فصل: سنة ثمان وثمانين ومائتين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 ثم دخلت سنة ست وثمانين ومائتين

فيها وقع تسلم آمد من ابن الشيخ في ربيع الآخر، ووصل كتاب هارون بن أحمد بن طولون من مصر إلى المعتضد وهو مخيم بآمد أن يسلم إليه قنسرين والعواصم، على أن يقره على إمارة الديار المصرية، فأجابه إلى ذلك‏.‏

ثم ترحل عن آمد قاصداً العراق وأمر بهدم سور آمد، فهدم البعض ولم يقدر على ذلك، فقال ابن المعتز يهنئه بفتح آمد‏:‏

اسلم أمير المؤمنين ودم * في غبطة وليهنك النصر

فلرب حادثة نهضت لها * متقدماً فتأخر الدهر

ليث فرائسه الليوث * فما بيض من دمها له ظفر

ولما رجع الخليفة إلى بغداد جاءته هدية عمرو بن الليث من نيسابور، فكان وصولها بغداد يوم الخميس لثمان بقين من جمادى الآخرة، وكان مبلغها ما قيمته أربعة آلاف ألف درهم خارجاً عن الدواب وسروج وسلاح وغير ذلك‏.‏

وفيها‏:‏ تحارب إسماعيل بن أحمد الساماني وعمرو بن الليث، وذلك أن عمرو بن الليث لما قتل رافع بن هرثمة وبعث رأسه إلى الخليفة، سأل منه أن يعطيه ما وراء النهر مضافاً إلى ما بيده من ولاية خراسان، فأجابه إلى ذلك فانزعج لذلك إسماعيل بن أحمد بن الساماني نائب ما وراء النهر، وكتب إليه‏:‏

إنك قد وليت دنيا عريضة، فاقتنع بها عن ما في يدي من هذه البلاد‏.‏

فلم يقبل، فأقبل إليه إسماعيل في جيوش عظيمة جداً، فالتقيا عند بلخ، فهزم أصحاب عمرو، وأسر عمرو، فلما جيء به إلى إسماعيل بن أحمد قام إليه وقبل بين عينيه، وغسل وجهه وخلع عليه وأمنه، وكتب إلى الخليفة في أمره، ويذكر أن أهل تلك البلاد قد ملوا وضجروا من ولايته عليهم، فجاء كتاب الخليفة بأن يتسلم حواصله وأمواله فسلبه إياها، فآل به الحال بعد أن كان مطبخه يحمل على ستمائة جمل إلى القيد والسجن‏.‏

ومن العجائب أن عمراً كان معه خمسون ألف مقاتل لم يصب أحد منهم، ولا أسر سواه وحده، وهذا جزاء من غلب عليه الطمع، وقاده الحرص حتى أوقعه في ذل الفقر، وهذه سنة الله في كل طامع فيما ليس له، وفي كل طالب للزيادة في الدنيا‏.‏

ظهور أبي سعيد الجنابي رأس القرامطة

وهم أخبث من الزنج وأشد فساداً، كان ظهوره في جمادى الآخرة من هذه السنة بنواحي البصرة، فالتف عليه من الأعراب غيرهم بشرٌ كثير، وقويت شوكته جداً، وقتل من حوله من أهل القرى‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/93‏)‏

ثم صار إلى القطيف قريباً من البصرة ورام دخولها، فكتب الخليفة المعتضد إلى نائبها يأمره بتحصين سورها، فعمروه وجددوا معالمه بنحو من أربعة آلاف دينار، فامتنعت من القرامطة بسبب ذلك‏.‏

وتغلب أبو سعيد الجنابي ومن معه من القرامطة على هجر وما حولها من البلاد، وأكثروا في الأرض الفساد‏.‏

وكان أصل أبي سعيد الجنابي هذا أنه كان سمساراً في الطعام يبيعه ويحسب للناس الأثمان، فقدم رجل به، يقال له‏:‏ يحيى بن المهدي في سنة إحدى وثمانين ومائتين، فدعا أهل القطيف إلى بيعة المهدي، فاستجاب له رجل يقال له‏:‏ علي بن العلاء بن حمدان الزيادي، فساعده في الدعوة إلى المهدي، وجمع الشيعة الذين كانوا في القطيف، فاستجابوا له، وكانوا في جملة من استجاب أبو السعيد الجنابي هذا قبحه الله‏.‏

ثم تغلب على أمرهم وأظهر فيهم القرمطة، فاستجابوا له والتفوا عليه، فتآمر عليهم وصار هو المشار إليه فيهم، وأصله من بلدة هناك يقال لها‏:‏ جنابة، وسيأتي ما يكون من أمره وأمر أصحابه‏.‏

قال في المنتظم‏:‏ ومن عجائب ما وقع من الحوادث في هذه السنة‏.‏

ثم روى بسنده‏:‏ أن امرأة تقدمت إلى قاضي الري، فادعت على زوجها بصداقها خمسمائة دينار، فأنكره، فجاءت ببينه تشهد لها به، فقالوا‏:‏

نريد أن تسفر لنا عن وجهها حتى نعلم أنها الزوجة أم لا، فلما صمموا على ذلك، قال الزوج‏:‏

لا تفعلوا هي صادقة فيما تدعيه، فأقر بما ادعت ليصون زوجته عن النظر إلى وجهها‏.‏

فقالت المرأة حين عرفت ذلك منه، وإنه إنما أقر ليصون وجهها عن النظر‏:‏ هو في حل من صداقي عليه في الدنيا والآخرة‏.‏

 وممن توفي فيها من الأعيان المشاهير‏:‏

 أحمد بن عيسى أبو السعيد الخراز، فيما ذكره شيخنا الذهبي‏.‏

وقد أرخه ابن الجوزي في سنة سبعة وسبعين ومائتين، فالله أعلم‏.‏

إسحاق بن محمد بن أحمد بن أبان

أبو يعقوب النخعي الأحمر، وإليه تنسب الطائفة الإسحاقية من الشيعة‏.‏

وقد ذكر ابن النوبختي، والخطيب، وابن الجوزي‏:‏ أن هذا الرجل كان يعتقد إلهية علي بن أبي طالب، وإنه انتقل إلى الحسن ثم الحسين، وإنه كان يظهر في كل وقت، وقد اتبعه على هذا الكفر خلق من الحمر قبحهم الله وقبحه‏.‏

وإنما قيل له‏:‏ الأحمر لأنه كان أبرص، وكان يطلي برصه بما يغير لونه‏.‏

وقد أورد له النوبختي أقوالاً عظيمة في الكفر، لعنه الله‏.‏

وقد روى شيئاً من الحكايات والملح عن المازني وطبقته، ومثل هذا أقل وأذل من أن يروى عنه، أو يذكر إلا بذمه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/94‏)‏

بقي بن مخلد بن يزيد أبو عبد الرحمن الأندلسي الحافظ أحد علماء الغرب، له التفسير والمسند والسنن والآثار التي فضلها ابن حزم على تفسير ابن جرير، ومسند أحمد، ومصنف ابن أبي شيبة‏.‏

وفيما زعم ابن حزم نظر‏.‏

وقد ترجمه الحافظ ابن عساكر في تاريخه فأثنى عليه خيراً، ووصفه بالحفظ والإتقان، وأنه كان مجاب الدعوة رحمه الله‏.‏

وأرخ وفاته بهذه السنة عن خمس وسبعين سنة‏.‏

 الحسن بن بشار

أبو علي الخياط روى عن أبي بلال الأشعري، وعنه أبو بكر الشافعي، وكان ثقة، رأى في منامه - وقد كانت به علة - قائلاً يقول له‏:‏ كل لا، وادهن بلا، ففسره بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ‏}‏ فأكل زيتوناً، وشرب زيتاً فبرأ من علته تلك‏.‏

محمد بن إبراهيم أبو جعفر الأنماطي المعروف‏:‏ بمربع، تلميذ يحيى بن معين، كان ثقة حافظاً‏.‏

عبد الرحيم الرقي‏.‏

 ومحمد بن وضاح المصنف‏.‏

وعلي بن عبد العزيز البغوي صاحب المسند‏.‏

محمد بن يونس

ابن موسى بن سليمان بن عبيد بن ربيعة بن كديم أبو العباس القرشي البصري الكديمي، وهو ابن امرأة نوح بن عبادة، ولد سنة ثلاث وثمانين ومائة، وسمع عبد الله بن داود الخريبي، ومحمد بن عبد الله الأنصاري، وأبا داود الطيالسي، والأصمعي، وخلقاً‏.‏

وعنه ابن السماك، والنجاد‏.‏

وآخر من حدث عنه أبو بكر بن مالك القطيفي، وقد كان حافظاً مكثراً مغرباً، وقد تكلم فيه الناس لأجل غرائبه في الروايات‏.‏

وقد ذكرنا ترجمته في التكميل‏.‏

توفي يوم الجمعة قبل الصلاة للنصف من جمادى الآخرة منها، وقد جاوز المائة، وصلى عليه يوسف بن يعقوب القاضي‏.‏

يعقوب بن إسحاق بن نخبة أبو يوسف الواسطي، سمع من يزيد بن هارون وقدم بغداد، وحدث بها أربعة أحاديث، ووعد الناس أن يحدثهم من الغد، فمات من ليلته عن مائة واثني عشر سنة‏.‏

الوليد أبو عبادة البحتري فيما ذكر الذهبي، وقد تقدم ذكره في سنة ثلاث وثمانين كما ذكره ابن الجوزي، فالله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وثمانين ومائتين

في ربيع الأول منها تفاقم أمر القرامطة صحبة أبي سعيد الجنابي، فقتلوا وسبوا وأفسدوا في بلاد هجر، ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 95‏)‏ فجهز الخليفة إليهم جيشاً كثيفاً، وأمر عليهم العباس بن عمرو الغنوي، وأمره على اليمامة والبحرين ليحارب أبا سعيد هذا، فالتقوا هنالك‏.‏

وكان العباس في عشرة آلاف مقاتل، فأسرهم أبو سعيد كلهم ولم ينج منهم إلا الأمير وحده، وقتل الباقون عن آخرهم صبراً بين يديه قبحه الله‏.‏

وهذا عجيب جداً وهو عكس واقعة عمرو بن الليث، فإنه أسر من بين أصحابه وحده، ونجوا كلهم وكانوا خمسين ألفاً‏.‏

ويقال‏:‏ إن العباس لما قتل أبو سعيد أصحابه صبراً بين يديه وهو ينظر، وكان في جملة من أسر، أقام عند أبي سعيد أياماً ثم أطلقه وحمله على رواحل، وقال‏:‏

ارجع إلى صاحبك وأخبره بما رأيت‏.‏

وقد كانت هذه الواقعة في أواخر شعبان منها، فلما وقع هذا الأمر الفظيع انزعج الناس لذلك انزعاجاً عظيماً جداً، وهم أهل البصرة بالخروج منها، فمنعهم من ذلك نائبها أحمد الواثقي‏.‏

وفيها‏:‏ أغارت الروم على بلاد طرسوس، وكان نائبها ابن الأخشيد قد توفي في العام الماضي، واستخلف على الثغر أبا ثابت، فطمعت الروم في تلك الناحية، وحشدوا عساكرهم، فالتقا بهم أبو ثابت فلم يقدر على مقاومتهم، فقتلوا من أصحابه جماعة، وأسروه فيمن أسروا، فاجتمع أهل الثغر على ابن الأعرابي فولوه أمرهم، وذلك في ربيع الآخر‏.‏

 وفيها قتل‏:‏

 محمد بن زيد العلوي

أمير طبرستان والديلم، وكان سبب ذلك‏:‏ أن إسماعيل الساماني لما ظفر بعمرو بن الليث، ظن محمد أن إسماعيل لا يجاوز عمله، وأن خراسان قد خلت له، فارتحل من بلده يريد خراسان، وسبقه إسماعيل إليها، وكتب إليه‏:‏

أن الزم عملك ولا تتجاوزه إلى غيره‏.‏

فلم يقبل، فبعث إليه جيشاً مع محمد بن هارون الذي كان ينوب عن رافع بن هرثمة، فلما التقيا هرب منه محمد بن هارون خديعة، فسار الجيش وراءه في الطلب، فكر عليهم راجعاً فانهزموا منه، فأخذ ما في معسكرهم، وجرح محمد بن زيد جراحات شديدة، فمات بسببها بعد أيام، وأسر ولده زيد فبعث به إلى إسماعيل بن أحمد، فأكرمه وأمر له بجائزة‏.‏

وقد كان محمد بن زيد هذا فاضلاً ديناً، حسن السيرة فيما وليه من تلك البلاد، وكان فيه تشيع‏.‏

تقدم إليه يوماً خصمان اسم أحدهما‏:‏ معاوية، واسم الآخر‏:‏ علي، فقال محمد بن زيد‏:‏ إن الحكم بينكما ظاهر‏.‏

فقال معاوية‏:‏ أيها الأمير، لا تغترن بنا فإن أبي كان من كبار الشيعة، وإنما سماني معاوية مداراة لمن ببلدنا من أهل السنة‏.‏

وهذا كان أبوه من كبار النواصب، فسماه‏:‏ علياً تقاة لكم‏.‏

فتبسم محمد بن زيد، وأحسن إليهما‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 96‏)‏

قال ابن الأثير في ‏(‏كامله‏)‏‏:‏ وممن توفي فيها‏:‏ إسحاق بن يعقوب بن عمر بن الخطاب العدوي - عدي ربيعة-‏.‏

وكان أميراً على ديار ربيعة بالجزيرة، فولى مكانه عبد الله بن الهيثم بن عبد الله بن المعتمر‏.‏

وعلي بن عبد العزيز البغوي صاحب أبي عبيد القاسم بن سلام‏.‏

ومهدي بن أحمد بن مهدي الأزدي الموصلي - وكان من الأعيان - وذكر هو وأبو الفرج بن الجوزي‏:‏ أن قطر الندى بنت خمارويه بن أحمد بن طولون امرأة المعتضد توفيت في هذه السنة‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ لسبع خلون من رجب منها، ودفنت داخل القصر بالرصافة‏.‏

يعقوب بن يوسف بن أيوب أبو بكر المطوعي، سمع أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، وعنه النجاد والخلدي، وكان ورده في كل يوم قراءة قل هو الله أحد إحدى وثلاثين ألف مرة، أو إحدى وأربعين ألف مرة‏.‏

قلت‏:‏ وممن توفي فيها‏:‏ أبو بكر بن أبي عاصم صاحب السنة والمصنفات وهو‏:‏

أحمد بن عمرو بن أبي عاصم الضحاك

ابن النبيل، له مصنفات في الحديث كثيرة منها‏:‏ كتاب ‏(‏السنة في أحاديث الصفات‏)‏ على طريق السلف، وكان حافظاً، وقد ولي قضاء أصبهان بعد صالح بن أحمد، وقد طاف البلاد قبل ذلك في طلب الحديث، وصحب أبا تراب النخشبي وغيره من مشايخ الصوفية‏.‏

وقد اتفق له مرة كرامة هائلة‏:‏ كان هو واثنان من كبار الصالحين في سفر، فنزلوا على رمل أبيض، فجعل أبو بكر هذا يقبله بيده ويقول‏:‏

اللهم ارزقنا خبيصاً يكون غداء على لون هذا الرمل‏.‏

فلم يكن بأسرع من أن أقبل أعرابي وبيده قصعة فيها خبيص بلون ذلك الرمل وفي بياضه، فأكلوا منه‏.‏

وكان يقول‏:‏ لا أحب أن يحضر مجلسي مبتدع ولا مدع ولا طعان ولا لعان ولا فاحش ولا بذيء، ولا منحرف عن الشافعي وأصحاب الحديث‏.‏

توفي في هذه السنة بأصبهان، وقد رآه بعضهم بعد وفاته وهو يصلي، فلما انصرف قال‏:‏ ما فعل بك‏؟‏

فقال‏:‏ يؤنسني ربي عز وجل‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وثمانين ومائتين

اتفق في هذه السنة آفات ومصائب عديدة منها‏:‏ أن الروم قصدوا بلاد الرقة في جحافل عظيمة وعساكر من البحر والبر، فقتلوا خلقاً وأسروا نحواً من خمسة عشر ألفاً من الذرية‏.‏

ومنها‏:‏ أن بلاد أذربيجان أصاب أهلها وباء شديد حتى لم يبق أحد على دفن الموتى، فتركوا في الطرق لا يوارون‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 97‏)‏

ومنها‏:‏ أن بلاد أردبيل أصابها ريح شديدة من بعد العصر إلى ثلث الليل، ثم زلزلوا زلزالاً شديداً، واستمر ذلك عليهم أياماً تهدمت الدور والمساكن، وخسف بآخرين منهم، وكان جملة من مات تحت الهدم مائة ألف وخمسين ألفاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وفيها‏:‏ اقترب القرامطة من البصرة فخاف أهلها منهم خوفاً شديداً، وهموا بالرحيل منها فمنعهم نائبها‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

بشر بن موسى بن صالح أبو علي الأسدي

ولد سنة تسعين ومائة، وسمع من روح بن عبادة حديثاً واحداً، وسمع الكثير من هودة بن خليفة والحسن ين موسى الأشيب وأبي نعيم وعلي بن الجعد والأصمعي وغيره، وعنه ابن المنادي وابن مخلد وابن صاعد والنجاد وأبو عمرو الزاهد والخلدي والسلمي وأبو بكر الشافعي وابن الصواف وغيرهم‏.‏

وكان ثقة أميناً حافظاً، وكان من البيوتات وكان الإمام أحمد يكرمه‏.‏

ومن شعره‏:‏

ضعفت ومن جاز الثمانين يضعف * وينكر منه كل ما كان يعرف

ويمشي رويداً كالأسير مقيداً * يداني خطاه في الحديد ويرسف

ثابت بن قرة بن هارون - ويقال‏:‏ ابن زهرون - بن ثابت بن كدام بن إبراهيم الصائبي الفيلسوف الحراني صاحب التصانيف، من جملتها أنه حرر كتاب إقليدس الذي عربه حنين بن إسحاق العبادي‏.‏

وكان أصله صوفياً فترك ذلك واشتغل بعلم الأوائل، فنال منه رتبة سامية عند أهله، ثم صار إلى بغداد فعظم شأنه بها، وكان يدخل مع المنجمين على الخليفة وهو باق على دين الصابئة، وحفيده ثابت بن قرة بن سنان له تاريخ أجاد فيه وأحسن، وكان بليغاً ماهراً حاذقاً بالغاً‏.‏

وعمه إبراهيم بن ثابت بن قرة، كان طبيباً عارفاً أيضاً‏.‏

وقد سردهم كلهم في هذه الترجمة القاضي ابن خلكان‏.‏

الحسن بن عمرو بن الجهم أبو الحسن الشيعي - من شيعة المنصور لا من الروافد - حدث عن علي بن الممديني، وحكى عن بشر الحافي‏.‏

وعنه أبو عمرو بن السماك‏.‏

عبيد الله بن سليمان بن وهب وزير المعتضد، كان حظياً عنده، وقد عز عليه موته وتألم لفقده وأهمه من يجعله في مكانه بعده، فعقد لولده القاسم بن عبيد الله على الوزارة من بعد أبيه جبراً لمصابه به‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 98‏)‏

وأبو القاسم عثمان بن سعيد بن بشار المعروف بالأنماطي أحد كبار الشافعية‏.‏

وقد ذكرناه في طبقاتهم‏.‏

وهارون بن محمد بن إسحاق بن موسى بن عيسى أبو موسى الهاشمي، إمام الناس في الحج عدة سنين متوالية، وقد سمع وحدث وتوفي بمصر في رمضان من هذه السنة‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع وثمانين ومائتين

فيها‏:‏ عاثت القرامطة بسواد الكوفة، فظفر بعض العمال بطائفة منهم، فبعث برئيسهم إلى المعتضد وهو أبو الفوارس، فنال من العباس بين يدي الخليفة فأمر به فقلعت أضراسه وخلعت يداه، ثم قطعتا مع رجليه ثم قتل وصلب ببغداد‏.‏

وفيها‏:‏ قصدت القرامطة دمشق في جحفل عظيم فقاتلهم نائبها طغج بن جف من جهة هارون بن خمارويه، فهزموه مرات متعددة، وتفاقم الحال بهم، وكان ذلك بسفارة يحيى بن زكرويه بن بهرويه الذي ادعى عند القرامطة أنه محمد بن عبد الله بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وقد كذب في ذلك، وزعم لهم أنه

قد اتبعه على أمره مائة ألف، وأن ناقته مأمورة حيث ما توجهت به نصر على أهل تلك الجهة‏.‏

فراج ذلك عندهم ولقبوه الشيخ، واتبعه طائفة من بني الأصبغ، وسموا بالفاطميين‏.‏

وقد بعث إليهم الخليفة جيشاً كثيفاً فهزموه، ثم اجتازوا بالرصافة فأحرقوا جامعها، ولم يجتازوا بقرية إلا نهبوها، ولم يزل ذلك دأبهم حى وصلوا إلى دمشق فقاتلهم نائبها فهزموه مرات وقتلوا من أهلها خلقاً كثيراً، وانتهبوا من أموالها شيئاً كثيراً‏.‏

فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وفي هذه الحالة الشديدة اتفق موت الخليفة المعتضد بالله في ربيع الأول منها‏.‏

 الخليفة المعتضد

هو أحمد بن الأمير أبي أحمد الموفق الملقب بناصر دين الله، واسم أبي أحمد محمد، وقيل‏:‏ طلحة بن جعفر المتوكل على الله بن المعتصم بن هارون الرشيد، أبو العباس المعتضد بالله‏.‏

ولد في سنة ثنتين، وقيل‏:‏ ثلاث وأربعين ومائتين، وأمه أم ولد‏.‏

وكان أسمر نحيف الجسم معتدل القامة، قد وخطه الشيب في مقدم لحيته طول، وفي رأسه شامة بيضاء‏.‏

بويع له بالخلافة صبيحة يوم الاثنين إحدى عشرة بقيت من رجب سنة تسع وسبعين ومائتين، واستوزر عبد الله بن وهب بن سليمان، وولى القضاء إسماعيل بن إسحاق ويوسف بن يعقوب وابن أبي الشوارب‏.‏

وكان أمر الخلافة قد ضعف في أيام عمه المعتمد، فلما ولي المعتضد أقام شعارها ورفع منارها‏.‏

وكان شجاعاً فاضلاً من رجالات قريش حزماً وجرأة وإقداماً وحزمة، وكذلك كان أبوه، وقد أورد ابن الجوزي بإسناده أن المعتضد اجتاز في بعض أسفاره بقرية فيها مقثاة فوقف صاحبها صائحاً مستصرخاً بالخليفة، فاستدعى به فسأله عن أمره فقال‏:‏

إن بعض الجيش أخذوا لي شيئاً من القثاء وهم من غلمانك‏.‏

فقال‏:‏ أتعرفهم‏؟‏‏(‏ج/ص‏:‏ 11/99‏)‏

فقال‏:‏ نعم‏.‏

فعرضهم عليه فعرف منهم ثلاثة، فأمر الخليفة بتقييدهم وحبسهم، فلما كان الصباح نظر الناس ثلاثة أنفس مصلوبين على جادة الطريق، فاستعظم الناس ذلك واستنكروه وعابوا ذلك على الخليفة وقالوا‏:‏ قتل ثلاثة بسبب قثاء أخذوه‏؟‏

فلما كان بعد قليل أمر الخواص - وهو مسامره - أن ينكر عليه ذلك، ويتلطف في مخاطبته في ذلك والأمراء حضور، فدخل عليه ليلة وقد عزم على ذلك، ففهم الخليفة ما في نفسه من كلام يريد أن يبديه، فقال له‏:‏ إني أعرف أن في نفسك كلاماً فما هو‏؟‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين وأنا آمن‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قلت له‏:‏ فإن الناس ينكرون عليك تسرعك في سفك الدماء‏.‏

فقال‏:‏ والله ما سفكت دماً حراماً منذ وليت الخلافة إلا بحقه‏.‏

فقلت له‏:‏ فعلام قتلت أحمد بن الطيب وقد كان خادمك ولم يظهر له خيانة‏؟‏

فقال‏:‏ ويحك إنه دعاني إلى الإلحاد والكفر بالله فيما بيني وبينه، فلما دعاني إلى ذلك قلت له‏:‏ يا هذا أنا ابن عم صاحب الشريعة، وأنا منتصب في منصبه فأكفر حتى أكون من غير قبيلته‏.‏

فقتلته على الكفر والزندقة‏.‏

فقلت له‏:‏ فما بال الثلاثة الذين قتلتهم على القثاء‏؟‏

فقال‏:‏ والله ما كان هؤلاء الذين أخذوا القثاء، وإنما كانوا لصوصاً قد قتلوا وأخذوا المال فوجب قتلهم، فبعثت فجئت بهم من السجن فقتلتهم، وأريت الناس أنهم الذين أخذوا القثاء، وأردت بذلك أن أرهب الجيش لئلا يفسدوا في الأرض، ويتعدوا على الناس، ويكفوا عن الأذى‏.‏

ثم أمر بإخراج أولئك الذين أخذوا القثاء فأطلقهم بعد ما استتابهم، وخلع عليهم وردهم إلى أرزاقهم‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ خرج المعتضد يوماً فعسكر بباب الشماسية ونهى أن يأخذ أحد من بستان أحد شيئاً، فأتي بأسود قد أخذ عذقاً من بسر فتأمله طويلاً ثم أمر بضرب عنقه‏.‏

ثم التفت إلى الأمراء فقال‏:‏ العامة ينكرون هذا ويقولون‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏لا قطع في ثمر ولا كثر‏)‏‏)‏‏.‏

ولم يكفه أن يقطع يده حتى قتله، وإني لم أقتل هذا على سرقته، وإنما هذا الأسود رجل من الزنج كان قد استأمن في حياة أبي، وإنه تقاول هو ورجل من المسلمين فضرب المسلم فقطع يده فمات المسلم، فأهدر أبي دم الرجل المقتول تأليفاً للزنج، فآليت على نفسي لئن أنا قدرت عليه لأقتلنه، فما قدرت عليه إلا هذه الساعة فقتلته بذلك الرجل‏.‏

وقال أبو بكر الخطيب‏:‏ أخبرنا محمد بن أحمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن نعيم الضبي، سمعت أبا الوليد حسان بن محمد الفقيه يقول‏:‏ سمعت أبا العباس بن سريج يقول‏:‏ سمعت إسماعيل بن إسحاق القاضي يقول‏:‏ دخلت على المعتضد وعلى رأسه أحداث روم صباح الوجوه، فنظرت إليهم فرآني المعتضد وأنا أتأملهم، فلما أردت القيام أشار إلي فجلست ساعة فلما خلا قال لي‏:‏ أيها القاضي والله ما حللت سراويلي على حرام قط‏.‏

وروى البيهقي‏:‏ عن الحاكم، عن حسان بن محمد، عن ابن سريج القاضي إسماعيل بن إسحاق قال‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/100‏)‏

دخلت يوماً على المعتضد فدفع إلي كتاباً فقرأته، فإذا فيه الرخص من زلل العلماء، قد جمعها له بعض الناس فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين إنما جمع هذا زنديق‏.‏

فقال‏:‏ كيف‏؟‏

فقلت‏:‏ إن من أباح المتعة لم يبح الغناء، ومن أباح الغناء لم يبح إضافته إلى آلات اللهو، ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه‏.‏

فأمر بتحريق ذلك الكتاب‏.‏

وروى الخطيب بسنده عن صافي الجرمي الخادم قال‏:‏ انتهى المعتضد وأنا بين يديه إلى منزل شعث، وابنه المقتدر جعفر جالس فيه وحوله نحو من عشرة من الوصائف، والصبيان من أصحابه في سنه عنده، وبين يديه طبق من فضة فيه عنقود عنب، وكان العنب إذ ذاك عزيزاً، وهو يأكل عنبة واحدة ثم يفرق على أصحابه من الصبيان كل واحد عنبة، فتركه المعتضد وجلس ناحية في بيت مهوماً‏.‏

فقلت له‏:‏ ما لك يا أمير المؤمنين‏؟‏

فقال‏:‏ ويحك والله لولا النار والعار لأقتلن هذا الغلام، فإن في قتله صلاحاً للأمة‏.‏

فقلت‏:‏ أعيذك بالله يا أمير المؤمنين من ذلك‏.‏

فقال‏:‏ ويحك يا صافي هذا الغلام في غاية السخاء لما أراه يفعل مع الصبيان، فإن طباع الصبيان تأبى الكرم، وهذا في غاية الكرم، وإن الناس من بعدي لا يولون عليهم إلا من هو من ولدي، فسيلي عليهم المكتفي ثم لا تطول أيامه لعلته التي به - وهي داء الخنازير - ثم يموت فيلي الناس جعفر هذا الغلام، فيذهب جميع أموال بيت المال إلى الحظايا لشغفه بهن، وقرب عهده من تشبه بهن، فتضيع أمور المسلمين وتعطل الثغور وتكثر الفتن والهرج والخوارج والشرور‏.‏

قال صافي‏:‏ والله لقد شاهدت ما قاله سواء بسواء‏.‏

وروى ابن الجوزي عن بعض خدم المعتضد قال‏:‏ كان المعتضد يوماً نائماً وقت القائلة ونحن حول سريره، فاستيقظ مذعوراً ثم صرح بنا فجئنا إليه، فقال‏:‏ ويحكم اذهبوا إلى دجلة فأول سفينة تجدوها فارغة منحدرة فأتوني بملاحها واحتفظوا بالسفينة‏.‏

فذهبنا سراعاً فوجدنا ملاحاً في سميرية فارغة منحدراً، فأتينا به الخليفة فلما رأى الملاح الخليفة كاد أن يتلف، فصاح به الخليفة صيحة عظيمة فكادت روح الملاح تخرج فقال له الخليفة‏:‏ ويحك يا ملعون، اصدقني عن قصتك مع المرأة التي قتلتها اليوم وإلا ضربت عنقك‏.‏

قال‏:‏ فتلعثم، ثم قال‏:‏ نعم يا أمير المؤمنين كنت اليوم سحراً في مشرعتي الفلانية، فنزلت امرأة لم أر مثلها وعليها ثياب فاخرة وحلي كثيرة وجوهر، فطمعت فيها واحتلت عليها فشددت فاها وغرقتها وأخذت جميع ما كان عليها من الحلي والقماش، وخشيت أن أرجع به إلى منزلي فيشتهر خبرها، فأردت الذهاب به إلى واسط فلقيني هؤلاء الخدم فأخذوني‏.‏

فقال‏:‏ وأين حليها‏؟‏

فقال‏:‏ في صدر السفينة تحت البواري‏.‏

فأمر الخليفة عند ذلك بإحضار الحلي، فجيء به فإذا هو حلي كثير يساوي أموالاً كثيرة، فأمر الخليفة بتغريق الملاح في المكان الذي غرق فيه المرأة، وأمر أن ينادى على أهل المرأة ليحضروا حتى يتسلموا مال المرأة، فنادى بذلك ثلاثة أيام في أسواق بغداد وأزقتها فحضروا بعد ثلاثة أيام فدفع إليهم ما كان من الحلي وغيره مما كان للمرأة، ولم يذهب منه شيء‏.‏

فقال له خدمه‏:‏ يا أمير المؤمنين من أين علمت هذا‏؟‏

قال‏:‏ رأيت في نومي تلك الساعة شيخاً أبيض الرأس واللحية والثياب، وهو ينادي‏:‏ يا أحمد يا أحمد، خذ أول ملاح ينحدر الساعة فاقبض عليه وقرره عن خبر المرأة التي قتلها اليوم وسلبها، فأقم عليه الحد‏.‏

وكان ما شاهدتم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 101‏)‏

وقال جعيف السمرقندي الحاجب‏:‏ كنت مع مولاي المعتضد في بعض متصيداته وقد انقطع عن العسكر وليس معه غيري، إذ خرج علينا أسد فقصد قصدنا فقال لي المعتضد‏:‏ يا جعيف أفيك خير اليوم‏؟‏

قلت‏:‏ لا والله‏.‏

قال‏:‏ ولا أن تمسك فرسي وأنزل أنا‏؟‏

فقلت‏:‏ بلى‏.‏

قال‏:‏ فنزل عن فرسه وغرز أطراف ثيابه في منطقته، واستل سيفه ورمى بقرابه إلي ثم تقدم إلى الأسد، فوثب الأسد عليه فضربه بالسيف فأطار يده فاشتغل الأسد بيده، فضربه ثانية على هامته ففلقها، فخر الأسد صريعاً فدنا منه فمسح سيفه في صوفه، ثم أقبل إلي فأغمد سيفه في قرابه، ثم ركب فرسه فذهبنا إلى العسكر قال‏:‏ وصحبته إلى أن مات فما سمعته ذكر ذلك لأحد، فما أدري من أي شيء أعجب‏؟‏من

من شجاعته أم من عدم احتفاله بذلك، حيث لم يذكره لأحد‏؟‏أم من عدم عتبه علي حيث ضننت بنفسي عنه‏؟‏والله ما عاتبني في ذلك قط‏.‏

وروى ابن عساكر عن أبي الحسين النوري‏:‏ أنه اجتاز بزورق فيه خمر مع ملاح فقال‏:‏ ما هذا ولمن هذا‏؟‏

فقال له‏:‏ هذه خمر للمعتضد‏.‏

فصعد أبو الحسين إليها فجعل يضرب الدنان بعمود في يده حتى كسرها كلها إلا دناً واحداً تركه، واستغاث الملاح فجاءت الشرطة فأخذوا أبا الحسين فأوقفوه بين يدي المعتضد فقال له‏:‏ ما أنت‏؟‏

فقال‏:‏ أنا المحتسب‏.‏

فقال‏:‏ ومن ولاك الحسبة‏؟‏

فقال‏:‏ الذي ولاك الخلافة يا أمير المؤمنين‏.‏

فأطرق رأسه ثم رفعها فقال‏:‏ ما الذي حملك على ما فعلت‏؟‏

فقال‏:‏ شفقة عليك لدفع الضرر عنك‏.‏

فأطرق رأسه ثم رفعه فقال‏:‏ ولأي شيء تركت منها دناً واحداً لم تكسره‏؟‏

فقال‏:‏ لأني إنما أقدمت عليها فكسرتها إجلالا لله تعالى، فلم أبال أحداً حتى انتهيت إلى هذا الدن، دخل نفسي إعجاب من قبيل أني قد أقدمت على مثلك فتركته، فقال له المعتضد‏:‏ اذهب فقد أطلقت يدك فغير ما أحببت أن تغيره من المنكر‏.‏

فقال له النوري‏:‏ الآن انتقض عزمي عن التغيير، فقال‏:‏ ولم‏؟‏

فقال‏:‏ لأني كنت أغير عن الله، وأنا الآن أغير عن شرطي‏.‏

فقال‏:‏ سل حاجتك‏.‏

فقال‏:‏ أحب أن تخرجني من بين يديك سالماً‏.‏

فأمر فأخرج فصار إلى البصرة، فأقام بها مختفياً خشية أن يشق عليه أحد في حاجة عند المعتضد‏.‏

فلما توفي المعتضد رجع إلى بغداد‏.‏

وذكر القاضي أبو الحسن محمد بن عبد الواحد الهاشمي عن شيخ من التجار قال‏:‏ كان لي على بعض الأمراء مال كثير فماطلني ومنعني حقي، وجعل كلما جئت أطالبه حجبني عنه ويأمر غلمانه يؤذونني، فاشتكيت عليه إلى الوزير فلم يفد ذلك شيئاً، وإلى أولياء الأمر من الدولة فلم يقطعوا منه شيئاً، وما زاده ذلك إلا منعاً وجحوداً، فأيست من المال الذي عليه ودخلني هم من جهته، فبينما أنا كذلك وأنا حائر إلى من أشتكي، إذ قال لي رجل‏:‏ ألا تأتي فلاناً الخياط - إمام مسجد هناك - فقلت‏:‏ وما عسى أن يصنع خياط مع هذا الظالم، وأعيان الدولة لم يقطعوا فيه‏.‏

فقال لي‏:‏ هو أقطع وأخوف عنده من جميع من اشتكيت إليه، فاذهب إليه لعلك أن تجد عنده فرجاً‏.‏

قال‏:‏ فقصدته غير محتفل في أمره، فذكرت له حاجتي ومالي وما لقيت من هذا الظالم، ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 102‏)‏ فقام معي فحين عاينه الأمير قام إليه وأكرمه واحترمه، وبادر إلى قضاء حقي الذي عليه فأعطانيه كاملاً من غير أن يكون منه إلى الأمير كبير أمر، غير أنه قال له‏:‏ ادفع إلى هذا الرجل حقه وإلا أذنت، فتغير لون الأمير ودفع إلى حقي‏.‏

قال التاجر‏:‏ فعجبت من ذلك الخياط مع رثاثة حاله وضعف بنيته، كيف أنطاع ذلك الأمير له، ثم إني عرضت عليه شيئاً من المال فلم يقبل مني شيئاً، وقال‏:‏ لو أردت هذا لكان لي من الأموال ما لا يحصى‏.‏

فسألته عن خبره وذكرت له تعجبي منه وألححت عليه فقال‏:‏ إن سبب ذلك أنه كان عندنا في جوارنا أمير تركي من أعالي الدولة، وهو شاب حسن، فمر به ذات يوم امرأة حسناء قد خرجت من الحمام وعليها ثياب مرتفة ذات قيمة، فقام إليها وهو سكران فتعلق بها يريدها على نفسها ليدخلها منزله، وهي تأبى عليه وتصيح بأعلى صوتها‏:‏ يا مسلمين أنا امرأة ذات زوج، وهذا الرجل يريدني على نفسي ويدخلني منزله، وقد حلف زوجي بالطلاق أن لا أبيت في غير منزله، ومتى بت ها هنا طلقت منه، ولحقني بسبب ذلك عار لا تدحضه الأيام ولا تغسله المدامع‏.‏

قال الخياط‏:‏ فقمت إليه فأنكرت عليه وأردت خلاص المرأة من يديه، فضربني بدبوس في يده فشج رأسي، وغلب المرأة على نفسها وأدخلها منزله قهراً، فرجعت أنا فغسلت الدم عنى وعصبت رأسي وصليت بالناس العشاء ثم قلت للجماعة‏:‏ إن هذا قد فعل ما قد علمتم فقوموا معي إليه لننكر عليه ونخلص المرأة منه، فقام الناس معي فهجمنا عليه داره فثار إلينا في جماعة من غلمانه بأيديهم العصي والدبابيس يضربون الناس، وقصدني هو من بينهم فضربني ضرباً شديداً مبرحاً حتى أدماني، وأخرجنا من منزله ونحن في غاية الإهانة، فرجعت إلى منزلي وأنا لا أهتدي إلى الطريق من شدة الوجع وكثرة الدماء، فنمت على فراشي فلم يأخذني نوم، وتحيرت ماذا أصنع حتى أنقذ المرأة من يده في الليل لترجع فتبيت في منزلها حتى لا يقع على زوجها الطلاق، فألهمت أن أؤذن الصبح في أثناء الليل لكي يظن أن الصبح قد طلع فيخرجها من منزله فتذهب إلى منزل زوجها، فصعدت المنارة وجعلت أنظر إلى باب داره وأنا أتكلم على عادتي قبل الأذان هل أرى المرأة قد خرجت ثم أذنت فلم تخرج، ثم صممت على أنه إن لم تخرج أقمت الصلاة حتى يتحقق الصباح، فبينا أنا أنظر هل تخرج المرأة أم لا، إذ امتلأت الطريق فرساناً ورجالة وهم يقولون‏:‏ أين الذي أذن هذه الساعة‏؟‏

فقلت‏:‏ ها أنا ذا، وأنا أريد أن يعينوني عليه، فقالوا‏:‏ انزل فنزلت‏.‏

فقالوا‏:‏ أجب أمير المؤمنين، فأخذوني وذهبوا بي لا أملك من نفسي شيئاً، حتى أدخلوني عليه، فلما رأيته جالساً في مقام الخلافة ارتعدت من الخوف، وفزعت فزعاً شديداً، فقال‏:‏ ادن، فدنوت فقال لي‏:‏ ليسكن روعك وليهدأ قلبك‏.‏

وما زال يلاطفني حتى اطمأننت وذهب خوفي، فقال‏:‏ أنت الذي أذنت هذه الساعة‏.‏

قلت‏:‏ نعم يا أمير المؤمنين‏.‏

فقال‏:‏ ما حملك على أن أذنت هذه الساعة، وقد بقي من الليل أكثر مما مضى منه‏؟‏

فتغر بذلك الصائم والمسافر والمصلي وغيرهم‏.‏

فقلت‏:‏ يؤمنني أمير المؤمنين حتى أقص عليه خبري‏؟‏

قال‏:‏ أنت آمن‏.‏

فذكرت له القصة‏.‏

قال‏:‏ فغضب غضباً شديداً، وأمر بإحضار ذلك الأمير والمرأة من ساعته على أي حالة كانا، فأحضرا سريعاً فبعث بالمرأة إلى زوجها مع نسوة من جهته ثقات، ومعهن ثقة من جهته أيضاً، ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 103‏)‏ وأمره أن يأمر زوجها بالعفو والصفح عنها والإحسان إليها، فإنها مكرهة ومعذورة‏.‏

ثم أقبل على ذلك الشاب الأمير فقال له‏:‏ كم لك من الرزق‏؟‏وكم عندك من المال‏؟‏وكم عندك من الجوار والزوجات‏؟‏

فذكر له شيئاً كثيراً‏.‏

فقال له‏:‏ ويحك أما كفاك ما أنعم الله به عليك حتى انتهكت حرمة الله، وتعديت حدوده، وتجرأت على السلطان، وما كفاك ذلك أيضاً حتى عمدت إلى رجل أمرك بالمعروف ونهاك عن المنكر فضربته وأهنته وأدميته‏؟‏

فلم يكن له جواب‏.‏

فأمر به فجعل في رجله قيد، وفي عنقه غل، ثم أمر به فأدخل في جوالق ثم أمر به فضرب بالدبابيس ضرباً شديداً حتى خفت، ثم أمر به فألقي في دجلة فكان ذلك آخر العهد به‏.‏

ثم أمر بدراً صاحب الشرطة أن يحتاط على ما في داره من الحواصل والأموال التي كان يتناولها من بيت المال، ثم قال لذلك الرجل الصالح الخياط‏:‏ كلما رأيت منكراً صغيراً كان أو كبيراً ولو على هذا - وأشار إلى صاحب الشرطة -فأعلمني، فإن اتفق اجتماعك بي وإلا فعلى ما بيني وبينك، الأذان، فأذن في أي وقت كان أو في مثل وقتك هذا‏.‏

قال‏:‏ فلهذا لا آمر أحداً من هؤلاء الدولة بشيء إلا امتثلوه، ولا أنهاهم عن شيء إلا تركوه خوفاً من المعتضد، وما احتجت أن أؤذن في مثل تلك الساعة إلى الآن‏.‏

وذكر الوزير عبيد الله بن سليمان بن وهب قال‏:‏ كنت يوماً عند المعتضد، وخادم واقف على رأسه يذب عنه بمذبة في يده إذ حركها فجاءت في قلنسوة الخليفة فسقطت عن رأسه، فأعظمت أنا ذلك جداً وخفت من هول ما وقع، ولم يكترث الخليفة لذلك، بل أخذ قلنسوته فوضعها على رأسه ثم قال لبعض الخدم‏:‏ مر هذا البائس ليذهب لراحته فإنه قد نعس، وزيدوا في عدة من يذب بالنوبة‏.‏

قال الوزير‏:‏ فأخذنا في الثناء على الخليفة والشكر له على حلمه، فقال‏:‏ إن هذا البائس لم يتعمد ما وقع منه وإنما نعس، وليس العتاب والمعاتبة إلا على المتعمد لا على المخطئ والساهي‏.‏

وقال جعيف السمرقندي الحاجب‏:‏ لما جاء الخبر إلى المعتضد بموت وزيره عبيد الله بن سليمان خر ساجداً طويلاً، فقيل له‏:‏ يا أمير المؤمنين لقد كان عبيد الله يخدمك وينصح لك‏.‏

فقال‏:‏ إنما سجدت شكراً لله أني لم أعزله ولم أوذه‏.‏

وقد كان ابن سليمان حازم الرأي قوياً، وأراد أن يولي مكانه أحمد بن محمد بن الفرات، فعدل به بدر صاحب الشرطة عنه وأشار عليه بالقاسم بن عبيد الله فسفه رأيه، فألح عليه فولاه وبعث إليه يعزيه في أبيه ويهنيه بالوزارة، فما لبث القاسم بن عبيد الله حتى ولي المكتفي الخلافة من بعد أبيه المعتضد وحتى قتل بدراً‏.‏

وكان المعتضد ينظر إلى ما بينهما من العداوة من وراء ستر رقيق، وهذه فراسة عظيمة وتوسم قوي‏.‏

ورفع يوماً إلى المعتضد قوماً يجتمعون على المعصية، فاستشار وزيره في أمرهم فقال‏:‏ ينبغي أن يصلب بعضهم ويحرق بعضهم‏.‏

فقال‏:‏ ويحك لقد بردت لهب غضبي عليهم بقسوتك، أما علمت أن الرعية وديعة الله عند سلطانها، وأنه سائله عنها‏؟‏

ولم يقابلهم بما قال الوزير‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 104‏)‏

ولهذه النية لما ولي الخلافة كان بيت المال صفراً من المال، وكانت الأحوال فاسدة، والعرب تعيث في الأرض فساداً في كل جهة، فلم يزل برأيه وتسديده حتى كثرت الأموال وصلحت الأحوال في سائر الأقاليم والآفاق‏.‏

ومن شعره في جارية له توفيت فوجد عليها‏:‏

يا حبيباً لم يكن يع * دله عندي حبيب

أنت عن عيني بعيد * ومن القلب قريب

ليس لي بعدك في شي * ء من اللهو نصيب

لك من قلبي على قلبي * وإن غبت رقيب

وحياتي منك مذغب * ت حياة لا تطيب

لو تراني كيف لي بع * دك عول ونحيب

وفؤادي حشوه من * حرق الحزن لهيب

ما أرى نفسي وإن طي * بتها عنك تطيب

ليس دمع لي يعصي * ني وصبري ما يجيب

وقال فيها‏:‏ لم أبك للدار ولكن لمن * قد كان فيها مرة ساكنا

فخانني الدهر بفقدانه * وكنت من قبل له آمنا

ودعت صبري عنه تودعه * وبان قلبي معه ظاعنا

وكتب إليه ابن المعتز يعزيه ويسليه عن مصيبته فيها‏:‏

يا إمام الهدى حياتك طالت * وعشت أنت سليما

أنت علمتنا على النعم الشك * ر وعند المصائب التسليما

فتسلى عن ما مضى وكأن التي * كانت سروراً صارت ثواباً عظيما

قد رضينا بأن نموت وتحيى * إن عندي في ذاك حظاً جسيما

من يمت طائعاً لمولاه فقد * أعطي فوزاً ومات موتاً كريما

وقد رثى أبو العباس عبد الله بن المعتز العباسي بن عمر المعتضد بمرثاة حسنة يقول فيها‏:‏

يا دهر ويحك ما أبقيت لي أحداً * وأنت والد سوء تأكل الولدا

أستغفر الله بل ذا كله قدر * رضيت بالله رباً واحداً صمدا

يا ساكن القبر في غيراء مظلة * بالظاهرية مقصى الدار منفردا

أين الجيوش التي قد كنت تشحنها * أين الكنوز التي لم تحصها عددا

أين السرير الذي قد كنت تملؤه * مهابة من رأته عينه ارتعدا

‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 105‏)‏

أين القصور التي شيدتها فعلت * ولاح فيها سنا الإبريز فانقدا

قد أتعبوا كل مرقال مذكرة * وجناء تنثر من أشداقها الزبدا

أين الأعادي الألى ذللت صعبهم * أين الليوث التي صيرتها نقدا

أين الوفود على الأبواب عاكفة * ورد القطا صفر ما جال واطردا

أين الرجال قياماً في مراتبهم * من راح منهم ولم يطمر فقد سعدا

أين الجياد التي حجلتها بدم * وكن يحملن منك الضيغم الأسدا

أين الرماح التي غذيتها مَهجاً * مذ مت ما وردت قلباً ولا كبدا

أين السيوف وأين النبل مرسلة * يصبن من شئت من قرب وإن بعدا

أين المجانيق أمثال السيول إذا * رمين حائط حصن قائم قعدا

أين الفعال التي قد كنت تبدعها * ولا ترى أن عفواً نافعاً أبدا

أين الجنان التي تجري جداولها * ويستجيب إليها الطائر الغردا

أين الوصائف كالغزلان رائحة* يسحبن من حلل موشية جددا

أين الملاهي وأين الراح تحسبها * ياقوتة كسيت من فضة زردا

أين الوثوب إلى الأعداء مبتغياً * صلاح ملك بني العباس إذ فسدا

ما زلت تقسر منهم كل قسورة * وتحطم العاتي الجبار معتمدا

ثم انقضيت فلا عين ولا أثر * حتى كأنك يوماً لم تكن أحدا

لا شيء يبقى سوى خير تقدمه * ما دام ملك لإنسان ولا خَلدا

ذكرها ابن عساكر في تاريخه‏.‏

واجتمع ليلة عند المعتضد ندماؤه، فلما انقضى السمر وصار إلى حظاياه ونام القوم السمار، نبههم من نومهم خادم وقال‏:‏ يقول لكم أمير المؤمنين‏:‏ إنه أصابه أرق بعدكم، وقد عمل بيتاً أعياه ثانيه، فمن عمل ثانيه فله جائزة وهو هذا البيت‏:‏

ولما انتبهنا للخيال الذي سرى * إذا الدار قفر والمزار بعيد

قال‏:‏ فجلس القوم من فرشهم يفكرون في ثانيه، فبدر واحد منهم فقال‏:‏

فقلت لعيني عاودي النوم واهجعي * لعل خيالاً طارقاً سيعود

قال‏:‏ فلما رجع الخادم به إلى المعتضد، وقع منه موقعاً جيداً وأمر له بجائزة سنية، واستعظم المعتضد يوماً من بعض الشعراء قول الحسن بن منير المازني البصري‏:‏

لهفي على من أطار النوم فامتنعا * وزاد قلبي على أوجاعه وجعا‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 106‏)‏

كأنما الشمس من أعطافه طلعت * حسناً أو البدر من أردانه لمعا

في وجه شافع يمحو إساءته * من القلوب وجيهاً أين ما شفعا

ولما كان في ربيع الأول من هذه السنة اشتد وجع المعتضد، فاجتمع رؤوس الأمراء مثل يونس الخادم وغيره إلى الوزير القاسم بن عبيد الله، فأشاروا بأن يجتمع الناس لتجديد البيعة للمكتفي بالله علي بن المعتضد بالله، ففعل ذلك وتأكدت البيعة وكان في ذلك خير كثير‏.‏

وحين حضرت المعتضد الوفاة أنشد لنفسه‏:‏

تمتع من الدنيا فإنك لا تبقى * وخذ صفوها ما إن صفت ودع الرنقا

ولا تأمنن الدهر إني ائتمنته * فلم يبق لي حالاً ولم يرع لي حقا

قتلت صناديد الرجال فلم أدع * عدواً ولم أمهل على خلق خلقا

وأخليت دار الملك من كل نازع * فشردتهم غربا ومزقتهم شرقا

فلما بلغت النجم عزاً ورفعة * وصارت رقاب الخلق لي أجمع رقا

رماني الردى سهماً فأخمد جمرتي * فها أنا ذا في حفرتي عاجلاً ألقى

ولم يغن عني ما جمعت ولم أجد * لدى ملك إلا حباني حبها رفقا

وأفسدت دنياي وديني سفاهة * فمن ذا الذي مثلي بمصرعه أشقا

فياليت شعري بعد موتي هل أصر * إلى رحمة الله أم في ناره ألقى

وكانت وفاته ليلة الاثنين لثمان بقين من ربيع الأول من هذه السنة‏.‏

ولم يبلغ الخمسين‏.‏

وكانت خلافته تسع سنين وتسعة أشهر وثلاثة عشر يوماً‏.‏

وخلف من الأولاد الذكور‏:‏ علياً المكتفي، وجعفر المقتدر، وهارون‏.‏

ومن البنات إحدى عشرة بنتاً‏.‏

ويقال‏:‏ سبع عشرة بنتاً‏.‏

وترك في بيت المال سبعة عشر ألف ألف دينار‏.‏

وكان يمسك عن صرف الأموال في غير وجهها، فلهذا كان بعض الناس يبخله، ومن الناس من يجعله من الخلفاء الراشدين المذكورين في الحديث، حديث جابر بن سمرة فالله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 107‏)‏

خلافة المكتفي بالله أبي محمد

علي بن المعتضد بالله أمير المؤمنين، بويع بالخلافة عند موت أبيه في ربيع الأول من هذه السنة، وليس في الخلفاء من اسمه علي سوى هذا وعلي بن أبي طالب‏.‏

وليس فيهم من يكنى بأبي محمد إلا هو والحسن بن علي بن أبي طالب والهادي، والمستضيء بالله‏.‏

وحين ولي المكتفي كثرت الفتن وانتشرت في البلاد‏.‏

وفي رجب منها زلزلت الأرض زلزلة عظيمة جداً، وفي رمضان منها تساقط وقت السحر من السماء نجوم كثيرة، ولم يزل الأمر كذلك حتى طلعت الشمس‏.‏

ولما أفضت الخلافة إليه كان بالرقة، فكتب إليه الوزير وأعيان الأمراء فركب فدخل بغداد في يوم مشهود، وذلك يوم

الاثنين لثمان خلون من جمادى منها‏.‏

وفي هذا اليوم أمر بقتل عمرو بن الليث الصفار - وكان معتقلاً في سجن أبيه - وأمر بتخريب المطامير التي كان اتخذها أبوه للمسجونين، وأمر ببناء جامع مكانها، وخلع في هذا اليوم على الوزير القاسم بن عبيد الله بن سليمان ست خلع وقلده سيفاً، وكان عمره يوم ولي الخلافة خمساً وعشرين سنة وبعض أشهر‏.‏

وفيها‏:‏ انتشرت القرامطة في الآفاق وقطعوا الطريق على الحجيج، وتسمى بعضهم بأمير المؤمنين‏.‏

فبعث المكتفي إليهم جيشاً كثيراً، وأنفق فيهم أموالاً جزيلة، فأطفأ الله بعض شرهم‏.‏

وفيها‏:‏ خرج محمد بن هارون عن طاعة إسماعيل بن أحمد الساماني، وكاتب أهل الري بعد قتله محمد بن زيد الطالبي، فصار إليهم فسلموا البلد إليه فاستحوذ عليها، فقصده إسماعيل بن أحمد الساماني بالجيوش فقهره وأخرجه منها مذموماً مدحوراً‏.‏

قال ابن الجوزي في المنتظم‏:‏ وفي يوم التاسع من ذي الحجة منها صلى الناس العصر في زمن الصيف وعليهم ثياب الصيف، فهبت ريح باردة جداً حتى احتاج الناس إلى الاصطلاء بالنار، ولبسوا الفرا والمحشوات، وجمد الماء كفصل الشتاء‏.‏

قال ابن الأثير‏:‏ ووقع بمدينة حمص مثل ذلك، وهب ريح عاصف بالبصرة، فاقتلعت شيئاً كثيراً من نخيلها، وخسف بموضع فيها فمات تحته سبعة آلاف نسمة‏.‏

قال ابن الجوزي، وابن الأثير‏:‏ وزلزلت بغداد في رجب منها مرات متعددة ثم سكنت‏.‏

وحج بالناس فيها الفضل بن عبد الملك‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏ إبراهيم بن محمد بن إبراهيم أحد الصوفية الكبار‏.‏

قال ابن الأثير‏:‏ وهو من أقران السري السقطي‏.‏

قال‏:‏ لأن ترد إلى الله ذرة من همك خير لك مما طلعت عليه الشمس‏.‏

أحمد بن محمد المعتضد بالله، غلب عليه سوء المزاج والجفاف من كثرة الجماع، وكان الأطباء يصفون له ما يرطب بدنه له فيستعمل ضد ذلك حتى سقطت قوته‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 108‏)‏

بدر غلام المعتضد رأس الجيش

كان القاسم الوزير قد عزم على أن يصرف الخلافة عن أولاد المعتضد، وفاوض بذلك بدراً هذا فامتنع عليه وأبى، فلما ولي المكتفي بن المعتضد خاف الوزير غائلة ذلك، فحسّن الوزير للمكتفي قتل بدر هذا، فبعث المكتفي فاحتاط على حواصله وأمواله وهو بواسط، وبعث الوزير إليه بالأمان، فلما قدم بدر بعث إليه من قتله يوم الجمعة لست خلون من رمضان من هذه السنة، ثم قطع رأسه وبقيت جثته أخذها أهله، فبعثوا بها إلى مكة في تابوت فدفن بها، لأنه أوصى بذلك وكان قد أعتق كل مملوك له قبل وفاته‏.‏

وحين أرادوا قتله صلى ركعتين رحمه الله‏.‏

الحسين بن محمد بن عبد الرحمن بن الفهم بن مجرز بن إبراهيم الحافظ البغدادي، سمع خلف بن هشام ويحيى بن معين ومحمد بن سعد وغيرهم، وعنه الحنطبي والطوماري، وكان عسراً في التحديث إلا لمن لازمه، وكانت له معرفة جيدة بالأخبار والنسب والشعر وأسماء الرجال، يميل إلى مذهب العراقيين في الفقه، قال عنه الدارقطني‏:‏ ليس بالقوي‏.‏

عمارة بن وثيمة بن موسى أبو رفاعة الفارسي، صاحب التاريخ على السنن، ولد بمصر وحدث عن أبي صالح كاتب الليث وغيره‏.‏

عمرو بن الليث الصفار أحد الأمراء الكبار، قتل في السجن أول ما قدم المكتفي بغداد‏.‏

 ثم دخلت سنة تسعين ومائتين

فيها أقبل يحيى بن زكرويه بن مهرويه أبو قاسم القرمطي المعروف بالشيخ في جحافله، فعاث بناحية الرقة فساداً فجهز إليه الخليفة جيشاً نحو عشرة آلاف فارس‏.‏

وفيها‏:‏ ركب الخليفة من بغداد إلى سامرا يريد الإقامة بها، فثنى رأيه عن ذلك الوزير فرجع إلى بغداد‏.‏

وفيها‏:‏ قتل يحيى بن زكرويه على باب دمشق، زرقه رجل من المغاربة بمزراق نار فقتله، ففرح الناس بقتله، وتمكن منه المزراق فأحرقه، وكان هذا المغربي من جملة جيش المصريين، فقام بأمر القرامطة من بعده أخوه الحسين وتسمى بأحمد، وتكنى بأبي العباس، وتلقب بأمير المؤمنين، وأطاعه القرامطة، فحاصر دمشق فصالحه أهلها على مال، ثم سار إلى حمص فافتتحها وخطب له على منابرها، ثم سار إلى حماه ومعرة النعمان فقهر أهل تلك النواحي، واستباح أموالهم وحريمهم، وكان يقتل الدواب والصبيان في المكاتب، ويبيح لمن معه وطء النساء، فربما وطئ الواحدة الجماعة الكثيرة من الرجال، فإذا ولدت ولدا هنأ به كل واحد منهم الآخر، فكتب أهل الشام إلى الخليفة ما يلقون من هذا اللعين، فجهز إليهم جيوشاً كثيفة، وأنفق فيهم أموالاً جزيلة، وركب في رمضان فنزل الرقة وبث الجيوش في كل جانب لقتال القرامطة، وكان القرمطي هذا يكتب إلى أصحابه‏:‏ ‏(‏من عبد الله المهدي أحمد بن عبد الله المهدي المنصور، الناصر لدين الله، القائم بأمر الله، الحاكم بحكم الله، الداعي إلى كتاب الله، ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/109‏)‏ الذاب عن حريم الله، المختار من ولد رسول الله‏)‏ وكان يدعي أنه من سلالة علي بن أبي طالب من فاطمة، وهو كاذب أفاك أثيم قبحه الله، فإنه كان من أشد الناس عداوة لقريش، ثم لبني هاشم، دخل سلمية فلم يدع بها أحداً من بني هاشم حتى قتلهم وقتل أولادهم واستباح حريمهم‏.‏

وفيها‏:‏ تولى ثغر طرسوس أبو عامر أحمد بن نصر عوضاً عن مظفر بن جناح لشكوى أهل الثغر منه‏.‏

وحج بالناس الفضل بن محمد العباسي‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل

أبو عبد الرحمن الشيباني، كان إماماً ثقة حافظاً ثبتاً مكثراً عن أبيه وغيره‏.‏

قال ابن المنادي‏:‏ لم يكن أحد أروى عن أبيه منه‏.‏

روى عنه المسند ثلاثين ألفاً، والتفسير مائة ألف حديث وعشرون ألفاً، من ذلك سماع ومن ذلك إجازة، ومن ذلك الناسخ والمنسوخ، والمقدم والمؤخر في كتاب الله، والتاريخ وحديث سبعة، وكرامات القراء، والمناسك الكبير، والصغير‏.‏

وغير ذلك من التصانيف، وحديث الشيوخ‏.‏

قال‏:‏ وما زلنا نرى أكابر شيوخنا يشهدون له بمعرفة الرجال وعلل الحديث والأسماء والكنى والمواظبة على طلب الحديث في العراق وغيرها، ويذكرون عن أسلافهم الإقرار له بذلك، حتى أن بعضهم أرف في تقريظه له بالمعرفة وزيادة السماع للحديث عن أبيه‏.‏

ولما مرض قيل له‏:‏ أين تدفن‏؟‏

فقال‏:‏ صح عندي أن بالقطعية نبياً مدفوناً، ولأن أكون بجوار نبي أحب إلي من أن أكون في جوار أبي‏.‏

مات في جمادى الآخرة منها عن سبع وسبعين سنة، كما مات لها أبوه، واجتمع في جنازته خلق كثير من الناس، وصلى عليه زهير ابن أخيه، ودفن في مقابر باب التين رحمه الله تعالى‏.‏

عبد الله بن أحمد بن سعيد أبو بحر الرباطي المروزي، صحب أبا تراب النخشبي، وكان الجنيد يمدحه ويثني عليه‏.‏

عمر بن إبراهيم أبو بكر الحافظ المعروف بأبي الأذان، كان ثقة ثبتاً‏.‏

محمد بن الحسين بن الفرج أبو ميسرة الهمداني، صاحب المسند، كان أحد الثقات المشهورين والمصنفين‏.‏

محمد بن عبد الله أبو بكر الدقاق

أحد أئمة الصوفية وعبادهم، روى عن الجنيد أنه قال‏:‏ رأيت إبليس في المنام وكأنه عريان، فقلت‏:‏ ألا تستحي من الناس‏؟‏

فقال - وهو لا يظنهم ناساً -‏:‏ لو كانوا ناساً ما كنت ألعب بهم كما يلعب الصبيان بالكرة، إنما الناس جماعة غير هؤلاء‏.‏

فقلت‏:‏ أين هم‏؟‏

فقال‏:‏ في مسجد الشونيزي، قد أضنوا قلبي وأتعبوا جسدي، كلما هممت بهم أشاروا إلى الله عز وجل فأكاد أحترق‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 110‏)‏

قال‏:‏ فلما انتبهت لبست ثيابي ورحت إلى المسجد الذي ذكر، فإذا فيه ثلاثة جلوس ورؤوسهم في مرقعاتهم، فرفع أحدهم رأسه إليّ وقال‏:‏ يا أبا القاسم لا تغتر بحديث الخبيث، وأنت كلما قيل لك شيء تقبل‏؟‏

فإذا هم أبو بكر الدقاق، وأبو الحسين النوري، وأبو حمزة محمد بن علي بن علوية بن عبد الله الجرجاني الفقيه الشافعي تلميذ المزني‏.‏

ذكره ابن الأثير‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى وتسعين ومائتين

فيها جرت وقعة عظيمة بين القرامطة وجند الخليفة، فهزموا القرامطة وأسروا رئيسهم الحسن بن زكرويه، ذا الشامة، فلما أسر حمل إلى الخليفة في جماعة كثيرة من أصحابه من رؤوسهم وأدخل بغداد على فيل مشهور، وأمر الخليفة بعمل دفة مرتفعة فأجلس عليها وجيء بأصحابه فجعل يضرب أعناقهم بين يديه وهو ينظر، وقد جعل في فمه خشبة معترضة مشدودة إلى قفاه، ثم أنزل فضرب مائتي سوط ثم قطعت يداه ورجلاه، وكوي، ثم أحرق وحمل رأسه على خشبة وطيف به في أرجاء بغداد، وذلك في ربيع الأول منها‏.‏

وفيها‏:‏ قصدت الأتراك بلاد ما وراء النهر في حجافل عظيمة، فبيتهم المسلمون فقتلوا منهم خلقاً كثيراً، وسبوا منهم ما لا يحصون ‏{‏وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 25‏]‏‏.‏

وفيها‏:‏ بعث ملك الروم عشرة صلبان مع كل صليب عشرة آلاف، فغاروا على أطراف البلاد وقتلوا خلقاً وسبوا نساء وذرية‏.‏

وفيها‏:‏ دخل نائب طرسوس بلاد الروم، ففتح مدينة أنطاكية - وهي مدينة عظيمة على ساحل البحر تعادل عندهم القسطنطينية - وخلّص من أسارى المسلمين خمسة آلاف أسير، وأخذ للروم ستين مركباً، وغنم شيئاً كثيراً، فبلغ نصيب كل واحد من الغزاة ألف دينار‏.‏

وحج بالناس فيها الفضل بن عبد الملك الهاشمي‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

أحمد بن يحيى بن زيد بن سيار

أبو العباس الشيباني مولاهم، الملقب بثعلب، إمام الكوفيين في النحو واللغة، مولده في سنة مائتين، سمع محمد بن زياد الأعرابي والزبير بن بكار والقواريري وغيرهم، وعنه ابن الأنباري وابن عرفة وأبو عمرو الزاهد، وكان ثقة حجة ديناً صالحاً مشهوراً بالصدق والحفظ، وذكر أنه سمع من القواريري مائة ألف حديث‏.‏

توفي يوم السبت لثلاث عشرة بقيت من جمادى الأولى منها، عن إحدى وتسعين سنة‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وكان سبب موته أنه خرج من الجامع وفي يده كتاب ينظر فيه، وكان قد أصابه صمم شديد فصدمته فرس، فألقته في هوة فاضطرب دماغه فمات في اليوم الثاني رحمه الله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 111‏)‏

وهو مصنف كتاب ‏(‏الفصيح‏)‏، وهو صغير الحجم كثير الفائدة، وله كتاب ‏(‏المصون‏)‏ و‏(‏اختلاف النحويين‏)‏ و‏(‏معاني القرآن‏)‏ وكتاب ‏(‏القراءات‏)‏ و‏(‏معاني الشعر وما يلحن فيه العامة‏)‏ وغير ذلك، وقد نسب إليه من الشعر قوله‏:‏

إذا كنت قوتَ النفس ثم هجرتها * فكم تلبث النفس التي أنت قوتها

سيبقى بقاء النبت في الماء أو كما * أقام لدى ديمومة الماء صوتها

أغرك أني قد تصبرت جاهداً * وفي النفس مني منك ما سيميتها

فلو كان ما بي بالصخور لهدها * وبالريح ما هبت وطال حفوفها

فصبراً لعل الله يجمع بيننا * فأشكو هموماً منك فيك لقيتها

وفيها‏:‏ توفي القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب الوزير، تولى بعد أبيه الوزارة في آخر أيام المعتضد، ثم تولى لولده المكتفي، فلما كان رمضان من هذه السنة مرض فبعث إلى السجون فأطلق من فيها من المطلبيين، ثم توفي في ذي القعدة منها، وقد قارب ثلاثاً وثلاثين سنة، وقد كان حظياً عند الخليفة، وخلف من الأموال ما يعدل سبعمائة ألف دينار‏.‏

ومحمد بن محمد بن إسماعيل بن شداد أبو عبد الله البصري القاضي بواسط، المعروف بالجبروعي، حدث عن مسدد وعن علي بن المديني وابن نمير وغيرهم، وكان من الثقات والقضاة الأجواد العدول الأمناء‏.‏

ومحمد بن إبراهيم البوشنجي‏.‏

ومحمد بن علي الصايغ‏.‏

وقنبل أحد مشاهير القراء، وأئمة العلماء‏.‏