فصل: فصل فيما روي في جامع دمشق من الآثار

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

 إبراهيم بن يزيد النخعي

قال‏:‏ كنا إذا حضرنا جنازة، أو سمعنا بميت عرف ذلك فينا أياماً، لأنا قد عرفنا أنه نزل به أمر صيره إلى الجنة أو إلى النار، وإنكم تتحدثون في جنائزكم بأحاديث دنياكم‏.‏

وقال‏:‏ لا يستقيم رأي إلا بروية، ولا روية إلا برأي‏.‏

وقال‏:‏ إذا رأيت الرجل يتهاون بالتكبيرة الأولى فاغسل يديك من فلاحه‏.‏

وقال‏:‏ إني لأرى الشيء مما يعاب فلا يمنعني من عيبه إلا مخافة أن أبتلى به‏.‏

وبكى عند موته فقيل له‏:‏ ما يبكيك‏؟‏ فقال‏:‏ انتظار ملك الموت، ما أدري يبشرني بجنة أو بنار‏.‏

الحسن بن محمد بن الحنفية

كنيته‏:‏ أبو محمد، كان المقدم على إخوته، وكان عالماً فقيهاً عارفاً بالاختلاف والفقه‏.‏

قال أيوب السختياني وغيره‏:‏ كان أول من تكلم في الأرجاء، وكتب في ذلك رسالة ثم ندم عليها‏.‏

وقال غيرهم‏:‏ كان يتوقف في عثمان وعلي وطلحة والزبير، فلا يتولاهم ولا ويذمهم، فلما بلغ ذلك أباه محمد بن الحنفية ضربه فشجه، وقال‏:‏ ويحك ألا تتولى أباك علياً‏؟‏

وقال أبو عبيد‏:‏ توفي سنة خمس وتسعين، وقال خليفة‏:‏ توفي في أيام عمر بن عبد العزيز، والله أعلم‏.‏

حميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري

وأمه أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وهي أخت عثمان بن عفان لأمه، وكان حميد فقيهاً نبيلاً عالماً، له روايات كثيرة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/161‏)‏

 مطرف بن عبد الله بن الشخير

تقدمت ترجمته، وهؤلاء كلهم لهم تراجم في كتاب التكميل‏.‏

وفيها كان موت الحجاج بواسط كما تقدم ذلك مبسوطاً مستقصى ولله الحمد‏.‏

وفيها كان مقتل سعيد بن جبير في قول علي بن المدائني وجماعة، والمشهور أنه كان في سنة أربع وتسعين كما ذكره ابن جرير وغير واحد، والله أعلم‏.‏

ثم دخلت سنة ست وتسعين

وفيها فتح قتيبة بن مسلم رحمه الله تعالى كاشغر من أرض الصين، وبعث إلى ملك الصين رسلاً يتهدده ويتوعده ويقسم بالله لا يرجع حتى يطأ بلاده ويختم ملوكهم وأشرافهم، ويأخذ الجزية منهم أو يدخلوا في الإسلام‏.‏

فدخل الرسل على الملك الأعظم فيهم، وهو في مدينة عظيمة، يقال‏:‏ إن عليها تسعين باباً في سورها المحيط بها يقال لها‏:‏ خان بالق، من أعظم المدن وأكثرها ريعاً ومعاملات وأموالاً، حتى قيل‏:‏ إن بلاد الهند مع اتساعها كالشامة في ملك الصين، لا يحتاجون إلى أن يسافروا في ملك غيرهم لكثرة أموالهم ومتاعهم، وغيرهم محتاج إليهم لما عندهم من المتاع والدنيا المتسعة، وسائر ملوك تلك البلاد تؤدي إلى ملك الصين الخراج، لقهره وكثرة جنده وعدده‏.‏

والمقصود أن الرسل لما دخلوا على ملك الصين وجدوا مملكة عظيمة حصينة، ذات أنهار وأسواق وحسن وبهاء، فدخلوا عليه في قلعة عظيمة حصينة، بقدر مدينة كبيرة، فقال لهم ملك الصين‏:‏ ما أنتم‏؟‏ - وكانوا ثلاثمائة رسول عليهم هبيرة - فقال الملك لترجمانه‏:‏ قل لهم‏:‏ ما أنتم وما تريدون‏؟‏ فقالوا‏:‏ نحن رسل قتيبة بن مسلم، وهو يدعوك إلى الإسلام، فإن لم تفعل فالجزية، فإن لم تفعل فالحرب‏.‏

فغضب الملك وأمر بهم إلى دار، فلما كان الغد دعاهم فقال لهم‏:‏ كيف تكونون في عبادة إلهكم‏؟‏ فصلوا الصلاة على عادتهم فلما ركعوا وسجدوا ضحك منهم‏.‏ فقال‏:‏ كيف تكونون في بيوتكم‏؟‏ فلبسوا ثياب مهنهم، فأمرهم بالانصراف، فلما كان من الغد أرسل إليهم فقال‏:‏ كيف تدخلون على ملوككم‏؟‏ فلبسوا الوشي والعمائم والمطارف ودخلوا على الملك، فقال لهم‏:‏ ارجعوا فرجعوا، فقال الملك لأصحابه‏:‏ كيف رأيتم هؤلاء‏؟‏ فقالوا‏:‏ هذه أشبه بهيئة الرجال من تلك المرة الأولى، وهم أولئك‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/162‏)‏

فلما كان اليوم الثالث‏:‏ أرسل إليهم فقال لهم‏:‏ كيف تلقون عدوكم‏؟‏ فشدوا عليهم سلاحهم ولبسوا المغافر والبيض وتقلدوا السيوف ونكبوا القسي وأخذوا الرماح وركبوا خيولهم ومضوا، فنظر إليهم ملك الصين فرأى أمثال الجبال مقبلة، فلما قربوا منه ركزوا رماحهم ثم أقبلوا نحوه مشمرين، فقيل لهم‏:‏ ارجعوا - وذلك لما دخل قلوب أهل الصين من الخوف منهم - فانصرفوا فركبوا خيولهم، واختلجوا رماحهم، ثم ساقوا خيولهم كأنهم يتطاردون بها، فقال الملك لأصحابه‏:‏ كيف ترونهم‏؟‏ فقالوا‏:‏ ما رأينا كهؤلاء قط‏.‏

فلما أمسوا بعث إليهم الملك‏:‏ أن ابعثوا إلي زعيمكم وأفضلكم، فبعثوا إليه هبيرة، فقال له الملك حين دخل عليه‏:‏ قد رأيتم عظم ملكي، وليس أحد يمنعكم مني، وأنتم بمنزلة البيضة في كفي، وأنا سائلك عن أمر فإن تصدقني وإلا قتلتك، فقال‏:‏ سل ‏!‏ فقال الملك‏:‏ لم صنعتم ما صنعتم من زي أول يوم والثاني والثالث‏؟‏ فقال‏:‏ أما زينا أول يوم فهو لباسنا في أهلنا ونسائنا وطيبنا عندهم، وأما ما فعلنا ثاني يوم فهو زينا إذا دخلنا على ملوكنا، وأما زينا ثالث يوم فهو إذا لقينا عدونا‏.‏

فقال الملك‏:‏ ما أحسن ما دبرتم دهركم، فانصرفوا إلى صاحبكم - يعني قتيبة - وقولوا له‏:‏ ينصرف راجعاً عن بلادي، فإني قد عرفت حرصه وقلة أصحابه، وإلا بعثت إليكم من يهلككم عن آخركم‏.‏

فقال له هبيرة‏:‏ تقول لقتيبة هذا ‏؟‏‏!‏ فكيف يكون قليل الأصحاب من أول خيله في بلادك وآخرها في منابت الزيتون‏؟‏ وكيف يكون حريصاً من خلف الدنيا قادراً عليها، وغزاك في بلادك‏؟‏ وأما تخويفك إيانا بالقتل فإنا نعلم أن لنا أجلاً إذا حضر فأكرمها عندنا القتل، فلسنا نكرهه ولا نخافه‏.‏

فقال الملك‏:‏ فما الذي يرضي صاحبكم‏؟‏ فقال‏:‏ قد حلف أنه لا ينصرف حتى يطأ أرضك ويختم ملوكك ويجبي الجزية من بلادك، فقال أنا أبر يمينه وأخرجه منها، أرسل إليه بتراب من أرضي، وأربع غلمان من أبناء الملوك، وأرسل إليه ذهباً كثيراً وحريراً وثياباً صينيةً لا تقوم ولا يدرى قدرها، ثم جرت لهم معه مقاولات كثيرة، ثم اتفق الحال على أن بعث صحافاً من ذهب متسعة فيها تراب من أرضه ليطأه قتيبة، وبعث بجماعة من أولاده وأولاد الملوك ليختم رقابهم، وبعث بمال جزيل ليبر بيمين قتيبة‏.‏

وقيل‏:‏ إنه بعث أربعمائة من أولاده وأولاد الملوك، فلما انتهى إلى قتيبة ما أرسله ملك الصين قبل ذلك منه، وذلك لأنه كان قد انتهى إليه خبر موت الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين، فانكسرت همته لذلك، وقد عزم قتيبة بن مسلم الباهلي على ترك مبايعة سليمان بن عبد الملك، وأراد الدعوة إلى نفسه لما تحت يده من العساكر، ولما فتح من البلاد والأقاليم فلم يمكنه ذلك، ثم قتل في آخر هذه السنة رحمه الله تعالى‏.‏

فإنه يقال‏:‏ إنه ما كسرت له راية، وكان من المجاهدين في سبيل الله، واجتمع له من العساكر ما لم يجتمع لغيره‏.‏

وفيها غزا مسلمة بن عبد الملك الصائفة، وغزا العباس بن الوليد الروم، ففتح طولس والمرزبانين من بلاد الروم‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 9/163‏)‏

وفيها تكامل بناء الجامع الأموي بدمشق على يد بانيه أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك بن مروان رحمه الله تعالى وجزاه خيراً، وكان أصل موضع هذا الجامع قديماً معبداً بنته اليونان الكلدانيون الذين كانوا يعمرون دمشق، وهم الذين وضعوها وعمروها أولاً، فهم أول من بناها، وقد كانوا يعبدون الكواكب السبعة المتميزة، وهي القمر في السماء الدنيا، وعطارد في السماء الثانية، والزهرة في السماء الثالثة، والشمس في الرابعة، والمريخ في الخامسة، والمشتري في السادسة، وزحل في السابعة‏.‏

وقد كانوا صوروا على كل باب من أبواب دمشق هيكلاً لكوكب من هذه الكواكب السبعة، وكانت أبواب دمشق سبعة وضعوها قصداً لذلك، فنصبوا هياكل سبعة لكل كوكب هيكل، وكان لهم عند كل باب من أبواب دمشق عيد في السنة‏.‏

وهؤلاء هم الذين وضعوا الأرصاد، وتكلموا على حركات الكواكب واتصالاتها ومقارنتها، وبنوا دمشق واختاروا لها هذه البقعة إلى جانب الماء الوارد من بين هذين الجبلين، وصرفوه أنهاراً تجري من الأماكن المرتفعة والمنخفضة، وسلكوا الماء في أفناء أبنية الدور بدمشق، فكانت دمشق في أيامهم من أحسن المدن، بل هي أحسنها، لما فيها من التصاريف العجيبة‏.‏

وبنوا هذا المعبد وهو الجامع اليوم في جهة القطب، وكانوا يصلون إلى القطب الشمالي، وكانت محاريبهم إلى جهته، وكان باب معبدهم يفتح إلى جهة القبلة، خلف المحراب اليوم، كما شاهدنا ذلك عياناً ورأينا محاريبهم إلى جهة القطب، ورأينا الباب وهو باب حسن مبني بحجارة منقوشة، وعليه كتاب بخطهم، وعن يمينه ويساره بابان صغيران بالنسبة إليه، وكان غربي المعبد قصر منيف جداً تحمله هذه الأعمدة التي بباب البريد، وشرقي المعبد قصر جيرون الملك، الذي كان ملكهم، وكان هناك داران عظيمتان معدتان لمن يتملك دمشق قديماً منهم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/164‏)‏

ويقال‏:‏ إنه كان مع المعبد ثلاث دور عظيمة للملوك، ويحيط بهذه الدور والمعبد سور واحد عال منيف، بحجارة كبار منحوتة، وهن‏:‏ دار المطبق، ودار الخيل، ودار كانت تكون مكان الخضراء التي بناها معاوية‏.‏

قال ابن عساكر فيما حكاه عن كتب بعض الأوائل‏:‏ إن اليونان مكثوا يأخذون الطالع لبناء دمشق وهذه الأماكن ثماني عشرة سنة، وقد حفروا أساس الجدران حتى واتاهم الوقت الذي طلع فيه الكوكبان اللذان أرادوا أن هذا المعبد لا يخرب أبداً ولا تخلو منه العبادة، وأن هذه الدار إذا بنيت لا تخلو من أن تكون دار الملك والسلطنة‏.‏

قلت‏:‏ أما المعبد فلم يخل من العبادة‏.‏ قال كعب الأحبار‏:‏ لا يخلو منها حتى تقوم الساعة، وأما دار الملك التي هي الخضراء فقد جدد بناءها معاوية، ثم أحرقت في سنة إحدى وستين وأربعمائة كما سنذكره، فبادت وصارت مساكن ضعفاء الناس وأراذلهم في الغالب إلى زماننا هذا‏.‏

والمقصود أن اليونان استمروا على هذه الصفة التي ذكرناها بدمشق مدداً طويلةً، تزيد على أربعة آلاف سنة، حتى أنه يقال‏:‏ إن أول من بنى جدران هذا المعبد الأربعة هود عليه الصلاة والسلام، وقد كان هود قبل إبراهيم الخليل بمدد طويلة، وقد ورد إبراهيم الخليل دمشق ونزل شمالها عند برزة، وقاتل هناك قوماً من أعدائه فظفر بهم، ونصره الله عليهم، وكان مقامه لمقاتلتهم عند برزة، فهذا المكان المنسوب إليه بها منصوص عليه في الكتب المتقدمة يأثرونه كابراً عن كابر وإلى زماننا، والله أعلم‏.‏

وكانت دمشق إذ ذاك عامرة آهلة بمن فيها من اليونان، وكانوا خلقاً لا يحصيهم إلا الله، وهم خصماء الخليل، وقد ناظرهم الخليل في عبادتهم الأصنام والكواكب وغيرها في غير موضع، كما قررنا ذلك في التفسير، وفي قصة الخليل من كتابنا هذا البداية والنهاية، ولله الحمد وبالله المستعان‏.‏

والمقصود أن اليونان لم يزالوا يعمرون دمشق ويبنون فيها وفي معاملاتها من أرض حوران والبقاع وبعلبك وغيرها، البنايات الهائلة الغريبة العجيبة، حتى إذا كان بعد المسيح بمدة نحو من ثلاثمائة سنة تنصر أهل الشام على يد الملك قسطنطين بن قسطنطين، الذي بنى المدينة المشهورة به ببلاد الروم وهي القسطنطينية، وهو الذي وضع لهم القوانين، وقد كان أولاً هو وقومه وغالب أهل الأرض يوناناً، ووضعت له بطاركته النصارى ديناً مخترعاً مركباً من أصل دين النصرانية، ممزوجاً بشيء من عبادة الأوثان، وصلوا به إلى الشرق، وزادوا في الصيام، وأحلوا الخنزير، وعلموا أولادهم الأمانة الكبيرة فيما يزعمون، وإنما هي في الحقيقة خيانة كبيرة، وجناية كثيرة حقيرة، وهي مع ذلك في الحجم صغيرة‏.‏ وقد تكلمنا على ذلك فيما سلف وبيناه‏.‏

فبنى لهم هذا الملك الذي ينتسب إليه الطائفة الملكية من النصارى، كنائس كبيرة في دمشق وفي غيرها، حتى يقال‏:‏ إنه بنى اثنتي عشرة ألف كنيسة، وأوقف عليها أوقافاً دارَّة، من ذلك كنيسة بيت لحم، وقمامة في القدس، بنتها أم هيلانة الغندقانية، وغير ذلك‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 9/165‏)‏

والمقصود أنهم - يعني النصارى - حولوا بناء هذا المعبد الذي هو بدمشق معظماً عند اليونان فجعلوه كنيسة يوحنا، وبنوا بدمشق كنائس كثيرة غيرها مستأنفة، واستمر النصارى على دينهم بدمشق وغيرها نحواً من ثلاثمائة سنة، حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم، فكان من شأنه ما تقدم بعضه في كتاب السيرة من هذا الكتاب، وقد بعث إلى ملك الروم في زمانه - وهو قيصر ذلك الوقت - واسمه هرقل يدعوه إلى الله عز وجل، وكان من مراجعته ومخاطبته إلى أبي سفيان ما تقدم، ثم بعث أمراءه الثلاثة‏:‏ زيد بن حارثة، وجعفر، وابن رواحة، إلى البلقاء من تخوم الشام، فبعث الروم إليهم جيشاً كبيراً فقتلوا هؤلاء الأمراء وجماعة ممن معهم من الجيش، فعزم النبي صلى الله عليه وسلم على قتال الروم ودخول الشام عام تبوك، ثم رجع عام ذلك لشدة الحر، وضعف الحال، وضيقه على الناس‏.‏

ثم لما توفي بعث الصديق الجيوش إلى الشام بكمالها، ومن ذلك مدينة دمشق بأعمالها، وقد بسطنا القول في ذلك عند ذكر فتحها، فلما استقرت اليد الإسلامية عليها وأنزل الله رحمته فيها، وساق بره إليها، وكتب أمير الحرب أبو عبيدة إذ ذاك، وقيل‏:‏ خالد بن الوليد، لأهل دمشق كتاب أمان، أقروا أيدي النصارى على أربع عشرة كنيسة، وأخذوا منهم نصف هذه الكنيسة التي كانوا يسمونها كنيسة مريحنا، بحكم أن البلد فتحه خالد من الباب الشرقي بالسيف، وأخذت النصارى الأمان من أبي عبيدة، وكان على باب الجابية الصلح، فاختلفوا ثم اتفقوا على أن جعلوا نصف البلد صلحاً ونصفه عنوة، فأخذوا نصف هذه الكنيسة الشرقي فجعله أبو عبيدة مسجداً يصلي فيه المسلمون، وكان أول من صلى في هذا المسجد أبو عبيدة ثم الصحابة بعده في البقعة الشرقية منه، التي يقال لها‏:‏ محراب الصحابة‏.‏

ولكن لم يكن الجدار مفتوحاً بمحراب محنى، وإنما كانوا يصلون عند هذه البقعة المباركة، والظاهر أن الوليد هو الذي فتق المحاريب في الجدار القبلي، قلت‏:‏ هذه المحاريب متجددة ليست من فتق الوليد، وإنما فتق الوليد محراباً واحداً، إن كان قد فعل، ولعله لم يفعل شيئاً منها، فكان يصلي فيه الخليفة، وبقيتها فتقت قريباً، لكل إمام محراب، شافعي وحنفي ومالكي وحنبلي، وهؤلاء إنما حدثوا بعد الوليد بزمان‏.‏

وقد كره كثير من السلف مثل هذه المحاريب، وجعلوه من البدع المحدثة، وكان المسلمون والنصارى يدخلون هذا المعبد من باب واحد، وهو باب المعبد الأعلى من جهة القبلة، مكان المحراب الكبير الذي في المقصورة اليوم، فينصرف النصارى إلى جهة الغرب إلى كنيستهم، ويأخذ المسلمون يمنة إلى مسجدهم، ولا يستطيع النصارى أن يجهروا بقراءة كتابهم، ولا يضربوا بناقوسهم، إجلالاً للصحابة ومهابة وخوفاً‏.‏

وقد بنى معاوية في أيام ولايته على الشام دار الإمارة قبلي المسجد الذي كان للصحابة، وبنى فيها قبة خضراء، فعرفت الدار بكمالها بها، فسكنها معاوية أربعين سنة كما قدمنا‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/166‏)‏

ثم لم يزل الأمر على ما ذكرنا من أمر هذه الكنيسة شطرين بين المسلمين والنصارى، من سنة أربع عشرة، إلى سنة ست وثمانين في ذي القعدة منها، وقد صارت الخلافة إلى الوليد بن عبد الملك في شوال منها، فعزم الوليد على أخذ بقية هذه الكنيسة وإضافتها إلى ما بأيدي المسلمين منها، وجعل الجميع مسجداً واحداً، وذلك لأن بعض المسلمين كان يتأذى بسماع قراءة النصارى للإنجيل، ورفع أصواتهم في صلواتهم، فأحب أن يبعدهم عن المسلمين، وأن يضيف ذلك المكان إلى هذا، فيصير كله معبداً للمسلمين، ويتسع المسجد لكثرة المسلمين‏.‏

فعند ذلك طلب النصارى وسأل منهم أن يخرجوا له عن هذا المكان، ويعوضهم إقطاعات كثيرة، وعرضها عليهم، وأن يبقى بأيديهم أربع كنائس لم تدخل في العهد، وهي‏:‏ كنيسة مريم، وكنيسة المصلبة داخل باب شرقي، وكنيسة تل الجبن، وكنيسة حميد بن درة التي بدرب الصقل، فأبوا ذلك أشد الإباء‏.‏

فقال‏:‏ ائتوني بعهودكم التي بأيديكم من زمن الصحابة، فأتوا بها فقرئت بحضرة الوليد، فإذا كنيسة توما - التي كانت خارج باب توما على حافة النهر - لم تدخل في العهد، وكانت فيما يقال أكبر من كنيسة مريحنا، فقال الوليد‏:‏ أنا أهدمها وأجعلها مسجداً، فقالوا‏:‏ بل يتركها أمير المؤمنين وما ذكر من الكنائس ونحن نرضى ونطيب له نفساً ببقية هذه الكنيسة، فأقرهم على تلك الكنائس، وأخذ منهم بقية هذه الكنيسة‏.‏

هذا قول، ويقال‏:‏ إن الوليد لما أهمه ذلك وعرض ما عرض على النصارى فأبوا من قبوله‏.‏ دخل عليه بعض الناس فأرشده إلى أن يقيس من باب شرقي ومن باب الجابية، فوجدوا أن الكنيسة قد دخلت في العنوة وذلك أنهم قاسوا من باب شرقي ومن باب الجابية فوجدوا منتصف ذلك عند سوق الريحان تقريباً، فإذا الكنيسة قد دخلت في العنوة، فأخذها‏.‏

وحكي عن المغيرة مولى الوليد قال‏:‏ دخلت على الوليد فوجدته مهموماً، فقلت‏:‏ مالك يا أمير المؤمنين مهموماً‏؟‏ فقال‏:‏ إنه قد كثر المسلمون وقد ضاق بهم المسجد، فأحضرت النصارى وبذلت لهم الأموال في بقية هذه الكنيسة لأضيفها إلى المسجد فيتسع على المسلمين فأبوا، فقال المغيرة‏:‏ يا أمير المؤمنين عندي ما يزيل همك، قال‏:‏ وما هو‏؟‏

قلت‏:‏ الصحابة لما أخذوا دمشق دخل خالد بن الوليد من الباب شرقي بالسيف، فلما سمع أهل البلد بذلك فزعوا إلى أبي عبيدة يطلبون منه الأمان فأمنهم، وفتحوا له باب الجابية، فدخل منه أبو عبيدة بالصلح، فنحن نماسحهم إلى أي موضع بلغ السيف أخذناه، وما بالصلح تركناه بأيديهم، وأرجو أن تدخل الكنيسة كلها في العنوة، فتدخل في المسجد‏.‏

فقال الوليد‏:‏ فرجت عني، فتول أنت ذلك بنفسك، فتولاه المغيرة ومسح من الباب الشرقي إلى نحو باب الجابية إلى سوق الريحان فوجد السيف لم يزل عمالاً حتى جاوز القنطرة الكبيرة بأربع أذرع وكسر، فدخلت الكنيسة في المسجد، فأرسل الوليد إلى النصارى فأخبرهم وقال‏:‏ إن هذه الكنيسة كلها دخلت في العنوة فهي لنا دونكم‏.‏

فقالوا‏:‏ إنك أولاً دفعت إلينا الأموال وأقطعتنا الاقطاعات فأبينا، فمن إحسان أمير المؤمنين أن يصالحنا فيبقى لنا هذه الكنائس الأربع بأيدينا، ونحن نترك له بقية هذه الكنيسة، فصالحهم على إبقاء هذه الأربع الكنائس، والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/167‏)‏

وقيل‏:‏ إنه عوضهم منها كنيسة عند حمام القاسم عند باب الفراديس داخله فسموها مريحنا باسم تلك الكنيسة التي أخذت منهم، وأخذوا شاهدها فوضعوه فوق التي أخذوها بدلها، فالله أعلم‏.‏

ثم أمر الوليد بإحضار آلات الهدم، واجتمع إليه الأمراء والكبراء، وجاء إليه أساقفة النصارى وقساوستهم، فقالوا‏:‏ يا أمير المؤمنين إنا نجد في كتبنا أن من يهدم هذه الكنيسة يجن، فقال الوليد‏:‏ أنا أحب أن أجن في الله، و والله لا يهدم فيها أحد شيئاً قبلي، ثم صعد المنارة الشرقية ذات الأضالع المعروفة بالساعات، وكانت صومعة هائلة فيها راهب عندهم، فأمره الوليد بالنزول منها، فأكبر الراهب ذلك، فأخذ الوليد بقفاه فلم يزل يدفعه حتى أنزله منها، ثم صعد الوليد على أعلى مكان في الكنيسة، فوق المذبح الأكبر منها الذي يسمونه الشاهد، وهو تمثال في أعلى الكنيسة‏.‏

فقال له الرهبان‏:‏ احذر الشاهد، فقال‏:‏ أنا أول ما أضع فأسي في رأس الشاهد، ثم كبر وضربه فهدمه، وكان على الوليد قباء أصفر لونه سفرجلي قد غرز أذياله في المنطقة، ثم أخذ فأساً بيده فضرب بها في أعلى حجر فألقاه، فتبادر الأمراء إلى الهدم، وكبر المسلمون ثلاث تكبيرات، وصرخت النصارى بالعويل على درج جيرون، وكانوا قد اجتمعوا هنالك، فأمر الوليد أمير الشرطة وهو أبو نائل رياح الغساني، أن يضربهم حتى يذهبوا من هنالك، ففعل ذلك، فهدم الوليد والأمراء جميع ما جدده النصارى في تربيع هذا المعبد من المذابح والأبينة والحنايا، حتى بقي المكان صرحة مربعة، ثم شرع في بنائه بفكرة جيدة على هذه الصفة الحسنة الأنيقة، التي لم يشتهر مثلها قبلها كما سنذكره‏.‏

وقد استعمل الوليد في بناء هذا المسجد خلقاً كثيراً من الصناع والمهندسين والفعلة، وكان المستحث على عمارته أخوه وولي عهده من بعده سليمان بن عبد الملك، ويقال‏:‏ إن الوليد بعث إلى ملك الروم يطلب منه صناعاً في الرخام وغير ذلك، ليستعين بهم على عمارة هذا المسجد على ما يريد، وأرسل يتوعده لئن لم يفعل ليغزون بلاده بالجيوش، وليخربن كل كنيسة في بلاده، حتى كنيسة القدس، وهي قمامة، وكنيسة الرها، وسائر آثار الروم‏.‏

فبعث ملك الروم إليه صناعاً كثيرةً جداً، مائتي صانع، وكتب إليه يقول‏:‏ إن كان أبوك فهم هذا الذي تصنعه وتركه فإنه لوصمة عليك، وإن لم يكن فهمه وفهمت أنت لوصمة عليه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/168‏)‏

فلما وصل ذلك إلى الوليد أراد أن يجيب عن ذلك، واجتمع الناس عنده لذلك، فكان فيهم الفرزدق الشاعر، فقال‏:‏ أنا أجيبه يا أمير المؤمنين من كتاب الله‏.‏ قال الوليد‏:‏ وما هو ويحك‏؟‏ فقال‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 79‏]‏ وسليمان هو ابن داود، ففهمه الله مالم يفهمه أبوه‏.‏ فأعجب ذلك الوليد فأرسل به جواباً إلى ملك الروم‏.‏ وقد قال الفرزدق في ذلك‏:‏

فرقت بين النصارى في كنائسهم * والعابدين مع الأسحار والعتم

وهم جميعاً إذا صلوا وأوجههم * شتى إذا سجدوا لله والصنم

وكيف يجتمع الناقوس يضربه * أهل الصليب مع القراء لم تنم

فهمت تحويلها عنهم كما فهما * إذ يحكمان لهم في الحرث والغنم

داود والملك المهدي إذ جزآ * ولادها واجتزاز الصوف بالجلم

فهمك الله تحويلاً لبيعتهم * عن مسجد فيه يتلى طيب الكلم

ما من أب حملته الأرض نعلمه * خير بنين ولا خير من الحكم

قال الحافظ عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم الدمشقي‏:‏ بنى الوليد ما كان داخل حيطان المسجد، وزاد في سمك الحيطان‏.‏

وقال الحسن بن يحيى الخشني‏:‏ إن هوداً عليه السلام هو الذي بنى الحائط القبلي من مسجد دمشق‏.‏

وقال غيره‏:‏ لما أراد الوليد بناء القبة التي وسط الرواقات - وهي قبة النسر، وهو اسم حادث لها، وكأنهم شبهوها بالنسر في شكله، لأن الرواقات عن يمينها وشمالها كالأجنحة لها - حفر لأركانها حتى وصلوا إلى الماء وشربوا منه ماء عذباً زلالاً، ثم إنهم وضعوا فيه زيادة الكرم، وبنوا فوقها بالحجارة، فلما ارتفعت الأركان بنوا عليها القبة فسقطت، فقال الوليد لبعض المهندسين‏:‏ أريد أن تبني لي أنت هذه القبة، فقال‏:‏ على أن تعطيني عهد الله وميثاقه على أن لا يبنيها أحد غيري، ففعل‏.‏

فبنى الأركان ثم غلفها بالبواري، وغاب عنها سنة كاملة لا يدري الوليد أين ذهب، فلما كان بعد السنة حضر، فهمَّ به الوليد فأخذه ومعه رؤوس الناس، فكشف البواري عن الأركان فإذا هي قد هبطت بعد ارتفاعها حتى ساوت الأرض، فقال له‏:‏ من هذا أتيت، ثم بناها فانعقدت‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ أراد الوليد أن يجعل بيضة القبة من ذهب خالص ليعظم بذلك شأن هذا البناء، فقال له المعمار‏:‏ إنك لا تقدر على ذلك، فضربه خمسين سوطاً، وقال له‏:‏ ويلك ‏!‏ أنا لا أقدر على ذلك وتزعم أني أعجز عنه‏؟‏ وخراج الأرض وأموالها تجبى إلي‏؟‏ قال‏:‏ نعم أنا أبين لك ذلك، قال‏:‏ فبين ذلك، قال‏:‏ اضرب لبنة واحدة من الذهب وقس عليها ما تريد هذه القبة من ذلك، فأمر الوليد فأحضر من الذهب ما ضرب منه لبنة فإذا هي قد دخلها ألوف من الذهب، فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنا نريد مثل هذه اللبنة كذا وكذا ألف لبنة، فإن كان عندك ما يكفي من ذلك عملناه‏.‏

فلما تحقق صحة قوله أطلق له الوليد خمسين ديناراً، وقال‏:‏ إني لا أعجز عما قلت، ولكن فيه إسراف وضياع مال في غير وجهه اللائق به، ولأن يكون ما أردنا من ذلك نفقة في سبيل الله، ورداً على ضعفاء المسلمين خير من ذلك‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/169‏)‏

ثم عقدها على ما أشار به المعمار‏.‏ ولما سقف الوليد الجامع جعلوا سقفه جملونات، وباطنها مسطحاً مقرنصاً بالذهب، فقال له بعض أهله‏:‏ أتعبت الناس بعدك في طين أسطحتهم، لما يريد هذا المسجد في كل عام من الطين الكثير - يشير إلى أن التراب يغلو والفعلة تقل لأجل العمل في هذا المسجد في كل عام - فأمر الوليد أن يجمع ما في بلاده من الرصاص ليجعله عوض الطين، ويكون أخف على السقوف‏.‏

فجمع من كل ناحية من الشام وغيره من الأقاليم، فعازوا فإذا عند امرأة منه قناطير مقنطرة، فساوموها فيه، فقالت‏:‏ لا أبيعه إلا بوزنه فضة، فكتبوا إلى الوليد فقال‏:‏ اشتروه منها ولو بوزنه فضة، فلما بذلوا لها ذلك قالت‏:‏ أما إذا قلتم ذلك فهو صدقة لله يكون في سقف هذا المسجد، فكتبوا على ألواحها بطابع لله، ويقال‏:‏ إنها كانت إسرائيلية، وإنه كتب على الألواح التي أخذت منها‏:‏ هذا ما أعطته الإسرائيلية‏.‏

وقال محمد بن عائذ‏:‏ سمعت المشايخ يقولون‏:‏ ما تم بناء مسجد دمشق إلا بأداء الأمانة، لقد كان يفضل عند الرجل من القوم أو الفعلة الفلس ورأس المسمار فيأتي به حتى يضعه في الخزانة‏.‏

وقال بعض مشايخ الدماشقة‏:‏ ليس في الجامع من الرخام شيء إلا الرخامتان اللتان في المقام من عرش بلقيس، والباقي كله مرمر‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ اشترى الوليد العمودين الأخضرين اللذين تحت النسر، من حرب بن خالد بن يزيد بن معاوية بألف وخمسمائة دينار‏.‏

وقال دحيم‏:‏ عن الوليد بن مسلم، ثنا مروان بن جناح، عن أبيه، قال‏:‏ كان في مسجد دمشق اثنا عشر ألف مرخم‏.‏

وقال أبو قصي‏:‏ عن دحيم، عن الوليد بن مسلم، عن عمرو بن مهاجر الأنصاري‏:‏ إنهم حسبوا ما أنفقه الوليد على الكرمة التي في قبلي المسجد فإذا هو سبعون ألف دينار‏.‏

وقال أبو قصي‏:‏ أنفق في مسجد دمشق أربعمائة صندوق من الذهب، في كل صندوق أربعة عشر ألف دينار، وفي رواية‏:‏ في كل صندوق ثمانية وعشرون ألف دينار‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/170‏)‏

قلت‏:‏ فعلى الأول يكون ذلك خمسة آلاف ألف دينار، وستمائة ألف دينار‏.‏ وعلى الثاني يكون المصروف في عمارة الجامع الأموي أحد عشر ألف ألف دينار، ومائتي ألف دينار‏.‏ وقيل‏:‏ أنه صرف أكثر من ذلك بكثير، والله أعلم‏.‏

قال أبو قصي ‏:‏ وأتى الحرسي إلى الوليد فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن الناس يقولون أنفق أمير المؤمنين بيوت الأموال في غير حقها‏.‏ فنودي في الناس‏:‏ الصلاة جامعة‏.‏ فاجتمع الناس فصعد الوليد المنبر وقال‏:‏ إنه بلغني عنكم أنكم قلتم أنفق الوليد بيوت الأموال في غير حقها، ثم قال‏:‏ يا عمرو بن مهاجر، قم فأحضر أموال بيت المال‏.‏

فحملت على البغال إلى الجامع، ثم بسط لها الأنطاع تحت قبة النسر، ثم أفرغ عليها المال ذهباً صبيباً، وفضة خالصة، حتى صارت كوماً، حتى كان الرجل إذا قام من الجانب الواحد لا يرى الرجل من الجانب الآخر، وهذا شيء كثير، ثم جيء بالقبانين فوزنت الأموال فإذا هي تكفي الناس ثلاث سنين مستقبلة، وفي رواية‏:‏ ست عشرة سنة مستقبلة، لو لم يدخل للناس شيء بالكلية‏.‏

فقال لهم الوليد‏:‏ والله ما أنفقت في عمارة هذا المسجد درهماً من بيوت المال، وإنما هذا كله من مالي‏.‏ ففرح الناس وكبروا وحمدوا الله عز وجل على ذلك، ودعوا للخليفة، وانصرفوا شاكرين داعين‏.‏

فقال لهم الوليد‏:‏ يا أهل دمشق، والله ما أنفقت في بناء هذا المسجد شيئاً من بيوت المال، وإنما هذا كله من مالي، لم أرزأكم من أموالكم شيئاً‏.‏

ثم قال الوليد‏:‏ يا أهل دمشق، إنكم تفخرون على الناس بأربع‏:‏ بهوائكم، ومائكم، وفاكهتكم، وحماماتكم، فأحببت أن أزيدكم خامسة وهي‏:‏ هذا الجامع‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ كان في قبلة جامع دمشق ثلاث صفائح مذهبة بلا زورد، في كل منها‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم، الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم‏.‏ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا نعبد إلا إياه، ربنا الله وحده، وديننا الإسلام، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ أمر ببنيان هذا المسجد، وهدم الكنيسة التي كانت فيه‏:‏ عبد الله أمير المؤمنين الوليد، في ذي القعدة، سنة ست وثمانين‏.‏

وفي صفيحة أخرى رابعة من تلك الصفائح‏:‏ الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم إلى آخر الفاتحة، ثم النازعات، ثم عبس، ثم إذا الشمس كورت، قالوا‏:‏ ثم محيت بعد مجيء المأمون إلى دمشق‏.‏

وذكروا أن أرضه كانت مفضضة كلها، وأن الرخام كان في جدرانه إلى قامات، وفوق الرخام كرمة عظيمة من ذهب، وفوق الكرمة الفصوص المذهبة والخضر والحمر والزرق والبيض، قد صوروا بها سائر البلدان المشهورة، الكعبة فوق المحراب، وسائر الأقاليم يمنة ويسرة، وصوروا ما في البلدان من الأشجار الحسنة المثمرة والمزهرة وغير ذلك، وسقفه مقرنص بالذهب، والسلاسل المعلقة فيها جميعها من ذهب وفضة، وأنوار الشموع في أماكنه مفرقة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/171‏)‏

قال‏:‏ وكان في محراب الصحابة برنية حجر من بلور، ويقال‏:‏ بل كانت حجراً من جوهر وهي الدرة، وكانت تسمى القليلة، وكانت إذا طفئت القناديل تضيء لمن هناك بنورها، فلما كان زمن الأمين بن الرشيد - وكان يحب البلور، وقيل‏:‏ الجوهر - بعث إلى سليمان وإلى شرطه دمشق أن يبعث بها إليه، فسرقها الوالي خوفاً من الناس وأرسلها إليه، فلما ولى المأمون ردها إلى دمشق ليشنع بذلك على الأمين‏.‏

قال ابن عساكر‏:‏ ثم ذهبت بعد ذلك فجعل مكانها برنية من زجاج، قال‏:‏ وقد رأيت تلك البرنية ثم انكسرت بعد ذلك فلم يجعل مكانها شيء، قالوا‏:‏ وكانت الأبواب الشارعة من داخل الصحن ليس عليها أغلاق، وإنما كان عليها الستور مرخاة، وكذلك الستور على سائر جدرانه إلى حد الكومة التي فوقها الفصوص المذهبة، ورؤوس الأعمدة مطلية بالذهب الخالص الكثير، وعملوا له شرفات تحيط به، وبنى الوليد المنارة الشمالية التي يقال لها‏:‏ مأذنة العروس، فأما الشرقية والغربية فكانتا فيه قبل ذلك بدهور متطاولة‏.‏

وقد كان في كل زاوية من هذا المعبد صومعة شاهقة جداً، بنتها اليونان للرصد، ثم بعد ذلك سقطت الشماليتان وبقيت القبليتان إلى الآن، وقد أحرق بعض الشرقية بعد الأربعين وسبعمائة، فنقضت وجدد بناؤها من أموال النصارى، حيث اتهموا بحريقها، فقامت على أحسن الأشكال، بيضاء بذاتها وهي والله أعلم الشرفة التي ينزل عليها عيسى بن مريم في آخر الزمان بعد خروج الدجال، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم، عن النواس بن سمعان‏.‏

قلت‏:‏ ثم أحرق أعلى هذه المنارة وجددت، وكان أعلاها من خشب، فبنيت بحجارة كلها في آخر السبعين وسبعمائة، فصارت كلها مبنية بالحجارة‏.‏

والمقصود أن الجامع الأموي لما كمل بناؤه لم يكن على وجه الأرض بناء أحسن منه، ولا أبهى ولا أجمل منه، بحيث أنه إذا نظر الناظر إليه أو إلى جهة منه أو إلى بقعة أو مكان منه تحير فيها نظره لحسنه وجماله ولا يمل ناظره، بل كلما أدمن النظر بانت له أعجوبة ليست كالأخرى، وكانت فيه طلسمات من أيام اليونان فلا يدخل هذه البقعة شيء من الحشرات بالكلية، لا من الحيات ولا من العقارب، ولا الخنافس ولا العناكيب‏.‏ ويقال‏:‏ ولا العصافير أيضاً تعشش فيه، ولا الحمام ولا شيء مما يتأذى به الناس‏.‏

وأكثر هذه الطلسمات أو كلها كانت مودعة في سقف هذا المعبد، مما يلي السبع، فأحرقت لما أحرق ليلة النصف من شعبان بعد العصر، سنة إحدى وستين وأربعمائة، في دولة الفاطميين كما سيأتي ذلك في موضعه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/172‏)‏

وقد كانت بدمشق طلسمات وضعتها اليونان بعضها باق إلى يومنا هذا، والله أعلم‏.‏

فمن ذلك‏:‏ العمود الذي في رأسه مثل الكرة في سوق الشعير عند قنطرة أم حكيم، وهذا المكان يعرف اليوم بالعلبيين، ذكر أهل دمشق أنه من وضع اليونان لعسر بول الحيوان، فإذا داروا بالحيوان حول هذا العمود ثلاث دورات انطلق باطنه فبال، وذلك مجرب من عهد اليونان‏.‏

قال ابن تيمية عن هذا العمود‏:‏ إن تحته مدفون جبار عنيد، كافر يعذب، فإذا داروا بالحيوان حوله سمع العذاب فراث وبال من الخوف، قال‏:‏ ولهذا يذهبون بالدواب إلى قبور النصارى واليهود والكفار، فإذا سمعت أصوات المعذبين انطلق بولها‏.‏

والعمود المشار إليه ليس له سر، ومن اعتقد أن فيه منفعة أو مضرة فقد أخطأ خطأً فاحشاً‏.‏

وقيل‏:‏ إن تحته كنزاً وصاحبه عنده مدفون، وكان ممن يعتقد الرجعة إلى الدنيا كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 37‏]‏، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

وما زال سليمان بن عبد الملك يعمل في تكملة الجامع الأموي بعد موت أخيه مدة ولايته، وجددت له في المقصورة‏.‏

فلما ولي عمر بن عبد العزيز عزم علي أن يجرده مما فيه من الذهب، ويقلع السلاسل والرخام والفسيفساء، ويرد ذلك كله إلى بيت المال، ويجعل مكان ذلك كله طيناً، فشق ذلك على أهل البلد واجتمع أشرافهم إليه، وقال خالد بن عبد الله القسري‏:‏ أنا أكلمه لكم‏.‏

فقال له‏:‏ يا أمير المؤمنين بلغنا عنك كذا وكذا، قال‏:‏ نعم ‏!‏ فقال خالد‏:‏ ليس ذلك لك يا أمير المؤمنين، فقال عمر‏:‏ ولم يا ابن الكافرة‏؟‏ - وكانت أمه نصرانية رومية أم ولد - فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن كانت كافرة فقد ولدت رجلاً مؤمناً، فقال‏:‏ صدقت، واستحيا عمر ثم قال له‏:‏ فلم قلت ذلك‏؟‏ قال‏:‏ يا أمير المؤمنين لأن غالب ما فيه من الرخام إنما حمله المسلمون من أموالهم من سائر الأقاليم، وليس هو لبيت المال، فأطرق عمر‏.‏

قالوا‏:‏ واتفق في ذلك الزمان قدوم جماعة من بلاد الروم رسلاً من عند ملكهم، فلما دخلوا من باب البريد وانتهوا إلى الباب الكبير الذي تحت النسر، ورأوا ما بهر عقولهم من حسن الجامع الباهر، والزخرفة التي لم يسمع بمثلها، صعق كبيرهم وخر مغشياً عليه، فحملوه إلى منزلهم، فبقى أياماً مدنفاً، فلما تماثل سألوه عما عرض له فقال‏:‏ ما كنت أظن أن يبني المسلمون مثل هذا البناء، وكنت أعتقد أن مدتهم تكون أقصر من هذا، فلما بلغ ذلك عمر بن عبد العزيز قال‏:‏ أو إن الغيظ أهلك الكفار، دعوه‏.‏

وسألت النصارى في أيام عمر بن عبد العزيز أن يعقد لهم مجلساً في شأن ما كان أخذه الوليد منهم، وكان عمر عادلاً، فأراد أن يرد عليهم ما كان أخذه الوليد منهم فأدخله في الجامع، ثم حقق عمر القضية، ثم نظر فإذا الكنائس التي هي خارج البلد لم تدخل في الصلح الذي كتبه لهم الصحابة، مثل كنيسة دير مران بسفح قاسيون، وهي بقرية المعظمية، وكنيسة الراهب، وكنيسة توما خارج باب توما، وسائر الكنائس التي بقرى الحواجز‏.‏

فخيرهم بين رد ما سألوه وتخريب هذه الكنائس كلها، أو تبقى تلك الكنائس ويطيبوا نفساً للمسلمين بهذه البقعة، فاتفقت آراؤهم بعد ثلاثة أيام على إبقاء تلك الكنائس، ويكتب لهم كتاب أمان بها، ويطيبوا نفساً بهذه البقعة، فكتب لهم كتاب أمان بها‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 9/173‏)‏

والمقصود أن الجامع الأموي كان حين تكامل بناؤه ليس له في الدينا مثيل في حسنه وبهجته‏.‏

قال الفرزدق‏:‏ أهل دمشق في بلادهم في قصر من قصور الجنة - يعني الجامع -

وقال أحمد بن أبي الحواري‏:‏ عن الوليد بن مسلم، عن ابن ثوبان‏:‏ ما ينبغي لأحد من أهل الأرض أن يكون أشد شوقاً إلى الجنة من أهل دمشق، لما يرون من حسن مسجدها‏.‏

قالوا‏:‏ ولما دخل أمير المؤمنين المهدي دمشق يريد زيارة القدس نظر إلى جامع دمشق فقال لكاتبه أبي عبيد الله الأشعري‏:‏ سبقنا بنو أمية بثلاث‏:‏ بهذا المسجد الذي لا أعلم على وجه الأرض مثله، وبنبل الموالي، وبعمر بن عبد العزيز، لا يكون والله فينا مثله أبداً‏.‏ ثم لما أتى بيت المقدس فنظر إلى الصخرة - وكان عبد الملك بن مروان هو الذي بناها - قال لكاتبه‏:‏ وهذه رابعة‏.‏

ولما دخل المأمون دمشق فنظر إلى جامعها وكان معه أخوه المعتصم، وقاضيه يحيى بن أكثم، قال‏:‏ ما أعجب ما فيه‏؟‏ فقال أخوه‏:‏ هذه الأذهاب التي فيه، وقال يحيى بن أكثم‏:‏ الرخام وهذه العقد، فقال المأمون‏:‏ إني إنما أعجب من حسن بنيانه على غير مثال متقدم، ثم قال المأمون لقاسم التمار‏:‏ أخبرني باسمٍ حسن أسمي به جاريتي هذه، فقال‏:‏ سمها مسجد دمشق، فإنه أحسن شيء‏.‏

وقال عبد الرحمن‏:‏ عن ابن عبد الحكم، عن الشافعي، قال‏:‏ عجائب الدنيا خمسة‏:‏ أحدها منارتكم هذه - يعني منارة ذي القرنين بالإسكندرية - والثانية أصحاب الرقيم وهم بالروم اثنا عشر رجلاً، والثالثة مرآة بباب الأندلس على باب مدينتها، يجلس الرجل تحتها فينظر فيها صاحبه من مسافة مائة فرسخ‏.‏ وقيل‏:‏ ينظر من بالقسطنطينية، والرابع مسجد دمشق وما يوصف من الإنفاق عليه، والخامس الرخام والفسيفساء، فإنه لا يدري لها موضع، ويقال‏:‏ إن الرخام معجون، والدليل على ذلك أنه يذوب على النار‏.‏

قال ابن عساكر‏:‏ وذكر إبراهيم بن أبي الليث الكاتب - وكان قدم دمشق سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة - في رسالة له قال‏:‏ ثم أمرنا بالانتقال فانتقلت منه إلى بلد تمت محاسنه، ووافق ظاهره باطنه، أزقته أرجة، وشوارعه فرجة، فحيث ما مشيت شممت طيباً، وأين سعيت رأيت منظراً عجيباً، وإن أفضيت إلى جامعه شاهدت منه ما ليس في استطاعة الواصف أن يصفه، ولا الرائي أن يعرفه، وجملته أنه كنز الدهر، ونادرة الوقت، وأعجوبة الزمان، وغريبة الأوقات، ولقد أثبت الله عز وجل به ذكراً يدرس، وخلف به أمراً لا يخفى ولا يدرس‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/174‏)‏

قال ابن عساكر‏:‏ وأنشدني بعض المحدثين في جامع دمشق عمره الله بذكره وفي دمشق فقال‏:‏

دمشق قد شاع حسن جامعها * وما حوته ربى مرابعها

بديعة الحسن في الكمال لما * يدركه الطرف من بدائعها

طيبة أرضها مباركة * باليمن والسعد أخذ طالعها

جامعها جامع المحاسن قد * فاقت به المدن في جوامعها

بنيةِ بالإتقان قد وضعت * لا ضيع الله سعي واضعها

تذكر في فضله ورفعته * آثار صدق راقت لسامعها

قد كان قبل الحريق مدهشة * فغيرت ناره بلاقعها

فأذهبت بالحريق بهجته * فليس يرجى إياب راجعها

إذا تفكرت في الفصوص وما * فيها تيقنت حذق راصعها

أشجارها لا تزال مثمرة * لا ترهب الريح من مدافعها

كأنها من زمرد غرست * في أرض تبر تغشى بنافعها

فيها ثمار تخالها ينعت * وليس يخشى فساد يانعها

تقطف باللحظ لا بجارحة الـ * أيدي ولا تجتني لبايعها

وتحتها من رخامة قطع * لا قطع الله كف قاطعها

احكم ترخيمها المرخم قد * بان عليها إحكام صانعها

وإن تفكرت في قناطره * وسقفه بان حذق رافعها

وإن تبينت حسن قبته * تحير اللبُّ في أضالعها

تخترق الريح في منافذها * عصفاً فتقوى على زعازعها

وأرضه بالرخام قد فرشت * ينفسح الطرف في مواضعها

مجالس العلم فيه مؤنقة * ينشرح الصدر في مجامعها

وكل باب عليه مطهرة * قد أمن الناس دفع مانعها

يرتفق الناس من مرافقها * ولا يصدون عن منافعها

ولا تزال المياه جارية * فيها لما شق من مشارعها

وسوقها لا تزال آهلة * يزدحم الناس في شوارعها

لما يشاؤون من فواكهها * وما يريدون من بضائعها

كأنها جنة معجلة * في الأرض لولا مسرى فجائعها

دامت برغم العدى مسلمة * وحاطها الله من قوارعها

‏(‏ج/ص‏:‏ 9/175‏)‏

 فصل فيما روي في جامع دمشق من الآثار

وما ورد في فضله من الأخبار عن جماعة من السادة الأخيار‏.‏

روي عن قتادة أنه قال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالتِّينِ‏}‏ قال‏:‏ هو مسجد دمشق، ‏{‏وَالزَّيْتُونِ‏}‏ قال‏:‏ هو مسجد بيت المقدس، ‏{‏وَطُورِ سِينِينَ‏}‏‏:‏ حيث كلم الله موسى، ‏{‏وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ‏}‏ ‏[‏التين‏:‏ 1-3‏]‏‏:‏ وهو مكة‏.‏ رواه ابن عساكر‏.‏

وقال صفوان بن صالح‏:‏ عن عبد الخالق بن زيد بن واقد، عن أبيه، عن عطية بن قيس الكلابي، قال‏:‏ قال كعب الأحبار‏:‏ ليبنين في دمشق مسجد يبقى بعد خراب الدنيا أربعين عاماً‏.‏

وقال الوليد بن مسلم‏:‏ عن عثمان بن أبي العاتكة، عن علي بن زيد، عن القاسم أبي عبد الرحمن، قال‏:‏ أوحى الله تعالى إلى جبل قاسيون أن هب ظلك وبركتك إلى جبل بيت المقدس، قال‏:‏ ففعل، فأوحى الله إليه أما إذا فعلت فإني سأبني لي في خطتك بيتاً أعبد فيه بعد خراب الدنيا أربعين عاماً، ولا تذهب الأيام والليالي حتى أرد عليك ظلك وبركتك، قال‏:‏ فهو عند الله بمنزلة الرجل الضعيف المتضرع‏.‏

وقال دحيم‏:‏ حيطان المسجد الأربعة من بناء هود عليه السلام، وما كان من الفسيفساء إلى فوق فهو من بناء الوليد بن عبد الملك -يعني أنه رفع الجدار فعلاه من حد الرخام والكرمة إلى فوق - وقال غيره‏:‏ إنما بنى هود الجدار القبلي فقط‏.‏

ونقل عثمان بن أبي العاتكة عن أهل العلم أنهم قالوا في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏‏(‏والتين‏)‏‏)‏ قالوا‏:‏ هو مسجد دمشق‏.‏

وقال أبو بكر أحمد بن عبد الله بن الفرج المعروف بابن البرامي الدمشقي‏:‏ ثنا إبراهيم بن مروان، سمعت أحمد بن إبراهيم بن ملاس، يقول‏:‏ سمعت عبد الرحمن بن يحيى بن إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر، قال‏:‏ كان خارج باب الساعات صخرة يوضع عليها القربان، فما تقبل منه جاءت نار فأكلته، وما لم يتقبل منه بقي على حاله‏.‏ قلت‏:‏ وهذه الصخرة نقلت إلى داخل باب الساعات، وهي موجودة إلى الآن، وبعض العامة يزعم أنها الصخرة التي وضع عليها ابنا آدم قربانهما فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخرة، فالله أعلم‏.‏

وقال هشام بن عمار‏:‏ ثنا الحسن بن يحيى الخشني، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به ‏(‏‏(‏صلى في موضع مسجد دمشق‏)‏‏)‏‏.‏ قال ابن عساكر‏:‏ وهذا منقطع ومنكر جداً، ولا يثبت أيضاً لا من هذا الوجه ولا من غيره‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/ 176‏)‏

وقال أبو بكر البرامي‏:‏ حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الملك بن المغيرة المقري، حدثني أبي، عن أبيه، أن الوليد بن عبد الملك تقدم إلى القوام ليلة من الليالي فقال‏:‏ إني أريد أن أصلي الليلة في المسجد، فلا تتركوا أحداً يصلي الليلة، فقال له بعضهم‏:‏ يا أمير المؤمنين هذا الخضر يصلي في المسجد في كل ليلة‏.‏

وفي رواية أنه قال لهم‏:‏ لا تتركوا أحداً يدخله، ثم إن الوليد أتى باب الساعات فاستفتح الباب ففتح له، فإذا رجل قائم بين الساعات وباب الخضراء الذي يلي المقصورة يصلي، وهو أقرب إلى باب الخضراء منه إلى باب الساعات، فقال الوليد للقوام‏:‏ ألم آمركم أن لا تتركوا أحداً الليلة يصلي في المسجد‏؟‏ فقال له بعضهم‏:‏ يا أمير المؤمنين هذا الخضر يصلي كل ليلة في المسجد‏.‏ في إسناد هذه الحكاية وصحتها نظر، ولا يثبت بمثلها وجود الخضر بالكلية، ولا صلاته في المكان المذكور، والله أعلم‏.‏

وقد اشتهر في الأعصار المتاخرة أن الزاوية القبلية عند باب المئذنة الغربية تسمى زاوية الخضر، وما أدري ما سبب ذلك، والذي ثبت بالتواتر صلاة الصحابة فيه، وكفى بذلك شرفاً له ولغيره من المساجد التي صلوا فيها‏.‏

وأول من صلى فيه إماماً أبو عبيدة بن الجراح، وهو أمير الأمراء بالشام، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأمين هذه الأمة، وصلى فيه خلق من الصحابة مثل‏:‏ معاذ بن جبل وغيره، لكن قبل أن يغيره الوليد إلى هذه الصفة، فأما بعد أن غير إلى هذا الشكل فلم يره أحد من الصحابة كذلك إلا أنس بن مالك، فإنه ورد دمشق سنة ثنتين وتسعين، وهو يبني فيه الوليد، فصلى فيه أنس ورأى الوليد وأنكر أنس على الوليد تأخير الصلاة إلى آخر وقتها كما قدمنا ذلك في ترجمة أنس، عند ذكر وفاته سنة ثلاث وتسعين‏.‏

وسيصلي فيه عيسى بن مريم إذا نزل في آخر الزمان، إذا خرج الدجال وعمت البلوى به، وانحصر الناس منه بدمشق، فينزل مسيح الهدى فيقتل مسيح الضلالة، ويكون نزوله على المنارة الشرقية بدمشق وقت صلاة الفجر، فيأتي وقد أقيمت الصلاة، فيقول له إمام الناس‏:‏ تقدم يا روح الله، فيقول‏:‏ إنما أقيمت لك، فيصلي عيسى تلك الصلاة خلف رجل من هذه الأمة، يقال‏:‏ إنه المهدي، فالله أعلم‏.‏

ثم يخرج عيسى بالناس فيدرك الدجال عند عقبة أفيق، وقيل‏:‏ بباب لد فيقتله بيده هنالك‏.‏ وقد ذكرنا ذلك مبسوطاً عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 159‏]‏ وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏والذي نفسي بيده لينزلن فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً، وإماماً عادلاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام‏)‏‏)‏‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 9/177‏)‏

والمقصود‏:‏ أن عيسى ينزل على المنارة الشرقية بدمشق، والبلد محصور محصن من الدجال، فينزل على المنارة - وهي هذه المنارة المبنية في زماننا من أموال النصارى - ثم يكون نزول عيسى حتفاً لهم وهلاكاً ودماراً عليهم، ينزل بين ملكين واضعاً يديه على مناكبهما، وعليه مهروذتان، وفي رواية‏:‏ ممصرَّتان يقطر رأسه ماء كأنما خرج من ديماس، وذلك وقت الفجر، فينزل على المنارة وقد أقيمت الصلاة، وهذا إنما يكون في المسجد الأعظم بدمشق، وهو هذا الجامع‏.‏

وما وقع في صحيح مسلم، من رواية النواس بن سمعان الكلابي‏:‏ فينزل على المنارة البيضاء شرقي دمشق، كأنه والله أعلم مروي بالمعنى بحسب ما فهمه الراوي، وإنما هو ينزل على المنارة الشرقية بدمشق، وقد أخبرت ولم أقف عليه إلا الآن أنه كذلك، في بعض ألفاظ هذا الحديث، في بعض المصنفات، والله المسؤول المأمول أن يوفقني فيوقفني على هذه اللفظة، وليس في البلد منارة تعرف بالشرقية سوى هذه، وهي بيضاء بنفسها، ولا يعرف في بلاد الشام منارة أحسن منها، ولا أبهى ولا أعلى منها، ولله الحمد والمنة‏.‏

قلت‏:‏ نزول عيسى على المنارة التي بالجامع الأموي غير مستنكر، وذلك أن البلاء بالدجال يكون قد عم فينحصر الناس داخل البلد، ويحصرهم الدجال بها، ولا يتخلف أحد عن دخول البلد إلا أن يكون متبعاً للدجال، أو مأسوراً معه، فإن دمشق في آخر الزمان تكون معقل المسلمين وحصنهم من الدجال، فإذا كان الأمر كذلك فمن يصلي خارج البلد، والمسلمون كلهم داخل البلد، وعيسى إنما ينزل وقد أقيمت الصلاة فيصلي مع المسلمين، ثم يأخذهم ويطلب الدجال ليقتله‏.‏

وبعض العوام يقول‏:‏ إن المراد بالمنارة الشرقية بدمشق، منارة مسجد بلاشو، خارج باب شرقي‏.‏

وبعضهم يقول‏:‏ إنها المنارة التي على نفس باب شرقي‏.‏

فالله أعلم بمراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو سبحانه العالم بكل شيء، المحيط بكل شيء، القادر على كل شيء، القاهر فوق كل شيء، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض‏.‏

الكلام على ما يتعلق برأس يحيى بن زكريا عليهما السلام

وروى ابن عساكر، عن زيد بن واقد، قال‏:‏ وكلني الوليد على العمال في بناء جامع دمشق، فوجدنا مغارة فعرفنا الوليد ذلك، فلما كان الليل وافانا وبين يديه الشمع، فنزل فإذا هي كنيسة لطيفة، ثلاثة أذرع في ثلاثة أذرع، وإذا فيها صندوق، ففتح الصندوق فإذا فيه سفط وفي السفط رأس يحيى بن زكريا عليهما السلام‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/ 178‏)‏

مكتوب عليه هذا رأس يحيى بن زكرياء، فأمر به الوليد فرد إلى مكانه، وقال‏:‏ اجعلوا العمود الذي فوقه مغيراً من بين الأعمدة، فجعل عليه عمود مسفط الرأس‏.‏

وفي رواية عن زيد بن واقد‏:‏ أن ذلك الموضع كان تحت ركن من أركان القبة - يعني قبل أن تبنى - قال‏:‏ وكان على الرأس شعر وبشر‏.‏

وقال الوليد بن مسلم‏:‏ عن زيد بن واقد، قال‏:‏ حضرت رأس يحيى بن زكريا وقد أخرج من الليطة القبلية الشرقية التي عند مجلس بجيلة، فوضع تحت عمود الكاسة، قال الأوزاعي والوليد بن مسلم‏:‏ هو العمود الرابع المسفط‏.‏

وروى أبو بكر بن البرامي‏:‏ عن أحمد بن أنس بن مالك، عن حبيب المؤذن، عن أبي زياد وأبي أمية الشعناييين، عن سفيان الثوري، أنه قال‏:‏ صلاة في مسجد دمشق بثلاثين ألف صلاة‏.‏ وهذا غريب جداً‏.‏

وروى ابن عساكر، من طريق أبي مسهر، عن المنذر بن نافع - مولى أم عمرو بنت مروان - عن أبيه - وفي رواية‏:‏ عن رجل قد سماه - أن واثلة بن الأسقع خرج من باب المسجد الذي يلي باب جيرون فلقيه كعب الأحبار فقال‏:‏ أين تريد‏؟‏ قال واثلة‏:‏ أريد بيت المقدس‏.‏ فقال‏:‏ تعال أريك موضعاً في المسجد من صلى فيه فكأنما صلى في بيت المقدس، فذهب به فأراه ما بين الباب الأصفر الذي يخرج منه الوالي - يعني الخليفة - إلى الحنية - يعني القنطرة الغربية - فقال‏:‏ من صلى فيما بين هذين فكأنما صلى في بيت المقدس، فقال واثلة‏:‏ إنه لمجلسي ومجلس قومي‏.‏ قال كعب‏:‏ هو ذاك‏.‏ وهذا أيضاً غريب جداً ومنكر ولا يعتمد على مثله‏.‏

وعن الوليد بن مسلم قال‏:‏ لما أمر الوليد بن عبد الملك ببناء مسجد دمشق وجدوا في حائط المسجد القبلي لوحاً من حجر فيه كتاب نقش، فبعثوا به إلى الوليد فبعثه إلى الروم فلم يستخرجوه، ثم بعث إلى من كان بدمشق من بقية الأسبان فلم يستخرجوه، فدل على وهب بن منبه فبعث إليه، فلما قدم عليه أخبره بموضع ذلك اللوح فوجدوه في ذلك الحائط - ويقال‏:‏ ذلك الحائط بناه هود عليه السلام - فلما نظر إليه وهب حرك رأسه وقرأه فإذا هو‏:‏

بسم الله الرحمن الرحيم، ابن آدم لو رأيت يسير ما بقي من أجلك، لزهدت في طول ما ترجو من أملك، وإنما تلقى ندمك لو قد زل بك قدمك‏.‏ وأسلمك أهلك وحشمك، وانصرف عنك الحبيب وأسلمك الصاحب والقريب، ثم صرت تدعى فلا تجيب، فلا أنت إلى أهلك عائد، ولا إلى عملك زائد‏.‏

فاعمل لنفسك قبل يوم القيامة، وقبل الحسرة والندامة، قبل أن يحل بك أجلك، وتنزع منك روحك، فلا ينفعك مال جمعته، ولا ولد ولدته، ولا أخ تركته، ثم تصير إلى برزخ الثرى، ومجاور الموتى، فاغتنم الحياة قبل الممات، والقوة قبل الضعف، والصحة قبل السقم، قبل أن تؤخذ بالكظم ويحال بينك وبين العمل، وكتب في زمن داود عليهما السلام‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/179‏)‏

وقال ابن عساكر‏:‏ قرأت على أبي محمد السلمي، عن عبد العزيز التميمي، أنبأ تمام الرازي، ثنا ابن البرامي، سمعت أبا مروان عبد الرحمن بن عمر المازني يقول‏:‏ لما كان في أيام الوليد بن عبد الملك وبنائه المسجد احتفروا فيه موضعاً فوجدوا باباً من حجارة مغلقاً، فلم يفتحوه وأعلموا به الوليد، فخرج حتى وقف عليه، وفتح بين يديه، فإذا داخله مغارة فيها تمثال إنسان من حجارة، على فرس من حجارة، في يد التمثال الواحدة الدَّرة التي كانت في المحراب، ويده الأخرى مقبوضة‏.‏

فأمر بها فكسرت، فإذا فيها حبتان، حبة قمح وحبة شعير، فسأل عن ذلك، فقيل له‏:‏ لو تركت الكف لم تكسرها لم يسوس في هذا البلد قمح ولا شعير‏.‏

وقال الحافظ أبو حمدان الوراق - وكان قد عمَّر مائة سنة -‏:‏ سمعت بعض الشيوخ يقول‏:‏ لما دخل المسلمون دمشق وجدوا على العمود الذي على المقسلاط - على السفود الحديد الذي في أعلاه - صنماً ماداً يده بكف مطبقة، فكسروه فإذا في يده حبة قمح، فسألوا عن ذلك، فقيل لهم‏:‏ هذه الحبة قمح جعلها حكماء اليونان في كف هذا الصنم طلسماً، حتى لا يسوس القمح في هذه البلاد، ولو أقام سنين كثيرة‏.‏

قال ابن عساكر‏:‏ وقد رأيت أنا في هذا السفود على قناطر كنيسة المقسلاط كانت مبنية فوق القناطر التي في السوق الكبير، عند الصابونيين والعطارين اليوم، وعندها اجتمعت جيوش الإسلام يوم فتح دمشق، أبو عبيدة من باب الجابية، وخالد من باب الشرقي، ويزيد بن أبي سفيان من باب الجابية الصغير‏.‏

وقال عبد العزيز التميمي، عن أبي نصر عبد الوهاب بن عبد الله المري‏:‏ سمعت جماعة من شيوخ أهل دمشق يقولون‏:‏ إن في سقف الجامع طلاسم عملها الحكماء في السقف مما يلي الحائط القبلي، فيها طلاسم للصنونيات، لا تدخله ولا تعشش فيه من جهة الأوساخ التي تكون منها، ولا يدخله غراب، وطلسم للفأر والحيات والعقارب، فما رأى الناس من هذا شيئاً إلا الفأر، ويشك أن يكون قد عدم طلسمها، وطلسم للعنكبوت حتى لا ينسج فيه‏.‏ وفي رواية‏:‏ فيركبه الغبار والوسخ‏.‏

قال الحافظ ابن عساكر‏:‏ وسمعت جدي أبا الفضل يحيى بن علي يذكر أنه أدرك في الجامع قبل حريقه طلسمات لسائر الحشرات، معلقة في السقف فوق البطائن مما يلي السبع، وأنه لم يكن يوجد في الجامع شيء من الحشرات قبل الحريق‏.‏

فلما احترقت الطلسمات حين أحرق الجامع ليلة النصف من شعبان بعد العصر سنة إحدى وستين وأربعمائة، وقد كانت بدمشق طلسمات كثيرة، ولم يبق منها سوى العمود الذي بسوق العلبيين الذي في أعلاه مثل الكرة العظيمة، وهي لعسر بول الدواب، إذا داروا بالدابة حوله ثلاث مرات انطلق باطنها‏.‏

وقد كان شيخنا ابن تيمية رحمه الله يقول‏:‏ إنما هذا قبر مشرك مفرد مدفون هنالك يعذب، فإذا سمعت الدابة صراخه فزعت فانطلق باطنها وطبعها، قال‏:‏ ولهذا يذهبون بالدواب إلى مقابر اليهود والنصارى إذا مغلت فتنطلق طباعها وتروث، وما ذاك إلا أنها تسمع أصواتهم وهم يعذبون، والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/180‏)‏

 ذكر الساعات التي على بابه

قال القاضي عبد الله بن أحمد بن زبر‏:‏ إنما سمي باب الجامع القبلي باب الساعات لأنه عمل هناك بلشكار الساعات، كان يعمل بها كل ساعة تمضي من النهار، عليها عصافير من نحاس، وحية من نحاس وغراب، فإذا تمت الساعة خرجت الحية، فصفرت العصافير، وصاح الغراب، وسقطت حصاة في الطست، فيعلم الناس أنه قد ذهب من النهار ساعة، وكذلك سائرها‏.‏

قلت‏:‏ هذا يحتمل أحد شيئين‏:‏ إما أن تكون الساعات كانت في الباب القبلي من الجامع، وهو الذي يسمى باب الزيادة، ولكن قد قيل‏:‏ إنه محدث بعد بناء الجامع، ولا ينفي ذلك أن الساعات كانت عنده في زمن القاضي ابن زبر، وإما أنه قد كان في الجامع في الجانب الشرقي منه في الحائط القبلي باب آخر في محاكاة باب الزيادة، وعنده الساعات ثم نقلت بعد هذا كله إلى باب الوراقين اليوم، وهو باب الجامع من الشرق، والله أعلم‏.‏

قلت‏:‏ باب الوراقين قبلي أيضاً، فيضاف إلى الجمع نسبة إلى من يدخل منه إلى الجامع الله أعلم، أو لمجارته للجامع ولبابه‏.‏

قلت‏:‏ فأما القبة التي في وسط صحن الجامع التي فيها الماء الجاري، ويقول العامة لها قبة أبي نواس فكان بناؤها في سنة تسع وستين وثلاثمائة أرخ ذلك ابن عساكر عن خط بعض الدماشقة‏.‏

وأما القبة الغربية العالية التي في صحن الجامع التي يقال لها قبة عائشة، فسمعت شيخنا الذهبي يقول‏:‏ إنها إنما بنيت في حدود سنة ستين ومائة في أيام المهدي بن منصور العباسي، وجعلوها لحواصل الجامع وكتب أوقافه، وأما القبة الشرقية التي على باب مسجد علي فيقال‏:‏ إنها بنيت في زمن الحاكم العبيدي في حدود سنة أربع ومائة‏.‏

وأما الفوارة التي تحت درج جيرون فعملها الشريف فخر الدولة أبو علي حمزة بن الحسن بن العباس الحسني، وكأنه كان ناظراً بالجامع وجر إليها قطعة من حجر كبير من قصر حجاج، وأجرى منها الماء ليلة الجمعة لسبع ليال خلون من ربيع الأول سنة سبع عشرة وأربعمائة وعملت حولها قناطر، وعقد عليها قبة، ثم سقطت القبة بسبب جمال تحاكت عندها وازدحمت، وذلك في صفر سنة سبع وخمسين وأربعمائة، فأعيدت ثم سقطت أعمدتها وما عليها من حريق اللبادين والحجارة في شوال سنة اثنتين وستين وخمسمائة، ذكر ذلك كله الحافظ ابن عساكر‏.‏

قلت‏:‏ وأما القصعة التي كانت في الفوارة، فما زالت وسطها، وقد أدركتها كذلك، ثم رفعت بعد ذلك‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 9/181‏)‏

وكان بطهارة جيرون قصعة أخرى مثلها، فلم تزل بها إلى أن تهدمت اللبادين بسبب حريق النصارى في سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، ثم استؤنف بناء الطهارة على وجه آخر أحسن مما كانت، وذهبت تلك القصعة فلم يبق لها أثر، ثم عمل الشاذروان الذي شرقي فوارة جيرون، بعد الخمسمائة - أظنه - سنة أربع عشرة وخمسمائة، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

 ذكر ابتداء أمر السبع بالجامع الأموي

قال أبو بكر بن أبي داود‏:‏ ثنا أبو عباس موسى بن عامر المري، ثنا الوليد - هو ابن مسلم - قال‏:‏ قال أبو عمر الأوزاعي، عن حسان بن عطية، قال‏:‏ الدراسة محدثة أحدثها هشام بن إسماعيل المخزومي، في قدمة قدمها على عبد الملك، فحجبه عبد الملك فجلس بعد الصبح في مسجد دمشق فسمع قراءة فقال‏:‏ ما هذا‏؟‏ فأخبر أن عبد الملك يقرأ في الخضراء، فقرأ هشام بن إسماعيل، فجعل عبد الملك يقرأ بقراءة هشام، فقرأ بقراءته مولى له، فاستحسن ذلك من يليه من أهل المسجد فقرؤوا بقراءته‏.‏

وقال هشام ابن عمار خطيب دمشق‏:‏ ثنا أيوب بن حسان، ثنا الأوزاعي، ثنا خالد بن دهقان، قال‏:‏ أول من أحدث القراءة في مسجد دمشق هشام بن إسماعيل بن المغيرة المخزومي، وأول من أحدث القراءة بفلسطين الوليد بن عبد الرحمن الجرشي‏.‏

قلت‏:‏ هشام بن إسماعيل كان نائباً على المدينة النبوية، وهو الذي ضرب سعيد بن المسيب لما امتنع من البيعة للوليد بن عبد الملك، قبل أن يموت أبوه، ثم عزله عنها الوليد وولى عليها عمر بن عبد العزيز، كما ذكرنا‏.‏

وقد حضر هذا السبع جماعات من سادات السلف من التابعين بدمشق، منهم هشام بن إسماعيل ومولاه رافع وإسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر، وكان مكتباً لأولاد عبد الملك بن مروان، وقد ولي إمرة إفريقية لهشام بن عبد الملك وابنيه عبد الرحمن ومروان‏.‏

وحضره من القضاة أبو إدريس الخولاني، ونمير بن أوس الأشعري، ويزيد بن أبي الهمداني، وسالم بن عبد الله المحاربي، ومحمد ابن عبد الله بن لبيد الأسدي‏.‏

ومن الفقهاء والمحدثين والحفاظ المقرئين أبو عبد الرحمن القاسم بن عبد الرحمن مولى معاوية ومكحول وسليمان بن موسى الأشدق، وعبد الله بن العلاء بن زبر، وأبو إدريس الأصغر عبد الرحمن بن عراك، وعبد الرحمن بن عامر اليحصبي - أخو عبد الله بن عامر - ويحيى بن الحارث الدماري، وعبد الملك بن نعمان المري، وأنس بن أنس العذري، وسليمان بن بذيغ القاري، وسليمان بن داود الخشني، وعران - أو هران - بن حكيم القرشي، ومحمد بن خالد ابن أبي ظبيان الأزدي، ويزيد بن عبيدة بن أبي المهاجر، وعباس بن دينار وغيرهم‏.‏ و هكذا أوردهم ابن عساكر‏.‏

قال‏:‏ وقد روى عن بعضهم أنه كره اجتماعهم وأنكره، ولا وجه لإنكاره‏.‏

ثم ساق من طريق أبي بكر بن أبي داود، ثنا عمرو بن عثمان، ثنا الوليد - هو ابن مسلم -، عن عبد الله بن العلاء، قال‏:‏ سمعت الضحاك بن عبد الرحمن بن عروب ينكر الدراسة ويقول‏:‏ ما رأيت ولا سمعت وقد أدركت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/182‏)‏

قال ابن عساكر‏:‏ وكان الضحاك بن عبد الرحمن أميراً على دمشق في أواخر سنة ست وثمانين في خلافة عمر بن عبد العزيز‏.‏

 فصل ‏(‏بناء الجامع الأموي‏)‏

كان ابتداء عمارة جامع دمشق في أواخر سنة ست وثمانين، هدمت الكنيسة التي كانت موضعه في ذي القعدة منها، فلما فرغوا من الهدم شرعوا في البناء، وتكامل في عشر سنين، فكان الفراغ منه في هذه السنة - أعني سنة ست وتسعين -

وفيها توفي بانيه الوليد بن عبد الملك، وقد بقيت فيه بقايا فكملها أخوه سليمان كما ذكرنا‏.‏

فأما قول يعقوب بن سفيان‏:‏ سألت هشام بن عمار عن قصة مسجد دمشق وهذه الكنيسة قال‏:‏ كان الوليد قال للنصارى‏:‏ ما شئتم أنا أخذنا كنيسة توما عنوة وكنيسة الداخلة صلحاً، فأنا أهدم كنيسة توما - قال هشام وتلك أكبر من هذه الداخلة - قال فرضوا أن يهدم كنيسة الداخلة وأدخلها في المسجد، قال‏:‏ وكان بابها قبلة المسجد اليوم، وهو المحراب الذي يصلى فيه‏.‏

قال‏:‏ وهدم الكنيسة في أول خلافة الوليد سنة ست وثمانين، ومكثوا في بنائها سبع سنين حتى مات الوليد ولم يتم بناءه، فأتمه هشام من بعده ففيه فوائد وفيه غلط، وهو قوله إنهم مكثوا في بنائه سبع سنين، والصواب عشر سنين، فإنه لا خلاف أن الوليد بن عبد الملك توفي في هذه السنة - أعني سنة ست وتسعين - وقد حكى أبو جعفر بن جرير على ذلك إجماع أهل السير، والذي أتم ما بقي من بنائه أخوه سليمان لا هشام، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

قلت‏:‏ نقل من خط ابن عساكر وقد تقدم، وقد جددت فيه بعد ذلك أشياء، منها القباب الثلاث التي في صحنه‏.‏ وقد تقدم ذكرها‏.‏ وقيل إن القبة الشرقية عمرت في أيام المستنصر العبيدي في سنة خمسين وأربعمائة وكتب عليه اسمه واسم الاثني عشر الذين تزعم الرافضة أنهم أئمتهم، وأما العمودان الموضوعان في صحنه فجعلا للتنوير ليالي الجمع، وصنعا في رمضان سنة إحدى وأربعين وأربعمائة، بأمر قاضي البلد أبي محمد‏.‏ وهذه‏:‏

 ترجمة الوليد بن عبد الملك

باني جامع دمشق وذكر وفاته في هذا العام

هو الوليد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، أبو العباس الأموي، بويع له بالخلافة بعد أبيه بعهد منه في شوال سنة ست وثمانين، وكان أكبر ولده، والولي من بعده، وأمه ولادة بنت العباس بن حزن بن الحارث بن زهير العبسي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/ 183‏)‏

وكان مولده سنة خمسين، وكان أبواه يترفانه، فشب بلا أدب، وكان لا يحسن العربية، وكان طويلاً أسمر به أثر جدري خفي، أفطس الأنف سائله، وكان إذا مشى يتوكف في المشية - أي يتبختر - وكان جميلاً وقيل دميماً، وقد شاب في مقدم لحيته، وقد رأى سهل بن سعد وسمع أنس بن مالك لما قدم عليه سأله ما سمع في أشراط الساعة، كما تقدم في ترجمة أنس، وسمع سعيد بن المسيب وحكى عن الزهري وغيره‏.‏

وقد روي أن عبد الملك أراد أن يعهد إليه ثم توقف لأنه لا يحسن العربية فجمع الوليد جماعة من أهل النحو عنده فأقاموا سنة، وقيل ستة أشهر، فخرج يوم خرج أجهل مما كان، فقال عبد الملك‏:‏ قد أجهد وأعذر، وقيل إن أباه عبد الملك أوصاه عند موته فقال له‏:‏ لا ألفينك إذا مت تجلس تعصر عينيك، وتحن حنين الأمة، ولكن شمر واتزر، ودلني في حفرتي، وخلني وشأني، وادع الناس إلى البيعة، فمن قال برأسه هكذا فقل بسيفك هكذا‏.‏

وقال الليث‏:‏ وفي سنة ثمان وتسعين غزا الوليد بلاد الروم، وفيها حج بالناس أيضاً‏.‏

وقال غيره‏:‏ غزا في التي قبلها وفي التي بعدها بلاد ملطية وغيرها، وكان نقش خاتمه أؤمن بالله مخلصاً‏.‏ وقيل كان نقشه يا وليد إنك ميت، ويقال إن آخر ما تكلم به سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله، وقال إبراهيم بن أبي عبلة قال لي الوليد بن عبد الملك يوماً‏:‏ في كم تختم القرآن‏؟‏ قلت‏:‏ في كذا وكذا، فقال‏:‏ أمير المؤمنين على شغله يختمه في كل ثلاث، وقيل في كل سبع، قال‏:‏ وكان يقرأ في شهر رمضان سبع عشرة ختمة‏.‏

قال إبراهيم رحمه الله‏:‏ الوليد وأين مثله بنى مسجد دمشق، وكان يعطيني قطع الفضة فأقسمها على قراء بيت المقدس‏.‏

وروى ابن عساكر بإسناد رجاله كلهم ثقات عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن أبيه، قال‏:‏ خرج الوليد يوماً من الباب الأصغر فرأى رجلاً عند المئذنة الشرقية يأكل شيئاً، فأتاه فوقف عليه فإذا هو يأكل خبزاً وتراباً، فقال له‏:‏ ما حملك على هذا‏؟‏ قال‏:‏ القنوع يا أمير المؤمنين، فذهب إلى مجلسه ثم استدعى به فقال‏:‏ إن لك لشأناً فأخبرني به وإلا ضربت الذي فيه عيناك، فقال‏:‏ نعم يا أمير المؤمنين كنت رجلاً حمالاً، فبينما أنا أسير من مرج الصفر قاصداً إلى الكسوة، إذ زرمني البول فعدلت إلى خربة لأبول، فإذا سرب فحفرته فإذا مال صبيب، فملأت منه غرائري، ثم انطلقت أقود برواحلي وإذا بمخلاة معي فيها طعام فألقيته منها، وقلت‏:‏ إني سآتي الكسوة، ورجعت إلى الخربة لأملأ تلك المخلاة من ذلك المال فلم أهتد إلى المكان بعد الجهد في الطلب، فلما أيست رجعت إلى الرواحل فلم أجدها ولم أجد الطعام، فآليت على نفسي أني لا آكل إلا خبزاً وتراباً‏.‏ قال‏:‏ فهل لك عيال‏؟‏ قال‏:‏ نعم، ففرض له في بيت المال‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/184‏)‏

قال ابن جرير‏:‏ وبلغنا أن تلك الرواحل سارت حتى أتت بيت المال فتسلمها حارسه فوضعها في بيت المال، وقيل إن الوليد قال له‏:‏ ذلك المال وصل إلينا واذهب إلى إبلك فخذها، وقيل إنه دفع إليه شيئاً من ذلك المال يقيته وعياله‏.‏

وقال نمير بن عبد الله الشعناني، عن أبيه، قال‏:‏ قال الوليد بن عبد الملك‏:‏ لولا أن الله ذكر قوم لوط في القرآن ما ظننت أن ذكراً يفعل هذا بذكر‏.‏

قلت‏:‏ فنفى عن نفسه هذه الخصلة القبيحة الشنيعة، والفاحشة المذمومة، التي عذب الله أهلها بأنواع العقوبات، وأحل بهم أنواعاً من المثلات، التي لم يعاقب بها أحداً من الأمم السالفات، وهي فاحشة اللواط التي قد ابتلى بها غالب الملوك والأمراء، والتجار والعوام والكتاب، والفقهاء والقضاة ونحوهم، إلا من عصم الله منهم، فإن في اللواط من المفاسد ما يفوت الحصر والتعداد، ولهذا تنوعت عقوبات فاعليه، ولأن يقتل المفعول به خير من أن يؤتى في دبره، فإنه يفسد فساداً لا يرجى له بعده صلاح أبداً، إلا أن يشاء الله ويذهب خبر المفعول به‏.‏ فعلى الرجل حفظ ولده في حال صغره وبعد بلوغه، وأن يجنبه مخالطة هؤلاء الملاعين، الذين لعنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقد اختلف الناس‏:‏ هل يدخل الجنة مفعول به‏؟‏ على قولين، والصحيح في المسألة أن يقال إن المفعول به إذا تاب توبة صحيحة نصوحاً، ورزق إنابة إلى الله وصلاحاً، وبدل سيئاته بحسنات، وغسل عنه ذلك بأنواع الطاعات، وغض بصره وحفظ فرجه، وأخلص معاملته لربه، فهذا إن شاء الله مغفور له، وهو من أهل الجنة، فإن الله يغفر الذنوب للتائبين إليه ‏{‏وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 11‏]‏‏.‏ ‏{‏فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 39‏]‏ وأما مفعول به صار في كبره شراً منه في صغره، فهذا توبته متعذرة، وبعيد أن يؤهل لتوبة صحيحة، أو لعمل صالح يمحو به ما قد سلف، ويخشى عليه من سوء الخاتمة، كما قد وقع ذلك لخلق كثير ماتوا بأدرانهم وأوساخهم، لم يتطهروا منها قبل الخروج من الدينا، وبعضهم ختم له بشر خاتمة، حتى أوقعه عشق الصور في الشرك الذي لا يغفره الله‏.‏ وفي هذا الباب حكايات كثيرة وقعت للوطية وغرهم من أصحاب الشهوات يطول هذا الفصل بذكرها‏.‏

والمقصود أن الذنوب والمعاصي والشهوات تخذل صاحبها عند الموت مع خذلان الشيطان له‏.‏ فيجتمع عليه الخذلان مع ضعف الإيمان‏.‏ فيقع في سوء الخاتمة‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 29‏]‏ بل قد وقع سوء الخاتمة لخلق لم يفعلوا فاحشة اللواط، وقد كانوا متلبسين بذنوب أهون منها‏.‏ وسوء الخاتمة أعاذنا الله منها لا يقع فيها من صلح ظاهره وباطنه مع الله، وصدق في أقواله وأعماله، فإن هذا لم يسمع به كما ذكره عبد الحق الأشبيلي، وإنما يقع سوء الخاتمة لمن فسد باطنه عقداً وظاهره عملاً، ولمن له جرأة على الكبائر، وإقدام على الجرائم، فربما غلب ذلك عليه حتى ينزل به الموت قبل التوبة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/185‏)‏

والمقصود أن مفسدة اللواط من أعظم المفاسد، وكانت لا تعرف بين العرب قديماً كما قد ذكر ذلك غير واحد منهم‏.‏ فلهذا قال الوليد بن عبد الملك‏:‏ لولا أن الله عز وجل قص علينا قصة قوم لوط في القرآن ما ظننت أن ذكرا يعلو ذكراً‏.‏

وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به‏)‏‏)‏ رواه أهل السنن وصححه ابن حبان وغيره، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم من عمل عمل قوم لوط ثلاث مرات، ولم يلعن على ذنب ثلاث مرات إلا عليه، وإنما أمر بقتل الفاعل والمفعول به لأنه لا خير في بقائهما بين الناس، لفساد طويتهما، وخبث بواطنهما، فمن كان بهذه المثابة فلا خير للخلق في بقائه، فإذا أراح الله الخلق منهما صلح لهم أمر معاشهم ودينهم‏.‏ وأما اللعنة فهي الطرد والبعد، ومن كان مطروداً مبعداً عن الله وعن رسوله وعن كتابه وعن صالح عباده فلا خير فيه ولا في قربه‏.‏ ومن رزقه الله تعالى توسماً وفراسة ونوراً وفرقاناً عرف من سحن الناس ووجوههم أعمالهم، فإن أعمال العمال بائنة ولائحة على وجوههم وفي أعينهم وكلامهم‏.‏

وقد ذكر الله اللوطية وجعل ذلك آيات للمتوسمين فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ * فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 73-75‏]‏ وما بعدها‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ * وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ * وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 29-31‏]‏ ونحو ذلك من الآيات‏.‏ والأحاديث فاللوطي قد عكس الفطرة، وقلب الأمر، فأتى ذكراً فقلب الله قلبه، وعكس عليه أمره، بعد صلاحه وفلاحه، إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى‏.‏

وخصال التائب قد ذكرها الله في آخر سورة براءة فقال‏:‏ ‏{‏التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 112‏]‏ فلا بد للتائب من العبادة والاشتغال بالعمل للآخرة، وإلا فالنفس همامة متحركة، إن لم تشغلها بالحق وإلا شغلتك بالباطل، فلا بد للتائب من أن يبدل تلك الأوقات التي مرت له في المعاصي بأوقات الطاعات، وأن يتدراك ما فرط فيها وأن يبدل تلك الخطوات بخطوات إلى الخير، ويحفظ لحظاته وخطواته، ولفظاته وخطراته‏.‏

قال رجل للجنيد‏:‏ أوصني، قال‏:‏ توبة تحل الإصرار، وخوف يزيل العزة، ورجاء مزعج إلى طرق الخيرات، ومراقبة الله في خواطر القلب‏.‏ فهذه صفات التائب‏.‏ ثم قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 112‏]‏ الآية‏.‏ فهذه خصال التائب كما قال تعال‏:‏ ‏{‏التَّائِبُونَ‏}‏ فكأن قائلاً يقول‏:‏ من هم‏؟‏ قيل‏:‏ هم العابدون السائحون إلى آخر الآية، وإلا فكل تائب لم يتلبس بعد توبته بما يقر به إلى من تاب إليه فهو في بعد وإدبار، لا في قرب وإقبال، كما يفعل من اغتر بالله من المعاصي المحظورات، ويدع الطاعات، فإن ترك الطاعات وفعل المعاصي أشد وأعظم من ارتكاب المحرمات بالشهوة النفسية‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/186‏)‏

فالتائب هو من اتقى المحذورات، وفعل المأمورات، وصبر على المقدورات، والله سبحانه وتعالى هو المعين الموفق، وهو عليم بذات الصدور‏.‏

قالوا‏:‏ وكان الوليد لحاناً كما جاء من غير وجه أن الوليد خطب يوماً فقرأ في خطبته‏:‏ يا ليتها كانت القاضية فضم التاء من ليتها، فقال عمر بن عبد العزيز‏:‏ يا ليتها كانت عليك وأراحنا الله منك، وكان يقول‏:‏ يا أهل المدينة‏.‏ وقال عبد الملك يوماً لرجل من قريش‏:‏ إنك لرجل لولا أنك تلحن، فقال‏:‏ وهذا ابنك الوليد يلحن، فقال‏:‏ لكن ابني سليمان لا يلحن، فقال الرجل‏:‏ وأخي أبو فلان لا يلحن، وقال ابن جرير، حدثني عمر، ثنا علي - يعني ابن عبد المدائني - قال‏:‏ كان الوليد بن عبد الملك عند أهل الشام أفضل خلفائهم، بنى المساجد بدمشق، ووضع المنائر، وأعطى الناس، وأعطى المجذومين، وقال لهم‏:‏ لا تسألوا الناس، وأعطى كل مقعد خادماً، وكل ضرير قائداً، وفتح في ولايته فتوحات كثيرة عظاماً، وكان يرسل بنيه في كل عزوة إلى بلاد الروم، ففتح الهند والسند والأندلس وأقاليم بلاد العجم، حتى دخلت جيوشه إلى الصين وغير ذلك، قال‏:‏ وكان مع هذا يمر بالبقال فيأخذ حزمة البقل بيده، ويقول‏:‏ بكم تبيع هذه‏؟‏ فيقول‏:‏ بفلس، فيقول‏:‏ زد فيها فإنك تربح‏.‏

وذكروا أنه كان يبر حملة القرآن ويكرمهم ويقضي عنهم ديونهم، قالوا‏:‏ وكانت همة الوليد في البناء، وكان الناس كذلك يلقى الرجل الرجل فيقول‏:‏ ماذا بنيت‏؟‏ ماذا عمرت‏؟‏ وكانت همة أخيه سليمان في النساء، وكان الناس كذلك، يلقى الرجل الرجل فيقول‏:‏ كم تزوجت‏؟‏ ماذا عندك من السراري‏؟‏ وكانت همة عمر بن عبد العزيز في قراءة القرآن، وفي الصلاة والعبادة، وكان الناس كذلك، يلقى الرجل الرجل فيقول‏:‏ كم وردك‏؟‏ كم نقرأ كل يوم‏؟‏ ماذا صليت البارحة‏؟‏

والناس يقولون‏:‏ الناس على دين مليكهم، إن كان خماراً كثر الخمر، وإن كان لوطياً فكذلك، وإن كان شحيحاً حريصاً كان الناس كذلك، وإن كان جواداً كريماً شجاعاً كان الناس كذلك، وإن كان طماعاً ظلوماً غشوماً فكذلك، وإن كان ذا دين وتقوى وبر وإحسان كان الناس كذلك وهذا يوجد في بعض الأزمان وبعض الأشخاص، والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/187‏)‏

وقال الواقدي‏:‏ كان الوليد جباراً ذا سطوة شديدة لا يتوقف إذا غضب، لجوجاً كثير الأكل والجماع مطلاقاً، يقال‏:‏ إنه تزوج ثلاثاً وستين امرأة غير الإماء‏.‏ قلت‏:‏ يراد بهذا الوليد بن يزيد الفاسق لا الوليد بن عبد الملك باني الجامع، والله أعلم‏.‏

قلت‏:‏ بنى الوليد الجامع على الوجه الذي ذكرنا فلم يكن له في الدنيا نظير، وبنى صخرة بيت المقدس عقد عليها القبة، وبنى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ووسعه حتى دخلت الحجرة التي فيها القبر فيه، وله آثار حسان كثيرة جداً، ثم كانت وفاته في يوم السبت للنصف من جمادى الآخرة من هذه السنة، قال ابن جرير‏:‏ هذا قول جميع أهل السير، وقال عمر بن علي الفلاس وجماعة‏:‏ كانت وفاته يوم السبت للنصف من ربيع الأول من هذه السنة، عن ست وقيل‏:‏ ثلاث، وقيل‏:‏ تسع، وقيل‏:‏ أربع وأربعين سنة، وكانت وفاته بدير مران، فحمل على أعناق الرجال حتى دفن بمقابر باب الصغير، وقيل‏:‏ بمقابر باب الفراديس، حكاه ابن عساكر‏.‏

وكان الذي صلى عليه عمر بن عبد العزيز لأن أخاه سليمان كان بالقدس الشريف، وقيل‏:‏ صلى عليه ابنه عبد العزيز، وقيل‏:‏ بل صلى عليه أخوه سليمان، والصحيح عمر بن عبد العزيز، والله أعلم‏.‏ وهو الذي أنزله إلى قبره وقال حين أنزله‏:‏ لننزلنه غير موسد ولا ممهد، قد خلفت الأسلاب وفارقت الأحباب، وسكنت التراب، وواجهت الحساب، فقيراً إلى ما قدمت، غنياً عما أخرت‏.‏

وجاء من غير وجه عن عمر أنه أخبره أنه لما وضعه - يعني الوليد - في لحده ارتكض في أكفانه وجمعت رجلاه إلى عنقه‏.‏

وكانت خلافته تسع سنين وثمانية أشهر على المشهور‏.‏ والله أعلم‏.‏

قال المدائني‏:‏ وكان له من الولد تسعة عشر ولداً ذكراً، وهم عبد العزيز، ومحمد والعباس، وإبراهيم، وتمام وخالد وعبد الرحمن ومبشر ومسرور وأبو عبيدة وصدقة ومنصور ومروان وعنبسة وعمر وروح وبشر ويزيد ويحيى‏.‏ فأم عبد العزيز ومحمد أم البنين بنت عمه عبد العزيز بن مروان، وأم أبي عبيدة فزرية، وسائرهم من أمهات أولاد شتى‏.‏

قال المدائني وقد رثاه جرير فقال‏:‏

يا عين جودي بدمع ماجه الذكر * فما لدمعك بعد اليوم مدخر ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/188‏)‏

إن الخليفة قد وارت شمائله * غبراء ملحدة في جولها زور

أضحى بنوه وقد جلت مصيبتهم * مثل النجوم هوى من بينها القمر

كانوا جميعاً فلم يدفع منيته * عبد العزيز ولا روح ولا عمر

وممن هلك أيام الوليد بن عبد الملك زياد بن حارث التميمي الدمشقي، كانت داره غربي قصر الثقفيين، روى عن حبيب بن مسملة الفهري في النهي عن المسألة لمن له ما يغديه ويعشيه، وفي النفل‏.‏

ومنهم من زعم أن له صحبة، والصحيح أنه تابعي‏.‏

روى عنه عطية بن قيس ومكحول و يونس بن ميسرة بن حلبس، ومع هذا قال فيه أبو حاتم‏:‏ شيخ مجهول، ووثقه النسائي وابن حبان ، روى ابن عساكر أنه دخل يوم الجمعة إلى مسجد دمشق وقد أخرت الصلاة، فقال‏:‏ والله ما بعث الله نبياً بعد محمد صلى الله عليه وسلم أمركم بهذه الصلاة هذا الوقت، قال‏:‏ فأخذ فأدخل الخضراء فقطع رأسه وذلك في زمن الوليد بن عبد الملك‏.‏

عبد الله بن عمر بن عثمان

أبو محمد، كان قاضي المدينة، وكان شريفاً كثير المعروف، جواداً ممدحاً، والله أعلم‏.‏

 خلافة سليمان بن عبد الملك

بويع له بالخلافة بعد موت أخيه الوليد يوم مات وكان يوم السبت للنصف من جمادى الآخرة سنة ست وتسعين، وكان سليمان بالرملة، وكان ولي العهد من بعد أخيه عن وصية أبيهما عبد الملك‏.‏ وقد كان الوليد قد عزم قبل موته على خلع أخيه سليمان، وأن يجعل ولاية العهد من بعده لولده عبد العزيز بن الوليد، وقد كان الحجاج طاوعه على ذلك وأمره به، وكذلك قتيبة بن مسلم وجماعة، وقد أنشد في ذلك جرير وغيره من الشعراء قصائد، فلم ينتظم ذلك له حتى مات، وانعقدت البيعة إلى سليمان، فخافه قتيبة بن مسلم وعزم على أن لا يبايعه، فعزله سليمان وولى على إمرة العراق ثم خراسان يزيد بن المهلب، فأعاده إلى إمرتها بعد عشر سنين، وأمره بمعاقبة آل الحجاج بن يوسف، وكان الحجاج هو الذي عزل يزيد عن خراسان‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/189‏)‏

ولسبع بقين من رمضان من هذه السنة عزل سليمان عن إمرة المدينة عثمان بن حيان وولى عليها أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وكان أحد العلماء، وقد كان قتيبة بن مسلم حين بلغه ولاية سليمان الخلافة كتب إليه كتاباً يعزيه في أخيه، ويهنئه بولايته، ويذكر فيه بلاءه وعناه وقتاله وهيبته في صدور الأعداء، وما فتح الله من البلاد والمدن والأقاليم الكبار على يديه، وأنه له على مثل ما كان للوليد من الطاعة والنصيحة، إن لم يعزله عن خراسان، ونال في هذا الكتاب من يزيد بن المهلب، ثم كتب كتاباً ثانياً يذكر ما فعل من القتال والفتوحات وهيبته في صدور الملوك والأعاجم، ويذم يزيد بن المهلب أيضاً، ويقسم فيه لئن عزله وولى يزيد ليخلعن سليمان عن الخلافة، وكتب كتاباً ثالثاً فيه خلع سليمان بالكلية، وبعث بها مع البريد وقال له‏:‏ ادفع إليه الكتاب الأول، فإن قرأه ودفعه إلى يزيد بن المهلب فادفع إليه الثاني، فإن قرأه ودفعه إلى يزيد ابن المهلب فادفع إليه الثالث، فلما قرأ سليمان الكتاب الأول - واتفق حضور يزيد عند سليمان - دفعه إلى يزيد فقرأه، فناوله البريد الكتاب الثاني فقرأه ودفعه إلى يزيد، فناوله البريد الكتاب الثالث فقرأه فإذا فيه التصريح بعزله وخلعه، فتغير وجهه، ثم ختمه وأمسكه بيده ولم يدفعه إلى يزيد، وأمر بإنزال البريد في دار الضيافة، فلما كان من الليل بعث إلى البريد فأحضره ودفع إليه ذهباً وكتاباً فيه ولاية قتيبة على خراسان، وأرسل مع ذلك البريد بريداً آخر من جهته ليقرره عليها، فلما وصلا بلاد خراسان بلغهما أن قتيبة قد خلع الخليفة، فدفع بريد سليمان الكتاب الذي معه إلى بريد قتيبة، ثم بلغهما مقتل قتيبة قبل أن يرجع بريد سليمان‏.‏

 مقتل قتيبة بن مسلم رحمه الله

وذلك أنه جمع الجند والجيوش وعزم على خلع سليمان بن عبد الملك من الخلافة وترك طاعته، وذكر لهم همته وفتوحه وعدله فيهم، ودفعه الأموال الجزيلة إليهم، فلما فرغ من مقالته لم يجبه أحد منهم إلى مقالته، فشرع في تأنيبهم وذمهم، قبيلة قبيلة، وطائفة طائفة، فغضبوا عند ذلك ونفروا عنه وتفرقوا، وعملوا على مخالفته، وسعوا في قتله، وكان القائم بأعباء ذلك رجل يقال له وكيع بن أبي سود، فجمع جموعاً كثيرة، ثم ناهضه فلم يزل به حتى قتله في ذي الحجة من هذه السنة، ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/190‏)‏ وقتل معه أحد عشر رجلاً من إخوته وأبناء إخوته، ولم يبق منهم سوى ضرار بن مسلم، وكانت أمه الغراء بنت ضرار بن القعقاع بن معبد بن سعد بن زرارة، فحمته أخواله، وعمرو بن مسلم كان عامل الجوزجان وقتل قتيبة وعبد الرحمن وعبد الله وعبيد الله وصالح ويسار، وهؤلاء أبناء مسلم، وأربعة من أبنائهم فقتلهم كلهم وكيع بن سود‏.‏

وقد كان قتيبة بن مسلم بن عمرو بن حصين بن ربيعة أبو حفص الباهلي، من سادات الأمراء وخيارهم، وكان من القادة النجباء الكبراء، والشجعان وذوي الحروب والفتوحات السعيدة والآراء الحميدة، وقد هدى الله على يديه خلقاً لا يحصيهم إلا الله، فأسلموا ودانوا لله عز وجل وفتح من البلاد والأقاليم الكبار والمدن العظام شيئاً كثيراً كما تقدم ذلك مفصلاً مبيناً، والله سبحانه لا يضيع سعيه ولا يخيب تعبه وجهاده‏.‏

ولكن زل زلة كان فيها حتفه، وفعل فعلة رغم فيها أنفه، وخلع الطاعة فبادرت المنية إليه، وفارق الجماعة فمات ميتة جاهلية لكن سبق له من الأعمال الصالحة ما قد يكفر الله به سيئاته، ويضاعف به حسناته، والله يسامحه ويعفو عنه، ويتقبل منه ما كان يكابده من مناجزة الأعداء، وكانت وفاته بفرغانه من أقصى بلاد خراسان، في ذي الحجة من هذه السنة، وله من العمر ثمان وأربعون سنة، وكان أبوه أبو صالح مسلم فيمن قتل مع مصعب بن الزبير، وكانت ولايته على خراسان عشر سنين، واستفاد وأفاد فيها خيراً كثيراً، وقد رثاه عبد الرحمن بن جمانة الباهلي فقال‏:‏

كان أبا حفص قتيبة لم يسرُ * بجيش إلى جيش ولم يعل منبرا

ولم تخفق الرايات والقوم حوله * وقوفٌ ولم يشهد له الناس عسكرا

دعته المنايا فاستجاب لربه * وراح إلى الجنات عفاً مطهرا

فما رزئ الإسلام بعد محمد * بمثل أبي حفص فبكّيه عبهرا

ولقد بالغ هذا الشاعر في بيته الأخير‏.‏ وعبهر ولد له‏.‏

وقال الطرماح في هذه الوقعة التي قتل فيها على يد وكيع بن سود‏:‏

لولا فوارس مذحج ابنه مذحج * والأزد زعزع واستبيح العسكر

وتقطعت بهم البلاد ولم يؤب * منهم إلى أهل العراق مخبر

واستضلعت عقد الجماعة وازدرى * أمر الخليفة واستحل المنكر ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/191‏)‏

قوم همو قتلوا قتيبة عنوة * والخيل جامحة عليها العثير

بالمرج مرج الصين حيث تبينت * مضر العراق من الأعز الأكبر

إذ حالفت جزعاً ربيعة كلها * وتفرقت مضر ومن يتمضر

وتقدمت ازد العراق ومذحج * للموت يجمعها أبوها الأكبر

قحطان تضرب رأس كل مدجج * تحمي بصائرهن إذ لا تبصر

والأزد تعلم أن تحت لوائها * ملكاً قراسيةً وموت أحمر

فبعزنا نصر النبي محمد * وبنا تثبت في دمشق المنبر

وقد بسط ابن جرير هذه القصيدة بسطاً كثيراً وذكر أشعاراً كثيرةً جداً‏.‏

وقال ابن خلكان وقال جرير يرثي قتيبة بن مسلم رحمه الله وسامحه، وأكرم مثواه وعفا عنه‏:‏

ندمتم على قتل الأمير ابن مسلم * وأنتم إذا لا قيتم الله أندم

لقد كنتم من غزوه في غنيمة * وأنتم لمن لاقيتم اليوم مغنم

على أنه أفضى إلى حور جنة * وتطبق بالبلوى عليكم جهنم

قال‏:‏ وقد ولي من أولاد وذريته جماعة الأمرة في البلدان، فمنهم عمر بن سعيد بن قتيبة بن مسلم وكان جواداً ممدحاً، رثاه حين مات أبو عمر وأشجع بن عمرو السلمي المري نزيل البصرة يقول‏:‏

مضى ابن سعيد حيث لم يبق مشرق * ولا مغرب إلا له فيه مادح

وما كنت أدري ما فواضل كفه * على الناس حتى غيبته الصفائح

وأصبح في لحد من الأرض ضيق * وكانت به حياً تضيق الضحاضح

سأبكيك ما فاضت دموعي فإن تغض * فحسبك مني ما تجر الجوانح

فما أنا من رزئي وإن جل جازع * ولا بسرور بعد موتك فارح ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/192‏)‏

كأن لم يمت حي سواك ولم تقم * على أحد إلا عليك النوائح

لئن حسنت فيك المراثي وذكرها * لقد حسنت من قبل فيك المدائح

قال ابن خلكان‏:‏ وهي من أحسن المراثي وهي في الحماسة، ثم تكلم على باهلة وأنها قبيلة مرذولة عند العرب، قال‏:‏ وقد رأيت في بعض المجاميع أن الأشعث بن قيس قال‏:‏ يا رسول الله أتتكافأ دماؤنا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم ‏!‏ ولو قتلت رجلاً من باهلة لقتلتك‏)‏‏)‏‏.‏ وقيل لبعض العرب‏:‏ أيسرك أن تدخل الجنة وأنت باهلي‏؟‏ قال‏:‏ بشرط أن لا يعلم أهل الجنة بذلك‏.‏ وسأل بعض الأعراب رجلاً ممن أنت‏؟‏ فقال‏:‏ من باهلة، فجعل يرثي له، قال‏:‏ وأزيدك أني لست من الصميم وإنما أنا من مواليهم‏.‏ فجعل يقبل يديه ورجليه، فقال‏:‏ ولم تفعل هذا‏؟‏ فقال‏:‏ لأن الله تعالى ما ابتلاك بهذه الرزية في الدنيا إلا ليعوضك الجنة في الآخرة‏.‏

ثم قال ابن جرير‏:‏ وفي هذه السنة توفي قرة بن شريك العبسي أمير مصر وحاكمها‏.‏ قلت‏:‏ هو قرة بن شريك أمير مصر من جهة الوليد، وهو الذي بنى جامع الفيوم‏.‏

وفيها حج بالناس أبو بكر محمد بن عمرو بن حزم، وكان هو الأمير على المدينة، وكان على مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وعلى حرب العراق وصلاتها يزيد بن المهلب، وعلى خراجها صالح بن عبد الرحمن، وعلى نيابة البصرة ليزيد بن المهلب سفيان بن عبد الله الكندي، وعلى قضائها عبد الرحمن بن أذينة، وعلى قضاء الكوفة أبو بكر بن أبي موسى، وعلى حرب خراسان وكيع بن سود، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏