فصل: فصل المباهلة‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 فصل المباهلة‏:‏

وقد ذكرنا في التَّفسير عند قوله تعالى في سورة البقرة‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 94-95‏]‏‏.‏

ومثلها في سورة الجمعة وهي قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 6- 7‏]‏‏.‏

وذكرنا أقوال المفسرين في ذلك، وأنَّ الصَّواب أنَّه دعاهم إلى المباهلة، وأن يدعو بالموت على المبطل منهم أو المسلمين، فنكلوا عن ذلك لعلمهم بظلم أنفسهم وأنَّ الدَّعوة تنقلب عليهم ويعود وبالها إليهم‏.‏

وهكذا دعا النَّصارى من أهل نجران حين حاجُّوه في عيسى بن مريم، فأمره الله أن يدعوهم إلى المباهلة في قوله‏:‏ ‏{‏فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 61‏]‏‏.‏

وهكذا دعا على المشركين على وجه المباهلة في قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 75‏]‏‏.‏

وقد بسطنا القول في ذلك عند هذه الآيات في كتابنا ‏(‏التَّفسير‏)‏ بما فيه كفاية، ولله الحمد والمنة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/195‏)‏

حديث آخر يتضمن اعتراف اليهود بأنَّه رسول الله‏:‏

ويتضمن تحاكمهم ولكن بقصد منهم مذموم، وذلك أنهم ائتمروا بينهم أنَّه إن حكم بما يوافق هواهم اتبعوه وإلا فاحذروا ذلك، وقد ذمَّهم الله في كتابه العزيز على هذا القصد قال عبد الله بن المبارك‏:‏ ثنا معمر عن الزهري قال‏:‏ كنت جالساً عند سعيد بن المسيّب، وعند سعيد رجل وهو يوقره وإذا هو رجل من مزينة كان أبوه شهد الحديبية وكان من أصحاب أبي هريرة قال‏:‏ قال أبو هريرة‏:‏ كنت جالساً عند رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إذ جاء نفر من اليهود وقد زنا رجل منهم وامرأة فقال بعضهم لبعض‏:‏ اذهبوا بنا إلى هذا النَّبيّ فإنَّه نبي بعث بالتَّخفيف فإن أفتانا حداً دون الرَّجم فعلناه واحتججنا عند الله حين نلقاه بتصديق نبيّ من أنبيائه‏.‏

قال مُرَّة عن الزهري‏:‏ وإن أمرنا بالرَّجم عصينا فقد عصينا الله فيما كتب علينا من الرَّجم في التَّوراة‏.‏

فأتوا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو جالس في المسجد في أصحابه فقالوا‏:‏ يا أبا القاسم ما ترى في رجل منَّا زنا بعد ما أحصن ‏؟‏

فقام رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولم يرجع إليهم شيئاً، وقام معه رجال من المسلمين حتى أتوا بيت مدراس اليهود فوجدوهم يتدارسون التَّوراة‏.‏

فقال لهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏يا معشر اليهود أنشدكم بالله الذي أنزل التَّوراة على موسى ما تجدون في التوراة من العقوبة على من زنا إذا أحصن‏؟‏‏)‏‏)‏

قالوا‏:‏ نجبيه، - والتجبية أن يحملوا اثنين على حمار فيولوا ظهر أحدهما ظهر الآخر - قال‏:‏ وسكت حبرهم - وهو فتى شاب - فلمَّا رآه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم صامتاً ألظ به النشدة‏.‏

فقال حبرهم‏:‏ أمَّا إذ نشدتهم فإنَّا نجد في التَّوراة الرَّجم على من أحصن‏.‏

قال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏فما أوَّل ما ترخصتم أمر الله عزَّ وجل‏؟‏‏)‏‏)‏

فقال‏:‏ زنا رجل منَّا ذو قرابة بملك من ملوكنا فأخَّر عنه الرَّجم، فزنا بعده آخر في أسرة من النَّاس فأراد ذلك الملك أن يرجمه فقام قومه دونه فقالوا‏:‏ لا والله لا نرجمه حتى يرجم فلاناً ابن عمه، فاصطلحوا بينهم على هذه العقوبة‏.‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏فإني أحكم بما حكم في التَّوراة‏)‏‏)‏‏.‏

فأمر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بهما فرجما‏.‏

قال الزهريّ‏:‏ وبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏‏.‏

وله شاهد في الصَّحيح عن ابن عمر‏.‏

قلت‏:‏ وقد ذكرنا ما ورد في هذا السِّياق من الأحاديث عند قوله تعالى‏:‏ يا أيُّها الرَّسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنَّا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سمَّاعون للكذب سمَّاعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرِّفون الكَلِم عن مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 41‏]‏‏.‏

يعني‏:‏ الجلد والتَّحميم الذي اصطلحوا عليه وابتدعوه من عند أنفسهم، يعني‏:‏ إن حكم لكم محمد بهذا فخذوه، وإن لم تؤتوه فاحذروا، يعني‏:‏ وإن لم يحكم لكم بذلك فاحذروا قبوله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/196‏)‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 41‏]‏‏.‏

إلى أن قال‏:‏ ‏{‏وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 43‏]‏‏.‏

فذمَّهم الله تعالى على سوء ظنِّهم وقصدهم بالنِّسبة إلى اعتقادهم في كتابهم، وإنَّ فيه حكم الله بالرَّجم وهم مع ذلك يعلمون صحَّته ثمَّ يعدلون عنه إلى ما ابتدعوه من التَّحميم والتَّجبية‏.‏

وقد روى هذا الحديث محمد بن إسحاق عن الزهري قال‏:‏ سمعت رجلاً من مزينة يحدِّث سعيد بن المسيّب أنَّ أبا هريرة حدَّثهم فذكره وعنده‏.‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لابن صوريا‏:‏ ‏(‏‏(‏أنشدك بالله وأذكِّرك أيامه عند بنيّ إسرائيل هل تعلم أنَّ الله حكم فيمن زنا بعد إحصانه بالرَّجم في التَّوراة‏؟‏‏)‏‏)‏

فقال‏:‏ اللَّهم نعم، أما والله يا أبا القاسم إنهم يعرفون أنَّك نبيّ مرسل ولكنَّهم يحسدونك‏.‏

فخرج رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فأمر بهما فرجما عند باب مسجده في بني تميم عند مالك بن النَّجار‏.‏

قال‏:‏ ثمَّ كفر بعد ذلك ابن صوريا فأنزل الله‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أيُّها الرَّسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر‏)‏‏)‏ الآيات‏.‏

وقد ذكر عبد الله بن صوريا الأعور في حديث ابن عمير وغيره بروايات صحيحة قد بيناها في التفسير‏.‏

حديث آخر‏:‏

قال حماد بن سلمة‏:‏ ثنا ثابت عن أنس أنَّ غلاماً يهودياً كان يخدم النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فمرض فأتاه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يعوده فوجد أباه عند رأسه يقرأ التَّوراة فقال له رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏يا يهوديّ أنشدك بالله الذي أنزل التَّوراة على موسى هل تجدون في التَّوراة نعتي وصفتي ومخرجي ‏؟‏

فقال‏:‏ لا‏.‏

فقال الفتى‏:‏ بلى والله يا رسول الله إنَّا نجد في التَّوراة نعتك وصفتك ومخرجك، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنَّك رسول الله‏.‏

فقال النَّبيّ لأصحابه‏:‏ ‏(‏‏(‏أقيموا هذا من عند رأسه ولوا أخاكم‏)‏‏)‏

ورواه البيهقيّ من هذا الوجه بهذا اللَّفظ‏.‏

حديث آخر‏:‏

قال أبو بكر ابن أبي شيبة‏:‏ ثنا عفَّان، حدَّثنا حماد بن سلمة عن عطاء بن السَّائب، عن أبي عبيدة ابن عبد الله، عن أبيه قال‏:‏ إنَّ الله ابتعث نبيه صلَّى الله عليه وسلَّم لإدخال رجل الجنَّة، فدخل النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم كنيسة وإذا يهودي يقرأ التَّوراة، فلمَّا أتى على صفته أمسك‏.‏

قال‏:‏ وفي ناحيتها رجل مريض‏.‏

فقال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏ما لكم أمسكتم‏؟‏‏)‏‏)‏

فقال المريض‏:‏ إنهم أتوا على صفة نبيّ فأمسكوا، ثمَّ جاء المريض يحبو حتى أخذ التَّوراة‏.‏

وقال‏:‏ إرفع يدك، فقرأ حتى أتى على صفته‏.‏

فقال‏:‏ هذه صفتك وصفة أمتك، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمداً رسول الله ثمَّ مات‏.‏

فقال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏لوا أخاكم‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/197‏)‏

حديث آخر‏:‏

أنَّ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وقف على مدراس اليهود فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا معشر يهود أسلموا، فوالذي لا إله إلا هو إنَّكم لتعلمون أني رسول الله إليكم‏)‏‏)‏‏.‏

فقالوا‏:‏ قد بلَّغت يا أبا القاسم‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ذلك أريد‏)‏‏)‏‏.‏

 فصل البشارة برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

فالذي يقطع به من كتاب الله وسنَّة رسوله ومن حيث المعنى أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قد بشَّرت به الأنبياء قبله، وأتباع الأنبياء يعلمون ذلك ولكن أكثرهم يكتمون ذلك ويخفونه‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 157- 158‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 114‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 146‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ ءأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 20‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 52‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 19‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 17‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 70‏]‏‏.‏

فذكر تعالى‏:‏ بعثته إلى الأميين، وأهل الكتاب، وسائر الخلق من عربهم وعجمهم، فكل من بلغه القرآن فهو نذير له‏.‏

قال صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهوديّ ولا نصرانيّ ولا يؤمن بي إلا دخل النَّار‏)‏‏)‏‏.‏

رواه مسلم وفي الصَّحيحين‏:‏ ‏(‏‏(‏أعطيت خمساً لم يعطهنَّ أحد من الأنبياء قبلي، نصرت بالرُّعب مسيرة شهر، وأحلَّت لي الغنائم ولم تحلّ لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأعطيت السَّماحة، وكان النَّبيّ يبعث إلى قومه وبعثت إلى النَّاس عامةً‏)‏‏)‏‏.‏

وفيهما ‏(‏‏(‏بعثت إلى الأسود والأحمر‏)‏‏)‏‏.‏

قيل‏:‏ إلى العرب والعجم، وقيل‏:‏ إلى الإنس والجنِّ‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/198‏)‏

والصَّحيح أعمّ من ذلك‏.‏

والمقصود أن البشارات به صلَّى الله عليه وسلَّم موجودة في الكتب الموروثة عن الأنبياء قبله حتى تناهت النبُّوة إلى آخر أنبياء بني إسرائيل - هو عيسى بن مريم - وقد قام بهذه البشارة في بني إسرائيل وقصَّ الله خبره في ذلك‏.‏

فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ‏}‏ ‏[‏الصَّف‏:‏ 6‏]‏‏.‏

فأخبار محمد - صلوات الله وسلامه عليه - بأنَّ ذكره موجود في الكتب المتقدِّمة فيما جاء به من القرآن، وفيما ورد عنه من الأحاديث الصَّحيحة كما تقدَّم، وهو مع ذلك من أعقل الخلق باتِّفاق الموافق والمفارق، يدلُّ على صدقه في ذلك قطعاً لأنَّه لو لم يكن واثقاً بما أخبر به من ذلك لكان ذلك من أشدِّ المنفِّرات عنه، ولا يقدم على ذلك عاقل، والغرض أنَّه من أعقل الخلق حتَّى عند من يخالفه بل هو أعقلهم في نفس الأمر، ثمَّ إنَّه قد انتشرت دعوته في المشارق والمغارب، وعمَّت دولة أمته في أقطار الآفاق عموماً لم يحصل لأمة من الأمم قبلها، فلو لم يكن محمد صلَّى الله عليه وسلَّم نبياً لكان ضرره أعظم من كلِّ أحد، ولو كان كذلك لحذَّر عنه الأنبياء أشدَّ التَّحذير، ولنفَّروا أممهم منه أشدَّ التَّنفير فإنَّهم جميعهم قد حذَّروا من دعاة الضَّلالة في كتبهم، ونهوا أممهم عن اتِّباعهم والإقتداء بهم، ونصُّوا على المسيح الدَّجال الأعور الكذَّاب، حتَّى قد أنذر نوح - وهو أوَّل الرُّسل قومه - ومعلوم أنَّه لم ينص نبي من الأنبياء على التَّحذير من محمَّد ولا التَّنفير عنه ولا الإخبار عنه بشيء خلاف مدحه والثَّناء عليه، والبشارة بوجوده، والأمر باتِّباعه، والنَّهي عن مخالفته والخروج من طاعته قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ ءأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 81‏]‏‏.‏

قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما‏:‏ ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمَّد وهو حيّ ليؤمننَّ به ولينصرنَّه، وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق لئن بعث محمَّد وهم أحياء ليؤمنن به وليتبعنَّه‏.‏

رواه البخاريّ‏.‏

وقد وجدت البشارات به صلَّى الله عليه وسلَّم في الكتب المتقدِّمة وهي أشهر من أن تذكر، وأكثر من أن تحصر، وقد قدَّمنا قبل مولده عليه السلام طرفاً صالحاً من ذلك، وقرَّرنا في كتاب التَّفسير عند الآيات المقتضية لذلك آثاراً كثيرة، ونحن نورد ههنا شيئاً مما وجد في كتبهم التي يعترفون بصحَّتها، ويتديَّنون بتلاوتها مما جمعه العلماء قديماً وحديثاً ممَّن آمن منهم واطَّلع على ذلك من كتبهم التي بأيديهم‏:‏

ففي السَّفر الأوَّل من التَّوراة التي بأيديهم في قصَّة إبراهيم الخليل عليه السلام ما مضمونه وتعريبه‏:‏ إنَّ الله أوحى إلى إبراهيم عليه السلام بعد ما سلَّمه من نار النَّمرود أن قُم فاسلك الأرض مشارقها ومغاربها لولدك، فلمَّا قص ذلك على سارة طمعت أن يكون ذلك لولدها منه، وحرصت على إبعاد هاجر وولدها حتَّى ذهب بهما الخليل إلى بريَّة الحجاز وجبال فاران، وظنَّ إبراهيم عليه السلام أنَّ هذه البشارة تكون لولده إسحاق، حتى أوحى الله إليه ما مضمونه‏:‏ أمَّا ولدك إسحاق فإنَّه يرزق ذرية عظيمة، وأما ولدك إسماعيل فإنِّي باركته وعظَّمته وكثَّرت ذريته، وجعلت من ذريته ماذ ماذ - يعني‏:‏ محمَّداً صلَّى الله عليه وسلَّم وجعلت في ذريته اثنا عشر إماما، وتكون له أمة عظيمة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/199‏)‏

وكذلك بشِّرت هاجر حين وضعها الخليل عند البيت فعطشت وحزنت على ولدها، وجاء الملك فأنبع زمزم وأمرها بالاحتفاظ بهذا الولد فإنَّه سيولد له منه عظيم له ذرية عدد نجوم السَّماء، ومعلوم أنَّه لم يولد من ذرية إسماعيل بل من ذرية آدم أعظم قدراً ولا أوسع جاهاً، ولا أعلى منزلةً ولا أجلَّ منصباً من محمد صلَّى الله عليه وسلَّم وهو الذي استولت دولة أمته على المشارق والمغارب، وحكموا على سائر الأمم‏.‏

وهكذا في قصَّة إسماعيل من السَّفر الأوَّل‏:‏ أنَّ ولد إسماعيل تكون يده على كل الأمم وكل الأمم تحت يده، وبجميع مساكن إخوته يسكن، وهذا لم يكن لأحد يصدق على الطائفة إلا لمحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وأيضاً في السَّفر الرَّابع في قصَّة موسى أنَّ‏:‏ الله أوحى إلى موسى عليه السلام أن قل لبني إسرائيل سأقيم لهم نبياً من أقاربهم مثلك يا موسى، وأجعل وحيي بفيه وإياه تسمعون‏.‏

وفي السَّفر الخامس - وهو سفر الميعاد -‏:‏ أنَّ موسى عليه السلام خطب بني إسرائيل في آخر عمره - وذلك في السَّنة التَّاسعة والثلاثين من سنيّ التِّيه - وذكَّرهم بأيَّام الله وأياديه عليهم وإحسانه إليهم وقال لهم فيما قال‏:‏ واعلموا أنَّ الله سيبعث لكم نبياً من أقاربكم مثل ما أرسلني إليكم يأمركم بالمعروف، وينهاكم عن المنكر، ويحلُّ لكم الطيِّبات، ويحرِّم عليكم الخبائث، فمن عصاه فله الخزي في الدُّنيا والعذاب في الآخرة‏.‏

وأيضاً في آخر السَّفر الخامس - وهو آخر التَّوراة التي بأيديهم -‏:‏ جاء الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران، وظهر من ربوات قدسه عن يمينه نور، وعن شماله نار، عليه تجتمع الشّعوب أي‏:‏ جاء أمر الله وشرعه من طور سيناء - وهو الجَّبل الذي كلَّم الله موسى عليه السَّلام عنده - وأشرق من ساعير وهي جبال بيت المقدس - المحلة التي كان بها عيسى بن مريم عليه السَّلام - واستعلن أي ظهر وعلا أمره من جبال فاران - وهي جبال الحجاز بلا خلاف - ولم يكن ذلك إلا على لسان محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم فذكر تعالى هذه الأماكن الثَّلاثة على الترتيب الوقوعي، ذكر محلة موسى، ثمَّ عيسى، ثمَّ بلد محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم ولما أقسم تعالى بهذه الأماكن الثَّلاثة ذكر الفاضل أولاً ثمَّ الأفضل منه، ثمَّ الأفضل منه على قاعدة القسم‏.‏

فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ‏}‏ ‏[‏التِّين‏:‏ 1‏]‏‏.‏

والمراد بها محلة بيت المقدس حيث كان عيسى عليه السلام‏.‏

{‏وَطُورِ سِينِينَ‏}‏ ‏[‏التِّين‏:‏ 2‏]‏‏.‏ وهو الجَّبل الذي كلَّم الله عليه موسى‏.‏

{‏وَهَذا البَلَدُ الأَمِيْن‏}‏ ‏[‏التِّين‏:‏ 3‏]‏‏.‏ وهو البلد الذي ابتعث منه محمداً صلَّى الله عليه وسلَّم قاله غير واحد من المفسِّرين في تفسير هذه الآيات الكريمات‏.‏

وفي زبور داود عليه السلام صفة هذه الأمة بالجهاد والعبادة، وفيه مثل ضربه لمحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم بأنَّه ختام القبة المبنية‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/200‏)‏

كما ورد به الحديث في الصَّحيحين‏:‏ ‏(‏‏(‏مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى داراً فأكملها إلا موضع لبنة فجعل النَّاس يطيفون بها ويقولون‏:‏ هلا وضعت هذه اللَّبنة‏؟‏‏)‏‏)‏

ومصداق ذلك أيضاً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 40‏]‏‏.‏

وفي الزَّبور صفة محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم بأنَّه ستنبسط نبوته ودعوته وتنفذ كلمته من البحر إلى البحر، وتأتيه الملوك من سائر الأقطار طائعين بالقرابين والهدايا، وأنَّه يخلص المضطر ويكشف الضرَّ عن الأمم، وينقذ الضَّعيف الذي لا ناصر له، ويصلَّى عليه في كل وقت، ويبارك الله عليه في كل يوم، ويدوم ذكره إلى الأبد، وهذا إنما ينطبق على محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وفي صحف شعيا في كلام طويل فيه معاتبة لبني إسرائيل وفيه‏:‏ فإني أبعث إليكم وإلى الأمم نبياً أمياً ليس بفظٍ ولا غليظ القلب، ولا سخَّاب في الأسواق، أسدده لكل جميل، وأهب له كل خلق كريم، ثمَّ أجعل السكينة لباسه، والبرَّ شعاره، والتَّقوى في ضميره، والحكمة معقوله، والوفاء طبيعته، والعدل سيرته، والحقَّ شريعته، والهدى ملته، والإسلام دينه، والقرآن كتابه، أحمد اسمه، أهدي به من الضَّلالة، وأرفع به بعد الخمالة، وأجمع به بعد الفرقة، وأؤلف به بين القلوب المختلفة، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للنَّاس، قرابينهم دماؤهم، أناجليهم في صدورهم، رهباناً باللَّيل، ليوثاً بالنَّهار ‏{‏ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 21‏]‏‏.‏

وفي الفصل الخامس من كلام شعيا‏:‏ يدوس الأمم كدوس البيادر، وينزل البلاء بمشركي العرب وينهزمون قدَّامه‏.‏

وفي الفصل السَّادس والعشرين منه‏:‏ ليفرح أرض البادية العطشى، ويعطي أحمد محاسن لبنان، ويرون جلال الله بمهجته‏.‏

وفي صحف إلياس عليه السلام أنَّه خرج مع جماعة من أصحابه سائحاً فلمَّا رأى العرب بأرض الحجاز قال‏:‏ لمن معه انظروا إلى هؤلاء فإنَّهم هم الذين يملكون حصونكم العظيمة‏.‏

فقالوا‏:‏ يا نبي الله فما الذي يكون معبودهم ‏؟‏

فقال‏:‏ يعظِّمون ربَّ العزَّة فوق كل رابية عالية‏.‏

ومن صحف حزقيل‏:‏ إنَّ عبدي خيرتي أنزل عليه وحيي، يُظهر في الأمم عدلي، اخترته واصطفيته لنفسي، وأرسلته إلى الأمم بأحكام صادقة‏.‏

ومن كتاب النبُّوات‏:‏ أنَّ نبياً من الأنبياء مرَّ بالمدينة فأضافه بنو قريظة والنضير، فلمَّا رآهم بكى‏.‏

فقالوا له‏:‏ ما الذي يبكيك يا نبي الله ‏؟‏

فقال‏:‏ نبي يبعثه الله من الحرة يخرب دياركم، ويسبي حريمكم‏.‏

قال‏:‏ فأراد اليهود قتله فهرب منهم‏.‏

ومن كلام حزقيل عليه السلام يقول الله‏:‏ من قبل أن صورتك في الأحشاء قدَّستك، وجعلتك نبياً، وأرسلتك إلى سائر الأمم‏.‏

في صحف شعيا أيضاً مثل مضروب لمكة - شرَّفها الله -‏:‏ إفرحي يا عاقر بهذا الولد الذي يهبه لك ربك، فإنَّ ببركته تتسع لك الأماكن، وتثبت أوتادك في الأرض، وتعلو أبواب مساكنك، ويأتيك ملوك الأرض عن يمينك وشمالك بالهدايا والتَّقادم، وولدك هذا يرث جميع الأمم، ويملك سائر المدن والأقاليم، ولا تخافي ولا تحرني فما بقي يلحقك ضيم من عدوٍ أبداً، وجميع أيَّام ترمُّلك تنسيها‏.‏

وهذا كلَّه إنَّما حصل على يدي محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم وإنما المراد بهذه العاقر مكة، ثمَّ صارت كما ذكر في هذا الكلام لا محالة‏.‏

ومن أراد من أهل الكتاب أن يصرف هذا ويتأوَّله على بيت المقدس وهذا لا يناسبه من كل وجه، والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/201‏)‏

وفي صحف أرميا‏:‏ كوكب ظهر من الجنوب أشعته صواعق، سهامه خوارق، دكت له الجبال، وهذا المراد به محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وفي الإنجيل يقول عيسى عليه السلام‏:‏ إني مرتق إلى جنَّات العلى، ومرسل إليكم الفارقليط روح الحقّ يعلمكم كل شيء، ولم يقل شيئاً من تلقاء نفسه، والمراد بالفارقليط‏:‏ محمَّد - صلوات الله وسلامه عليه -‏.‏

وهذا كما تقدَّم عن عيسى أنَّه قال‏:‏ ‏{‏وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ‏}‏ ‏[‏الصَّف‏:‏ 6‏]‏‏.‏

وهذا باب متَّسع، ولو تقصَّينا جميع ما ذكره النَّاس لطال هذا الفصل جداً، وقد أشرنا إلى نبذ من ذلك يهتدي بها من نوَّر الله بصيرته وهداه إلى صراطه المستقيم، وأكثر هذه النصوص يعلمها كثير من علمائهم وأحبارهم، وهم مع ذلك يتكاتمونها ويخفونها‏.‏

وقال الحافظ أبو بكر البيهقيّ‏:‏ أنَّا أبو عبد الله الحافظ ومحمد بن موسى بن الفضل ومحمد بن أحمد الصيدلاني قالوا‏:‏ ثنا أبو العبَّاس محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن عبيد الله ابن أبي داود المناديّ، ثنا يونس بن محمد المؤدب، ثنا صالح بن عمر، ثنا عاصم بن كليب عن أبيه، عن الغليان بن عاصم قال‏:‏ كنَّا جلوساً عند النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم إذ شخص ببصره إلى رجل فدعاه، فأقبل رجل من اليهود مجتمع عليه قميص وسراويل ونعلان فجعل يقول‏:‏ يا رسول الله‏.‏

فجعل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏أتشهد إني رسول الله‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فجعل لا يقول شيئاً إلا قال‏:‏ يا رسول الله‏.‏

فيقول‏:‏ ‏(‏‏(‏أتشهد أني رسول الله‏؟‏‏)‏‏)‏

فيأبى‏.‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏أتقرأ التَّوراة‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏والإنجيل‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ نعم، والفرقان وربِّ محمَّد لو شئت لقرأته‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فأنشدك بالذي أنزل التَّوراة والإنجيل، وأنشأ خلقه بها تجدني فيهما‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ نجد مثل نعتك يخرج من مخرجك، كنَّا نرجو أن يكون فينا، فلمَّا خرجت رأينا أنَّك هو، فلمَّا نظرنا إذا أنت لست به‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من أين‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ نجد من أمتك سبعين ألفاً يدخلون الجنَّة بغير حساب وإنَّما أنتم قليل‏.‏

قال‏:‏ فهلَّل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وكبَّر وهلَّل وكبَّر ثمَّ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏والذي نفس محمَّد بيده إنَّني لأنا هو، وإنَّ من أمتي لأكثر من سبعين ألفاً وسبعين وسبعين‏)‏‏)‏‏.‏

 جوابه صلَّى الله عليه وسلَّم لمن ساءل عمَّا سأل قبل أن يسأله عن شيء منه‏:‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا عفَّان، ثنا حماد بن سلمة، أنَّا الزُّبير بن عبد السَّلام عن أيوب بن عبد الله بن مكرز - ولم يسمعه منه - قال‏:‏ حدَّثني جلساؤه وقد رأيته عن وابصة الأسدي وقال عفَّان‏:‏ ثنا غير مرة ولم يقل‏:‏ حدَّثني جلساؤه قال‏:‏ أتيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأنا أريد أن لا أدع شيئاً من البرِّ والإثم إلا سألته عنه، وحوله عصابة من المسلمين يستفتونه فجعلت أتخطاهم‏.‏

فقالوا‏:‏ إليك وابصة عن رسول الله‏.‏

فقلت‏:‏ دعوني فأدنو منه فإنَّه أحبّ النَّاس إليَّ أن أدنو منه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏دعوا وابصة، أدن يا وابصة‏)‏‏)‏ مرتين أو ثلاثاً‏.‏

قال‏:‏ فدنوت منه حتَّى قعدت بين يديه‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا وابصة أخبرك أم تسألني‏؟‏‏)‏‏)‏

فقلت‏:‏ لا بل أخبرني‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏جئت تسأل عن البرِّ والإثم‏)‏‏)‏‏.‏

فقلت‏:‏ نعم‏.‏

فجمع أنامله فجعل ينكت بهن في صدري ويقول‏:‏ ‏(‏‏(‏يا وابصة استفت قلبك واستفت نفسك‏)‏‏)‏ ثلاث مرات ‏(‏‏(‏البرّ ما اطمأنت إليه النَّفس، والإثم ما حاك في النَّفس وتردد في الصَّدر وإن أفتاك النَّاس وأفتوك‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/202‏)‏

 باب ما أخبر به صلَّى الله عليه وسلَّم من الكائنات المستقبلة في حياته وبعده‏:‏

وهذا باب عظيم لا يمكن استقصاء جميع ما فيه لكثرتها، ولكن نحن نشير إلى طرف منها، وبالله المستعان وعليه التُّكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم، وذلك منتزع من القرآن ومن الأحاديث‏.‏

أما القرآن‏:‏

فقال تعالى في سورة المزَّمل - وهي من أوائل ما نزل بمكة -‏:‏ ‏{‏عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏المزَّمل‏:‏ 20‏]‏‏.‏

ومعلوم أنَّ الجهاد لم يشرع إلا بالمدينة بعد الهجرة‏.‏

وقال تعالى في سورة اقترب - وهي مكية -‏:‏ ‏{‏أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 44-45‏]‏‏.‏

ووقع هذا يوم بدر وقد تلاها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو خارج من العريش، ورماهم بقبضة من الحصباء فكان النَّصر والظَّفر، وهذا مصداق ذاك‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ‏}‏ ‏[‏المسد‏:‏ 1-5‏]‏‏.‏

فأخبر أنَّ عمَّه عبد العزَّى بن عبد المطَّلب الملقب بأبي لهب سيدخل النَّار هو وامرأته، فقدَّر الله عزَّ وجل أنهما ماتا على شركهما لم يسلما حتى ولا ظاهراً، وهذا من دلائل النبُّوة الباهرة‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 88‏]‏‏.‏

وقال تعالى في سورة البقرة‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 23-24‏]‏‏.‏

فأخبر أنَّ جميع الخليقة لو اجتمعوا، وتعاضدوا وتناصروا وتعاونوا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن في فصاحته وبلاغته، وحلاوته وإحكام أحكامه، وبيان حلاله وحرامه، وغير ذلك من وجوه إعجازه لما استطاعوا ذلك، ولما قدروا عليه ولا على عشر سور منه بل ولا سورة، وأخبر أنهم لن يفعلوا ذلك أبداً‏.‏

و ‏(‏لن‏)‏ لنفي التأبيد في المستقبل، ومثل هذا التَّحدي وهذا القطع، وهذا الإخبار الجازم لا يصدر إلا عن واثق بما يخبر به، عالم بما يقوله، قاطع أن أحداً لا يمكنه أن يعارضه، ولا يأتي بمثل ما جاء به عن ربِّه عزَّ وجل‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/203‏)‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ‏}‏ ‏[‏النُّور‏:‏ 55‏]‏‏.‏

وهكذا وقع سواء بسواء، مكَّن الله هذا الدِّين وأظهره وأعلاه ونشره في سائر الآفاق، وأنفذه وأمضاه‏.‏

وقد فسَّر كثير من السَّلف هذه الآية بخلافة الصِّديق، ولا شكَّ في دخوله فيها ولكن لا تختص به بل تعمَّه كما تعمّ غيره‏.‏

كما ثبت في الصَّحيح‏:‏ ‏(‏‏(‏إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، والذي نفسي بيده لننفقنَّ كنوزهما في سبيل الله‏)‏‏)‏‏.‏

وقد كان ذلك في زمن الخلفاء الثَّلاثة‏:‏ أبي بكر، وعمر، وعثمان - رضي الله عنهم وأرضاهم -‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 33‏]‏‏.‏

وهكذا وقع وعمَّ هذا الدِّين وغلب وعلا على سائر الأديان في مشارق الأرض ومغاربها، وعلت كلمته في زمن الصَّحابة ومن بعدهم، وذلَّت لهم سائر البلاد ودان لهم جميع أهلها على اختلاف أصنافهم، وصار النَّاس إما مؤمن داخل في الدِّين، وإما مهادن باذل الطَّاعة والمال، وإما محارب خائف وجل من سطوة الإسلام وأهله‏.‏

وقد ثبت في الحديث‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّ الله زوى لي مشارق الأرض ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها‏)‏‏)‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 16‏]‏‏.‏

وسواء كان هؤلاء هوازن أو أصحاب مسيلمة أو الروم فقد وقع ذلك‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً * وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 20 -21‏]‏‏.‏

وسواء كانت هذه الأخرى خيبر أو مكة فقد فتحت وأخذت كما وقع به الوعد سواء بسواء‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 27‏]‏‏.‏

فكان هذا الوعد في سنة الحديبية عام ست، ووقع إنجازه في سنة سبع عام عمرة القضاء كما تقدَّم، وذكرنا هناك الحديث بطوله وفيه أنَّ عمر قال‏:‏ يا رسول الله ألم تكن تخبرنا أنَّا سنأتي البيت ونطوف به ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏بلى أفأخبرتك أنَّك تأتيه عامك هذا‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فإنَّك تأتيه وتطوف به‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/204‏)‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 7‏]‏‏.‏

وهذا الوعد كان في وقعة بدر لما خرج رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من المدينة ليأخذ عير قريش، فبلغ قريشاً خروجه إلى عيرهم فنفروا في قريب من ألف مقاتل فلمَّا تحقق رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابه قدومهم وعده الله إحدى الطَّائفتين أن سيظفره بها إمَّا العير، وإمَّا النفير، فودَّ كثير من الصَّحابة ممن كان معه أن يكون الوعد للعير لما فيه من الأموال وقلَّة الرِّجال، وكرهوا لقاء النَّفير لما فيه من العدد والعدد، فخار الله لهم وأنجز لهم وعده في النَّفير بهم بأسه الذي لا يرد فقتل من سراتهم سبعون وأسر سبعون، وفادوا أنفسهم بأموال جزيلة، فجمع لهم بين خيريّ الدُّنيا والآخرة، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 7‏]‏‏.‏

وقد تقدَّم بيان هذا في غزوة بدر‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 70‏]‏‏.‏

وهكذا وقع فإنَّ الله عوَّض من أسلم منهم بخير الدُّنيا والآخرة‏.‏

ومن ذلك ما ذكره البخاريّ أنَّ العبَّاس جاء إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال‏:‏ يا رسول الله أعطني فإنِّي فاديت نفسي، وفاديت عقيلاً‏.‏

فقال له‏:‏ ‏(‏‏(‏خذ‏)‏‏)‏ فأخذ في ثوب مقداراً لم يمكنه أن يقله، ثمَّ وضع منه مرة بعد مرة حتى أمكنه أن يحمله على كاهله وانطلق به كما ذكرناه في موضعه مبسوطاً، وهذا من تصديق هذه الآية الكريمة‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ‏}‏ ‏[‏التَّوبة‏:‏ 95‏]‏‏.‏

هكذا وقع عوَّضهم الله عمَّا كان يغدو إليهم مع حجاج المشركين بما شرعه لهم من قتال أهل الكتاب، وضرب الجزية عليهم، وسلب أموال من قتل منهم على كفره كما وقع بكفَّار أهل الشَّام من الرُّوم ومجوس الفرس بالعراق، وغيرها من البلدان التي انتشر الإسلام على أرجائها وحكم على مدائنها وفيفائها‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏التَّوبة‏:‏ 33‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ‏}‏ ‏[‏التَّوبة‏:‏ 95‏]‏‏.‏

وهكذا وقع لمَّا رجع صلَّى الله عليه وسلَّم من غزوة تبوك كان قد تخلَّف عنه طائفة من المنافقين فجعلوا يحلفون بالله لقد كانوا معذورين في تخلُّفهم، وهم في ذلك كاذبون، فأمر الله رسوله أن يجري أحوالهم على ظاهرها ولا يفضحهم عند النَّاس، وقد أطلعه الله على أعيان جماعة منهم أربعة عشر رجلاً كما قدَّمناه لك في غزوة تبوك، فكان حذيفة بن اليمان ممن يعرفهم بتعريفه إيَّاه صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذاً لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 76‏]‏‏.‏

وهكذا وقع لما اشتوروا عليه ليثبِّتوه، أو يقتلوه، أو يخرجوه من بين أظهرهم، ثمَّ وقع الرأيّ على القتل، فعند ذلك أمر الله رسوله بالخروج من بين أظهرهم فخرج هو وصديقه أبو بكر فَكَمَنَا في غار ثور ثلاثاً ثمَّ ارتحلا بعدها كما قدَّمنا وهذا هو المراد بقوله‏:‏ ‏{‏إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏ ‏[‏التَّوبة‏:‏ 40‏]‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/205‏)‏

وهو مراد من قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 30‏]‏‏.‏

ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَإِذاً لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 76‏]‏‏.‏

وقد وقع كما أخبر فإنَّ الملأ الذين اشتوروا على ذلك لم يلبثوا بمكة بعد هجرته صلَّى الله عليه وسلَّم إلا ريثما استقر ركابه الشَّريف بالمدينة، وتابعه المهاجرون والأنصار ثمَّ كانت وقعة بدر فقتلت تلك النُّفوس وكسرت تلك الرُّءوس، وقد كان صلَّى الله عليه وسلَّم يعلم ذلك قَبْلُ كونَه من إخبار الله له بذلك‏.‏

ولهذا قال سعد بن معاذ لأمية بن خلف‏:‏ أما إني سمعت محمَّداً صلَّى الله عليه وسلَّم يذكر أنَّه قاتلك‏.‏

فقال‏:‏ أنت سمعته ‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ فإنَّه والله لا يكذب‏.‏

وسيأتي الحديث في بابه، وقد قدَّمنا أنَّه عليه السلام جعل يشير لأصحابه قبل الوقعة إلى مصارع القتلى، فما تعدَّى أحد منهم موضعه الذي أشار إليه - صلوات الله وسلامه عليه -‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 1-6‏]‏‏.‏

وهذا الوعد وقع كما أخبر به، وذلك أنَّه لمَّا غلبت فارس الرُّوم فرح المشركون واغتم بذلك المؤمنون لأنَّ النَّصارى أقرب إلى الإسلام من المجوس، فأخبر الله رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم بأنَّ الرُّوم ستغلب الفرس بعد هذه المدَّة بسبع سنين، وكان من أمر مراهنة الصِّديق رءوس المشركين على أنَّ ذلك سيقع في هذه المدة ما هو مشهور، كما قررنا في كتابنا ‏(‏التَّفسير‏)‏ فوقع الأمر كما أخبر به القرآن، غلبت الرُّوم فارس بعد غلبهم غلباً عظيماً جداً، وقصَّتهم في ذلك يطول بسطها وقد شرحناها في ‏(‏التَّفسير‏)‏ بما فيه الكفاية ولله الحمد والمنة‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ‏}‏ ‏[‏فصِّلت‏:‏ 53‏]‏‏.‏

وكذلك وقع، أظهر الله من آياته ودلائله في أنفس البشر وفي الآفاق بما أوقعه من النَّاس بأعداء النبُّوة، ومخالفي الشرع ممن كذب به من أهل الكتابين والمجوس والمشركين، ما دلَّ ذوي البصائر والنُّهى على أنَّ محمداً رسول الله حقاً، وأنَّ ما جاء به من الوحي عن الله صدق، وقد أوقع له في صدور أعدائه وقلوبهم رعباً ومهابةً وخوفاً‏.‏

كما ثبت عنه في الصَّحيحين أنَّه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نُصرت بالرُّعب مسيرة شهر‏)‏‏)‏ وهذا من التَّأييد والنَّصر الذي آتاه الله - عزَّ وجل - وكان عدوَّه يخافه وبينه وبينه مسيرة شهر وقيل‏:‏ كان إذا عزم على غزو قوم أرعبوا قبل مجيئه إليهم وَورودِه عليهم بشهر - صلوات الله وسلامه عليه - دائماً إلى يوم الدِّين‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/206‏)‏

 فصل الدَّلائل على إخباره صلَّى الله عليه وسلَّم بما وقع

وأمَّا الأحاديث الدَّالة على إخباره بما وقع كما أخبر فمن ذلك ما أسلفناه في قصَّة الصَّحيفة التي تعاقدت فيها بطون قريش وتمالأوا على بني هاشم وبني المطلب أن لا يؤووهم، ولا يناكحوهم، ولا يبايعوهم، حتى يسلموا إليهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فدخلت بنو هاشم وبنو عبد المطلب بمسلمهم وكافرهم شعب أبي طالب آنفين لذلك، ممتنعين منه أبداً ما بقوا دائماً ما تناسلوا وتعاقبوا، وفي ذلك عمل أبو طالب قصيدته اللامية التي يقول فيها‏:‏

كذَبتُمْ وبيتِ اللهِ نبزِي محمَّداً * وَلَمَّا نقاتِل دونَهُ وَنُنَاضِلِ

وِنسلمُهُ حتَّى نصرَّعَ حولهُ * وَنذهَلَ عَنْ أَبنَائِنَا وَالحَلائِلِ

وما تَرَكَ قَوْمٍ لا أَبَا لَكَ سيداً * يحوطُ الذِّمارَ غيرَ دَرْبِ مُواكِلِ

وأَبيَضَ يُسْتَسْقى الغَمَامُ بوجهِهِ * ثمالُ اليتَامَى عِصْمَةٌ للأرامِلِ

يلوذُ بهِ الهَلاكُ مِنْ آلِ هاشِمٍ * فَهُمْ عِنْدَهُ في نعمةٍ وفواضِلِ

وكانت قريش قد علَّقت صحيفة الزَّعامة في سقف الكعبة، فسلَّط الله عليها الأرضة فأكلت ما فيها من أسماء الله لئلا يجتمع بما فيها من الظُّلم والفجور، وقيل‏:‏ إنَّها أكلت ما فيها إلا أسماء الله - عزَّ وجل - فأخبر بذلك رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عمَّه أبو طالب‏.‏

فجاء أبو طالب إلى قريش فقال‏:‏ إنَّ ابن أخي قد أخبرني بخبر عن صحيفتكم فإنَّ الله قد سلَّط عليها الأرضة فأكلتها إلا ما فيها من أسماء الله - أو كما قال‏:‏ - فأحضِروها فإن كان كما قال وإلا أسلمته إليكم، فأنزلوها ففتحوها فإذا الأمر كما أخبر به رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فعند ذلك نقضوا حكمها ودخلت بنو هاشم وبنو المطَّلب مكة، ورجعوا إلى ما كانوا عليه قبل ذلك كما أسلفنا ذكره، ولله الحمد‏.‏

ومن ذلك حديث خبَّاب بن الأرت حين جاء هو وأمثاله من المستضعفين يستنصرن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وهو يتوسَّد رداءه في ظل الكعبة فيدعو لهم لما هم فيه من العذاب والإهانة فجلس محمراً وجهه وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّ من كان قبلكم كان أحدهم يشقّ باثنتين ما يصرفه ذلك عن دينه، والله ليتمنَّ الله هذا الأمر ولكنَّكم تستعجلون‏)‏‏)‏‏.‏

ومن ذلك الحديث الذي رواه البخاريّ‏:‏ ثنا محمد بن العلاء، ثنا حماد بن أسامة عن يزيد بن عبد الله ابن أبي بردة، عن أبيه، عن جدِّه أبي بردة، عن أبي موسى أراه عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض فيها نخل، فذهب وهلي إلى أنَّها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب، ورأيت في رؤياي هذه أني هززت سيفاً فانقطع صدره فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أُحد، ثمَّ هززته أخرى فعاد أحسن ما كان فإذا هو ما جاء به من الفتح واجتماع المؤمنين، ورأيت فيها بقراً والله خير فإذا هم المؤمنون يوم أُحد، وإذا الخير ما جاء الله به من الخير وثواب الصِّدق الذي أتانا بعد يوم بدر‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/207‏)‏

ومن ذلك قصَّة سعد بن معاذ مع أمية بن خلف حين قدم عليه مكة‏.‏ قال البخاريّ‏:‏ ثنا أحمد بن إسحاق، ثنا عبيد الله بن موسى، ثنا إسرائيل عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ انطلق سعد بن معاذ معتمراً فنزل على أمية بن خلف أبي صفوان، وكان أمية إذا انطلق إلى الشَّام فمرَّ بالمدينة نزل على سعد‏.‏

فقال أمية لسعد‏:‏ انتظر حتى إذا انتصف النَّهار وغفل النَّاس انطلقت فطفت فبينا سعد يطوف فإذا أبو جهل فقال‏:‏ من هذا الذي يطوف بالكعبة ‏؟‏

فقال سعد‏:‏ أنا سعد‏.‏

فقال أبو جهل‏:‏ تطوف بالكعبة آمناً وقد آويتم محمداً وأصحابه ‏؟‏

فقال‏:‏ نعم، فتلاحيا بينهما‏.‏

فقال أمية لسعد‏:‏ لا ترفع صوتك على أبي الحكم فإنَّه سيد أهل الوادي‏.‏

ثمَّ قال سعد‏:‏ والله لئن منعتني أن أطوف بالبيت لأقطعن متجرك بالشَّام‏.‏

قال‏:‏ فجعل أمية يقول لسعد‏:‏ لا ترفع صوتك وجعل يمسكه‏.‏

فغضب سعد فقال‏:‏ دعنا عنك فإني سمعت محمد صلَّى الله عليه وسلَّم يزعم أنَّه قاتلك‏.‏

قال‏:‏ إياي ‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ والله ما يكذب محمَّد إذا حدَّث، فرجع إلى امرأته فقال‏:‏ أما تعلمين ما قال لي أخي اليثربيّ ‏؟‏

قالت‏:‏ وما قال لك ‏؟‏

قال‏:‏ زعم أنَّه سمع محمَّداً يزعم أنَّه قاتلي‏.‏

قالت‏:‏ فوالله ما يكذب محمَّداً‏.‏

قال‏:‏ فلمَّا خرجوا إلى بدر وجاء الصريخ‏.‏

قالت له امرأته‏:‏ ما ذكرت ما قال لك أخوك اليثربيّ‏؟‏

قال‏:‏ فأراد أن لا يخرج‏.‏

فقال له أبو جهل‏:‏ إنَّك من أشراف الوادي فسر يوماً أو يومين، فسار معهم فقتله الله‏.‏

وهذا الحديث من أفراد البخاريّ، وقد تقدَّم بأبسط من هذا السِّياق‏.‏

ومن ذلك قصَّة أُبيّ بن خلف الذي كان يعلف حصاناً له فإذا مرَّ برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول‏:‏ إنِّي سأقتلك عليه‏.‏

فيقول له رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏بل أنا أقتلك إن شاء الله‏)‏‏)‏‏.‏

فقتله يوم أُحد كما قدَّمنا بسطه‏.‏

ومن ذلك إخباره عن مصارع القتلى يوم بدر كما تقدَّم الحديث في الصَّحيح أنَّه جعل يشير قبل الوقعة إلى محلها ويقول‏:‏ ‏(‏‏(‏هذا مصرع فلان غداً إن شاء الله، وهذا مصرع فلان‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فوالذي بعثه بالحقّ ما حاد أحد منهم عن مكانه الذي أشار إليه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

ومن ذلك قوله لذلك الرَّجل الذي كان لا يترك للمشركين شاذَّة ولا فاذَّة إلا اتبعها ففراها بسيفه وذلك يوم أُحد، وقيل‏:‏ خيبر - وهو الصَّحيح - وقيل‏:‏ في يوم حنين -‏.‏

فقال النَّاس‏:‏ ما أغنى أحد اليوم ما أغنى فلان - يقال‏:‏ إنَّه قرمان -‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّه من أهل النَّار‏)‏‏)‏‏.‏

فقال بعض النَّاس‏:‏ أنا صاحبه فاتبعه فجرح فاستعجل الموت فوضع ذباب سيفه في صدره ثمَّ تحامل عليه حتى أنفذه فرجع ذلك الرَّجل فقال‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله، وأنَّك رسول الله‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏وما ذاك‏؟‏‏)‏‏)‏

فقال‏:‏ إنَّ الرَّجل الذي ذكرت آنفاً كان من أمره كيت وكيت، فذكر الحديث كما تقدَّم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/208‏)‏

ومن ذلك إخباره عن فتح مدائن كسرى وقصور الشَّام، وغيرها من البلاد يوم حفر الخندق لمَّا ضرب بيده الكريمة تلك الصخرة فبرقت من ضربه، ثمَّ أخرى، ثمَّ أخرى كما قدَّمنا‏.‏

ومن ذلك إخباره صلَّى الله عليه وسلَّم عن ذلك الذِّراع أنَّه مسموم، فكان كما أخبر به اعترف إليه بذلك، ومات - من أكل معه - بشر بن البراء بن معرور‏.‏

ومن ذلك ما ذكره عبد الرَّزاق عن معمر أنَّه بلغه أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال ذات يوم‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم نجِّ أصحاب السَّفينة‏)‏‏)‏‏.‏

ثمَّ مكث ساعة ثمَّ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏قد استمرت‏)‏‏)‏ والحديث بتمامه في دلائل النبُّوة للبيهقي، وكانت تلك السَّفينة قد أشرفت على الغرق وفيها الأشعريون الذين قدموا عليه - وهو بخيبر -‏.‏

ومن ذلك إخباره عن قبر أبي رغال حين مرَّ عليه وهو ذاهب إلى الطَّائف وأنَّ معه غصناً من ذهب، فحفروه فوجدوه كما أخبر- صلوات الله وسلامه عليه -‏.‏

رواه أبو داود من حديث أبي إسحاق عن إسماعيل بن أمية، عن بحر ابن أبي بحر، عن عبد الله بن عمرو به‏.‏

ومن ذلك قوله عليه السلام للأنصار لما خطبهم تلك الخطبة مسلياً لهم عمَّا كان وقع في نفوس بعضهم من الإيثار عليهم في القسمة لما تألَّف قلوب من تألَّف من سادات العرب ورؤوس قريش وغيرهم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أما ترضون أن يذهب النَّاس بالشَّاة والبعير وتذهبون برسول الله تحوزونه إلى رحالكم‏)‏‏)‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّكم ستجدون بعدي أثرة فاصبروا حتَّى تلقوني على الحوض‏)‏‏)‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّ النَّاس يكثرون وتقلّ الأنصار‏)‏‏)‏‏.‏

وقال لهم في الخطبة قبل هذه على الصَّفا‏:‏ ‏(‏‏(‏بل المحيا محياكم، والممات مماتكم‏)‏‏)‏‏.‏

وقد وقع جميع ذلك كما أخبر به سواء بسواء‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا يحيى بن بكير، ثنا اللَّيث عن يونس، عن ابن شهاب قال‏:‏ وأخبرني سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفس محمَّد بيده لتنفقنَّ كنوزهما في سبيل الله‏)‏‏)‏‏.‏

وقال البخاريّ‏:‏ ثنا قبيصة، ثنا سفيان عن عبد الملك بن عمير، عن جابر بن سمرة رفعه‏:‏ ‏(‏‏(‏إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده‏)‏‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لتنفقنَّ كنوزهما في سبيل الله‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه البخاريّ أيضاً ومسلم من حديث جرير، وزاد البخاريّ وابن عوانة، ثلاثتهم عن عبد الملك بن عمير به، وقد وقع مصداق ذلك بعده في أيام الخلفاء الثَّلاثة أبي بكر وعمر وعثمان، استوثقت هذه الممالك فتحاً على أيدي المسلمين، وأنفقت أموال قيصر ملك الرُّوم وكسرى ملك الفرس في سبيل الله على ما سنذكره بعد إن شاء الله‏.‏

وفي هذا الحديث بشارة عظيمة للمسلمين، وهي أنَّ ملك فارس قد انقطع فلا عودة له، وملك الرُّوم للشَّام قد زال عنها فلا يملوكها بعد ذلك، ولله الحمد والمنة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/209‏)‏

وفيه دلالة على صحَّة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، والشَّهادة لهم بالعدل حيث أنفقت الأموال المغنومة في زمانهم في سبيل الله على الوجه المرضي الممدوح‏.‏

وقال البخاريّ‏:‏ ثنا محمد بن الحكم، ثنا النضر، ثنا إسرائيل، ثنا سعد الطائي، أنَّا محل بن خليفة عن عدي بن حاتم قال‏:‏ بينا أنا عند النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم إذ أتاه رجل فشكى إليه الفاقة، ثمَّ أتاه آخر فشكى إليه قطع السَّبيل‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا عدي هل رأيت الحيرة‏؟‏‏)‏‏)‏

قلت‏:‏ لم أرها وقد أنبئت عنها‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فإن طالت بك حياة لترينَّ الظَّعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة ما تخاف أحداً إلا الله عزَّ وجل‏)‏‏)‏ - قلت فيما بيني وبين نفسي‏:‏ فأين دعار طيء الذين قد سعروا البلاد‏؟‏ - ‏(‏‏(‏ولئن طالت بك حياة لتفتحنَّ كنوز كسرى‏)‏‏)‏

قلت‏:‏ كسرى بن هرمز ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏كسرى بن هرمز، ولئن طالت بك حياة لترينَّ الرَّجل يخرج ملء كفّه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله منه فلا يجد أحداً يقبله منه، وليلقينَّ الله أحدكم يوم يلقاه وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له فيقولنَّ له‏:‏ ألم أبعث إليك رسولاً فيبلغك‏؟‏ فيقول‏:‏ بلى، فيقول‏:‏ ألم أعطك مالاً وولداً وأفضلت عليك‏؟‏ فيقول‏:‏ بلى، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنَّم، وينظر عن يسارة فلا يرى إلا جهنَّم‏)‏‏)‏‏.‏

قال عدي‏:‏ سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏إتَّقوا النَّار ولو بشقِّ تمرةٍ فإن لم تجد فبكلمة طيبة‏)‏‏)‏‏.‏

قال عديّ‏:‏ فرأيت الظَّعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة فلا تخاف إلا الله عزَّ وجل، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النَّبيّ أبو القاسم صلَّى الله عليه وسلَّم يخرج ملء كفه‏.‏

ثمَّ رواه البخاريّ عن عبيد الله بن محمد - هو أبو بكر ابن أبي شيبة - عن أبي عاصم النَّبيّل، عن سعدان بن بشر، عن أبي مجاهد - سعد الطَّائي -، عن محل عنه به‏.‏

وقد تفرَّد به البخاريّ من هذين الوجهين‏.‏

ورواه النَّسائيّ من حديث شعبة عن محل عنه‏:‏ ‏(‏‏(‏إتَّقوا النَّار ولو بشق تمرة‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه البخاري من حديث شعبة ومسلم من حديث زهير، كلاهما عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن مغفل، عن عديّ مرفوعاً‏:‏ ‏(‏‏(‏اتَّقوا النَّار ولو بشقِّ تمرة‏)‏‏)‏‏.‏

وكذلك أخرجاه في الصَّحيحين من حديث الأعمش عن خيثمة عن عبد الرَّحمن، عن عديّ‏.‏

وفيها من حديث شعبة عن عمرو بن مرة، عن خيثمة، عن عدي به‏.‏

وهذه كلَّها شواهد لأصل هذا الحديث الذي أوردناه، وقد تقدَّم في غزوة الخندق بفتح مدائن كسرى وقصوره وقصور الشَّام وغير ذلك من البلاد‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا محمد بن عبيد، ثنا إسماعيل عن قيس، عن خبَّاب قال‏:‏ أتينا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو في ظلِّ الكعبة متوسداً بردة له فقلنا‏:‏ يا رسول الله أدع الله لنا واستنصره‏.‏

قال‏:‏ فاحمر لونه أو تغيَّر فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لقد كان من قبلكم تحفر له الحفيرة ويجاء بالميشار فيوضع على رأسه فيشق ما يصرفه عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظم أو لحم أو عصب ما يصرفه عن دينه، وليتمنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الرَّاكب ما بين صنعاء إلى حضرموت ما يخشى إلا الله والذِّئب على غنمه، ولكنَّكم تعجلون‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/210‏)‏

وهكذا رواه البخاريّ عن مسدد ومحمد بن المثنى، عن يحيى بن سعيد، عن إسماعيل ابن أبي خالد به‏.‏

ثمَّ قال البخاريّ في كتاب ‏(‏علامات النبُّوة‏)‏‏:‏ حدَّثنا سعيد بن شرحبيل، ثنا ليث عن يزيد ابن أبي حبيب، عن أبي الحسين، عن عتبة، عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه خرج يوماً فصلَّى على أهل أحد صلاته على الميت ثمَّ انصرف إلى المنبر فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أنا فرطكم وأنا شهيد عليكم، إني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، وإني والله ما أخاف بعدي أن تشركوا، ولكنِّي أخاف أن تنافسوا فيها‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه البخاريّ أيضاً من حديث حيوة بن شريح، ومسلم من حديث يحيى بن أيوب، كلاهما عن يزيد ابن أبي حبيب كرواية اللَّيث عنه‏.‏

ففي هذا الحديث مما نحن بصدده أشياء‏:‏

منها أنَّه أخبر الحاضرين أنَّه فرطهم أي المتقدّم عليهم في الموت، وهكذا وقع فإنَّ هذا كان في مرض موته عليه السلام‏.‏

ثمَّ أخبر أنَّه شهيد عليهم، وإن تقدم وفاته عليهم‏.‏

وأخبر أنَّه أعطي مفاتيح خزائن الأرض، أي فتحت له البلادكما جاء في حديث أبي هريرة المتقدِّم قال أبو هريرة‏:‏ فذهب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأنتم تفتحونها كَفْراً كَفْراً، أي بلداً بلداً‏.‏

وأخبر أنَّ أصحابه لا يشركون بعده، وهكذا وقع ولله الحمد والمنة‏.‏

ولكن خاف عليهم أن ينافسوا في الدُّنيا، وقد وقع هذا في زمان علي ومعاوية رضي الله عنهما ثمَّ من بعدهما، وهلمَّ جرّاً إلى وقتنا هذا‏.‏

ثمَّ قال البخاري‏:‏ ثنا علي بن عبد الله، أنَّا أزهر بن سعد، أنَّا ابن عون، أنبأني موسى بن أنس بن مالك عن أنس أنَّ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم افتقد ثابت بن قيس‏.‏

فقال رجل‏:‏ يا رسول الله أعلم لك علمه‏.‏

فأتاه فوجده جالساً في بيته منكساً رأسه فقال‏:‏ ما شأنك ‏؟‏

فقال‏:‏ شر كان يرفع صوته فوق صوت النَّبيّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقد حبط عمله وهو من أهل النَّار‏.‏

فأتى الرَّجل فأخبره أنَّه قال‏:‏ كذا وكذا‏.‏

قال موسى‏:‏ فرجع المرة الآخرة ببشارة عظيمة فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إذهب إليه فقل له‏:‏ إنَّك لست من أهل النَّار، ولكن من أهل الجنَّة‏)‏‏)‏‏.‏

تفرَّد به البخاريّ، وقد قتل ثابت بن قيس بن شماس شهيداً يوم اليمامة، كما سيأتي تفصيله‏.‏

وهكذا ثبت في الحديث الصَّحيح البشارة لعبد الله بن سلام أنَّه يموت على الإسلام ويكون من أهل الجنَّة، وقد مات رضي الله عنه على أكمل أحواله وأجملها، وكان النَّاس يشهدون له بالجنَّة في حياته لأخبار الصَّادق عنه بأنَّه يموت على الإسلام، وكذلك وقع‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/211‏)‏

وقد ثبت في الصَّحيح الإخبار عن العشرة بأنهم من أهل الجنَّة، بل ثبت أيضاً الإخبار عنه - صلوات الله وسلامه عليه - بأنَّه لا يدخل النَّار أحد بايع تحت الشَّجرة، وكانوا ألفاً وأربعمائة، وقيل‏:‏ وخمسمائة، ولم ينقل أنَّ أحداً من هؤلاء رضي الله عنه عاش إلا حميداً، ولا مات إلا على السَّداد والاستقامة والتَّوفيق، ولله الحمد والمنة‏.‏

وهذا من أعلام النبُّوات ودلالات الرِّسالة‏.‏

فصل في الإخبار بغيوب ماضية ومستقبلة‏:‏

روى البيهقيّ من حديث إسرائيل عن سماك، عن جابر بن سمرة قال‏:‏ جاء رجل فقال‏:‏ يا رسول الله إنَّ فلاناً مات‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لم يمت‏)‏‏)‏‏.‏

فعاد الثَّانية فقال‏:‏ إنَّ فلاناً مات‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لم يمت‏)‏‏)‏‏.‏

فعاد الثَّالثة فقال‏:‏ إنَّ فلاناً نحر نفسه بمشقص عنده‏.‏

فلم يصلِّ عليه‏.‏

ثمَّ قال البيهقيّ‏:‏ تابعه زهير عن سماك‏.‏

ومن ذلك الوجه رواه مسلم مختصراً في الصَّلاة‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدَّثنا أسود بن عامر، ثنا هريم بن سفيان عن سنان بن بشر، عن قيس ابن أبي حازم، عن أبي شهم قال‏:‏ مرَّت بي جارية بالمدينة فأخذت بكشحها‏.‏

قال‏:‏ وأصبح الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم يبايع النَّاس‏.‏

قال‏:‏ فأتيته فلم يبايعني‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏صاحب الجبيذة‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ والله لا أعود‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فبايعني‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه النَّسائيّ عن محمد بن عبد الرَّحمن الحربي، عن أسود بن عامر به‏.‏

ثمَّ رواه أحمد عن سريج، عن يزيد بن عطاء، عن بيان بن بشر، عن قيس، عن أبي شهم فذكره‏.‏

وفي صحيح البخاريّ عن أبي نعيم، عن سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر قال‏:‏ كنَّا نتَّقي الكلام والانبساط إلى نسائنا في عهد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم خشية أن ينزل فينا شيء، فلمَّا توفي تكلمنا وانبسطنا‏.‏

وقال ابن وهب‏:‏ أخبرني عمرو بن الحرث، عن سعيد ابن أبي هلال، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد أنَّه قال‏:‏ والله لقد كان أحدنا يكفُّ عن الشَّيء مع امرأته وهو وإياها في ثوب واحد تخوفاً أن ينزل فيه شيء من القرآن‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/212‏)‏

وقال أبو داود‏:‏ ثنا محمَّد بن العلاء، ثنا ابن إدريس، ثنا عاصم بن كليب عن أبيه، عن رجل من الأنصار قال‏:‏ خرجنا مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في جنازة فرأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو على القبر يوصي الحافر أوسع من قبل رجليه أوسع من قبل رأسه، فلمَّا رجع استقبله داعي امرأة فجاء وجيء بالطَّعام فوضع يده فيه، ووضع القوم أيديهم فأكلوا فنظر آباؤنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يلوك لقمة في فيه ثمَّ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أجد لحم شاة أخذت بغير إذن أهلها‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فأرسلت المرأة‏:‏ يا رسول الله إني أرسلت إلى البقيع يشتري لي شاة فلم توجد فأرسلت إلى جار لي قد اشترى شاة أن أرسل بها إلي بثمنها فلم يوجد فأرسلت إلى امرأته فأرسلت إلي بها‏.‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏أطعميه الأسارى‏)‏‏)‏‏.‏

 فصل في ترتيب الأخبار بالغيوب المستقبلة بعده صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏

ثبت في صحيح البخاريّ ومسلم من حديث الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة بن اليمان قال‏:‏ قام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فينا مقاماً ما ترك فيه شيئاً إلى قيام السَّاعة إلا ذكره علمه من علمه وجهله من جهله، وقد كنت أرى الشَّيء قد كنت نسيته فأعرفه كما يعرف الرَّجل الرَّجل إذا غاب عنه فرآه فعرفه‏.‏

وقال البخاريّ‏:‏ ثنا يحيى بن موسى، حدَّثنا الوليد، حدَّثني ابن جابر، حدَّثني بُسْرُ بن عبيد الله الحضرميّ، حدَّثني أبو إدريس الخولانيّ أنَّه سمع حذيفة بن اليمان يقول‏:‏ كان النَّاس يسألون رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن الخير، وكنت أسأله عن الشَّر مخافة أن يدركني فقلت‏:‏ يا رسول الله إنَّا كنَّا في جاهلية وشر فجاء الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ وهل بعد ذلك الشَّر من خير ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم وفيه دخن‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ وما دخنه ‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏قوم يهدون بغير هديي يعرف منهم ينكر‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ فهل بعد ذلك الخير من شر ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم دعاة على أبواب جهنَّم من أجابهم إليها قذفوه فيها‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ يا رسول الله صفهم لنا ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏هم من جلدتنا ويكلمون بألسنتنا‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ فما تأمرني إن أدركني ذلك ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏تلزم جماعة المسلمين وإمامهم‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فاعتزل تلك الفرق كلَّها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه البخاريّ أيضاً ومسلم عن محمد بن المثنى، عن الوليد بن عبد الرَّحمن بن يزيد، عن جابر به‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/213‏)‏

قال البخاري‏:‏ ثنا محمد بن مثنى، ثنا يحيى بن سعيد عن إسماعيل، عن قيس، عن حذيفة قال‏:‏ تعلَّم أصحابي الخير وتعلَّمت الشَّر، تفرَّد به البخاريّ‏.‏

وفي صحيح مسلم من حديث شعبة عن عدي بن ثابت، عن عبد الله بن يزيد، عن حذيفة قال‏:‏ لقد حدَّثني رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بما يكون حتى تقوم السَّاعة غير أني لم أسأله ما يخرج أهل المدينة منها‏.‏

وفي صحيح مسلم من حديث علياء بن أحمر‏:‏ عن أبي يزيد عمرو بن أخطب قال‏:‏ أخبرنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بما كان وبما هو كائن إلى يوم القيامة، فأعلمنا أحفظنا‏.‏

وفي الحديث الآخر‏:‏ ‏(‏‏(‏حتى دخل أهل الجنَّة الجنَّة، وأهل النَّار النَّار‏)‏‏)‏‏.‏

وقد تقدَّم حديث خبَّاب بن الأرت‏:‏ ‏(‏‏(‏والله ليتمنَّ الله هذا الأمر ولكنَّكم تستعجلون‏)‏‏)‏‏.‏

وكذا حديث عدي بن حاتم في ذلك‏.‏

وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ‏}‏ ‏[‏التَّوبة‏:‏ 33‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏النُّور‏:‏ 55‏]‏‏.‏

وفي صحيح مسلم من حديث أبي نضرة‏:‏ عن أبي سعيد قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّ الدُّنيا حلوةٌ خضرة وإنَّ الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، فاتَّقوا الدُّنيا واتَّقوا النِّساء، فإنَّ أوَّل فتنة بني إسرائيل كانت في النِّساء‏)‏‏)‏‏.‏

وفي حديث آخر‏:‏ ‏(‏‏(‏ما تركت بعدي فتنة هي أضرّ على الرِّجال من النِّساء‏)‏‏)‏‏.‏

وفي الصَّحيحين من حديث الزهريّ‏:‏ عن عروة بن المسور، عن عمرو بن عوف فذكر قصَّة بعث أبي عبيدة إلى البحرين، قال‏:‏ وفيه قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏أبشروا وأملوا ما يسركم فو الله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تنبسط عليكم الدُّنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم‏)‏‏)‏‏.‏

وفي الصَّحيحين من حديث سفيان الثوري‏:‏ عن محمد بن المنكدر عن جابر قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏هل لكم من أنماط‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله وأنى يكون لنا أنماط ‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أما إنها ستكون لكم أنماط‏)‏‏)‏

قال‏:‏ فأنا أقول لامرأتي‏:‏ نحي عنيّ أنماطك، فتقول‏:‏ ألم يقل رسول الله أنها ستكون لكم أنماط فأتركها‏.‏

وفي الصَّحيحين والمسانيد والسُّنن وغيرها من حديث هشام بن عروة‏:‏ عن أبيه عن عبد الله بن الزبير، عن سفيان ابن أبي زهير قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏تفتح اليمن فيأتي قوم يبثون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون‏)‏‏)‏‏.‏

كذلك رواه‏:‏ عن هشام بن عروة جماعة كثيرون‏.‏

وقد أسنده الحافظ ابن عساكر من حديث مالك، وسفيان بن عيينة، وابن جريج، وأبو معاوية، ومالك بن سعد بن الحسن، وأبو ضمرة أنس بن عياض، وعبد العزيز ابن أبي حازم، وسلمة بن دينار، وجرير بن عبد الحميد‏.‏

ورواه أحمد‏:‏ عن يونس عن حماد بن زيد، عن هشام بن عروة وعبد الرزاق، عن ابن جريج، عن هشام‏.‏

ومن حديث مالك‏:‏ عن هشام به بنحوه‏.‏

ثم روى أحمد‏:‏ عن سليمان بن داود الهاشمي، عن إسماعيل بن جعفر، أخبرني يزيد بن خصيفة أنَّ بسر بن سعيد أخبره أنَّه سمع في مجلس المكيين يذكرون أنَّ سفيان أخبرهم فذكر قصَّة وفيها أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال له‏:‏ ‏(‏‏(‏ويوشك الشَّام أن يفتح فيأتيه رجال من هذا البلد - يعني‏:‏ المدينة - فيعجبهم ربعهم ورخاؤه، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، ثمَّ يفتح العراق فيأتي قوم يثبون فيحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون‏)‏‏)‏‏.‏

وأخرجه ابن خزيمة من طريق إسماعيل‏.‏

ورواه الحافظ ابن عساكر من حديث أبي ذر عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم بنحوه‏.‏

وكذا حديث ابن حوالة، ويشهد لذلك منعت الشَّام مدها ودينارها، ومنعت العراق درهمها وقفيزها، ومنعت مصر أردبها ودينارها، وعدتم من حيث بدأتم‏.‏

وهو في الصَّحيح، وكذا حديث المواقيت لأهل الشَّام واليمن وهو في الصَّحيحين‏.‏

وعند مسلم‏:‏ ميقات أهل العراق‏.‏

ويشهد لذلك أيضاً حديث‏:‏ ‏(‏‏(‏إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقنَّ كنوزهما في سبيل الله عزَّ وجل‏)‏‏)‏‏.‏

وفي صحيح البخاريّ من حديث أبي إدريس الخولانيّ‏:‏ عن عوف بن مالك أنَّه قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في غزوة تبوك‏:‏ ‏(‏‏(‏أعدد ستاً بين يدي السَّاعة‏)‏‏)‏ فذكر موته عليه السلام ثمَّ فتح بيت المقدس، ثمَّ موتان وهو الوباء، ثمَّ كثرة المال، ثمَّ فتنة، ثمَّ هدنة بين المسلمين والرُّوم، وسيأتي الحديث فيما بعد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/215‏)‏

وفي صحيح مسلم من حديث عبد الرَّحمن بن شماسة‏:‏ عن أبي زر قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّكم ستفتحون أرضاً يذكر فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيراً فإنَّ لهم ذمةً ورحماً فإذا رأيت رجلين يختصمان في موضع لبنة فاخرج منها‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فمرَّ بربيعة وعبد الرحمن بن شرحبيل بن حسنة يختصمان في موضع لبنة فخرج منها - يعني‏:‏ ديار مصر - على يدي عمرو بن العاص في سنة عشرين كما سيأتي‏.‏

وروى ابن وهب‏:‏ عن مالك واللَّيث عن الزهري، عن ابن لكعب بن مالك أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إذا افتتحتم مصر فاستوصوا بالقبط خيراً فإنَّ لهم ذمةً ورحماً‏)‏‏)‏ رواه البيهقيّ من حديث إسحق بن راشد‏:‏ عن الزهريّ عن عبد الرَّحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه‏.‏

وحكى أحمد بن حنبل‏:‏ عن سفيان بن عيينة أنَّه سئل عن قوله‏:‏ ‏(‏‏(‏ذمةً ورحماً‏)‏‏)‏ فقال‏:‏ من النَّاس من قال‏:‏ إنَّ أم إسماعيل هاجر كانت قبطية، ومن النَّاس من قال‏:‏ أم إبراهيم‏.‏

قلت‏:‏ الصَّحيح الذي لا شكَّ فيه أنهما قبطيتان كما قدَّمنا ذلك، ومعنى قوله‏:‏ ذمةً يعني بذلك‏:‏ هدية المقوقس إليه وقبوله ذلك منه، وذلك نوع ذمام ومهادنة والله تعالى أعلم‏.‏

وتقدَّم ما رواه البخاريّ من حديث محل بن خليفة‏:‏ عن عدي بن حاتم في فتح كنوز كسرى، وانتشار الأمن وفيضان المال حتى لا يتقبله أحد‏.‏

وفي الحديث أنَّ عدياً شهد الفتح ورأى الظَّعينة ترتحل من الحيرة إلى مكة لا تخاف إلا الله‏.‏

قال‏:‏ ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال أبو القاسم صلَّى الله عليه وسلَّم من كثرة المال حتى لا يقبله أحد‏.‏

قال البيهقيّ‏:‏ وقد كان ذلك في زمن عمر بن عبد العزيز‏.‏

قلت‏:‏ ويحتمل أن يكون ذلك متأخراً إلى زمن المهدي كما جاء في صفته، أو إلى زمن نزول عيسى بن مريم عليه السلام بعد قتله الدَّجال‏.‏

فإنَّه قد ورد في الصَّحيح أنَّه يقتل الخنزير ويكسر الصَّليب ويفيض المال حتى لا يقبله أحد والله تعالى أعلم‏.‏

وفي صحيح مسلم من حديث ابن أبي ذئب‏:‏ عن مهاجر بن مسمار عن عامر بن سعد، عن جابر بن سمرة قال‏:‏ سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يزال هذا الدِّين قائماً ما كان اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش، ثمَّ يخرج كذَّابون بين يدي السَّاعة وليفتحنَّ عصابة من المسلمين كنز القصر الأبيض قصر كسرى، وأنا فرطكم على الحوض‏)‏‏)‏ الحديث بمعناه‏.‏

وتقدَّم حديث عبد الرَّزاق‏:‏ عن معمر عن همام، عن أبي هريرة مرفوعاً ‏(‏‏(‏إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده والذي نفسي بيده لتنفقنَّ كنوزهما في سبيل الله عزَّ وجل‏)‏‏)‏ أخرجاه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/216‏)‏

وقال البيهقيّ‏:‏ المراد زوال ملك قيصر عن الشَّام ولا يبقى فيها ملكه على الرُّوم لقوله عليه السلام لمَّا عظم كتابه‏:‏ ‏(‏‏(‏ثبت ملكه‏)‏‏)‏‏.‏

وأما ملك فارس فزال بالكلية لقوله‏:‏ ‏(‏‏(‏مزَّق الله ملكه‏)‏‏)‏‏.‏

وقد روى أبو داود‏:‏ عن محمد بن عبيد عن حماد، عن يونس، عن الحسن أنَّ عمر بن الخطَّاب - وروينا في طريق أخرى عن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه لمَّا جيء بفروة كسرى وسيفه ومنطقته وتاجه وسواريه ألبس ذلك كلَّه لسراقة بن مالك بن جعشم وقال‏:‏ الحمد لله الذي ألبس ثياب كسرى لرجل أعرابي من البادية‏.‏

قال الشَّافعي‏:‏ إنما ألبسه ذلك لأنَّ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال لسراقة - ونظر إلى ذراعيه -‏:‏ ‏(‏‏(‏كأنِّي بك وقد لبست سواري كسرى‏)‏‏)‏ والله أعلم‏.‏

وقال سفيان بن عيينة‏:‏ عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس ابن أبي حازم، عن عدي بن حاتم قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏مثِّلت لي الحيرة كأنياب الكلاب وإنَّكم ستفتحونها‏)‏‏)‏‏.‏

فقام رجل فقال‏:‏ يا رسول الله هب لي ابنته نفيله‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏هي لك‏)‏‏)‏‏.‏

فأعطوه إيَّاها فجاء أبوها فقال‏:‏ أتبيعها ‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ فبكم‏؟‏ أحكم ما شئت ‏؟‏

قال‏:‏ ألف درهم‏.‏

قال‏:‏ قد أخذتها‏.‏

فقالوا له‏:‏ لو قلت ثلاثين ألفاً لأخذها‏.‏

فقال‏:‏ وهل عدد أكثر من ألف‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا عبد الرَّحمن بن مهدي، ثنا معاوية عن ضمرة بن حبيب أنَّ ابن زغب الأيادي حدَّثه قال‏:‏ نزل عليّ عبد الله بن حوالة الأزدي فقال لي‏:‏ بعثنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حول المدينة على أقدامنا لنغنم فرجعنا ولم نغنم شيئاً وعرف الجَّهد في وجوهنا، فقام فينا فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم لا تكلهم إليَّ فأضعف، ولا تكلهم إلى أنفسهم فيعجزوا عنها، ولا تكلهم إلى النَّاس فيستأثروا عليهم‏)‏‏)‏ ثمَّ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لتفتحنَّ لكم الشَّام والرُّوم وفارس، أو الرُّوم وفارس وحتى يكون لأحدكم من الإبل كذا وكذا، ومن البقر كذا وكذا، ومن الغنم كذا وكذا، وحتى يعطي أحدكم مائة دينار فيسخطها‏)‏‏)‏ ثمَّ وضع يده على رأسي أو على هامتي فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا ابن حوالة إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة فقد دنت الزَّلازل والبلابل والأمور العظام، والسَّاعة يومئذ أقرب إلى النَّاس من يدي هذه من رأسك‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه أبو داود من حديث معاوية بن صالح‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدَّثنا حيوة بن شريح ويزيد بن عبد ربه قالا‏:‏ ثنا بقية، حدَّثني بجير بن سعد عن خالد بن معدان، عن أبي قُتيلة، عن ابن حوالة أنَّه قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏سيصير الأمر إلى أن تكون جنود مجندة جند بالشَّام وجند باليمن وجند بالعراق‏)‏‏)‏‏.‏

فقال ابن حوالة‏:‏ خر لي يا رسول الله إن أدركت ذلك‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏عليك بالشَّام فإنَّه خيرة الله من أرضه يجيء إليه خيرته من عباده، فإن أبيتم فعليكم بيمنكم واسعوا من غُدُره، فإنَّ الله تكفل لي بالشَّام وأهله‏.‏

وهكذا رواه أبو داود‏:‏ عن حيوة بن شريح به‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/217‏)‏

وقد رواه أحمد أيضاً‏:‏ عن عصام بن خالد وعلي بن عياش كلاهما عن حريز بن عثمان، عن سليمان بن شمير، عن عبد الله بن حوالة فذكر نحوه‏.‏

ورواه الوليد بن مسلم الدِّمشقي‏:‏ عن سعيد بن عبد العزيز عن مكحول وربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس، عن عبد الله بن حوالة به‏.‏

وقال البيهقيّ‏:‏ أنَّا أبو الحسين بن الفضل القطَّان، أنَّا عبد الله بن جعفر، ثنا يعقوب بن سفيان، ثنا عبد الله بن يوسف، ثنا يحيى بن حمزة، حدَّثني أبو علقمة نصر بن علقمة يروي الحديث إلى جبير بن نفير قال‏:‏ قال عبد الله بن حوالة‏:‏ كنَّا عند رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فشكونا إليه العري والفقر وقلَّة الشَّيء، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أبشروا فوالله لأنا بكثرة الشَّيء أخوفني عليكم من قلَّته والله لا يزال هذا الأمر فيكم حتى يفتح الله عليكم أرض الشَّام‏)‏‏)‏ أو قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أرض فارس وأرض الرُّوم وأرض حمير، وحتى تكونوا أجناداً ثلاثة‏:‏ جند بالشَّام وجند بالعراق وجند باليمن، وحتى يعطي الرَّجل المائة فيسخطها‏)‏‏)‏‏.‏

قال ابن حوالة‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله ومن يستطيع الشَّام وبه الرُّوم ذوات القرون ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏والله ليفتحها الله عليكم وليستخلفنَّكم فيها حتى تطل العصابة البيض منهم قمصهم الملحمية أقباؤهم قياماً على الرويحل الأسود منكم المحلوق ما أمرهم من شيء فعلوه‏)‏‏)‏ وذكر الحديث‏.‏

قال أبو علقمة‏:‏ سمعت عبد الرَّحمن بن مهدي يقول‏:‏ فعرف أصحاب رسول الله نعت هذا الحديث في جزء بن سهيل السلميّ وكان على الأعاجم في ذلك الزمان، فكانوا إذا رجعوا إلى المسجد نظروا إليه وإليهم قياماً حوله فيعجبون لنعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فيه وفيهم‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدَّثنا حجاج، ثنا اللَّيث بن سعد، حدَّثني يزيد ابن أبي حبيب عن ربيعة بن لقيط النجيبيّ، عن عبد الله بن حوالة الأزديّ أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من نجا من ثلاث فقد نجا‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ ماذا يا رسول الله ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏موتي ومن قتال خليفة مصطبر بالحقّ يعطيه والدَّجال‏)‏‏)‏‏.‏

وقال أحمد‏:‏ ثنا إسماعيل بن إبراهيم، ثنا الجريري عن عبد الله بن شقيق، عن عبد الله بن حوالة قال‏:‏ أتيت على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو جالس في ظل دومة وهو عنده كاتب له يملي عليه فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ألا نكتبك يا ابن حوالة ‏؟‏

قلت‏:‏ فيم يا رسول الله ‏؟‏

فأعرض عني وأكبَّ على كاتبه يملي عليه ثمَّ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ألا نكتبك يا ابن حوالة‏؟‏‏)‏‏)‏

قلت‏:‏ لا أدري ما خار الله لي ورسوله ‏؟‏

فأعرض عني وأكبَّ على كاتبه يملي عليه ثمَّ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ألا نكتبك يا ابن حوالة‏؟‏‏)‏‏)‏

قلت‏:‏ لا أدري ما خار الله لي ورسوله ‏؟‏

فأعرض عني وأكبَّ على كاتبه يملي عليه، قال‏:‏ فنظرت فإذا في الكتاب عمر‏.‏

فقلت‏:‏ لا يكتب عمر إلا في خير‏.‏

ثمَّ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أنكتبك يا ابن حوالة‏؟‏‏)‏‏)‏

قلت‏:‏ نعم‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا ابن حوالة كيف تفعل في فتنة تخرج في أطراف الأرض كأنها صياصي نفر‏؟‏‏)‏‏)‏

قلت‏:‏ لا أدري ما خار الله لي ورسوله ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فكيف تفعل في أخرى تخرج بعدها كأنَّ الأولى منها انتفاجة أرنب‏؟‏‏)‏‏)‏

قلت‏:‏ لا أدري ما خار الله لي ورسوله‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ابتغوا هذا‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ورجل مقفي حينئذ، قال‏:‏ فانطلقت فسعيت وأخذت بمنكبه فأقبلت بوجهه إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقلت‏:‏ هذا ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فإذا هو عثمان ابن عفَّان رضي الله عنه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/218‏)‏

وثبت في صحيح مسلم من حديث يحيى بن آدم‏:‏ عن زهير بن معاوية عن سهل، عن أبيه، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏منعت العراق درهمها وقفيزها، ومنعت الشَّام مدَّها ودينارها، ومنعت مصر أردبها ودينارها، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم، شهد على ذلك لحم أبي هريرة ودمه‏)‏‏)‏‏.‏

وقال يحيى بن آدم وغيره من أهل العلم‏:‏ هذا من دلائل النبُّوة حيث أخبر عمَّا ضربه عمر على أرض العراق من الدراهم والقفزان، وعما ضرب من الخراج بالشَّام ومصر قبل وجود ذلك - صلوات الله وسلامه عليه -‏.‏

وقد اختلف النَّاس في معنى قوله عليه السلام‏:‏ منعت العراق الخ، فقيل‏:‏ معناه‏:‏ أنهم يسلمون فيسقط عنهم الخراج ورجَّحه البيهقيّ‏.‏

وقيل‏:‏ معناه‏:‏ أنهم يرجعون عن الطَّاعة ولا يؤدون الخراج المضروب عليهم، ولهذا قال‏:‏ ‏(‏‏(‏وعدتم من حيث بدأتم‏)‏‏)‏ أي رجعتم إلى ما كنتم عليه قبل ذلك‏.‏

كما ثبت في صحيح مسلم ‏(‏‏(‏إنَّ الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء‏)‏‏)‏‏.‏

ويؤيد هذا القول‏:‏ ما رواه الإمام أحمد حدَّثنا إسماعيل عن الجريري، عن أبي نصرة قال‏:‏ كنَّا عند جابر بن عبد الله فقال‏:‏ يوشك أهل العراق أن لا يجيء إليهم قفيز ولا درهم‏.‏

قلنا‏:‏ من أين ذلك ‏؟‏

قال‏:‏ من قبل العجم يمنعون ذلك، ثمَّ قال‏:‏ يوشك أهل الشَّام أن لا يجيء إليهم دينار ولا مدّ‏.‏

قلنا‏:‏ من أين ذلك ‏؟‏

قال‏:‏ من قبل الرُّوم يمنعون ذلك‏.‏

قال‏:‏ ثمَّ سكت هنيهة ثمَّ قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏يكون في آخر أمتي خليفة يحثي المال حثياً لا يعدّه عداً‏)‏‏)‏‏.‏

قال الجريري‏:‏ فقلت لأبي نضرة وأبي العلاء‏:‏ أتريانه عمر بن عبد العزيز ‏؟‏

فقالا‏:‏ لا‏.‏

وقد رواه مسلم من حديث إسماعيل بن إبراهيم بن علية وعبد الوهاب الثقفي كلاهما‏:‏ عن سعيد بن إياس الجريريّ عن أبي نضرة المنذر بن مالك بن قطفة العبديّ، عن جابر كما تقدَّم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/219‏)‏

والعجب أنَّ الحافظ أبا بكر البيهقيّ احتج به على ما رجَّحه من أحد القولين المتقدِّمين وفيما سلكه نظر والظَّاهر خلافه‏.‏

وثبت في الصَّحيحين من غير وجه أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقَّت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشَّام الجحفة، ولأهل اليمن يلملم، وفي صحيح مسلم عن جابر ولأهل العراق ذات عرق، فهذا من دلائل النُّبوة حيث أخبر عمَّا وقع من حج أهل الشَّام واليمن والعراق - صلوات الله وسلامه عليه -‏.‏

وفي الصَّحيحين من حديث سفيان بن عيينة‏:‏ عن عمرو بن دينار عن جابر، عن أبي سعيد قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏ليأتينَّ على النَّاس زمان يغزو فيه فئام من النَّاس فيقال لهم‏:‏ هل فيكم من صحب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -‏؟‏ فيقال‏:‏ نعم، فيفتح الله لهم ثمَّ يأتي على النَّاس زمان فيغزو فئام من النَّاس فيقال لهم‏:‏ هل فيكم من صحب أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏؟‏ فيقال‏:‏ نعم، فيفتح لهم، ثمَّ يأتي على النَّاس زمان يغزو فيه فئام من النَّاس فيقال‏:‏ هل فيكم من صحب من صاحبهم‏؟‏ فيقال‏:‏ نعم، فيفتح الله لهم‏)‏‏)‏‏.‏

وثبت في الصَّحيحين من حديث ثور بن زيد عن أبي الغيث، عن أبي هريرة قال‏:‏ كنَّا جلوساً عند رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأنزلت عليه سورة الجمعة ‏{‏وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 3‏]‏‏.‏

فقال رجل‏:‏ من هؤلاء يا رسول الله ‏؟‏

فوضع يده على سلمان الفارسي وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لو كان الإيمان عند الثُّريا لناله رجال من هؤلاء‏)‏‏)‏‏.‏

وهكذا وقع كما أخبر به عليه السلام‏.‏

وروى الحافظ البيهقيّ من حديث محمد ابن عبد الرَّحمن بن عوف عن عبد الله بن بشر قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏والذي نفسي بيده لتفتحنَّ عليكم فارس والرُّوم حتى يكثر الطُّعام فلا يذكر عليه اسم الله عزَّ وجل‏)‏‏)‏‏.‏

وروى الإمام أحمد والبيهقيّ وابن عدي وغير واحد من حديث أوس بن عبد الله بن بريدة‏:‏ عن أخيه سهل عن أبيه عبد الله بن بريدة بن الخصيب مرفوعاً ‏(‏‏(‏ستبعث بعوث فكن في بعث خراسان ثمَّ اسكن مدينة مرو فإنَّه بناها ذو القرنين ودعا لها بالبركة‏)‏‏)‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يصيب أهلها سوء‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا الحديث يعد من غرائب المسند ومنهم من يجعله موضوعاً فالله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/220‏)‏

وقد تقدَّم حديث أبي هريرة من جميع طرقه في قتال التُّرك وقد وقع ذلك كما أخبر به سواء بسواء‏.‏

وسيقع أيضاً وفي صحيح البخاري من حديث شعبة عن فراب القزاز، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلَّما هلك نبيّ خلفه نبيّ وإنَّه لا نبيَّ بعدي وإنَّه سيكون خلفاء فيكثرون‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ فما تأمرنا يا رسول الله ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فُوا ببيعة الأوَّل فالأوَّل، وأعطوهم حقَّهم فإنَّ الله سائلهم عمَّا استرعاهم‏)‏‏)‏‏.‏

وفي صحيح مسلم من حديث أبي رافع عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏ما كان نبيّ إلا كان له حواريُّون يهدون بهديه ويستنون بسنَّته ثمَّ يكون من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويعملون ما ينكرون‏)‏‏)‏‏.‏

وروى الحافظ البيهقيّ من حديث عبد الله بن الحرث بن محمد بن حاطب الجمحي عن إسماعيل ابن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏يكون بعد الأنبياء خلفاء يعملون بكتاب الله ويعدلون في عبادة الله، ثم يكون من بعد الخلفاء ملوك يأخذون بالثأر ويقتلون الرِّجال، ويصطفون الأموال، فمغير بيده ومغير بلسانه وليس وراء ذلك من الإيمان شيء‏)‏‏)‏‏.‏

وقال أبو داود الطَّيالسيّ‏:‏ ثنا جرير بن حازم عن ليث، عن عبد الرحمن بن سابط، عن أبي ثعلبة الخشنيّ، عن أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل، عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّ الله بدأ هذا الأمر نبُّوة ورحمة وكائناً خلافةً ورحمةً، وكائناً ملكاً عضوضاً وكائناً عزَّة وجبرية وفساداً في الأمَّة، يستحلُّون الفروج والخمور والحرير، ويُنصرون على ذلك، ويرزقون أبداً حتى يلقوا الله عزَّ وجل‏)‏‏)‏ وهذا كله واقع‏.‏

وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود والتّرمذيّ، وحسَّنه والنسائي من حديث سعيد بن جهمان عن سفينة مولى رسول الله أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً‏)‏‏)‏‏.‏

وفي رواية ‏(‏‏(‏ثمَّ يؤتى الله ملكه من يشاء‏)‏‏)‏‏.‏

وهكذا وقع سواء فإنَّ أبا بكر رضي الله عنه كانت خلافته سنتين وأربعة أشهر إلا عشر ليال، وكانت خلافة عمر عشر سنين وستة أشهر وأربعة أيام، وخلافة عثمان اثنتا عشرة سنة إلا اثنا عشر يوماً، وكانت خلافة علي ابن أبي طالب خمس سنين إلا شهرين‏.‏

قلت‏:‏ وتكميل الثَّلاثين بخلافة الحسن بن علي نحواً من ستة أشهر حتى نزل عنها لمعاوية عام أربعين من الهجرة كما سيأتي بيانه وتفصيله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/221‏)‏

وقال يعقوب بن سفيان‏:‏ حدَّثني محمد بن فضيل، ثنا مؤمل، ثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد، عن عبد الرَّحمن بن أبي بكرة قال‏:‏ سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏خلافة نبوة ثلاثون عاماً ثمَّ يؤتي الله ملكه من يشاء‏)‏‏)‏‏.‏

فقال معاوية‏:‏ رضينا بالملك‏.‏

وهذا الحديث فيه ردّ صريح على الرَّوافض المنكرين لخلافة الثَّلاثة، وعلى النَّواصب من بني أمية ومن تبعهم من أهل الشَّام في إنكار خلافة علي ابن أبي طالب‏.‏

فإن قيل‏:‏ فما وجه الجمع بين حديث سفينه هذا وبين حديث جابر بن سمرة المتقدّم في صحيح مسلم ‏(‏‏(‏لا يزال هذا الدِّين قائماً ما كان في النَّاس اثنا عشر خليفة كلَّهم من قريش‏)‏‏)‏ فالجواب إنَّ من النَّاس من قال‏:‏ إنَّ الدِّين لم يزل قائماً حتى ولي اثنا عشر خليفةً ثمَّ وقع تخبيط بعدهم في زمان بني أمية‏.‏

وقال آخرون‏:‏ بل هذا الحديث فيه بشارة بوجود اثني عشر خليفة عادلاً من قريش، وإن لم يوجدوا على الولاء وإنما اتفق وقوع الخلافة المتتابعة بعد النبوة في ثلاثين سنة ثمَّ كانت بعد ذلك خلفاء راشدون فيهم عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي رضي الله عنه وقد نص على خلافته وعدله وكونه من الخلفاء الرَّاشدين غير واحد من الأئمة حتى قال أحمد بن حنبل رضي الله عنه‏:‏ ليس قول أحد من التَّابعين حجة إلا قول عمر بن عبد العزيز‏.‏

ومنهم من ذكر من هؤلاء المهدي بأمر الله العباسي، والمهدي المبشر بوجوده في آخر الزَّمان، منهم أيضاً بالنص على كونه من أهل البيت واسمه محمد بن عبد الله وليس بالمنتظر في سرداب سامرا فإنَّ ذاك ليس بموجود بالكلِّية وإنما ينتظره الجهلة من الرَّوافض‏.‏

وقد تقدَّم في الصَّحيحين من حديث الزهري عن عروة، عن عائشة أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لقد هممت أن أدعو أباك وأخاك وأكتب كتاباً لئلا يقول قائل أو يتمنى متمن‏)‏‏)‏‏.‏

ثمَّ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر‏)‏‏)‏‏.‏

وهكذا وقع فإنَّ الله ولاه، وبايعه المؤمنون قاطبة كما تقدَّم‏.‏

وفي صحيح البخاريّ أنَّ امرأة قالت‏:‏ يا رسول الله أرأيت إن جئت فلم أجدك - كأنها تعرض بالموت - ‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن لم تجديني فأت أبا بكر‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/222‏)‏

وثبت في الصَّحيحين من حديث ابن عمر وأبي هريرة أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏بينا أنا نائم رأيتني على قليب فنزعت منها ما شاء الله ثمَّ أخذها ابن أبي قحافة فنزع منها ذنوباً أو ذنوبين وفي نزعه ضعف - والله يغفر له - ثمَّ أخذها ابن الخطَّاب فاستحالت غرباً فلم أر عبقرياً من النَّاس يفري فريه حتى ضرب النَّاس بطعن‏)‏‏)‏‏.‏

قال الشافعي رحمه الله‏:‏ رؤيا الأنبياء وحيّ، وقوله‏:‏ ‏(‏‏(‏وفي نزعه ضعف‏)‏‏)‏ قصر مدَّته وعجلة موته واشتغاله بحرب أهل الرِّدة عن الفتح الذي ناله عمر بن الخطَّاب في طول مدته‏.‏

قلت‏:‏ وهذا فيه البشارة بولايتهما على النَّاس فوقع كما أخبر سواء‏.‏

ولهذا جاء في الحديث الآخر الذي رواه أحمد والتّرمذيّ وابن ماجه وابن حبان من حديث ربعي بن خراش عن حذيفة بن اليمان، عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر‏)‏‏)‏ رضي الله عنهما‏.‏

وقال التّرمذيّ‏:‏ حسن وأخرجه من حديث ابن مسعود عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وتقدَّم من طريق الزُّهريّ عن رجل، عن أبي ذر حديث تسبيح الحصى في يد رسول الله ثمَّ يد أبي بكر ثمَّ عمر ثمَّ عثمان وقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏‏(‏هذه خلافة النبُّوة‏)‏‏)‏‏.‏

وفي الصَّحيح عن أبي موسى قال‏:‏ دخل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حائطاً فدلَّى رجليه في القفّ فقلت‏:‏ لأكوننَّ اليوم بواب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فجلست خلف الباب، فجاء رجل فقال‏:‏ إفتح‏.‏

فقلت‏:‏ من أنت ‏؟‏

قال‏:‏ أبو بكر، فأخبرت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إفتح له وبشِّره بالجنَّة‏)‏‏)‏‏.‏

ثمَّ جاء عمر، فقال كذلك، ثمَّ جاء عثمان‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إئذن له وبشِّره بالجنَّة على بلوى تصيبه‏)‏‏)‏ فدخل وهو يقول‏:‏ الله المستعان‏.‏

وثبت في صحيح البخاريّ من حديث سعيد ابن أبي عروبة عن قتادة، عن أنس قال‏:‏ صعد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أُحداً ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم الجبل فضربه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم برجله وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إثبت فإنما عليك نبيّ وصدِّيق وشهيدان‏)‏‏)‏‏.‏

وقال عبد الرَّزاق‏:‏ أنَّا معمر عن أبي حازم، عن سهل بن سعد أنَّ حراء ارتج وعليه النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأبو بكر وعمر وعثمان‏.‏

فقال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إثبت ما عليك إلا نبيّ وصدِّيق وشهيدان‏)‏‏)‏‏.‏

قال معمر‏:‏ قد سمعت قتادة عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم مثله‏.‏

وقد روى مسلم عن قتيبة، عن الدَّراورديّ، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان على حراء هو وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزُّبير فتحركت الصَّخرة‏.‏

فقال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إهدأ، فما عليك إلا نبيّ أو صديق أو شهيد‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا من دلائل النبُّوة فإنَّ هؤلاء كلَّهم أصابوا الشَّهادة، واختص رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بأعلى مراتب الرِّسالة والنبُّوة، واختص أبو بكر بأعلى مقامات الصدِّيقية‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/223‏)‏

وقد ثبت في الصَّحيح الشَّهادة للعشرة بالجنَّة، بل لجميع من شهد بيعة الرّضوان عام الحديبية وكانوا ألفاً وأربعمائة، وقيل‏:‏ وثلاثمائة، وقيل‏:‏ خمسمائة، وكلَّهم استمر على السَّداد والاستقامة حتى مات - رضي الله عنهم أجمعين -‏.‏

وثبت في صحيح البخاريّ البشارة لعكاشة بأنَّه من أهل الجنَّة فقتل شهيداً يوم اليمامة‏.‏

وفي الصَّحيحين من حديث يونس عن الزهريّ، عن سعيد، عن أبي هريرة أنَّه سمع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏يدخل الجنَّة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر‏)‏‏)‏ فقام عكاشة ابن محصن الأسديّ يجر نمرة عليه فقال‏:‏ يا رسول الله أدع الله أن يجعلني منهم‏.‏

فقال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم اجعله منهم‏)‏‏)‏‏.‏

ثمَّ قام رجل من الأنصار فقال‏:‏ يا رسول الله أدع الله أن يجعلني منهم‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏سبقك بها عكاشة‏)‏‏)‏ وهذا الحديث قد روي من طرق متعددة تفيد القطع وسنورده في باب صفة الجنَّة، وسنذكر في قتال أهل الرِّدة أنَّ طلحة الأسدي قتل عكاشة بن محصن شهيداً رضي الله عنه ثمَّ رجع طلحة الأسدي عما كان يدعيه من النبوة وتاب إلى الله وقدم على أبي بكر الصِّديق واعتمر وحسن إسلامه‏.‏

وثبت في الصَّحيحين من حديث أبي هريرة أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏بينا أنا نائم رأيت كأنَّه وضع في يدي سواران فقطعتهما، فأوحي إليَّ في المنام أن انفخهما فنفختهما فطارا فأوَّلتهما كذَّابين يخرجان صاحب صنعاء، وصاحب اليمامة‏)‏‏)‏‏.‏

وقد تقدَّم في الوفود أنَّه قال لمسيلمة حين قدم مع قومه وجعل يقول‏:‏ إن جعل لي محمَّد الأمر من بعده اتبعته‏.‏

فوقف عليه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقال له‏:‏ ‏(‏‏(‏والله لو سألتني هذا العسيب ما أعطيتكه ولئن أدبرت ليعقرنك الله، وإني لأراك الذي أريت فيه ما أريت‏)‏‏)‏‏.‏

وهكذا وقع عقره الله وأهانه وكسره وغلبه يوم اليمامة‏.‏

كما قتل الأسود العنسي بصنعاء على ما سنورده إن شاء الله تعالى‏.‏

وروى البيهقيّ من حديث مبارك بن فضالة عن الحسن، عن أنس قال‏:‏ لقي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مسيلمة فقال له مسيلمة‏:‏ أتشهد أني رسول الله ‏؟‏

فقال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏آمنت بالله وبرسله‏)‏‏)‏ ثمَّ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّ هذا الرَّجل أُخِّر لهلكة قومه‏)‏‏)‏‏.‏

وقد ثبت في الحديث الآخر أنَّ مسيلمة كتب بعد ذلك إلى النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، من مسيلمة رسول الله إلى محمَّد رسول الله سلام عليك أمَّا بعد فإني قد أشركت في الأمر بعدك، فلك المدر ولي الوبر، ولكنَّ قريشاً قومٌ يعتدون‏.‏

فكتب إليه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذَّاب سلام على من اتَّبع الهدى أمَّا بعد فإنَّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتَّقين، وقد جعل الله العاقبة لمحمَّد وأصحابه لأنهم هم المتَّقون، وهم العادلون المؤمنون لا من عداهم‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/224‏)‏

وقد وردت الأحاديث المروية من طرق عنه صلَّى الله عليه وسلَّم في الإخبار عن الرِّدة التي وقعت في زمن الصِّديق، فقاتلهم الصِّديق بالجنود المحمَّدية حتى رجعوا إلى دين الله أفواجاً، وعذب ماء الإيمان كما كان بعد ما صار أجاجاً، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أيُّها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبُّهم ويحبُّونه أذلَّة على المؤمنين أعزَّة على الكافرين‏)‏‏)‏ الآية‏.‏

قال المفسِّرون‏:‏ هم أبو بكر وأصحابه - رضي الله عنهم -‏.‏

وثبت في الصَّحيحين من حديث عامر الشِّعبيّ عن مسروق، عن عائشة في قصَّة مسارَّة النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ابنته فاطمة وإخباره إيَّاها بأنَّ جبريل كان يعارضه بالقرآن في كل عام مرة، وأنَّه عارضني العام مرتين، وما أرى ذلك إلا لاقتراب أجلي فبكت، ثمَّ سارَّها فأخبرها بأنها سيدة نساء أهل الجنَّة، وأنها أوَّل أهله لحوقاً به‏.‏

وكان كما أخبر‏.‏

قال البيهقيّ‏:‏ واختلفوا في مكث فاطمة بعد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقيل‏:‏ شهران، وقيل‏:‏ ثلاثة، وقيل‏:‏ ستة، وقيل‏:‏ ثمانية‏.‏

قال‏:‏ وأصحّ الرِّوايات، رواية الزهريّ عن عروة، عن عائشة قالت‏:‏ مكثت فاطمة بعد وفاة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ستة أشهر، أخرجاه في الصَّحيحين‏.‏