فصل: سنة أربع من الهجرة النبوية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 آخر الكلام على وقعة أحد

فصل قد تقدم ما وقع في هذه السنة الثالثة من الحوادث والغزوات والسرايا، ومن أشهرها وقعة أحد كانت في النصف من شوال منها، وقد تقدم بسطها ولله الحمد‏.‏

وفيها في أحد توفي شهيداً أبو يعلى، ويقال أبو عمارة أيضاً حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، الملقب بأسد الله وأسد رسوله، وكان رضيع النبي صلى الله عليه وسلم هو وأبو سلمة بن عبد الأسد، أرضعتهم ثويبة مولاة أبي لهب كما ثبت ذلك في الحديث المتفق عليه‏.‏

فعلى هذا يكون قد جاوز الخمسين من السنين يوم قتل رضي الله عنهم، فإنه كان من الشجعان الأبطال، ومن الصديقين الكبار، وقتل معه يومئذ تمام السبعين رضي الله عنهم أجمعين‏.‏

وفيها عقد عثمان بن عفان على أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أختها رقية، وكان عقده عليها في ربيع الأول منها، وبنى بها في جمادى الآخرة منها كما تقدم فيها ذكره الواقدي‏.‏

وفيها قال ابن جرير‏:‏ ولد لفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي بن أبي طالب، قال‏:‏ وفيها علقت بالحسين رضي الله عنهم‏.‏

 بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر سنة أربع من الهجرة النبوية

في المحرم منها كانت سرية أبي سلمة بن عبد الأسد أبي طليحة الأسدي، فانتهى إلى ما يقال له قَطَن‏.‏

قال الواقدي‏:‏ حدثنا عمر بن عثمان بن عبد الرحمن بن سعيد اليربوعي، عن سلمة بن عبد الله بن عمر بن أبي سلمة وغيره قالوا‏:‏ شهد أبو سلمة أحداً، فجرح جرحاً على عضده، فرجع إلى منزله فأقام شهراً يداوى، فلما كان المحرم على رأس خمسة وثلاثين شهراً من الهجرة دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏

اخرج في هذه السرية فقد استعملتك عليها، وعقد له لواء وقال‏:‏ سر حتى تأتي أرض بني أسد فأغر عليهم، وأوصاه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيراً، وخرج معه في تلك السرية خمسون ومائة فانتهى إلى أدنى قطن وهو ماء لبني أسد، وكان هناك طليحة الأسدي وأخوه سلمة ابنا خويلد، وقد جمعا حلفاء من بني أسد ليقصدوا حرب النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل منهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما تمالأوا عليه فبعث معه أبا سلمة في سريته هذه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 71‏)‏

فلما انتهوا إلى أرضهم تفرقوا وتركوا نعماً كثيراً لهم من الإبل والغنم، فأخذ ذلك كله أبو سلمة، وأسر منهم معه ثلاثة مماليك، وأقبل راجعاً إلى المدينة، فأعطى ذلك الرجل الأسدي الذي دلهم نصيباً وافراً من الغنم، وأخرج صفي النبي صلى الله عليه وسلم عبداً وخمس الغنيمة وقسمها بين أصحابه ثم قدم المدينة‏.‏

قال عمر بن عثمان‏:‏ فحدثني عبد الملك بن عبيد، عن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع، عن عمر بن أبي سلمة قال‏:‏ كان الذي جرح أبي أبو أسامة الجشمي، فمكث شهراً يداويه فبرأ، فلما برأ بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المحرم، يعني من سنة أربع إلى قطن، فغاب بضع عشرة ليلة، فلما دخل المدينة انتقض به جرحه فمات لثلاث بقين من جمادى الأولى‏.‏

قال عمر‏:‏ واعتدت أمي حتى خلت أربعة أشهر وعشر، ثم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل بها في ليال بقين من شوال، فكانت أمي تقول‏:‏ ما بأس بالنكاح في شوال والدخول فيه، قد تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال وبني فيه‏.‏

قال‏:‏ وماتت أم سلمة في ذي القعدة سنة تسع وخمسين‏.‏ رواه البيهقي‏.‏

قلت‏:‏ سنذكر في أواخر هذه السنة في شوالها تزويج النبي صلى الله عليه وسلم بأم سلمة، وما يتعلق بذلك من ولاية الابن أمه في النكاح، ومذاهب العلماء في ذلك إن شاء الله تعالى، وبه الثقة‏.‏

 غزوة الرجيع

قال الواقدي‏:‏ وكانت في صفر، يعني سنة أربع بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة ليجيزوه‏.‏

قال‏:‏ والرجيع على ثمانية أميال من عسفان‏.‏

قال البخاري‏:‏ حدثني إبراهيم بن موسى‏:‏ أخبرنا هشام بن يوسف، عن معمر، عن الزهري، عن عمرو بن أبي سفيان الثقفي، عن أبي هريرة قال‏:‏

بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية عيناً، وأمر عليهم عاصم بن ثابت، وهو جد عاصم بن عمر بن الخطاب، فانطلقوا حتى إذا كانوا بين عسفان ومكة، ذكروا لحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان فتبعوهم بقريب من مائة رأم، فاقتصوا آثارهم حتى أتوا منزلاً نزلوه فوجدوا فيه نوى تمر تزودوه من المدينة، فقالوا‏:‏ هذا تمر يثرب فتبعوا آثارهم حتى لحقوهم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 72‏)‏

فلما انتهى عاصم وأصحابه لجأوا إلى فدفد، وجاء القوم فأحاطوا بهم فقالوا‏:‏ لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا ألا نقتل منكم رجلاً‏.‏

فقال عاصم‏:‏ أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، اللهم أخبر عنا رسولك، فقاتلوهم حتى قتلوا عاصماً في سبعة نفر بالنبل، وبقي خبيب وزيد ورجل آخر، فأعطوهم العهد والميثاق، نزلوا إليهم، فلما استمكنوا منهم حلوا أوتار قسيهم فربطوهم بها‏.‏

فقال الرجل الثالث الذي معهما‏:‏ هذا أول الغدر، فأبى أن يصحبهم فجروه وعالجوه على أن يصحبهم، فلم يفعل فقتلوه، وانطلقوا بخبيب وزيد حتى باعوهما بمكة بعد بدر، فاشترى خبيباً بنو الحارث بن عامر بن نوفل، وكان خبيب هو قتل الحارث يوم بدر، فمكث عندهم أسيراً حتى إذا أجمعوا قتله، استعار موسى من بعض بنات الحارث يستحدُّ بها فأعارته‏.‏

قالت‏:‏ فغفلت عن صبي لي فدرج إليه حتى أتاه، فوضعه على فخذه، فلما رأيته فزعت فزعة عرف ذلك مني وفي يده الموسى فقال‏:‏ أتخشين أن أقتله‏؟‏ ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله‏.‏

وكانت تقول‏:‏ ما رأيت أسيراً قط خيراً من خبيب، لقد رأيته يأكل من قطف عنب وما بمكة يومئذ من ثمره، وإنه لموثق في الحديد، وما كان إلا رزقاً رزقه الله، فخرجوا به من الحرم ليقتلوه فقال‏:‏ دعوني أصلي ركعتين، ثم انصرف إليهم فقال‏:‏ لولا أن تروا أن مابي جزع من الموت لزدت‏.‏ فكان أول من سن الركعتين عند القتل هو‏.‏

ثم قال‏:‏ اللهم احصهم عدداً واقتلهم بدداً، ثم قال‏:‏

ولست أبالي حين أُقتل مسلماً * على أي شق كان في الله مصرعي

وذلك في ذات الإله وإن يشأ * يبارك على أوصال شلو ممزع

قال‏:‏ ثم قام إليه عقبة بن الحارث فقتله، وبعثت قريش إلى عاصم ليؤتوا بشيء من جسده يعرفونه، وكان عاصم قتل عظيماً من عظمائهم يوم بدر، فبعث الله عليه مثل الظلة من الدَّبْر فحمته من رسلهم، فلم يقدروا منه على شيء‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا سفيان عن عمرو، سمع جابر بن عبد الله يقول‏:‏ الذي قتل خبيباً هو أبو سروعة‏.‏ قلت‏:‏ واسمه عقبة بن الحارث، وقد أسلم بعد ذلك، وله حديث في الرضاع، وقد قيل‏:‏ إن أبا سروعة وعقبة أخوان، فالله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 73‏)‏

هكذا ساق البخاري في كتاب ‏(‏المغازي‏)‏ من صحيحه قصة الرجيع، ورواه أيضاً في التوحيد، وفي الجهاد من طرق‏:‏ عن الزهري، عن عمرو بن أبي سفيان، وأسد بن حارثة الثقفي حليف بني زهرة، ومنهم من يقول‏:‏ عمر بن أبي سفيان والمشهور عمرو‏.‏

وفي لفظ للبخاري‏:‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة رهط سرية عيناً، وأمر عليهم عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح وساق بنحوه‏.‏

وقد خالفه محمد بن إسحاق، وموسى بن عقبة، وعروة بن الزبير، في بعض ذلك‏.‏

ولنذكر كلام ابن إسحاق ليعرف ما بينهما من التفاوت والاختلاف، على أن ابن إسحاق إمام في هذا الشأن، غير مدافع كما قال الشافعي رحمه الله‏:‏ من أراد المغازي فهو عيال على محمد بن إسحاق‏.‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثنا عاصم بن عمر بن قتادة قال‏:‏ قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أحد رهط من عضل والقارة، فقالوا‏:‏ يا رسول الله إن فينا إسلاماً فابعث معنا نفراً من أصحابك يفقهوننا في الدين، ويقرئوننا القرآن، ويعلموننا شرائع الإسلام‏.‏

فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم نفراً ستة من أصحابه وهم‏:‏ مرثد بن أبي مرثد الغنوي حليف حمزة بن عبد المطلب‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وهو أمير القوم، وخالد بن البكير الليثي - حليف بني عدي - وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح أخو بني عمرو بن عوف، وخبيب بن عدي أخو بني جَحْجَبى بن كلفة بن عمرو بن عوف، وزيد بن الدثنة أخو بني بياضة بن عامر، وعبد الله بن طارق حليف بني ظفر رضي الله عنهم‏.‏

هكذا قال ابن إسحاق أنهم كانوا ستة، وكذا ذكر موسى بن عقبة وسماهم كما قال ابن إسحاق، وعند البخاري أنهم كانوا عشرة، وعنده أن كبيرهم عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، فالله أعلم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فخرجوا مع القوم حتى إذا كانوا على الرجيع ماء لهذيل بناحية الحجاز من صدور الهدأة، غدروا بهم، فاستصرخوا عليهم هذيلاً فلم يرع القوم وهم في رحالهم إلا الرجال بأيديهم السيوف، قد غشوهم، فأخذوا أسيافهم ليقاتلوا القوم فقالوا لهم‏:‏ إنا والله ما نريد قتلكم، ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئاً من أهل مكة، ولكم عهد الله وميثاقه أن لا نقتلكم‏.‏

فأما مرثد، وخالد بن البكير، وعاصم بن ثابت فقالوا‏:‏ والله لا نقبل من مشرك عهداً ولا عقداً أبداً، وقال عاصم بن ثابت والله أعلم، ولله الحمد والمنة‏:‏

ما علتي وأنا جَلْدُ نابل * والقوس فيها وتر عنابل

تزل عن صفحتها المعابل * الموت حق والحياة باطل

وكل ما حم الإله نازل * بالمرء والمرء إليه آيل

إن لم أقاتلكم فأمي هابل

وقال عاصم أيضاً‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 74‏)‏

أبو سليمان وريشُ المقعد * وضالةٌ مثلُ الجحيمِ الموقد

إذا النواجي افترشتْ لم أُرعِدِ * ومجنأ من جلد ثورٍ أجرد

ومؤمن بما على محمد

وقال أيضاً‏:‏

أبو سليمان ومثلي راما * وكان قومي مَعْشراً كراماً

قال‏:‏ ثم قاتل حتى قتل وقتل صاحباه‏.‏ فلما قُتل عاصم أرادت هذيل أخذ رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن سهيل، وكانت قد نذرت حين أصاب ابنيها يوم أُحد لئن قدرتْ على رأس عاصم لتشربن في قحفه الخمر، فمنعته الدَّبْر فلما حالت بينهم وبينه قالوا‏:‏ دعوه حتى يمسي فيذهب عنه، فنأخذه، فبعث الله الوادي فاحتمل عاصماً فذهب به‏.‏

وقد كان عاصم قد أعطى الله عهداً أن لا يمسه مشرك، ولا يمس مشركاً أبداً تنجساً‏.‏

فكان عمر بن الخطاب يقول حين بلغه أن الدبر منعته‏:‏ يحفظ الله العبد المؤمن، كان عاصم نذر أن لا يمسه مشرك، ولا يمس مشركاً أبداً في حياته، فمنعه الله بعد وفاته، كما امتنع منه في حياته‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وأما خبيب، وزيد بن الدثنة، وعبد الله بن طارق، فلانوا ورقُّوا ورغبوا في الحياة، وأعطوا بأيديهم فأسروهم، ثم خرجوا بهم إلى مكة ليبيعوهم بها، حتى إذا كانوا بالظهران انتزع عبد الله بن طارق يده من القِران ثم أخذ سيفه، واستأخر عنه القوم، فرموه بالحجارة حتى قتلوه، فقبره بالظهران‏.‏

وأما خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة فقدموا بهما مكة، فباعوهما من قريش بأسيرين من هذيل كانا بمكة‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فابتاع خبيباً حجير بن أبي إهاب التميمي حليف بني نوفل لعقبة بن الحارث بن عامر بن نوفل، وكان أبو إهاب أخا الحارث بن عامر لأمه ليقتله بأبيه‏.‏

قال‏:‏ وأما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه، فبعثه مع مولى له يقال له‏:‏ نسطاس إلى التنعيم، و أخرجه من الحرم ليقتله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 75‏)‏

واجتمع رهط من قريش فيهم‏:‏ أبو سفيان بن حرب، فقال له أبو سفيان حين قَدِمَ ليُقتل‏:‏ أنشدك بالله يا زيد، أتحب أن محمداً الآن عندنا مكانك نضرب عنقه، وأنك في أهلك‏؟‏

قال‏:‏ والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وإني جالس في أهلي‏.‏

قال‏:‏ يقول أبو سفيان‏:‏ ما رأيت من الناس أحداً يحب أحد كحب أصحاب محمد محمداً، قال‏:‏ ثم قتله نسطاس‏.‏

قال‏:‏ وأما خبيب بن عدي‏:‏ فحدثني عبد الله بن أبي نجيح، أنه حُدِّث عن ماوية مولاة حجير بن أبي إهاب، وكانت قد أسلمت، قالت‏:‏ كان عندي خبيب حبس في بيتي، فلقد اطلعت عليه يوماً وإن في يده لقطفاً من عنب، مثل رأس الرجل يأكل منه، وما أعلم في أرض الله عنباً يؤكل‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن أبي نجيح أنهما قالا‏:‏ قالت‏:‏ قال لي حين حضره القتل‏:‏ ابعثي إليَّ بحديدة أتطهر بها للقتل‏.‏ قالت‏:‏ فأعطيت غلاماً من الحي الموسى، فقلت له‏:‏ ادخل بها على هذا الرجل البيت‏.‏

فقالت‏:‏ فوالله إن هو إلا أن ولى الغلام بها إليه، فقلت‏:‏ ماذا صنعتُ ‏!‏ أصاب والله الرجل، وثأره يقتل هذا الغلام، فيكون رجلاً برجل، فلما ناوله الحديدة أخذها من يده، ثم قال‏:‏ لعمرك، ما خافت أمك غدري حين بعثتك بهذه الحديدة إليَّ، ثم خلى سبيله‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ ويقال إن الغلام ابنها‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ قال عاصم‏:‏ ثم خرجوا بخبيب حتى جاؤوا به إلى التنعيم ليصلبوه، وقال لهم‏:‏ إن رأيتم أن تدعوني حتى أركع ركعتين فافعلوا، قالوا‏:‏ دونك فاركع، فركع ركعتين أتمهما وأحسنهما، ثم أقبل على القوم فقال‏:‏ أما والله لولا أن تظنوا أني إنما طوَّلت جزعاً من القتل لاستكثرت من الصلاة‏.‏

قال‏:‏ فكان خبيب أول من سنَّ هاتين الركعتين عند القتل للمسلمين‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 76‏)‏

قال‏:‏ ثم رفعوه على خشبة، فلما أوثقوه قال‏:‏ اللهم إنا قد بلّغنا رسالة رسولك، فبلغه الغداة ما يُصنع بنا، ثم قال‏:‏ اللهم احصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، ثم قتلوه‏.‏

وكان معاوية ابن أبي سفيان يقول‏:‏ حضرته يومئذ فيمن حضره مع أبي سفيان، فلقد رأيته يلقيني إلى الأرض فرقاً من دعوة خُبيب، وكانوا يقولون‏:‏ إن الرجل إذا دُعي عليه، فاضطجع لجنبه زلّت عنه‏.‏

وفي ‏(‏مغازي‏)‏ موسى بن عقبة‏:‏ أن خبيباً وزيد بن الدثنة قتلا في يوم واحد، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع يوم قُتلا وهو يقول‏:‏ وعليكما أو عليك السلام خبيب قتلته قريش‏.‏

وذكر أنهم لما صلبوا زيد بن الدثنة رموه بالنبل ليفتنوه عن دينه، فما زاده إلا إيماناً وتسليماً‏.‏

وذكر عروة وموسى بن عقبة أنهم لما رفعوا خبيباً على الخشبة نادوه يناشدونه أتحب أن محمداً مكانك‏؟‏

قال‏:‏ لا والله العظيم ما أحب أن يفديني بشوكة يشاكها في قدمه، فضحكوا منه‏.‏

وهذا ذكره ابن إسحاق في قصة زيد بن الدثنة، فالله أعلم‏.‏

قال موسى بن عقبة‏:‏ زعموا أن عمرو بن أمية دفن خبيباً‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عباد، عن عقبة بن الحارث قال‏:‏ سمعته يقول‏:‏ والله ما أنا قتلت خبيباً لأنا كنت أصغر من ذلك، ولكنَّ أبا ميسرة أخا بني عبد الدار أخذ الحربة فجعلها في يدي، ثم أخذ بيدي وبالحربة ثم طعنه بها حتى قتله‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني بعض أصحابنا قال‏:‏ كان عمر بن الخطاب استعمل سعيد بن عامر بن حذيم الجمحي على بعض الشام، فكانت تصيبه غشية وهو بين ظهري القوم، فذُكر ذلك لعمر، وقيل إن الرجل مصاب، فسأله عمر في قدمة قدمها عليه فقال‏:‏ يا سعيد ما هذا الذي يصيبك‏؟‏

فقال‏:‏ والله يا أمير المؤمنين ما بي من بأس، ولكني كنت فيمن حضر خبيب بن عدي حين قتل وسمعت دعوته، فوالله ما خطرت على قلبي، وأنا في مجلس قط إلا غُشي عليَّ، فزادته عند عمر خيراً‏.‏

وقد قال الأموي‏:‏ حدثني أبي قال‏:‏ قال ابن إسحاق‏:‏ وبلغنا أن عمر قال‏:‏ من سره أن ينظر إلى رجل نسيج وحده فلينظر إلى سعيد بن عامر‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ أقام خبيب في أيديهم حتى انسلخت الأشهر الحرم، ثم قتلوه‏.‏

وقد روى البيهقي من طريق إبراهيم بن إسماعيل‏:‏ حدثني جعفر بن عمرو بن أمية، عن أبيه، عن جده عمرو بن أمية‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعثه عيناً وحده‏.‏

قال‏:‏ جئت إلى خشبة خبيب فرقيت فيها وأنا أتخوف العيون، فأطلقته فوقع إلى الأرض، ثم اقتحمت فانتبذت قليلاً، ثم التفتُّ فلم أر شيئاً، فكأنما بلعته الأرض، فلم تُذكر لخبيب رمة حتى الساعة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 77‏)‏

ثم روى ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد، عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ لما قتل أصحاب الرجيع قال ناس من المنافقين‏:‏ يا ويح هؤلاء المفتونين الذين هلكوا هكذا، لا هم أقاموا في أهلهم، ولا هم أدّوا رسالة صاحبهم، فأنزل الله فيهم‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 204‏]‏ وما بعدها‏.‏

وأنزل الله في أصحاب السرية ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 207‏]‏‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكان مما قيل من الشعر في هذه الغزوة قول خبيب حين أجمعوا على قتله‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ ومن الناس من ينكرها له‏:‏

لقد جمّع الأحزاب حولي وألّبوا * قبائلهم واستجمعوا كل مجمع

وكلهمُ مبدي العداوةِ جاهدٌ * عليَّ لأني في وثاقٍ بمضبع

وقد جمعوا أبناءهم ونساءهم * وقُرِّبْتُ من جِذع طويل ممنّع

إلى الله أشكو غُربتي ثم كُربتي * وما أرصدَ الأعداء لي عند مصرعي

فذا العرش صبرني على ما يراد بي * فقد بَضَعوا لحمي وقد ياس مطمعي

وذلك في ذات الإله وإن يشأ * يبارك على أوصال شِلوٍ ممزع

وقد خيروني الكفرَ والموت دونه * وقد هملت عيناي من غير مجزع

وما بي حذارُ الموت إني لميتٌ * ولكن حذاري جحمُ نار ملفع

فوالله ما أرجو إذا متّ مسلماً * على أي جنب كان في الله مضجعي

فلستُ بمبدٍ للعدو تخشعاً * ولا جزعاً أني إلى الله مرجعي

وقد تقدم في صحيح البخاري بيتان من هذه القصيدة وهما قوله‏:‏

فلست أبالي حين أُقتل مسلماً * على أي شِقٍ كان في الله مصرعي

وذلك في ذاتِ الإله وإن يشأ * يباركْ على أوصال شِلوٍ ممزع

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 78‏)‏

وقال حسان بن ثابت يرثي خبيباً فيما ذكره ابن إسحاق‏:‏

ما بالُ عينك لا ترقى مدامعُها * سحاً على الصدر مثل اللؤلؤ الفلق

على خبيب فتى الفتيان قد علموا * لا فشل حين تلقاه ولا نزق

فاذهب خبيب جزاك الله طيبةً * وجنة الخلد عند الحور في الرفق

ماذا تقولون إن قال النبي لكم * حين الملائكة الأبرار في الأفق

فيم قتلتم شهيد الله في رجل * طاغ قد أوعث في البلدان والرفق

قال ابن هشام‏:‏ تركنا بعضها لأنه قد أقذع فيها‏.‏

وقال حسان يهجو الذين غدروا بأصحاب الرجيع من بني لحيان فيما ذكره ابن إسحاق، والله أعلم ولله الحمد والمنة والتوفيق والعصمة‏:‏

إن سرك الغدر صرفاً لا مزاج له * فأتِ الرجيع فسل عن دار لحيان

قوم تواصوا بأكل الجار بينهم * فالكلب والقرد والإنسان مثلان

لو ينطق التيس يوماً قام يخطبهم * وكان ذا شرف فيهم وذا شأن

وقال حسان بن ثابت أيضاً، يهجو هذيلاً وبني لحيان على غدرهم بأصحاب الرجيع رضي الله عنهم أجمعين‏:‏

لعمري لقد شانت هذيل بن مدرك * أحاديث كانت في خبيب وعاصم

أحاديث لحيان صلوا بقبيحها * ولحيان جرامون شر الجرائم

أناسٌ هم من قومهم في صميمهم * بمنزلة الزمعان دبر القوادم

هم غادروا يوم الرجيع وأسلمت * أمانتهم ذا عفة ومكارم

رسول رسولَ الله غدراً ولم تكن * هذيل توقى منكرات المحارم

فسوف يرون النصر يوماً عليهم * بقتل الذي تحميه دون الحرائم

أبابيل دبر شمس دون لحمه * حمت لحم شهاد عظيم الملاحم

لعل هذيلاً أن يروا بمصابه * مصارع قتلى أو مقاماً لماتم

ونوقع فيها وقعة ذات صولة * يوافى بها الركبان أهل المواسم

بأمر رسول الله إن رسوله * رأى رأي ذي حزم بلحيان عالم

قبيلةٌ ليس الوفاء يهمهُم * وإن ظلموا لم يدفعوا كف ظالم

إذا الناس حلوا بالفضاء رأيتهم * بمجرى مسيل الماء بين المخارم

محلهم دار البوار ورأيهم * إذا نابهم أمر كرأي البهائم

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 79‏)‏

وقال حسان رضي الله عنه أيضاً يمدح أصحاب الرجيع ويسميهم بشعره، كما ذكره ابن إسحاق رحمه الله تعالى‏:‏

صلى الإله على الذين تتابعوا * يوم الرجيع فأكرموا وأثيبوا

رأس السرية مرثد وأميرهم * وابن البكير أمامهم وخبيب

وابن لطارقَ وابن دثنة منهم * وافاه ثم حمامه المكتوب

والعاصم المقتول عند رجيعهم * كسب المعالي إنه لكسوب

منع المقادة أن ينالوا ظهرهُ * حتى يجالد إنه لنجيب

قال ابن هشام‏:‏ وأكثر أهل العلم بالشعر ينكرها لحسان‏.‏

 سرية عمرو بن أمية الضمري

قال الواقدي‏:‏ حدثني إبراهيم بن جعفر، عن أبيه وعبد الله بن أبي عبيدة، عن جعفر بن الفضل بن الحسن بن عمرو بن أمية الضمري، وعبد الله بن جعفر، عن عبد الواحد بن أبي عوف، وزاد بعضهم على بعض قالوا‏:‏

كان أبو سفيان بن حرب قد قال لنفر من قريش بمكة‏:‏ أما أحد يغتال محمداً فإنه يمشي في الأسواق فندرك ثأرنا‏؟‏

فأتاه رجل من العرب فدخل عليه منزله، وقال له‏:‏ إن أنت وفيتني وخرجت إليه حتى أغتاله، فإني هاد بالطريق خريت، معي خنجر مثل خافية النسر‏.‏

قال‏:‏ أنت صاحبنا، وأعطاه بعيراً ونفقة، وقال‏:‏ اطوِ أمرك فإني لا آمن أن يسمع هذا أحد فينميه إلى محمد‏.‏

قال‏:‏ قال العربي‏:‏ لا يعلمه أحد‏.‏

فخرج ليلاً على راحلته فسار خمساً، وصبَّح ظهر الحي يوم سادسه، ثم أقبل يسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى المصلى، فقال له قائل‏:‏ قد توجه إلى بني عبد الأشهل‏.‏

فخرج الأعرابي يقود راحلته حتى انتهى إلى بني عبد الأشهل، فعقل راحلته، ثم أقبل يؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجده في جماعة من أصحابه يحدث في مسجده، فلما دخل ورآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه‏:‏ ‏(‏‏(‏إن هذا الرجل يريد غدراً والله حائل بينه وبين ما يريده‏)‏‏)‏‏.‏

فوقف وقال‏:‏ أيكم ابن عبد المطلب‏؟‏

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أنا ابن عبد المطلب‏)‏‏)‏‏.‏

فذهب ينحني على رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه يُساره، فجبذه أسيد بن حضير وقال‏:‏ تنح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجذب بداخل إزاره فإذا الخنجر‏.‏

فقال‏:‏ يا رسول الله هذا غادر فأسقط في يد الأعرابي، وقال‏:‏ دمي دمي يا محمد‏.‏ وأخذه أسيد بن حضير يلببه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏اصدقني ما أنت، وما أقدمك‏؟‏ فإن صدقتني نفعك الصدق، وإن كذبتني فقد اطلعتُ على ما هممت به‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 80‏)‏

قال العربي‏:‏ فأنا أمن‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏وأنت أمن ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏‏)‏ فأخبره بخبر أبي سفيان، وما جعل له فأمر به فحبس عند أسيد بن حضير ثم دعا به من الغد فقال‏:‏ قد أمنتك فاذهب حيث شئت، أو خير لك من ذلك‏.‏

قال‏:‏ وما هو‏؟‏ فقال‏:‏ أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فقال‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك أنت رسول الله، والله يا محمد ما كنت أفْرقُ من الرجال، فما هو إلا أن رأيتك فذهب عقلي وضعفت، ثم اطلعت على ما هممت به فما سبقت به الركبان، ولم يطلع عليه أحد، فعرفت أنك ممنوع، وأنك على حق، وأن حزب أبي سفيان حزب الشيطان‏.‏

فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يتبسم، وأقام أياماً ثم استأذن النبي صلى الله عليه وسلم فخرج من عنده، ولم يسمع له بذكر، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن أمية الضمري، ولسلمة بن أسلم بن حريش‏:‏ ‏(‏‏(‏أخرجا حتى تأتيا أبا سفيان ابن حرب فإن أصبتما منه غرة فاقتلاه‏)‏‏)‏

قال عمرو‏:‏ فخرجت أنا وصاحبي حتى أتينا بطن يأجج فقيدنا بعيرنا، وقال لي صاحبي‏:‏ يا عمرو هل لك في أن نأتي مكة فنطوف بالبيت سبعاً ونصلي ركعتين‏؟‏

فقلت‏:‏ أنا أعلم بأهل مكة منك، إنهم إذا أظلموا رشُّوا أفنيتهم ثم جلسوا بها، و إني أعرف بمكة من الفرس الأبلق، فأبى علي فانطلقنا فأتينا مكة، فطفنا أسبوعاً وصلينا ركعتين، فلما خرجت لقيني معاوية بن أبي سفيان فعرفني، وقال‏:‏ عمرو بن أمية واحزناه‏.‏

فنذر بنا أهل مكة فقالوا‏:‏ ما جاء عمرو في خير، وكان عمرو فاتكاً في الجاهلية، فحشد أهل مكة وتجمعوا، وهرب عمرو وسلمة، وخرجوا في طلبهما واشتدوا في الجبل‏.‏

قال عمرو‏:‏ فدخلت في غار، فتغيبت عنهم حتى أصبحت، وباتوا يطلبوننا في الجبل، وعمى الله عليهم طريق المدينة أن يهتدوا له، فلما كان ضحوة الغد أقبل عثمان بن مالك بن عبيد التيمي يختلي لفرسه حشيشاً، فقلت لسلمة بن أسلم‏:‏ إذا أبصرنا أشعر بنا أهل مكة، وقد انفضوا عنا، فلم يزل يدنو من باب الغار حتى أشرف علينا‏.‏

قال‏:‏ فخرجت إليه فطعنته طعنة تحت الثدي بخنجري، فسقط وصاح فاجتمع أهل مكة فأقبلوا بعد تفرقهم، ورجعت إلى مكاني فدخلت فيه، وقلت لصاحبي‏:‏ لا تتحرك فأقبلوا حتى أتوه وقالوا من قتلك ‏؟‏

قال‏:‏ عمرو بن أمية الضمري، فقال أبو سفيان‏:‏ قد علمنا أنه لم يأت لخير، ولم يستطع أن يخبرهم بمكاننا فإنه كان بآخر رمق فمات، وشغلوا عن طلبنا بصاحبهم فحملوه، فمكثنا ليلتين في مكاننا حتى سكن عنا الطلب، ثم خرجنا إلى التنعيم، فقال صاحبي‏:‏ يا عمرو بن أمية هل لك في خبيب بن عدي ننزله‏؟‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 81‏)‏

فقلت له‏:‏ أين هو‏؟‏ قال‏:‏ هو ذاك مصلوب حوله الحرس‏.‏ فقلت‏:‏ أمهلني وتنح عني، فإن خشيت شيئاً فانج إلى بعيرك فاقعد عليه، فأت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، ودعني فإني عالم بالمدينة‏.‏

ثم استدرت عليه حتى وجدته فحملته على ظهري، فما مشيت به إلا عشرين ذراعاً حتى استيقظوا، فخرجوا في أثري، فطرحت الخشبة فما أنسى وجيبها - يعني صوتها - ثم أهلت عليه التراب برجلي، فأخذت طريق الصفراء فأعيوا ورجعوا، وكنت لا أدري مع بقاء نفسي‏.‏

فانطلق صاحبي إلى البعير فركبه، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، وأقبلت حتى أشرفت على الغليل‏:‏ غليل ضنجنان فدخلت في غار معي قوسي وأسهمي وخنجري، فبينما أنا فيه إذ أقبل رجل من بني الديل بن بكر أعور طويل، يسوق غنماً ومعزى فدخل الغار وقال‏:‏ من الرجل ‏؟‏

فقلت‏:‏ رجل من بني بكر‏.‏

فقال‏:‏ وأنا من بني بكر، ثم اتكأ ورفع عقيرته يتغنى ويقول‏:‏

فلست بمسلم ما دمت حياً * ولست أدين دين المسلمينا

فقلت في نفسي‏:‏ والله إني لأرجو أن أقتلك‏.‏

فلما نام قمت إليه فقتلته شر قتلة قتلها أحد قط، ثم خرجت حتى هبطت، فلما أسهلت في الطريق إذا رجلان بعثهما قريش يتجسسان الأخبار فقلت‏:‏ استأسرا فأبى أحدهما فرميته فقتلته، فما رأى ذلك الآخر استأسر، فشددته وثاقاً‏.‏

ثم أقبلت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قدمت المدينة أتى صبيان الأنصار وهم يلعبون، وسمعوا أشياخهم يقولون‏:‏ هذا عمرو، فاشتد الصبيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه، وأتيته بالرجل قد ربطت إبهامه بوتر قوسي، فلقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضحك، ثم دعا لي بخير‏.‏

وكان قدوم سلمة قبل قدوم عمرو بثلاثة أيام‏.‏ رواه البيهقي‏.‏ وقد تقدم أن عمراً لما أهبط خبيباً لم ير له رمة ولا جسداً، فلعله دفن مكان سقوطه، والله أعلم‏.‏

وهذه السرية إنما استدركها ابن هشام على ابن إسحاق، وساقها بنحو من سياق الواقدي لها، لكن عنده أن رفيق عمرو بن أمية في هذه السرية جبار بن صخر، فالله أعلم، ولله الحمد‏.‏

 سرية بئر معونة

وقد كانت في صفر منها، وأغرب مكحول رحمه الله حيث قال‏:‏ إنها كانت بعد الخندق‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 82‏)‏

قال البخاري‏:‏ حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا عبد العزيز، عن أنس بن مالك قال‏:‏

بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين رجلاً لحاجة يقال لهم القراء، فعرض لهم حيان من بني سليم رعل وذكوان عند بئر يقال لها بئر معونة، فقال القوم‏:‏ والله ما إياكم أردنا، وإنما نحن مجتازون في حاجة للنبي صلى الله عليه وسلم فقتلوهم، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم عليهم شهراً في صلاة الغداة، وذاك بدء القنوت وما كنا نقنت‏.‏

ورواه مسلم من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس بنحوه‏.‏

ثم قال البخاري‏:‏ حدثنا عبد الأعلى بن حماد، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا سعد، عن قتادة، عن أنس بن مالك أن رعلاً وذكوان وعصية وبني لحيان استمدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدو، فأمدهم بسبعين من الأنصار كنا نسميهم القراء في زمانهم، كانوا يحتطبون بالنهار، ويصلون بالليل، حتى إذا كانوا ببئر معونة قتلوهم وغدروا بهم، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقنت شهراً يدعو في الصبح على أحياء من العرب على رعل وذكوان وعصية وبني لحيان‏.‏

قال أنس‏:‏ فقرأنا فيهم قرأناً، ثم إن ذلك رفع، بلغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا‏.‏

ثم قال البخاري‏:‏ حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا همام، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، حدثني أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث حراماً أخاً لأم سليم في سبعين راكباً، وكان رئيس المشركين عامر بن الطفيل، خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ثلاث خصال فقال‏:‏

يكون لك أهل السهل ولي أهل المدر، أو أكون خليفتك، أو أغزوك بأهل غطفان بألف وألف، فطعن عامر في بيت أم فلان فقال‏:‏ غدة كغدة البكر في بيت امرأة من آل فلان، ائتوني بفرسي فمات على ظهر فرسه، فانطلق حرام أخو أم سليم وهو رجل أعرج، ورجل من بني فلان فقال‏:‏ كونا قريباً حتى آتيهم، فإن أمنوني كنتم قريباً، وإن قتلوني أتيتم أصحابكم‏.‏

فقال‏:‏ أتؤمنوني حتى أبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فجعل يحدثهم وأومأوا إلى رجل فأتاه من خلفه فطعنه‏.‏

قال همام‏:‏ أحسبه حتى أنفذه بالرمح، فقال‏:‏ الله أكبر فزت ورب الكعبة، فلحق الرجل فقتلوا كلهم غير الأعرج، وكان في رأس جبل، فأنزل الله علينا، ثم كان من المنسوخ‏:‏ أنا لقد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 83‏)‏

فدعا النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثين صباحاً على رعل وذكوان وبني لحيان وعصية الذين عصوا الله ورسوله‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا حبان، حدثنا عبد الله، أخبرني معمر، حدثني ثمامة بن عبد الله بن أنس أنه سمع أنس بن مالك يقول لما طعن حرام بن ملحان - وكان خاله - يوم بئر معونة قال بالدم هكذا، فنضحه على وجهه ورأسه وقال‏:‏ فزت ورب الكعبة‏.‏

وروى البخاري، عن عبيد بن إسماعيل، عن أبي أسامة، عن هشام بن عروة أخبرني أبي قال‏:‏ لما قتل الذين ببئر معونة، وأسر عمرو بن أمية الضمري قال له عامر بن الطفيل‏:‏ من هذا‏؟‏ وأشار إلى قتيل‏.‏

فقال له عمرو بن أمية‏:‏ هذا عامر بن فهيرة‏.‏

قال‏:‏ لقد رأيته بعد ما قتل رفع إلى السماء، حتى إني لأنظر إلى السماء بينه وبين الأرض، ثم وضع فأتي النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم فنعاهم، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن أصحابكم قد أصيبوا وإنهم قد سألوا ربهم فقالوا‏:‏ ربنا أخبر عنا إخواننا بما رضينا عنك ورضيت عنا‏)‏‏)‏ فأخبرهم عنهم‏.‏

وأصيب يومئذ فيهم عروة بن أسماء بن الصلت فسمي عروة به، ومنذر بن عمرو وسمي به منذر‏.‏

هكذا وقع في رواية البخاري مرسلاً عن عروة‏.‏

وقد رواه البيهقي من حديث يحيى بن سعيد، عن أبى أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة فساق من حديث الهجرة، وأدرج في آخره ما ذكره البخاري ههنا فالله أعلم‏.‏

وروى الواقدي، عن مصعب بن ثابت، عن أبي الأسود وعن عروة، فذكر القصة وشأن عامر بن فهيرة، وأخبار عامر بن الطفيل أنه رفع إلى السماء، وذكر أن الذي قتله جبار بن سلمى الكلابي، قال‏:‏ ولما طعنه بالرمح قال‏:‏ فزت ورب الكعبة، ثم سأل جبار بعد ذلك‏:‏ ما معنى قوله فزت‏؟‏ قالوا‏:‏ يعني بالجنة‏.‏

فقال‏:‏ صدق والله، ثم أسلم جبار بعد ذلك لذلك‏.‏

وفي ‏(‏مغازي‏)‏ موسى بن عقبة، عن عروة أنه قال‏:‏ لم يوجد جسد عامر بن فهيرة، يرون أن الملائكة وارته‏.‏

وقال يونس، عن ابن إسحاق‏:‏ فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني بعد أحد - بقية شوال، وذا القعدة، وذا الحجة، والمحرم، ثم بعث أصحاب بئر معونة في صفر على رأس أربعة أشهر من أحد، فحدثني أبي إسحاق بن يسار، عن المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وعبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وغيرهما من أهل العلم قالوا‏:‏

قدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فعرض عليه الإسلام ودعاه إليه فلم يسلم ولم يبعد، وقال‏:‏ يا محمد لو بعثت رجالاً من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك، رجوت أن يستجيبوا لك‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 84‏)‏

فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ إني أخشى عليهم أهل نجد، فقال أبو براء‏:‏ أنا لهم جار، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو أخا بني ساعدة المعنق ليموت في أربعين رجلاً من أصحابه من خيار المسلمين، فيهم‏:‏ الحارث بن الصمة، وحرام بن ملحان أخو بني عدي بن النجار، وعروة بن أسماء بن الصلت السلمي، ونافع بن بديل بن ورقاء الخزاعي، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر في رجال من خيار المسلمين‏.‏

فساروا حتى نزلوا بئر معونة - وهي بين أرض بني عامر وحرة بني سليم - فلما نزلوا بعثوا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن الطفيل، فلما أتاه لم ينظر في الكتاب حتى عدا على الرجل فقتله، ثم استصرخ عليهم بني عامر فأبوا أن يجيبوا إلى ما دعاهم، وقالوا‏:‏ لن نخفر أبا براء‏.‏

وقد عقد لهم عقداً وجواراً فاستصرخ عليهم قبائل من بني سليم - عصية ورعلاً وذكوان والقارة - فأجابوه إلى ذلك فخرجوا حتى غشوا القوم، فأحاطوا بهم في رحالهم، فلما رأوهم أخذوا أسيافهم، ثم قاتلوا القوم حتى قتلوا عن آخرهم إلا كعب بن زيد أخا بني دينار بن النجار، فإنهم تركوه به رمق، فارتث من بين القتلى، فعاش حتى قتل يوم الخندق‏.‏

وكان في سرح القوم عمرو بن أمية الضمري، ورجل من الأنصار من بني عمرو بن عوف، فلم ينبئهما بمصاب القوم إلا الطير تحوم حول العسكر، فقالا‏:‏ والله إن لهذه الطير لشأناً، فأقبلا لينظرا فإذا القوم في دمائهم، وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة‏.‏

فقال الأنصاري لعمرو بن أمية‏:‏ ماذا ترى ‏؟‏

فقال‏:‏ أرى أن نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره الخبر، فقال الأنصاري‏:‏ لكني لم أكن لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو، وما كنت لأخبر عنه الرجال‏.‏

فقاتل القوم حتى قتل، وأخذ عمرو أسيراً، فلما أخبرهم أنه من مضر أطلقه عامر بن الطفيل، وجز ناصيته وأعتقه عن رقبة كانت على أمه فيما زعم‏.‏

قال‏:‏ وخرج عمرو بن أمية، حتى إذا كان بالقرقرة من صدر قناة، أقبل رجلان من بني عامر حتى نزلا في ظل هو فيه، وكان مع العامريين عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجوار لم يعلمه عمرو بن أمية، وقد سألهما حين نزلا‏:‏ ممن أنتما‏؟‏

قالا‏:‏ من بني عامر، فأمهلهما حتى إذا ناما عدا عليهما وقتلهما، وهو يرى أن قد أصاب بهما ثأراً من بني عامر فيما أصابوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فلما قدم عمرو بن أمية على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره الخبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لقد قتلت قتيلين لأدينهما‏)‏‏)‏ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏هذا عمل أبي براء، قد كنت لهذا كارهاً متخوفاً‏)‏‏)‏‏.‏

فبلغ ذلك أبا براء فشق عليه إخفار عامر إياه، وما أصاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسببه وجواره‏.‏

فقال حسان بن ثابت في إخفار عامر أبا براء، ويحرض بني أبي براء على عامر‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 85‏)‏

بني أم البنين ألم يرعكم * وأنتم من ذوائب أهل نجد

تهكم عامر بأبي براء * ليخفره وما خطأ كعمد

ألا أبلغ ربيعة ذا المساعي * فما أحدثت في الحدثان بعدي

أبوك أبو الحروب أبو براء * وخالك ماجد حكم بن سعد

قال ابن هشام‏:‏ أم البنين أم أبي براء، وهي بنت عمرو بن عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة‏.‏

قال‏:‏ فحمل ربيعة بن عامر بن مالك على عامر بن الطفيل، فطعنه في فخذه فأشواه، ووقع عن فرسه وقال‏:‏ هذا عمل أبي براء، إن أمت فدمي لعمي فلا يتبعن به، وإن أعش فسأرى رأيي‏.‏

وذكر موسى بن عقبة، عن الزهري نحو سياق محمد بن إسحاق، قال موسى‏:‏ وكان أمير القوم المنذر بن عمرو، وقيل مرثد بن أبي مرثد‏.‏

وقال حسان بن ثابت يبكي قتلى بئر معونة، فيما ذكره ابن إسحاق رحمه الله، والله أعلم‏:‏

على قتلى معونة فاستهلي * بدمع العين سحاً غير نزر

على خيل الرسول غداة لاقوا * ولاقتهم مناياهم بقدر

أصابهم الفناء بعقد قوم * تخوَّن عقد حبلهم بغدر

فيالهفي لمنذر إذ تولى * وأعنق في منيته بصبر

وكائن قد أصيب غداة ذاكم * من أبيض ماجد من سر عمرو

 غزوة بني النضير وفيها سورة الحشر

في صحيح البخاري عن ابن عباس‏:‏ أنه كان يسميها سورة بني النضير‏.‏

وحكى البخاري، عن الزهري، عن عروة أنه قال‏:‏ كانت بنو النضير بعد بدر بستة أشهر قبل أحد، وقد أسنده ابن أبي حاتم في تفسيره‏:‏ عن أبيه، عن عبد الله بن صالح، عن الليث، عن عقيل، عن الزهري به‏.‏

وهكذا روى حنبل بن إسحاق، عن هلال بن العلاء، عن عبد الله بن جعفر الرقي، عن مطرف بن مازن اليماني، عن معمر، عن الزهري، فذكر غزوة بدر في سابع عشر رمضان سنة ثنتين‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 86‏)‏

قال‏:‏ ثم غزا بني النضير، ثم غزا أحداً في شوال سنة ثلاث، ثم قاتل يوم الخندق في شوال سنة أربع‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ وقد كان الزهري يقول‏:‏ هي قبل أحد‏.‏

قال‏:‏ وذهب آخرون إلى أنها بعدها وبعد بئر معونة أيضاً‏.‏

قلت‏:‏ هكذا ذكر ابن إسحاق كما تقدم، فإنه بعد ذكره بئر معونة، ورجوع عمرو بن أمية وقتله ذينك الرجلين من بني عامر، ولم يشعر بعهدهما الذي معهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لقد قتلت رجلين لأدينهما‏)‏‏)‏‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير يستعينهم في دية ذينك القتيلين من بني عامر اللذين قتلهما عمرو بن أمية للعهد الذي كان صلى الله عليه وسلم أعطاهما، وكان بين بني النضير وبين بني عامر عهد وحلف، فلما أتاهم صلى الله عليه وسلم قالوا‏:‏ نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت‏.‏

ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا‏:‏ إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه - ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب جداًر من بيوتهم قاعد - فمن رجل يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخرة ويريحنا منه ‏؟‏

فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب، فقال‏:‏ أنا لذلك، فصعد ليلقي عليه صخرة كما قال، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه، فيهم‏:‏ أبو بكر، وعمر، وعلي‏.‏

فأتى رسول الله الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام وخرج راجعاً إلى المدينة، فلما استلبث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، قاموا في طلبه فلقوا رجلاً مقبلاً من المدينة فسألوه عنه، فقال‏:‏ رأيته داخلاً المدينة، فأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهوا إليه، فأخبرهم الخبر بما كانت يهود أرادت من الغدر به‏.‏

قال الواقدي‏:‏ فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة يأمرهم بالخروج من جواره وبلده، فبعث إليهم أهل النفاق يثبتونهم ويحرضونهم على المقام، ويعدونهم النصر، فقويت عند ذلك نفوسهم، وحمى حيي بن أحطب وبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم لا يخرجون، ونابدوه بنقض العهود، فعند ذلك أمر الناس بالخروج إليهم‏.‏

قال الواقدي‏:‏ فحاصروهم خمس عشرة ليلة‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتهيؤ لحربهم والمسير إليهم‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم وذلك في شهر ربيع الأول‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فسار حتى نزل بهم فحاصرهم ست ليال، ونزل تحريم الخمر حينئذ، وتحصنوا في الحصون، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع النخيل والتحريق فيها، فنادوه‏:‏ أن يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد وتعيب من صنعه، فما بال قطع النخيل وتحريقها ‏؟‏

قال‏:‏ وقد كان رهط من بني عوف بن الخزرج منهم‏:‏ عبد الله بن أبي، ووديعة، ومالك بن أبي قوقل، وسويد، وداعس قد بعثوا إلى بني النضير أن اثبتوا وتمنعوا، فإنا لن نسلمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم، فتربصوا ذلك من نصرهم فلم يفعلوا، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فسألوا رسول الله أن يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 87‏)‏

وقال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ أعطى كل ثلاثة بعيراً يتعقبونه وسقا‏.‏ رواه البيهقي‏.‏

وروي من طريق يعقوب بن محمد، عن الزهري، عن إبراهيم بن جعفر بن محمود بن محمد بن مسلمة، عن أبيه، عن جده، عن محمد بن مسلمة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى بني النضير وأمره أن يؤجلهم في الجلاء ثلاث ليال‏.‏

وروى البيهقي وغيره‏:‏ أنه كانت لهم ديون مؤجلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ضعوا وتعجلوا‏)‏‏)‏ وفي صحته نظر، والله أعلم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل، فكان الرجل منهم يهدم بيته عن نجاف بابه، فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به، فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام‏.‏

فكان من أشراف من ذهب منهم إلى خيبر‏:‏ سلام بن أبي الحقيق، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب، فلما نزلوها دان لهم أهلها‏.‏

فحدثني عبد الله بن أبي بكر أنه حدث أنهم استقبلوا بالنساء والأبناء والأموال، معهم الدفوف والمزامير والقيان، يعزفن خلفهم بزهاء وفخر ما رؤي مثله لحي من الناس في زمانهم‏.‏

قال‏:‏ وخلوا الأموال لرسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني النخيل والمزارع - فكانت له خاصة يضعها حيث شاء، فقسمها على المهاجرين الأولين دون الأنصار، إلا أن سهل بن حنيف وأبا دجانة ذكرا فقراً فأعطاهما، وأضاف بعضهم إليهما الحارث بن الصمة‏.‏ حكاه السهيلي‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان وهما‏:‏ يامين بن عمير بن كعب بن عم عمرو بن جحاش، وأبو سعد بن وهب، فأحرزا أموالهما‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وقد حدثني بعض آل يامين‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليامين‏:‏ ‏(‏‏(‏ألم تر ما لقيت من ابن عمك وما هم به من شأني ‏؟‏‏)‏‏)‏ فجعل يامين لرجل جعلاً على أن يقتل عمرو بن جحاش، فقتله لعنه الله‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فأنزل الله فيهم سورة الحشر بكمالها، يذكر فيها ما أصابهم به من نقمته، وما سلط عليهم به رسوله، وما عمل به فيهم‏.‏

ثم شرع ابن إسحاق يفسرها، وقد تكلمنا عليها بطولها مبسوطة في كتابنا التفسير، ولله الحمد‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ * وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 1-5‏]‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 88‏)‏

سبح سبحانه وتعالى نفسه الكريمة، وأخبر أنه يسبح له جميع مخلوقاته العلوية والسفلية، وأنه العزيز وهو منيع الجناب، فلا ترام عظمته وكبرياؤه، وأنه الحكيم في جميع ما خلق وجميع ما قدر وشرع، فمن ذلك تقديره وتدبيره وتيسيره لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعباده المؤمنين في ظفرهم بأعدائهم اليهود الذين شاقوا الله ورسوله، وجانبوا رسوله وشرعه، وما كان من السبب المفضي لقتالهم كما تقدم، حتى حاصرهم المؤيد بالرعب والرهب مسيرة شهر‏.‏

ومع هذا فأسرهم بالمحاصرة بجنوده ونفسه الشريفة ست ليال، فذهب بهم الرعب كل مذهب، حتى صانعوا وصالحوا على حقن دمائهم، وأن يأخذوا من أموالهم ما استقلت به ركابهم، على أنهم لا يصحبون شيئاً من السلاح إهانة لهم واحتقارا، فجعلوا يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار‏.‏

ثم ذكر تعالى أنه لو لم يصبهم الجلاء‏:‏ وهو التسيير والنفي من جوار الرسول من المدينة لأصابهم ما هو أشد منه من العذاب الدنيوي وهو القتل، مع ما ادخر لهم في الآخرة من العذاب الأليم المقدر لهم‏.‏

ثم ذكر تعالى حكمة ما وقع من تحريق نخلهم، وترك ما بقي لهم، وإن ذلك كله سائغ فقال‏:‏ ما قطعتم من لينة - وهو جيد الثمر - أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله، إن الجميع قد أذن فيه شرعاً وقدراً فلا حرج عليكم فيه، ولنعم ما رأيتم من ذلك، وليس هو بفساد كما قاله شرار العباد إنما هو إظهار للقوة، وإخزاء للكفرة الفجرة‏.‏

وقد روى البخاري ومسلم جميعاً، عن قتيبة، عن الليث، عن نافع، عن ابن عمر‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير، وقطع وهي بالبويرة، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليجزي الفاسقين‏}‏

وعند البخاري، من طريق جويرية بن أسماء، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير وقطع وهي البويرة، ولها يقول حسان بن ثابت‏:‏

وهان على سراة بني لؤي * حريق بالبويرة مستطير

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 89‏)‏

فأجابه أبو سفيان بن الحارث يقول‏:‏

أدام الله ذلك من صنيع * وحرق في نواحيها السعير

ستعلم أينا منها بستر * وتعلم أي أرضينا نضير

قال ابن إسحاق‏:‏ وقال كعب بن مالك يذكر إجلاء بني النضير، وقتل كعب بن الأشرف، فالله أعلم‏:‏

لقد خزيت بغدرتها الحبور * كذاك الدهر ذو صرف يدور

وذلك أنهم كفروا برب * عظيم أمره أمر كبير

وقد أوتوا معاً فهماً وعلماً * وجاءهم من الله النذير

نذير صادق أدى كتاباً * وآيات مبينة تنير

فقالوا ما أتيت بأمر صدق * وأنت بمنكر منا جدير

فقال بلى لقد أديت حقاً * يصدقني به الفهم الخبير

فمن يتبعه يهد لكل رشد * ومن يكفر به يخزَ الكفور

فلما أشربوا غدراً وكفراً * وجد بهم عن الحق النفور

أرى الله النبي برأي صدق * وكان الله يحكم لا يجور

فأيده وسلطه عليهم * وكان نصيره نعم النصير

فغودر منهم كعب صريعاً * فذلت بعد مصرعه النضير

على الكفين ثم وقد علته * بأيدينا مشهرة ذكور

بأمر محمد إذ دس ليلاً * إلى كعب أخا كعب يسير

فماكره فأنزله بمكر * ومحمود أخو ثقة جسور

فتلك بنو النضير بدار سوء * أبارهم بما اجترموا المبير

غداة أتاهم في الزحف رهواً * رسول الله وهو بهم بصير

وغسان الحماة مؤازروه * على الأعداء وهو لهم وزير

فقال السلم ويحكم فصدوا * وخالف أمرهم كذب وزور

فذاقوا غب أمرهم وبالاً * لكل ثلاثة منهم بعير

وأجلوا عامدين لقينقاع * وغودر منهم نخل ودور

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 90‏)‏

وقد ذكر ابن إسحاق جوابها لسمال اليهودي فتركناها قصداً‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكان مما قيل في بني النضير قول ابن لقيم العبسي، ويقال‏:‏ قالها قيس بن بحر بن طريف الأشجعي‏:‏

أهلي فداء لامرئ غير هالك * أحل اليهود بالحسي المزنم

يقيلون في خمر العضاه وبدلوا * أهيضب عودا بالودي المكمم

فإن يك ظني صادقاً بمحمد * تروا خيله بين الضلا ويرمرم

يؤم بها عمرو بن بهثة إنهم * عدو وما حي صديق كمجرم

عليهن أبطال مساعير في الوغى * يهزون أطراف الوشيج المقوم

وكل رقيق الشفرتين مهند * توورثن من أزمان عاد وجرهم

فمن مبلغ عني قريشاً رسالة * فهل بعدهم في المجد من متكرم

بأن أخاهم فاعلمن محمداً * تليد الندى بين الحجون وزمزم

فدينوا له بالحق تجسم أموركم * وتسمو من الدنيا إلى كل معظم

نبي تلافته من الله رحمة * ولا تسألوه أمر غيب مرجم

فقد كان في بدر لعمري عبرة * لكم يا قريش والقليب الملمم

غداة أتى في الخزرجية عامداً * إليكم مطيعاً للعظيم المكرم

معاناً بروح القدس ينكى عدوه * رسولاً من الرحمن حقاً بمعلم

رسولاً من الرحمن يتلو كتابه * فلما أنار الحق لم يتلعثم

أرى أمره يزداد في كل موطن * علواً لأمر جعل الله محكم

قال ابن إسحاق‏:‏ وقال علي بن أبي طالب، وقال ابن هشام‏:‏ قالها رجل من المسلمين، ولم أر أحداً يعرفها لعلي‏:‏

عرفت ومن يعتدل يعرف * وأيقنت حقاً ولم أصدف

عن الكلم المحكم اللاء من * لدى الله ذي الرأفة الأراف

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 91‏)‏

رسائل تدرسُ في المؤمنين * بهن اصطفى أحمد المصطفى

فأصبح أحمد فينا عزيزاً * عزيز المقامة والموقف

فيا أيها الموعدوه سفاهاً * ولم يأت جوراً ولم يعنف

ألستم تخافون أدنى العذاب * وما أمن الله كالأخوف

وإن تصرعوا تحت أسيافه * كمصرع كعب أبي الأشرف

غداة رأى الله طغيانه * وأعرض كالجمل الأجنف

فأنزل جبريل في قتله * بوحي إلى عبده ملطف

فدس الرسول رسولاً له * بأبيض ذي هبة مرهف

فباتت عيون له معولات * متى ينع كعب لها تذرف

وقلن لأحمد ذرنا قليلاً * فإنا من النوح لم نشتف

فخلاهم ثم قال اظعنوا * دحوراً على رغم الأنف

وأجلى النضير إلى غربة * وكانوا بدار ذوي زخرف

إلى أذرعات ردافاً وهم * على كل ذي دبر أعجف

وتركنا جوابها أيضاً من سماك اليهودي قصداً‏.‏

ثم ذكر تعالى حكم الفيء، وأنه حكم بأموال بني النضير لرسول الله صلى الله عليه وسلم وملكها له، فوضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أراه الله تعالى، كما ثبت في الصحيحين عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أنه قال‏:‏

كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، فكان يعزل نفقة أهل سنة، ثم يجعل ما بقي في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله عز وجل‏.‏

ثم بين تعالى حكم الفيء وأنه للمهاجرين، والأنصار، والتابعين لهم بإحسان على منوالهم وطريقتهم، ولذي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل، كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم، وما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا، واتقوا الله إن الله شديد العقاب‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 92‏)‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عارم وعفان، قالا‏:‏ حدثنا معتمر سمعت أبي يقول‏:‏ حدثنا أنس بن مالك عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أن الرجل كان يجعل له من ماله النخلات، أو كما شاء الله، حتى فتحت عليه قريظة والنضير‏.‏

قال‏:‏ فجعل يرد بعد ذلك‏.‏ قال‏:‏ وإن أهلي أمروني أن آتي نبي الله صلى الله عليه وسلم فأسأله الذي كان أهله أعطوه، أو بعضه، وكان نبي الله صلى الله عليه وسلم أعطاه أم أيمن، أو كما شاء الله‏.‏

قال‏:‏ فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فأعطانيهن، فجاءت أم أيمن فجعلت الثوب في عنقي، وجعلت تقول‏:‏ كلا والله الذي لا إله إلا هو، لا أعطيكهن وقد أعطانيهن، أو كما قالت‏.‏

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لك كذا وكذا‏)‏‏)‏‏.‏

وتقول‏:‏ كلا والله‏.‏

قال‏:‏ ويقول‏:‏ ‏(‏‏(‏لك كذا وكذا‏)‏‏)‏‏.‏

وتقول‏:‏ كلا والله‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ويقول لك كذا وكذا‏)‏‏)‏ حتى أعطاها، حسبت أنه قال‏:‏ عشرة أمثاله، أو قال‏:‏ قريباً من عشرة أمثاله، أو كما أخرجاه بنحوه من طرق عن معتمر به‏.‏

ثم قال تعالى ذاماً للمنافقين الذين مالوا إلى بني النضير في الباطن، كما تقدم ووعدوهم النصر فلم يكن من ذلك شيء، بل خذلوهم أحوج ما كانوا إليهم، وغروهم من أنفسهم فقال‏:‏

{‏أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 11-12‏]‏

ثم ذمهم تعالى على جبنهم، وقلة علمهم، وخفة عقلهم النافع، ثم ضرب لهم مثلاً قبيحاً شنيعاً بالشيطان حين قال للإنسان اكفر، فلما كفر قال إني بريء منك، إني أخاف الله رب العالمين، فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها، وذلك جزاء الظالمين‏.‏

 قصة عمرو بن سعدي القرظي

حين مر على ديار بني النضير، وقد صارت يباباً ليس بها داع ولا مجيب، وقد كانت بنو النضير أشرف من بني قريظة، حتى حداه ذلك على الإسلام وأظهر صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم من التوراة‏.‏

قال الواقدي‏:‏ حدثنا إبراهيم بن جعفر، عن أبيه قال‏:‏ لما خرجت بنو النضير من المدينة، أقبل عمرو بن سعدى فأطاف بمنازلهم، فرأى خرابها وفكر، ثم رجع إلى بني قريظة فوجدهم في الكنيسة، فنفخ في بوقهم فاجتمعوا، فقال الزبير بن باطا‏:‏ يا أبا سعيد أين كنت منذ اليوم لم تزل وكان لا يفارق الكنيسة، وكان يتأله في اليهودية‏.‏

قال‏:‏ رأيت اليوم عبراً قد عبرنا بها، رأيت منازل إخواننا خالية بعد ذلك العز والجلد، والشرف الفاضل والعقل البارع، قد تركوا أموالهم وملكها غيرهم، وخرجوا خروج ذل‏.‏

ولا والتوراة ما سلط هذا على قوم قط لله بهم حاجة، وقد أوقع قبل ذلك بابن الأشرف ذي عزهم، ثم بيَّته في بيته أمناً، وأوقع بابن سنينة سيدهم، وأوقع ببني قينقاع فأجلاهم، وهم أهل جد يهود، وكانوا أهل عدة وسلاح ونجدة، فحصرهم فلم يخرج إنسان منهم رأسه حتى سباهم، وكلم فيهم فتركهم على أن أجلاهم من يثرب‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 93‏)‏

يا قوم قد رأيتم ما رأيتم فأطيعوني، وتعالوا نتبع محمداً والله إنكم لتعلمون أنه نبي قد بشرنا به، وبأمره ابن الهيبان أبو عمير، وابن حراش، وهما أعلم يهود جاءانا يتوكفان قدومه وأمرانا باتباعه، جاءانا من بيت المقدس، وأمرانا أن نقرئه منهما السلام، ثم ماتا على دينهما، ودفناهما بحرتنا هذه، فأسكت القوم فلم يتكلم منهم متكلم، ثم أعاد هذا الكلام ونحوه، وخوفهم بالحرب والسباء والجلاء‏.‏

فقال الزبير بن باطا‏:‏ قد والتوراة قرأت صفته في كتاب باطا التوراة، التي نزلت على موسى ليس في المثاني الذي أحدثنا‏.‏

قال‏:‏ فقال له كعب بن أسد ما يمنعك يا أبا عبد الرحمن من اتباعه ‏؟‏

قال‏:‏ أنت يا كعب‏.‏

قال كعب‏:‏ فلم والتوراة ما حلت بينك وبينه قط‏.‏

قال الزبير‏:‏ بل أنت صاحب عهدنا وعقدنا، فإن اتبعته اتبعناه، وإن أبيت أبينا، فأقبل عمرو بن سعدى على كعب فذكر ما تقاولا في ذلك، إلى أن قال عمرو ما عندي في أمره إلا ما قلت‏:‏ ما تطيب نفسي أن أصير تابعا‏.‏ رواه البيهقي‏.‏