فصل: محمد بن أبي الحسين بن محمد بن عثمان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 ثم دخلت سنة سبع عشرة وثلاثمائة

فيها‏:‏ كان خلع المقتدر وتولية القاهر محمد بن المعتضد بالله‏:‏ في المحرم منها اشتدت الوحشة بين مؤنس الخادم والمقتدر بالله، وتفاقم الحال وآل إلى أن اجتمعوا على خلع المقتدر وتولية القاهر محمد بن المعتضد، فبايعوه بالخلافة وسلموا عليه بها، ولقبوه القاهر بالله‏.‏

وذلك ليلة السبت النصف من المحرم، وقلد علي بن مقلة وزارته، ونهبت دار المقتدر، وأخذوا منها شيئاً كثيراً جداً، ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 181‏)‏ وأخذوا لأم المقتدر خمسمائة ألف دينار - وكانت قد دفنتها في قبر في تربتها - فحملت إلى بيت المال، وأخرج المقتدر وأمه وخالته وخواصه وجواريه من دار الخلافة، وذلك بعد محاصرة دار الخلافة، وهرب من كان بها من الحجبة والخدم‏.‏

وولى نازوك الحجوبة مضافاً إلى ما بيده من الشرطة، وألزم المقتدر بأن كتب على نفسه كتاباً بالخلع من الخلافة، وأشهد على نفسه بذلك جماعة من الأمراء والأعيان، وسلم الكتاب إلى القاضي أبي عمر محمد بن يوسف، فقال لولده الحسين‏:‏ احتفظ بهذا الكتاب فلا يرينه أحد من خلق الله‏.‏

ولما أعيد المقتدر إلى الخلافة بعد يومين رده إليه، فشكره على ذلك جداً وولاه قضاء القضاة‏.‏

فلما كان يوم الأحد السادس عشر من المحرم جلس القاهر بالله في منصب الخلافة، وجلس بين يديه الوزير أبو علي بن مقلة، وكتب إلى العمال بالآفاق يخبرهم بولاية القاهر بالخلافة عوضاً عن المقتدر، وأطلق علي بن عيسى من السجن، وزاد في أقطاع جماعة من الأمراء الذين قاموا بنصره، منهم أبو الهيجاء بن حمدان‏.‏

فلما كان يوم الاثنين جاء الجند وطلبوا أرزاقهم وشغبوا، وبادروا إلى نازوك فقتلوه، وكان مخموراً، ثم صلبوه‏.‏

وهرب الوزير ابن مقلة، وهرب الحجاب ونادوا‏:‏ يا مقتدر يا منصور، ولم يكن مؤنس يومئذ حاضراً، وجاء الجند إلى باب مؤنس يطالبونه بالمقتدر، فأغلق بابه دونهم وجاحف دونه خدمه‏.‏

فلما رأى مؤنس أنه لا بد من تسليم المقتدر إليهم أمره بالخروج، فخاف المقتدر أن يكون حيلة عليه، ثم تجاسر فخرج فحمله الرجال على أعناقهم حتى أدخلوه دار الخلافة، فسأل عن أخيه القاهر وأبي الهيجاء بن حمدان ليكتب لهما أماناً، فما كان عن قريب حتى جاءه خادم ومعه رأس أبي الهيجاء قد احترز رأسه وأخرجه من بين كتفيه، ثم استدعى بأخيه القاهر فأجلسه بين يديه واستدعاه إليه، وقبل بين عينيه، وقال‏:‏ يا أخي أنت لا ذنب لك، وقد علمت أنك مكره مقهور، والقاهر يقول‏:‏ الله الله، نفسي يا أمير المؤمنين‏.‏

فقال‏:‏ وحق رسول الله صلى الله عليه وسلم لا جرى عليك مني سوء أبداً‏.‏

وعاد ابن مقلة فكتب إلى الآفاق يعلمهم بعود المقتدر إلى الخلافة، وتراجعت الأمور إلى حالها الأول، وحمل رأس نازوك وأبي الهيجاء ونودي عليهما‏:‏ هذا رأس من عصى مولاه‏.‏

وهرب أبو السرايا بن حمدان إلى الموصل، وكان ابن نفيس من أشد الناس على المقتدر، فلما عاد إلى الخلافة خرج من بغداد متنكراً فدخل الموصل، ثم صار إلى إرمينية، ثم لحق بالقسطنطينية فتنصر بها مع أهلها، وأما مؤنس فإنه لم يكن في الباطن على المقتدر، وإنما وافق جماعة الأمراء مكرهاً، ولهذا لما كان المقتدر في داره لم ينله منه ضيم، بل كان يطيب قلبه، ولو شاء لقتله لمّا طُلب من داره‏.‏

فلهذا لما عاد المقتدر إلى الخلافة رجع إلى دار مؤنس فبات بها عنده، لثقته به‏.‏

وقرر أبا علي بن مقلة على الوزارة، وولى محمد بن يوسف قضاء القضاة، وجعل محمداً أخاه - وهو القاهر - عند والدته بصفة محبوس عندها، فكانت تحسن إليه غاية الإحسان، وتشتري له السراري وتكرمه غاية الإكرام‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 182‏)‏

ذكر أخذ القرامطة الحجر الأسود إلى بلادهم

فيها‏:‏ خرج ركب العراق وأميرهم منصور الديلمي فوصلوا إلى مكة سالمين، وتوافت الركوب هناك من كل مكان وجانب وفج، فما شعروا إلا بالقرمطي قد خرج عليهم في جماعته يوم التروية، فانتهب أموالهم واستباح قتالهم، فقتل في رحاب مكة وشعابها وفي المسجد الحرام وفي جوف الكعبة من الحجاج خلقاً كثيراً، وجلس أميرهم أبو طاهر لعنه الله على باب الكعبة، والرجال تصرع حوله، والسيوف تعمل في الناس في المسجد الحرام في الشهر الحرام في يوم التروية، الذي هو من أشرف الأيام، وهو يقول‏:‏ أنا الله وبالله أنا، أنا أخلق الخلق وأفنيهم أنا‏.‏

فكان الناس يفرون منهم فيتعلقون بأستار الكعبة فلا يجدي ذلك عنهم شيئاً، بل يقتلون وهم كذلك، ويطوفون فيقتلون في الطواف، وقد كان بعض أهل الحديث يومئذ يطوف، فلما قضى طوافه أخذته السيوف، فلما وجب أنشد وهو كذلك‏:‏

ترى المحبين صرعى في ديارهم * كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا

فلما قضى القرمطي لعنه الله أمره وفعل ما فعل بالحجيج من الأفاعيل القبيحة، أمر أن تدفن القتلى في بئر زمزم، ودفن كثيراً منهم في أماكنهم من الحرم، وفي المسجد الحرام، ويا حبذا تلك القتلة وتلك الضجعة، وذلك المدفن والمكان، ومع هذا لم يغسلوا ولم يكفنوا ولم يصلِّ عليهم لأنهم محرمون شهداء في نفس الأمر‏.‏

وهدم قبة زمزم وأمر بقلع باب الكعبة ونزع كسوتها عنها، وشققها بين أصحابه، وأمر رجلاً أن يصعد إلى ميزاب الكعبة فيقتلعه، فسقط على أم رأسه فمات إلى النار‏.‏

فعند ذلك انكف الخبيث عن الميزاب، ثم أمر بأن يقلع الحجر الأسود، فجاءه رجل فضربه بمثقل في يده وقال‏:‏ أين الطير الأبابيل‏؟‏ أين الحجارة من سجيل‏؟‏

ثم قلع الحجر الأسود وأخذوه حين راحوا معهم إلى بلادهم، فمكث عندهم ثنتين وعشرين سنة حتى ردوه، كما سنذكره في سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

ولما رجع القرمطي إلى بلاده ومعه الحجر الأسود وتبعه أمير مكة هو وأهل بيته وجنده، وسأله وتشفع إليه أن يرد الحجر الأسود ليوضع في مكانه، وبذل له جميع ما عنده من الأموال فلم يلتفت إليه، فقاتله أمير مكة فقتله القرمطي وقتل أكثر أهل بيته وأهل مكة وجنده، واستمر ذاهباً إلى بلاده ومعه الحجر وأموال الحجيج‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 183‏)‏

وقد ألحد هذا اللعين في المسجد الحرام إلحاداً لم يسبقه إليه أحد ولا يلحقه فيه، وسيجاريه على ذلك الذي لا يعذب عذابه أحد، ولا يوثق وثاقه أحد‏.‏

وإنما حمل هؤلاء على هذا الصنيع أنهم كفار زنادقة، وقد كانوا ممالئين للفاطميين الذين نبغوا في هذه السنة ببلاد إفريقية من أرض المغرب، ويلقب أميرهم بالمهدي، وهو أبو محمد عبيد الله بن ميمون القداح، وقد كان صباغاً بسلمية، وكان يهودياً فادعى أنه أسلم ثم سافر من سلمية فدخل بلاد إفريقية، فادّعى أنه شريف فاطمي، فصدقه على ذلك طائفة كثيرة من البربر وغيرهم من الجهلة، وصارت له دولة، فملك مدنية سجلماسة، ثم ابتنى مدينة وسماها المهدية، وكان قرار ملكه بها، وكان هؤلاء القرامطة يراسلونه ويدعون إليه، ويترامون عليه‏.‏

ويقال‏:‏ إنهم إنما كانوا يفعلون ذلك سياسة ودولة لا حقيقة له‏.‏

وذكر ابن الأثير‏:‏ أن المهدي هذا كتب إلى أبي طاهر يلومه على ما فعل بمكة حيث سلط الناس على الكلام فيهم، وانكشفت أسرارهم التي كانوا يبطنونها بما ظهر من صنيعهم هذا القبيح، وأمره برد ما أخذه منها، وعوده إليها‏.‏

فكتب إليه بالسمع والطاعة، وأنه قد قبل ما أشار إليه من ذلك‏.‏

وقد أسر بعض أهل الحديث في أيدي القرامطة، فمكث في أيديهم مدة، ثم فرج الله عنه، وكان يحكي عنهم عجائب من قلة عقولهم وعدم دينهم، وأن الذي أسره كان يستخدمه في أشق الخدمة وأشدها، وكان يعربد عليه إذا سكر‏.‏

فقال لي ذات ليلة وهو سكران‏:‏ ما تقول في محمدكم‏؟‏

فقلت‏:‏ لا أدري‏.‏

فقال‏:‏ كان سائساً‏.‏

ثم قال‏:‏ ما تقول في أبي بكر‏؟‏

فقلت‏:‏ لا أدري‏.‏

فقال‏:‏ كان ضعيفاً مهيناً، وكان عمر فظاً غليظاً، وكان عثمان جاهلاً أحمق، وكان علي ممخرقاً ليس كان عنده أحد يعلمه ما ادعى أنه في صدره من العلم، أما كان يمكنه أن يعلم هذا كلمة وهذا كلمة‏؟‏‏.‏

ثم قال‏:‏ هذا كله مخرقة‏.‏

فلما كان من الغد قال‏:‏ لا تخبر بهذا الذي قلت لك أحداً‏.‏

ذكره ابن الجوزي في ‏(‏منتظمه‏)‏‏.‏

وروى عن بعضهم أنه قال‏:‏ كنت في المسجد الحرام يوم التروية في مكان الطواف، فحمل على رجل كان إلى جانبي فقتله القرمطي، ثم قال‏:‏ يا حمير - ورفع صوته بذلك - أليس قلتم في بيتكم هذا‏:‏ ‏{‏وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنَاً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 97‏]‏‏.‏

فأين الأمن‏؟‏

قال‏:‏ فقلت له‏:‏ اسمع جوابك‏.‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قلت‏:‏ إنما أراد الله‏:‏ فأمنوه‏.‏

قال‏:‏ فثنى رأس فرسه وانصرف‏.‏

وقد سأل بعضهم ههنا سؤالاً‏.‏

فقال‏:‏ قد أحلَّ الله سبحانه بأصحاب الفيل - وكانوا نصارى - ما ذكره في كتابه، ولم يفعلوا بمكة شيئاً مما فعله هؤلاء، ومعلوم أن القرامطة شرّ من اليهود والنصارى والمجوس، بل ومن عبدة الأصنام، وأنهم فعلوا بمكة ما لم يفعله أحد، فهلاّ عوجلوا بالعذاب والعقوبة، كما عوجل أصحاب الفيل‏؟‏

وقد أجيب عن ذلك‏:‏ بأن أصحاب الفيل إنما عوقبوا إظهاراً لشرف البيت، ولمّا يراد به من التشريف العظيم بإرسال النبي الكريم، من البلد الذي فيه البيت الحرام، فلما أرادوا إهانة هذه البقعة التي يراد تشريفها وإرسال الرسول منها أهلكهم سريعاً عاجلاً، ولم يكن شرائع مقررة تدل على فضله، فلو دخلوه وأخربوه لأنكرت القلوب فضله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 184‏)‏

وأما هؤلاء القرامطة فإنما فعلوا ما فعلوا بعد تقرير الشرائع وتمهيد القواعد، والعلم بالضرورة من دين الله بشرف مكة والكعبة، وكل مؤمن يعلم أن هؤلاء قد ألحدوا في الحرم إلحاداً بالغاً عظيماً، وأنهم من أعظم الملحدين الكافرين، بما تبين من كتاب الله وسنة رسوله، فلهذا لم يحتج الحال إلى معالجتهم بالعقوبة، بل أخرهم الرب تعالى ليوم تشخص فيه الأبصار، والله سبحانه يمهل ويملي ويستدرج ثم يأخذ أخذ عزيز مقتدر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏{‏إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته‏}‏، ثم قرأ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 42‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 196-197‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 24‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 70‏]‏

وفيها‏:‏ وقعت فتنة ببغداد بين أصحاب أبي بكر المروذي الحنبلي، وبين طائفة من العامة اختلفوا في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 79‏]‏‏.‏

فقالت الحنابلة‏:‏ يجلسه معه على العرش‏.‏

وقال الآخرون‏:‏ المراد بذلك الشفاعة العظمى‏.‏

فاقتتلوا بسبب ذلك وقتل بينهم قتلى، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وقد ثبت في صحيح البخاري أن المراد بذلك‏:‏ مقام الشفاعة العظمى، وهي الشفاعة في فصل القضاء بين العباد، وهو المقام الذي يرغب إليه فيه الخلق كلهم، حتى إبراهيم، ويغبطه به الأولون والآخرون‏.‏

وفيها‏:‏ وقعت فتنة بالموصل بين العامة فيما يتعلق بأمر المعاش، وانتشرت وكثر أهل الشر فيها واستظهروا، وجرت بينهم شرور ثم سكنت‏.‏

وفيها‏:‏ وقعت فتنة ببلاد خراسان بين بني ساسان وأميرهم نصر بن أحمد الملقب بسعيد، وخرج في شعبان خارجيّ بالموصل، وخرج آخر بالبوازيج، فقاتلهم أهل تلك الناحية حتى سكن شرهم وتفرق أصحابهم‏.‏

وفيها‏:‏ التقى مفلح الساجي وملك الروم الدمستق، فهزمه مفلح وطرد وراءه إلى أرض الروم، وقتل منهم خلقاً كثيراً‏.‏

وفيها‏:‏ هبت ريح شديدة ببغداد تحمل رماداً أحمر يشبه رمل أرض الحجاز، فامتلأت منه البيوت‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

أحمد بن الحسن بن الفرج بن سفيان أبو بكر النحوي، كان عالماً بمذهب الكوفيين وله فيه تصانيف‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 185‏)‏

 أحمد بن مهدي بن رستم

العابد الزاهد، أنفق في طلب العلم ثلاثمائة ألف درهم، ومكث أربعين سنة لا يأوي إلى فراش‏.‏

وقد روى الحافظ أبو نعيم عنه‏:‏ أنه جاءته امرأة ذات ليلة فقالت له‏:‏ إني قد امتحنت بمحنة وأكرهت على الزنا وأنا حبلى منه، وقد تسترت بك وزعمت أنك زوجي، وأنَّ هذا الحمل منك فاسترني سترك الله ولا تفضحني‏.‏

فسكت عنها، فلما وضعت جاءني أهل المحلة وإمام مسجدهم يهنئونني بالولد، فأظهرت البشر وبعثت فاشتريت بدينارين شيئاً حلواً وأطعمتهم، وكنت أوجه إليها مع إمام المسجد في كل شهر دينارين صفة نفقة للمولود، وأقول‏:‏ أقرئها مني السلام، فإنه قد سبق مني ما فرق بيني وبينها‏.‏

فمكثت كذلك سنتين، ثم مات الولد فجاؤوني يعزونني فيه، فأظهرت الحزن عليه، ثم جاءتني أمه بالدنانير التي كنت أرسل بها إليها نفقة الولد، قد جمعتها في صرة عندها، فقالت لي‏:‏ سترك الله وجزاك خيراً، وهذه الدنانير التي كنت ترسل بها‏.‏

فقلت‏:‏ إني كنت أرسل بها صلة للولد وقد مات وأنت ترثينه فهي لك، فافعلي بها ما شئت، فدعت وانصرفت‏.‏

 بدر بن الهيثم

ابن خلف بن خالد بن راشد بن الضحاك بن النعمان بن محرق بن النعمان بن المنذر، أبو القاسم البلخي القاضي الكوفي‏.‏

نزل بغداد وحدّث بها عن أبي كريب وغيره، وكان سماعه للحديث بعد ما جاوز أربعين سنة، وكان ثقة نبيلاً، عاش مائة سنة وسبع عشرة سنة‏.‏

توفي في شوال منها بالكوفة‏.‏

 عبد الله بن محمد بن عبد العزيز

ابن المرزبان بن سابور بن شاهنشاه أبو القاسم البغوي، ويعرف بابن بنت منيع، ولد سنة ثلاثة عشرة، وقيل‏:‏ أربعة عشرة ومائتين، ورأى أبا عبيد القاسم بن سلام ولم يسمع منه، وسمع من أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، وعلي بن الجعد، وخلف بن هشام بن البزار، وخلق كثير، وكان معه جزء فيه سماعه من ابن معين فأخذه موسى بن هارون الحافظ فرماه في دجلة، وقال‏:‏ يريد أن يجمع بين الثلاثة‏؟‏

وقد تفرد عن سبع وثمانين شيخاً، وكان ثقة حافظاً ضابطاً، روى عن الحفاظ وله مصنفات‏.‏

وقال موسى بن هارون الحافظ‏:‏ كان ابن بنت منيع ثقة صدوقاً، فقيل له‏:‏ إن ههنا ناساً يتكلمون فيه‏.‏

فقال‏:‏ يحسدونه، ابن بنت منيع لا يقول إلا الحق‏.‏

وقال ابن أبي حاتم وغيره‏:‏ أحاديثه تدخل في الصحيح‏.‏

وقال الدارقطني‏:‏ كان البغوي قل ما يتكلم على الحديث، فإذا تكلم كان كلامه كالمسمار في الساج‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 186‏)‏

وقد ذكره ابن عدي في ‏(‏كامله‏)‏ فتكلم فيه، وقال‏:‏ حدث بأشياء أنكرت عليه‏.‏

وكان معه طرف من معرفة الحديث والتصانيف‏.‏

وقد انتدب ابن الجوزي للرد على ابن عدي في هذا الكلام، وذكر أنه توفي ليلة عيد الفطر منها، وقد استكمل مائة سنة وثلاث سنين وشهوراً، وهو مع ذلك صحيح السمع والبصر والأسنان، يطأ الإماء‏.‏

توفي ببغداد ودفن بمقبرة باب التبن، رحمه الله وأكرم مثواه‏.‏

 محمد بن أبي الحسين بن محمد بن عثمان

الشهيد الحافظ أبو الفضل الهروي، يعرف بابن أبي سعد، قدم بغداد وحدّث بها عن محمد بن عبد الله الأنصاري‏.‏

وحدّث عنه ابن المظفر الحافظ، وكان من الثقات الأثبات الحفاظ المتقنين، له مناقشات على بضعة عشر حديثاً من صحيح مسلم‏.‏

قتلته القرامطة يوم التروية بمكة في هذه السنة في جملة من قتلوا، رحمه الله وأكرم مثواه‏.‏

 الكعبي المتكلم

هو أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود البلخي الكعبي المتكلم، نسبة إلى بني كعب، وهو أحد مشايخ المعتزلة، وتنسب إليه الطائفة الكعبية منهم‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ كان من كبار المتكلمين، وله اختيارات في علم الكلام‏.‏

من ذلك‏:‏ أنه كان يزعم أن أفعال الله تقع بلا اختيار منه ولا مشيئة‏.‏

قلت‏:‏ وقد خالف الكعبي نص القرآن في غير ما موضع‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 68‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 112‏]‏‏.‏

{‏وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 13‏]‏‏.‏

{‏وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا‏}‏ الآية ‏[‏الإسراء‏:‏ 16‏]‏‏.‏

وغيرها مما هو معلوم بالضرورة وصريح العقل والنقل‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان عشرة وثلاثمائة

فيها‏:‏ عزل الخليفة المقتدر وزيره أبا علي بن مقلة، وكانت مدة وزارته سنتين وأربعة أشهر وثلاثة أيام، واستوزر مكانه سليمان بن الحسن بن مخلد، وجعل علي بن عيسى ناظراً معه‏.‏

وفي جمادى الأولى منها أحرقت دار أبي علي بن مقلة، وكان قد أنفق عليها مائة ألف دينار، فانتهب الناس أخشابها وما وجدوا فيها من حديد ورصاص وغيره، وصادره الخليفة بمائتي ألف دينار‏.‏

وفيها‏:‏ طرد الخليفة الرجالة الذين كانوا بدار الخلافة عن بغداد، وذلك أنه لما ردَّ المقتدر إلى الخلافة شرعوا ينفسون بكلام كثير عليه، ويقولون‏:‏ من أعان ظالماً سلطه الله عليه، ومن أصعد الحمار على السطح لم يقدر أن ينزله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 187‏)‏

فأمر بإخراجهم ونفيهم عن بغداد، ومن أقام منهم عوقب‏.‏

فأحرقت دور كثيرة من قراباتهم، واحترق بعض نسائهم وأولادهم، فخرجوا منها في غاية الإهانة، فنزلوا واسط وتغلبوا عليها وأخرجوا عاملها منها، فركب إليهم مؤنس الخادم فأوقع بهم بأساً شديداً، وقتل منهم خلقاً كثيراً، فلم يقم لهم بعد ذلك قائمة‏.‏

وفي ربيع الأول منها عزل الخليفة ناصر الدولة بن حمدان عن الموصل، وولى عليها عميه سعيداً ونصراً ابنا حمدان‏.‏

وولاه ديار‏:‏ ربيعة نصيبين وسنجار ورأس العين، ومعها ميافارقين وازرن، ضمن ذلك من الخليفة بمال يحمله إليه في كل سنة‏.‏

وفي جمادى الأولى منها خرج رجل ببلاد البوازيج يقال له‏:‏ صالح بن محمود، فاجتمع عليه جماعة من بني مالك، ثم سار إلى سنجار فحاصرها فدخلها وأخذ شيئاً كثيراً من أموالها، وخطب بها خطبة ووعظ فيها وذكر، فكان في جملة ما قال‏:‏ نتولى الشيخين، ونتبرأ من الخبيثين، ولا نرى المسح على الخفين‏.‏

ثم سار فعاث في الأرض فساداً‏.‏

فانتدب له نصر بن حمدان فقاتله فأسره ومعه ابنان له‏.‏

فحمل إلى بغداد فدخلها وقد اشتهر شهرة فظيعة‏.‏

وخرج آخر ببلاد الموصل فاتبعه ألف رجل، فحاصر أهل نصيبين فخرجوا إليه فاقتتلوا معه، فقتل منهم مائة وأسر ألفاً، ثم باعهم نفوسهم وصادر أهلها بأربعمائة ألف درهم، فانتدب إليه ناصر الدولة فقاتله فظفر به وأسره وأرسله إلى بغداد أيضاً‏.‏

وفيها‏:‏ خلع الخليفة على ابنه هارون وركب معه الوزير والجيش، وأعطاه نيابة فارس وكرمان وسجستان ومكران، وخلع على ابنه أبي العباس الراضي وجعله نائب بلاد المغرب ومصر والشام، وجعل مؤنس الخادم يسد عنه أمورها‏.‏

وحج بالناس فيها عبد السميع بن أيوب بن عبد العزيز الهاشمي‏.‏

وخرج الحجيج بغفارة بدرقة حتى يسلموا في الدرب في الذهاب والإياب من القرامطة‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 أحمد بن إسحاق

ابن البهلول بن حسان بن أبي سنان أبو جعفر التنوخي القاضي الحنفي، العدل الثقة، الرضي‏.‏

وكان فقيهاً نبيلاً، سمع الحديث الكثير، وروى عن أبي كريب حديثاً واحداً، وكان عالماً بالنحو، فصيح العبارة، جيد الشعر، محموداً في الأحكام‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 188‏)‏

اتفق أن السيدة أم المقتدر وقفت وقفاً وجعل هذا عنده نسخة به في سلة الحكم، ثم أرادت أن تنقض ذلك الوقف فطلبت هذا الحاكم وأن يحضر معه كتاب الوقف لتأخذه منه فتعدمه، فلما حضر من وراء الستارة فهم المقصود فقال لها‏:‏ لا يمكن هذا، لأني خازن المسلمين، فإما أن تعزلوني عن القضاء وتولوا هذا غيري، وإما أن تتركوا هذا الذي تريدون أن تفعلوه، فلا سبيل إليه وأنا حاكم‏.‏

فشكته إلى ولدها المقتدر فشفع عنده المقتدر بذلك، فذكر له صورة الحال‏.‏

فرجع إلى أمه فقال لها‏:‏ إن هذا الرجل ممن يرغب فيه ولا يزهد فيه، ولا سبيل إلى عزله ولا التلاعب به‏.‏

فرضيت عنه وبعثت تشكره على ما صنع من ذلك‏.‏

فقال‏:‏ من قدم أمر الله على أمر العباد كفاه الله شرهم، ورزقه خيرهم‏.‏

وقد كانت وفاته في هذه السنة، وقد جاوز الثمانين‏.‏

 يحيى بن محمد بن صاعد

أبو محمد مولى أبي جعفر المنصور، رحل في طلب الحديث، وكتب وسمع وحفظ، وكان من كبار الحفاظ، وشيوخ الرواية، وكتب عنه جماعة من الأكابر، وله تصانيف تدل على حفظه وفقهه وفهمه‏.‏

توفي بالكوفة وله سبعون سنة‏.‏

 الحسن بن علي بن أحمد بن بشار بن زياد

المعروف بابن العلاف الضرير النهرواني، الشاعر المشهور، وكان أحد سمار المعتضد، وله مرثاة طنانة في هرٍّ له، قتله جيرانه لأنه أكل أفراخ حمامهم من أبراجهم‏.‏

وفيها‏:‏ آداب ورقة، ويقال‏:‏ إنه أراد بها ابن المعتز لكنه لم يتجاسر أن ينسبها إليه من الخليفة المقتدر، لأنه هو الذي قتله‏.‏

وأولها‏:‏

يا هرُّ فارقتنا ولم تعد * وكنت عندي بمنزل الولد

وهي خمس وستون بيتاً‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع عشرة وثلاثمائة

في المحرم منها دخل الحجيج بغداد، وقد خرج مؤنس إلى الحج فيها في جيش كثيف، خوفاً من القرامطة، ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 189‏)‏ ففرح المسلمون بذلك وزينت بغداد يومئذ وضربت الخيام والقباب لمؤنس الخادم، وقد بلغ مؤنساً في أثناء الطريق أن القرامطة أمامه، فعدل بالناس عن الجادة، وأخذ بهم في شعاب وأودية أياماً، فشاهد الناس في تلك الأماكن عجائب، ورأوا غرائب وعظاماً في غاية الضخامة، وشاهدوا ناساً قد مسخوا حجارة‏.‏

ورأى بعضهم امرأة واقفة على تنور تخبز فيه قد مسخت حجراً، والتنور قد صار حجراً‏.‏

وحمل مؤنس من ذلك شيئاً كثيراً إلى الخليفة ليصدق ما يخبر به من ذلك‏.‏

ذكر ذلك ابن الجوزي في منتظمه‏.‏

فيقال‏:‏ إنهم من قوم عاد أو من قوم شعيب أو من ثمود، فالله أعلم‏.‏

وفيها‏:‏ عزل المقتدر وزيره سليمان بن الحسن بعد سنة وشهرين وتسعة أيام، واستوزر مكانه أبا القاسم عبيد الله بن محمد الكلوذاني، ثم عزله بعد شهرين وثلاثة أيام، واستوزر الحسين بن القاسم ثم عزله أيضاً‏.‏

وفيها‏:‏ وقعت وحشة بين الخليفة ومؤنس، بسبب أن الخليفة ولى الحسبة لرجل اسمه محمد بن ياقوت، وكان أميراً على الشرطة، فقال مؤنس‏:‏ إن الحسبة لا يتولاها إلا القضاة والعدول وهذا لا يصلح لها‏.‏

ولم يزل بالخليفة حتى عزل محمد بن ياقوت عن الحسبة والشرطة أيضاً، وانصلح الحال بينهما‏.‏

ثم تجددت الوحشة بينهما في ذي الحجة من هذه السنة، وما زالت تتزايد حتى آل الحال إلى قتل المقتدر بالله كما سنذكره‏.‏

وفيها‏:‏ أوقع ثمل متولى طرسوس بالروم وقعة عظيمة، قتل منهم خلقاً كثيراً وأسر نحواً من ثلاثة آلاف، وغنم من الذهب والفضة والديباج شيئاً كثيراً جداً، ثم أوقع بهم مرة ثانية كذلك‏.‏

وكتب ابن الديراني الأرمني إلى الروم يحثهم على الدخول إلى بلاد الإسلام ووعدهم النصر منه والإعانة، فدخلوا في جحافل عظيمة كثيرة جداً، وانضاف إليهم الأرمني فركب إليهم مفلح غلام يوسف بن أبي الساج وهو يومئذ نائب أذربيجان، واتبعه خلق كثير من المتطوعة، فقصد أولاً بلاد ابن الديراني فقتل من الأرمن نحواً من مائة ألف، وأسر خلقاً كثيراً، وغنم أموالاً جزيلة‏.‏

وتحصن ابن الديراني في قلعة له هناك، وكاتب الروم فوصلوا إلى شميشاط فحاصروها، فبعث أهلها يستصرخون سعيد بن حمدان نائب الموصل، فسار إليهم مسرعاً، فوجد الروم قد كادوا يفتحونها، فلما علموا بقدومه رحلوا عنها واجتازوا بملطية فنهبوها، ورجعوا خاسئين إلى بلادهم، ومعهم ابن نفيس المتنصر، وقد كان من أهل بغداد‏.‏

وركب ابن حمدان في آثار القوم فدخل بلادهم، فقتل خلقاً كثيراً منهم وأسر وغنم أشياء كثيرة‏.‏

قال ابن الأثير‏:‏ وفي شوال من هذه السنة جاء سيل عظيم إلى تكريت ارتفع في أسواقها أربعة عشر شبراً، وغرق بسببه أربعمائة دار، وخلق لا يعلمهم إلا الله، حتى كان المسلمون والنصارى يدفنون جميعاً، لا يعرف هذا من هذا‏.‏

قال‏:‏ وفيها هاجت بالموصل ريح محمرة ثم اسوّدت حتى كان الإنسان لا يبصر صاحبه نهاراً، وظنّ الناس أنها القيامة ثم انجلى ذلك بمطر أرسله الله عليهم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 190‏)‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

الحسين بن عبد الرحمن أبو عبد الله الأنطاكي قاضي ثغور الشام، يعرف بابن الصابوني، وكان ثقة نبيلاً قدم بغداد وحدث بها‏.‏

 علي بن الحسين بن حرب بن عيسى

تولى القضاء بمصر مدة طويلة جداً، وكان ثقة عالماً من خيار القضاة وأعدلهم، تفقه على مذهب أبي ثور، وقد ذكرناه في طبقات الشافعية، وقد استعفى عن القضاء فعزل عنه في سنة إحدى عشرة وثلاثمائة، ورجع إلى بغداد فأقام بها إلى أن مات في هذه السنة، في صفر منها، وصلى عليه أبو سعيد الأصطخري، ودفن بداره‏.‏

قال الدارقطني‏:‏ حدث عنه أبو عبد الرحمن النسائي في الصحيح، ولعله مات قبله بعشرين سنة‏.‏

وذكر من جلالته وفضله رحمه الله‏.‏

محمد بن الفضل بن العباس أبو عبد الله البلخي الزاهد، حكي عنه أنه مكث أربعين سنة لم يخط فيها خطوة في هوى نفسه، ولا نظر في شيء فاستحسنه حياء من الله عز وجل، وأنه مكث ثلاثين سنة لم يمل على ملكيه قبيحاً‏.‏

 محمد بن سعد بن أبي الحسين الوراق

صاحب أبي عثمان النيسابوري، وكان فقيهاً يتكلم على المعاملات‏.‏

ومن جيد كلامه قوله‏:‏ من غض بصره عن محرّم أورثه الله بذلك حكمة على لسانه يهتدي بها سامعوه، ومن غض نفسه عن شبهة نوّر الله قلبه نوراً يهتدي به إلى طريق مرضاة الله‏.‏

يحيى بن عبد الله بن موسى أبو زكريا الفارسي، كتب بمصر عن الربيع بن سليمان، وكان ثقة عدلاً صدوقاً عند الحكام‏.‏

 ثم دخلت سنة عشرين وثلاثمائة من الهجرة

فيها‏:‏ كان مقتل المقتدر بالله الخليفة، وكان سبب ذلك‏:‏ أن مؤنساً الخادم خرج من بغداد في المحرم منها مغاضباً الخليفة في ممالكيه وحشمه، متوجهاً نحو الموصل، ورد من أثناء الطريق مولاه يسرى إلى المقتدر ليستعلم له أمره، وبعث معه رسالة يخاطب بها أمير المؤمنين ويعاتبه في أشياء‏.‏

فلما وصل أمر الوزير - وهو الحسين بن القاسم وكان من أكبر أعداء مؤنس - بأن يؤديها فامتنع من أدائها إلا إلى الخليفة، فأحضره بين يديه وأمره بأن يقولها للوزير فامتنع، وقال‏:‏ ما أمرني بهذا صاحبي، فشتمه الوزير وشتم صاحبه مؤنساً، وأمر بضربه ومصادرته بثلاثمائة ألف دينار، وأخذ خطه بها، وأمر بنهب داره، ثم أمر الوزير بالقبض على أقطاع مؤنس وأملاكه وأملاك من معه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/191‏)‏

فحصل من ذلك مال عظيم، وارتفع أمر الوزير عند المقتدر، ولقبه عميد الدولة، وضرب اسمه على الدراهم والدنانير، وتمكن من الأمور جداً، فعزل وولى، وقطع ووصل أياماً يسيرة، وفرح بنفسه حيناً قليلاً‏.‏

وأرسل إلى هارون بن عريب في الحال، وإلى محمد بن ياقوت يستحضرهما إلى الحضرة عوضاً عن مؤنس، فصمم المظفر مؤنس في سيره فدخل الموصل، وجعل يقول لأمراء الأعراب‏:‏ إن الخليفة قد ولاني الموصل وديار ربيعة‏.‏

فالتف عليه منهم خلق كثير، وجعل ينفق فيهم الأموال الجزيلة، وله إليهم قبل ذلك أيادي سابغة‏.‏

وقد كتب الوزير إلى آل حمدان - وهم ولاة الموصل وتلك النواحي - يأمرهم بمحاربته فركبوا إليه في ثلاثين ألفاً، وواجههم مؤنس في ثمانمائة من ممالكيه وخدمه، فهزمهم ولم يقتل منهم سوى رجل واحد، يقال له‏:‏ داود، وكان من أشجعهم، وقد كان مؤنس ربّاه وهو صغير‏.‏

ودخل مؤنس الموصل فقصدته العساكر من كل جانب يدخلون في طاعته، لإحسانه إليهم قبل ذلك، من بغداد والشام ومصر والأعراب، حتى صار في جحافل من الجنود‏.‏

وأما الوزير المذكور فإنه ظهرت خيانته وعجزه فعزله المقتدر في ربيع الآخر منها، وولى مكانه الفضل بن جعفر بن محمد بن الفرات، وكان آخر وزراء المقتدر‏.‏

وأقام مؤنس بالموصل تسعة أشهر، ثم ركب في الجيوش في شوال قاصداً بغداد ليطالب المقتدر بأرزاق الأجناد وإنصافهم، فسار - وقد بعث بين يديه الطلائع - حتى جاء فنزل بباب الشماسية ببغداد، وقابله عنده ابن ياقوت وهارون بن عريب عن كره منه‏.‏

وأشير على الخليفة أن يستدين من والدته مالاً ينفقه في الأجناد، فقال‏:‏ لم يبق عندها شيء، وعزم الخليفة على الهرب إلى واسط، وأن يترك بغداد إلى مؤنس حتى يتراجع أمر الناس ثم يعود إليها، فرده عن ذلك ابن ياقوت وأشار بمواجهته لمؤنس وأصحابه، فإنهم متى رأوا الخليفة هربوا كلهم إليه وتركوا مؤنساً‏.‏

فركب وهو كاره وبين يديه الفقهاء ومعهم المصاحف المنشورة، وعليه البردة والناس حوله، فوقف على تل عال بعيد من المعركة ونودي في الناس‏:‏ من جاء برأس فله خمسة دنانير، ومن جاء بأسير له عشرة دنانير‏.‏

ثم بعث إليه أمراؤه يعزمون عليه أن يتقدم فامتنع من التقدم إلى محل المعركة، ثم ألحوا عليه فجاء بعد تمنع شديد، فما وصل إليهم حتى انهزموا وفروا راجعين، ولم يلتفتوا إليه ولا عطفوا عليه، فكان أول من لقيه من أمراء مؤنس علي بن بليق، فلما رآه ترجّل وقبّل الأرض بين يديه وقال‏:‏ لعن الله من أشار عليك بالخروج في هذا اليوم‏.‏

ثم وكل به قوماً من المغاربة البربر، فلما تركهم وإياه شهروا عليه السلاح، فقال لهم‏:‏ ويلكم أنا الخليفة‏.‏

فقالوا‏:‏ قد عرفناك يا سفلة، إنما أنت خليفة إبليس، تنادي في جيشك من جاء برأس فله خمسة دنانير‏؟‏

وضربه أحدهم بسيفه على عاتقه فسقط إلى الأرض، وذبحه آخر وتركوا جثته، وقد سلبوه كل شيء كان عليه، حتى سراويله، وبقي مكشوف العورة مجندلاً على الأرض، حتى جاء رجل فغطى عورته بحشيش ثم دفنه في موضعه وعفا أثره، وأخذت المغاربة رأس المقتدر على خشبة قد رفعوها وهم يلعنونه، ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/192‏)‏ فلما انتهوا به إلى مؤنس - ولم يكن حاضراً الوقعة - فحين نظر إليه لطم رأس نفسه ووجهه وقال‏:‏ ويلكم، والله لم آمركم بهذا، لعنكم الله، والله لنقتلن كلنا‏.‏

ثم ركب ووقف عند دار الخلافة حتى لا تنهب، وهرب عبد الواحد بن المقتدر وهارون بن عريب، وأبناء رايق، إلى المدائن، وكان فعل مؤنس هذا سبباً لطمع ملوك الأطراف في الخلفاء، وضعف أمر الخلافة جداً، مع ما كان المقتدر يعتمده في التبذير والتفريط في الأموال، وطاعة النساء، وعزل الوزراء، حتى قيل‏:‏ إن جملة ما صرفه في الوجوه الفاسدة ما يقارب ثمانين ألف ألف دينار‏.‏

 ترجمة المقتدر بالله

هو جعفر بن أحمد المعتضد بالله أحمد بن أبي أحمد الموفق بن جعفر المتوكل على الله بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد، يكنى أبا الفضل، أمير المؤمنين العباسي، مولده في ليلة الجمعة لثمان بقين من رمضان سنة ثنتين وثمانين ومائتين، وأمه أم ولد اسمها شغب، ولقبت في خلافة ولدها بالسيدة‏.‏

بويع له بالخلافة بعد أخيه المكتفي يوم الأحد لأربع عشرة مضت من ذي القعدة، سنة خمس وتعسين ومائتين، وهو يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة وشهر وأيام‏.‏

ولهذا أراد الجند خلعه في ربيع الأول من سنة ست وتسعين محتجين بصغره وعدم بلوغه، وتولية عبد الله بن المعتز، فلم يتم ذلك، وانتقض الأمر في ثاني يوم كما ذكرنا‏.‏

ثم خلعوه في المحرم من سنة سبع عشرة وثلاثمائة، وولوا أخاه محمداً القاهر كما تقدم، فلم يتم ذلك سوى يومين، ثم رجع إلى الخلافة كما ذكرنا‏.‏

وقد كان المقتدر ربعة من الرجال حسن الوجه والعينين، بعيد ما بين المنكبين، حسن الشعر، مدور الوجه، مشرباً بحمرة، حسن الخلق، قد شاب رأسه وعارضاه، وقد كان معطاءاً جواداً، وله عقل جيد، وفهم وافر، وذهن صحيح‏.‏

وقد كان كثير التحجب والتوسع في النفقات، وزاد في رسوم الخلافة وأمور الرياسة، وما زاد شيء إلا نقص‏.‏

كان في داره إحدى عشر ألف خادم خصي، غير الصقالبة وأبناء فارس والروم والسودان، وكان له دار يقال لها‏:‏ دار الشجرة، بها من الأثاث والأمتعة شيء كثير جداً، كما ذكرنا ذلك في سنة خمس، حين قدم رسول ملك الروم‏.‏

وقد ركب المقتدر يوماً في حراقة، وجعل يستعجل الطعام فأبطأوا به فقال للملاح‏:‏ ويحك هل عندك شيء آكل‏؟‏

قال‏:‏ نعم، فأتاه بشيء من لحم الجدي وخبز حسن وملوحاً وغير ذلك‏.‏

فأعجبه ثم استدعاه فقال‏:‏ هل عندك شيء من الحلواء، فإني لا أحس بالشبع حتى آكل شيئاً من الحلواء‏.‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن حلواءنا التمر والكسب‏.‏

فقال‏:‏ هذا شيء لا أطيقه‏.‏

ثم جيء بطعام فأكل منه وأوتي بالحلواءات فأكل وأطعم الملاحين، وأمر أن يعمل كل في الحراقة بمائتي درهم، حتى إذا اتفق ركوبه فيها أكل منها، وإن لم يتفق ركوبه كانت للملاح‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 193‏)‏

وكان الملاح يأخذ ذلك في كل يوم عدة سنين متعددة، ولم يتفق ركوبه مرة أخرى أبداً‏.‏

وقد أراد بعض خواصه أن يطهر ولده فعمل أشياء هائلة ثم طلب من أم الخليفة أن يعار القرية التي عملت في طهور المقتدر من فضة ليراها الناس في هذا المهم، فتلطفت أم المقتدر عند ولدها حتى أطلقها له بالكلية، وكانت صفة قرية من القرى كلها من فضة، بيوتها وأعاليقها وأبقارها وجمالها، ودوابها وطيورها، وخيولها وزروعها، وثمارها وأشجارها وأنهارها، وما يتبع ذلك مما يكون في القرى، الجميع من فضة مصوّر‏.‏

وأمر بنقل سماطه إلى دار هذا الرجل، وأن لا يكلف شيء من المطاعم سوى سمك طري، فاشترى الرجل بثلاثمائة دينار سمكاً طرياً، وكان جملة ما أنفق الرجل على سماط المقتدر ألفاً وخمسمائة دينار، والجميع من عند المقتدر، وكان كثير الصدقة والإحسان إلى أهل الحرمين وأرباب الوظائف، وكان كثير التنفل بالصلاة والصوم والعبادة، ولكنه كان مؤثراً لشهواته، مطيعاً لخصاياه كثير العزل والولاية والتلون‏.‏

وما زال ذلك دأبه حتى كان هلاكه على يدي غلمان مؤنس الخادم، فقتل عند باب الشماسية لليلتين بقيتا من شوال من هذه السنة - أعني سنة ثلاثمائة وعشرين - وله من العمر ثمان وثلاثون سنة، وكانت مدة خلافته أربعاً وعشرين سنة وإحدى عشر شهراً وأربعة عشر يوماً، كان أكثر مدة ممن تقدمه من الخلفاء‏.‏

 خلافة القاهر

لما قتل المقتدر بالله عزم مؤنس على تولية أبي العباس بن المقتدر بعد أبيه ليطيب قلب أم المقتدر، فعدل عن ذلك جمهور من حضر من الأمراء فقال أبو يعقوب إسحاق بن إسماعيل النوبختي‏:‏ بعد التعب والنكد نبايع لخليفة صبي له أم وخالات يطيعهن ويشاورهن‏؟‏

ثم أحضروا محمد بن المعتضد - وهو أخو المقتدر - فبايعه القضاة والأمراء والوزراء، ولقبوه بالقاهر بالله، وذلك في سحر يوم الخميس لليلتين بقيتا من شوال منها، واستوزر أبا علي بن مقلة، ثم أبا جعفر محمد بن القاسم بن عبد الله ثم أبا العباس، ثم الخصيبي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 194‏)‏

وشرع القاهر في مصادرة أصحاب المقتدر وتتبع أولاده، واستدعى بأم المقتدر وهي مريضة بالاستسقاء، وقد تزايد بها الوجع من شدة جزعها على ولدها حين بلغها قتله، وكيف بقي مكشوف العورة‏.‏

فبقيت أياماً لا تأكل شيئاً، ثم وعظها النساء حتى أكلت شيئاً يسيراً من الخبز والملح، ومع هذا كله استدعى بها القاهر فقررها على أموالها فذكرت له ما يكون للنساء من الحلي والمصاغ والثياب، ولم تقرّ بشيء من الأموال والجواهر، وقالت له‏:‏ لو كان عندي من هذا شيء ما سلمت ولدي للقتل‏.‏

فأمر بضربها وعلقت برجليها ومسها بعذاب شديد من العقوبة، فأشهدت على نفسها ببيع أملاكها، فأخذه الجند مما يحاسبون به من أرزاقهم‏.‏

وأرادها على بيع أوقافها فامتنعت من ذلك وأبت أشد الإباء‏.‏

ثم استدعى القاهر بجماعة من أولاد المقتدر منهم أبو العباس وهارون والعباس وعلي والفضل وإبراهيم، فأمر بمصادرتهم وحبسهم، وسلمهم إلى حاجبه علي بن بليق، وتمكن الوزير علي بن مقلة فعزل وولى، وأخذ وأعطى أياماً، ومنع البريدي من عمالتهم‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 أحمد بن عمير بن جوصا

أبو الحسن الدمشقي أحد المحدثين الحفاظ، والرواة الأيقاظ‏.‏

وإبراهيم بن محمد بن علي بن بطحاء بن علي بن مقلة أبو إسحاق التميمي، المحتسب ببغداد، روى عن عباس الدوري وعلي بن حرب وغيرهما، وكان ثقة فاضلا ً‏.‏

مرَّ يوماً على باب القاضي أبي عمر محمد بن يوسف، والخصوم عكوف على بابه والشمس قد ارتفعت عليهم، فبعث حاجبه إليه يقول له‏:‏ إما أن تخرج فتفصل بين الخصوم، وإما أن تبعث فتعتذر إليهم إن كان لك عذر حتى يعودوا إليك بعد هذا الوقت‏.‏

 أبو علي بن خيران

الفقيه الشافعي، أحد أئمة المذهب، واسمه الحسين بن صالح بن خيران الفقيه الكبير الورع‏.‏

عرض عليه منصب القضاء فلم يقبل، فختم عليه الوزير علي بن عيسى على بابه ستة عشر يوماً، حتى لم يجد أهله ماء إلا من بيوت الجيران، وهو مع ذلك يمتنع عليهم، ولم يل لهم شيئاً‏.‏

فقال الوزير‏:‏ إنما أردنا أن نعلم الناس أن ببلدنا وفي مملكتنا من عرض عليه قضاء قضاة الدنيا في المشارق والمغارب فلم يقبل‏.‏

وقد كانت وفاته في ذي الحجة منها، وقد ذكرنا ترجمته في طبقات الشافعية بما فيه كفاية‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 195‏)‏

عبد الملك بن محمد بن عدي الفقيه الاستراباذي، أحد أئمة المسلمين والحفاظ المحدثين وقد ذكرناه أيضاً في طبقات الشافعية‏.‏

 القاضي أبو عمر المالكي‏:‏ محمد بن يوسف

ابن إسماعيل بن حماد بن زيد، أبو عمر القاضي ببغداد ومعاملاتها في سائر البلاد، كان من أئمة الإسلام علماً ومعرفة، وفصاحة وبلاغة، وعقلاً ورياسة، بحيث كان يضرب بعقله المثل‏.‏

وقد روى الكثير عن المشايخ، وحدث عنه الدارقطني وغيره من الحفاظ، وحمل الناس عنه علماً كثيراً من الفقه والحديث، وقد جمع قضاء القضاة في سنة سبع عشرة وثلاثمائة وله مصنفات كثيرة‏.‏

وجمع مسنداً حافلاً، وكان إذا جلس للحديث جلس أبو القاسم البغوي عن يمينه وهو قريب من سن أبيه، وجلس عن يساره أيضاً ابن صاعد، وبين يديه أبو بكر النيسابوري، وسائر الحفاظ حول سريره من كل جانب‏.‏

قالوا‏:‏ ولم ينتقد عليه حكم من أحكامه أخطأ فيه قط‏.‏

قلت‏:‏ وكان من أكبر صوّاب أحكامه وأصوبها قتله الحسين بن منصور الحلاج في سنة تسع وثلاثمائة كما تقدم‏.‏

وكان القاضي أبو عمر هذا جميل الأخلاق، حسن المعاشرة، اجتمع عنده يوماً أصحابه فجيء بثوب فاخر ليشتريه بنحو من خمسين ديناراً، فاستحسنه الحاضرون، فدعا بالقلانسي، وأمره أن يقطع ذلك الثوب قلانس بعدد الحاضرين‏.‏

وله مناقب ومحاسن جمة رحمه الله تعالى‏.‏

توفي في رمضان منها عن ثمان وسبعين سنة، وقد رآه بعضهم في المنام فقال له‏:‏ ما فعل بك ربك‏؟‏

فقال‏:‏ غفر لي بدعوة الرجل الصالح إبراهيم الحربي‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة

في صفر منها أحضر القاهر رجلاً كان يقطع الطريق فضرب بين يديه ألف سوط، ثم ضربت عنقه وقطع أيدي أصحابه وأرجلهم‏.‏

وفيها‏:‏ أمر القاهر بإبطال الخمر والمغاني والقيان، وأمر ببيع الجواري المغنيات بسوق النخس، على أنهن سواذج‏.‏

قال ابن الأثير‏:‏ وإنما فعل ذلك لأنه كان محباً للغناء فأراد أن يشتريهن برخص الأثمان، نعوذ بالله من هذه الأخلاق‏.‏

وفيها‏:‏ أشاعت العامة بينهم بأن الحاجب علي بن بليق يريد أن يلعن معاوية على المنابر، فلما بلغ الحاجب ذلك بعث إلى رئيس الحنابلة البربهاري أبي محمد الواعظ ليقابله على ذلك، فهرب واختفى، فأمر بجماعة من أصحابه فنفوا إلى البصرة‏.‏

وفيها‏:‏ عظم الخليفة وزيره على بن مقلة وخاطبه بالاحترام والإكرام‏.‏

ثم إن الوزير ومؤنساً الخادم وعلي بن بليق وجماعة من الأمراء اشتوروا فيما بينهم على خلع القاهر وتولية أبي أحمد المكتفي، وبايعوه سرّاً فيما بينهم، وضيقوا على القاهر بالله في رزقه، وعلى من يجتمع به‏.‏

وأرادوا القبض عليه سريعاً‏.‏

فبلغ ذلك القاهر - بلغه طريف اليشكري - فسعى في القبض عليهم، فوقع في مخالبه الأمير المظفر مؤنس الخادم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 196‏)‏

فأمر بحبسه قبل أن يراه والاحتياط على دوره وأملاكه - وكانت فيه عجلة وجرأة وطيش وهوج وخرق شديد - وجعل في منزلته - أمير الأمراء ورياسة الجيش - طريفاً اليشكري، وقد كان أحد الأعداء لمؤنس الخادم قبل ذلك‏.‏

وقبض على بليق، واختفى ولده علي بن بليق، وهرب الوزير ابن مقلة فاستوزر مكانه أبا جعفر محمد بن القاسم بن عبيد الله في مستهل شعبان، وخلع عليه وأمر بتحريق دار ابن مقلة، ووقع النهب ببغداد، وهاجت الفتنة، وأمر القاهر بأن يجعل أبو أحمد المكتفي بين حائطين ويسد عليه بالآجر والكلس، وهو حي فمات‏.‏

وأرسل منادي على المختفين‏:‏ إن من أخفاهم قتل وخربت داره‏.‏

فوقع بعلي بن بليق فذبح بين يديه كما تذبح الشاة، فأخذ رأسه في طست ودخل به القاهر على أبيه بليق بنفسه، فوضع رأس ابنه بين يديه، فلما رآه بكى وأخذ يقبله ويترشفه، فأمر بذبحه أيضاً فذبح، ثم أخذ الرأسين في طستين فدخل بهما على مؤنس الخادم، فلما رآهما تشهد ولعن قاتلهما، فقال القاهر‏:‏ جروا برجل الكلب، فأخذ فذبح أيضاً وأخذ رأسه فوضع في طست وطيف بالرؤوس في بغداد‏.‏

ونودي عليهم‏:‏ هذا جزاء من يخون الإمام ويسعى في الدولة فساداً‏.‏

ثم أعيدت الرؤوس إلى خزائن السلاح‏.‏

وفي ذي القعدة منها‏:‏ قبض القاهر على الوزير أبي جعفر محمد بن القاسم وسجنه، وكان مريضاً بالقولنج، فبقي ثمانية عشر يوماً ومات، وكانت وزارته ثلاثة أشهر واثني عشر يوماً، واستوزر مكانه أبا العباس أحمد بن عبيد الله بن سليمان الخصيبي، ثم قبض على طريف اليشكري الذي تعاون على مؤنس وابن بليق وسجنه‏.‏

ولهذا قيل‏:‏ من أعان ظالماً سلطه الله عليه‏.‏

فلم يزل اليشكري في الحبس حتى خلع القاهر‏.‏

وفيها‏:‏ جاء الخبر بموت العامل بديار مصر، وأن ابنه محمداً قد قام مقامه فيها، وسارت الخلع إليه من القاهر بتنفيذ الولاية واستقراره‏.‏

ابتداء أمر بني بويه وظهور دولتهم

وهم ثلاثة إخوة‏:‏ عماد الدولة أبو الحسن علي، وركن الدولة أبو علي الحسن، ومعز الدولة أبو الحسين أحمد أولاد أبي شجاع بويه بن قباخسرو بن تمام بن كوهي بن شيرزيل الأصغر بن شيركيده بن شيرزيل الأكبر بن شيران شاه بن شيرويه بن سيسان شاه بن سيس بن فيروز بن شيرزيل بن سيسان بن بهرام جور الملك بن يزدجرد الملك بن سابور الملك بن سابور ذي الأكتاف الفارسي‏.‏

كذا نسبهم الأمير أبو نصر بن ماكولا في كتابه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 197‏)‏

وإنما قيل لهم‏:‏ الديالمة، لأنهم جاوروا الديلم، وكانوا بين أظهرهم مدة، وقد كان أبوهم أبو شجاع بويه فقيراً مدقعاً، يصطاد السمك ويحتطب بنوه الحطب على رؤوسهم، وقد ماتت امرأته وخلفت له هؤلاء الأولاد الثلاثة، فحزن عليها وعليهم، فبينما هو يوماً عند بعض أصحابه وهو شهريار بن رستم الديلمي، إذ مرّ منجم فاستدعاه فقال له‏:‏ إني رأيت مناماً غريباً أحب أن تفسره لي، رأيت كأني أبول فخرج من ذكري نار عظيمة حتى كادت تبلغ عنان السماء، ثم انفرقت ثلاث شعب ثم انتشرت كل شعبة حتى صارت شعباً كثيرة، فأضاءت الدنيا بتلك النار، ورأيت البلاد والعباد قد خضعت لهذه النار‏.‏

فقال له‏:‏ المنجم هذا منام عظيم لا أفسره لك إلا بمال جزيل‏.‏

فقال‏:‏ والله لا شيء عندي أعطيك، ولا أملك إلا فرسي هذه‏.‏

فقال‏:‏ هذا يدل على أنه يملك من صلبك ثلاثة ملوك، ثم يكون من سلالة كل واحد منهم ملوك عدة‏.‏

فقال له‏:‏ ويحك أتسخر بي‏؟‏

وأمر بنيه فصفعوه ثم أعطاه عشرة دراهم‏.‏

فقال لهم المنجم‏:‏ اذكروا هذا إذا قدمت عليكم وأنتم ملوك وخرج وتركهم‏.‏

وهذا من أعجب الأشياء، وذلك أن هؤلاء الأخوة الثلاثة كانوا عند ملك يقال له‏:‏ ماكان بن كاني، في بلاد طبرستان، فتسلط عليه مرداويج فضعف ماكان، فتشاوروا في مفارقته حتى يكون من أمره ما يكون، فخرجوا عنه ومعهم جماعة من الأمراء، فصاروا إلى مرادويج فأكرمهم واستعملهم على الأعمال في البلدان‏.‏

فأعطى عماد الدولة على بويه نيابة الكرج، فأحسن فيها السيرة والتف عليه الناس وأحبوه، فحسده مردوايج وبعث إليه بعزله عنها، ويستدعيه إليه فامتنع من القدوم عليه، وصار إلى أصبهان فحاربه نائبها فهزمه عماد الدولة هزيمة منكرة، واستولى على أصبهان‏.‏

وإنما كان معه سبعمائة فارس، فقهر بها عشرة آلاف فارس، وعظم في أعين الناس‏.‏

فلما بلغ ذلك مرداويج قلق منه، فأرسل إليه جيشاً فأخرجوه من أصبهان، فقصد أذربيجان فأخذها من نائبها وحصل له من الأموال شيء كثير جداً، ثم أخذ بلداناً كثيرة، واشتهر أمره وبعد صيته وحسنت سيرته‏.‏

فقصده الناس محبة وتعظيماً، فاجتمع إليه من الجند خلق كثير وجم غفير، فلم يزل يترقى في مراقي الدنيا حتى آل به وبأخويه الحال إلى أن ملكوا بغداد من أيدي الخلفاء العباسيين، وصار لهم فيها القطع والوصل، والولاية والعزل، وإليهم تجبى الأموال، ويرجع إليهم في سائر الأمور والأحوال، على ما سنذكر ذلك مبسوطاً والله المستعان‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 198‏)‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 أحمد بن محمد بن سلامة

ابن سلمة بن عبد الملك أبو جعفر الطحاوي، نسبة إلى قرية بصعيد مصر، الفقيه الحنفي صاحب المصنفات المفيدة، والفوائد الغزيرة، وهو أحد الثقات الأثبات، والحفاظ الجهابذة، وطحا بلدة بدريا مصر‏.‏

وهو ابن أخت المزني، توفي في مستهل ذي القعدة منها عن ثنتين وثمانين سنة‏.‏

وذكر أبو سعيد السمعاني‏:‏ أنه ولد في سنة تسع وعشرين ومائتين، فعلى هذا يكون قد جاوز التسعين، والله أعلم‏.‏

وذكر ابن خلكان في ‏(‏الوفيات‏)‏‏:‏ أن سبب انتقاله إلى مذهب أبي حنيفة ورجوعه عن مذهب خاله المزني، أن خاله قال له يوماً‏:‏ والله لا يجيء منك شيء‏.‏

فغضب وتركه واشتغل على أبي جعفر بن أبي عمران الحنفي، حتى برع وفاق أهل زمانه، وصنف كتباً كثيرة منها‏:‏

‏(‏أحكام القرآن‏)‏، و‏(‏اختلاف العلماء‏)‏، و‏(‏معاني الآثار‏)‏، و‏(‏التاريخ الكبير‏)‏‏.‏

وله في الشروط كتاب، وكان بارعاً فيها‏.‏

وقد كتب للقاضي أبي عبد الله محمد بن عبد الله وعدله القاضي أبو عبيد بن حربويه، وكان يقول‏:‏ رحم الله المزني، لو كان حياً لكفّر عن يمينه، توفي في مستهل ذي القعدة كما تقدم‏.‏

ودفن بالقرافة، وقبره مشهور بها رحمه الله‏.‏

وقد ترجمه ابن عساكر وذكر‏:‏ أنه قد قدم دمشق سنة ثمان وستين ومائتين، وأخذ الفقه عن قاضيها أبي حازم‏.‏

 أحمد بن محمد بن موسى بن النضر

ابن حكيم بن علي بن زربى، أبو بكر المعروف‏:‏ بابن أبي حامد، صاحب بيت المال، سمع عباساً الدوري، وخلقاً، وعنه الدارقطني‏.‏

وكان ثقة صدوقاً جواداً ممدحاً، اتفق في أيامه أن رجلاً من أهل العلم كانت له جارية يحبها حباً شديداً، فركبته ديون اقتضت بيع تلك الجارية في الدين، فلما أن قبض ثمنها ندم ندامة شديدة على فراقها، وبقي متحيراً في أمره، ثم باعها الذي اشتراها فوصلت إلى ابن أبي حامد هذا، وهو صاحب بيت المال، فتشفع صاحبها الأول - الذي باعها في الدين - ببعض أصحاب ابن أبي حامد في أن يردها إليه بثمنها، وذكر له أنه يحبها، وأنه من أهل العلم، وإنما باعها في دين ركبه لم يجد له وفاء‏.‏

فلما قال له ذلك لم يكن عند ابن أبي حامد شعور بما ذكر له من أمر الجارية، وذلك أن امرأته كانت اشترتها له ولم تعلمه بعد بأمرها حتى تحل من استبرائها، وكان ذلك اليوم آخر الاستبراء، فألبستها الحلي والمصاغ وصنتعها له وهيأتها حتى صارت كأنها فلقة قمر، وكانت حسناء، فحين شفع صاحبه فيها وذكر أمرها بهت لعدم علمه بها‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 199‏)‏

ثم دخل على أهله يستكشف خبرها من امرأته، فإذا بها قد هيئت له، فلما رآها على تلك الصفة فرح فرحاً شديداً، إذ وجدها كذلك من أجل سيدها الأول الذي تشفع فيه صاحبه، فأخرجها معه وهو يظهر السرور، وامرأته تظن أنه إنما أخذها ليطأها، فأتى بها إلى ذلك الرجل بحليها وزينتها، فقال له‏:‏ هذه جاريتك‏؟‏

فلما رآها على تلك الصفة في ذلك الحلي والزينة مع الحسن الباهر، اضطرب كلامه واختلط في عقله مما رأى من حسن منظرها وهيئتها‏.‏

فقال‏:‏ نعم‏.‏

فقال‏:‏ خذها، بارك الله لك فيها‏.‏

ففرح الفتى بها فرحاً شديداً‏.‏

وقال‏:‏ سيدي تأمر بمن يحمل ثمنها إليك‏؟‏

فقال‏:‏ لا حاجة لنا بثمنها، وأنت في حل منه أنفقه عليك وعليها، فإني أخشى أن تفتقر فتبيعها لمن لا يردها عليك‏.‏

فقال‏:‏ يا سيدي، وهذا الحلي والمصاغ الذي عليها‏؟‏

فقال‏:‏ هذا شيء وهبناه لها لا نرجع فيه، ولا يعود إلينا أبداً، فدعا له واشتد فرحه بها جداً وأخذها وذهب‏.‏

فلما أراد أن يودع ابن أبي حامد قال ابن أبي حامد للجارية‏:‏ أيما أحب إليك نحن أو سيدك هذا‏؟‏

فقالت‏:‏ أما أنتم فقد أحسنتم إليّ وأعنتموني فجزاكم الله خيراً، وأما سيدي هذا فلو أني ملكت منه ما ملك مني لم أبعه بالأموال الجزيلة، ولا فرطت فيه أبداً‏.‏

فاستحسن الحاضرون كلامها وأعجبهم ذلك من قولها مع صغر سنها‏.‏

 شغب أم أمير المؤمنين المقتدر بالله الملقبة بالسيدة

كان دخلها من أملاكها في كل سنة ألف ألف دينار، فكانت تتصدق بأكثر ذلك على الحجيج في أشربة وأزواد وأطباء يكونون معهم، وفي تسهيل الطرقات والموارد‏.‏

وكانت في غاية الحشمة والرياسة ونفوذ الكلمة أيام ولدها، فلما قتل كانت مريضة فزادها قتله مرضاً إلى مرضها، ولما استقر أمر القاهر في الخلافة وهو ابن زوجها المعتضد وأخو ابنها المقتدر، وقد كانت حضنته حين توفيت أمه، وخلصته من ابنها لما أخذت البيعة بالخلافة له، ثم رجع ابنها إلى الخلافة، فشفعت في القاهر وأخذته إلى عندها، فكانت تكرمه وتشتري له الجواري‏.‏

فلما قتل ابنها وتولى مكانه، طلبها وهي مريضة فعاقبها عقوبة عظيمة جداً، حتى كان يعلقها برجليها ورأسها منكوس، فربما بالت فيسيل البول على وجهها، ليقررها على الأموال فلم يجد لها شيئاً سوى ثيابها ومصاغها وحليها في صناديقها‏.‏

قيمة ذلك مائة ألف دينار، وثلاثون ألف دينار، وكان لها غير ذلك أملاك أمر ببيعها، وأتى بالشهود ليشهدوا عليها بالتوكيل في بيعها، فامتنع الشهود من الشهادة حتى ينظروا إليها ويحلوها، فرفع الستر بإذن الخليفة‏.‏

فقالوا لها‏:‏ أنت شغب جارية المعتضد أم جعفر المقتدر‏؟‏

فبكت بكاء طويلاً ثم قالت‏:‏ نعم، فكتبوا حليتها عجوز سمراء اللون، دقيقة الجبين‏.‏

وبكى الشهود وتفكروا كيف يتقلب الزمان بأهله، وتنقل الحدثان وأن الدنيا دار بلاء لا يفي مرجوها بمخوفها، ولا يسلم طلوعها من كسوفها، من ركن إليها أحرقته بنارها‏.‏

ولم يذكر القاهر شيئاً من إحسانها إليه، رحمها الله وعفا عنه‏.‏

توفيت في جمادى الأولى من هذه السنة، ودفنت بالرصافة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 200‏)‏

 عبد السلام بن محمد

ابن عبد الوهاب بن سلام بن خالد بن حمران بن أبان، مولى عثمان بن عفان، وهو أبو هاشم بن أبي علي الجبائي المتكلم ابن المتكلم، المعتزلي بن المعتزلي، وإليه تنسب الطائفة الهاشمية من المعتزلة، وله مصنفات في الاعتزال كما لأبيه من قبله، مولده سنة سبع وأربعين ومائتين، توفي في شعبان منها‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وكان له ابن يقال له‏:‏ أبو علي، دخل يوماً على الصاحب بن عباد فأكرمه واحترمه وسأله عن شيء من المسائل فقال‏:‏ لا أعرف نصف العلم‏.‏

فقال‏:‏ صدقت، وسبقك أبوك إلى الجهل بالنصف الآخر‏.‏

محمد بن الحسن بن دُريد بن عتاهية

أبو بكر بن دريد الأزدي اللغوي النحوي الشاعر صاحب المقصورة، ولد بالبصرة في سنة ثلاث وعشرين ومائتين، وتنقل في البلاد لطلب العلم والأدب، وكان أبوه من ذوي اليسار، وقدم بغداد وقد أسن فأقام بها إلى أن توفي في هذه السنة‏.‏

روى عن عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي، وأبي حاتم، والرياشي‏.‏

وعنه أبو سعيد السيرافي، وأبو بكر بن شاذان، وأبو عبيد الله بن المرزبان وغيرهم، ويقال‏:‏ كان أعلم من شعر من العلماء‏.‏

وقد كان متهتكاً في الشراب منهمكاً فيه‏.‏

قال أبو منصور الأزهري‏:‏ دخلت عليه فوجدته سكران فلم أعد إليه‏.‏

وسئل عنه الدارقطني فقال‏:‏ تكلموا فيه‏.‏

وقال ابن شاهين‏:‏ كنا ندخل عليه فنستحي مما نراه من العيدان المعلقة وآلات اللهو والشراب المصفى، وقد جاوز التسعين وقارب المائة‏.‏

توفي يوم الأربعاء لثنتي عشرة بقيت من شعبان، وفي هذا اليوم توفي أبو هاشم بن أبي علي الجبائي المعتزلي، فصلي عليهما معاً، ودفنا في مقبرة الخيزران‏.‏

فقال الناس‏:‏ مات اليوم عالم اللغة، وعالم الكلام‏.‏

وكان ذلك يوماً مطيراً‏.‏

ومن مصنفات ابن دريد ‏(‏الجمهرة في اللغة‏)‏ نحو عشر مجلدات، و‏(‏كتاب المطر‏)‏، و‏(‏المقصورة‏)‏، و‏(‏القصيدة الأخرى في المقصور والممدود‏)‏، وغير ذلك سامحه الله‏.‏