فصل: فصل مشاركة أم عمارة في القتال يوم أحد‏.‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 فصل نصر الله للمسلمين يوم بدر‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم أنزل الله نصره على المسلمين، وصدقهم وعده، فحسُّوهم بالسيوف حتى كشفوهم عن العسكر، وكانت الهزيمة لا شك فيها‏.‏

وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عباد، عن عبد الله بن الزبير، عن الزبير قال‏:‏ والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هوارب، ما دون أخذهن قليل ولا كثير، إذ مالت الرماة على العسكر حين كشفنا القوم عنه، وخلوا ظهورنا للخيل، فأُتينا من خلفنا، وصرخ صارخ‏:‏

ألا إن محمداً قد قُتل، فانكفأنا وانكفأ القوم علينا، بعد أن أصبنا أصحاب اللواء حتى ما يدنو منه أحد منهم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فحدثني بعض أهل العلم‏:‏ أن اللواء لم يزل صريعاً حتى أخذته عمرة بنت علقمة الحارثية فرفعته لقريش فلاثوا به، وكان اللواء مع صؤاب غلام لبني أبي طلحة حبشي، وكان آخر من أخذه منهم فقاتل به حتى قطعت يداه، ثم برك عليه فأخذ اللواء بصدره وعنقه، حتى قتل عليه وهو يقول‏:‏ اللهم هل أعزرت - يعني‏:‏ اللهم هل أعذرت - فقال حسان بن ثابت في ذلك‏:‏

فَخَرْتم باللواءِ وشرُّ فخرٍ * لواءَ حين رُدَّ إلى صواب

جَعَلتُم فخركم فيه لعبدٍ * وإلام مَن يطا عُفْرَ التراب

ظننتم، والسفيهُ له ظنونٌ * وما إنْ ذاك من أمرِ الصواب

بأنَّ جلادنا يوم التقينا * بمكةَ بَيْعُكُم حُـمْرَ العِياب

أقرَّ العينَ أن عُصبتْ يداه * وما أن تُعصبَانِ على خِضَاب

وقال حسان أيضاً في رفع عمرة بنت علقمة اللواء لهم‏:‏

إذا عضلٌ سيقت إلينا كأنها * جدايةُ شركٍ مُعْلَمات الحواجب

أقمنا لهم طعناً مبيراً منكِّلاً * وحزْناهُم الضرب من كل جانب

فلولا لواءُ الحارثيةِ أصبحوا * يُباعونَ في الأسواق بَيْعَ الجلائب

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 26‏)‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فانكشف المسلمون وأصاب منهم العدو، وكان يوم بلاء وتمحيص، أكرم الله فيه من أكرم بالشهادة حتى خلص العدو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذبَّ بالحجارة حتى وقع لشقه فأصيبت رباعيته، وشج في وجهه، وكلمت شفته، وكان الذي أصابه عتبة بن أبي وقاص‏.‏

فحدثني حميد الطويل عن أنس بن مالك قال‏:‏ كسرت رباعية النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وشجَّ في وجهه، فجعل يمسح الدم ويقول‏:‏ ‏(‏‏(‏كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى الله‏)‏‏)‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 128‏]‏‏.‏

قال ابن جرير في ‏(‏تاريخه‏)‏‏:‏ حدثنا محمد بن الحسين، حدثنا أحمد بن الفضل، حدثنا أسباط، عن السدي قال‏:‏ أتى ابن قمئة الحارثي فرمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر أنفه ورباعيته، وشجه في وجهه فأثقله، وتفرق عنه أصحابه، ودخل بعضهم المدينة، وانطلق طائفة فوق الجبل إلى الصخرة، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس‏:‏ ‏(‏‏(‏إليَّ عباد الله، إليَّ عباد الله‏)‏‏)‏

فاجتمع إليه ثلاثون رجلاً فجعلوا يسيرون بين يديه، فلم يقف أحد إلا طلحة وسهل بن حنيف، فحماه طلحة فرُمي بسهم في يده فيبست يده، وأقبل أبي بن خلف الجمحي وقد حلف ليقتلن النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ بل أنا أقتله، فقال‏:‏ يا كذاب أين تفر‏؟‏

فحمل عليه فطعنه النبي صلى الله عليه وسلم في جيب الدرع، فجرح جرحاً خفيفاً، فوقع يخور خُوار الثور، فاحتملوه وقالوا‏:‏ ليس بك جراحة فما يجزعك‏؟‏ قال‏:‏ أليس قال لأقتلنك لو كانت تجتمع ربيعة ومضر لقتلهم، فلم يلبث إلا يوماً أو بعض يوم حتى مات من ذلك الجرح‏.‏

وفشا في الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قُتل، فقال بعض أصحاب الصخرة‏:‏ ليت لنا رسولاً إلى عبد الله بن أبي فيأخذ لنا أمنةً من أبي سفيان، يا قوم إن محمداً قد قُتل فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم‏.‏

فقال أنس بن النضر‏:‏ يا قوم إن كان محمد قد قتل، فإن رب محمد لم يقتل، فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، ثم شدَّ بسيفه فقاتل حتى قُتل‏.‏

وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة، فلما رأوه وضع رجل سهماً في قوسه يرميه فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أنا رسول الله‏)‏‏)‏ ففرحوا بذلك حين وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرح رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى أن في أصحابه من يمتنع به‏.‏

فلما اجتمعوا وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب عنهم الحزن فأقبلوا يذكرون الفتح، وما فاتهم منه، ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا، فقال الله عز وجل في الذين قالوا إن محمداً قد قتل فارجعوا إلى قومكم‏:‏ ‏{‏وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل‏}‏ الآية‏.‏

فأقبل أبو سفيان حتى أشرف عليهم، فلما نظروا إليه نسوا ذلك الذي كانوا عليه وهمهم أبو سفيان‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ليس لهم أن يعلونا، اللهم إن تقتل هذه العصابة لا تعبد في الأرض‏)‏‏)‏‏.‏

ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم، فقال أبو سفيان يومئذ‏:‏ أعل، هبل، حنظلة بحنظلة، ويوم أُحد بيوم بدر‏.‏ وذكر تمام القصة‏.‏ وهذا غريب جداً وفيه نكارة‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 27‏)‏

قال ابن هشام‏:‏ وزعم رُبيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه، عن أبي سعيد‏:‏ أن عتبة بن أبي وقاص رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكسر رباعيته اليمنى السفلى، وجرح شفته السفلى، وأن عبد الله بن شهاب الزهري شجه في جبهته، وأن عبد الله بن قمئة جرح وجنته‏.‏

فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته، ووقع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرة من الحفر التي عملها أبو عامر، ليقع فيها المسلمون، فأخذ علي بن أبي طالب بيده، ورفعه طلحة بن عبيد الله، حتى استوى قائماً، ومصَّ مالك بن سنان أبو أبي سعيد الدم من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ثم ازدرده فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏من مس دمه دمي لم تمسسه النار‏)‏‏)‏ قلت‏:‏ وذكر قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وقع لشقه أغمى عليه، فمر به سالم مولى أبي حذيفة، فأجلسه ومسح الدم عن وجهه فأفاق وهو يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى الله‏)‏‏)‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏ليس لك من الأمر شيء ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

رواه ابن جرير وهو مرسل، وسيأتي بسط هذا في فصل وحده‏.‏

قلت‏:‏ كان أول النهار للمسلمين على الكفار كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّاً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية

‏[‏آل عمران‏:‏ 152_ 153‏]‏‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الله، حدثني أبي، حدثني سليمان بن داود، أخبرنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن عبيد الله، عن ابن عباس أنه قال‏:‏ ما نصر الله في موطن كما نصر يوم أُحد، قال‏:‏ فأنكرنا ذلك فقال‏:‏ بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله، إن الله يقول في يوم أحد‏:‏ ‏{‏ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه‏}‏‏.‏

يقول ابن عباس‏:‏ والحس القتل‏.‏

{‏حتى إذا فشلتم‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين‏}‏ وإنما عنى بهذا الرماة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أقامهم في موضع‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏احموا ظهورنا فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا نغنم فلا تشركونا‏)‏‏)‏‏.‏

فلما غنم النبي صلى الله عليه وسلم وأباحوا عسكر المشركين، أكب الرماة جميعاً فدخلوا في العسكر ينهبون، وقد التقت صفوف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم هكذا - وشبك بين أصابع يديه - والتبسوا‏.‏

فلما أخلَّ الرماة تلك الخلة التي كانوا فيها، دخلت الخيل من ذلك الموضع على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فضرب بعضهم بعضاً فالتبسوا، وقتل من المسلمين ناس كثير، وقد كان لرسول الله وأصحابه أول النهار حتى قتل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة‏.‏

وجال المسلمون جولة نحو الجبل، ولم يبلغوا حيث يقول الناس الغار، إنما كان تحت المهراس وصاح الشيطان، قتل محمد ‏!‏ فلم يشك فيه أنه حق، فما زلنا كذلك ما نشك أنه حق، حتى طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين السعدين نعرفه بكتفيه إذا مشى‏.‏

قال‏:‏ ففرحنا كأنه لم يصبنا ما أصابنا‏.‏

قال‏:‏ فرقى نحونا وهو يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسول الله‏)‏‏)‏ ويقول مرة أخرى‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم إنه ليس لهم أن يعلونا‏)‏‏)‏ حتى انتهى إلينا فمكث ساعة، فإذا أبو سفيان يصيح في أسفل الجبل‏:‏ اُعلُ هبل، اُعلُ هبل مرتين، يعني‏:‏ آلهته، أين ابن أبي كبشة‏؟‏ أين ابن أبي قحافة‏؟‏ أين ابن الخطاب‏؟‏

فقال عمر بن الخطاب‏:‏ ألا أجيبه‏؟‏

قال‏:‏ بلى‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 28‏)‏

قال‏:‏ فلما قال‏:‏ اُعلُ هبل قال‏:‏ الله أعلى وأجل‏.‏ فقال أبو سفيان‏:‏ يا ابن الخطاب قد أنعمت عينها، فعاد عنها - أو فعال عنها - فقال‏:‏ أين ابن أبي كبشة‏؟‏ أين ابن أبي قحافة‏؟‏ أين ابن الخطاب‏؟‏

فقال عمر‏:‏ هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أبو بكر، وها أنا ذا عمر‏.‏

قال‏:‏ فقال أبو سفيان‏:‏ يوم بيوم بدر، الأيام دول، وإن الحرب سجال‏.‏

قال‏:‏ فقال عمر‏:‏ لا سواء، قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار‏.‏

قال‏:‏ إنكم لتزعمون ذلك، لقد خبنا إذن وخسرنا‏.‏

ثم قال أبو سفيان‏:‏ أما إنكم سوف تجدون في قتلاكم مثلة، ولم يكن ذلك عن رأي سراتنا‏.‏

قال‏:‏ ثم أدركته حمية الجاهلية، فقال‏:‏ أما إنه إن كان ذلك لم نكرهه‏.‏

وقد رواه ابن أبي حاتم، والحاكم في ‏(‏مستدركه‏)‏، والبيهقي في ‏(‏الدلائل‏)‏ من حديث سليمان بن داود الهاشمي به‏.‏

وهذا حديث غريب، وهو من مرسلات ابن عباس‏.‏ وله شواهد من وجوه كثيرة، سنذكر منها ما تيسر إن شاء الله، وبه الثقة، وعليه التكلان وهو المستعان‏.‏

قال البخاري‏:‏ حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق عن البراء قال‏:‏ لقينا المشركين يومئذٍ، وأجلس النبي صلى الله عليه وسلم جيشاً من الرماة، وأمر عليهم عبد الله بن جبير وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تبرحوا إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا‏)‏‏)‏‏.‏

فلما لقينا هربوا حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل، رفعن عن سوقهن، قد بدت خلاخلهن فأخذوا يقولون‏:‏ الغنيمة الغنيمة ‏!‏ فقال عبد الله‏:‏ عهد إليَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن لا تبرحوا فأبوا، فلما أبوا صرفت وجوههم فأصيب سبعون قتيلاً، وأشرف أبو سفيان فقال‏:‏

أفي القوم محمد‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تجيبوه‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ أفي القوم ابن أبي قحافة‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تجيبوه‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ أفي القوم ابن الخطاب‏؟‏

فقال‏:‏ إن هؤلاء قتلوا، فلوا كانوا أحياء لأجابوا، فلم يملك عمر نفسه فقال‏:‏ كذبت يا عدوَ الله، أبقى الله عليك ما يحزنك‏.‏

فقال أبو سفيان‏:‏ اُعلُ هبل‏.‏

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أجيبوه‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ ما نقول‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏قولوا الله أعلى وأجل‏)‏‏)‏‏.‏

فقال أبو سفيان‏:‏ لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم‏.‏

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أجيبوه‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ ما نقول‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏قولوا الله مولانا ولا مولى لكم‏)‏‏)‏‏.‏

قال أبو سفيان‏:‏ يوم بيوم بدر، والحرب سجال، وتجدون مثلة لم أمر بها، ولم تسؤني‏.‏

وهذا من إفراد البخاري دون مسلم‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا موسى، حدثنا زهير، حدثنا أبو إسحاق‏:‏ أن البراء بن عازب قال‏:‏ جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرماة يوم أحد - وكانوا خمسين رجلاً - عبد الله بن جبير، قال‏:‏ ووضعهم موضعاً وقال‏:‏

‏(‏‏(‏إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا ظهرنا على العدو وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فهزموهم، قال‏:‏ فأنا والله رأيت النساء يشتددن على الجبل، وقد بدت أسوقهن وخلاخلهن رافعات ثيابهن، فقال أصحاب عبد الله بن جبير‏:‏ الغنيمة، أي‏:‏ قوم الغنيمة ظهر أصحابكم، فما تنظرون‏؟‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 29‏)‏

قال عبد الله بن جبير‏:‏ أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏

قالوا‏:‏ إنا والله لنأتين الناس فلنصيبنَّ من الغنيمة ‏!‏ فلما أتوهم صرفت وجوههم، فأقبلوا منهزمين فذلك الذي يدعوهم الرسول في أخراهم، فلم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غير اثني عشر رجلاً فأصابوا منا سبعين رجلاً‏.‏

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر أربعين ومائة‏:‏ سبعين أسيراً، وسبعين قتيلاً، فقال أبو سفيان‏:‏ أفي القوم محمد، أفي القوم محمد، أفي القوم محمد‏؟‏ ثلاثاً فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه‏.‏

ثم قال‏:‏ أفي القوم ابن أبي قحافة، أفي القوم ابن أبي قحافة‏؟‏ أفي القوم ابن الخطاب، أفي القوم ابن الخطاب‏؟‏ ثم أقبل على أصحابه فقال‏:‏ أما هؤلاء فقد قتلوا، وقد كفيتموهم فما ملك عمر نفسه أن قال‏:‏ كذبت والله يا عدو الله، إن الذين عددت لأحياء كلهم، وقد بقي لك ما يسوؤك‏.‏

فقال‏:‏ يوم بيوم بدر، والحرب سجال، إنكم ستجدون في القوم مثلة لم أمر بها، ولم تسؤني‏.‏

ثم أخذ يرتجز‏:‏ اُعلُ هبل اُعلُ هبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ألا تجيبونه‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ يا رسول الله وما نقول‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏قولوا الله أعلى وأجل‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ إن العُزَّى لنا، ولا عزى لكم‏؟‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ألا تجيبونه‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ يا رسول الله ما نقول‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏قولوا الله مولانا، ولا مولى لكم‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه البخاري من حديث زهير، وهو ابن معاوية مختصراً، وقد تقدم روايته له مطولة من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا ثابت وعلي ابن زيد، عن أنس بن مالك أن المشركين لما رهقوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو في سبعة من الأنصار ورجل من قريش، قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من يردّهم عنا وهو رفيقي في الجنة ‏؟‏‏)‏‏)‏ فجاء رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل‏.‏

فلما رهقوه أيضاً قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من يردّهم عنا، وهو رفيقي في الجنة ‏؟‏‏)‏‏)‏ حتى قتل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ما أنصفنا أصحابنا‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه مسلم عن هدبة بن خالد، عن حماد بن سلمة به‏.‏

وقال البيهقي في ‏(‏الدلائل‏)‏ بإسناده عن عمارة بن غزية، عن أبي الزبير، عن جابر قال‏:‏ انهزم الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وبقي معه أحد عشر رجلاً من الأنصار فيهم‏:‏ طلحة بن عبيد الله، وهو يصعد في الجبل فلحقهم المشركون فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ألا أحد لهؤلاء ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقال طلحة‏:‏ أنا يا رسول الله‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏كما أنت يا طلحة‏)‏‏)‏‏.‏

فقال رجل من الأنصار‏:‏ فأنا يا رسول الله، فقاتل عنه، وصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بقي معه، ثم قتل الأنصاري فلحقوه‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ألا رجل لهؤلاء ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقال طلحة مثل قوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل قوله، فقال رجل من الأنصار‏:‏ فأنا يا رسول الله، فقاتل، وأصحابه يصعدون ثم قُتل فلحقوه، فلم يزل يقول مثل قوله الأول، ويقول طلحة أنا يا رسول، فيحبسه فيستأذنه رجل من الأنصار للقتال فيأذن له فيقاتل، مثل من كان قبله حتى لم يبق معه إلا طلحة فغشوهما‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 30‏)‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏من لهؤلاء ‏؟‏‏)‏‏)‏ فقال طلحة‏:‏ أنا، فقاتل مثل قتال جميع من كان قبله وأصيبت أنامله، فقال‏:‏ حس، فقال لو قلت‏:‏ ‏(‏‏(‏بسم الله لرفعتك الملائكة، والناس ينظرون إليك حتى تلج بك في جو السماء‏)‏‏)‏‏.‏

ثم صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم مجتمعون‏.‏

وروى البخاري‏:‏ عن عبد الله بن أبي شيبة، عن وكيع، عن إسماعيل، عن قيس بن أبي حازم قال‏:‏ رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد‏.‏

وفي الصحيحين من حديث موسى بن إسماعيل، عن معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن أبي عثمان النهدي قال‏:‏ لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض تلك الأيام التي يقاتل فيهن غير طلحة وسعد عن حديثهما‏.‏

وقال الحسن بن عرفة‏:‏ حدثنا مروان بن معاوية، عن هاشم بن هاشم السعدي، سمعت سعيد بن المسيب يقول‏:‏ سمعت سعد بن أبي وقاص يقول‏:‏ نثل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته يوم أحد، وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ارم فداك أبي وأمي‏)‏‏)‏‏.‏

وأخرجه البخاري عن عبد الله بن محمد، عن مروان به‏.‏

وفي صحيح البخاري من حديث عبد الله بن شداد، عن علي بن أبي طالب قال‏:‏ ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم جمع أبويه لأحد، إلا لسعد بن مالك فإني سمعته يقول يوم أحد‏:‏ ‏(‏‏(‏يا سعد ارم فداك أبي وأمي‏)‏‏)‏‏.‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني صالح بن كيسان، عن بعض آل سعد، عن سعد بن أبي وقاص‏:‏ أنه رمى يوم أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال سعد‏:‏ فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يناولني النبل ويقول‏:‏ ‏(‏‏(‏ارم فداك أبي وأمي‏)‏‏)‏ حتى إنه ليناولني السهم ليس له نصل، فأرمي به‏.‏

وثبت في الصحيحين من حديث إبراهيم بن سعد عن أبيه، عن جده، عن سعد بن أبي وقاص قال‏:‏ رأيت يوم أحد عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وعن يساره، رجلين عليهما ثياب بيض، يقاتلان أشد القتال، ما رأيتهما قبل ذلك ولا بعده، يعني‏:‏ جبريل، وميكائيل عليهما السلام‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا عفان، أخبرنا ثابت بن أنس، أن أبا طلحة كان يرمي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، والنبي صلى الله عليه وسلم خلفه يترس به، وكان رامياً، وكان إذا رمى رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم شخصه ينظر أين يقع سهمه، ويرفع أبو طلحة صدره ويقول‏:‏ هكذا بأبي أنت وأمي يا رسول الله لا يصيبك سهم، نحري دون نحرك‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 31‏)‏

وكان أبو طلحة يسوّر نفسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول‏:‏ إني جلد يا رسول الله، فوجهني في حوائجك، ومرني بما شئت‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا عبد العزيز، عن أنس قال‏:‏ لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو طلحة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مجوَّب عليه بجحفة له‏.‏

وكان أبو طلحة رجلاً رامياً شديد النزع، كسر يومئذ قوسين أو ثلاثاً، وكان الرجل يمر معه الجعبة من النبل، فيقول‏:‏ انثرها لأبي طلحة‏.‏

قال‏:‏ ويشرف النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم فيقول أبو طلحة‏:‏ بأبي أنت وأمي لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك‏.‏

ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر، وأم سليم، وأنهما لمشمرتان، أرى خدم سوقهما تنقران القرب على متونهما، تفرغانه في أفواه القوم، ثم ترجعان فتملآنها، ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم‏.‏ ولقد وقع السيف من يدي أبي طلحة أما مرتين وأما ثلاثاً‏.‏

قال البخاري‏:‏ وقال لي خليفة‏:‏ حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس، عن أبي طلحة قال‏:‏ كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد، حتى سقط سيفي من يدي مراراً يسقط وآخذه، ويسقط فآخذه‏.‏

هكذا ذكر البخاري معلقاً بصيغة الجزم، ويشهد له قوله تعالى‏:‏

{‏ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 154 -155‏]‏‏.‏

قال البخاري‏:‏ حدثنا عبدان، أخبرنا أبو حمزة، عن عثمان بن موهب قال‏:‏ جاء رجل حجَّ البيت فرأى قوماً جلوساً فقال‏:‏ من هؤلاء القعود‏؟‏

قال‏:‏ هؤلاء قريش‏.‏

قال‏:‏ من الشيخ‏؟‏

قالوا‏:‏ ابن عمر، فأتاه فقال‏:‏ إني سائلك عن شيء أتحدثني‏؟‏

قال‏:‏ أنشدك بحرمة هذا البيت أتعلم أن عثمان بن عفان فرَّ يوم أحد‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ فتعلمه تغيَّب عن بدر فلم يشهدها‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ فتعلم أنه تخلف عن بيعة الرضوان فلم يشهدها‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ فكبر‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 32‏)‏

قال ابن عمر‏:‏ تعال لأخبرك ولأبين لك عما سألتني عنه‏:‏ أما فراره يوم أُحد فأشهد أن الله عفا عنه، وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت النبي صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏إن لك أجر رجل ممن شهد بدراً وسهمه‏)‏‏)‏ أما تغيبه عن بيعة الرضوان فإنه لو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان بن عفان لبعثه مكانه فبعث عثمان، وكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة‏.‏

فقال النبي صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى‏:‏ ‏(‏‏(‏هذه يد عثمان‏)‏‏)‏ فضرب بها على يده فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏هذه لعثمان اذهب بهذا الآن معك‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه البخاري أيضاً في موضع آخر، والترمذي من حديث أبي عوانة، عن عثمان بن عبد الله بن موهب به‏.‏

وقال الأموي في ‏(‏مغازيه‏)‏ عن ابن إسحاق‏:‏ حدثني يحيى بن عباد، عن أبيه، عن جده، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، وقد كان الناس انهزموا عنه حتى بلغ بعضهم إلى المبقَّى دون الأعوص، وفرَّ عثمان بن عفان، وسعد بن عثمان رجل من الأنصار، حتى بلغوا الجَلعَب جبل بناحية المدينة مما يلي الأعوص‏.‏

فأقاموا ثلاثاً ثم رجعوا، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم‏:‏ ‏(‏‏(‏لقد ذهبتم فيها عريضة‏)‏‏)‏ والمقصود أن أحداً وقع فيها أشياء مما وقع في بدر، منها‏:‏ حصول النعاس حال التحام الحرب، وهذا دليل على طمأنينة القلوب بنصر الله وتأييده، وتمام توكلها على خالقها وبارئها‏.‏

وقد تقدم الكلام على قوله تعالى في غزوة بدر‏:‏ ‏{‏إذ يغشيكم النعاس أمنة منه ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

وقال ها هنا‏:‏ ‏{‏ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً يغشى طائفة منكم‏}‏ يعني‏:‏ المؤمنين الكُمل، كما قال ابن مسعود، وغيره من السلف‏:‏ النعاس في الحرب من الإيمان، والنعاس في الصلاة من النفاق، ولهذا قال بعد هذا‏:‏ ‏{‏وطائفة قد أهمتهم أنفسهم ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

ومن ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استنصر يوم أُحد كما استنصر يوم بدر بقوله‏:‏ ‏(‏‏(‏إن تشأ لا تعبد في الأرض‏)‏‏)‏‏.‏

كما قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الصمد وعفان قالا‏:‏ حدثنا حماد، حدثنا ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول يوم أحد‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم إنك إن تشأ لا تعبد في الأرض‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه مسلم عن حجاج بن الشاعر، عن عبد الصمد، عن حماد بن سلمة به‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا سفيان، عن عمرو، سمع جابر بن عبد الله قال‏:‏ قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد‏:‏ أرأيت إن قتلت فأين أنا ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏في الجنة‏)‏‏)‏ فألقى تمرات في يده ثم قاتل حتى قتل‏.‏

ورواه مسلم والنسائي من حديث سفيان بن عيينة به، وهذا شبيه بقصة عمير بن الحمام التي تقدمت في غزوة بدر رضي الله عنهما وأرضاهما‏.‏

 فصل فيما لقي النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ من المشركين قبحهم الله

قال البخاري‏:‏ ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من الجراح يوم أُحد‏.‏

حدثنا إسحاق بن نصر، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن همام بن منبه سمع أبا هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏اشتد غضب الله على قوم فعلوا بنبيه - يشير إلى رباعيته - اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله في سبيل الله‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 33‏)‏

ورواه مسلم من طريق عبد الرزاق‏:‏ حدثنا مخلد بن مالك، حدثنا يحيى بن سعيد الأموي، حدثنا ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اشتد غضب الله على من قتله النبي في سبيل الله، اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسول الله‏)‏‏)‏ صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا عفان، حدثنا حماد، أخبرنا ثابت، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد وهو يسلت الدم عن وجهه، وهو يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏كيف يفلح قوم شجوا نبيهم، وكسروا رباعيته، وهو يدعو إلى الله‏)‏‏)‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 128‏]‏‏.‏

ورواه مسلم عن القعنبي، عن حماد بن سلمة به‏.‏

ورواه الإمام أحمد‏:‏ عن هشيم ويزيد بن هارون، عن حميد، عن أنس‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته، وشج في وجهه حتى سال الدم على وجهه، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم‏)‏‏)‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس لك من الأمر شيء‏}‏‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا قتيبة، حدثنا يعقوب، عن أبي حازم أنه سمع سهل بن سعد وهو يسأل عن جرح النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أما والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن كان يسكب الماء، وبما دووي‏.‏

قال‏:‏ كانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تغسله، وعلي يسكب الماء بالمجن، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة، أخذت قطعة من حصير فأحرقتها حتى إذا صارت رماداً، ألصقتها فاستمسك الدم، وكسرت رباعيته يومئذ، وجرح وجهه، وكسرت البيضة على رأسه‏.‏

وقال أبو داود الطيالسي في ‏(‏مسنده‏)‏‏:‏ حدثنا ابن المبارك، عن إسحاق، عن يحيى بن طلحة بن عبيد الله، أخبرني عيسى بن طلحة، عن أم المؤمنين عائشة قالت‏:‏ كان أبو بكر إذا ذكر يوم أُحد قال‏:‏ ذاك يوم كله لطلحة‏.‏

ثم أنشأ يحدث قال‏:‏ كنت أول من فاء يوم أحد، فرأيت رجلاً يقاتل في سبيل الله دونه، وأراه قال حمية، قال‏:‏ فقلت‏:‏ كنْ طلحة، حيث فاتني ما فاتني، فقلت يكون رجلاً من قومي أحب إلي، وبيني وبين المشركين رجل لا أعرفه، وأنا أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، وهو يخطف المشي خطفاً لا أخطفه، فإذا هو أبو عبيدة بن الجراح‏.‏

فانتهينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كسرت رباعيته، وشج في وجهه، وقد دخل في وجنته حلقتان من حلق المغفر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏عليكما صاحبكما‏)‏‏)‏ يريد طلحة وقد نزف، فلم نلتفت إلى قوله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 34‏)‏

قال‏:‏ وذهبت لأنزع ذاك من وجهه، فقال‏:‏ أقسم عليك بحقي لما تركتني، فتركته فكره تناولها بيده فيؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأزم عليها بفيه، فاستخرج إحدى الحلقتين، ووقعت ثنيته مع الحلقة، وذهبت لأصنع ما صنع فقال‏:‏ أقسمت عليك بحقي لما تركتني‏.‏

قال‏:‏ ففعل مثل ما فعل في المرة الأولى، فوقعت ثنيته الأخرى مع الحلقة، فكان أبو عبيدة رضي الله عنه من أحسن الناس هتماً، فأصلحنا من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ثم أتينا طلحة في بعض تلك الجفار، فإذا به بضع وسبعون من بين طعنة ورمية وضربة أو أقل أو أكثر، وإذا قد قطعت إصبعه فأصلحنا من شأنه‏.‏

وذكر الواقدي عن ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن أبي الحويرث، عن نافع بن جبير قال‏:‏ سمعت رجلاً من المهاجرين يقول‏:‏ شهدت أحداً فنظرت إلى النبل تأتي من كل ناحية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطها، كل ذلك يصرف عنه‏.‏

ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يومئذ يقول‏:‏ دُلُّوني على محمد، لا نجوت إن نجا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ما معه أحد، فجاوره، فعاتبه في ذلك صفوان بن أمية، فقال‏:‏ والله ما رأيته، أحلف بالله إنه منا ممنوع، خرجنا أربعة فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله، فلم نخلص إليه‏.‏

قال الواقدي‏:‏ ثبت عندي أن الذي رمى في وجنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن قمئة، والذي رمى في شفته وأصاب رباعيته عتبة بن أبي وقاص‏.‏

وقد تقدم عن ابن إسحاق نحو هذا، وأن الرباعية التي كسرت له عليه السلام هي اليمنى السفلى‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني صالح بن كيسان عمن حدثه، عن سعد بن أبي وقاص قال‏:‏ و الله ما حرصت على قتل أحد قط، ما حرصت على قتل عتبة بن أبي وقاص، وإن كان ما علمت لسيء الخلق مبغضاً في قومه، ولقد كفاني فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏اشتد غضب الله على من دمى وجه رسوله‏)‏‏)‏‏.‏

وقال عبد الرزاق‏:‏ حدثنا معمر، عن الزهري، عن عثمان الجزري، عن مقسم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على عتبة بن أبي وقاص حين كسر رباعيته ودمى وجهه، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم لا يحول عليه الحول حتى يموت كافراً‏)‏‏)‏ فما حال عليه الحول حتى مات كافراً إلى النار‏.‏

وقال أبو سليمان الجوزجاني‏:‏ حدثنا محمد بن الحسن، حدثنا إبراهيم ابن محمد، حدثني ابن عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن حرب، عن أبيه، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم داوى وجهه يوم أحد بعظم بالٍ‏.‏

هذا حديث غريب رأيته في أثناء كتاب ‏(‏المغازي‏)‏ للأموي في وقعة أحد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 35‏)‏

ولما نال عبد الله بن قمئة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نال، رجع وهو يقول‏:‏ قتلت محمداً، وصرخ الشيطان أزبُّ العقبة يومئذ بأبعد صوت‏:‏ ألا إن محمداً قد قتل ‏!‏

فحصل بهتة عظيمة في المسلمين، واعتقد كثير من الناس ذلك، وصمموا على القتال عن جوزة الإسلام حتى يموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم‏:‏ أنس بن النضر وغيره، ممن سيأتي ذكره‏.‏

وقد أنزل الله تعالى التسلية في ذلك على تقدير وقوعه فقال تعالى‏:‏

{‏وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ * وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ * سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 144-151‏]‏‏.‏

وقد تكلمنا على ذلك مستقصى في كتابنا التفسير، ولله الحمد‏.‏

وقد خطب الصديق رضي الله عنه في أول مقام قامه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أيها الناس، من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت‏.‏

ثم تلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

قال‏:‏ فكأن الناس لم يسمعوها قبل ذلك، فما من الناس أحد إلا يتلوها‏.‏

وروى البيهقي في ‏(‏دلائل النبوة‏)‏ من طريق ابن أبي نجيح عن أبيه قال‏:‏ مر رجل من المهاجرين يوم أحد على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه، فقال له‏:‏ يا فلان أشعرت أن محمداً قد قُتل‏؟‏

فقال الأنصاري‏:‏ إن كان محمد صلى الله عليه وسلم قد قتل، فقد بلغ الرسالة فقاتلوا عن دينكم فنزل‏:‏ ‏{‏وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

ولعل هذا الأنصاري هو أنس بن النضر رضي الله عنه، وهو عم أنس بن مالك‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يزيد، حدثنا حميد، عن أنس أن عمه غاب عن قتال بدر، فقال‏:‏ غبتُ عن أول قتال قاتله النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين، لئن الله أشهدني قتالاً للمشركين ليرينَّ ما أصنع‏.‏

فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون، فقال‏:‏ اللهم إني أعتذر إليك عما صنع هؤلاء - يعني أصحابه - وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء - يعني المشركين - ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ دون أحد فقال سعد‏:‏ أنا معك‏.‏

قال سعد‏:‏ فلم أستطع أصنع ما صنع، فوجد فيه بضع وثمانون من بين ضربة بسيف، وطعنة برمح، ورمية بسهم‏.‏

قال‏:‏ فكنا نقول فيه وفي أصحابه نزلت ‏{‏فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر‏}‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 36‏)‏

ورواه الترمذي عن عبد بن حميد والنسائي، عن إسحاق بن راهويه، كلاهما عن يزيد بن هارون به‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ حسن، قلت‏:‏ بل على شرط الصحيحين من هذا الوجه‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا بهز، وحدثنا هاشم قالا‏:‏ حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت قال‏:‏ قال أنس عمي، قال هاشم‏:‏ أنس بن النضر، سميت به ولم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر‏.‏

قال‏:‏ فشق عليه، وقال‏:‏ أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه، ولئن أراني الله مشهداً فيما بعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرينَّ الله ما أصنع‏.‏

قال‏:‏ فهاب أن يقول غيرها، فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد‏.‏

قال‏:‏ فاستقبل سعد بن معاذ فقال له أنس‏:‏ يا أبا عمرو أين‏؟‏ واهاً لريح الجنة أجده دون أحد‏.‏

قال‏:‏ فقاتلهم حتى قُتل، فوجد في جسده بضع وثمانون من ضربة وطعنة ورمية‏.‏

قال‏:‏ فقالت أخته عمتي الربيع بنت النضر، فما عرفت أخي إلا ببنانه، ونزلت هذه الآية ‏{‏مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 23‏]‏‏.‏

قال‏:‏ فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه‏.‏

ورواه مسلم عن محمد بن حاتم عن بهز بن أسد‏.‏

ورواه الترمذي والنسائي من حديث عبد الله بن المبارك، وزاد النسائي، وأبو داود، وحماد بن سلمة أربعتهم، عن سليمان بن المغيرة به‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏

وقال أبو الأسود‏:‏ عن عروة بن الزبير قال‏:‏ كان أبي بن خلف أخو بني جمُح قد حلف، وهو بمكة ليقتلن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بلغتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم حلفته قال‏:‏ بل أنا أقتله إن شاء الله‏.‏

فلما كان يوم أحد أقبل أبي في الحديد مقنعاً وهو يقول‏:‏ لا نجوت إن نجا محمد، فحمل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد قتله، فاستقبله مصعب بن عمير أخو بني عبد الدار يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، فقتل مصعب بن عمير‏.‏

وأبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ترقوة أبي بن خلف من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة، فطعنه فيها بالحربة، فوقع إلى الأرض عن فرسه ولم يخرج من طعنته دم، فأتاه أصحابه فاحتملوه وهو يخور خُوار الثور، فقالوا له‏:‏ ما أجزعك‏؟‏ إنما هو خدش‏.‏

فذكر لهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أقتل أبياً‏.‏ ثم قال‏:‏ والذي نفسي بيده لو كان هذا الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعون، فمات إلى النار، فسحقاً لأصحاب السعير‏.‏

وقد رواه موسى بن عقبة في ‏(‏مغازيه‏)‏، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب نحوه‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ لما أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب أدركه أبي بن خلف وهو يقول‏:‏ أي محمد لا نجوتُ إن نجوتَ‏.‏ فقال القوم‏:‏ يا رسول الله أيعطف عليه رجل منا‏؟‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏دعوه ‏!‏‏)‏‏)‏‏.‏

فلما دنا منه تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة، فقال بعض القوم -كما ذُكر لي - فلما أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم انتفض انتفاضة، تطايرنا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انتفض، ثم استقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم فطعنه في عنقه طعنه تدأدأ منها عن فرسه مراراً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 37‏)‏

ذكر الواقدي عن يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه نحو ذلك‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وكان ابن عمر يقول‏:‏ مات أبي بن خلف ببطن رابغ، فإني لأسير ببطن رابغ بعد هوي من الليل، إذا أنا بنار تأججت فهبتها، وإذا برجل يخرج منها بسلسلة يجذبها يهيجه العطش، فإذا رجل يقول‏:‏ لا تسقه، فإنه قتيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا أبي بن خلف‏.‏

وقد ثبت في الصحيحين كما تقدم من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله في سبيل الله‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه البخاري من طريق ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس‏:‏ ‏(‏‏(‏اشتد غضب الله على من قتله رسول الله بيده في سبيل الله‏)‏‏)‏‏.‏

وقال البخاري‏:‏ وقال أبو الوليد‏:‏ عن شعبة، عن ابن المنكدر، سمعت جابراً قال‏:‏ لما قُتل أبي جعلت أبكي، وأكشف الثوب عن وجهه، فجعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينهونني، والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تبكه أو ما تبكيه، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع‏)‏‏)‏‏.‏

هكذا ذكر هذا الحديث ههنا معلقاً، وقد أسنده في الجنائز عن بندار، عن غندر بن شعبة‏.‏

ورواه مسلم والنسائي من طرق، عن شعبة به‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا عبدان، أخبرنا عبد الله بن المبارك، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه إبراهيم أن عبد الرحمن بن عوف أتى بطعام وكان صائماً، فقال‏:‏ قُتل مصعب بن عمير، وهو خير مني، كُفن في بردة إن غطِّي رأسه بدت رجلاه، وإن غطِّي رجلاه بدا رأسه‏.‏

وأراه قال‏:‏ وقتل حمزة، هو خير مني، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط أو قال أعطينا من الدنيا ما أعطينا، وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا، ثم جعل يبكي حتى برد الطعام‏.‏

انفرد به البخاري‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا زهير، حدثنا الأعمش، عن شقيق، عن خباب بن الأرت قال‏:‏

هاجرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله، فمنَّا من مضى أو ذهب لم يأكل من أجره شيئاً، كان منهم مصعب بن عمير قتل يوم أُحد لم يترك إلا نمرة، كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطي بها رجلاه خرج رأسه، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏غطوا بها رأسه، واجعلوا على رجله الأذخر‏)‏‏)‏‏.‏

ومنَّا من أينعت له ثمرته فهو يهديها‏.‏

وأخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجه من طرق عن الأعمش به‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا عبيد الله بن سعيد، حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت‏:‏ لما كان يوم أُحد هزم المشركون فصرخ إبليس لعنة الله عليه‏:‏ أي عباد الله أخراكم، فرجعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم، فبصر حذيفة فإذا هو بأبيه اليمان فقال‏:‏ أي عباد الله أبي أبي‏.‏

قال‏:‏ قالت‏:‏ فوالله ما احتجزوا حتى قتلوه‏.‏

فقال حذيفة‏:‏ يغفر الله لكم‏.‏

قال عروة‏:‏ فوالله ما زال في حذيفة بقية خير حتى لقي الله عز وجل‏.‏

قلت‏:‏ كان سبب ذلك أن اليمان، وثابت بن وقش كانا في الأطام مع النساء لكبرهما وضعفهما فقالا‏:‏ إنه لم يبق من آجالنا إلا ظمء حمار، فنزلا ليحضرا الحرب فجاء طريقهما ناحية المشركين، فأما ثابت فقتله المشركون، وأما اليمان فقتله المسلمون خطأ، وتصدق حذيفة بدِيَّة أبيه على المسلمين، ولم يعاتب أحداً منهم لظهور العذر في ذلك‏.‏

 فصل رد رسول الله عين قتادة بن النعمان عندما سقطت يوم أحد‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان، حتى سقطت على وجنته، فردَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فكانت أحسن عينيه وأحدَّهما‏.‏

وفي الحديث عن جابر بن عبد الله أن قتادة بن النعمان أصيبت عينه يوم أحد حتى سالت على خده، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانها، فكانت أحسن عينيه وأحدَّهما، وكانت لا ترمد إذا رمدت الأخرى‏.‏

وروى الدارقطني بإسناد غريب عن مالك، عن محمد بن عبد الله بن أبي صعصعة، عن أبيه، عن أبي سعيد، عن أخيه قتادة بن النعمان قال‏:‏ أصيبت عيناي يوم أحد، فسقطتا على وجنتي، فأتيت بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعادهما مكانهما، وبصق فيهما فعادتا تبرقان‏.‏

والمشهور الأول أنه أصيبت عينه الواحدة، ولهذا لما وفد ولده على عمر بن عبد العزيز قال له‏:‏ من أنت ‏؟‏

فقال له مرتجلاً‏:‏

أنا ابن الذي سالت على الخد عينه * فردت بكف المصطفى أحسنَ الرد

فعادت كما كانت لأول أمرها * فيا حُسْنَها عيناً ويا حُسْنُ ما خدّ

فقال عمر بن عبد العزيز عند ذلك‏:‏

تلك المكارم لا قعبانِ من لبنٍ * شيباً بماءٍ فعادا بعدُ أبوالا

ثم وصله فأحسن جائزته رضي الله عنه‏.‏

 فصل مشاركة أم عمارة في القتال يوم أحد‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وقاتلت أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية يوم أحد، فذكر سعيد بن أبي زيد الأنصاري أن أم سعد بنت سعد بن الربيع كانت تقول‏:‏ دخلت على أم عمارة فقلت لها‏:‏ يا خالة أخبريني خبرك‏.‏

فقالت‏:‏ خرجت أول النهار أنظر ما يصنع الناس، ومعي سقاء فيه ماء، فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أصحابه، والدولة والريح للمسلمين‏.‏

فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقمت أباشر القتال، وأذبُّ عنه بالسيف، وأرمي عن القوس، حتى خلصت الجراح إلي‏.‏

قالت‏:‏ فرأيت على عاتقها جرحاً أجوف له غور، فقلت لها‏:‏ أصابك بهذا‏؟‏ قالت‏:‏ ابن قمئة، أقمأه الله، لما ولى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل يقول‏:‏ دلوني على محمد لا نجوت إن نجا‏.‏

فاعترضت له أنا، ومصعب بن عمير، وأناس ممن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضربني هذه الضربة، ولقد ضربته على ذلك ضربات، ولكن عدو الله كانت عليه درعان‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 39‏)‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وترس أبو دجانة دون رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، يقع النبل في ظهره وهو منحن عليه، حتى كثر فيه النبل‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى عن قوسه حتى اندقت سيتها، فأخذها قتادة بن النعمان فكانت عنده‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني القاسم بن عبد الرحمن بن رافع أخو بني عدي بن النجار قال‏:‏ انتهى أنس بن النضر، عم أنس بن مالك، إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار وقد ألقوا بأيديهم، فقال‏:‏ فما يجلسكم‏؟‏

قالوا‏:‏ قُتل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال‏:‏ فما تصنعون بالحياة بعده‏؟‏ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استقبل القوم، فقاتل حتى قُتل، وبه سمي أنس بن مالك‏.‏

فحدثني حميد الطويل عن أنس بن مالك قال‏:‏ لقد وجدنا بأنس بن النضر يومئذ سبعين ضربة، فما عرفه إلا أخته، عرفته ببنانه‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وحدثني بعض أهل العلم‏:‏ أن عبد الرحمن بن عوف أصيب فوه يومئذ، فهتم وجرح عشرين جراحة أو أكثر، أصابه بعضها في رجله فعرج‏.‏

 فصل في أول من عرف رسول الله بعد الهزيمة‏:‏ كعب بن مالك‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكان أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهزيمة، وقول الناس قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما ذكر لي الزهري -كعب بن مالك‏.‏

قال‏:‏ رأيت عينيه تزهران من تحت المغفر، فناديت بأعلى صوتي‏:‏ يا معشر المسلمين أبشروا، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي أن أنصت‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فلما عرف المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم نهضوا به، ونهض معهم نحو الشعب، معه أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، والحارث بن الصمة، ورهط من المسلمين‏.‏

فلما أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب أدركه أبي بن خلف، فذكر قتله عليه السلام أبياً كما تقدم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكان أبي بن خلف، كما حدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فيقول‏:‏ يا محمد إن عندي العودَ - فرساً - أعلفه كل يوم فَرَقاً من ذرة، أقتلك عليه‏.‏

فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏بل أنا أقتلك إن شاء الله‏)‏‏)‏‏.‏

فلما رجع إلى قريش وقد خدشه في عنقه خدشاً غير كبير، فاحتقن الدم فقال‏:‏ قتلني والله محمد‏.‏

فقالوا له‏:‏ ذهب والله فؤادك، والله إنْ بك بأس‏.‏

قال‏:‏ إنه قد كان قال لي بمكة‏:‏ أنا أقتلك، فوالله لو بصق عليَّ لقتلني، فمات عدو الله بسرَف وهم قافلون به إلى مكة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 40‏)‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فقال حسان بن ثابت في ذلك‏:‏

لقد ورِثَ الضلالة عن أبيه * أبي يوم بارزه الرسولُ

أتيتَ إليه تحملُ رِمَّ عَظْمٍ * وتُوعِده وأنت به جَهول

وقد قَتلتْ بنو النجّار منكم * أميةَ إذ يغوث‏:‏ يا عقيل

وتَبَّ ابنا ربيعةَ إذ أطاعا * أبا جهلٍ لأمهما الهبول

وأفلتَ حارثٌ لما شُغلنا * بأسْرِ القوم، أُسرتِهِ قليل

وقال حسان بن ثابت أيضاً‏:‏

ألا مَن مبلغٌ عني أبيا * فقد ألقيت في سحق السعير

تمُني بالضلالة من بعيد * وتقُسِمُ إنّ قَدرتَ مع النُذور

تمنِّيكَ الأماني من بعيد * وقولُ الكفرِ يرجعُ في غرور

فقد لاقتك طعنةُ ذي حفاظٍ * كريمِ البيتِ ليس بذي فجور

له فضلٌ على الأحياء طُراً * إذا نابتْ مُلمّاتُ الأمور

قال ابن إسحاق‏:‏ فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فم الشعب، خرج علي بن أبي طالب حتى ملأ درقته ماءً من المهراس، فجاء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشرب، منه فوجد له ريحاً فعافه ولم يشرب منه، وغسل عن وجهه الدم، وصب على رأسه وهو يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏اشتد غضب الله على من دمى نبيه‏)‏‏)‏‏.‏

وقد تقدم شواهد ذلك من الأحاديث الصحيحة بما فيه الكفاية‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب معه أولئك النفر من أصحابه، إذ علت عالية من قريش الجبل‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ فيهم خالد بن الوليد‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم إنه لا ينبغي لهم أن يعلونا‏)‏‏)‏ فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين حتى أهبطوهم من الجبل، ونهض النبي صلى الله عليه وسلم إلى صخرة من الجبل ليعلوها، وقد كان بدَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهر بين درعين‏.‏

فلما ذهب لينهض لم يستطع، فجلس تحته طلحة بن عبيد الله، فنهض به حتى استوى عليها، فحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير، عن الزبير قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يومئذ‏:‏ ‏(‏‏(‏أوجب طلحة‏)‏‏)‏ حين صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ما صنع‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وذكر عمر مولى عفرة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر يوم أحد قاعداً من الجراح التي أصابته وصلى المسلمون خلفه قعوداً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 41‏)‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال‏:‏ كان فينا رجل أتيُّ لا يدرى من هو، يقال له‏:‏ قزمان، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا ذكر‏:‏ ‏(‏‏(‏إنه لمن أهل النار‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فلما كان يوم أحد قاتل قتالاً شديداً فقتل هو وحده ثمانية أو سبعة من المشركين، وكان ذا بأس فأثبتته الجراحة، فاحتمل إلى دار بني ظفر‏.‏

قال‏:‏ فجعل رجال من المسلمين يقولون له‏:‏ والله لقد أبليت اليوم يا قزمان فأبشر‏.‏

قال‏:‏ بماذا أبشر‏؟‏ فوالله إن قاتلت إلا عن أحساب قومي، ولولا ذلك ما قاتلت‏.‏

قال‏:‏ فلما اشتدت عليه جراحته أخذ سهماً من كنانته، فقتل به نفسه‏.‏

وقد ورد مثل قصة هذا في غزوة خيبر كما سيأتي، إن شاء الله‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهري، عن المسيب، عن أبي هريرة قال‏:‏ شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، فقال لرجل ممن يدعي الإسلام‏:‏ ‏(‏‏(‏هذا من أهل النار‏)‏‏)‏‏.‏

فلما حضر القتال قاتل الرجل قتالاً شديداً فأصابته جراحة، فقيل‏:‏ يا رسول الله الرجل الذي قلت إنه من أهل النار قاتل اليوم قتالاً شديداً وقد مات‏.‏

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إلى النار‏)‏‏)‏ فكاد بعض القوم يرتاب، فبينما هم على ذلك إذ قيل فإنه لم يمت ولكن به جراح شديدة، فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏الله أكبر، أشهد أني عبد الله ورسوله‏)‏‏)‏‏.‏

ثم أمر بلالاً فنادى في الناس‏:‏ ‏(‏‏(‏إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر‏)‏‏)‏‏.‏

وأخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الرزاق به‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ و كان ممن قتل يوم أحد مخيريق، وكان أحد بني ثعلبة بن الغيطون، فلما كان يوم أحد قال‏:‏ يا معشر يهود، والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم لحق‏.‏

قالوا‏:‏ إن اليوم يوم السبت‏.‏

قال‏:‏ لا سبت لكم، فأخذ سيفه وعدته وقال‏:‏ إن أصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ما شاء‏.‏

ثم غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتل معه حتى قتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا‏:‏ ‏(‏‏(‏مخيريق خير يهود‏)‏‏)‏‏.‏

قال السهيلي‏:‏ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أموال مخيريق - وكانت سبع حوائط - أوقافاً بالمدينة لله‏.‏

قال محمد بن كعب القرظي‏:‏ وكانت أول وقف بالمدينة‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني الحصين بن عبد الرحمن بن عمر بن سعد بن معاذ، عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد، عن أبي هريرة أنه كان يقول‏:‏ حدثوني عن رجل دخل الجنة لم يصلِ قط، فإذا لم يعرفه الناس سألوه من هو‏؟‏ فيقول‏:‏ أصيرم بني عبد الأشهل عمرو بن ثابت بن وقش‏.‏

قال الحصين‏:‏ فقلت لمحمود بن أسد كيف كان شأن الأصيرم‏؟‏

قال‏:‏ كان يأبى الإسلام على قومه، فلما كان يوم أحد بدا له فأسلم، ثم أخذ سيفه فغدا حتى دخل في عرض الناس، فقاتل حتى أثبتته الجراحة‏.‏

قال‏:‏ فبينما رجال من بني عبد الأشهل يلتمسون قتلاهم في المعركة إذا هم به، فقالوا‏:‏ والله إن هذا للأصيرم ما جاء به، لقد تركناه، وإنه لمنكر لهذا الحديث، فسألوه فقالوا‏:‏ ما جاء بك يا عمرو‏؟‏ أحدب على قومك، أم رغبة في الإسلام‏؟‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 42‏)‏

فقال‏:‏ بل رغبة في الإسلام أمنت بالله وبرسوله وأسلمت، ثم أخذت سيفي وغدوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتلت حتى أصابني ما أصابني، فلم يلبث أن مات في أيديهم، فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنه من أهل الجنة‏)‏‏)‏‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني أبي عن أشياخ من بني سلمة قالوا‏:‏ كان عمرو بن الجموح رجلاً أعرج شديد العرج، وكان له بنون أربعة مثل الأسد، يشهدون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد، فلما كان يوم أحد أرادوا حبسه، وقالوا‏:‏ إن الله قد عذرك‏.‏

فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ إن بني يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه، والخروج معك فيه، فوالله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أما أنت فقد عذرك الله فلا جهاد عليك‏)‏‏)‏ وقال لبنيه‏:‏ ‏(‏‏(‏ما عليكم أن لا تمنعوه، لعل الله أن يرزقه الشهادة‏)‏‏)‏ فخرج معه فقتل يوم أحد رضي الله عنه‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ووقعت هند بنت عتبة -كما حدثني صالح بن كيسان - والنسوة اللائي معها يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجدعن الآذان والأنوف، حتى اتخذت هند من آذان الرجال وأنوفهن خدماً وقلائد، وأعطت خدمها وقلائدها وقرطها وحشياً، وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها، فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها‏.‏

وذكر موسى بن عقبة أن الذي بقر كبد حمزة وحشي، فحملها إلى هند فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها، فالله أعلم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم علت على صخرة مشرفة، فصرخت بأعلى صوتها فقالت‏:‏

نحن جزيناكم بيوم بدر * والحرب بعد الحرب ذات سعر

ما كان لي عن عتبةِ من صبر * ولا أخي وعمه وبكر

شفيت نفسي وقضيت نذري * شفيت وحشي غليل صدري

فشكر وحشيٍ علي عمري * حتى ترم أعظمي في قبري

قال‏:‏ فأجابتها هند بنت أثاثة بن عباد بن المطلب فقالت‏:‏

خزيت في بدر وبعد بدر * يا بنت وقاع عظيم الكفر

صبحك الله غداة الفجر * م الهاشميين الطوال الزهر

بكل قطاع حسام يفري * حمزة ليثيٌ وعلي صقري

إذ رأم شيب وأبوك غدري * فخضبا منه ضواحي النحر

ونذرك السوء فشر نذر *

‏(‏ج/ص‏:‏ 3/ 43‏)‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكان الحليس بن زيان أخو بني الحارث بن عبد مناة - وهو يومئذ سيد الأحابيش - مر بأبي سفيان وهو يضرب في شدق حمزة بن عبد المطلب بزج الرمح، ويقول‏:‏ ذق عقق‏.‏

فقال الحليس‏:‏ يا بني كنانة هذا سيد قريش يصنع بابن عمه ما ترون لحماً‏.‏

فقال‏:‏ ويحك اكتمها عني فإنها كانت زلة‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم إن أبا سفيان حين أراد الانصراف، أشرف على الجبل، ثم صرخ بأعلى صوته‏:‏ أنعمت فعال، إن الحرب سجال، يوم بيوم بدر، اعل هبل، أي‏:‏ ظهر دينك‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر‏:‏ ‏(‏‏(‏قم يا عمر فأجبه فقل‏:‏ الله أعلى وأجل، لا سواء، قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار‏)‏‏)‏‏.‏

فقال له أبو سفيان‏:‏ هلم إلي يا عمر‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر‏:‏ ‏(‏‏(‏ائته فانظر ما شأنه‏)‏‏)‏‏.‏

فجاءه فقال له أبو سفيان‏:‏ أنشدك الله يا عمر أقتلنا محمداً‏؟‏

فقال عمر‏:‏ اللهم لا، وإنه ليسمع كلامك الآن‏.‏

قال‏:‏ أنت عندي أصدق من ابن قمئة وأبر‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم نادى أبو سفيان إنه قد كان في قتلاكم مثل، والله ما رضيت وما سخطت وما نهيت ولا أمرت‏.‏

قال‏:‏ ولما انصرف أبو سفيان نادى‏:‏ إن موعدكم بدر العام المقبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه‏:‏ ‏(‏‏(‏قل‏:‏ نعم، هو بيننا وبينك موعد‏)‏‏)‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اخرج في آثار القوم وانظر ماذا يصنعون وما يريدون، فإن كانوا قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة، والذي نفسي بيده إن أرادوها لأسيرن إليهم فيها ثم لأناجزنهم‏)‏‏)‏‏.‏

قال علي‏:‏ فخرجت في أثرهم أنظر ماذا يصنعون، فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل، ووجهوا إلى مكة‏.‏

 دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا مروان بن معاوية الفراري، حدثنا عبد الواحد بن أيمن المكي، عن ابن رفاعة الزرقي، عن أبيه قال‏:‏ لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏استووا حتى أثني على ربي عز وجل‏)‏‏)‏ فصاروا خلفه صفوفاً فقال‏:‏

‏(‏‏(‏اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مبعد لما قربت، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة والأمن يوم الخوف‏.‏

اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعتنا، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 44‏)‏

ورواه النسائي في ‏(‏اليوم والليلة‏)‏ عن زياد بن أيوب، عن مروان بن معاوية، عن عبد الواحد بن أيمن، عن عبيد بن رفاعة، عن أبيه به‏.‏