا عشر رجلاً، وقد قتل من المشركين خلق كثير‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 296‏)‏

هذا خالد وحده يقول‏:‏ لقد اندقت في يدي يومئذ تسعة أسياف، وما صبرت في يدي إلا صفحة يمانية، فماذا ترى قد قتل بهذه الأسياف كلها ‏؟‏‏!‏

دع غيره من الأبطال والشجعان من حملة القرآن، وقد تحكموا في عبدة الصلبان، عليهم لعائن الرحمن، في ذلك الزمان وفي كل أوان‏.‏

وهذا مما يدخل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 13‏]‏‏.‏

حديث فيه فضيلة عظيمة لأمراء هذه السرية

وهم زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم‏.‏

قال الإمام العالم الحافظ أبو زرعة عبد الله بن عبد الكريم الرازي نضر الله وجهه في كتابه ‏(‏دلائل النبوة‏)‏ - وهو كتاب جليل - حدثنا صفوان بن صالح الدمشقي، ثنا الوليد، ثنا ابن جابر، وحدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي، ثنا الوليد وعمرو - يعني ابن عبد الواحد - قالا‏:‏

ثنا ابن جابر، سمعت سليم بن عامر الخبائري يقول‏:‏ أخبرني أبو أمامة الباهلي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏

‏(‏‏(‏بينا أنا نائم إذا أتاني رجلاًن فأخذا بضبعي فأتيا بي جبلاً وعراً فقالا اصعد، فقلت لا أطيقه، فقالا‏:‏ أنا سنسهله لك، قال فصعدت حتى إذا كنت في سواء الجبل إذا أنا بأصوات شديدة فقلت ما هؤلاء الأصوات‏؟‏

فقالا‏:‏ عواء أهل النار، ثم انطلقا بي فإذا بقوم معلقين بعراقيبهم مشققة أشداقهم تسيل أشداقهم دماً، فقلت‏:‏ ما هؤلاء فقالا هؤلاء الذين يفطرون قبل تحلة صومهم، فقال‏:‏ خابت اليهود والنصارى‏)‏‏)‏‏.‏

قال سليم‏:‏ سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أم من رأيه‏؟‏

‏(‏‏(‏ثم انطلقا بي فإذا قوم أشد شيء انتفاخاً وأنتن شيء ريحاً كأن ريحهم المراحيض، قلت‏:‏ من هؤلاء ‏؟‏

قال‏:‏ هؤلاء قتلى الكفار، ثم انطلقا بي فإذا بقوم أشد انتفاخاً وأنتن شيء ريحاً كأن ريحهم المراحيض، قلت‏:‏ من هؤلاء‏؟‏ قال‏:‏ هؤلاء الزانون والزواني، ثم انطلقا بي فإذا بنساء ينهش ثديهن الحيات، فقلت‏:‏ ما بال هؤلاء‏؟‏ قالا‏:‏ هؤلاء اللاتي يمنعن أولادهن ألبانهن‏.‏

ثم انطلقا بي فإذا بغلمان يلعبون بين بحرين، قلت‏:‏ من هؤلاء‏؟‏ قالا‏:‏ هؤلاء ذراري المؤمنين، ثم أشرفا بي شرفاً فإذا بنفر ثلاثة يشربون من خمر لهم، فقلت‏:‏ من هؤلاء‏؟‏ قالا‏:‏ هذا جعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة‏.‏

ثم أشرفا بي شرفاً آخر فإذا أنا بنفر ثلاثة، فقلت‏:‏ من هؤلاء‏؟‏ قالا‏:‏ هذا إبراهيم، وموسى، وعيسى عليهم السلام، وهم ينتظرونك‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 297‏)‏

 ما قيل من الأشعار في غزوة مؤتة

قال ابن إسحاق‏:‏ وكان مما بكى به أصحاب مؤتة قول حسان‏:‏

تأوبني ليلٌ بيثرب أعسر * وهم إذا ما نوم الناس مسهر

لذكرى حبيب هيجت لي عبرة * سفوحاً وأسباب البكاء التذكر

بلى إن فقدان الحبيب بليةٌ * وكم من كريم يبتلى ثم يصبر

رأيت خيار المسلمين تواردوا * شعوباً وخلفاً بعدهم يتأخر

فلا يبعدن الله قتلى تتابعوا * بمؤتة منهم ذو الجناحين جعفر

وزيدٌ وعبد الله حين تتابعوا * جميعاً وأسباب المنية تخطر

غداة مضوا بالمؤمنين يقودهم * إلى الموت ميمون النقيبة أزهر

أغرَ كضوء البدر من آل هاشم * أبيٌ إذا سيم الظلامة مجسر

فطاعن حتى مال غير مؤسد * بمعتركٍ فيه القنا متكسر

فصار مع المستشهدين ثوابه * جنان وملتف الحدائق أخضر

وكنا نرى في جعفر من محمد * وفاء وأمراً حازماً حين يأمر

وما زال في الإسلام من آل هاشم * دعائم عزٍ لا يزلن ومفخر

هموا جبل الإسلام والناس حولهم * رضامٌ إلى طود يروق ويبهر

بهاليل منهم جعفر وابن أمه * علي ومنهم أحمد المتخير

وحمزة والعباس منهم ومنهموا * عقيل وماء العودِ من حيث يعصر

بهم تفرج اللأواء في كل مأزق * عماس إذا ما ضاق بالناس مصدر

هم أولياء الله أنزل حكمه * عليهم وفيهم ذا الكتاب المطهر

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 298‏)‏

وقال كعب بن مالك رضي الله عنه‏:‏

نام العيون ودمع عينك يهمل * سحاً كما وكف الطباب المخضل

في ليلة وردت علي همومها * طورا أخن وتارة أتمهل

واعتادني حزن فبت كأنني * ببنات نعش والسماكِ موكل

وكأنما بين الجوانح والحشا * مما تأوبني شهاب مدخل

وجداً على النفر الذين تتابعوا * يوما بمؤتة أسندوا لم ينقلوا

صلى الإله عليهم من فتية * وسقى عظامهم الغمام المسبل

صبروا بمؤتة للإله نفوسهم * حذر الردى ومخافة أن ينكلوا

فمضوا أمام المسلمين كأنهم * فنق عليهن الحديد المرفل

إذ يهتدون بجعفر ولوائه * حيث التقى وعث الصفوف

فتغير القمر المنير لفقده * والشمس قد كسفت وكادت تأفل

قرمٌ على بنيانه من هاشم * فرعاً أشم وسؤدداً ما ينقل

قوم بهم عصم الإله عباده * وعليهم نزل الكتاب المنزل

فضلوا المعاشر عزة وتكرماً * وتغمدت أحلامهم من يجهل

لا يطلقون إلى السفاه حباهموا * وترى خطيبهم بحق يفصل

بيض الوجوه ترى بطون أكفهم * تندى إذا اعتذر الزمان الممحل

ويهديهم رضي الإله لخلقه * وبجدهم نُصر النبي المرسل

بسم الله الرحمن الرحيم

 كتاب بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الآفاق وكتبه إليهم

ذكر الواقدي أن ذلك في آخر سنة ست في ذي الحجة بعد عمرة الحديبية‏.‏

وذكر البيهقي هذا الفصل في هذا الموضع بعد غزوة مؤتة، والله أعلم‏.‏

ولا خلاف بينهم أن بدء ذلك كان قبل فتح مكة، وبعد الحديبية، لقول أبي سفيان لهرقل حين سأله هل يغدر‏؟‏

فقال‏:‏ لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها‏.‏

وفي لفظ البخاري‏:‏ وذلك في المدة التي ماد فيها أبو سفيان رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 299‏)‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ كان ذلك ما بين الحديبية ووفاته عليه السلام، ونحن نذكر ذلك ها هنا، وإن كان قول الواقدي محتملاً، والله أعلم‏.‏

وقد روى مسلم، عن يوسف بن حماد المعني، عن عبد الأعلى، عن سعيد ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب قبل مؤتة إلى كسرى، وقيصر، وإلى النجاشي، وإلى كل جبار، يدهوهم إلى الله عز وجل، وليس بالنجاشي الذي صلى عليه‏.‏

وقال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عبد الله بن عباس، حدثني أبو سفيان من فيه إلى في، قال‏:‏ كنا قوماً تجاراً وكانت الحرب قد حصرتنا حتى نهكت أموالنا، فلما كانت الهدنة - هدنة الحديبية - بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نأمن إن وجدنا أمناً‏.‏

فخرجت تاجراً إلى الشام مع رهط من قريش، فوالله ما علمت بمكة امرأة ولا رجلاً إلا وقد حملني بضاعة، وكان وجه متجرنا من الشام غزة من أرض فلسطين‏.‏

فخرجنا حتى قدمناها وذلك حين ظهر قيصر صاحب الروم على من كان في بلاده من الفرس، فأخرجهم منها، ورد عليه صليبه الأعظم وقد كان استلبوه إياه‏.‏

فلما أن بلغه ذلك وقد كان منزله بحمص من الشام، فخرج منها يمشي متشكراً إلى بيت المقدس ليصلي فيه، تبسط له البسط، ويطرح عليها الرياحين، حتى انتهى إلى إيلياء فصلى بها، فأصبح ذات غداة وهو مهموم يقلب طرفه إلى السماء، فقالت له بطارقته‏:‏ أيها الملك لقد أصبحت مهموماً‏؟‏

فقال‏:‏ أجل‏.‏

فقالوا‏:‏ وما ذاك‏؟‏

فقال‏:‏ أُريت في هذه الليلة أن ملك الختان ظاهر‏.‏

فقالوا‏:‏ والله ما نعلم أمة من الأمم تختتن إلا اليهود، وهم تحت يديك وفي سلطانك، فإن كان قد وقع ذلك في نفسك منهم، فابعث في مملكتك كلها، فلا يبقى يهودي إلا ضربت عنقه فتستريح من هذا الهم‏.‏

فإنهم في ذلك من رأيهم يديرونه بينهم، إذ أتاهم رسول صاحب بصرى برجل من العرب قد وقع إليهم، فقال‏:‏ أيها الملك إن هذا الرجل من العرب من أهل الشاء والإبل يحدثك عن حدث كان ببلاده فاسأله عنه‏.‏

فلما انتهى إليه قال لترجمانه‏:‏ سله ما هذا الخبر الذي كان في بلاده‏؟‏

فسأله فقال‏:‏ هو رجل من العرب من قريش، خرج يزعم أنه نبي، وقد اتبعه أقوام وخالفه آخرون، وقد كانت بينهم ملاحم في مواطن، فخرجت من بلادي وهم على ذلك‏.‏

فلما أخبره الخبر قال‏:‏ جردوه فإذا هو مختتن‏.‏

فقال‏:‏ هذا والله الذي قد أريت، لا ما تقولون، أعطه ثوبه انطلق لشأنك‏.‏

ثم إنه دعا صاحب شرطته فقال له‏:‏ قلب لي الشام ظهراً لبطن، حتى تأتي برجل من قوم هذا أسأله عن شأنه‏.‏

قال أبو سفيان‏:‏ فوالله إني وأصحابي لبغزة، إذ هجم علينا فسألنا ممن أنتم‏؟‏ فأخبرناه فساقنا إليه جميعاً، فلما انتهينا إليه قال أبو سفيان‏:‏ فوالله ما رأيت من رجل قط أزعم أنه كان أدهى من ذلك الأغلف - يريد هرقل -‏.‏

قال‏:‏ فلما انتهينا إليه قال‏:‏ أيكم أمس به رحماً‏؟‏

فقلت‏:‏ أنا‏.‏

قال‏:‏ ادنوه مني‏.‏

قال‏:‏ فاجلسني بين يديه، ثم أمر أصحابي فأجلسهم خلفي، وقال‏:‏ إن كذب فردوا عليه‏.‏

قال أبو سفيان‏:‏ فلقد عرفت أني لو كذبت ما ردوا علي، ولكني كنت امرءاً سيداً أتكرم وأستحي من الكذب، وعرفت أن أدنى ما يكون في ذلك أن يرووه عني، ثم يتحدثونه عني بمكة فلم أكذبه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 300‏)‏

فقال‏:‏ أخبرني عن هذا الرجل الذي خرج فيكم‏؟‏

فزهدت له شأنه، وصغرت له أمره، فوالله ما التفت إلى ذلك مني و قال أخبرني عما أسألك من أمره‏.‏

فقلت‏:‏ سلني عما بدا لك‏؟‏

قال‏:‏ كيف نسبه فيكم‏؟‏

فقلت‏:‏ محضاً من أوسطنا نسباً‏.‏

قال‏:‏ فأخبرني هل كان من أهل بيته أحد يقول مثل قوله فهو يتشبه به‏؟‏

فقلت‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فأخبرني هل كان له ملك فأسلبتموه إياه فجاء بهذا الحديث لتردوه عليه‏؟‏

فقلت‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فأخبرني عن أتباعه من هم‏؟‏

فقلت‏:‏ الأحداث، والضعفاء، والمساكين، فأما أشرافهم وذووا الأنساب منهم فلا‏.‏

قال‏:‏ فأخبرني عمن صحبه؛ أيحبه ويكرمه، أم يقليه ويفارقه‏؟‏

قلت‏:‏ ما صحبه رجل ففارقه‏.‏

قال‏:‏ فأخبرني عن الحرب بينكم وبينه‏؟‏

فقلت‏:‏ سجال يدال علينا، وندال عليه‏.‏

قال‏:‏ فأخبرني هل يغدر، فلم أجد شيئاً أغره به إلا هي‏؟‏

قلت‏:‏ لا، ونحن منه في مدة، ولا نأمن غدره فيها، فوالله ما التفت إليها مني‏.‏

قال‏:‏ فأعاد علي الحديث‏.‏

قال‏:‏ زعمت أنه من أمحضكم نسباً، وكذلك يأخذ الله النبي لا يأخذه إلا من أوسط قومه‏.‏

وسألتك هل كان من أهل بيته أحد يقول مثل قوله فهو يتشبه به، فقلت لا‏.‏

وسألتك هل كان له ملك فأسلبتموه إياه فجاء بهذا الحديث لتردوا عليه ملكه، فقلت لا‏.‏

وسألتك عن أتباعه فزعمت أنهم الأحداث والمساكين والضعفاء، وكذلك أتباع الأنبياء في كل زمان‏.‏

وسألتك عمن يتبعه أيحبه ويكرمه، أم يقليه ويفارقه، فزعمت أنه قل من يصحبه فيفارقه، وكذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلباً فتخرج منه‏.‏

وسألتك كيف الحرب بينكم وبينه فزعمت أنها سجال، يدال عليكم وتدالون عليه، وكذلك يكون حرب الأنبياء ولهم تكون العاقبة‏.‏

وسألتك هل يغدر، فزغمت أنه لا يغدر، فلئن كنت صدقتني ليغلبن على ما تحت قدمي هاتين، ولوددت أني عنده فأغسل عن قدميه‏.‏

ثم قال‏:‏ الحق بشأنك‏.‏

قال‏:‏ فقمت وأنا أضرب إحدى يدي على الأخرى، وأقول‏:‏ يا عباد الله لقد أمر أمر ابن أبي كبشة، وأصبح ملوك بني الأصفر يخافونه في سلطانهم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني الزهري قال‏:‏ حدثني أسقف من النصارى قد أدرك ذلك الزمان قال‏:‏ قدم دحية بن خليفة على هرقل بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه‏:‏

بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى أما بعد‏:‏ فأسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن أبيت فإن إثم الأكاريين عليك‏.‏

قال‏:‏ فلما انتهى إليه كتابه، وقرأه، أخذه فجعله بين فخذه وخاصرته، ثم كتب إلى رجل من أهل رومية كان يقرأ من العبرانية ما يقرأ، يخبره عما جاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 301‏)‏

فكتب إليه‏:‏ إنه النبي الذي ينتظر لا شك فيه فاتبعه‏.‏

فأمر بعظماء الروم فجمعوا له في دسكرة ملكه، ثم أمر بها فأشرحت عليهم، واطلع عليهم من علية له وهو منهم خائف، فقال‏:‏ يا معشر الروم إنه قد جاءني كتاب أحمد، وإنه والله النبي الذي كنا ننتظر، ومجمل ذكره في كتابنا نعرفه بعلاماته وزمانه، فأسلموا واتبعوه، تسلم لكم دنياكم وآخرتكم‏.‏

فنخروا نخرة رجل واحد، وابتدروا أبواب الدسكرة، فوجدوها مغلقة دونهم فخافهم، وقال‏:‏ ردوهم علي، فردوهم عليه فقال لهم‏:‏ يا معشر الروم إني إنما قلت لكم هذه المقالة أختبركم بها، لأنظر كيف صلابتكم في دينكم‏؟‏ فلقد رأيت منكم ما سرني، فوقعوا له سجداً، ثم فتحت لهم أبواب الدسكرة فخرجوا‏.‏

وقد روى البخاري قصة أبي سفيان مع هرقل بزيادات أخر، أحببنا أن نوردها بسندها وحروفها من الصحيح ليعلم ما بين السياقين من التباين، وما فيهما من الفوائد‏.‏

قال البخاري قبل الإيمان من صحيحه‏:‏ حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع، ثنا شعيب عن الزهري، أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أن عبد الله بن عباس أخبره، أن أبا سفيان أخبره، أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش‏.‏

وكانوا تجاراً بالشام في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه و هم بإيلياء فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بالترجمان فقال‏:‏ أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي‏؟‏

قال أبو سفيان‏:‏ فقلت أنا أقربهم نسباً‏.‏

قال‏:‏ أدنوه مني، وقربوا أصحابه، فاجعلوهم عند ظهره‏.‏

ثم قال لترجمانه قل لهم‏:‏ إني سائل هذا عن هذا الرجل، فإن كذبني فكذبوه‏.‏

قال‏:‏ فوالله لولا الحياء من أن يؤثروا عني كذباً لكذبت عنه، ثم كان أول ما سألني عنه أن قال‏:‏ كيف نسبه فيكم‏؟‏

قلت‏:‏ هو فينا ذو نسب‏.‏

قال‏:‏ فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله‏؟‏

قلت‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فهل كان من آبائه من ملك‏؟‏

قلت‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم‏؟‏

قلت‏:‏ بل ضعفاؤهم‏.‏

قال‏:‏ أيزيدون أم ينقصون‏؟‏

قلت‏:‏ بل يزيدون‏.‏

قال‏:‏ فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه‏؟‏

قلت‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال‏؟‏

قلت‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فهل يغدر‏؟‏

قلت‏:‏ لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها‏؟‏

قال‏:‏ ولم يمكني كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه الكلمة‏.‏

قال‏:‏ فهل قاتلتمونه‏؟‏

قلت‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ فكيف كان قتالكم إياه‏؟‏

قلت‏:‏ الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا وننال منه‏.‏

قال‏:‏ ماذا يأمركم‏؟‏

قلت‏:‏ يقول اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والصدق، والعفاف، والصلة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 302‏)‏

فقال للترجمان‏:‏ قل له سألتك عن نسبه، فزعمت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها‏.‏

وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول قبله، فذكرت أن لا، فقلت لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يتأسى بقول قيل قبله‏.‏

وسألتك هل كان من آبائه من ملك، فذكرت أن لا، فلو كان من آبائه من ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه‏.‏

وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال، فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس، ويكذب على الله‏.‏

وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم، فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل‏.‏

وسألتك أيزيدون أم ينقصون، فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حين يتم‏.‏

وسألتك أيرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه، فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب‏.‏

وسألتك هل يغدر فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر‏.‏

وسألتك بما يأمركم، فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة، والصدق، والعفاف، فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج لم أكن أظن أنه منكم، فلو أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه‏.‏

ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به مع دحية إلى عظيم بصرى، فدفعه إلى هرقل فإذا فيه‏:‏

بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد‏:‏ فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الإريسيين‏:‏

‏{‏يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا تشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون‏}‏‏.‏

قال أبو سفيان‏:‏ فلما قال ما قال، وفرغ من قراءة الكتاب، كثر عنده الصخب، وارتفعت الأصوات وأخرجنا، فقلت لأصحابي حين خرجنا‏:‏ لقد أمر أمر ابن أبي كبشة أنه يخافه ملك بني الأصفر، فما زلت موقناً أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 303‏)‏

قال‏:‏ وكان ابن الناطور صاحب إيلياء، وهرقل أسقف على نصارى الشام، يحدث أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح يوماً خبيث النفس، فقال بعض بطارقته‏:‏ قد استنكرنا هيئتك‏.‏

قال ابن الناطور‏:‏ وكان هرقل حزاء ينظر في النجوم، فقال لهم حين سألوه‏:‏ إني رأيت حين نظرت في النجوم ملك الختان قد ظهر، فمن يختتن من هذه الأمم‏؟‏

قالوا‏:‏ ليس يختتن إلا اليهود ولا يهمنك شأنهم، واكتب إلى مدائن ملكك فليقتلوا من فيهم من اليهود‏.‏

فبينما هم على أمرهم، أتى هرقل برجل أرسل به ملك غسان، فخبرهم عن خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما استخبره هرقل قال‏:‏ اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا‏؟‏

فنظروا إليه فحدثوه أنه مختتن، وسأله عن العرب فقال‏:‏ هم يختتنون‏.‏

فقال هرقل‏:‏ هذا ملك هذه الأمة قد ظهر‏.‏

ثم كتب إلى صاحب له برومية - وكان نظيره في العلم - وسار هرقل إلى حمص، فلم يرم بحمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروج النبي صلى الله عليه وسلم وهو نبي‏.‏

فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص، ثم أمر بأبوابها فغلقت، ثم اطلع فقال‏:‏ يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد، وأن يثبت لكم ملككم‏؟‏ فتتابعوا لهذا النبي، فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلقت‏.‏

فلما رأى هرقل نفرتهم وأيس من الإيمان قال‏:‏ ردوهم علي، وقال‏:‏ إني إنما قلت مقالتي آنفاً أختبر بها شدتكم على دينكم، فقد رأيت فسجدوا له ورضوا عنه‏.‏

فكان ذلك آخر شأن هرقل‏.‏

قال البخاري‏:‏ ورواه صالح بن كيسان، ويونس، ومعمر، عن الزهري‏.‏

وقد رواه البخاري في مواضع كثيرة في صحيحه بألفاظ يطول استقصاؤها‏.‏

وأخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجه من طرق، عن الزهري‏.‏

وقد تكلمنا على هذا الحديث مطولاً في أول شرحنا لصحيح البخاري بما فيه كفاية، وذكرنا فيه من الفوائد، والنكت المعنوية، واللفظية، ولله الحمد والمنة‏.‏

وقال ابن لهيعة عن أبي الأسود، عن عروة قال‏:‏ خرج أبو سفيان بن حرب إلى الشام تاجراً في نفر من قريش، وبلغ هرقل شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يعلم ما يعلم من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فأرسل إلى صاحب العرب الذي بالشام في ملكه، يأمره أن يبعث إليه برجال من العرب يسألهم عنه، فأرسل إليه ثلاثين رجلاً منهم أبو سفيان ابن حرب، فدخلوا عليه في كنيسة إيلياء التي في جوفها‏.‏

فقال هرقل‏:‏ أرسلت إليكم لتخبروني عن هذا الذي بمكة ما أمره‏؟‏

قالوا‏:‏ ساحر كذاب، وليس بنبي‏.‏

قال‏:‏ فأخبروني من أعلمكم به، وأقربكم منه رحماً‏؟‏

قالوا‏:‏ هذا أبو سفيان ابن عمه، وقد قاتله‏.‏

فلما أخبروه ذلك أمر بهم، فاخرجوا عنه‏.‏

ثم أجلس أبا سفيان فاستخبره‏.‏

قال‏:‏ أخبرني يا أبا سفيان‏.‏

فقال‏:‏ هو ساحر كذاب‏.‏

فقال هرقل‏:‏ إني لا أريد شتمه، ولكن كيف نسبه فيكم‏؟‏

قال‏:‏ هو والله من بيت قريش‏.‏

قال‏:‏ كيف عقله ورأيه‏؟‏

قال‏:‏ لم يغب له رأي قط‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 304‏)‏

قال هرقل‏:‏ هل كان حلافاً كذاباً مخادعاً في أمره‏؟‏

قال‏:‏ لا والله، ما كان كذلك‏.‏

قال‏:‏ لعله يطلب ملكاً أو شرفاً كان لأحد من أهل بيته قبله‏؟‏

قال أبو سفيان‏:‏ لا‏.‏

ثم قال‏:‏ من يتبعه منكم هل يرجع إليكم منهم أحد‏؟‏

قال‏:‏ لا‏.‏

قال هرقل‏:‏ هل يغدر إذا عاهد‏؟‏

قال‏:‏ لا، إلا أن يغدر مدته هذه‏.‏

فقال هرقل‏:‏ وما تخاف من مدته هذه‏؟‏

قال‏:‏ إن قومي أمدوا حلفاءهم على حلفائه وهو بالمدينة‏.‏

قال هرقل‏:‏ إن كنتم أنتم بدأتم فأنتم أغدر‏.‏

فغضب أبو سفيان وقال‏:‏ لم يغلبنا إلا مرة واحدة، وأنا يومئذ غائب، وهو يوم بدر، ثم غزوته مرتين في بيوتهم نبقر البطون ونجدع الآذان والفروج‏.‏

فقال هرقل‏:‏ كذاباً تراه أم صادقاً‏؟‏

فقال‏:‏ بل هو كاذب‏.‏

فقال‏:‏ إن كان فيكم نبي فلا تقتلوه، فإن أفعل الناس لذلك اليهود‏.‏

ثم رجع أبو سفيان‏.‏

ففي هذا السياق غرابة، وفيه فوائد ليست عند ابن إسحاق ولا البخاري‏.‏

وقد أورد موسى بن عقبة في ‏(‏مغازيه‏)‏ قريباً مما ذكره عروة بن الزبير، والله أعلم‏.‏

وقال ابن جرير في ‏(‏تاريخه‏)‏‏:‏ حدثنا ابن حميد، ثنا سلمة، ثنا محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم قال‏:‏ إن هرقل قال لدحية بن خليفة الكلبي حين قدم عليه بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

والله إني لأعلم أن صاحبك نبي مرسل، وأنه الذي كنا ننتظره ونجده في كتابنا، ولكني أخاف الروم على نفسي، ولولا ذلك لاتبعته فاذهب إلى صفاطر الأسقف فاذكر له أمر صاحبكم، فهو والله في الروم أعظم مني، وأجود قولاً عندهم مني، فانظر ماذا يقول لك ‏؟‏

قال‏:‏ فجاء دحية فأخبره بما جاء به من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل وبما يدعو إليه‏.‏

فقال‏:‏ صفاطر والله صاحبك نبي مرسل، نعرفه بصفته، ونجده في كتابنا باسمه‏.‏

ثم دخل وألقى ثياباً كانت عليه سوداً، ولبس ثياباً بياضاً، ثم أخذ عصاه فخرج على الروم في الكنيسة فقال‏:‏ يا معشر الروم إنه قد جاءنا كتاب من أحمد يدعونا فيه إلى الله، وأني أشهد أن لا إله إلا الله وأن أحمد عبده ورسوله‏.‏

قال‏:‏ فوثبوا إليه وثبة رجل واحد فضربوه حتى قتلوه‏.‏

قال‏:‏ فلما رجع دحية إلى هرقل فأخبره الخبر قال‏:‏ قد قلت لك أنا نخافهم على أنفسنا، فصفاطر والله كان أعظم عندهم وأجوز قولاً مني‏.‏

وقد روى الطبراني من طريق يحيى بن سلمة بن كهيل، عن أبيه، عن عبد الله بن شداد، عن دحية الكلبي قال‏:‏ بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيصر صاحب الروم بكتاب فقلت‏:‏ استأذنوا لرسول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فأتى قيصر فقيل له إن على الباب رجلاً يزعم أنه رسول رسول الله، ففزعوا لذلك وقال‏:‏ أدخله‏.‏

فأدخلني عليه وعنده بطارقته فأعطيته الكتاب فإذا فيه‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى قيصر صاحب الروم، فنخر ابن أخ له أحمر أزرق سبط، فقال‏:‏ لا تقرأ الكتاب اليوم، فإنه بدأ بنفسه وكتب صاحب الروم ولم يكتب ملك الروم‏.‏

قال فقُرئ الكتاب حتى فرغ منه، ثم أمرهم فخرجوا من عنده‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 305‏)‏

ثم بعث إلي فدخلت عليه فسألني فأخبرته، فبعث إلى الأسقف فدخل عليه - وكان صاحب أمرهم يصدرون عن رأيه وعن قوله - فلما قرأ الكتاب قال الأسقف‏:‏ هو والله الذي بشرنا به موسى وعيسى الذي كنا ننتظر‏.‏

قال قيصر‏:‏ فما تأمرني‏؟‏

قال الأسقف‏:‏ أما أنا فإني مصدقه ومتبعه‏.‏

فقال قيصر‏:‏ أعرف أنه كذلك، ولكن لا أستطيع أن أفعل، إن فعلت ذهب ملكي وقتلني الروم‏.‏

وبه قال محمد بن إسحاق، عن خالد بن يسار، عن رجل من قدماء أهل الشام قال‏:‏ لما أراد هرقل الخروج من أرض الشام إلى القسطنطينية لما بلغه من أمر النبي صلى الله عليه وسلم، جمع الروم فقال‏:‏ يا معشر الروم إني عارض عليكم أمورا فانظروا فيما أردت بها‏؟‏

قالوا‏:‏ ما هي‏؟‏

قال‏:‏ تعلمون والله أن هذا الرجل لنبي مرسل، نجده نعرفه بصفته التي وصف لنا، فهلم فلنتبعه فتسلم لنا دنيانا وآخرتنا‏.‏

فقالوا‏:‏ نحن نكون تحت أيدي العرب، ونحن أعظم الناس ملكاً، وأكثر رجالاً، وأقصاه بلداً ‏؟‏‏!‏

قال‏:‏ فهلم أعطيه الجزية كل سنة أكسر شوكته، وأستريح من حربه بما أعطيه إياه‏.‏

قالوا‏:‏ نحن نعطي العرب الذل والصغار بخراج يأخذونه منا، ونحن أكثر الناس عدداً، وأعظمه ملكاً، وأمنعه بلداً، لا والله لا نفعل هذا أبداً‏.‏

قال‏:‏ فهلم فلأصالحه على أن أعطيه أرض سورية، ويدعني وأرض الشام‏.‏

قال‏:‏ وكانت أرض سورية‏:‏ فلسطين، والأردن، ودمشق، وحمص، وما دون الدرب من أرض سورية، وما كان وراء الدرب عندهم فهو الشام‏.‏

فقالوا‏:‏ نحن نعطيه أرض سورية، وقد عرفت أنها سرة الشام، لانفعل هذا أبداً‏.‏

فلما أبوا عليه قال‏:‏ أما والله لتودن أنكم قد ظفرتم إذا امتنعتم منه في مدينتكم‏.‏

قال‏:‏ ثم جلس على بغل له، فانطلق حتى إذا أشرف على الدرب، استقبل أرض الشام ثم قال‏:‏ السلام عليك يا أرض سورية تسليم الوداع، ثم ركض حتى دخل قسطنطينية، والله أعلم‏.‏

إرساله صلى الله عليه وسلم إلى ملك العرب من النصارى بالشام

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم شجاع بن وهب، أخا بني أسد بن خزيمة، إلى المنذر ابن الحارث بن أبي شمر الغساني صاحب دمشق‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وكتب معه سلام على من اتبع الهدى، وأمن به، وأدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له، يبقى لك ملكك‏.‏

فقدم شجاع بن وهب فقرأه عليه فقال‏:‏ ومن ينتزع ملكي‏؟‏ إني سأسير إليه‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 306‏)‏

 بعثه إلى كسرى ملك الفرس

وروى البخاري من حديث الليث، عن يونس، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بكتابه مع رجل إلى كسرى، وأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه كسرى مزقه‏.‏

قال‏:‏ فحسبت أن ابن المسيب قال‏:‏ فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمزقوا كل ممزق‏.‏

وقال عبد الله بن وهب‏:‏ عن يونس، عن الزهري، حدثني عبد الرحمن بن عبد القاري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ذات يوم على المنبر خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه وتشهد، ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أما بعد فإني أريد أن أبعث بعضكم إلى ملوك الأعاجم فلا تختلفوا علي كما اختلف بنو إسرائيل على عيسى بن مريم‏)‏‏)‏‏.‏

فقال المهاجرون‏:‏ يا رسول الله أنا لا نختلف عليك في شيء أبداً فمرنا وابعثنا‏.‏

فبعث شجاع بن وهب إلى كسرى فأمر كسرى بإيوانه أن يزين، ثم أذن لعظماء فارس، ثم أذن لشجاع بن وهب، فلما أن دخل عليه أمر كسرى بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبض منه‏.‏

فقال شجاع بن وهب‏:‏ لا حتى أدفعه أنا إليك كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فقال كسرى‏:‏ ادنه، فدنا فناوله الكتاب، ثم دعا كاتباً له من أهل الحيرة، فقرأه فإذا فيه‏:‏ من محمد بن عبد الله ورسوله إلى كسرى عظيم فارس‏.‏

قال‏:‏ فأغضبه حين بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، وصاح، وغضب، ومزق الكتاب قبل أن يعلم ما فيه، وأمر بشجاع بن وهب فأخرج‏.‏

فلما رأى ذلك قعد على راحلته، ثم سار، ثم قال‏:‏ والله ما أبالي على أي الطريقين أكون، إذ أديت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال ولما ذهب عن كسرى سورة غضبه، بعث إلى شجاع ليدخل عليه، فالتمس فلم يوجد، فطلب إلى الحيرة فسبق‏.‏

فلما قدم شجاع على النبي صلى الله عليه وسلم أخبره بما كان من أمر كسرى، وتمزيقه لكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏مزق كسرى ملكه‏)‏‏)‏‏.‏

وروى محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبي سلمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن حذافة بكتابه إلى كسرى، فلما قرأه مزقه، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏مزق ملكه‏)‏‏)‏‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا أحمد بن حميد، ثنا سلمة، ثنا ابن إسحاق، عن زيد بن أبي حبيب قال‏:‏ وبعث عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي بن سعيد بن سهم إلى كسرى بن هرمز ملك فارس، وكتب معه‏:‏

بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى، وأمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأدعوك بدعاء الله، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة، لأنذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين، فإن تسلم تسلم، وإن أبيت فإن إثم المجوس عليك‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 307‏)‏

قال‏:‏ فلما قرأه شقه وقال‏:‏ يكتب إلي بهذا وهو عبدي ‏؟‏‏!‏

قال‏:‏ ثم كتب كسرى إلى باذام وهو نائبه على اليمن، أن ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز، رجلين من عند جلدين فليأتياني به‏.‏

فبعث باذام قهرمانه - وكان كاتباً حاسباً - بكتاب فارس وبعث معه رجلاً من الفرس يقال له خرخرة، وكتب معهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأمره أن ينصرف معهما إلى كسرى‏.‏

وقال لأبا ذويه‏:‏ إيتِ بلاد هذا الرجل وكلمه وائتني بخبره‏.‏

فخرجا حتى قدما الطائف فوجدا رجلاً من قريش في أرض الطائف، فسألوه عنه فقال‏:‏ هو بالمدينة‏.‏

واستبشر أهل الطائف - يعني وقريش بهما - وفرحوا وقال بعضهم لبعض‏:‏ أبشروا فقد نصب له كسرى ملك الملوك كفيتم الرجل‏.‏

فخرجا حتى قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه أبا ذويه فقال‏:‏ شاهنشاه ملك الملوك كسرى قد كتب إلى الملك باذام يأمره أن يبعث إليك من يأتيه بك، وقد بعثني إليك لتنطلق معي، فإن فعلت كتب لك إلى ملك الملوك ينفعك ويكفه عنك، وإن أبيت فهو من قد علمت، فهو مهلكك ومهلك قومك ومخرب بلادك‏.‏

ودخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حلقا لحاهما، وأعفيا شواربهما، فكره النظر إليهما وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ويلكما من أمركما بهذا ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالا‏:‏ أمرنا ربنا - يعنيان كسرى -‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ولكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي، وقص شاربي‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ارجعا حتى تأتياني غداً‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بأن الله قد سلط على كسرى ابنه شيرويه، فقتله في شهر كذا وكذا، من ليلة كذا وكذا من الليل، سلط عليه ابنه شيرويه فقتله‏.‏

قال‏:‏ فدعاهما فأخبرهما، فقالا‏:‏ هل تدري ما تقول‏؟‏ أنا قد نقمنا عليك ما هو أيسر من هذا، فنكتب عنك بهذا، ونخبر الملك باذام‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم أخبراه ذاك عني، وقولا له إن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ كسرى، وينتهي إلى الخف والحافر، وقولا له إن أسلمت أعطيتك ما تحت يديك، وملكتك على قومك من الأبناء‏)‏‏)‏‏.‏

ثم أعطى خرخرة منطقة فيها ذهب وفضة، كان أهداها له بعض الملوك‏.‏

فخرجا من عنده حتى قدما على باذام، فأخبراه الخبر فقال‏:‏ والله ما هذا بكلام ملك، وإني لأرى الرجل نبياً كما يقول، وليكونن ما قد قال، فلئن كان هذا حقاً فهو نبي مرسل، وإن لم يكن فسنرى فيه رأياً‏.‏

فلم ينشب باذام أن قدم عليه كتاب شيرويه أما بعد‏:‏ فإني قد قتلت كسرى، وما أقتله إلا غضباً لفارس لما كان استحل من قتل أشرافهم، ونحرهم في ثغورهم، فإذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة ممن قبلك، وانطلق إلى الرجل الذي كان كسرى قد كتب فيه، فلا تهجه حتى يأتيك أمري فيه‏.‏

فلما انتهى كتاب شيرويه إلى باذام قال‏:‏ إن هذا الرجل لرسول، فأسلم وأسلمت الأبناء من فارس من كان منهم باليمن‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 308‏)‏

قال‏:‏ وقد قال باذويه لباذام‏:‏ ما كلمت أحداً أهيب عندي منه‏.‏

فقال له باذام‏:‏ هل معه شرط‏؟‏

قال‏:‏ لا‏.‏

قال الواقدي رحمه الله‏:‏ وكان قتل كسرى على يدي ابنه شيرويه، ليلة الثلاثاء لعشر ليال مضين من جمادى الآخرة من سنة سبع من الهجرة، لست ساعات مضت منها‏.‏

قلت‏:‏ وفي شعر بعضهم ما يرشد أن قتله كان في شهر الحرام، وهو قول بعض الشعراء‏:‏

قتلوا كسرى بليل محرماً * فتولى لم يمتع بكفن

وقال بعض شعراء العرب‏:‏

وكسرى إذ تقاسمه بنوه *بأسياف كما اقتسم اللحام

تمخضت المنون له بيوم * أتى ولكل حاملة تمام

وروى الحافظ البيهقي من حديث حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن، عن أبي بكرة أن رجلاً من أهل فارس أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إن ربي قد قتل الليلة ربك‏)‏‏)‏ يعني كسرى‏.‏

قال‏:‏ وقيل له - يعني النبي صلى الله عليه وسلم -‏:‏ إنه قد استخلف ابنته فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يفلح قوم تملكهم امرأة‏)‏‏)‏‏.‏

قال البيهقي‏:‏ وروى في حديث دحية بن خليفة الكلبي أنه لما رجع من عند قيصر، وجد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رسل كسرى، وذلك أن كسرى بعث يتوعد صاحب صنعاء ويقول له‏:‏ إلا تكفيني أمر رجل قد ظهر بأرضك يدعوني إلى دينه، لتكفينه أو لأفعلن بك‏.‏

فبعث إليه فلما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم كتاب صاحبهم تركهم خمس عشرة ليلة ثم قال لهم‏:‏ ‏(‏‏(‏اذهبوا إلى صاحبكم أخبروه أن ربي قد قتل ربه الليلة‏)‏‏)‏ فوجدوه كما قال‏.‏

قال‏:‏ وروى داود بن أبي هند، عن عامر الشعبي نحو هذا‏.‏

ثم روى البيهقي من طريق أبي بكر بن عياش، عن داود بن أبي هند، عن أبيه، عن أبي هريرة قال‏:‏ أقبل سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن في وجه سعد خبراً‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ يا رسول الله هلك كسرى‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لعن الله كسرى، أول الناس هلاكاً فارس، ثم العرب‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 309‏)‏

قلت‏:‏ الظاهر أنه لما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهلاك كسرى لذينك الرجلين - يعني الأميرين اللذين قدما من نائب اليمن باذام - فلما جاء الخبر بوفق ما أخبر به عليه الصلاة والسلام، وشاع في البلاد‏.‏

وكان سعد بن أبي وقاص أول من سمع، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بوفق إخباره عليه السلام، وهكذا بنحو هذا التقدير ذكره البيهقي رحمه الله‏.‏

ثم روى البيهقي من غير وجه، عن الزهري‏:‏ أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أنه بلغه أن كسرى بينما هو في دسكرة ملكه بعث له - أو قيض له - عارض يعرض عليه الحق فلم يفجأ كسرى إلا برجل يمشي وفي يده عصا‏.‏

فقال‏:‏ يا كسرى هل لك في الإسلام قبل أن أكسر هذه العصا‏؟‏

فقال كسرى‏:‏ نعم، لا تكسرها‏.‏

فولى الرجل‏.‏

فلما ذهب أرسل كسرى إلى حجابه، فقال‏:‏ من أذن لهذا الرجل علي‏؟‏

فقالوا‏:‏ ما دخل عليك أحد‏.‏

فقال‏:‏ كذبتم‏.‏

قال‏:‏ فغضب عليهم وتهددهم، ثم تركهم‏.‏

قال‏:‏ فلما كان رأس الحول أتى ذلك الرجل ومعه العصا، قال‏:‏ يا كسرى هل لك في الإسلام قبل أن أكسر هذه العصا‏؟‏

قال‏:‏ نعم لا تكسرها‏.‏

فلما انصرف عند دعا حجابه قال لهم كالمرة الأولى، فلما كان العام المستقبل أتاه ذلك الرجل معه العصا، فقال له‏:‏ هل لك يا كسرى في الإسلام قبل أن أكسر هذه العصا‏؟‏

فقال‏:‏ لا تكسرها لا تكسرها فكسرها، فأهلك الله كسرى عند ذلك‏.‏

وقال الإمام الشافعي‏:‏ أنبا ابن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، فوالذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله‏)‏‏)‏‏.‏

أخرجه مسلم من حديث ابن عيينة، وأخرجاه من حديث الزهري به‏.‏

قال الشافعي‏:‏ ولما أتى كسرى بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مزقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏يمزق ملكه‏)‏‏)‏‏.‏

وحفظنا أن قيصر أكرم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعه في مسك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ثبت ملكه‏)‏‏)‏‏.‏

قال الشافعي وغيره من العلماء‏:‏ ولما كانت العرب تأتي الشام والعراق للتجارة، فأسلم من أسلم منهم، شكوا خوفهم من ملكي العراق والشام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فباد ملك الأكاسرة بالكلية، وزال ملك قيصر عن الشام بالكلية، وإن ثبت لهم ملك في الجملة ببركة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عظموا كتابه، والله أعلم‏.‏

قلت‏:‏ وفي هذا بشارة عظيمة بأن ملك الروم لا يعود أبداً إلى أرض الشام، وكانت العرب تسمي قيصر لمن ملك الشام مع الجزيرة من الروم، وكسرى لمن ملك الفرس، والنجاشي لمن ملك الحبشة، والمقوقس لمن ملك الإسكندرية، وفرعون لمن ملك مصر كافراً، وبطليموس لمن ملك الهند، ولهم أعلام أجناس غير ذلك، وقد ذكرناها في غير هذا الموضع، والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 310‏)‏

وروى مسلم‏:‏ عن قتيبة وغيره، عن أبي عوانة، عن سماك، عن جابر بن سمرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لتفتحن عصابة من المسلمين كنوز كسرى في القصر الأبيض‏)‏‏)‏‏.‏

وروى أسباط، عن سماك، عن جابر بن سمرة مثل ذلك، وزاد‏:‏ وكنت أنا وأبي فيهم، فأصبنا من ذلك ألف درهم‏.‏

 بعثه صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس صاحب مدينة الإسكندرية واسمه جريج بن مينا القبطي‏.‏

قال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق‏:‏ حدثني الزهري، عن عبد الله بن عبد القاري‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث حاطب بن أبي بلتعه إلى المقوقس - صاحب الإسكندرية - فمضى بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، فقبل الكتاب وأكرم حاطباً، وأحسن نزله، وسرحه إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وأهدى له مع حاطب كسوة وبغلة بسرجها، وجاريتين إحداهما أم إبراهيم، وأما الأخرى فوهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحمد بن قيس العبدي‏.‏

رواه البيهقي‏.‏

ثم روي من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، ثنا يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أبيه، عن جده حاطب بن أبي بلتعة قال‏:‏ بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس ملك الإسكندرية، قال‏:‏ فجئته بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزلني في منزله، وأقمت عنده‏.‏

ثم بعث إلي وقد جمع بطارقته، وقال‏:‏ إني سائلك عن كلام فأحب أن تفهم عني‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ هلم‏.‏

قال‏:‏ أخبرني عن صاحبك أليس هو نبي ‏؟‏

قلت‏:‏ بل هو رسول الله‏.‏

قال‏:‏ فما له حيث كان هكذا لم يدع على قومه حيث أخرجوه من بلده إلى غيرها ‏؟‏

قال‏:‏ فقلت‏:‏ عيسى ابن مريم أليس تشهد أنه رسول الله ‏؟‏

قال‏:‏ بلى‏.‏

قلت‏:‏ فما له حيث أخذه قومه فأرادوا أن يصلبوه، إلا يكون دعا عليهم بأن يهلكهم الله حيث رفعه الله إلى السماء الدنيا ‏؟‏

فقال لي‏:‏ أنت حكيم قد جاء من عند حكيم، هذه هدايا أبعث بها معك إلى محمد، وأرسل معك ببذرقة يبذرقونك إلى مأمنك‏.‏

قال‏:‏ فأهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث جوار منهم‏:‏ أم إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وواحدة وهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي جهم ابن حذيفة العدوي، وواحدة وهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت الأنصاري، وأرسل إليه بطرف من طرفهم‏.‏

وذكر ابن إسحاق‏:‏ أنه أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع جوار؛ إحداهن مارية أم إبراهيم، والأخرى سيرين التي وهبها لحسان بن ثابت، فولدت له عبد الرحمن بن حسان‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 311‏)‏

قلت‏:‏ وكان في جملة الهدية غلام أسود خصي اسمه مأبور، وخفين ساذجين أسودين، وبغلة بيضاء اسمها الدلدل، وكان مأبور هذا خصياً ولم يعلموا بأمره بادي الأمر، فصار يدخل على مارية كما كان من عاداتهم ببلاد مصر‏.‏

فجعل بعض الناس يتكلم فيهما بسبب ذلك، ولا يعلمون بحقيقة الحال وأنه خصي، حتى قال بعضهم‏:‏ إنه الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب بقتله فوجده خصياً فتركه‏.‏

والحديث في صحيح مسلم من طريق‏.‏‏.‏‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وبعث سليط بن عمرو بن عبدود أخا بني عامر بن لؤي إلى هوذة بن علي صاحب اليمامة، وبعث العلاء بن الحضرمي إلى جيفر بن الجلندي وعمار بن الجنلدي الإزديين صاحبي عمان‏.‏

 غزوة ذات السلاسل

ذكرها الحافظ البيهقي ها هنا قبل غزوة الفتح، فساق من طريق موسى بن عقبة، وعروة بن الزبير قالا‏:‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل من مشارف الشام في بلي، وعبد الله ومن يليهم من قضاعة‏.‏

قال عروة بن الزبير‏:‏ وبنو بلي أخوال العاص بن وائل، فلما صار إلى هناك خاف من كثرة عدوه، فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمده، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين الأولين، فانتدب أبو بكر وعمر في جماعة من سراة المهاجرين رضي الله عنهم أجمعين، وأمر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح‏.‏

قال عروة‏:‏ وعمرو يومئذ في سعد الله وتلك الناحية من قضاعة‏.‏

قال موسى بن عقبة‏:‏ فلما قدموا على عمرو قال‏:‏ أنا أميركم، وأنا أرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أستمده بكم‏.‏

فقال المهاجرون‏:‏ بل أنت أمير أصحابك، وأبو عبيدة أمير المهاجرين‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 312‏)‏

فقال عمرو‏:‏ إنما أنتم مدد أمددته، فلما رأى ذلك أبو عبيدة وكان رجل حسن الخلق لين الشيمة، سعى لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وعهده‏.‏

قال‏:‏ تعلم يا عمرو أن آخر ما عهد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إذا قدمت على صاحبك فتطاوعا‏)‏‏)‏ وإنك إن عصيتني لأطيعنك، فسلم أبو عبيدة الإمارة لعمرو بن العاص‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحصين التميمي قال‏:‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص يستنفر العرب إلى الإسلام، وذلك أن أم العاص بن وائل كانت من بني بلي، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم يتألفهم بذلك‏.‏

حتى إذا كان على ماء بأرض جذام يقال له السلاسل - وبه سميت تلك الغزوة ذات السلاسل - قال‏:‏ فلما كان عليه وخاف، بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمده، فبعث إليه أبا عبيدة بن الجراح في المهاجرين الأولين، فيهم أبو بكر وعمر، وقال لأبي عبيدة حين وجهه‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تختلفا‏)‏‏)‏‏.‏

فخرج أبو عبيدة حتى إذا قدم عليه قال له عمرو‏:‏ إنما جئت مدداً لي‏.‏

فقال له أبو عبيدة‏:‏ لا، ولكني على ما أنا عليه، وأنت على ما أنت عليه‏.‏

وكان أبو عبيدة رجلاً ليناً سهلاً هيناً عليه أمر الدنيا‏.‏

فقال له عمرو‏:‏ أنت مددي‏.‏

فقال له أبو عبيدة‏:‏ يا عمرو إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال لي‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تختلفا‏)‏‏)‏ وإنك إن عصيتني أطعتك‏.‏

فقال له عمرو‏:‏ فإني أمير عليك، وإنما أنت مدد لي‏.‏

قال‏:‏ فدونك، فصلى عمرو بن العاص بالناس‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ حدثني ربيعة بن عثمان، عن يزيد بن رومان‏:‏ أن أبا عبيدة لما آب إلى عمرو بن العاص، فصاروا خمسمائة، فساروا الليل والنهار حتى وطئ بلاد بلي ودوخها، وكلما انتهى إلى موضع بلغه أنه قد كان بهذا الموضع جمع، فلما سمعوا بك تفرقوا حتى انتهى إلى أقصى بلاد بلي وعذرة وبلقين، ولقي في آخر ذلك جمعاً ليس بالكثير، فاقتتلوا ساعة، وتراموا بالنبل ساعة‏.‏

ورمي يومئذ عامر بن ربيعة وأصيب ذراعه، وحمل المسلمون عليهم فهزموا، وأعجزوا هرباً في البلاد، وتفرقوا ودوخ عمرو ما هنالك، وأقام أياماً لا يسمع لهم بجمع ولا مكان صاروا فيه، وكان يبعث أصحاب الخيل فيأتون بالشاء والنعم، فكانوا ينحرون ويذبحون، ولم يكن في ذلك أكثر من ذلك، ولم تكن لهم غنائم تقسم‏.‏

وقال أبو داود‏:‏ ثنا ابن المثنى، ثنا وهب بن جرير، ثنا أبي، سمعت يحيى بن أيوب يحدث عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن جيبر، عن عمرو بن العاص قال‏:‏ احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك‏.‏

قال‏:‏ فتيممت، ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب ‏؟‏‏)‏‏)‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 313‏)‏

قال‏:‏ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت‏:‏ إني سمعت الله يقول‏:‏ ‏{‏وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 29‏]‏ فضحك نبي الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً‏.‏

حدثنا محمد بن سلمة، حدثنا ابن وهب، ثنا ابن لهيعة وعمرو بن الحارث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن جيبر، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص - وكان على سرية - ذكر الحديث بنحوه قال‏:‏ فغسل مغابنه، وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم صلى بهم، فذكر نحوه ولم يذكر التيمم‏.‏

قال أبو داود‏:‏ وروى هذه القصة عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية، وقال فيه‏:‏ فتيمم‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ حدثني أفلح بن سعيد، عن ابن عبد الرحمن بن رقيش، عن أبي بكر ابن حزم قال‏:‏ كان عمرو بن العاص حين قفلوا احتلم في ليلة باردة كأشد ما يكون من البرد، فقال لأصحابه‏:‏ ما ترون‏؟‏

والله احتلمت، فإن اغتسلت مت، فدعا بماء فتوضأ، وغسل فرجه وتيمم، ثم قام فصلى بهم، فكان أول من بعث عوف بن مالك بريداً‏.‏

قال عوف‏:‏ فقدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في السحر وهو يصلي في بيته، فسلمت عليه‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏عوف بن مالك ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقلت‏:‏ عوف بن مالك يا رسول الله‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏صاحب الجزور ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ نعم، ولم يزد على هذا بعد ذلك شيئاً‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أخبرني‏)‏‏)‏‏.‏

فأخبرته بما كان من مسيرنا، وما كان من أبي عبيدة وعمرو، ومطاوعة أبي عبيدة‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏يرحم الله أبا عبيدة بن الجراح‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ثم أخبرته أن عمراً صلى بالناس وهو جنب، ومعه ماء لم يزد على أن غسل فرجه وتوضأ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قدم عمرو على رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله عن صلاته فأخبره‏.‏

فقال‏:‏ والذي بعثك بالحق إني لو اغتسلت لمت، ولم أجد برداً قط مثله، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً‏}‏‏.‏

قال‏:‏ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبلغنا أنه قال شيئاً‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن عوف بن مالك الأشجعي قال‏:‏ كنت في الغزوة التي بعث فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن العاص - وهي غزوة ذات السلاسل - فصحبت أبا بكر وعمر‏.‏

فمررت بقوم وهم على جزور قد نحروها، وهم لا يقدرون على أن يبعضوها، وكنت امرءاً جازراً، فقلت لهم‏:‏ تعطوني منها عشراً على أن أقسمها بينكم ‏؟‏

قالوا‏:‏ نعم، فأخذت الشفرة فجزأتها مكاني، وأخذت منها جزءاً فحملته إلى أصحابي، فأطبخناه وأكلناه‏.‏

فقال أبو بكر وعمر‏:‏ أنى لك هذا اللحم يا عوف ‏؟‏

فأخبرتهما، فقالا‏:‏ لا والله ما أحسنت حين أطعمتنا هذا، ثم قاما يتقيآن ما في بطونهما منه، فلما أن قفل الناس من ذلك السفر، كنت أول قادم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئته وهو يصلي في بيته، فقلت‏:‏ السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 314‏)‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أعوف بن مالك ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقلت‏:‏ نعم بأبي أنت وأمي‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏صاحب الجزور ‏؟‏‏)‏‏)‏ ولم يزدني على ذلك شيئاً‏.‏

هكذا رواه محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عوف بن مالك‏.‏

وهو منقطع بل معضل‏.‏

قال الحافظ البيهقي‏:‏ وقد رواه ابن لهيعة، وسعيد بن أبي أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب، عن ربيعة بن لقيط، عن مالك بن زهدم، أظنه عن عوف بن مالك فذكر نحوه، إلا أنه قال‏:‏ فعرضته على عمر، فسألني عنه فأخبرته، فقال‏:‏ قد تعجلت أجرك ولم يأكله‏.‏

ثم حكى عن أبي عبيدة مثله، ولم يذكر فيه أبا بكر، وتمامه كنحو ما تقدم‏.‏

وقال الحافظ البيهقي‏:‏ أنبا أبو عبد الله الحافظ، وأبو سعيد ابن أبي عمرو قالا‏:‏ حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم، ثنا يحيى بن أبي طالب، ثنا علي بن عاصم، ثنا خالد الحذاء، عن أبي عثمان النهدي‏:‏ سمعت عمرو بن العاص يقول‏:‏

بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم على جيش ذات السلاسل، وفي القوم أبو بكر وعمر، فحدثت نفسي أنه لم يبعثني على أبي بكر وعمر إلا لمنزلة لي عنده‏.‏

قال‏:‏ فأتيته حتى قعدت بين يديه فقلت‏:‏ يا رسول الله من أحب الناس إليك ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏عائشة ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ إني لست أسألك عن أهلك‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فأبوها‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ ثم من ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏عمر‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ ثم من ‏؟‏

حتى عدد رهطاً‏.‏

قال‏:‏ قلت في نفسي‏:‏ لا أعود أسأل عن هذا‏.‏

وهذا الحديث مخرج في الصحيحين‏:‏ من طريق خالد بن مهران الحذاء، عن أبي عثمان النهدي - واسمه عبد الرحمن بن مل - حدثني عمرو بن العاص‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيته فقلت‏:‏ أي الناس أحب إليك ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏عائشة‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ فمن الرجال ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أبوها‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ ثم من ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ثم عمر بن الخطاب‏)‏‏)‏‏.‏

فعدد رجالاً‏.‏ وهذا لفظ البخاري‏.‏

وفي رواية‏:‏ قال عمرو‏:‏ فسكت مخافة أن يجعلني في آخرهم‏.‏

 سرية أبي عبيدة إلى سيف البحر

قال الإمام مالك، عن وهب بن كيسان، عن جابر قال‏:‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً قبل الساحل، وأمر عليهم أبا عبيدة ابن الجراح وهم ثلثمائة‏.‏

قال جابر‏:‏ وأنا فيهم، فخرجنا حتى إذا كنا ببعض الطريق فني الزاد، فأتوا أبا عبيدة بأزواد ذلك الجيش، فجمع كله فكان مزودي تمر، فكان يقوتنا كل يوم قليلاً قليلاً، حتى فني ولم يكن يصيبنا إلا تمرة تمرة‏.‏

قال‏:‏ فقلت‏:‏ وما تغني تمرة‏؟‏

فقال‏:‏ لقد وجدنا فقدها حين فنيت‏.‏

قال‏:‏ ثم انتهينا إلى البحر فإذا حوت مثل الضرب، قال‏:‏ فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشر ليلة، ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبا، ثم أمر براحلته فرحلت ثم مر تحتها فلم يصبهما‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 315‏)‏

أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك بنحوه‏.‏

وهو في الصحيحين أيضاً‏:‏ من طريق سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن جابر قال‏:‏ بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلثمائة راكب، وأميرنا أبو عبيدة ابن الجراح نرصد عيراً لقريش، فأصابنا جوع شديد، حتى أكلنا الخبط فسمى ذلك الجيش جيش الخبط‏.‏

قال‏:‏ ونحر رجل ثلاث جزائر، ثم نحر ثلاث جزائر، ثم ثلاثاً، فنهاه أبو عبيدة‏.‏

قال‏:‏ وألقى البحر دابة يقال لها العنبر، فأكلنا منها نصف شهر، وادهنا حتى ثابت إلينا أجسامنا وصلحت‏.‏

ثم ذكر قصة الضلع، فقوله في الحديث‏:‏ نرصد عيراً لقريش دليل على أن هذه السرية كانت قبل صلح الحديبية، والله أعلم‏.‏

والرجل الذي نحر لهم الجزائر هو قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما‏.‏

وقال الحافظ البيهقي‏:‏ أنبأنا أبو بكر ابن إسحاق، ثنا إسماعيل بن قتيبة، ثنا يحيى بن يحيى، ثنا أبو خيثمة - وهو زهير بن معاوية - عن أبي الزبير، عن جابر قال‏:‏ بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر علينا أبا عبيدة نتلقى عيراً لقريش، وزودنا جراباً من تمر لم نجد لنا غيره، فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة‏.‏

قال‏:‏ فقلت‏:‏ كيف كنتم تصنعون بها ‏؟‏

قال‏:‏ كنا نمصها كما يمص الصبي، ثم نشرب عليها الماء، فتكفينا يومنا إلى الليل، وكنا نضرب بعصينا الخبط، ثم نبله بالماء فنأكله‏.‏

قال‏:‏ فانطلقنا إلى ساحل البحر، فرفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم فأتيناه، فإذا به دابة تدعى العنبر‏.‏

فقال أبو عبيدة‏:‏ ميتة، ثم قال‏:‏ لا، بل نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله، وقد اضطررتم فكلوا‏.‏

قال‏:‏ فأقمنا عليه شهراً ونحن ثلثمائة حتى سمنا، ولقد كنا نغرف من وقب عينه بالقلال الدهن، ونقتطع منه القدر كالثور - أو كقدر الثور - ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلاً، فأقعدهم في عينه، وأخذ ضلعاً من أضلاعه فأقامها، ثم رحل أعظم بعير منها فمر تحتها، وتزودنا من لحمها وشايق‏.‏

فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏هو رزق أخرجه الله لكم فهل معكم شيء من لحمه تطعمونا ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل منه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 316‏)‏

ورواه مسلم‏:‏ عن يحيى بن يحيى، وأحمد بن يونس، وأبو داود، عن النفيلي ثلاثتهم، عن أبي خيثمة - زهير بن معاوية الجعفي الكوفي - عن أبي الزبير - محمد بن مسلم بن تدرس المكي - عن جابر بن عبد الله الأنصاري به‏.‏

قلت‏:‏ ومقتضى أكثر هذه السياقات أن هذه السرية كانت قبل صلح الحديبية، ولكن أوردناها ها هنا تبعاً للحافظ البيهقي رحمه الله، فإنه أوردها بعد مؤتة وقبل غزوة الفتح والله أعلم‏.‏

وقد ذكر البخاري بعد غزوة مؤتة سرية أسامة بن زيد إلى الحرقات من جهينة، فقال‏:‏ حدثنا عمرو بن محمد، ثنا هشيم، أنبأنا حصين بن جندب، ثنا أبو ظبيان قال‏:‏ سمعت أسامة بن زيد يقول‏:‏

بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة، فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم، فلما غشيناهم قال‏:‏ لا إله إلا الله فكف الأنصاري، وطعنته برمحي حتى قتلته‏.‏

فلما قدمنا بلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ كان متعوذاً، فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم‏.‏

وقد تقدم هذا الحديث والكلام عليه فيما سلف‏.‏

ثم روى البخاري‏:‏ من حديث يزيد بن أبي عبيدة، عن سلمة بن الأكوع قال‏:‏ غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، وخرجت فيما يبعث من البعوث تسع غزوات، علينا مرة أبو بكر، ومرة أسامة بن زيد رضي الله عنهما‏.‏

ثم ذكر الحافظ البيهقي ها هنا موت النجاشي صاحب الحبشة على الإسلام، ونعي رسول الله صلى الله عليه وسلم له إلى المسلمين وصلاته عليه‏.‏

فروى‏:‏ من طريق مالك، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى إلى الناس النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى، فصف بهم وكبر أربع تكبيرات‏.‏

أخرجاه من حديث مالك، وأخرجاه أيضاً من حديث الليث عن عقيل، عن الزهري، عن سعيد وأبي سلمة، عن أبي هريرة بنحوه‏.‏

وأخرجاه من حديث ابن جريج، عن عطاء، عن جابر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏مات اليوم رجل صالح فصلوا على أصحمة‏)‏‏)‏‏.‏

وقد تقدمت هذه الأحاديث أيضاً والكلام عليها، ولله الحمد‏.‏

قلت‏:‏ والظاهر أن موت النجاشي كان قبل الفتح بكثير، فإن في صحيح مسلم أنه لما كتب إلى ملوك الآفاق كتب إلى النجاشي وليس هو بالمسلم، وزعم آخرون كالواقدي أنه هو، والله أعلم‏.‏

وروى الحافظ البيهقي، من طريق مسلم بن خالد الزنجي، عن موسى بن عقبة، عن أبيه، عن أم كلثوم قالت‏:‏ لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم سلمة قال‏:‏ ‏(‏‏(‏قد أهديت إلى النجاشي أواق من مسك وحلة، وإني لأراه قد مات، ولا أرى الهدية إلا سترد علي، فإن ردت علي - أظنه قال - قسمتها بينكن، أو فهي لك‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 317‏)‏

قال‏:‏ فكان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، مات النجاشي وردت الهدية، فلما ردت عليه أعطى امرأة من نسائه أوقية من ذلك المسك، وأعطى سائره أم سلمة، وأعطاها الحلة، والله أعلم‏.‏

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أله وصحبه وسلم

 غزوة الفتح الأعظم وكانت في رمضان سنة ثمان

وقد ذكرها الله تعالى في القرآن في غير موضع، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى‏}‏ الآية‏.‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 10‏]‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً‏}‏ ‏[‏النصر‏:‏ 1-3‏]‏‏.‏

وكان سبب الفتح بعد هدنة الحديبية ما ذكره محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم أنهما حدثاه جميعاً قالا‏:‏ كان في صلح الحديبية أنه من شاء أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل، ومن شاء أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فتواثبت خزاعة وقالوا‏:‏

نحن في عقد محمد وعهده، وتواثبت بنو بكر وقالوا‏:‏ نحن ندخل في عقد قريش وعهدهم، فمكثوا في تلك الهدنة نحو السبعة أو الثمانية عشر شهراً‏.‏

ثم إن بني بكر وثبوا على خزاعة ليلاً بماء يقال له الوتير، وهو قريب من مكة‏.‏

وقالت قريش‏:‏ ما يعلم بنا محمد وهذا الليل، وما يرانا من أحد فأعانوهم عليهم بالكراع والسلاح، وقاتلوهم معهم للضغن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن عمرو بن سالم ركب عند ما كان من أمر خزاعة وبني بكر بالوتير، حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر الخبر‏.‏

وقد قال أبيات شعر، فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنشدها إياه‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 318‏)‏

يا رب إني ناشد محمداً * حلف أبيه وأبينا الأتلدا

قد كنتموا ولداً وكنا والداً * ثمت أسلمنا فلم ينزع يدا

فانصر رسول الله نصرا أبداً * وادع عباد الله يأتوا مددا

فيهم رسول الله قد تجردا * إن سيم خسفاً وجهه تربدا

في فيلق كالبحر يجري مزبداً * إن قريشاً أخلفوك الموعدا

ونقضوا ميثاقك المؤكدا * وجعلوا لي في كداء رصدا

وزعموا أن لست أدعو أحداً * فهم أذل وأقل عددا

هم بيتونا بالوتير هجداً * وقتلونا ركعاً وسجداً

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏نصرت يا عمرو بن سالم‏)‏‏)‏ فما برح حتى مرت بنا عنانة في السماء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب‏)‏‏)‏‏.‏

وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالجهاز وكتمهم مخرجه، وسأل الله أن يعمي على قريش خبره حتى يبغتهم في بلادهم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكان السبب الذي هاجهم أن رجلاً من بني الحضرمي اسمه مالك بن عباد، من حلفاء الأسود بن رزن خرج تاجراً، فلما توسط أرض خزاعة عدوا عليه فقتلوه، وأخذوا ماله، فعدت بنو بكر على رجل من بني خزاعة فقتلوه، فعدت خزاعة قبيل الإسلام على بني الأسود بن رزن الدئلي، وهم مفخر بني كنانة وأشرافهم، سلمى وكلثوم وذؤيب فقتلوهم بعرفة عند أنصاب الحرم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني رجل من الدئل قال‏:‏ كان بنو الأسود بن رزن يودون في الجاهلية ديتين ديتين، ونودي دية دية، لفضلهم فينا‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فبينا بنو بكر وخزاعة على ذلك، إذ حجز بينهم الإسلام، فلما كان يوم الحديبية ودخل بنو بكر في عقد قريش، ودخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الهدنة، اغتنمها بنو الدئل من بني بكر وأرادوا أن يصيبوا من خزاعة ثأراً من أولئك النفر‏.‏

فخرج نوفل بن معاوية الدئلي في قومه وهو يومئذ سيدهم وقائدهم، وليس كل بني بكر تابعه، فبيت خزاعة وهم على الوتير ماء لهم، فأصابوا رجلاً منهم وتحاوزوا واقتتلوا، ورفدت قريش بني بكر بالسلاح، وقاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفياً حتى حاوزوا خزاعة إلى الحرم‏.‏

فلما انتهوا إليه قالت بنو بكر‏:‏ أنا قد دخلنا الحرم، إلهك إلهك، فقال‏:‏ كلمة عظيمة لا إله اليوم يا بني بكر أصيبوا ثأركم، فلعمري أنكم لتسرقون في الحرم أفلا تصيبون ثأركم‏؟‏ ولجأت خزاعة إلى دار بديل بن ورقاء بمكة، وإلى دار مولى لهم يقال له رافع، وقد قال الأخزر بن لعط الدئلي في ذلك‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 319‏)‏

ألا هل أتى قصوى الأحابيش أننا * رددنا بني كعب بأفوق ناصل

حبسناهم في دارة العبد رافع * وعند بديل محبسا غير طائل

بدار الذليل الأخذ الضيم بعد ما * شفينا النفوس منهم بالمناصل

حبسناهم حتى إذا طال يومهم * نفخنا لهم من كل شعب بوابل

نذبحهم ذبح التيوس كأننا * أسود نباري فيهم بالقواصل

هم ظلمونا واعتدوا في مسيرهم * وكانوا لدى الأنصاب أول قاتل

كأنهم بالجزع إذ يطردونهم * قفا ثور حفان النعام الجوافل

قال‏:‏ فأجابه بديل بن عبد مناة بن سلمة بن عمرو بن الأجب وكان يقال له بديل بن أم أصرم فقال‏:‏

تعاقد قوم يفخرون ولم ندع * لهم سيداً يندوهم غير نافل

أمن خيفة القوم الأولى تزدريهم * تجيز الوتير خائفاً غير آيل

وفي كل يوم نحن نحبوا حبائنا * لعقل ولا يحبى لنا في المعاقل

ونحن صبحنا بالتلاعة داركم * بأسيافنا يسبقن لوم العواذل

ونحن منعنا بين بيض وعتود * إلى خيف رضوى من مجر القبائل

ويوم الغميم قد تكفت ساعياً * عبيس فجعناه بجلد حلاحل

أإن أجمرت في بيتها أم بعضكم * بجعموسها تنزون إن لم نقاتل

كذبتم وبيت الله ما إن قتلتموا * ولكن تركنا أمركم في بلابل

قال ابن إسحاق‏:‏ فحدثني عبد الله بن أبي سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم يشد في العقد ويزيد في المدة‏)‏‏)‏‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم خرج بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بما أصيب منهم، ومظاهرة قريش بني بكر عليهم، ثم انصرفوا راجعين حتى لقوا أبا سفيان بعسفان قد بعثته قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشد في العقد، ويزيد في المدة، وقد رهبوا للذي صنعوا‏.‏

فلما لقي أبو سفيان بديلاً قال‏:‏ من أين أقبلت يا بديل‏؟‏ وظن أنه قد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فقال‏:‏ سرت إلى خزاعة في هذا الساحل، في بطن هذا الوادي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 320‏)‏

قال‏:‏ فعمد أبو سفيان إلى مبرك ناقته فأخذ من بعرها، ففته فرأى فيه النوى فقال‏:‏ أحلف بالله لقد جاء بديل محمداً، ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته‏.‏

فقال‏:‏ يا بنية ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أو رغبت به عني ‏؟‏

فقالت‏:‏ هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت مشرك نجس، فلم أحب أن تجلس على فراشه‏.‏

فقال‏:‏ يا بنية، والله لقد أصابك بعدي شر، ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه، فلم يرد عليه شيئاً، ثم ذهب إلى أبي بكر، فكلمه أن يكلم له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ما أنا بفاعل، ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه، فقال عمر‏:‏ أنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فوالله لو لم أجد لكم إلا الذر لجاهدتكم به‏.‏

ثم خرج فدخل على علي بن أبي طالب وعنده فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندها حسن غلام يدب بين يديهما، فقال‏:‏ يا علي إنك أمس القوم بي رحماً وأقربهم مني قرابة، وقد جئت في حاجة فلا أرجعن كما جئت خائباً فاشفع لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏!‏

فقال‏:‏ ويحك أبا سفيان، والله لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه، فالتفت إلى فاطمة فقال‏:‏ يا بنت محمد هل لك أن تأمري بنيك هذا فيجير بين الناس، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر ‏؟‏

فقالت‏:‏ والله ما بلغ ببني ذلك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

فقال‏:‏ يا أبا الحسن إني أرى الأمور قد اشتدت على فانصحني ‏؟‏

قال‏:‏ والله ما أعلم شيئاً يغني عنك، ولكنك سيد بني كنانة فقم فأجر بين الناس، ثم الحق بأرضك‏.‏

فقال‏:‏ أو ترى ذلك مغنياً عني شيئاً ‏؟‏

قال‏:‏ لا والله ما أظن، ولكن لا أجد لك غير ذلك‏.‏

فقام أبو سفيان في المسجد فقال‏:‏ أيها الناس إني قد أجرت بين الناس، ثم ركب بعيره فانطلق، فلما أن قدم على قريش قالوا‏:‏ ما وراءك ‏؟‏

قال‏:‏ جئت محمداً فكلمته، فوالله ما رد علي شيئاً، ثم جئت ابن أبي قحافة فوالله ما وجدت فيه خيراً، ثم جئت عمر فوجدته أعدى عدو، ثم جئت علياً فوجدته ألين القوم وقد أشار علي بأمر صنعته، فوالله ما أدري هل يغني عنا شيئاً أم لا ‏؟‏

قالوا‏:‏ بماذا أمرك ‏؟‏

قال‏:‏ أمرني أن أجير بين الناس ففعلت‏.‏

قالوا‏:‏ هل أجاز ذلك محمد ‏؟‏

قال‏:‏ لا‏.‏

قالوا‏:‏ ويحك ما زادك الرجل على أن لعب بك، فما يغني عنا ما قلت‏.‏

فقال‏:‏ لا والله ما وجدت غير ذلك‏.‏

فائدة ذكرها السهيلي‏.‏

فتكلم على قول فاطمة في هذا الحديث؛ وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما جاء في الحديث، ويجير على المسلمين أدناهم قال‏:‏ وجه الجمع بينهما بأن المراد بالحديث من يجير واحداً ونفراً يسيراً‏.‏

وقول فاطمة‏:‏ فمن يجير عدداً من غزو الإمام إياهم فليس له ذلك‏.‏

قال‏:‏ كان سحنون وابن الماجشون يقولان‏:‏ إن أمان المرأة موقوف على إجازة الإمام لقوله لأم هانئ‏:‏ ‏(‏‏(‏قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ويروى هذا عن عمرو بن العاص، وخالد بن الوليد‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يجوز أمان العبد، وفي قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏‏(‏ويجير عليهم أدناهم‏)‏‏)‏ ما يقتضي دخول العبد والمرأة، والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 321‏)‏

وقد روى البيهقي‏:‏ من طريق حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال‏:‏ قالت بنو كعب‏:‏

اللهم إني ناشد محمداً * حلف أبينا وأبيه الأتلدا

فانصر هداك الله نصراً عتداً * وادعُ عباد الله يأتوا مددا

وقال موسى بن عقبة في فتح مكة‏:‏ ثم إن بني نفاثة من بني الدئل أغاروا على بني كعب، وهم في المدة التي بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش‏.‏

وكانت بنو كعب في صلح رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وكانت بنو نفاثة في صلح قريش، فأعانت بنو بكر بني نفاثة، وأعانتهم قريش بالسلاح والرقيق، واعتزلتهم بنو مدلج، ووفوا بالعهد الذي كانوا عاهدوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفي بني الدئل رجلان هما سيداهم؛ سلمى بن الأسود، وكلثوم بن الأسود، ويذكرون أن ممن أعانهم صفوان بن أمية، وشيبة بن عثمان، وسهيل بن عمرو، فأغارت بنو الدئل على بني عمرو وعامتهم - زعموا نساء وصبيان وضعفاء الرجال - فألجؤهم وقتلوهم حتى أدخلوهم إلى دار بُديل بن ورقاء بمكة‏.‏

فخرج ركب من بني كعب حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا له الذي أصابهم وما كان من أمر قريش عليهم في ذلك، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ارجعوا فتفرقوا في البلدان‏)‏‏)‏‏.‏

وخرج أبو سفيان من مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتخوف الذي كان، فقال‏:‏ يا محمد اشدد العقد وزدنا في المدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ولذلك قدمت، هل كان من حدث قبلكم ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ معاذ الله نحن على عهدنا وصلحنا يوم الحديبية لا نغير ولا نبدل‏.‏

فخرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتى أبا بكر فقال‏:‏ جدد العقد وزدنا في المدة‏؟‏

فقال أبو بكر‏:‏ جواري في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لو وجدت الذر تقاتلكم لأعنتها عليكم‏.‏

ثم خرج فأتى عمر بن الخطاب فكلمه، فقال عمر بن الخطاب‏:‏ ما كان من حلفنا جديد فأخلقه الله، وما كان منه مثبتاً قطعه الله، وما كان منه مقطوعاً فلا وصله الله‏.‏

فقال له أبو سفيان‏:‏ جزيت من ذي رحم شراً‏.‏

ثم دخل على عثمان فكلمه فقال عثمان‏:‏ جواري في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ثم أتبع أشراف قريش يكلمهم، فكلهم يقول‏:‏ عقدنا في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما يئس مما عندهم دخل على فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمها، فقالت‏:‏ إنما أنا امرأة، وإنما ذلك إلى رسول الله‏.‏

فقال لها‏:‏ فأمري أحد ابنيك‏.‏

فقالت‏:‏ إنها صبيان ليس مثلهما يجير‏.‏

قال‏:‏ فكلمي علياً‏.‏

فقالت‏:‏ أنت فكلمه، فكلم علياً‏.‏

فقال له‏:‏ يا أبا سفيان إنه ليس أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتات على رسول الله صلى الله عليه وسلم بجوار، وأنت سيد قريش وأكبرها وأمنعها، فأجر بين عشيرتك‏.‏

قال‏:‏ صدقت وأنا كذلك‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 322‏)‏

فخرج فصاح‏:‏ إلا إني قد أجرت بين الناس، ولا والله ما أظن أن يخفرني أحد‏.‏

ثم دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا محمد إني قد أجرت بين الناس، ولا والله ما أظن أن يخفرني أحد، ولا يرد جواري‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أنت تقول ذلك يا أبا حنظلة ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فخرج أبو سفيان على ذلك فزعموا - والله أعلم - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين أدبر أبو سفيان‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم خذ على أسماعهم وأبصارهم فلا يرونا إلا بغتة، ولا يسمعوا بنا إلا فجأة‏)‏‏)‏‏.‏

وقدم أبو سفيان مكة فقالت له قريش‏:‏ ما وراءك هل جئت بكتاب من محمد أو عهد‏؟‏

قال‏:‏ لا والله، لقد أبى علي وقد تتبعت أصحابه فما رأيت قوما لملك عليهم أطوع منهم له، غير أن علي بن أبي طالب قد قال لي‏:‏ التمس جوار الناس عليك، ولا تجير أنت عليه وعلى قومك، وأنت سيد قريش وأكبرها وأحقها أن تخفر جواره، فقمت بالجوار، ثم دخلت على محمد فذكرت له أني قد أجرت بين الناس، وقلت‏:‏ ما أظن أن تخفرني‏؟‏

فقال‏:‏ أنت تقول ذلك يا أبا حنظلة‏؟‏

فقالوا - مجيبين له -‏:‏ رضيت بغير رضى، وجئتنا بما لا يغني عنا ولا عنك شيئاً، وإنما لعب بك علي، لعمر الله ما جوارك بجائز، وإن إخفارك عليهم لهين‏.‏

ثم دخل على امرأته فحدثها الحديث، فقالت‏:‏ قبحك الله من وافد قوم فما جئت بخير‏.‏

قال‏:‏ ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم سحاباً فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن هذه السحاب لتبض بنصر بني كعب‏)‏‏)‏‏.‏

فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يمكث بعد ما خرج من عنده أبو سفيان، ثم أخذ في الجهاز، وأمر عائشة أن تجهزه وتخفي ذلك‏.‏

ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد أو إلى بعض حاجاته، فدخل أبو بكر على عائشة، فوجد عندها حنطة تنسف وتنقي، فقال لها‏:‏ يا بنية لم تصنعين هذا الطعام‏؟‏ فسكتت‏.‏

فقال‏:‏ أيريد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغزو‏؟‏ فصمتت‏.‏

فقال‏:‏ يريد بني الأصفر - وهم الروم - فذكر من ذلك أمراً فيه منهم بعض المكروه في ذلك الزمان، فصمتت‏.‏

قال‏:‏ فلعله يريد أهل نجد فذكر منهم نحواً من ذلك، فصمتت‏.‏

قال‏:‏ فلعله يريد قريشاً، فصمتت‏.‏

قال‏:‏ فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له‏:‏ يا رسول الله أتريد أن تخرج مخرجاً‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فلعلك تريد بني الأصفر‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ أتريد أهل نجد‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فلعلك تريد قريشاً‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم‏)‏‏)‏‏.‏

قال أبو بكر‏:‏ يا رسول الله أليس بينك وبينهم مدة‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ألم يبلغك ما صنعوا ببني كعب ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ وأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس بالغزو، وكتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش، وأطلع الله رسوله صلى الله عليه وسلم على الكتاب، وذكر القصة كما سيأتي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 323‏)‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني محمد بن جعفر، عن عروة، عن عائشة، أن أبا بكر دخل على عائشة وهي تغربل حنطة، فقال‏:‏ ما هذا‏؟‏ أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاز‏؟‏

قالت‏:‏ نعم، فتجهر‏.‏

قال‏:‏ وإلى أين‏؟‏

قالت‏:‏ ما سمى لنا شيئاً، غير أنه قد أمرنا بالجهاز‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس أنه سائر إلى مكة، وأمر بالجد والتهيؤ، وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها‏)‏‏)‏‏.‏

فتجهز الناس، فقال حسان بن ثابت يحرض الناس، ويذكر مصاب خزاعة‏:‏

عناني ولم أشهد ببطحاء مكة * رجال بني كعب تحزُ رقابها

بأيدي رجال لم يسلوا سيوفهم * وقتلى كثير لم تجن ثيابها

ألا ليت شعري هل تنالن نصرتي * سهيل بن عمرو حرها وعقابها

وصفوان عودا حزمن شفر أسته * فهذا أوان الحرب شد عصابها

فلا تأمننا يا ابن أم مجالد * إذا احتلبت صرفاً وأعصل نابها

ولا تجزعوا منها فإن سيوفنا * لها وقعة بالموت يفتح بابها