فصل: فصل استخلاف كلثوم بن حصين الغفاري على المدينة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 قصة حاطب بن أبي بلتعة

قال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني محمد بن جعفر، عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا قالوا‏:‏ لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير إلى مكة، كتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمر في السير إليهم‏.‏

ثم أعطاه امرأة زعم محمد بن جعفر أنها من مزينة، وزعم لي غيره أنها سارة مولاة لبعض بني عبد المطلب، وجعل لها جعلا على أن تبلغه قريشاً، فجعلته في رأسها، ثم فتلت عليه قرونها، ثم خرجت به‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 324‏)‏

وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أدركا امرأة قد كتب معها حاطب بن أبي بلتعة بكتاب إلى قريش، يحذرهم ما قد أجمعنا له من أمرهم‏)‏‏)‏‏.‏

فخرجا حتى أدركاها بالحليفة، حليفة بني أبي أحمد فاستنزلاها، فالتمساه في رحلها، فلم يجدا فيه شيئاً‏.‏

فقال لها علي‏:‏ إني أحلف بالله ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كذبنا، ولتخرجن لنا هذا الكتاب أو لنكشفنك‏.‏

فلما رأت الجد منه قالت‏:‏ أعرض، فأعرض، فحلت قرون رأسها، فاستخرجت الكتاب منها، فدفعته إليه‏.‏

فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطباً، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا حاطب ما حملك على هذا ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ يا رسول الله أما والله إني لمؤمن بالله وبرسوله ما غيرت ولا بدلت، ولكنني كنت امرءاً ليس لي في القوم من أصل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل، فصانعتهم عليهم‏.‏

فقال عمر بن الخطاب‏:‏ يا رسول الله دعني فلأضرب عنقه فإن الرجل قد نافق‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏وما يدريك يا عمر، لعل الله قد اطلع على أصحاب بدر يوم بدر، فقال‏:‏ اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم‏)‏‏)‏‏.‏

وأنزل الله في حاطب‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏أول سورة الممتحنة‏]‏ إلى آخر القصة‏.‏

هكذا أورد ابن إسحاق هذه القصة مرسلة‏.‏

وقد ذكر السهيلي أنه كان في كتاب حاطب أن رسول الله قد توجه إليكم بجيش كالليل يسير كالسيل، وأقسم بالله لو سار إليكم وحده، لنصره الله عليكم، فإنه منجز له ما وعده‏.‏

قال‏:‏ وفي تفسير ابن سلام‏:‏ أن حاطباً كتب‏:‏ إن محمداً قد نفر، فإما إليكم وإما إلى غيركم، فعليكم الحذر‏.‏

وقد قال البخاري‏:‏ ثنا قتيبة، ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، أخبرني الحسن بن محمد أنه سمع عبيد الله بن أبي رافع، سمعت علياً يقول‏:‏ بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها‏)‏‏)‏‏.‏

فانطلقنا تعادي بنا خيلنا، حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا‏:‏ أخرجي الكتاب‏.‏

فقالت‏:‏ ما معي‏.‏

فقلنا‏:‏ لتخرجن الكتاب، أو لنلقين الثياب‏.‏

قال‏:‏ فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه‏:‏ من حاطب بن أبي بلتعة، إلى ناس مكة من المشركين، يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا حاطب ما هذا ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ يا رسول الله لا تعجل علي، إني كنت امرءاً ملصقاً في قريش - يقول‏:‏ كنت حليفاً - ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين من لهم قرابات بمكة يحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببت إذا فاتني ذلك من النسب فيهم، أن أتخذ عندهم يداً يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتداداً عن ديني، ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 325‏)‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أما إنه قد صدقكم‏)‏‏)‏‏.‏

فقال عمر‏:‏ يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعل الله قد اطلع على من شهد بدراً، فقال‏:‏ اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم‏)‏‏)‏‏.‏

فأنزل الله سورة‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فقد ضل سواء السبيل‏}‏‏.‏

وأخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجه، من حديث سفيان بن عيينة‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا حجين ويونس، قالا‏:‏ حدثنا ليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله أن حاطب بن أبي بلتعة كتب إلى أهل مكة يذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد غزوهم، فدل رسول الله صلى الله عليه وسلم على المرأة التي معها الكتاب، فأرسل إليها فأخذ كتابها من رأسها، وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا حاطب أفعلت ‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ أما إني لم أفعله غشاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفاقاً، قد علمت أن الله مظهر رسوله ومتم له أمره، غير أني كنت غريباً بين ظهرانيهم، وكانت والدتي معهم، فأردت أن أتخذ يداً عندهم‏.‏

فقال له عمر‏:‏ ألا أضرب رأس هذا‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أتقتل رجلاً من أهل بدر، وما يدريك لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال‏:‏ اعملوا ما شئتم‏)‏‏)‏‏.‏

تفرد بهذا الحديث من هذا الوجه الإمام أحمد، وإسناده على شرط مسلم، ولله الحمد‏.‏

 فصل

قال ابن إسحاق‏:‏ فحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس قال‏:‏ ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفره، واستخلف على المدينة أبا رهم، كلثوم بن حصين بن عتبة بن خلف الغفاري‏.‏

وخرج لعشر مضين من شهر رمضان، فصام وصام الناس معه حتى إذا كان بالكديد بين عسفان وأمج، أفطر‏.‏

ثم مضى حتى نزل مر الظهران في عشرة آلاف من المسلمين‏.‏

وقال عروة بن الزبير‏:‏ كان معه اثنا عشر ألفاً‏.‏

وكذا قال الزهري، وموسى بن عقبة‏.‏

فسبعت سليم، وبعضهم يقول‏:‏ ألفت سليم، وألفت مزينة، وفي كل القبائل عدد وإسلام‏.‏

وأوعب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرون والأنصار، فلم يتخلف عنه منهم أحد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 326‏)‏

وروى البخاري عن محمود، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري نحوه‏.‏

وقد روى البيهقي من حديث عاصم بن علي، عن الليث بن سعد، عن عقيل، عن الزهري، أخبرني عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا غزوة الفتح في رمضان‏.‏

قال‏:‏ وسمعت سعيد بن المسيب يقول مثل ذلك، لا أدري أخرج في ليال من شعبان فاستقبل رمضان، أو خرج في رمضان بعد ما دخل‏؟‏

غير أن عبيد الله بن عبد الله أخبرني أن ابن عباس قال‏:‏ صام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ الكديد - الماء الذي بين قديد وعسفان - أفطر، فلم يزل يفطر حتى انصرم الشهر‏.‏

ورواه البخاري عن عبد الله بن يوسف، عن الليث، غير أنه لم يذكر الترديد بين شعبان ورمضان‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا علي بن عبد الله، ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن طاووس، عن ابن عباس قال‏:‏ سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان، فصام حتى بلغ عسفان، ثم دعا بإناء فشرب نهاراً ليراه الناس، فأفطر حتى قدم مكة‏.‏

قال‏:‏ وكان ابن عباس يقول‏:‏ صام رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر وأفطر، فمن شاء صام، ومن شاء أفطر‏.‏

وقال يونس‏:‏ عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال‏:‏ مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفرة الفتح، واستعمل على المدينة أبا رهم كلثوم ابن الحصين الغفاري‏.‏

وخرج لعشر مضين من رمضان، فصام وصام الناس معه، حتى أتى الكديد - بين عسفان وأمج - فأفطر، ودخل مكة مفطراً، فكان الناس يرون آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم الفطر، وأنه نسخ ما كان قبله‏.‏

قال البيهقي‏:‏ فقوله خرج لعشر من رمضان، مدرج في الحديث‏.‏

وكذلك ذكره عبد الله بن إدريس، عن ابن إسحاق‏.‏

ثم روي من طريق يعقوب بن سفيان، عن جابر، عن يحيى، عن صدقة، عن ابن إسحاق أنه قال‏:‏ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لعشر مضين من رمضان سنة ثمان‏.‏

ثم روى البيهقي من حديث أبي إسحاق الفزاري، عن محمد بن أبي حفصة، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال‏:‏ كان الفتح لثلاث عشر خلت من شهر رمضان‏.‏

قال البيهقي‏:‏ وهذا الإدراج وهم، إنما هو من كلام الزهري‏.‏

ثم روي من طريق ابن وهب، عن يونس، عن الزهري قال قال‏:‏ غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة الفتح - فتح مكة - فخرج من المدينة في رمضان، ومعه من المسلمين عشرة آلاف، وذلك على رأس ثماني سنين ونصف سنة من مقدمه المدينة، وافتتح مكة لثلاث عشرة بقين من رمضان‏.‏

وروى البيهقي من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في رمضان، ومعه عشرة آلاف من المسلمين، فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر‏.‏

فقال الزهري‏:‏ وإنما يؤخذ بالأحدث فالأحدث‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 327‏)‏

قال الزهري‏:‏ فصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة لثلاث عشرة ليلة خلت من رمضان، ثم عزاه إلى الصحيحين من طريق عبد الرزاق، والله أعلم‏.‏

وروى البيهقي من طريق سعيد بن عبد العزيز التنوخي، عن عطية بن قيس، عن قظعة بن يحيى، عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏

آذننا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرحيل عام الفتح ليلتين خلتا من رمضان، فخرجنا صواماً حتى بلغنا الكديد، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفطر، فأصبح الناس مرحى، منهم الصائم ومنهم المفطر، حتى إذا بلغنا المنزل الذي نلقى العدو فيه، أمرنا بالفطر فأفطرنا أجمعين‏.‏

وقد رواه الإمام أحمد عن أبي المغيرة، عن سعيد بن عبد العزيز، حدثني عطية بن قيس، عمن حدثه عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ آذننا رسول الله بالرحيل عام الفتح لليلتين خلتا من رمضان، فخرجنا صواماً حتى بلغنا الكديد، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفطر، فأصبح الناس منهم الصائم ومنهم المفطر، حتى إذا بلغ أدنى منزل يلقى العدو أمرنا بالفطر فأفطرنا أجمعون‏.‏

قلت‏:‏ فعلى ما ذكره الزهري من أن الفتح كان يوم الثالث عشر من رمضان، وما ذكره أبو سعيد من أنهم خرجوا من المدينة في ثاني شهر رمضان، يقتضي أن مسيرهم كان بين مكة والمدينة في إحدى عشرة ليلة‏.‏

ولكن روى البيهقي، عن أبي الحسين بن الفضل، عن عبد الله بن جعفر، عن يعقوب بن سفيان، عن الحسن بن الربيع، عن ابن إدريس، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري ومحمد بن علي بن الحسين، وعاصم بن عمر بن قتادة، وعمرو بن شعيب، وعبد الله بن أبي بكر وغيرهم قالوا‏:‏ كان فتح مكة في عشر بقيت من شهر رمضان سنة ثمان‏.‏

قال أبو داود الطيالسي‏:‏ ثنا وهيب، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر، عن عبد الله قال‏:‏ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح صائماً، حتى أتى كراع الغميم، والناس معه مشاة وركبانا، وذلك في شهر رمضان فقيل‏:‏ يا رسول الله إن الناس قد اشتد عليهم الصوم، وإنما ينظرون كيف فعلت ‏؟‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 328‏)‏

فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح فيه ماء، فرفعه فشرب والناس ينظرون، فصام بعض الناس، وأفطر البعض حتى أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن بعضهم صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أولئك العصاة‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه مسلم من حديث الثقفي، والدراوردي، عن جعفر بن محمد‏.‏

وروى الإمام أحمد من حديث محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني بشير بن يسار، عن ابن عباس قال‏:‏ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح في رمضان، فصام وصام المسلمون معه، حتى إذا كان بالكديد، دعا بماء في قعب وهو على راحلته فشرب والناس ينظرون، يعلمهم أنه قد أفطر، فأفطر المسلمون‏.‏

تفرد به أحمد‏.‏

 فصل

في إسلام العباس بن عبد المطلب، عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي أخي أم سلمة أم المؤمنين، وهجرتهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدوه في أثناء الطريق وهو ذاهب إلى فتح مكة‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وقد كان العباس بن عبد المطلب لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ لقيه بالجحفة مهاجراً بعياله، وقد كان قبل ذلك مقيماً بمكة على سقايته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عنه راض، فيما ذكره ابن شهاب الزهري‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وقد كان أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وعبد الله بن أبي أمية، قد لقيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً بنيق العقاب فيما بين مكة والمدينة، والتمسا الدخول عليه‏.‏

فكلمته أم سلمة فيهما، فقالت‏:‏ يا رسول الله إن ابن عمك، وابن عمتك، وصهرك‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا حاجة لي بهما، أما ابن عمي فهتك عرضي، وأما ابن عمتي فهو الذي قال لي بمكة ما قال‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فلما خرج إليهما الخبر بذلك، ومع أبي سفيان بني له فقال‏:‏ والله ليأذنن لي أو لآخذن بيد بني هذا، ثم لنذهبن في الأرض، ثم نموت عطشاً وجوعاً‏.‏

فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم رق لهما، ثم أذن لهما، فدخلا عليه فأسلما، وأنشد أبو سفيان قوله في إسلامه، واعتذر إليه مما كان مضى منه‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 329‏)‏

لعمرك أني يوم أحمل رايةً * لتغلب خيل اللات خيل محمد

لكالمدلج الحيران أظلم ليله * فهذا أواني حين أُهدى وأهتدي

هدى بي هاد غير نفسي ونالني * مع الله من طردت كل مطرد

أصد وأنأى جاهداً عن محمد * وأدعى وإن لم أنتسب من محمد

هموا ما هموا من لم يقل بهواهم * وإن كان ذا رأي يلم ويفند

أريد لأرضيهم ولست بلائط * مع القوم ما لم أهد في كل مقعد

فقل لثقيف لا أريد قتالها * وقل لثقيف تلك عيري أوعدي

فما كنت في الجيش الذي نال عامر * وما كان عن جري لساني ولا يدي

قبائل جاءت من بلاد بعيدة * نزائع جاءت من سهام وسردد

قال ابن إسحاق‏:‏ فزعموا أنه حين أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ونالني مع الله من طردت كل مطرد، ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده في صدره وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أنت طردتني كل مطرد‏)‏‏)‏‏.‏

 فصل نزول النبي عليه السلام إلى مر الظهران‏.‏

ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مر الظهران نزل فيه فأقام، كما روى البخاري‏:‏ عن يحيى بن بكير، عن الليث، ومسلم عن أبي الطاهر، عن ابن وهب، كلاهما عن يونس، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن جابر قال‏:‏

كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمر الظهران نجتني الكباث، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏عليكم بالأسود منه فإنه أطيب‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ يا رسول الله أكنت ترعى الغنم‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم وهل من نبي إلا وقد رعاها‏)‏‏)‏‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن سنان بن إسماعيل، عن أبي الوليد سعيد بن مينا قال‏:‏ لما فرغ أهل مكة ورجعوا، أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسير إلى مكة، فلما انتهى إلى مر الظهران نزل بالعقبة، فأرسل الجناة يجتنون الكباث، فقلت لسعيد‏:‏ وما هو ‏؟‏

قال‏:‏ ثمر الآراك‏.‏

قال‏:‏ فانطلق ابن مسعود فيمن يجتني، قال‏:‏ فجعل أحدهم إذا أصاب حبة طيبة قذفها في فيه، وكانوا ينظرون إلى دقة ساقي ابن مسعود وهو يرقى في الشجرة فيضحكون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏تعجبون من دقة ساقيه فوالذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 330‏)‏

وكان ابن مسعود ما اجتنى من شيء جاء به وخياره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال في ذلك‏:‏

هذا جناي وخياره فيه * إذ كل جان يده إلى فيه

وفي الصحيحين عن أنس قال‏:‏ أنفجنا أرنباً ونحن بمر الظهران فسعى القوم فلغبوا فأدركتها فأخذتها، فأتيت بها أبا طلحة فذبحها، وبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بوركها وفخذيها فقبله‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران، وقد عميت الأخبار عن قريش، فلا يأتيهم خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يدرون ما رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعل‏.‏

وخرج في تلك الليالي أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء يتجسسون الأخبار، وينظرون هل يجدون خبراً أو يسمعون به‏.‏

وذكره ابن لهيعة‏:‏ عن أبي الأسود، عن عروة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بين يديه عيوناً خيلاً يقتصون العيون، وخزاعة لا تدع أحداً يمضي وراءها، فلما جاء أبو سفيان وأصحابه أخذتهم خيل المسلمين، وقام إليه عمر يجأ في عنقه، حتى أجاره العباس بن عبد المطلب، وكان صاحباً لأبي سفيان‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وقال العباس حين نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران قلت‏:‏ واصباح قريش ‏!‏ والله لئن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة قبل أن يأتوه، فيستأمنوه إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر‏.‏

قال‏:‏ فجلست على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء، فخرجت عليها حتى جئت الآراك فقلت‏:‏ لعلي أجد بعض الحطابة، أو صاحب لبن، أو ذا حاجة يأتي مكة فيخبرهم بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخل عليهم عنوة‏.‏

قال‏:‏ فوالله إني لأسير عليها وألتمس ما خرجت له، إذ سمعت كلام أبي سفيان، وبديل بن ورقاء وهما يتراجعان، وأبو سفيان يقول‏:‏ ما رأيت كالليلة نيراناً قط، ولا عسكراً‏.‏

قال‏:‏ يقول بديل‏:‏ هذه والله خزاعة حمشتها الحرب‏.‏

قال‏:‏ يقول أبو سفيان‏:‏ خزاعة أذل وأقل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها‏.‏

قال‏:‏ فعرفت صوته، فقلت‏:‏ يا أبا حنظلة ‏؟‏

فعرف صوتي فقال‏:‏ أبو الفضل ‏؟‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ مالك فدى لك أبي وأمي ‏؟‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ ويحك يا أبا سفيان هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس‏.‏

فقال‏:‏ واصباح قريش والله، فما الحيلة فداك أبي وأمي ‏؟‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمنه لك‏.‏

قال‏:‏ فركب خلفي ورجع صاحباه‏.‏

وقال عروة‏:‏ بل ذهبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلما، وجعل يستخبرهما عن أهل مكة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 331‏)‏

وقال الزهري وموسى بن عقبة‏:‏ بل دخلوا مع العباس على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ قال فجئت به كلما مررت بنار من نيران المسلمين قالوا‏:‏ من هذا ‏؟‏

فإذا رأوا بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عليها قالوا‏:‏ عم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى مررت بنار عمر بن الخطاب فقال‏:‏ من هذا‏؟‏ وقام إلي‏.‏

فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة قال‏:‏ أبو سفيان عدو الله، الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد ‏؟‏

وزعم عروة بن الزبير أن عمر وجأ في رقبة أبي سفيان، وأراد قتله فمنعه منه العباس‏.‏

وهكذا ذكر موسى بن عقبة، عن الزهري‏:‏ أن عيون رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذوهم بأزمة جمالهم، فقالوا‏:‏ من أنتم‏؟‏

قالوا‏:‏ وفد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقيهم العباس فدخل بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فحادثهم عامة الليل، ثم دعاهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله فشهدوا، وأن محمداً رسول الله فشهد حكيم وبديل‏.‏

وقال أبو سفيان‏:‏ ما أعلم ذلك، ثم أسلم بعد الصبح، ثم سألوه أن يؤمن قريشاً فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏من دخل دار أبي سفيان فهو آمن - وكانت بأعلى مكة - ومن دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن - وكانت بأسفل مكة - ومن أغلق بابه فهو آمن‏)‏‏)‏

قال العباس‏:‏ ثم خرج عمر يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وركضت البغلة فسبقته بما تسبق الدابة البطيئة الرجل البطيء‏.‏

قال‏:‏ فاقتحمت عن البغلة فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل عليه عمر فقال‏:‏ يا رسول الله هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد، فدعني فلأضرب عنقه‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول إني قد أجرته، ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت برأسه، فقلت‏:‏ والله لا يناجيه الليلة دوني رجل، فلما أكثر عمر في شأنه قال‏:‏ قلت‏:‏ مهلاً يا عمر فوالله أن لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قلت هذا، ولكنك قد عرفت أنه من رجال بني عبد مناف‏.‏

فقال‏:‏ مهلاً يا عباس، فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب لو أسلم‏.‏

فقال رسول الله‏:‏ ‏(‏‏(‏اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتني به‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فذهبت به إلى رحلي فبات عندي، فلما أصبح غدوت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال‏:‏ ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله ‏؟‏

فقال‏:‏ بأبي أنت وأمي ما أحلمك، وأكرمك، وأوصلك، أما هذه والله فإن في النفس منها حتى الآن شيئاً‏.‏

فقال له العباس‏:‏ ويحك أسلم، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله قبل أن تضرب عنقك‏.‏

قال‏:‏ فشهد شهادة الحق فأسلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 332‏)‏

قال العباس‏:‏ فقلت‏:‏ يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر فاجعل له شيئاً ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن‏)‏‏)‏ زاد عروة‏:‏ ‏(‏‏(‏ومن دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن‏)‏‏)‏‏.‏

وهكذا قال موسى بن عقبة، عن الزهري‏:‏ ‏(‏‏(‏ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن‏)‏‏)‏‏.‏

فلما ذهب لينصرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏يا عباس احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها‏)‏‏)‏‏.‏

وذكر موسى بن عقبة، عن الزهري‏:‏ أن أبا سفيان وبديلاً وحكيم بن حزام، كانوا وقوفاً مع العباس عند خطم الجبل، وذكر أن سعداً لما قال لأبي سفيان‏:‏ اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، فشكى أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعزله عن راية الأنصار، وأعطاها الزبير بن العوام‏.‏

فدخل بها من أعلى مكة، وغرزها بالحجون، ودخل خالد من أسفل مكة فلقيه بنو بكر وهذيل، فقتل من بني بكر عشرين، ومن هذيل ثلاثة أو أربعة، وانهزموا فقتلوا بالحزورة، حتى بلغ قتلهم باب المسجد‏.‏

قال العباس‏:‏ فخرجت بأبي سفيان حتى حبسته بمضيق الوادي حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحبسه‏.‏

قال‏:‏ ومرت القبائل على راياتها كلما مرت قبيلة قال‏:‏ يا عباس من هؤلاء ‏؟‏

فأقول‏:‏ سليم، فيقول‏:‏ ما لي ولسليم، ثم تمر به القبيلة فيقول‏:‏ يا عباس من هؤلاء ‏؟‏

فأقول‏:‏ مزينة فيقول مالي ولمزينة، حتى نفذت القبائل ما تمر به قبيلة إلا سألني عنها، فإذا أخبرته قال‏:‏ مالي ولبني فلان، حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء وفيها المهاجرون والأنصار، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد‏.‏

فقال‏:‏ سبحان الله يا عباس من هؤلاء ‏؟‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار‏.‏

قال‏:‏ ما لأحد بهؤلاء من قبل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيماً ‏!‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ يا أبا سفيان إنها النبوة‏.‏

قال‏:‏ فنعم إذن‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ النجاء إلى قومك، حتى إذا جاءهم صرخ بأعلى صوته‏:‏ يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن‏.‏

فقامت إليه هند بنت عتبة فأخذت بشاربه فقالت‏:‏ اقتلوا الحميت الدسم الأحمس قبح من طليعة قوم‏.‏

فقال أبو سفيان‏:‏ ويلكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن‏.‏

قالوا‏:‏ قاتلك الله وما تغني عنا دارك ‏؟‏

قال‏:‏ ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد‏.‏

وذكر عروة بن الزبير‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مر بأبي سفيان قال له‏:‏ إني لأرى وجوهاً كثيرة لا أعرفها، لقد كثرت هذه الوجوه علي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏/333‏)‏

فقال له رسول الله‏:‏ ‏(‏‏(‏أنت فعلت هذا وقومك، إن هؤلاء صدقوني إذ كذبتموني، ونصروني إذ أخرجتموني‏)‏‏)‏‏.‏

ثم شكى إليه قول سعد بن عبادة حين مر عليه فقال‏:‏ يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة‏.‏

فقال رسول الله‏:‏ كذب سعد بل هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة‏.‏

وذكر عروة‏:‏ أن أبا سفيان لما أصبح صبيحة تلك الليلة التي كان عند العباس، ورأى الناس يجنحون للصلاة، وينتشرون في استعمال الطهارة خاف، وقال للعباس‏:‏ ما بالهم ‏؟‏

قال‏:‏ إنهم سمعوا النداء فهم ينتشرون للصلاة، فلما حضرت الصلاة، ورآهم يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده‏.‏

قال‏:‏ يا عباس ما يأمرهم بشيء إلا فعلوه‏.‏

قال‏:‏ نعم، والله لو أمرهم بترك الطعام والشراب لأطاعوه‏.‏

وذكر موسى بن عقبة، عن الزهري‏:‏ أنه لما توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلوا يتكففون، فقال‏:‏ يا عباس ما رأيت كالليلة ولا ملك كسرى وقيصر‏.‏

وقد روى الحافظ البيهقي‏:‏ عن الحاكم وغيره، عن الأصم، عن أحمد بن الجبار، عن يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، حدثني الحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، عن عكرمة، عن ابن عباس، فذكر هذه القصة بتمامها كما أوردها زياد البكائي، عن ابن إسحاق منقطعة، فالله أعلم‏.‏

على أنه قد روى البيهقي‏:‏ من طريق أبي بلال الأشعري، عن زياد البكائي، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس قال‏:‏ جاء العباس بأبي سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ فذكر القصة، إلا أنه ذكر أنه أسلم ليلته قبل أن يصبح بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه لما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏من دخل دار أبي سفيان فهو آمن‏)‏‏)‏‏.‏

قال أبو سفيان‏:‏ وما تسع داري ‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ومن دخل الكعبة فهو آمن‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ وما تسع الكعبة ‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ومن دخل المسجد فهو آمن‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ وما تسع المسجد ‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ومن أغلق عليه بابه فهو آمن‏)‏‏)‏‏.‏

فقال أبو سفيان‏:‏ هذه واسعة‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا عبيد بن إسماعيل، ثنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه قال‏:‏ لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح فبلغ ذلك قريشاً خرج أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء يلتمسون الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبلوا يسيرون حتى أتوا مر الظهران، فإذا هم بنيران كأنها نيران عرفة‏.‏

فقال أبو سفيان‏:‏ ما هذه كأنها نيران عرفة ‏؟‏

فقال بديل بن ورقاء‏:‏ نيران بني عمرو‏.‏

فقال أبو سفيان‏:‏ عمرو أقل من ذلك، فرآهم ناس من حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدركوهم، فأخذوهم فأتوا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم أبو سفيان، فلما سار قال للعباس‏:‏ ‏(‏‏(‏احبس أبا سفيان عند خطم الجبل حتى ينظر إلى المسلمين‏)‏‏)‏‏.‏

فحبسه العباس فجعلت القبائل تمر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تمر كتيبة كتيبة على أبي سفيان، فمرت كتيبة فقال‏:‏ يا عباس من هذه ‏؟‏

قال‏:‏ هذه غفار‏.‏

قال‏:‏ مالي ولغفار ‏؟‏

ثم مرت جهينة فقال مثل ذلك، ثم مرت سعد بن هذيم فقال مثل ذلك، ومرت سليم فقال مثل ذلك، حتى أقبلت كتيبة لم ير مثلها فقال‏:‏ من هذه ‏؟‏

قال‏:‏ هؤلاء الأنصار عليهم سعد بن عبادة معه الراية‏.‏

فقال سعد بن عبادة‏:‏ يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 334‏)‏

فقال أبو سفيان‏:‏ يا عباس حبذا يوم الذمار، ثم جاءت كتيبة وهي أقل الكتائب فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وراية رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الزبير بن العوام، فلما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان قال‏:‏ ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة ‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما قال ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ كذا وكذا‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏كذب سعد، ولكن هذا يوم يعظم الله الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة‏)‏‏)‏‏.‏

وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركز رايته بالحجون‏.‏

قال عروة‏:‏ أخبرني نافع بن جبير بن مطعم قال‏:‏ سمعت العباس يقول للزبير بن العوام‏:‏ ها هنا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركز الراية ‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد أن يدخل من أعلى مكة من كداء، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم من كدى فقتل من خيل خالد بن الوليد يومئذ رجلان‏:‏ حنيش بن الأشعر، وكرز بن جابر الفهري‏.‏

وقال أبو داود‏:‏ ثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا يحيى بن آدم، ثنا ابن إدريس، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح جاءه العباس بن عبد المطلب بأبي سفيان بن حرب فأسلم بمر الظهران‏.‏

فقال له العباس‏:‏ يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر، فلو جعلت له شيئاً‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن‏)‏‏)‏‏.‏

 صفة دخوله صلى الله عليه وسلم مكة

ثبت في الصحيحين من حديث مالك، عن الزهري، عن أنس‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه جاءه رجل فقال‏:‏ إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اقتلوه‏)‏‏)‏‏.‏

قال مالك‏:‏ ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما نرى - والله أعلم - محرماً‏.‏

وقال أحمد‏:‏ ثنا عفان، ثنا حماد، أنبا أبو الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل يوم فتح مكة، وعليه عمامة سوداء‏.‏

ورواه أهل السنن الأربعة من حديث حماد بن سلمة، وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏

ورواه مسلم‏:‏ عن قتيبة، ويحيى بن يحيى، عن معاوية بن عمار الدهني، عن أبي الزبير، عن جابر‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعليه عمامة سوداء من غير إحرام‏.‏

وروى مسلم من حديث أبي أسامة، عن مساور الوراق، عن جعفر بن عمرو بن حريث، عن أبيه قال‏:‏ كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، وعليه عمامة حرقانية سوداء، قد أرخى طرفها بين كتفيه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 335‏)‏

وروى مسلم في صحيحه، والترمذي، والنسائي من حديث عمار الدهني، عن أبي الزبير، عن جابر‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعليه عمامة سوداء‏.‏

وروى أهل السنن الأربعة‏:‏ من حديث يحيى بن آدم، عن شريك القاضي، عن عمار الدهني، عن أبي الزبير، عن جابر قال‏:‏ كان لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم دخل مكة أبيض‏.‏

وقال ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عائشة‏:‏ كان لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح أبيض، ورايته سوداء تسمى العقاب، وكانت قطعة من مرط مرجل‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا أبو الوليد، ثنا شعبة، عن عبد الله بن قرة قال‏:‏ سمعت عبد الله بن مغفل يقول‏:‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة على ناقته وهو يقرأ سورة الفتح يرجّع، وقال‏:‏ لولا أن يجتمع الناس حولي لرجّعت كما رجّع‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني عبد الله بن أبي بكر‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى ذي طوى وقف على راحلته معتجراً بشقة برد حبرة حمراء، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضع رأسه تواضعاً لله، حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى أن عثنونه ليكاد يمس واسطة الرحل‏.‏

وقال الحافظ البيهقي‏:‏ أنبا أبو عبد الله الحافظ، أنبا دعلج بن أحمد، ثنا أحمد بن علي الأبار، ثنا عبد الله بن أبي بكر المقدسي، ثنا جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أنس قال‏:‏ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وذقنه على راحلته متخشعاً‏.‏

وقال‏:‏ أنبا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن بالويه، ثنا أحمد بن محمد بن صاعد، ثنا إسماعيل بن أبي الحارث، ثنا جعفر بن عون، ثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، عن ابن مسعود‏:‏ أن رجلاً كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فأخذته الرعدة‏.‏

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏هون عليك فإنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ وهكذا رواه محمد بن سليمان بن فارس، وأحمد بن يحيى بن زهير، عن إسماعيل بن أبي الحارث موصولاً‏.‏

ثم رواه عن أبي زكريا المزكي، عن أبي عبد الله محمد بن يعقوب، عن محمد بن عبد الوهاب، عن جعفر بن عون، عن إسماعيل، عن قيس مرسلاً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 336‏)‏

وهو المحفوظ، وهذا التواضع في هذا الموطن عند دخوله صلى الله عليه وسلم مكة في مثل هذا الجيش الكثيف العرمرم بخلاف ما اعتمده سفهاء بني إسرائيل، حين أمروا أن يدخلوا باب بيت المقدس وهم سجود - أي ركع - يقولون حطة، فدخلوا يزحفون على أستاههم وهم يقولون‏:‏ حنطة في شعرة‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا القاسم بن خارجة، ثنا حفص بن ميسرة، عن هشام بن عروة، عن أبيه أن عائشة أخبرته‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عام الفتح من كداء التي بأعلى مكة، تابعه أبو أسامة ووهب في كداء‏.‏

حدثنا عبيد بن إسماعيل، ثنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه‏:‏ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح من أعلى مكة من كداء، وهو أصح إن أراد أن المرسل أصح من المسند المتقدم انتظم الكلام، وإلا فكداء بالمد هي المذكورة في الروايتين، وهي في أعلى مكة، وكُدَى مقصور في أسفل مكة، وهذا هو المشهور والأنسب‏.‏

وقد تقدم أنه عليه السلام بعث خالد بن الوليد من أعلى مكة، ودخل هو عليه السلام من أسفلها من كدى، وهو في صحيح البخاري والله أعلم‏.‏

وقد قال البيهقي‏:‏ أنبا أبو الحسين بن عبدان، أنبا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا عبد الله بن إبراهيم بن المنذر الحزامي، ثنا معن، ثنا عبد الله بن عمر بن حفص، عن نافع، عن ابن عمر قال‏:‏ لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح وأتى النساء يلطمن وجوه الخيل بالخمر، فتبسم إلى أبي بكر وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أبا بكر كيف قال حسان ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فأنشده أبو بكر رضي الله عنه‏:‏

عدمت بنيتي إن لم تروها * تثير النقع من كنفي كداء

ينازعن الأعنة مسرجات * يلطمهن بالخمر النساء

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ادخلوها من حيث قال حسان‏)‏‏)‏‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن جدته أسماء بنت أبي بكر قالت‏:‏ لما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي طوى، قال أبو قحافة لابنة له من أصغر ولده‏:‏ أي بنية اظهري بي على أبي قبيس‏.‏

قالت‏:‏ وقد كف بصره، قالت‏:‏ فأشرفت به عليه‏.‏

فقال‏:‏ أي بنية ماذا ترين ‏؟‏

قالت‏:‏ أرى سواداً مجتمعاً‏.‏

قال‏:‏ تلك الخيل‏.‏

قالت‏:‏ وأرى رجلاً يسعى بين يدي ذلك السواد مقبلا ومدبراً‏.‏

قال‏:‏ أي بنية ذلك الوزاع - يعني الذي يأمر الخيل ويتقدم إليها -

ثم قالت‏:‏ قد والله انتشر السواد‏.‏

فقال‏:‏ قد والله إذن دفعت الخيل، فأسرعي بي إلى بيتي فانحطت به، وتلقاه الخيل قبل أن يصل بيته‏.‏

قالت‏:‏ وفي عنق الجارية طوق من ورق فيلقاها رجل فيقتطعه من عنقها‏.‏

قالت‏:‏ فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ودخل المسجد، أتى أبو بكر بأبيه يقوده، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال أبو بكر‏:‏ يا رسول الله هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي أنت إليه، فأجلسه بين يديه، ثم مسح صدره، ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أسلم فأسلم‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ ودخل به أبو بكر وكان رأسه كالثغامة بياضاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏غيروا هذا من شعره‏)‏‏)‏

ثم قام أبو بكر فأخذ بيد أخته وقال‏:‏ أنشد الله والإسلام طوق أختي، فلم يجبه أحد‏.‏

قالت‏:‏ فقال‏:‏ أي أخية احتسبي طوقك، فوالله إن الأمانة في الناس اليوم لقليل‏.‏ يعني به الصديق ذلك اليوم على التعيين لأن الجيش فيه كثرة، ولا يكاد أحد يلوي على أحد مع انتشار الناس، ولعل الذي أخذه تأول أنه من حربي، والله أعلم‏.‏

وقال الحافظ البيهقي‏:‏ أنبا أبو عبد الله الحافظ، أنبا أبو العباس الأصم، أنبا بحر بن نصر، أنبا ابن وهب، أخبرني ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر‏:‏ أن عمر بن الخطاب أخذ بيد أبي قحافة فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم، فلما وقف به على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏غيروه ولا تقربوه سواداً‏)‏‏)‏‏.‏

قال ابن وهب‏:‏ وأخبرني عمر بن محمد، عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هنأ أبا بكر بإسلام أبيه‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فحدثني عبد الله بن أبى نجيح‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرق جيشه من ذي طوى أمر الزبير بن العوام أن يدخل في بعض الناس من كداء، وكان الزبير على المجنبة اليسرى، وأمر سعد بن عبادة أن يدخل في بعض الناس من كدى‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فزعم بعض أهل العلم أن سعداً حين وجه داخلاً قال‏:‏ اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة‏.‏ فسمعها رجل من المهاجرين‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ يقال إنه عمر بن الخطاب، فقال‏:‏ يا رسول الله أتسمع ما يقول سعد بن عبادة‏؟‏ ما نأمن أن يكون له في قريش صولة‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي‏:‏ ‏(‏‏(‏أدركه فخذ الراية منه فكن أنت تدخل بها‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ وذكر غير محمد بن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما شكى إليه أبو سفيان قول سعد بن عبادة حين مر به، وقال‏:‏ يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة - يعني الكعبة - فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏بل هذا يوم تعظم فيه الكعبة‏)‏‏)‏ وأمر بالراية - راية الأنصار - أن تؤخذ من سعد بن عبادة كالتأديب له، ويقال إنها دفعت إلى ابنه قيس بن سعد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 338‏)‏

وقال موسى بن عقبة، عن الزهري‏:‏ دفعها إلى الزبير بن العوام، فالله أعلم‏.‏

وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة يعقوب بن إسحاق بن دينار، ثنا عبد الله بن السري الأنطاكي، ثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، وحدثني موسى بن عقبة، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية يوم فتح مكة إلى سعد بن عبادة فجعل يهزها ويقول‏:‏ اليوم يوم الملحمة، يوم تستحل الحرمة‏.‏

قال‏:‏ فشق ذلك على قريش وكبر في نفوسهم، قال‏:‏ فعارضت امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره وأنشأت تقول‏:‏

يا نبي الهدى إليك لجاحي * قريش ولات حين لجاء

حين ضاقت عليهم سعة الأر * ض وعاداهم إله السماء

والتقت حلقتا البطان على القو * م ونودوا بالصليم الصلعاء

إن سعداً يريد قاصمة الطهر * ر بأهل الحجون والبطحاء

خزرجي لو يستطيع من الغي * ظ رمانا بالنشر والعواء

فانهينه فإنه الأسد الأس * ود والليث والغ في الدماء

فلئن أقحم اللواء ونادى * يا حماة اللواء أهل اللواء

لنكوننَّ بالبطاح قريش * بقعة القاع في أكف الإماء

إنه مصلت يريد لها الرأ * ي صموت كالحية الصماء

قال‏:‏ فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الشعر دخله رحمة لهم ورأفة بهم، وأمر بالراية فأخذت من سعد بن عبادة ودفعت إلى ابنه قيس بن سعد‏.‏

قال‏:‏ فيروى أنه عليه الصلاة والسلام أحب أن لا يخيبها إذ رغبت إليه واستغاثت به، وأحب أن لا يغضب سعد فأخذ الراية منه فدفعها إلى ابنه‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وذكر ابن أبي نجيح في حديثه‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر خالد بن الوليد فدخل من الليط أسفل مكة في بعض الناس، وكان خالد على المجنبة اليمنى، وفيها أسلم وسُليم وغفار ومزينة وجهينة وقبائل من قبائل العرب‏.‏

وأقبل أبو عبيدة بن الجراح بالصف من المسلمين ينصب لمكة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أذاخر حتى نزل بأعلى مكة، فضربت له هنالك قبته‏.‏

وروى البخاري‏:‏ من حديث الزهري، عن علي بن الحسين، عن عمرو بن عثمان، عن أسامة بن زيد أنه قال زمن الفتح‏:‏ يا رسول الله أين تنزل غداً ‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏وهل ترك لنا عُقيل من رباع‏)‏‏)‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يرث الكافر المؤمن ولا المؤمن الكافر‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 339‏)‏

ثم قال البخاري‏:‏ ثنا أبو اليمان، ثنا شعيب، ثنا أبو الزناد عن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏منزلنا إن شاء الله إذا فتح الله الخيف حيث تقاسموا على الكفر‏)‏‏)‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا يونس، ثنا إبراهيم - يعني ابن سعد - عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏منزلنا غداً إن شاء الله بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه البخاري، من حديث إبراهيم بن سعد به نحوه‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني عبد الله بن أبي نجيح، وعبد الله بن أبي بكر‏:‏ أن صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو كانوا قد جمعوا ناساً بالخندمة ليقاتلوا، وكان حماس بن قيس بن خالد أخو بني بكر يعد سلاحاً قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصلح منه‏.‏

فقالت له امرأته‏:‏ لماذا تعد ما أرى ‏؟‏

قال‏:‏ لمحمد وأصحابه‏.‏

فقالت‏:‏ والله ما أرى يقوم لمحمد وأصحابه شيء‏.‏

قال‏:‏ والله إني لأرجو أن أخدمك بعضهم، ثم قال‏:‏

إن يقبلوا اليوم فمالي عله * هذا سلاح كامل والَّه

وذو غرارين سريع السله

قال‏:‏ ثم شهد الخندمة مع صفوان وعكرمة وسهيل، فلما لقيهم المسلمون من أصحاب خالد ناوشوهم شيئاً من قتال، فقتل كرز بن جابر أحد بني محارب بن فهر، وحنيش بن خالد بن ربيعة بن أصرم حليف بني منقذ، وكانا في جيش خالد، فشذا عنه فسلكا غير طريقه فقتلا جميعاً‏.‏

وكان قتل كرز قبل حنيش، قالا‏:‏ وقتل من خيل خالد أيضاً سلمة بن الميلاء الجهني، وأصيب من المشركين قريب من اثني عشر أو ثلاثة عشر، ثم انهزموا فخرج حماس منهزماً حتى دخل بيته ثم قال لامرأته‏:‏ أغلقي علي بابي‏.‏

قالت‏:‏ فأين ما كنت تقول ‏؟‏

فقال‏:‏

إنك لو شهدت يوم الخندمة * إذ فر صفوان وفر عكرمة

وأبو يزيد قائم كالمؤتمة * واستقبلتهم بالسيوف المسلمة

يقطعن كل ساعد وجمجمه * ضرباً فلا يسمع إلا غمغمه

لهم نهيت خلفنا وهمهمه * لم تنطقي في اللوم أدنى كلمة

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 340‏)‏

قال ابن هشام‏:‏ وتروى هذه الأبيات للرعاش الهذلي‏.‏

قال‏:‏ وكان شعار المهاجرين يوم الفتح وحنين والطائف‏:‏ يا بني عبد الرحمن، وشعار الخزرج‏:‏ يا بني عبد الله، وشعار الأوس‏:‏ يا بني عبيد الله‏.‏

وقال الطبراني‏:‏ ثنا علي بن سعيد الرازي، ثنا أبو حسان الزيادي، ثنا شعيب بن صفوان، عن عطاء بن السائب، عن طاووس، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن الله حرم هذا البلد يوم خلق السموات والأرض، وصاغه يوم صاغ الشمس والقمر، وما حياله من السماء حرام، وإنه لا يحل لأحد قبلي، وإنما حل لي ساعة من نهار ثم عاد كما كان‏)‏‏)‏‏.‏

فقيل له‏:‏ هذا خالد بن الوليد يقتل ‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏قم يا فلان فأت خالد بن الوليد فقل له فليرفع يديه من القتل‏)‏‏)‏ فأتاه الرجل فقال‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ اقتل من قدرت عليه، فقتل سبعين إنساناً، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فأرسل إلى خالد فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ألم أنهك عن القتل ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ جاءني فلان يأمرني أن أقتل من قدرت عليه، فأرسل إليه‏:‏ ‏(‏‏(‏ألم آمرك ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ أردت أمراً، وأراد الله أمراً فكان أمر الله فوق أمرك، وما استطعت إلا الذي كان، فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم فما رد عليه شيئاً‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى أمرائه أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم، غير أنه أهدر دم نفر سماهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة، وهم‏:‏ عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان قد أسلم وكتب الوحي ثم ارتد‏.‏

فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وقد أهدر دمه، فر إلى عثمان وكان أخاه من الرضاعة، فلما جاء به ليستأمن له، صمت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلاً، ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم‏)‏‏)‏‏.‏

فلما انصرف مع عثمان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن حوله‏:‏ ‏(‏‏(‏أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين رآني قد صمت فيقتله ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقالوا‏:‏ يا رسول الله هلا أومأت إلينا ‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن النبي لا يقتل بالإشارة‏)‏‏)‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏‏(‏إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين‏)‏‏)‏‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وقد حسن إسلامه بعد ذلك، وولاه عمر بعض أعماله، ثم ولاه عثمان‏.‏

قلت‏:‏ ومات وهو ساجد في صلاة الصبح، أو بعد انقضاء صلاتها في بيته كما سيأتي بيانه‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وعبد الله بن خطل رجل من بني تيم بن غالب‏.‏

قلت‏:‏ ويقال‏:‏ إن اسمه عبد العزى بن خطل، ويحتمل أنه كان كذلك، ثم لما أسلم سمى عبد الله، ولما أسلم بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقاً، وبعث معه رجلاً من الأنصار وكان معه مولى له، فغضب عليه غضبة فقتله، ثم ارتد مشركاً‏.‏

وكان له قينتان فرتني وصاحبتها، فكانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فلهذا أهدر دمه ودم قينتيه، فقتل وهو متعلق بأستار الكعبة، اشترك في قتله أبو برزة الأسلمي، وسعيد بن حريث المخزومي، وقتلت إحدى قينتيه، واستؤمن للأخرى‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 341‏)‏

قال‏:‏ والحويرث بن نقيذ بن وهب بن عبد قصي، وكان ممن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، ولما تحمل العباس بفاطمة وأم كلثوم ليذهب بهما إلى المدينة يلحقهما برسول الله صلى الله عليه وسلم أول الهجرة، نخس بهما الحويرث هذا الجمل الذي هما عليه فسقطتا إلى الأرض، فلما أهدر دمه قتله علي بن أبي طالب‏.‏

قال‏:‏ ومقيس بن صبابة، لأنه قتل قاتل أخيه خطأ بعد ما أخذ الدية، ثم ارتد مشركاً، قتله رجل من قومه يقال له‏:‏ نميلة بن عبد الله‏.‏

قال‏:‏ وسارة مولاة لبني عبد المطلب ولعكرمة بن أبي جهل، لأنها كانت تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بمكة‏.‏

قلت‏:‏ وقد تقدم عن بعضهم أنها التي تحملت الكتاب من حاطب بن أبي بلتعة، وكأنها عفى عنها أو هربت، ثم أهدر دمها، والله أعلم، فهربت حتى استؤمن لها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمنها، فعاشت إلى زمن عمر فأوطأها رجل فرساً فماتت‏.‏

وذكر السهيلي أن فرتني أسلمت أيضاً‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وأما عكرمة بن أبي جهل فهرب إلى اليمن، وأسلمت امرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام، واستأمنت له من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمنه، فذهبت في طلبه حتى أتت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ أنبا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمس الفقيه، أنبا أبو بكر محمد بن الحسين القطان، أنبا أحمد بن يوسف السلمي، ثنا أحمد بن المفضل، ثنا أسباط بن نصر الهمداني قال‏:‏ زعم السدي عن مصعب بن سعد، عن أبيه قال‏:‏ لما كان يوم فتح مكة أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة نفر وامرأتين وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة‏)‏‏)‏‏.‏

وهم‏:‏ عكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن سعد بن أبى سرح؛ فأما عبد الله بن خطل فأدرك وهو متعلق بأستار الكعبة، فاستبق إليه سعيد بن حريث وعمار بن ياسر فسبق سعيد عماراً، وكان أشب الرجلين فقتله‏.‏

وأما مقيس فأدركه الناس في السوق فقتلوه‏.‏

وأما عكرمة فركب البحر فأصابتهم قاصف، فقال أهل السفينة لأهل السفينة‏:‏ أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئاً ها هنا، فقال عكرمة‏:‏ والله لئن لم ينج في البحر إلا الإخلاص فإنه لا ينجي في البر غيره، اللهم إن لك علي عهداً إن أنت عافيتني مما أنا فيه، أن آتي محمداً حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفواً كريماً، فجاء فأسلم‏.‏

وأما عبد الله بن سعد بن أبي سرح؛ فإنه اختبأ عند عثمان بن عفان، فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة، جاء به حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏

يا رسول الله بايع عبد الله، فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثاً كل ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصحابه فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 342‏)‏

فقالوا‏:‏ ما يدرينا يا رسول الله ما في نفسك، هلا أومأت إلينا بعينك‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه أبو داود، والنسائي، من حديث أحمد بن المفضل به نحوه‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ أنبا أبو عبد الله الحافظ، أنبا أبو العباس الأصم، أنبا أبو زرعة الدمشقي، ثنا الحسن بن بشر الكوفي، ثنا الحكم بن عبد الملك، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال‏:‏ أمَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يوم فتح مكة إلا أربعة‏:‏ عبد العزى بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وأم سارة‏.‏

فأما عبد العزى بن خطل فإنه قتل وهو متعلق بأستار الكعبة‏.‏

قال‏:‏ ونذر رجل من الأنصار أن يقتل عبد الله بن سعد بن أبي سرح إذا رآه، وكان أخا عثمان بن عفان من الرضاعة، فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشفع له، فلما أبصر به الأنصاري اشتمل على السيف ثم أتاه، فوجده في حلقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يتردد ويكره أن يقدم عليه، فبسط النبي صلى الله عليه وسلم فبايعه‏.‏

ثم قال للأنصاري‏:‏ ‏(‏‏(‏قد انتظرتك أن توفي بنذرك‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ يا رسول الله هبتك أفلا أومضت إلي‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنه ليس للنبي أن يومض‏)‏‏)‏‏.‏

وأما مقيس بن صبابة فذكر قصته في قتله رجلاً مسلماً بعد إسلامه، ثم ارتداده بعد ذلك‏.‏

قال‏:‏ وأما أم سارة فكانت مولاة لقريش، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فشكت إليه الحاجة فأعطاها شيئاً، ثم بعث معها رجل كتاب إلى أهل مكة فذكر قصة حاطب بن أبي بلتعة‏.‏

وروى محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أن مقيس بن صبابة قتل أخوه هشام يوم بني المصطلق، قتله رجل من المسلمين وهو يظنه مشركاً، فقدم مقيس مظهراً للإسلام ليطلب دية أخيه، فلما أخذها عدا على قاتل أخيه فقتله، ورجع إلى مكة مشركاً، فلما أهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه قتل وهو بين الصفا والمروة‏.‏

وقد ذكر ابن إسحاق والبيهقي شعره حين قتل قاتل أخيه وهو قوله‏:‏

شفى النفس من قد بات بالقاع مسنداً * يضرج ثوبيه دماء الأخادع

وكانت هموم النفس من قبل قتله * تلم وتنسيني وطاء المضاجع

قتلت به فهراً وغرمت عقله * سراة بني النجار أرباب فارع

حللت به نذري وأدركت ثورتي * وكنت إلى الأوثان أول راجع

قلت‏:‏ وقيل إن القينتين التين أهدر دمهما كانتا لمقيس بن صبابة هذا، وأن ابن عمه قتله بين الصفا والمروة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 343‏)‏

وقال بعضهم‏:‏ قتل ابن خطل الزبير بن العوام رضي الله عنه‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ حدثني سعيد بن أبي هند، عن أبي مرة مولى عقيل بن أبي طالب، أن أم هانئ ابنة أبي طالب قالت‏:‏ لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة فر إلي رجلان من أحمائي من بني مخزوم‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ هما الحارث بن هشام، وزهير بن أبي أمية بن المغيرة‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكانت عند هبيرة بن أبي وهب المخزومي، قالت‏:‏ فدخل علي أخي علي بن أبي طالب فقال‏:‏ والله لأقتلهما، فأغلقت عليهما باب بيتي‏.‏

ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بأعلى مكة، فوجدته يغتسل من جفنة إن فيها لأثر العجين، وفاطمة ابنته تستره بثوبه، فلما اغتسل أخذ ثوبه فتوشح به، ثم صلى ثماني ركعات من الضحى، ثم انصرف إلي فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏مرحباً وأهلاً بأم هانئ ما جاء بك ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فأخبرته خبر الرجلين وخبر علي‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏قد أجرنا من أجرت، وأمنا من أمنت فلا يقتلهما‏)‏‏)‏‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا أبو الوليد، ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن ابن أبي ليلى قال‏:‏ ما أخبرنا أحد أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى غير أم هانئ، فإنها ذكرت يوم فتح مكة أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل في بيتها، ثم صلى ثمان ركعات‏.‏

قالت‏:‏ ولم أره صلى صلاة أخف منها، غير أنه يتم الركوع والسجود‏.‏

وفي صحيح مسلم من حديث الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سعد بن أبي هند، أن أبا مرة مولى عقيل حدثه أن أم هانئ بنت أبي طالب حدثته أنه لما كان عام الفتح فر إليها رجلان من بني مخزوم فأجارتهما‏.‏

قالت‏:‏ فدخل عليَّ علي فقال‏:‏ اقتلهما، فلما سمعته أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بأعلى مكة، فلما رآني رحب وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما جاء بك ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ يا نبي الله كنت أمنت رجلين من أحمائي، فأراد علي قتلهما‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غسله، فسترت عليه فاطمة، ثم أخذ ثوباً فالتحف به، ثم صلى ثماني ركعات سبحة الضحى‏.‏

وفي رواية أنها دخلت عليه وهو يغتسل وفاطمة ابنته تستره بثوب، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏من هذه ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ أم هانئ‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏مرحباً بأم هانئ‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ يا رسول الله زعم ابن أم علي بن أبي طالب أنه قاتل رجلين قد أجرتهما‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 344‏)‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ ثم صلى ثماني ركعات، وذلك ضحى، فظن كثير من العلماء أن هذه كانت صلاة الضحى‏.‏

وقال آخرون‏:‏ بل كانت هذه صلاة الفتح، وجاء التصريح بأنه كان يسلم من كل ركعتين، وهو يرد على السهيلي وغيره ممن يزعم أن صلاة الفتح تكون ثمانياً بتسليمة واحدة‏.‏

وقد صلى سعد بن أبي وقاص يوم فتح المدائن في إيوان كسرى ثماني ركعات، يسلم من كل ركعتين، ولله الحمد‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور، عن صفية بنت شيبة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بمكة واطمأن الناس، خرج حتى جاء البيت، فطاف به سبعاً على راحلته يستلم، الركن بمحجن في يده‏.‏

فلما قضى طوافه، دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة ففتحت له، فدخلها فوجد فيها حمامة من عيدان فكسرها بيده ثم طرحها، ثم وقف على باب الكعبة وقد استكف له الناس في المسجد‏.‏

وقال موسى بن عقبة‏:‏ ثم سجد سجدتين ثم انصرف إلى زمزم، فاطلع فيها ودعا بماء فشرب منها، وتوضأ والناس يبتدرون وضوءه، والمشركون يتعجبون من ذلك ويقولون‏:‏ ما رأينا ملكاً قط ولا سمعنا به - يعني مثل هذا - وأخر المقام إلى مقامه اليوم، وكان ملصقاً بالبيت‏.‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على باب الكعبة فقال‏:‏

‏(‏‏(‏لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو موضوع تحت قدمي هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج، ألا وقتيل الخطأ شبه العمد بالسوط والعصا، ففيه الدية مغلظة مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولادها، يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم وآدم من تراب‏)‏‏)‏‏.‏

ثم تلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية كلها‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا معشر قريش ما ترون أني فاعل فيكم ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ خيراً أخ كريم وابن أخ كريم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اذهبوا فأنتم الطلقاء‏)‏‏)‏‏.‏

ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فقام إليه علي بن أبي طالب ومفتاح الكعبة في يده، فقال‏:‏ يا رسول الله اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أين عثمان بن طلحة ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فدعي له فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء‏)‏‏)‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا سفيان، عن ابن جدعان، عن القاسم بن ربيعة، عن ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، وهو على درج الكعبة‏:‏ ‏(‏‏(‏الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، إلا إن قتيل العمد الخطأ بالسوط أو العصا فيه مائة من الإبل‏)‏‏)‏‏.‏

وقال مرة أخرى‏:‏ ‏(‏‏(‏مغلظة فيها أربعون خلفة في بطونها أولادها، ألا إن كل مأثرة كانت في الجاهلية ودم ودعوى‏)‏‏)‏

وقال مرة‏:‏ ‏(‏‏(‏ومال تحت قدمي هاتين إلا ما كان من سقاية الحاج وسدانة البيت، فإنهما أمضيتهما لأهلهما على ما كانت‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 345‏)‏

وهكذا رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، من حديث علي بن زيد بن جدعان، عن القاسم بن ربيعة بن جوشن الغطفاني، عن ابن عمر به‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل البيت يوم الفتح، فرأى فيه صور الملائكة وغيرهم، ورأى إبراهيم مصوراً في يده الأزلام يستقسم بها، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏قاتلهم الله جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام ما شأن إبراهيم والأزلام ‏{‏ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين‏}‏‏)‏‏)‏ ثم أمر بتلك الصور كلها فطمست‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا سليمان، أنبا عبد الرحمن، عن موسى بن عقبة، عن أبي الزبير، عن جابر قال‏:‏ كان في الكعبة صور فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمحوها، فبل عمر ثوباً ومحاها به، فدخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما فيها منها شيء‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا صدقة بن الفضل، ثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن عبد الله - هو ابن مسعود - قال‏:‏ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح، وحول البيت ستون وثلثمائة نصب فجعل يطعنها بعود في يده ويقول‏:‏ ‏(‏‏(‏جاء الحق وزهق الباطل، جاء الحق وما يبدي الباطل وما يعيد‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه مسلم من حديث ابن عيينة‏.‏

وروى البيهقي عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه قال‏:‏ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح مكة، وعلى الكعبة ثلثمائة صنم، فأخذ قضيبه فجعل يهوي به إلى الصنم، وهو يهوي حتى مر عليها كلها‏.‏

ثم يروى من طريق سويد بن سعيد، عن القاسم بن عبد الله، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة وجد بها ثلثمائة وستين صنماً فأشار إلى كل صنم بعصا، وقال‏:‏ ‏{‏وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 81‏]‏‏.‏

فكان لا يشير إلى صنم إلا ويسقط من غير أن يمسه بعصاه، ثم قال‏:‏ وهذا الإسناد وإن كان ضعيفاً فالذي قبله يؤكده‏.‏

وقال حنبل بن إسحاق‏:‏ أنبا أبو الربيع، عن يعقوب القمي، ثنا جعفر بن أبي المغيرة، عن ابن أبزى قال‏:‏ لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة جاءت عجوز شمطاء حبشية تخمش وجهها، وتدعو بالويل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏تلك نائلة أيست أن تعبد ببلدكم هذا أبداً‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 346‏)‏

وقال ابن هشام‏:‏ حدثني من أثق به من أهل الرواية في إسناد له، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس أنه قال‏:‏ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح على راحلته، فطاف عليها وحول الكعبة أصنام مشدودة بالرصاص‏.‏

فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يشير بقضيب في يده إلى الأصنام ويقول‏:‏ ‏{‏جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً‏}‏ فما أشار إلى صنم في وجهه إلا وقع لقفاه، ولا أشار إلى قفاه إلا وقع لوجهه، حتى ما بقي منها صنم إلا وقع‏.‏

فقال تميم بن أسد الخزاعي‏:‏

وفي الأصنام معتبر وعلم * لمن يرجو الثواب أو العقابا

وفي صحيح مسلم‏:‏ عن سنان بن فروخ، عن سليمان، عن ثابت، عن عبد الله بن رباح، عن أبي هريرة في حديث فتح مكة قال‏:‏ وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الحجر فاستلمه وطاف بالبيت، وأتى إلى صنم إلى جنب البيت كانوا يعبدونه، وفي يد رسول الله صلى الله عليه وسلم قوس وهو آخذ بسيتها‏.‏

فلما أتى على الصنم فجعل يطعن في عينه، ويقول‏:‏ ‏{‏جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً‏}‏‏.‏

فلما فرغ من طوافه أتى الصفا فعلا عليه، حتى نظر إلى البيت فرفع يديه وجعل يحمد الله ويدعو بما شاء أن يدعو‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا إسحاق بن منصور، ثنا عبد الصمد، ثنا أبي، ثنا أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة، أبى أن يدخل البيت وفيه، الإلهة فأمر بها فأخرجت، فأخرج صورة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وفي أيديهما الأزلام فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏قاتلهم الله لقد علموا ما استقسما بها قط‏)‏‏)‏‏.‏

ثم دخل البيت فكبر في نواحي البيت وخرج ولم يصل‏.‏

تفرد به البخاري دون مسلم‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا عبد الصمد، ثنا همام، ثنا عطاء، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة وفيها ست سواري، فقام إلى كل سارية ودعا ولم يصل فيه‏.‏

ورواه مسلم، عن شيبان بن فروخ، عن همام بن يحيى العوذي، عن عطاء به‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا هارون بن معروف، ثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، أن بكيراً حدثه، عن كريب، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل البيت، وجد فيه صورة إبراهيم، وصورة مريم‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أما هم فقد سمعوا أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة هذا إبراهيم مصوراً، فما باله يستقسم‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه البخاري، والنسائي، من حديث ابن وهب به‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 347‏)‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا عبد الرزاق، أنبا معمر، أخبرني عثمان الخزرجي، أنه سمع مقسماً يحدث عن ابن عباس قال‏:‏ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت، فدعا في نواحيه ثم خرج فصلى ركعتين، تفرد به أحمد‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا إسماعيل، أنبا ليث، عن مجاهد، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في البيت ركعتين‏.‏

قال البخاري‏:‏ وقال الليث، ثنا يونس، أخبرني نافع، عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل يوم الفتح من أعلى مكة على راحلته مردفاً أسامة بن زيد، ومعه عثمان بن طلحة من الحجبة، حتى أناخ في المسجد فأمر أن يؤتى بمفتاح الكعبة، فدخل ومعه أسامة بن زيد، وبلال، وعثمان بن طلحة فمكث فيه نهاراً طويلاً‏.‏

ثم خرج فاستبق الناس، فكان عبد الله بن عمر أول من دخل فوجد بلالاً وراء الباب قائماً فسأله أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فأشار له إلى المكان الذي صلى فيه، قال عبد الله‏:‏ ونسيت أن أسأله كم صلى من سجدة‏.‏

ورواه الإمام أحمد عن هشيم، ثنا غير واحد وابن عون، عن نافع، عن ابن عمر قال‏:‏ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الفضل بن عباس، وأسامة بن زيد، وعثمان بن طلحة، وبلال، فأمر بلالاً فأجاف عليهم الباب، فمكث فيه ما شاء الله، ثم خرج‏.‏

قال ابن عمر‏:‏ فكان أول من لقيت منهم بلالاً، فقلت‏:‏ أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏

قال‏:‏ ها هنا بين الأسطوانتين‏.‏

قلت‏:‏ وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره أنه عليه السلام صلى في الكعبة تلقاء وجهة بابها من وراء ظهره، فجعل عمودين عن يمينه، وعموداً عن يساره، وثلاثة أعمدة وراءه، وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة، وكان بينه وبين الحائط الغربي مقدار ثلاثة أذرع‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا إسماعيل، أنبا ليث، عن مجاهد، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في البيت ركعتين‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة عام الفتح، ومعه بلال فأمره أن يؤذن، وأبو سفيان بن حرب، وعتّاب بن أسيد، والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة‏.‏

فقال عتاب‏:‏ لقد أكرم الله أسيداً أن لا يكون سمع هذا، فسمع منه ما يغيظه‏.‏

فقال الحارث بن هشام‏:‏ أما والله لو أعلم أنه محق لاتبعته‏.‏

فقال أبو سفيان‏:‏ لا أقول شيئاً، لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصا‏.‏

فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏قد علمت الذي قلتم‏)‏‏)‏ ثم ذكر ذلك لهم فقال الحارث وعتاب‏:‏ نشهد أنك رسول الله ما اطلع على هذا أحد كان معنا، فنقول أخبرك‏.‏

وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق‏:‏ حدثني والدي، حدثني بعض آل جبير بن مطعم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة أمر بلالاً فعلا على الكعبة على ظهرها، فأذن عليها بالصلاة، فقال بعض بني سعيد بن العاص‏:‏ لقد أكرم الله سعيداً إذ قبضه قبل أن يسمع هذا الأسود على ظهر الكعبة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 348‏)‏

وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب قال‏:‏ قال‏:‏ ابن أبي مليكة‏:‏ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً فأذن يوم الفتح فوق الكعبة، فقال رجل من قريش للحارث بن هشام‏:‏ ألا ترى إلى هذا العبد أين صعد‏؟‏

فقال‏:‏ دعه فإن يكن الله يكرهه فسيغيره‏.‏

وقال يونس بن بكير وغيره، عن هشام بن عروة، عن أبيه‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بلالاً عام الفتح فأذن على الكعبة ليغيظ به المشركين‏.‏

وقال محمد بن سعد‏:‏ عن الواقدي، عن محمد بن حرب، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي إسحاق، أن أبا سفيان بن حرب بعد فتح مكة كان جالساً فقال في نفسه‏:‏ لو جمعت لمحمد جمعاً‏؟‏ فإنه ليحدث نفسه بذلك، إذ ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين كتفيه وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إذاً يخزيك الله‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فرفع رأسه فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على رأسه فقال‏:‏ ما أيقنت أنك نبي حتى الساعة‏.‏

قال البيهقي‏:‏ وقد أخبرنا أبو عبد الله الحافظ - إجازة - أنبا أبو حامد أحمد علي بن الحسن المقري، أنبا أحمد بن يوسف السلمي، ثنا محمد بن يوسف الفريابي، ثنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي السفر، عن ابن عباس قال‏:‏ رأى أبو سفيان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي والناس يطئون عقبه، فقال بينه وبين نفسه‏:‏ لو عاودت هذا الرجل القتال‏؟‏

فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ضرب بيده في صدره فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إذاً يخزيك الله‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ أتوب إلى الله وأستغفر الله مما تفوهت به‏.‏

ثم روى البيهقي‏:‏ من طريق ابن خزيمة وغيره، عن أبي حامد بن الشرقي، عن محمد بن يحيى الذهلي، ثنا محمد موسى بن أعين الجزري، ثنا أبي، عن إسحاق بن راشد، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال‏:‏ لما كان ليلة دخل الناس مكة ليلة الفتح، لم يزالوا في تكبير، وتهليل، وطواف بالبيت حتى أصبحوا‏.‏

فقال أبو سفيان لهند‏:‏ أتري هذا من الله‏؟‏

قالت‏:‏ نعم، هذا من الله‏.‏

قال‏:‏ ثم أصبح أبو سفيان فغدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏قلت لهند أتري هذا من الله‏؟‏ قالت‏:‏ نعم هذا من الله‏)‏‏)‏‏.‏

فقال أبو سفيان‏:‏ أشهد أنك عبد الله ورسوله، والذي يحلف به ما سمع قولي هذا أحد من الناس غير هند‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا إسحاق، ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، أخبرني حسن بن مسلم، عن مجاهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض فهي حرام بحرام الله إلى يوم القيامة، لا تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، ولم تحلل لي إلا ساعة من الدهر، لا ينفر صيدها، ولا يعضد شوكها، ولا يختلى خلاؤها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 349‏)‏

فقال العباس بن عبد المطلب‏:‏ إلا الأذخر يا رسول الله، فإنه لا بد منه للدفن والبيوت‏؟‏

فسكت ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إلا الأذخر فإنه حلال‏)‏‏)‏‏.‏

وعن ابن جريج‏:‏ أخبرني عبد الكريم - هو ابن مالك الجزري - عن عكرمة، عن ابن عباس بمثل هذا، أو نحو هذا‏.‏

ورواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفرد به البخاري من هذا الوجه الأول وهو مرسل، ومن هذا الوجه الثاني أيضاً‏.‏

وبهذا وأمثاله استدل من ذهب إلى أن مكة فتحت عنوة، وللوقعة التي كانت في الخندمة كما تقدم‏.‏

وقد قتل فيها قريب من عشرين نفساً من المسلمين والمشركين، وهي ظاهرة في ذلك، وهو مذهب جمهور العلماء‏.‏

والمشهور عن الشافعي أنها فتحت صلحاً لأنها لم تقسم، ولقوله صلى الله عليه وسلم ليلة الفتح‏:‏ ‏(‏‏(‏من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل الحرم فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن‏)‏‏)‏‏.‏

وموضع تقرير هذه المسألة في كتاب ‏(‏الأحكام الكبير‏)‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

‏(‏يتبع‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏

‏(‏تابع‏.‏‏.‏‏.‏ 1‏)‏‏:‏ ثبت في الصحيحين من حديث مالك، عن الزهري، عن أنس‏:‏ أن رسول الله صلى‏.‏‏.‏‏.‏ ‏.‏‏.‏‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا سعيد بن شرحبيل، ثنا الليث، عن المقبري، عن أبي شريح الخزاعي، أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة‏:‏ ائذن لي أيها الأمير أحدثك قولاً قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح، سمعته أذناي، ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي، حين تكلم به أنه حمد الله وأثنى عليه‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً، ولا يعضد بها شجراً، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا‏:‏ إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب‏)‏‏)‏‏.‏

فقيل لأبي شريح‏:‏ ماذا قال لك عمرو‏؟‏

قال‏:‏ قال‏:‏ أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح، إن الحرم لا يعيذ عاصياً، ولا فاراً بدم، ولا فاراً بجزية‏.‏

وروى البخاري أيضاً ومسلم، عن قتيبة، عن الليث بن سعد به نحوه‏.‏

وذكر ابن إسحاق أن رجلاً يقال له ابن الأثوغ قتل رجلاً في الجاهلية من خزاعة يقال له أحمر بأساً، فلما كان يوم الفتح قتلت خزاعة ابن الأثوغ وهو بمكة، قتله خراش بن أمية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏يا معشر خزاعة ارفعوا أيديكم عن القتل، لقد كثر القتل إن نفع، لقد قتلتم رجلاً لأدينه‏)‏‏)‏‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني عبد الرحمن بن حرملة الأسلمي، عن سعيد بن المسيب قال‏:‏ لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع خراش بن أمية قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن خراشاً لقتَّال‏)‏‏)‏‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 350‏)‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي شريح الخزاعي قال‏:‏ لما قدم عمرو بن الزبير مكة لقتال أخيه عبد الله بن الزبير، جئته فقلت له‏:‏ يا هذا أنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح مكة، فلما كان الغد من يوم الفتح عدت خزاعة على رجل من هذيل، فقتلوه وهو مشرك‏.‏

فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا خطيباً فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أيها الناس إن الله قد حرم مكة يوم خلق السموات والأرض فهي حرام من حرام الله إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دماً، ولا يعضد فيها شجراً لم تحل لأحد كان قبلي، ولا تحل لأحد يكون بعدي، ولم تحل لي إلا هذه الساعة غضباً على أهلها‏.‏

ألا ثم قد رجعت كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فمن قال لكم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قاتل فيها فقولوا‏:‏ إن الله قد أحلها لرسوله ولم يحلها لكم يا معشر خزاعة، ارفعوا أيديكم عن القتل فلقد كثر إن نفع، لقد قتلتم قتيلاً لأدينه، فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين، إن شاؤوا فدم قاتله، وإن شاؤوا فعقله‏)‏‏)‏‏.‏

ثم ودى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك الرجل الذي قتلته خزاعة، فقال عمرو لأبي شريح‏:‏ انصرف أيها الشيخ فنحن أعلم بحرمتها منك، إنها لا تمنع سافك دم، ولا خالع طاعة، ولا مانع جزية‏.‏

فقال أبو شريح‏:‏ إني كنت شاهداً، وكنت غائباً، وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ شاهدنا غائبنا، وقد أبلغتك فأنت وشأنك‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وبلغني أن أول قتيل وداه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح جنيدب بن الأكوع قتله بنو كعب، فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمائة ناقة‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يحيى، عن حسين، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال‏:‏ لما فتحت مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏كفوا السلاح إلا خزاعة من بني بكر‏)‏‏)‏ فأذن لهم حتى صلى العصر، ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏كفوا السلاح‏)‏‏)‏‏.‏

فلقي رجل من خزاعة رجلاً من بني بكر من غد بالمزدلفة فقتله، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام خطيباً فقال - فرأيته وهو مسند ظهره إلى الكعبة - قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن أعدى الناس على الله من قتل في الحرم، أو قتل غير قاتله، أو قتل بذحول الجاهلية‏)‏‏)‏ وذكر تمام الحديث، وهذا غريب جداً‏.‏

وقد روى أهل السنن بعض هذا الحديث؛ فأما ما فيه من أنه رخص لخزاعة أن تأخذ بثأرها من بني بكر إلى العصر من يوم الفتح، فلم أره إلا في هذا الحديث، وكأنه إن صح من باب الاختصاص لهم مما كانوا أصابوا منهم ليلة الوتير، والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 351‏)‏

وروى الإمام أحمد، عن يحيى بن سعيد، وسفيان بن عيينة، ويزيد بن هارون، ومحمد بن عبيد كلهم، عن زكريا بن أبي زائدة، عن عامر الشعبي، عن الحارث بن مالك بن البرصا الخزاعي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم فتح مكة‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تغزى هذه بعد اليوم إلى يوم القيامة‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه الترمذي عن بندار، عن يحيى بن سعيد القطان به‏.‏ وقال‏:‏ حسن صحيح‏.‏

قلت‏:‏ فإن كان نهياً فلا إشكال، وإن كان نفياً فقال البيهقي‏:‏ معناه على كفر أهلها‏.‏

وفي صحيح مسلم من حديث زكريا بن أبي زائدة، عن عامر الشعبي، عن عبد الله بن مطيع، عن أبيه مطيع بن الأسود العدوي قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يقتل قرشي صبراً بعد اليوم إلى يوم القيامة‏)‏‏)‏‏.‏

والكلام عليه كالأول سواء‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وبلغني عن يحيى بن سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح مكة ودخلها، قام على الصفا يدعو الله وقد أحدقت به الأنصار فقالوا فيما بينهم‏:‏ أترون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ فتح الله عليه أرضه وبلده يقيم بها‏؟‏

فلما فرغ من دعائه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ماذا قلتم ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ لا شيء يا رسول الله، فلم يزل بهم حتى أخبروه‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏معاذ الله المحيا محياكم والممات مماتكم‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا الذي علقه ابن هشام قد أسنده الإمام أحمد بن حنبل في ‏(‏مسنده‏)‏ فقال‏:‏ ثنا بهز وهاشم قالا‏:‏ حدثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت‏.‏

وقال هاشم‏:‏ حدثني ثابت البناني، ثنا عبد الله بن رباح قال‏:‏ وفدت وفود إلى معاوية أنا فيهم، وأبو هريرة، وذلك في رمضان، فجعل بعضنا يصنع لبعض الطعام، قال‏:‏ وكان أبو هريرة يكثر ما يدعونا‏.‏

قال هاشم‏:‏ يكثر أن يدعونا إلى رحله‏.‏

قال‏:‏ فقلت ألا أصنع طعاماً فأدعوهم إلى رحلي‏؟‏

قال‏:‏ فأمرت بطعام يصنع، فلقيت أبا هريرة من العشاء قال‏:‏ قلت‏:‏ يا أبا هريرة الدعوة عندي الليلة‏.‏

قال‏:‏ استبقتني‏.‏

قال هاشم‏:‏ قلت‏:‏ نعم، فدعوتهم فهم عندي، فقال أبو هريرة ألا أعلمكم بحديث من حديثكم يا معشر الأنصار، قال‏:‏ فذكر فتح مكة‏.‏

قال‏:‏ أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل مكة، قال‏:‏ فبعث الزبير على أحد المجنبتين، وبعث خالداً على المجنبة الأخرى، وبعث أبا عبيدة على الجسر، وأخذوا بطن الوادي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته، وقد وبشت قريش أوباشها‏.‏

قال‏:‏ قالوا‏:‏ نقدم هؤلاء فإن كان لهم شيء كنا معهم، وإن أصيبوا أعطيناه الذي سألنا‏.‏

قال أبو هريرة‏:‏ فنظر فرآني فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أبا هريرة‏)‏‏)‏‏.‏

فقلت‏:‏ لبيك رسول الله‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اهتف لي بالأنصار، ولا يأتيني إلا أنصاري‏)‏‏)‏‏.‏

فهتفت بهم فجاؤوا فأطافوا برسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أترون إلى أوباش قريش وأتباعهم‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال بيديه إحداهما على الأخرى‏:‏ ‏(‏‏(‏أحصدوهم حصداً حتى توافوني بالصفا‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فقال أبو هريرة فانطلقنا فما يشاء واحد منا أن يقتل منهم ما شاء، وما أحد منهم يوجه إلينا منهم شيئاً‏.‏

قال‏:‏ فقال أبو سفيان‏:‏ يا رسول الله أبيحت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم‏.‏

قال‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏من أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فغلق الناس أبوابهم‏.‏

قال‏:‏ وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحجر فاستلمه ثم طاف بالبيت، قال‏:‏ وفي يده قوس آخذ بسية القوس‏.‏

قال‏:‏ فأتى في طوافه على صنم إلى جنب البيت يعبدونه، قال‏:‏ فجعل يطعن بها في عينه، ويقول‏:‏ ‏{‏جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً‏}‏‏.‏

قال‏:‏ ثم أتى الصفا فعلاه حيث ينظر إلى البيت، فرفع يديه فجعل يذكر الله بما شاء أن يذكره ويدعوه، قال‏:‏ والأنصار تحت، قال‏:‏ يقول بعضهم لبعض‏:‏ أما الرجل فأدركته رغبة في قريته، ورأفة بعشيرته‏.‏

قال أبو هريرة‏:‏ وجاء الوحي وكان إذا جاء لم يخف علينا، فليس أحد من الناس يرفع طرفه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقضي‏.‏

قال هاشم‏:‏ فلما قضي الوحي رفع رأسه ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا معشر الأنصار أقلتم أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ قلنا ذلك يا رسول الله‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فما أسمي إذاً، كلا إني عبد الله ورسوله هاجرت إلى الله وإليكم، فالمحيا محياكم، والممات مماتكم‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فأقبلوا إليه يبكون ويقولون‏:‏ والله ما قلنا الذي قلنا إلا الضن بالله ورسوله‏.‏

قال‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه مسلم، والنسائي، من حديث سليمان بن المغيرة، زاد النسائي، وسلام بن مسكين‏.‏

ورواه مسلم أيضاً من حديث حماد بن سلمة ثلاثتهم عن ثابت، عن عبد الله بن رباح الأنصاري نزيل البصرة، عن أبي هريرة به نحوه‏.‏

وقال ابن هشام‏:‏ وحدثني - يعني بعض أهل العلم - أن فضالة بن عمير بن الملوح - يعني الليثي - أراد قتل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت عام الفتح، فلما دنا منه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أفضالة ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ نعم فضالة يا رسول الله‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ماذا كنت تحدث به نفسك ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ لا شيء كنت أذكر الله‏.‏

قال‏:‏ فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏استغفر الله‏)‏‏)‏ ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه، فكان فضالة يقول‏:‏ والله ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحب إلي منه‏.‏

قال فضالة‏:‏ فرجعت إلى أهلي فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها، فقالت‏:‏ هلم إلى الحديث‏.‏

فقال‏:‏ لا‏.‏

وانبعث فضالة يقول‏:‏

قالت هلم إلى الحديث فقلت لا * يأبى عليك الله والإسلام

أو ما رأيت محمداً وقبيله * بالفتح يوم تكسر الأصنام

لرأيت دين الله أضحى بيناً * والشرك يغشى وجهه الإظلام

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 353‏)‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة، عن عائشة قالت‏:‏ خرج صفوان بن أمية يريد جدة ليركب منها إلى اليمن، فقال عمير بن وهب‏:‏ يا نبي الله إن صفوان بن أمية سيد قومه، وقد خرج هارباً منك ليقذف نفسه في البحر، فأمنه يا رسول الله صلى الله عليك‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏هو آمن‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ يا رسول الله فأعطني آية يعرف بها أمانك‏؟‏

فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عمامته التي دخل فيها مكة فخرج بها عمير حتى أدركه وهو يريد أن يركب في البحر، فقال‏:‏ يا صفوان فداك أبي وأمي، الله الله في نفسك أن تهلكها، هذا أمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جئتك به‏.‏

قال‏:‏ ويلك أعزب عني فلا تكلمني‏.‏

قال‏:‏ أي صفوان فداك أبي وأمي، أفضل الناس وأبر الناس وأحلم الناس وخير الناس، ابن عمك عزه عزك، وشرفه شرفك، وملكه ملكك‏.‏

قال‏:‏ إني أخافه على نفسي‏.‏

قال‏:‏ هو أحلم من ذلك وأكرم‏.‏

فرجع معه حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صفوان‏:‏ إن هذا يزعم أنك قد أمنتني‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏صدق‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فاجعلني بالخيار فيه شهرين‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أنت بالخيار أربعة أشهر‏)‏‏)‏‏.‏

ثم حكى ابن إسحاق عن الزهري أن فاختة بنت الوليد امرأة صفوان، وأم حكيم بنت الحارث بن هشام امرأة عكرمة بن أبي جهل، وقد ذهبت وراءه إلى اليمن فاسترجعته، فأسلم، فلما أسلما أقرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم تحتهما بالنكاح الأول‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت، قال‏:‏ رمى حسان بن الزبعري وهو بنجران ببيت واحد ما زاد عليه‏:‏

لا تَعْدَ مَنْ رجلاً أحلك بغضه * نجران في عيش أحذَّ لئيم

فلما بلغ ذلك ابن الزبعري خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم، وقال حين أسلم‏:‏

يا رسول المليك إن لساني * راتق ما فتقت إذ أنا بور

إذ أباري الشيطان في سنن الغي * ومن مال ميله مثبور

آمن اللحم والعظام لربي * ثم قلبي الشهيد أنت النذير

إنني عنك زاجرٌ ثم حيا * من لؤي وكلهم مغرور

قال ابن إسحاق‏:‏ وقال عبد الله بن الزبعري أيضاً حين أسلم‏:‏

منع الرقاد بلابل وهموم * والليل معتلج الرواق بهيم

مما أتاني أن أحمد لامني * فيه فبت كأنني محموم

يا خير من حملت على أوصالها * عيرانة سرح اليدين غشوم

إني لمعتذر إليك من الذي * أسديت إذ أنا في الضلال أهيم

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 354‏)‏

أيام تأمرني بأغوى خطة * سهم وتأمرني بها مخزوم

وأمد أسباب الردى ويقودني * أمر الغواة وأمرهم مشؤوم

فاليوم آمن بالنبي محمد * قلبي ومخطئ هذه محروم

مضت العداوة وانقضت أسبابها * ودعت أواصر بيننا وحلوم

فاغفر فدى لك والدي كلاهما * زللي فإنك راحم مرحوم

وعليك من علم المليك علامة * نور أغر وخاتم مختوم

أعطاك بعد محبة برهانه * شرفاً وبرهان الإله عظيم

ولقد شهدت بأن دينك صادق * حق وأنك في المعاد جسيم

والله يشهد أن أحمد مصطفى * مستقبل في الصالحين كريم

قرم علا بنيانه من هاشم * فرع تمكن في الذرى وأروم

قال ابن هشام‏:‏ وبعض أهل العلم بالشعر ينكرها له‏.‏

قلت‏:‏ وكان عبد الله بن الزبعري السهمي من أكبر أعداء الإسلام، ومن الشعراء الذين استعملوا قواهم في هجاء المسلمين، ثم من الله عليه بالتوبة والإنابة والرجوع إلى الإسلام، والقيام بنصره والذب عنه‏.‏