فصل: ذكر رمله عليه السلام في طوافه واضطباعه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 ذكر تلبية رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم

قال الشافعي‏:‏ أخبرنا مالك عن نافع، عن عبد الله بن عمر أن تلبية رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ‏(‏‏(‏لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لك، لا شريك لك‏)‏‏)‏‏.‏

وكان عبد الله بن عمر يزيد فيها‏:‏ ‏(‏‏(‏لبيك لك وسعديك، والخير في يديك لبيك، والرغباء إليك والعمل‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه البخاري عن عبد الله بن يوسف‏.‏

ومسلم عن يحيى بن يحيى، كلاهما عن مالك به‏.‏

وقال مسلم‏:‏ حدثنا محمد بن عباد، ثنا حاتم بن إسماعيل عن موسى بن عقبة، عن سالم بن عبد الله بن عمر، وعن نافع مولى عبد الله بن عمرو، وحمزة بن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمر أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان إذا استوت به راحلته قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهلَّ فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لك، لا شريك لك‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ وكان عبد الله يقول‏:‏ هذه تلبية رسول الله‏.‏

قال نافع‏:‏ وكان عبد الله يزيد مع هذا‏:‏ لبيك لبيك لبيك، وسعديك والخير بيديك لبيك، والرغباء إليك والعمل‏.‏

حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا يحيى بن سعيد عن عبد الله، أخبرني نافع عن ابن عمر قال‏:‏ تلقفت التلبية من فيّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فذكر بمثل حديثهم‏.‏

حدثني حرملة بن يحيى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني يونس عن ابن شهاب قال‏:‏ قال سالم بن عبد الله بن عمر‏:‏ أخبرني عن أبيه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يهلُّ ملبياً يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك‏)‏‏)‏ لا يزيد على هؤلاء الكلمات‏.‏

وإن عبد الله بن عمر يقول‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يركع بذي الحليفة ركعتين، فإذا استوت به الناقة قائمة عند مسجد ذي الحليفة، أهلَّ بهؤلاء الكلمات‏.‏

وقال عبد الله بن عمر‏:‏ كان عمر بن الخطاب يهلُّ بإهلال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم من هؤلاء الكلمات وهو يقول‏:‏ لبيك اللهم لبيك، وسعديك والخير في يديك لبيك، والرغباء إليك والعمل‏.‏

هذا لفظ مسلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/162‏)‏

وفي حديث جابر من التلبية كما في حديث ابن عمر، وسيأتي مطولاً قريباً رواه مسلم منفرداً به‏.‏

وقال البخاري بعد إيراده من طريق مالك عن نافع، عن ابن عمر ما تقدم‏:‏ حدثنا محمد بن يوسف، ثنا سفيان عن الأعمش، عن عمارة، عن أبي عطية، عن عائشة قالت‏:‏ إني لأعلم كيف كان النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يلبِّي‏:‏ ‏(‏‏(‏لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك‏)‏‏)‏‏.‏

تابعه أبو معاوية عن الأعمش‏.‏

وقال شعبة‏:‏ أخبرنا سليمان سمعت خيثمة عن أبي عطية، سمعت عائشة‏.‏

تفرَّد به البخاري‏.‏

وقد رواه الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان الثوري، عن سليمان بن مهران الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن أبي عطية الوادي، عن عائشة فذكر مثل ما رواه البخاري سواء‏.‏

ورواه أحمد عن أبي معاوية، وعبد الله بن نمير عن الأعمش، كما ذكره البخاري سواء‏.‏

ورواه أيضاً عن محمد بن جعفر، وروح بن عبادة عن شعبة، عن سليمان بن مهران الأعمش به، كما ذكره البخاري‏.‏

وكذلك رواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن شعبة سواء‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن فضيل، حدثنا الأعمش عن عمارة بن عمير، عن أبي عطية قال‏:‏ قالت عائشة‏:‏ إني لأعلم كيف كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يلبِّي قال‏:‏ ثم سمعتها تلبِّي فقالت‏:‏ لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك، والملك لا شريك لك‏.‏

فزاد في هذا السياق وحده‏:‏ والملك لا شريك لك‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ أخبرنا الحاكم، أنبأنا الأصم، ثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، أنبأنا ابن وهب، أخبرني عبد العزيز بن عبد الله ابن أبي سلمة، أن عبد الله بن الفضل حدَّثه عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة أنه قال‏:‏ كان من تلبية رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏لبيك إله الحق‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه النسائي عن قتيبة، عن حميد بن عبد الرحمن، عن عبد العزيز ابن أبي سلمة‏.‏

وابن ماجه عن أبي بكر ابن أبي شيبة، وعلي بن محمد، كلاهما عن وكيع عن عبد العزيز به‏.‏

قال النسائي‏:‏ ولا أعلم أحداً أسنده عن عبد الله ابن الفضل إلا عبد العزيز‏.‏

ورواه إسماعيل بن أمية مرسلاً‏.‏

وقال الشافعي‏:‏ أنبأنا سعيد بن سالم القداح عن ابن جريج، أخبرني حميد الأعرج عن مجاهد أنه قال‏:‏ كان النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يظهر من التلبية‏:‏ لبيك اللهم لبيك - فذكر التلبية -‏.‏

قال‏:‏ حتَّى إذا كان ذات يوم، والنَّاس يصرفون عنه كأنه أعجبه ما هو فيه فزاد فيها‏:‏ لبيك إن العيش عيش الآخرة‏.‏

قال ابن جريج‏:‏ وحسبت أن ذلك يوم عرفة‏.‏

هذا مرسل من هذا الوجه‏.‏

وقد قال الحافظ أبو بكر البيهقي‏:‏ أخبرنا عبد الله الحافظ، أخبرني أبو أحمد يوسف بن محمد بن محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسحاق بن خزيمة، ثنا نصر بن علي الجهضمي، ثنا محبوب بن الحسن، ثنا داود عن عكرمة، عن ابن عبَّاس أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم خطب بعرفات فلما قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لبيك اللهم لبيك‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنما الخير خير الآخرة‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا إسناد غريب، وإسناده على شرط السنن ولم يخرِّجوه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/163‏)‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا روح، ثنا أسامة بن زيد، حدثني عبد الله ابن أبي لبيد عن المطلب بن عبد الله بن حنطب سمعت أبا هريرة يقول‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏أمرني جبرائيل برفع الصوت في الإهلال، فإنه من شعائر الحج‏)‏‏)‏‏.‏

تفرَّد به أحمد‏.‏

وقد رواه البيهقي عن الحاكم، عن الأصم، عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، عن ابن وهب، عن أسامة بن زيد، عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، وعبد الله ابن أبي لبيد عن المطلب، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فذكره‏.‏

وقد قال عبد الرزاق‏:‏ أخبرنا الثوري، عن ابن أبي لبيد، عن المطلب بن حنطب، عن خلاد، عن السائب عن، زيد بن خالد قال‏:‏ جاء جبريل إلى النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقال‏:‏ مر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية فإنها شعار الحج‏.‏

وكذا رواه ابن ماجه عن علي بن محمد، عن وكيع، عن الثوري به‏.‏

وكذلك رواه شعبة، وموسى بن عقبة عن عبد الله ابن أبي لبيد به‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا وكيع، ثنا سليمان، عن عبد الله ابن أبي لبيد، عن المطلب بن عبد الله بن حنطب، عن خلاد بن السائب، عن زيد بن خالد الجهني قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏جاءني جبرائيل فقال‏:‏ يا محمد مُر أصحابك فليرفعوا أصواتهم بالتلبية فإنها شعار الحج‏)‏‏)‏‏.‏

قال شيخنا أبو الحجاج المزي في كتابه ‏(‏الأطراف‏)‏‏:‏ وقد رواه معاوية عن هشام وقبيصة، عن سفيان الثوري، عن عبد الله ابن أبي لبيد، عن المطلب، عن خلاد بن السائب، عن أبيه، عن زيد بن خالد به‏.‏

وقال أحمد‏:‏ ثنا سفيان بن عيينة عن عبد الله ابن أبي بكر، عن عبد الملك ابن أبي بكر بن الحارث بن هشام، عن خلاد بن السائب بن خلاد، عن أبيه، عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أتاني جبرائيل فقال‏:‏ مُر أصحابك فليرفعوا أصواتهم بالإهلال‏)‏‏)‏‏.‏

وقال أحمد‏:‏ قرأت على عبد الرحمن بن مهدي عن مالك، وحدثنا روح، ثنا مالك - يعني‏:‏ ابن أنس - عن عبد الله ابن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عبد الله ابن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن خلاد بن السائب الأنصاري، عن أبيه أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أتاني جبرائيل فأمرني أن آمر أصحابي - أو من معي - أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية، أو بالإهلال يريد أحدهما‏)‏‏)‏‏.‏

وكذلك رواه الشافعي عن مالك، ورواه أبو داود عن القعنبي، عن مالك به‏.‏

ورواه الإمام أحمد أيضاً من حديث ابن جريج‏.‏

والتِّرمذي والنسائي وابن ماجه، من حديث سفيان بن عيينة عن عبد الله ابن أبي بكر به‏.‏

وقال التِّرمذي‏:‏ هذا حديث حسن صحيح‏.‏

وقال الحافظ البيهقي‏:‏ ورواه ابن جريج قال‏:‏ كتب إلى عبد الله ابن أبي بكر فذكره، ولم يذكر أبا خلاد في إسناده‏.‏

قال‏:‏ والصحيح رواية مالك وسفيان بن عيينة عن عبد الله ابن أبي بكر، عن عبد الملك، عن خلاد بن السائب، عن أبيه، عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم كذلك قال البخاري وغيره كذا قال‏.‏

وقد قال الإمام أحمد في مسنده‏:‏ حدثنا السائب بن خلاد بن سويد أبي سهلة الأنصاري، ثنا محمد بن بكر، أنبأنا ابن جريج، وثنا روح، ثنا ابن جريج قال‏:‏ كتب إلى عبد الله ابن أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم عن عبد الملك ابن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن خلاد بن السائب الأنصاري، عن أبيه السائب بن خلاد أنه سمع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏أتاني جبرائيل فقال‏:‏ إن الله يأمرك أن تأمر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية والإهلال‏)‏‏)‏‏.‏

وقال ورح‏:‏ بالتلبية أو الإهلال، قال‏:‏ لا أدري أينا، وهل أنا أو عبد الله أو خلاد في الإهلال أو التلبية‏.‏

هذا لفظ أحمد في مسنده، وكذلك ذكره شيخنا في أطرافه عن ابن جريج كرواية مالك وسفيان بن عيينة، فالله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/164‏)‏

فصل

في إيراد حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه في حجة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو وحده منسك مستقل، رأينا أن إيراده ههنا أنسب لتضمنه التلبية وغيرها كما سلف، وما سيأتي فنورد طرقه وألفاظه ثم نتبعه بشواهده من الأحاديث الواردة في معناه، وبالله المستعان‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يحيى بن سعيد، ثنا جعفر بن محمد، حدثني أبي قال‏:‏ أتينا جابر بن عبد الله وهو في بني سلمة - فسألناه عن حجة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فحدثنا أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مكث في المدينة تسع سنين لم يحج، ثم أذن في النَّاس أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حاج في هذا العام قال‏:‏ فنزل المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ويفعل ما يفعل، فخرج رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لخمس بقين من ذي القعدة وخرجنا معه، حتَّى إذا أتى ذا الحليفة نفست أسماء بنت عميس بمحمد ابن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كيف أصنع‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اغتسلي ثم استثفري بثوب، ثم أهلِّي‏)‏‏)‏‏.‏

فخرج رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حتَّى إذا استوت به ناقته على البيداء أهلَّ بالتوحيد‏:‏ لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، ولبى النَّاس، والنَّاس يزيدون ذا المعارج ونحوه من الكلام، والنَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يسمع فلم يقل لهم شيئاً، فنظرت مدَّ بصري بين يدي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من راكب وماش، ومن خلفه كذلك، وعن يمينه مثل ذلك، وعن شماله مثل ذلك، قال جابر‏:‏ ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بين أظهرنا عليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيء عملناه، فخرجنا لا ننوي إلا الحج، حتَّى إذا أتينا الكعبة فاستلم نبي الله صلَّى الله عليه وسلَّم الحجر الأسود، ثم رمل ثلاثة ومشى أربعة، حتَّى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين، ثم قرأ ‏{‏وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 125‏]‏‏.‏

قال أحمد‏:‏ وقال أبو عبد الله - يعني‏:‏ - جعفر - فقرأ فيهما بالتوحيد، وقل يا أيها الكافرون، ثم استلم الحجر وخرج إلى الصفا، ثم قرأ ‏{‏إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 158‏]‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نبدأ بما بدأ الله به‏)‏‏)‏ فرقي على الصفا حتَّى إذا نظر إلى البيت كبَّر ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا إله إلا الله وحده لا شريك، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده وصدق وعده، وهزم - أو غلب - الأحزاب وحده‏)‏‏)‏ ثم دعا، ثم رجع إلى هذا الكلام، ثم نزل حتَّى إذا انصبت قدماه في الوادي رمل، حتَّى إذا صعد مشى، حتَّى إذا أتى المروة فرقي عليها حتَّى نظر إلى البيت فقال عليها كما قال على الصفا، فلما كان السابع عند المروة قال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أيها النَّاس إني لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ولجعلتها عمرة، فمن لم يكن معه هدي فليحلل وليجعلها عمرة‏)‏‏)‏ فحل النَّاس كلهم‏.‏

فقال سراقة بن مالك بن جعثم - وهو في أسفل الوادي -‏:‏ يا رسول الله ألعامنا هذا، أم للأبد‏؟‏

فشبك رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أصابعه فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏للأبد ثلاث مرات‏)‏‏)‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/165‏)‏

قال‏:‏ وقدم علي من اليمن بهدي وساق رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم معه هدي من المدينة هدياً، فإذا فاطمة قد حلت ولبست ثياباً صبيغاً واكتحلت، فأنكر ذلك عليها فقالت‏:‏ أمرني به أبي‏.‏

قال‏:‏ قال علي بالكوفة‏:‏ قال جعفر‏:‏ قال‏:‏ إلى هذا الحرف لم يذكره جابر، فذهبت محرشاً استفتي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في الذي ذكرت فاطمة‏.‏

قلت‏:‏ إن فاطمة لبست ثياباً صبيغاً واكتحلت وقالت‏:‏ أمرني أبي‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏صدقت صدقت، أنا أمرتها به‏)‏‏)‏‏.‏

وقال جابر‏:‏ وقال لعلي‏:‏ ‏(‏‏(‏بمَ أهللت‏)‏‏)‏‏؟‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ اللهم إني أهلُّ لما أهلَّ به رسولك قال‏:‏ ومعي الهدي‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فلا تحل‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ وكان جماعة الهدي الذي أتى به علي من اليمن، والذي أتى به رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مائة، فنحر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بيده ثلاثاً وستين، ثم أعطى علياً فنحر ما غبر وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت في قدر فأكلا من لحمها، وشربا من مرقها‏.‏

ثم قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏قد نحرت ههنا، ومنى كلها منحر‏)‏‏)‏، ووقف بعرفة فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏وقفت ههنا، وعرفة كلها موقف‏)‏‏)‏ ووقف بالمزدلفة وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏وقفت ههنا والمزدلفة كلها موقف‏)‏‏)‏‏.‏

هكذا أورد الإمام أحمد هذا الحديث وقد اختصر آخره جداً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/166‏)‏

ورواه الإمام مسلم بن الحجاج في المناسك من صحيحه عن أبي بكر ابن أبي شيبة، وإسحاق بن إبراهيم، كلاهما عن حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله فذكره‏.‏

وقد أعلمنا على الزيادات المتفاوتة من سياق أحمد ومسلم إلى قوله عليه السلام لعلي‏:‏ ‏(‏‏(‏صدقت صدقت، ماذا قلت حين فرضت الحج‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ اللهم إني أهل بما أهل به رسولك صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

قال علي‏:‏ فإن معي الهدي‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فلا تحل‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فكان جماعة الهدي الذي قدم به علي من اليمن والذي أتى به رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مائة‏.‏

قال‏:‏ فحل النَّاس كلهم، وقصروا إلا النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ومن كان معه هدي، فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج، وركب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فصلى بها الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر، ثم مكث قليلاً حتَّى طلعت الشمس، وأمر بقبة له من شعر، فضربت له بنمرة، فسار رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حتَّى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها، حتَّى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي، فخطب النَّاس وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل، ورباء الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه من ربانا ربا العبَّاس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله، واتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لم تضلوا بعده أن اعتصمتم به كتاب الله، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون‏؟‏‏)‏‏)‏

قالوا‏:‏ نشهد أنك قد بلغت ونصحت، وأديت‏.‏

فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى النَّاس‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم اشهد، اللهم اشهد، ثلاث مرات‏)‏‏)‏‏.‏

ثم أذن بلال ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئاً، ثم ركب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حتَّى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصوى إلى الصخرات، وجعل جبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة، فلم يزل واقفاً حتَّى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلاً، حتَّى غاب القرص، وأردف أسامة بن زيد خلفه، ودفع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقد شنق القصواء الزمام، حتَّى أن رأسها لتصيب مورك رجله، ويقول بيده اليمنى‏:‏ ‏(‏‏(‏أيها النَّاس السكينة السكينة‏)‏‏)‏، كلما أتى جبلاً من الجبال أرخى لها قليلاً حتَّى تصعد، حتَّى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب، والعشاء بأذان وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئاً، ثم اضطجع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حتَّى طلع الفجر، فصلى الفجر حتَّى تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتَّى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعا، فحمد الله وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفاً حتَّى أسفر جداً، ودفع قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضل بن العبَّاس وكان رجلاً حسن الشعر أبيض وسيماً، فلما دفع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مرت ظعن بجرين فطفق الفضل ينظر إليهن، فوضع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يده على وجه الفضل، فحول الفضل يده إلى الشق الآخر، فحول رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يده من الشق الآخر على وجه الفضل، فصرف وجهه من الشق الآخر ينظر، حتَّى إذا أتى بطن محسر فحرك قليلاً، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتَّى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها حصى الخذف، رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثاً وستين بيده، ثم أعطى علياً فنحر ما غبر، وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها، وشربا من مرقعها، ثم ركب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فأفاض إلى البيت، فصلى بمكة الظهر، فأتى بني عبد المطلب وهم يستقون على زمزم‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم النَّاس على سقايتكم لنزعت معكم‏)‏‏)‏ فناولوه دلوا فشرب منه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/167‏)‏

ثم رواه مسلم عن عمر بن حفص، عن أبيه، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر فذكره بنحوه، وذكر قصة أبي سيارة، وأنه كان يدفع بأهل الجاهلية على حمار عرى، وأن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نحرت ههنا، ومنى كلها منحر، فانحروا في رحالكم، ووقفت ههنا، وعرفة كلها موقف، ووقفت ههنا وجمع كلها موقف‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه أبو داود بطوله عن النفيلي، وعثمان ابن أبي شيبة، وهشام بن عمار، وسليمان بن عبد الرحمن، وربما زاد بعضهم على بعض الكلمة والشيء، أربعتهم عن حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بنحو من رواية مسلم، وقد رمزنا لبعض زياداته عليه‏.‏

ورواه أبو داود أيضاً والنسائي، عن يعقوب بن إبراهيم، عن يحيى بن سعيد القطان، عن جعفر به‏.‏

ورواه النسائي أيضاً عن محمد بن المثنى، عن يحيى بن سعيد ببعضه، عن إبراهيم بن هارون البلخي، عن حاتم بن إسماعيل ببعضه‏.‏

 ذكر الأماكن التي صلى فيها صلَّى الله عليه وسلَّم وهو ذاهب من المدينة إلى مكة في عمرته وحجته

قال البخاري باب المساجد التي على طرق المدينة، والمواضيع التي صلى فيها النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ حدثنا محمد ابن أبي بكر المقدمي قال‏:‏ ثنا فضيل بن سليمان قال‏:‏ ثنا موسى بن عقبة قال‏:‏ رأيت سالم بن عبد الله يتحرى أماكن من الطريق فيصلي فيها، ويحدث أن أباه كان يصلي فيها، وأنه رأى النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يصلي في تلك الأمكنة‏.‏

وحدثني نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يصلي في تلك الأمكنة، وسألت سالما فلا أعلمه إلا وافق نافعاً في الأمكنة كلها، إلا أنهما اختلفا في مسجد بشرف الروحاء‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/168‏)‏

قال‏:‏ حدثنا إبراهيم بن المنذر، ثنا أنس بن عياض قال‏:‏ ثنا موسى بن عقبة عن نافع أن عبد الله أخبره أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان ينزل بذي الحليفة حين يعتمر وفي حجته حين حج تحت سمرة في موضع المسجد الذي بذي الحليفة، وكان إذا رجع من غزو كان في تلك الطريق، أو في حج، أو عمرة هبط من بطن واد فإذا ظهر من بطن واد أناخ بالبطحاء التي على شفير الوادي الشرقية فعرس، ثم حتى يصبح ليس عند المسجد الذي بحجارة ولا على الأكمة التي عليها المسجد، كان ثم خليج يصلي عبد الله عنده في بطنه كثب كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ثم يصلي فدحى السيل فيه بالبطحاء حتَّى دفن ذلك المكان الذي كان عبد الله يصلي فيه، وأن عبد الله بن عمر حدثه‏:‏ أن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم صلى حيث المسجد الصغير الذي دون المسجد الذي بشرف الروحاء، وقد كان عبد الله يعلم المكان الذي كان صلى فيه النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، يقول‏:‏ ثم عن يمينك حين تقوم في المسجد تصلي، وذلك المسجد على حافة الطريق اليمنى وأنت ذاهب إلى مكة بينه وبين المسجد الأكبر رمية بحجر أو نحو ذلك، وأن ابن عمر كان يصلي إلى العرق الذي عند منصرف الروحاء، وذلك العرق انتهاء طرفه على حافة الطريق دون المسجد الذي بينه وبين المنصرف وأنت ذاهب إلى مكة، وقد ابتنى ثم مسجد فلم يكن عبد الله يصلي في ذلك المسجد، كان يتركه عن يساره ووراءه، ويصلي أمامه إلى العرق نفسه، وكان عبد الله يروح من الروحاء فلا يصلي الظهر حتَّى يأتي ذلك المكان فيصلي فيه الظهر، وإذا أقبل من مكة فإن مر به قبل الصبح بساعة أو من آخر السحر عرس حتَّى يصلي بها الصبح، وأن عبد الله حدثه أن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ كان ينزل تحت سرحة ضخمة دون الرويثة عن يمين الطريق ووجاه الطريق في مكان بطح سهل حتَّى يفضى من أكمة دوين بريد الرويثة بميلين وقد انكسر أعلاها، فانثنى في جوفها، وهي قائمة على ساق في ساقها كثب كثيرة، وأن عبد الله بن عمر حدثه‏:‏ أن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم صلى طرف تلعة من وراء العرج وأنت ذاهب إلى هضبة عند ذلك المسجد قبران أو ثلاثة، على القبور رضم من حجارة عن يمين الطريق عند سلمات الطريق، بين أولئك السلمات كان عبد الله يروح من العرج بعد أن تميل الشمس بالهاجرة، فيصلي الظهر في ذلك المسجد، وأن عبد الله بن عمر حدثه أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم نزل عند سرحات عن يسار الطريق في مسيل دون هرشى، ذلك المسيل لاصق بكراع هرشى بينه وبين الطريق قريب من غلوة، وكان عبد الله يصلى إلى سرحة هي أقرب السرحات إلى الطريق وهي أطولهن‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/169‏)‏

وأن عبد الله ابن عمر حدثة أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ كان ينزل في المسيل الذي في أدنى مر الظهران قبل المدينة حين يهبط من الصفراوات، ينزل في بطن ذلك المسيل عن يسار الطريق وأنت ذاهب إلى مكة ليس بين منزل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وبين الطريق إلا رمية بحجر، وأن عبد الله بن عمر حدثه‏:‏ أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان ينزل بذي طوى ويبيت حتَّى يصبح يصلي الصبح حين يقدم مكة، ومصلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ذلك على أكمة غليظة ليس في المسجد الذي بني ثم، ولكن أسفل من ذلك على أكمة غليظة وأن عبد الله حدثه‏:‏ أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم استقبل فرضتي الجبل الذي بينه وبين الجبل الطويل نحو الكعبة، فجعل المسجد الذي بني ثم يسار المسجد بطرف الأكمة، ومصلى النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أسفل منه على الأكمة السوداء تدع من الأكمة عشرة أذرع أو نحوها، ثم تصلي مستقبل الفرضتين من الجبل الذي بينك وبين الكعبة‏.‏

تفرَّد به البخاري رحمه الله بهذا الحديث بطوله وسياقه، إلا أن مسلماً روى منه عند قوله في آخره‏.‏

وأن عبد الله بن عمر حدثه‏:‏ أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان ينزل بذي طوى إلى آخر الحديث، عن محمد بن إسحاق المسيبي، عن أنس بن عياض، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر فذكره‏.‏

وقد رواه الإمام أحمد بطوله عن أبي قرة موسى بن طارق، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر به نحوه‏.‏

وهذه الأماكن لا يعرف اليوم كثيراً منها أو أكثرها، لأنه قد غُير أسماء أكثر هذه البقاع اليوم عند هؤلاء الأعراب الذين هناك، فإن الجهل قد غلب على أكثرهم، وإنما أوردها البخاري رحمه الله في كتابه لعل أحداً يهتدي إليها بالتأمل والتفرس والتوسم، أو لعل أكثرها أو كثيرا منها كان معلوماً في زمان البخاري، والله تعالى أعلم‏.‏

 باب دخول النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم إلى مكة شرفها الله عز وجل‏.‏

قال البخاري‏:‏ حدثنا مسدد، ثنا يحيى بن عبد الله، حدثني نافع عن ابن عمر قال‏:‏ بات النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم بذي طوى حتَّى أصبح، ثم دخل مكة وكان ابن عمر يفعله‏.‏

ورواه مسلم من حديث يحيى بن سعيد القطان به، وزاد‏:‏ حتَّى صلى الصبح، أو قال‏:‏ حتَّى أصبح‏.‏

وقال مسلم‏:‏ ثنا أبو الربيع الزهراني، ثنا حماد عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر كان لا يقدم مكة إلا بات بذي طوى حتَّى يصبح ويغتسل، ثم يدخل مكة نهاراً، ويذكر عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنه فعله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/170‏)‏

ورواه البخاري‏:‏ من حديث حماد بن زيد، عن أيوب به‏.‏

ولهما من طريق أخرى عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر كان إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية، ثم يبيت بذي طوى‏.‏

وذكره وتقدم آنفاً ما أخرجاه من طريق موسى بن عقبة عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يبيت بذي طوى حتَّى يصبح، فيصلي الصبح حين يقدم مكة، ومصلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عند أكمة غليظة، وأن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم استقبل فرضتي الجبل الذي بينه وبين الجبل الطويل نحو الكعبة، فجعل المسجد الذي بني ثم يسار المسجد بطرف الأكمة، ومصلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أسفل منه على الأكمة السوداء، يدع من الأكمة عشرة أذرع أو نحوها، ثم يصلي مستقبل الفرضتين من الجبل الذي بينك وبين الكعبة - أخرجاه في الصحيحين -‏.‏

وحاصل هذا كله أنه عليه السلام لما انتهى في مسيره إلى ذي طوى وهو قريب من مكة متاخم للحرم أمسك عن التلبية، لأنه قد وصل إلى المقصود، وبات بذلك المكان حتَّى أصبح فصلى هنالك الصبح في المكان الذي وصفوه بين فرضتي الجبل الطويل هنالك، ومن تأمل هذه الأماكن المشار إليها بعين البصيرة عرفها معرفة جيدة، وتعين له المكان الذي صلى فيه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ثم اغتسل صلوات الله وسلامه عليه لأجل دخول مكة، ثم ركب ودخلها نهاراً جهرة علانية من الثنية العليا التي بالبطحاء‏.‏

ويقال‏:‏ كذا ليراه النَّاس، ويشرف عليهم، وكذلك دخل منها يوم الفتح كما ذكرناه‏.‏

قال مالك عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم دخل مكة من الثنية العليا، وخرج من الثنية السفلى‏.‏

أخرجاه في الصحيحين من حديثه‏.‏

ولهما من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم دخل مكة من الثنية العليا التي في البطحاء، وخرج من الثنية السفلى‏.‏

ولهما أيضاً من حديث هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة مثل ذلك‏.‏

لما وقع بصره عليه السلام على البيت، قال ما رواه الشافعي في مسنده‏:‏ أخبرنا سعيد بن سالم عن ابن جريج أن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان إذا رأى البيت رفع يديه وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم زد هذا البيت تشريفاً، وتعظيماً، وتكريماً، ومهابة، وزد من شرفه وكرمه، فمن حجه واعتمره تشريفاً، وتكريماً، وتعظيماً، وبرَّاً‏)‏‏)‏‏.‏

قال الحافظ البيهقي‏:‏ هذا منقطع، وله شاهد مرسل عن سفيان الثوري، عن أبي سعيد الشامي، عن مكحول قال‏:‏ كان النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم إذا دخل مكة فرأى البيت رفع يديه وكبر وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم أنت السلام ومنك السلام، فحينا ربنا بالسلام، اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً وتكريماً ومهابة وبراً، وزد من حجه، أو اعتمره تكريماً وتشريفاً وتعظيماً وبراً‏)‏‏)‏‏.‏

وقال الشافعي‏:‏ أنبأنا سعيد بن سالم عن ابن جريج قال‏:‏ حدثت عن مقسم، عن ابن عبَّاس عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ترفع الأيدي في الصلاة، واذا رأى البيت، وعلى الصفا والمروة، وعشية عرفة، وبجُمَع، وعند الجمرتين، وعلى الميت‏)‏‏)‏‏.‏

قال الحافظ البيهقي‏:‏ وقد رواه محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عبَّاس، وعن نافع، عن ابن عمر مرة موقوفاً عليهما، ومرة مرفوعاً إلى النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم دون ذكر الميت‏.‏

قال‏:‏ وابن أبي ليلى هذا غير قوي، ثم إنه عليه السلام دخل المسجد من باب بني شيبة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/171‏)‏

قال الحافظ البيهقي‏:‏ روينا عن ابن جريج، عن عطاء ابن أبي رباح قال‏:‏ يدخل المحرم من حيث شاء قال‏:‏ ودخل النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم من باب بني شيبة، وخرج من باب بني مخزوم إلى الصفا‏.‏

ثم قال البيهقي‏:‏ وهذا مرسل جيد، وقد استدل البيهقي على استحباب دخول المسجد من باب بني شيبة، بما رواه من طريق أبي داود الطيالسي‏:‏ ثنا حماد بن سلمة وقيس بن سلام، كلهم عن سماك بن حرب، عن خالد بن عرعرة، عن علي رضي الله عنه قال‏:‏ لما انهدم البيت بعد جُرهم بنته قريش، فلما أرادوا وضع الحجر تشاجروا من يضعه فاتفقوا أن يضعه أول من يدخل من هذا الباب، فدخل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من باب بني شيبة، فأمر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بثوب فوضع الحجر في وسطه، وأمر كل فخذ أن يأخذوا بطائفة من الثوب، فرفعوه وأخذه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فوضعه، وقد ذكرنا هذا مبسوطاً في باب بناء الكعبة قبل البعثة‏.‏

وفي الاستدلال على استحباب الدخول من باب بني شيبة بهذا نظر، والله أعلم‏.‏

 صفة طوافه صلوات الله وسلامه عليه

قال البخاري‏:‏ حدثنا أصبغ بن الفرج عن ابن وهب، أخبرني عمرو بن محمد عن محمد بن عبد الرحمن قال‏:‏ ذكرت لعروة قال‏:‏ أخبرتني عائشة أن أول شيء بدأ به حين قدم النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنه توضأ ثم طاف، ثم لم تكن عمرة، ثم حج أبو بكر، وعمر مثله، ثم حججت مع أبي الزبير فأول شيء بدأ به الطواف، ثم رأيت المهاجرين والأنصار يفعلونه، وقد أخبرتني أمي أنها أهلت هي وأختها، والزبير، وفلان وفلان بعمرة، فلما مسحوا الركن حلوا‏.‏

هذا لفظه، وقد رواه في موضع آخر عن أحمد بن عيسى، ومسلم عن هارون بن سعيد، ثلاثتهم عن ابن وهب به‏.‏

وقولها‏:‏ ثم لم تكن عمرة، يدل على أنه عليه السلام لم يتحلل بين النسكين، ثم كان أول ما ابتدأ به عليه السلام استلام الحجر الأسود قبل الطواف، كما قال جابر‏:‏ حتَّى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثاً، ومشى أربعاً‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا محمد ابن كثير، ثنا سفيان عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عابس بن ربيعة، عن عمر أنه جاء إلى الحجر فقبله‏.‏

وقال‏:‏ إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقبِّلك ما قبَّلتك‏.‏

ورواه مسلم عن يحيى بن يحيى، وأبي بكر ابن أبي شيبة، وزهير بن حرب، وابن أبي نمير، جميعاً عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عابس بن ربيعة قال‏:‏ رأيت عمر يقبِّل الحجر، ويقول‏:‏ إني لأعلم أنك حجر لا تضر، ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقبِّلك، ما قبَّلتك‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن عبيد، وأبو معاوية قالا‏:‏ حدثنا الأعمش، عن إبراهيم بن عابس بن ربيعة، قال‏:‏ رأيت عمر أتى الحجر فقال‏:‏ أما والله لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله قبلك، ما قبلتك، ثم دنا فقبله‏.‏

فهذا السياق يقتضي أنه قال ما قال ثم قبله بعد ذلك؛ بخلاف سياق صاحبي الصحيح، فالله أعلم‏.‏

وقال أحمد‏:‏ ثنا وكيع ويحيى، واللفظ لوكيع عن هشام، عن أبيه أن عمر بن الخطاب أتى الحجر فقال‏:‏ إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك، وقال‏:‏ ثم قبله‏.‏

وهذا منقطع بين عروة بن الزبير، وبين عمر‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/172‏)‏

وقال البخاري أيضاً‏:‏ ثنا سعيد ابن أبي مريم، ثنا محمد بن جعفر ابن أبي كثير، أخبرني زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب قال للركن‏:‏ أما والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر، ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم استلمك ما استلمتك، فاستلمه‏.‏

ثم قال‏:‏ وما لنا والرمل، إنما كنا راءينا به المشركين، ولقد أهلكهم الله‏.‏

ثم قال‏:‏ شيء صنعه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فلا نحب أن نتركه‏.‏

وهذا يدل على أن الاستلام تأخَّر عن القول‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا أحمد بن سنان، ثنا يزيد بن هارون، ثنا ورقاء، ثنا زيد بن أسلم عن أبيه قال‏:‏ رأيت عمر بن الخطاب قبل الحجر وقال‏:‏ لولا أني رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقبلك ما قبلتك‏.‏

وقال مسلم بن الحجاج‏:‏ ثنا حرملة، ثنا ابن وهب، أخبرني يونس - هو‏:‏ ابن يزيد الأيلي - وعمرو - هو‏:‏ ابن دينار -، وحدثنا هارون بن سعيد الأيلي، أنبأنا ابن وهب، أخبرني عمرو عن ابن شهاب، عن سالم أن أباه حدثه أنه قال‏:‏ قبَّل عمر بن الخطاب الحجر ثم قال‏:‏ أما والله لقد علمت أنك حجر، ولولا أني رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقبلك ما قبلتك‏.‏

زاد هارون في روايته‏:‏ قال عمرو‏:‏ وحدثني بمثلها زيد بن أسلم عن أبيه أسلم - يعني‏:‏ عن عمر به -‏.‏

وهذا صريح في أن التقبيل يقدم على القول، فالله أعلم‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا عبد الرزاق، أنبأنا عبد الله عن نافع، عن ابن عمر أن عمر قبَّل الحجر ثم قال‏:‏ قد علمت أنك حجر، ولولا أني رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قبلك ما قبلتك‏.‏

هكذا رواه الإمام أحمد‏.‏

وقد أخرجه مسلم في صحيحه عن محمد ابن أبي بكر المقدمي، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر أن عمر قبَّل الحجر وقال‏:‏ إني لأقبلك، وإني لأعلم أنك حجر، ولكني رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقبلك‏.‏

ثم قال مسلم‏:‏ ثنا خلف ابن هشام، والمقدمي، وأبو كامل، وقتيبة، كلهم عن حماد قال خلف‏:‏ ثنا حماد بن زيد عن عاصم الأحول، عن عبد الله بن سرجس قال‏:‏ رأيت الأصلع - يعني‏:‏ عمر - يقبِّل الحجر ويقول‏:‏ والله إني لأقبلك وإني لأعلم أنك حجر، وأنك لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقبلك ما قبلتك‏.‏

وفي رواية المقدمي، وأبي كامل‏:‏ رأيت الأصلع، وهذا من أفراد مسلم دون البخاري‏.‏

وقد رواه الإمام أحمد عن أبي معاوية، عن عاصم الأحول، عن عبد الله بن سرجس به‏.‏

ورواه أحمد أيضاً عن غندر، عن شعبة، عن عاصم الأحول به‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان، عن إبراهيم بن عبد الأعلى، عن سويد بن غفلة قال‏:‏ رأيت عمر يقبل الحجر ويقول‏:‏ إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولكني رأيت أبا القاسم صلَّى الله عليه وسلَّم بك حفياً‏.‏

ثم رواه أحمد عن وكيع، عن سفيان الثوري به، وزاد‏:‏ فقبله والتزمه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/173‏)‏

وهكذا رواه مسلم من حديث عبد الرحمن بن مهدي بلا زيادة، ومن حديث وكيع بهذه الزيادة‏:‏ قبل الحجر والتزمه وقال‏:‏ رأيت رسول الله بك حفياً‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا عفان، ثنا وهيب، ثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير، عن ابن عبَّاس أن عمر بن الخطاب أكب على الركن وقال‏:‏ إني لأعلم أنك حجر، ولو لم أر حبيبي صلَّى الله عليه وسلَّم قبَّلك واستلمك، ما استلمتك ولا قبلتك ‏{‏لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ‏}‏‏[‏الأحزاب‏:‏ 21‏]‏‏.‏

وهذا اسناد جيد قوي ولم يخرِّجوه‏.‏

وقال أبو داود الطيالسي‏:‏ ثنا جعفر بن عثمان القرشي - من أهل مكة - قال‏:‏ رأيت محمد بن عباد بن جعفر قبَّل الحجر وسجد عليه ثم قال‏:‏ رأيت خالك ابن عبَّاس قبله، وسجد عليه‏.‏

وقال ابن عبَّاس‏:‏ رأيت عمر بن الخطاب قبله، وسجد عليه‏.‏

ثم قال عمر‏:‏ لو لم أر النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قبَّله ما قبَّلته‏.‏

وهذا أيضاً إسناد حسن، ولم يخرِّجه إلا النسائي عن عمرة بن عثمان، عن الوليد بن مسلم، عن حنظلة ابن أبي سفيان، عن طاوس، عن ابن عبَّاس، عن عمر، فذكر نحوه‏.‏

وقد روى هذا الحديث عن عمر الإمام أحمد أيضاً، من حديث يعلى بن أمية عنه‏.‏

وأبو يعلى الموصلي في مسنده من طريق هشام بن حشيش بن الأشقر عن عمر‏.‏

وقد أوردنا ذلك كله بطرقه وألفاظه، وعزوه، وعلله في الكتاب الذي جمعناه في مسند أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولله الحمد والمنة‏.‏

وبالجملة فهذا الحديث مروي من طرق متعددة عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهي تفيد القطع عند أكثر من أئمة هذا الشأن، وليس في هذه الروايات أنه عليه السلام سجد على الحجر، إلا ما أشعر به رواية أبي داود الطيالسي عن جعفر بن عثمان وليست صريحة في الرفع‏.‏

ولكن رواه الحافظ البيهقي من طريق أبي عاصم النَّبيّل، ثنا جعفر بن عبد الله قال‏:‏ رأيت محمد بن عباد بن جعفر قبل الحجر وسجد عليه‏.‏

ثم قال‏:‏ رأيت خالك ابن عبَّاس قبله وسجد عليه‏.‏

وقال ابن عبَّاس‏:‏ رأيت عمر قبله وسجد عليه‏.‏

ثم قال‏:‏ رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فعل هكذا، ففعلت‏.‏

وقال الحافظ البيهقي‏:‏ أنبأنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان، أنبأنا الطبراني، أنبأنا أبو الزنباع، ثنا يحيى بن سليمان الجعفي، ثنا يحيى بن يمان، ثنا سفيان ابن أبي حسين عن عكرمة، عن ابن عبَّاس قال‏:‏ رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم سجد على الحجر‏.‏

قال الطبراني‏:‏ لم يروه عن سفيان إلا يحيى بن يمان‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا مسدد، ثنا حماد عن الزبير بن عربي قال‏:‏ سأل رجل ابن عمر عن استلام الحجر‏.‏

قال‏:‏ رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يستلمه ويقبله‏.‏

قال‏:‏ أرأيت إن زحمت، أرأيت إن غلبت‏؟‏

قال‏:‏ اجعل أرأيت باليمن، رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يستلمه ويقبِّله‏.‏

تفرد به دون مسلم‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا مسدد، ثنا يحيى عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال‏:‏ ما تركت استلام هذين الركنين في شدة ولا رخاء، منذ رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يستلمها‏.‏

فقلت لنافع‏:‏ أكان ابن عمر يمشي بين الركنين‏؟‏

قال‏:‏ إنما كان يمشي ليكون أيسر لاستلامه‏.‏

وروى أبو داود والنسائي من حديث يحيى بن سعيد القطان عن عبد العزيز ابن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان لا يدع أن يستلم الركن اليماني والحجر في كل طوفة‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا أبو الوليد، ثنا ليث عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه قال‏:‏ لم أر النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يستلم من البيت إلا الركنين اليمانيين‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 5/174‏)‏

ورواه مسلم عن يحيى بن يحيى، وقتيبة عن الليث بن سعد به‏.‏

وفي رواية عنه أنه قال‏:‏ ما أرى النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ترك استلام الركنين الشاميين إلا أنهما لم يتمما على قواعد إبراهيم‏.‏

وقال البخاري‏:‏ وقال محمد بن بكر‏:‏ أنبأنا ابن جريج، أخبرني عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء أنه قال‏:‏ ومن يتقي شيئاً من البيت، وكان معاوية يستلم الأركان‏.‏

فقال له ابن عبَّاس‏:‏ إنه لا يستلم هذان الركنان‏.‏

فقال له‏:‏ ليس من البيت شيء مهجوراً‏.‏

وكان ابن الزبير يستلمهن كلهن‏.‏

انفرد بروايته البخاري رحمه الله تعالى‏.‏

وقال مسلم في صحيحه‏:‏ حدثني أبو الطاهر، ثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث أن قتادة بن دعامة حدَّثه‏:‏ أن أبا الطفيل البكري حدثه‏:‏ أنه سمع ابن عبَّاس يقول‏:‏ لم أر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يستلم غير الركنين اليمانيين‏.‏

انفرد به مسلم‏.‏

فالذي رواه ابن عمر موافق لما قاله ابن عبَّاس، أنه لا يستلم الركنان الشاميان لأنهما لم يتمما على قواعد إبراهيم، لأن قريشاً قصرت بهم النفقة فأخرجوا الحجر من البيت حين بنوه كما تقدم بيانه‏.‏

وود النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أن لو بناه فتممه على قواعد إبراهيم، ولكن خشي من حداثة عهد النَّاس بالجاهلية فتنكره قلوبهم، فلما كانت إمرة عبد الله بن الزبير هدم الكعبة وبناها على ما أشار إليه صلَّى الله عليه وسلَّم، كما أخبرته خالته أم المؤمنين عائشة بنت الصديق، فإن كان ابن الزبير استلم الأركان كلها بعد بنائه إياها على قواعد إبراهيم فحسن جداً، وهو والله المظنون به‏.‏

وقال أبو داود‏:‏ ثنا مسدد، ثنا يحيى عن عبد العزيز ابن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر قال‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لا يدع أن يستلم الركن اليماني والحِجر في كل طوافه‏.‏

ورواه النسائي عن محمد بن المثنى، عن يحيى‏.‏

وقال النسائي‏:‏ ثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي، ثنا يحيى بن سعيد القطان عن ابن جريج، عن يحيى بن عبيد الله، عن أبيه، عن عبد الله بن السائب قال‏:‏ سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول بين الركن اليماني والحِجر‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 201‏]‏‏.‏

ورواه أبو داود عن مسدد، عن عيسى بن يونس، عن ابن جريج به‏.‏

وقال التِّرمذي‏:‏ ثنا محمود بن غيلان، ثنا يحيى بن آدم، ثنا سفيان عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر قال‏:‏ لما قدم النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم مكة دخل المسجد فاستلم الحِجر، ثم مضى على يمينه فرمل ثلاثاً، ومشى أربعاً، ثم أتى المقام فقال‏:‏ ‏{‏وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 125‏]‏‏.‏ فصلى ركعتين والمقام بينه وبين البيت، ثم أتى الحِجر بعد الركعتين فاستلمه، ثم خرج إلى الصفا أظنه قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ‏}‏‏.‏

هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم‏.‏

وهكذا رواه إسحاق بن راهويه، عن يحيى بن آدم‏.‏

ورواه الطبراني عن النسائي، وغيره، عن عبد الأعلى بن واصل، عن يحيى بن آدم به‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/175‏)‏

 ذكر رمله عليه السلام في طوافه واضطباعه

قال البخاري‏:‏ حدثنا أصبغ بن الفرج، أخبرني ابن وهب عن يونس، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه قال‏:‏ رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حين يقدم مكة إذا استلم الركن الأسود، أول ما يطوف يخبُّ ثلاثة أشواط من السبع‏.‏

ورواه مسلم عن أبي الطاهر بن السرح، وحرملة، كلاهما عن ابن وهب به‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا محمد بن سلام، ثنا شريح بن النعمان، ثنا فليح عن نافع، عن ابن عمر قال‏:‏ سعى النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ثلاثة أشواط، ومشى أربعة في الحج والعمرة‏.‏ - تابعه الليث -‏.‏

حدثني كثير بن فرقد عن نافع، عن ابن عمر، عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏ انفرد به البخاري‏.‏

وقد روى النسائي عن محمد وعبد الرحمن ابني عبد الله بن عبد الحكم، كلاهما عن شعيب بن الليث، عن أبيه الليث بن سعد، عن كثير بن فرقد، عن نافع، عن ابن عمر به‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا إبراهيم بن المنذر، ثنا أبو ضمرة أنس بن عياض، ثنا موسى بن عقبة عن نافع، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان اذا طاف في الحج أو العمرة أول ما يقدم سعى ثلاثة أطواف، ومشى أربعة، ثم سجد سجدتين، ثم يطوف بين الصفا والمروة‏.‏

ورواه مسلم من حديث موسى بن عقبة‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا إبراهيم بن المنذر، ثنا أنس عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول يخب ثلاثة أطواف ويمشي أربعة، وأنه كان يسعى بطن المسيل إذا طاف بين الصفا والمروة‏.‏

ورواه مسلم من حديث عبيد الله بن عمر‏.‏

قال مسلم‏:‏ أنبأنا عبد الله بن عمر بن أبان الجعفي، أنبأنا ابن المبارك، أنبأنا عبيد الله عن نافع، عن ابن عمر قال‏:‏ رمل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من الحِجر إلى الحِجر ثلاثاً، ومشى أربعاً‏.‏

ثم رواه من حديث سليم بن أخضر عن عبيد الله بنحوه‏.‏

وقال مسلم أيضاً‏:‏ حدثني أبو طاهر، حدثني عبد الله بن وهب، أخبرني مالك وابن جريج عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم رمل ثلاثة أشواط من الحِجر إلى الحِجر‏.‏

وقال عمر بن الخطاب‏:‏ فيمَ الرملان والكشف عن المناكب، وقد أطد الله الإسلام ونفى الكفر، ومع ذلك لا نترك شيئاً كنا نفعله مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والبيهقي من حديث هشام بن سعيد عن زيد بن أسلم، عن أبيه عنه‏.‏

وهكذا كله ردّ على ابن عبَّاس، ومن تابعه من أن المرسل ليس بسنة، لأن رسول الله إنما فعله لما قدم هو وأصحابه صبيحة رابعة - يعني‏:‏ في عمرة القضاء -‏.‏

وقال المشركون‏:‏ إنه يقدم عليكم وفد وهنتهم حمى يثرب، فأمرهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا ما بين الركنين، ولم يمنعهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا خشية الإبقاء عليهم‏.‏

وهذا ثابت عنه في الصحيحين، وتصريحه لعذر سببه في صحيح مسلم أظهر، فكان ابن عبَّاس ينكر وقوع الرمل في حجة الوداع‏.‏

وقد صح بالنقل الثابت كما تقدم بل فيه زيادة تكميل الرمل من الحِجر إلى الحِجر، ولم يمش ما بين الركنين اليمانيين لزوال تلك العلة المشار إليها، وهي الضعف‏.‏

وقد ورد في الحديث الصحيح عن ابن عبَّاس أنهم رملوا في عمرة الجعرانة واضطبعوا، وهو رد عليه، فإن عمرة الجعرانة لم يبق في أيامها خوف، لأنها بعد الفتح كما تقدم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/176‏)‏

رواه حماد بن سلمة عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبَّاس أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة فرملوا بالبيت واضطبعوا، ووضعوا أرديتهم تحت آباطهم وعلى عواتقهم‏.‏

ورواه أبو داود من حديث حماد بنحوه‏.‏

ومن حديث عبد الله بن خثيم عن أبي الطفيل، عن ابن عبَّاس به‏.‏

فأما الاضطباع في حجة الوداع، فقد قال قبيصة والفريابي عن خثيم، عن أبي الطفيل، عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة، عن يعلى بن أمية، عن أمية قال‏:‏ رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يطوف بالبيت مضطبعاً‏.‏

رواه التِّرمذي من حديث الثوري وقال‏:‏ حسن صحيح‏.‏

وقال أبو داود‏:‏ ثنا محمد بن كثير، ثنا سفيان عن ابن جريج، عن ابن يعلى، عن أبيه قال‏:‏ طاف رسول الله مضطبعاً برداءٍ أخضر‏.‏

وهكذا رواه الإمام أحمد عن وكيع، عن الثوري، عن ابن جريج، عن ابن يعلى، عن أبيه أن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم لما قدم طاف بالبيت وهو مضطبع، ببرد له أخضر‏.‏

وقال جابر في حديثه المتقدم‏:‏ حتَّى إذا أتينا البيت معه، استلم الركن فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ‏:‏ ‏{‏وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى‏}‏‏[‏البقرة‏:‏ 125‏]‏‏.‏

فجعل المقام بينه وبين البيت، فذكر أنه صلى ركعتين قرأ فيهما‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏، و‏{‏قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ‏}‏‏.‏

فإن قيل‏:‏ فهل كان عليه السلام في هذا الطواف راكباً أو ماشياً‏؟‏‏.‏

فالجواب‏:‏ أنه قد ورد نقلان، قد يظن أنهما متعارضان، ونحن نذكرهما، ونشير إلى التوفيق بينهما، ورفع اللبس عند من يتوهم فيهما تعارضاً، وبالله التوفيق وعليه الاستعانة، وهو حسبنا ونعم الوكيل‏.‏

قال البخاري رحمه الله‏:‏ حدثنا أحمد بن صالح، ويحيى بن سليمان قالا‏:‏ ثنا ابن وهب، أخبرني يونس عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عبَّاس قال‏:‏ طاف النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم على بعيره في حجة الوداع يستلم الركن بمحجن‏.‏

وأخرجه بقية الجماعة إلا التِّرمذي من طرق عن ابن وهب‏.‏

قال البخاري‏:‏ تابعه الدراوردي عن ابن أخي الزُّهري، عن عمه، وهذه المتابعة غريبة جداً‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا محمد بن المثنى، ثنا عبد الوهاب، ثنا خالد الحذاء عن عكرمة، عن ابن عبَّاس قال‏:‏ طاف النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم بالبيت على بعير، كلما أتى الركن أشار إليه‏.‏

وقد رواه التِّرمذي من حديث عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، وعبد الوارث، كلاهما عن خالد بن مهران الحذَّاء، عن عكرمة، عن ابن عبَّاس، قال‏:‏ طاف رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على راحلته، فإذا انتهى إلى الركن أشار إليه‏.‏

وقال‏:‏ حسن صحيح‏.‏

ثم قال البخاري‏:‏ ثنا مسدد، ثنا خالد بن عبد الله عن خالد الحذَّاء، عن عكرمة، عن ابن عبَّاس قال‏:‏ طاف النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم بالبيت على بعير، فلما أتى الركن أشار إليه بشيء كان عنده، وكبَّر‏.‏

تابعه إبراهيم بن طهمان عن خالد الحذَّاء، وقد أسند هذا التعليق ها هنا في كتاب الطواف عن عبد الله بن محمد، عن أبي عامر، عن إبراهيم بن طهمان به‏.‏

وروى مسلم عن الحكم بن موسى، عن شعيب بن إسحاق، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم طاف في حجة الوداع حول الكعبة على بعير، يستلم الركن كراهية أن يضرب عنه النَّاس‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/177‏)‏

فهذا إثبات أنه عليه السلام طاف في حجة الوداع على بعير، ولكن حجة الوداع كان فيها ثلاثة أطواف‏:‏

الأول‏:‏ طواف القدوم‏.‏

والثاني‏:‏ طواف الإفاضة وهو طواف الفرض، وكان يوم النحر‏.‏

والثالث‏:‏ طواف الوداع‏.‏

فلعل ركوبه صلَّى الله عليه وسلَّم كان في أحد الآخرين أو في كليهما‏.‏

فأما الأول‏:‏ وهو طواف القدوم فكان ماشياً فيه، وقد نصَّ الشافعي على هذا كله، والله أعلم وأحكم‏.‏

والدليل على ذلك‏:‏ ما قال الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه ‏(‏السنن الكبير‏)‏‏:‏ أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو بكر محمد بن المؤمل بن الحسن بن عيسى، ثنا الفضل بن محمد بن المسيب، ثنا نعيم بن حماد، ثنا عيسى بن يونس عن محمد بن إسحاق هو ابن يسار رحمه الله عن أبي جعفر وهو محمد بن علي بن الحسين، عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ دخلنا مكة عند ارتفاع الضحى، فأتى النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم باب المسجد، فأناخ راحلته ثم دخل المسجد، فبدأ بالحجر فاستلمه وفاضت عيناه بالبكاء، ثم رمل ثلاثاً ومشى أربعاً حتَّى فرغ، فلما فرغ قبَّل الحجر ووضع يده عليه، ومسح بهما وجهه‏.‏ وهذا إسناد جيد‏.‏

فأما ما رواه أبو داود‏:‏ حدثنا مسدد، ثنا خالد بن عبد الله، ثنا يزيد ابن أبي زياد عن عكرمة، عن ابن عبَّاس أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قدم مكة وهو يشتكي، فطاف على راحلته، فلما أتى على الركن استلمه بمحجن، فلما فرغ من طوافه أناخ فصلى ركعتين‏.‏

تفرَّد به يزيد ابن أبي زياد، وهو ضعيف، ثم لم يذكر أنه في حجة الوداع، ولا ذكر أنه في الطواف الأول من حجة الوداع، ولم يذكر ابن عبَّاس في الحديث الصحيح عنه عند مسلم، وكذا جابر أن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ركب في طوافه لضعفه، وإنما ذكر لكثرة النَّاس وغشيانهم له، وكان لا يحب أن يضربوا بين يديه، كما سيأتي تقريره قريباً إن شاء الله‏.‏

ثم هذا التقبيل الثاني الذي ذكره ابن إسحاق في روايته بعد الطواف، وبعد ركعتيه أيضاً، ثابت في صحيح مسلم من حديث جابر‏.‏

قال فيه بعد ذكر صلاة ركعتي الطواف‏:‏ ثم رجع إلى الركن فاستلمه‏.‏

وقد قال مسلم بن الحجاج في صحيحه‏:‏ حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة وابن نمير جميعاً عن أبي خالد قال أبو بكر‏:‏ حدثنا أبو خالد الأحمر عن عبيد الله، عن نافع قال‏:‏ رأيت ابن عمر يستلم الحجر بيده ثم قبَّل يده قال‏:‏ وما تركته منذ رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يفعله‏.‏

فهذا يحتمل‏:‏ أنه رأى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في بعض الطوافات، أو في آخر استلام فعل هذا لما ذكرنا‏.‏

أو أن ابن عمر لم يصل إلى الحجر لضعف كان به، أو لئلا يزاحم غيره فيحصل لغيره أذى به‏.‏

وقد قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لوالده ما رواه أحمد في مسنده‏:‏ حدثنا وكيع، ثنا سفيان عن أبي يعفور العبدي قال‏:‏ سمعت شيخاً بمكة في إمارة الحجاج يحدِّث عن عمر بن الخطاب، أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا عمر إنك رجل قوي لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف، إن وجدت خلوة فاستلمه، وإلا فاستقبله وكبِّر‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا إسناد جيد، لكن راويه عن عمر مبهم لم يسمَّ‏.‏

والظاهر‏:‏ أنه ثقة جليل، فقد رواه الشافعي عن سفيان بن عيينة، عن أبي يعفور العبدي، واسمه‏:‏ وقدان سمعت رجلاً من خزاعة حين قتل ابن الزبير، وكان أميراً على مكة يقول‏:‏ قال رسول الله لعمر‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أبا حفص إنك رجل قوي، فلا تزاحم على الركن، فإنك تؤذي الضعيف، ولكن إن وجدت خلوة فاستلمه، وإلا فكبِّر وامض‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/178‏)‏

قال سفيان بن عيينة - هو عبد الرحمن بن الحارث -‏:‏ كان الحجاج استعمله عليها منصرفه منها حين قتل ابن الزبير‏.‏

قلت‏:‏ وقد كان عبد الرحمن هذا جليلاً نبيلاً كبير القدر، وكان أحد النفر الأربعة الذين ندبهم عثمان بن عفان في كتابة المصاحف التي نفذها إلى الآفاق، ووقع ما فعله الاجماع والاتفاق‏.‏

 ذكر طوافه صلَّى الله عليه وسلَّم بين الصفا والمروة

روى مسلم في صحيحه عن جابر في حديثه الطويل المتقدم بعد ذكره طوافه عليه السلام بالبيت سبعاً، وصلاته عند المقام ركعتين قال‏:‏ ثم رجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ‏}‏ أبدأ بما بدأ الله به‏)‏‏)‏‏.‏

فبدأ بالصفا فرقي عليه حتَّى رأى البيت، فاستقبل القبلة، فوحَّد الله وكبَّره وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده‏)‏‏)‏‏.‏

ثم دعا بين ذلك فقال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل حتَّى إذا انصبت قدماه في الوادي رمل، حتَّى إذا صعد مشى حتَّى أتى المروة، فرقي عليها حتَّى نظر إلى البيت، فقال عليها كما قال على الصفا‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا عمر بن هارون البلخي أبو حفص، ثنا ابن جريج عن بعض بني يعلى بن أمية، عن أبيه قال‏:‏ رأيت النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم مضطبعاً بين الصفا والمروة ببرد له نجراني‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا يونس، ثنا عبد الله بن المؤمل عن عمر بن عبد الرحمن، ثنا عطية عن حبيبة بنت أبي تجراة قالت‏:‏ دخلت دار حصين في نسوة من قريش، والنَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يطوف بين الصفا والمروة قالت‏:‏ وهو يسعى يدور به إزاره من شدة السعي، وهو يقول لأصحابه‏:‏ ‏(‏‏(‏اسعوا إن الله كتب عليكم السعي‏)‏‏)‏‏.‏

وقال أحمد أيضاً‏:‏ ثنا شريح، ثنا عبد الله بن المؤمل، ثنا عطاء ابن أبي رباح عن صفية بنت شيبة، عن حبيبة بنت أبي تجراة قالت‏:‏ رأيت النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يطوف بين الصفا والمروة، والنَّاس بين يديه وهو وراءهم، وهو يسعى حتَّى أرى ركبتيه من شدة السعي يكور به إزاره وهو يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي‏)‏‏)‏‏.‏

تفرَّد به أحمد‏.‏

وقد رواه أحمد أيضاً عن عبد الرزاق، عن معمر، عن واصل مولى أبي عيينة، عن موسى بن عبيدة، عن صفية بنت شيبة أن امرأة أخبرتها أنها سمعت النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم بين الصفا والمروة يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏كتب عليكم السعي فاسعوا‏)‏‏)‏‏.‏

وهذه المرأة هي‏:‏ حبيبة بنت أبي تجراة، المصرح بذكرها في الإسنادين الأولين‏.‏

وعن أم ولد شيبة بن عثمان أنها أبصرت النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وهو يسعى بين الصفا والمروة، وهو يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يقطع الأبطح إلا شداً‏)‏‏)‏‏.‏ رواه النسائي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/179‏)‏

والمراد بالسعي هاهنا هو‏:‏ الذهاب من الصفا إلى المروة ومنها إليها، وليس المراد بالسعي ههنا الهرولة والإسراع، فإن الله لم يكتبه علينا حتماً، بل لو مشى الانسان على هينة في السبع الطوافات بينهما، ولم يرمل في المسير، أجزأه ذلك عند جماعة العلماء لا نعرف بينهم اختلافاً في ذلك‏.‏

وقد نقله التِّرمذي رحمه الله عن أهل العلم‏.‏

ثم قال‏:‏ ثنا يوسف بن عيسى، ثنا ابن فضيل عن عطاء بن السائب، عن كثير بن جهمان قال‏:‏ رأيت ابن عمر يمشي في المسعى فقلت‏:‏ أتمشي في السعي بين الصفا والمروة‏؟‏

فقال‏:‏ لئن سعيت فقد رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يسعى، ولئن مشيت لقد رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يمشي، وأنا شيخ كبير‏.‏

ثم قال‏:‏ هذا حديث حسن صحيح‏.‏

وقد روى سعيد بن جبير عن ابن عبَّاس نحو هذا‏.‏

وقد رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه من حديث عطاء بن السائب عن كثير بن جهمان السلمي الكوفي، عن ابن عمر‏.‏

فقول ابن عمر‏:‏ أنه شاهد الحالين منه صلَّى الله عليه وسلَّم يحتمل شيئين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه رآه يسعى في وقت ماشياًلم يمزجه برمل فيه بالكلية‏.‏

والثاني‏:‏ أنه رآه يسعى في بعض الطريق، ويمشي في بعضه، وهذا له قوة لأنه قد روى البخاري ومسلم من حديث عبيد الله بن عمر العمري عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يسعى بطن المسيل إذا طاف بين الصفا والمروة‏.‏

وتقدم في حديث جابر أنه عليه السلام نزل من الصفا، فلما انصبت قدماه في الوادي، رمل حتَّى إذا صعد مشى حتَّى أتى المروة‏.‏

وهذا هو الذي تستحبه العلماء قاطبة أن الساعي بين الصفا والمروة، - وتقدم في حديث جابر - يستحب له أن يرمل في بطن الوادي في كل طوافه في بطن المسيل الذي بينهما، وحددوا ذلك بما بين الأميال الخضر فواحد مفرد من ناحية الصفا مما يلي المسجد، واثنان مجتمعان من ناحية المروة مما يلي المسجد أيضاً‏.‏

وقال بعض العلماء‏:‏ ما بين هذه الأميال اليوم أوسع من بطن المسيل الذي رمل فيه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فالله أعلم‏.‏

وأما قول محمد بن حزم في الكتاب الذي جمعه في حجة الوداع‏:‏ ثم خرج عليه السلام إلى الصفا فقرأ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ‏}‏ أبدأ بما بدأ الله به، فطاف بين الصفا والمروة أيضاً سبعاً راكباً على بعير يخب ثلاثاً، ويمشي أربعاً، فإنه لم يتابع على هذا القول، ولم يتفوه به أحد قبله من أنه عليه السلام خبَّ ثلاثة أشواط بين الصفا والمروة ومشى أربعاً، ثم مع هذا الغلط الفاحش لم يذكر عليه دليلاً بالكلية، بل لما انتهى إلى موضع الاستدلال عليه قال‏:‏ ولم نجد عدد الرمل بين الصفا والمروة منصوصاً، ولكنه متفق عليه هذا لفظه‏.‏

فإن أراد بأن الرمل في الثلاث التطوافات الأول على ما ذكر متفق عليه فليس بصحيح، بل لم يقله أحد‏.‏

وإن أراد أن الرمل في الثلاث الأول في الجملة متفق عليه، فلا يجدي له شيئاً ولا يحصل له شيئاً مقصوداً، فإنهم كما اتفقوا على الرمل في الثلاث الأول في بعضها على ما ذكرناه، كذلك اتفقوا على استحبابه في الأربع الأخر أيضاً، فتخصيص ابن حزم الثلاث الأول باستحباب الرمل فيها مخالف لما ذكره العلماء، والله أعلم‏.‏

وأما قول ابن حزم‏:‏ أنه عليه السلام كان راكباً بين الصفا والمروة‏.‏

فقد تقدم عن ابن عمر أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يسعى بطن المسيل - أخرجاه -‏.‏

وللترمذي عنه‏:‏ إن أسعى فقد رأيت رسول الله يسعى، وإن مشيت فقد رأيت رسول الله يمشي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/180‏)‏

وقال جابر‏:‏ فلما انصبت قدماه في الوادي رمل، حتَّى إذا صعد مشى - رواه مسلم -‏.‏

وقالت حبيبة بنت أبي مجراة‏:‏ يسعى يدور به إزاره من شدة السعي - رواه أحمد -‏.‏

وفي صحيح مسلم عن جابر كما تقدم أنه رقي على الصفا حتَّى رأى البيت، وكذلك على المروة‏.‏

وقد قدَّمناه من حديث محمد بن إسحاق عن أبي جعفر الباقر، عن جابر أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أناخ بعيره على باب المسجد - يعني‏:‏ حتَّى طاف -، ثم لم يذكر أنه ركبه حال ما خرج إلى الصفا، وهذا كله مما يقتضي أنه عليه السلام سعى بين الصفا والمروة ماشياً‏.‏

ولكن قال مسلم‏:‏ ثنا عبد بن حميد، ثنا محمد - يعني‏:‏ ابن بكر -، أنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول‏:‏ طاف النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم في حجة الوداع على راحلته بالبيت، وبين الصفا والمروة على بعير ليراه النَّاس وليشرف وليسألوه فإن النَّاس غشوه، ولم يطف النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ولا أصحابه بين الصفا والمروة، إلا طوافاً واحداً‏.‏

ورواه مسلم أيضاً عن أبي بكر ابن أبي شيبة، عن علي بن مسهر، وعن علي بن خشرم، عن عيسى بن يونس، وعن محمد بن حاتم، عن يحيى بن سعيد، كلهم عن ابن جريج به، وليس في بعضها‏:‏ وبين الصفا والمروة‏.‏

وقد رواه أبو داود عن أحمد بن حنبل، عن يحيى بن سعيد القطان، عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول‏:‏ طاف النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم في حجة الوداع على راحلته بالبيت وبين الصفا والمروة‏.‏

ورواه النسائي عن الفلاس، عن يحيى، وعن عمران بن يزيد عن سعيد بن إسحاق، كلاهما عن ابن جريج به‏.‏

فهذا محفوظ من حديث ابن جريج، وهو مشكل جداً، لأن بقية الروايات عن جابر وغيره تدل على أنه عليه السلام كان ماشياً بين الصفا والمروة، وقد تكون رواية أبي الزبير لهذه الزيادة، وهي قوله‏:‏ وبين الصفا والمروة، مقحمة أو مدرجة ممن بعد الصحابي، والله أعلم‏.‏

أو أنه عليه السلام طاف بين الصفا والمروة بعض الطوفان على قدميه، وشوهد منه ما ذكر فلما ازدحم النَّاس عليه وكثروا، ركب كما يدل عليه حديث ابن عبَّاس الآتي قريباً، وقد سلم ابن حزم أن طوافه الأول بالبيت كان ماشياً، وحمل ركوبه في الطواف على ما بعد ذلك، وادعى أنه كان راكباً في السعي بين الصفا والمروة قال‏:‏ لأنه لم يطف بينهما الا مرة واحدة، ثم تأوَّل قول جابر‏:‏ حتَّى إذا انصبت قدماه في الوادي رمل، بأنه لم يصدق ذلك وإن كان راكباً، فإنه إذا انصب بعيره فقد انصب كله، وانصبت قدماه مع سائر جسده‏.‏

قال‏:‏ وكذلك ذكر الرمل - يعني به‏:‏ رمل الدابة براكبها -، وهذا التأويل بعيد جداً، والله أعلم‏.‏

وقال أبو داود‏:‏ ثنا أبو سلمة موسى، ثنا حماد، أنبأنا أبو عاصم الغنوي عن أبي الطفيل قال‏:‏ قلت لابن عبَّاس‏:‏ يزعم قومك أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قد رمل بالبيت، وأن ذلك من سنته‏.‏

قال‏:‏ صدقوا وكذبوا‏.‏

فقلت‏:‏ ما صدقوا وما كذبوا‏؟‏

قال‏:‏ صدقوا رمل رسول الله، وكذبوا ليس بسنة إن قريشاً قالت زمن الحديبية‏:‏ دعوا محمداً وأصحابه حتَّى يموتوا موت النغف، فلما صالحوه على أن يحجوا العام المقبل فيقيموا بمكة ثلاثة أيام، فقدم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم والمشركون من قبل قعيقعان‏.‏

فقال رسول الله لأصحابه‏:‏ ‏(‏‏(‏ارملوا بالبيت ثلاثاً وليس بسنة‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ يزعم قومك أن رسول الله طاف بين الصفا والمروة على بعير، وأن ذلك سنة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/181‏)‏

قال‏:‏ صدقوا وكذبوا‏.‏

قلت‏:‏ ما صدقوا وما كذبوا‏.‏

قال‏:‏ صدقوا، قد طاف رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بين الصفا والمروة على بعير، وكذبوا ليست بسنة، كان النَّاس لا يدفعون عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ولا يصرفون عنه، فطاف على بعير ليسمعوا كلامه، وليروا مكانه، ولا تناله أيديهم‏.‏

هكذا رواه أبو داود‏.‏

وقد رواه مسلم عن أبي كامل، عن عبد الواحد بن زياد، عن الجريري، عن أبي الطفيل، عن ابن عبَّاس، فذكر فضل الطواف بالبيت بنحو ما تقدم‏.‏

ثم قال‏:‏ قلت لابن عبَّاس‏:‏ أخبرني عن الطواف بين الصفا والمروة راكباً، أسنة هو فإن قومك يزعمون أنه سنة‏؟‏

قال‏:‏ صدقوا وكذبوا‏.‏

قلت‏:‏ فما قولك‏:‏ صدقوا وكذبوا‏؟‏

قال‏:‏ إن رسول الله كثر عليه النَّاس يقولون‏:‏ هذا محمد، هذا محمد، حتَّى خرج العواتق من البيوت، وكان رسول الله لا يضرب النَّاس بين يديه، فلما كثر عليه النَّاس ركب‏.‏

قال ابن عبَّاس‏:‏ والمشي والسعي أفضل‏.‏

هذا لفظ مسلم، وهو يقتضي أنه إنما ركب في أثناء الحال، وبه يحصل الجمع بين الأحاديث، والله أعلم‏.‏

وأما ما رواه مسلم في صحيحه حيث قال‏:‏ ثنا محمد بن رافع، ثنا يحيى بن آدم، ثنا زهير عن عبد الملك بن سعيد، عن أبي الطفيل قال‏:‏ قلت لابن عبَّاس‏:‏ أراني قد رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

قال‏:‏ فصفه لي‏.‏

قلت‏:‏ رأيته عند المروة على ناقة، وقد كثر النَّاس عليه‏.‏

فقال ابن عبَّاس‏:‏ ذاك رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إنهم كانوا لا يضربون عنه، ولا يكرهون‏.‏

فقد تفرَّد به مسلم، وليس فيه دلالة على أنه عليه السلام سعى بين الصفا والمروة راكباً إذ لم يقيد ذلك بحجة الوداع ولا غيرها، وبتقدير أن يكون ذلك في حجة الوداع، فمن الجائز أنه عليه السلام بعد فراغه من السعي وجلوسه على المروة، وخطبته النَّاس، وأمره إياهم من لم يسق الهدي منهم أن يفسخ الحج إلى العمرة، فحل النَّاس كلهم، إلا من ساق الهدي - كما تقدم في حديث جابر -، ثم بعد هذا كله أتى بناقته فركبها، وسار إلى منزله بالأبطح - كما سنذكره قريباً - وحينئذ رآه أبو الطفيل عامر بن واثلة البكري، وهو معدود في صغار الصحابة‏.‏

قلت‏:‏ قد ذهب طائفة من العراقيين‏:‏ كأبي حنيفة وأصحابه، والثوري، إلى أن القارن يطوف طوافين، ويسعى سعيين، وهو مروي عن علي وابن مسعود ومجاهد والشعبي‏.‏

ولهم أن يحتجوا بحديث جابر الطويل، ودلالة على أنه سعى بين الصفا والمروة ماشياً، وحديثه هذا أن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم سعى بينهما راكباً على تعداد الطواف بينهما مرة ماشياً، ومرة راكباً‏.‏

وقد روى سعيد بن منصور في سند عن علي رضي الله عنه أنه أهلَّ بحجة وعمرة، فلما قدم مكة طاف بالبيت وبالصفا والمروة لعمرته، ثم عاد فطاف بالبيت وبالصفا والمروة لحجته، ثم أقام حراماً إلى يوم النحر - هذا لفظه -‏.‏

ورواه أبو ذر الهروي في مناسكه عن علي أنه جمع بين الحج والعمرة، فطاف لهما طوافين، وسعى لهما سعيين وقال‏:‏ هكذا رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فعل‏.‏

وكذلك رواه البيهقي، والدارقطني، والنسائي في ‏(‏خصائص علي‏)‏ فقال البيهقي في سننه‏:‏ أنبانا أبو بكر ابن الحارث الفقيه، أنبأنا علي بن عمر الحافظ، أنبانا أبو محمد بن صاعد، ثنا محمد بن زنبور، ثنا فضيل بن عياض عن منصور، عن إبراهيم، عن مالك بن الحارث، أو منصور عن مالك بن الحارث، عن أبي نصر قال‏:‏ لقيت علياً، وقد أهللت بالحج وأهلَّ هو بالحج والعمرة‏.‏

فقلت‏:‏ هل أستطيع أن أفعل كما فعلت‏؟‏

قال‏:‏ ذلك لو كنت بدأت بالعمرة‏.‏

قلت‏:‏ كيف أفعل إذا أردت ذلك‏؟‏

قال‏:‏ تأخذ إداوة من ماء فتفيضها عليك، ثم تهل بهما جميعاً، ثم تطوف لهما طوافين، وتسعى لهما سعيين، ولا يحل لك حرام دون يوم النحر‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏5/182‏)‏

قال منصور‏:‏ فذكرت ذلك لمجاهد‏.‏

قال‏:‏ ما كنا نفيء إلا بطواف واحد، فأما الآن فلا نفعل‏.‏

قال الحافظ البيهقي‏:‏ وقد رواه سفيان بن عيينة، وسفيان الثوري، وشعبة عن منصور فلم يذكر فيه السعي‏.‏

قال‏:‏ وأبو نصر هذا مجهول، وإن صح فيحتمل أنه أراد طواف القدوم وطواف الزيارة‏.‏

قال‏:‏ وقد روي بأسانيد أخر عن علي مرفوعاً وموقوفاً، ومدارها على الحسن بن عمارة، وحفص ابن أبي داود، وعيسى بن عبد الله، وحماد بن عبد الرحمن وكلهم ضعيف، لا يحتج بشيء مما رووه في ذلك، والله أعلم‏.‏

قلت‏:‏ والمنقول في الأحاديث الصحاح خلاف ذلك، فقد قدمنا عن ابن عمر في صحيح البخاري أنه أهلَّ بعمرة وأدخل عليها الحج فصار قارناً، وطاف لهما طوافاً واحداً بين الحج والعمرة وقال‏:‏ هكذا فعل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وقد روى التِّرمذي، وابن ماجه، والبيهقي من حديث الدراوردي عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏من جمع بين الحج والعمرة طاف لهما طوافاً واحداً، وسعى لهما سعياً واحداً‏)‏‏)‏‏.‏

قال التِّرمذي‏:‏ وهذا حديث حسن غريب‏.‏

قلت‏:‏ إسناده على شرط مسلم‏.‏

وهكذا جرى لعائشة أم المؤمنين، فإنها كانت ممن أهلَّ بعمرة لعدم سوق الهدي معها، فلما حاضت أمرها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن تغتسل وتهل بحج مع عمرتها فصارت قارنة، فلما رجعوا من منى طلبت أن يعمرها بعد الحج فأعمرها تطييباً لقلبها - كما جاء مصرحاً به في الحديث -‏.‏

وقد قال الإمام أبو عبد الله الشافعي‏:‏ أنبأنا مسلم - هو‏:‏ ابن خالد الزنجي - عن ابن جريج، عن عطاء أن رسول الله قال لعائشة‏:‏ طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك‏.‏

وهذا ظاهره الإرسال، وهو مسند في المعنى بدليل ما قال الشافعي أيضاً‏:‏ أخبرنا ابن عيينة عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن عائشة، عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال الشافعي‏:‏ وربما قال سفيان عن عطاء، عن عائشة، وربما قال عن عطاء أن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال لعائشة‏:‏ فذكره‏.‏

قال الحافظ البيهقي‏:‏ ورواه ابن أبي عمر عن سفيان بن عيينة موصولاً‏.‏

وقد رواه مسلم من حديث وهيب عن ابن طاوس، عن ابن عبَّاس، عن أبيه، عن عائشة بمثله‏.‏

وروى مسلم من حديث ابن جريج‏:‏ أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابراً يقول‏:‏ دخل رسول الله على عائشة وهي تبكي، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏مالك تبكين‏؟‏‏)‏‏)‏

قالت‏:‏ أبكي أن النَّاس حلُّوا ولم أحل، وطافوا بالبيت ولم أطف، وهذا الحج قد حضر‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن هذا أمر قد كتبه الله على بنات آدم، فاغتسلي وأهلِّي بحج‏.‏

قالت‏:‏ ففعلت ذلك، فلما طهرت، قال‏:‏ ‏(‏‏(‏طوفي بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم قد حللت من حجك وعمرتك‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ يا رسول الله إني أجد في نفسي من عمرتي أني لم أكن طفت حتَّى حججت‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 5/183‏)‏

وله من حديث ابن جريج أيضاً‏:‏ أخبرني أبو الزبير سمعت جابراً قال‏:‏ لم يطف النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً‏.‏

وعند أصحاب أبي حنيفة رحمه الله أن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابه الذين ساقوا الهدي كانوا قد قرنوا بين الحج والعمرة، كما دل عليه الأحاديث المتقدمة، والله أعلم‏.‏

وقال الشافعي‏:‏ أنبأنا إبراهيم بن محمد عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي قال في القارن‏:‏ يطوف طوافين، ويسعى سعيين‏.‏

قال الشافعي‏:‏ وقال بعض النَّاس‏:‏ طوافان وسعيان‏.‏

واحتج فيه برواية ضعيفة عن علي‏.‏

قال جعفر‏:‏ يروى عن علي قولنا‏:‏ رويناه عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، لكن قال أبو داود‏:‏ ثنا هارون بن عبد الله، ومحمد بن رافع قالا‏:‏ ثنا أبو عاصم عن معروف - يعني‏:‏ ابن خربوذ المكي -، حدثنا أبو الطفيل قال‏:‏ رأيت النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يطوف بالبيت على راحلته يستلم الركن اليماني بمحجن ثم يقبِّله‏.‏

زاد محمد بن رافع‏:‏ ثم خرج إلى الصفا والمروة فطاف سبعاً على راحلته‏.‏

وقد رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي داود الطيالسي عن معروف بن خربوذ به دون الزيادة التي ذكرها محمد بن رافع، وكذلك رواه عبيد الله بن موسى عن معروف بدونها‏.‏

ورواه الحافظ البيهقي عن أبي سعيد ابن أبي عمرو، عن الأصم، عن يحيى ابن أبي طالب، عن يزيد ابن أبي حكيم، عن يزيد بن مالك، عن أبي الطفيل بدونها، فالله أعلم‏.‏

وقال الحافظ البيهقي‏:‏ أنبأنا أبو بكر ابن الحسن، وأبو زكريا ابن أبي إسحاق قالا‏:‏ ثنا أبو جعفر محمد بن علي بن رحيم، ثنا أحمد بن حازم، أنبأنا عبيد الله بن موسى، وجعفر بن عون قالا‏:‏ أنبأنا أيمن بن نابل عن قدامة بن عبد الله بن عمار قال‏:‏ رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يسعى بين الصفا والمروة على بعير لا ضرب ولا طرد، ولا إليك إليك‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ كذا قالا‏.‏

وقد رواه جماعة غير أيمن فقالوا‏:‏ يرمي الجمرة يوم النحر‏.‏

قال‏:‏ ويحتمل أن يكونا صحيحين‏.‏

قلت‏:‏ رواه الإمام أحمد في مسنده عن وكيع، وقران بن تمام، وأبي قرة موسى بن طارف - قاضي أهل اليمن - وأبي أحمد محمد بن عبد الله الزبيري، ومعتمر بن سليمان عن أيمن بن نابل الحبشي أبي عمران المكي نزيل عسقلان مولى أبي بكر الصديق، وهو ثقة جليل من رجال البخاري، عن قدامة بن عبد الله بن عمار الكلابي أنه رأى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يرمي الجمرة يوم النحر من بطن الوادي على ناقة صهباء، لا ضرب ولا طرد، ولا إليك إليك‏.‏

وهكذا رواه التِّرمذي عن أحمد بن منيع، عن مروان بن معاوية‏.‏

وأخرجه النسائي عن إسحاق بن راهويه، وابن ماجه، عن أبي بكر ابن أبي شيبة، كلاهما عن وكيع، كلاهما عن أيمن بن نابل، عن قدامة، كما رواه الإمام أحمد‏.‏

وقال التِّرمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏