فصل: الست الجيلية زمرد خاتون

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 ثم دخلت سنة ست وتسعين وخمسمائة

استهلت هذه السنة والملك الأفضل بالجيش المصري محاصر دمشق لعمه العادل، وقد قطع عنها الأنهار والميرة، فلا خبز ولا ماء إلا قليلاً، وقد تطاول الحال، وقد خندقوا من أرض اللوان إلى اللد خندقاً لئلا يصل إليهم جيش دمشق، وجاء فصل الشتاء وكثرت الأمطار والأوحال‏.‏

فلما دخل شهر صفر قدم الملك الكامل محمد بن العادل علي أبيه بخلق من التركمان، وعساكر من بلاد الجزيرة والرها وحران، فعند ذلك انصرف العساكر المصرية، وتفرقوا أيادي سبا، فرجع الظاهر إلى حلب والأسد إلى حمص، والأفضل إلى مصر، وسلم العادل من كيد الأعادي، بعد ما كان قد عزم على تسليم البلد‏.‏

وسارت الأمراء الناصرية خلف الأفضل ليمنعوه من الدخول إلى القاهرة، وكاتبوا العادل أن يسرع السير إليهم، فنهض إليهم سريعاً فدخل الأفضل مصر وتحصن بقلعة الجبل، وقد اعتراه الضعف والفشل‏.‏

ونزل العادل على البركة وأخذ ملك مصر ونزل إليه ابن أخيه الأفضل خاضعاً ذليلاً، فأقطعه بلاداً من الجزيرة، ونفاه من الشام لسوء السيرة، ودخل العادل القلعة وأعاد القضاء إلى صدر الدين عبد الملك بن درباس المارديني الكردي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/28‏)‏

وأبقى الخطبة والسكة باسم ابن أخيه المنصور، والعادل مستقل بالأمور، واستوزر الصاحب صفي الدين بن شكر لصرامته وشهامته، وسيادته وديانته، وكتب العادل إلى ولده الكامل يستدعيه من بلاد الجزيرة ليملكه على مصر، فقدم عليه فأكرمه واحترمه وعانقه والتزمه‏.‏

وأحضر الملك الفقهاء واستفتاهم في صحة مملكة ابن أخيه المنصور بن العزيز، وكان ابن عشر سنين، فأفتوا بأن ولايته لا تصح لأنه متولي عليه، فعند ذلك طلب الأمراء ودعاهم إلى مبايعته فامتنعوا فأرغبهم وأرهبهم‏.‏

وقال فيما قال‏:‏ قد سمعتم ما أفتى به العلماء، وقد علمتم أن ثغور المسلمين لا يحفظها الأطفال الصغار، وإنما يحفظها الملوك الكبار، فأذعنوا عند ذلك وبايعوه‏.‏

ثم من بعده لولده الكامل، فخطب الخطباء بذلك بعد الخليفة لهما، وضربت السكة باسمهما، واستقرت دمشق باسم المعظم عيسى بن العادل، ومصر باسم الكامل‏.‏

وفي شوال رجع إلى دمشق الأمير ملك الدين أبو منصور سليمان بن مسرور بن جلدك، وهو أخو الملك العادل لأمه، وهو واقف الفلكية داخل باب الفراديس، وبها قبره، فأقام بها محترماً معظماً إلى أن توفي في هذه السنة‏.‏

وفيها وفي التي بعدها‏:‏ كان بديار مصر غلاء شديد، فهلك بسببه الغني والفقير، وهرب الناس منها نحو الشام فلم يصل إليها إلا القليل، وتخطفهم الفرنج من الطرقات وغروهم من أنفسهم واغتالوهم بالقليل من الأقوات، وأما بلاد العراق فإنه كان مرخصاً‏.‏

قال ابن الساعي‏:‏ وفي هذه السنة باض ديك ببغداد فسألت جماعة عن ذلك فأخبروني به‏.‏

 وممن توفي بها من الأعيان‏:‏

 السلطان علاء الدين خوارزم شاه

تكش بن ألب رسلان من ولد طاهر بن الحسين، وهو صاحب خوارزم وبعض بلاد خراسان والري وغيرها من الأقاليم المتسعة، وهو الذي قطع دولة السلاجقة‏.‏

كان عادلاً حسن السيرة له معرفة جيدة بالموسيقى، حسن المعاشرة، فقيهاً على مذهب أبي حنيفة، ويعرف الأصول، وبنى للحنفية مدرسة عظيمة، ودفن بتربة بناها بخوارزم، وقام في الملك من بعده ولده علاء الدين محمد، وكان قبل ذلك يلقب بقطب الدين‏.‏

وفيها‏:‏ قتل وزير السلطان خوارزم شاه المذكور‏:‏

 نظام الدين مسعود بن علي

وكان حسن السيرة، شافعي المذهب، له مدرسة عظيمة بخوارزم، وجامع هائل، وبنى بمرو جامعاً عظيماً للشافعية، فحسدتهم الحنابلة وشيخهم بها يقال له شيخ الإسلام، فيقال إنهم أحرقوه وهذا إنما يحمل عليه قلة الدين والعقل، فأغرمهم السلطان خوارزم شاه ما غرم الوزير على بنائه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/29‏)‏

وفيها‏:‏ توفي الشيخ المسند المعمر رحلة الوقت‏:‏

 أبو الفرج بن عبد المنعم بن عبد الوهاب

ابن صدقة بن الخضر بن كليب الحراني الأصل البغدادي المولد والدار والوفاة، عن ست وتسعين سنة، سمع الكثير وأسمع، وتفرد بالرواية عن جماعة من المشايخ، وكان من أعيان التجار وذوي الثروة‏.‏

 الفقيه مجد الدين

أبو محمد بن طاهر بن نصر بن جميل، مدرّس القدس أول من درّس بالصلاحية، وهو والد الفقهاء بني جميل الدين، كانوا بالمدرسة الجاروخية، ثم صاروا إلى العمادية والدماعية في أيامنا هذه، ثم ماتوا ولم يبق إلا شرحهم‏.‏

 الأمير صارم الدين قايماز

ابن عبد الله النجي، كان من أكابر الدولة الصلاحية، كان عند صلاح الدين بمنزلة الأستاذ، وهو الذي تسلم القصر حين مات العاضد‏.‏

فحصل له أموال جزيلة جداً، وكان كثير الصدقات والأوقاف، تصدق في يوم بسبعة آلاف دينار عيناً، وهو واقف المدرسة القيمازية، شرقي القلعة‏.‏

وقد كانت دار الحديث الأشرفية داراً لهذا الأمير، وله بها حمام، فاشترى ذلك الملك الأشرف فيما بعد وبناها دار حديث، وأخرب الحمام وبناه مسكناً للشيخ المدّرس بها‏.‏

ولما توفي قيماز ودفن في قبره نبشت دوره وحواصله، وكان متهماً بمال جزيل، فتحصل ما جمع من ذلك مائة ألف دينار وكان يظن أن عنده أكثر من ذلك، وكان يدفن أمواله في الخراب من أراضي ضياعه وقرياه، سامحه الله‏.‏

 الأمير لؤلؤ

أحد الحجاب بالديار المصرية، كان من أكابر الأمراء في أيام صلاح الدين، وهو الذي كان متسلم الأسطول في البحر، فكم من شجاع قد أسر، وكم من مركب قد كسر، وقد كان مع كثرة جهاده دار الصدقات، كثير النفقات في كل يوم، وقع غلاء بمصر فتصدق باثني عشر ألف رغيف، لاثني عشر ألف نفس‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 13/30‏)‏

 الشيخ شهاب الدين الطوسي

أحد مشايخ الشافعية بديار مصر، شيخ المدرسة المنسوبة إلى تقي الدين شاهنشاه بن أيوب، التي يقال لها منازل العز، وهو من أصحاب محمد بن يحيى تلميذ الغزالي، كان له قدر ومنزلة عند ملوك مصر، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، توفي في هذه السنة، فازدحم الناس على جنازته، وتأسفوا عليه‏.‏

 الشيخ ظهير الدين عبد السلام الفارسي

شيخ الشافعية بحلب، أخذ الفقه عن محمد بن يحيى تلميذ الغزالي، وتتلمذ للرازي، ورحل إلى مصر وعرض عليه أن يدرّس بتربة الشافعي فلم يقبل، فرجع إلى حلب فأقام بها إلى أن مات‏.‏

 الشيخ العلامة بدر الدين ابن عسكر

رئيس الحنفية بدمشق، قال أبو شامة‏:‏ ويعرف بابن العقادة‏.‏

 الشاعر أبو الحسن

علي بن نصر بن عقيل بن أحمد بغدادي، قدم دمشق في سنة خمس وتسعين وخمسمائة، ومعه ديوان شعر له فيه درر حسان، وقد تصدى لمدح الملك الأمجد صاحب بعلبك وله‏:‏

وما الناس إلا كامل الحظ ناقصٌ * وآخر منهم ناقص الحظ كامل

وإني لمثر من خيار أعفة * وإن لم يكن عندي من المال كامل

وفيها‏:‏ توفي القاضي الفاضل، الإمام العلامة شيخ الفصحاء والبلغاء‏:‏

أبو علي عبد الرحيم بن القاضي الأشرف

أبي المجد علي بن الحسن بن البيساني المولى الأجل القاضي الفاضل، كان أبوه قاضياً بعسقلان فأرسل ولده في الدولة الفاطمية إلى الديار المصرية، فاشتغل بها بكتابة الإنشاء على أبي الفتح قادوس وغيره، فساد أهل البلاد حتى بغداد، ولم يكن له في زمانه نظير، ولا فيما بعده إلى وقتنا هذا مثيل‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/31‏)‏

ولما استقر الملك صلاح الدين بمصر جعله كاتبه وصاحبه ووزيره وجليسه وأنيسه، وكان أعز عليه من أهله وأولاده، وتساعدا حتى فتح الأقاليم والبلاد، هذا بحسامه وسنانه، وهذا بقلمه ولسانه وبيانه‏.‏

وقد كان الفاضل من كثرة أمواله كثير الصدقات والصلات والصيام والصلاة، وكان يواظب كل يوم وليلة على ختمة كاملة، مع ما يزيد عليها من نافلة، رحيم القلب حسن السيرة، طاهر القلب والسريرة له مدرسة بديار مصر على الشافعية والمالكية، وأوقاف على تخليص الأسارى من يدي النصارى‏.‏

وقد اقتنى من الكتب نحواً من مائة ألف كتاب، وهذا شيء لم يفرح به أحد من الوزراء ولا العلماء ولا الملوك، ولد في سنة ثنتين وخمسمائة، توفي يوم دخل العادل إلى قصر مصر بمدرسته فجأة يوم الثلاثاء سادس ربيع الآخر، واحتفل الناس بجنازته، وزار قبره في اليوم الثاني الملك العادل، وتأسف عليه‏.‏

ثم استوزر العادل صفي الدين بن شكر، فلما سمع الفاضل بذلك دعا الله أن لا يحييه إلى هذه الدولة لما بينهما من المنافسة، فمات ولم ينله أحد بضيم ولا أذى، ولا رأى في الدولة من هو أكبر منه، وقد رثاه الشعراء بأشعار حسنة، منها قول القاضي هبة الله بن سناء الملك‏:‏

عبد الرحيم على البرية رحمةٌ * أمنت بصحبتها حلول عقابها

يا سائلي عنه وعن أسبابه * نال السماء فسله عن أسبابها

وأتته خاطبةً إليه وزارة * ولطال ما أعيت على خطابها

وأتت سعادته إلى أبوابه * لا كالذي يسعى إلى أبوابها

تعنوا الملوك لوجهه بوجوهها * لا بل تساق لبابه برقابها

شغل الملوك بما يزول ونفسه * مشغولة بالذكر في محرابها

في الصوم والصلوات أتعب نفسه * وضمان راحته على إتعابها

وتعجل الإقلاع عن لذاته * ثقةً بحسن مآلها ومآبها

فلتفخر الدنيا بسائس ملكها * منه ودارس علمها وكتابها

صوّامها قوّامها علاّمها * عمّالها بذّالها وهابها

والعجب أن الفاضل مع براعته ليس له قصيدة طويلة، وإنما له ما بين البيت والبيتين في أثناء رسائله وغيرها شيء كثير جداً، فمن ذلك قوله‏:‏

سبقتم بإسداء الجميل تكرماً * وما مثلكم فيمن يحدث أو يحكى

وكان ظني أن أسابقكم به * ولكن بلت قبلي فهيج لي البكا

وله‏:‏

ولي صاحب ما خفت من جور حادثٍ * من الدهر إلا كان لي من ورائه

إذا عضني صرف الزمان فإنني * براياته أسطو عليه ورائه

وله في بدو أمره‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/32‏)‏

أرى الكتاب كلهم جميعاً * بأرزاقٍ تعمهم سنينا

ومالي بينهم رزقٌ كأني * خلقت من الكرام الكاتبينا

وله في النحلة والزلقطة‏:‏

ومغردين تجاوباً في مجلسٍ * منعاهما لأذاهما الأقوامُ

هذا يجود بعكس ما يأتي به * هذا فيحمد ذا وذاك يلامُ

وله‏:‏

بتنا على حالٍ تسرُّ الهوى * لكنه لا يمكن الشرح

بوابنا الليل، وقلنا له‏:‏ * إن غبت عنّا هجم الصبح

وأرسلت جارية من جواري الملك العزيز إلى الملك العزيز زراً من ذهب مغلف بعنبر أسود، فسأل الملك الفاضل عن معنى ما أرادت بإرساله فأنشأ يقول‏:‏

أهدت لك العنبر في وسطه * زرٌّ من التبر رقيق اللحام

فالزر في العنبر معناهما * زر هكذا مختفياً في الظلام

قال ابن خلكان‏:‏ وقد اختلف في لقبه فقيل محيي الدين وقيل مجير الدين، وحكي عن عمارة اليمني‏:‏ أنه كان يذكر جميل وأن العادل بل الصالح هو الذي استقدمه من الإسكندرية، وقد كان معدوداً في حسناته‏.‏

وقد بسط ابن خلكان ترجمته بنحو ما ذكرنا، وفي هذه زيادة كثيرة والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وتسعين وخمسمائة

فيها اشتد الغلاء بأرض مصر جداً، فهلك خلق كثير جداَ من الفقراء والأغنياء، ثم أعقبه فناء عظيم، حتى حكى الشيخ أبو شامة في الذيل‏:‏ أن العادل كفن من ماله في مدة شهر من هذه السنة نحواً من مائتي ألف، وعشرين ألف ميت، وأكلت الكلاب والميتات فيها بمصر‏.‏

وأكل من الصغار والأطفال خلق كثير يشوي الصغير والداه ويأكلانه، وكثر هذا في الناس جداً حتى صار لا ينكر بينهم، فلما فرغت الأطفال والميتات غلب القوي الضعيف فذبحه وأكله‏.‏

وكان الرجل يحتال على الفقير فيأتي به ليطعمه أو ليعطيه شيئاً، ثم يذبحه ويأكله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/33‏)‏

وكان أحدهم يذبح امرأته ويأكلها وشاع هذا بينهم بلا إنكار ولا شكوى، بل يعذر بعضهم بعضاً، ووجد عند بعضهم أربعمائة رأس وهلك كثير من الأطباء الذين يستدعون إلى المرضى، فكانوا يذبحون ويؤكلون، كان الرجل يستدعى الطبيب ثم يذبحه ويأكله، وقد استدعى رجل طبيباً حاذقاً وكان الرجل موسراً من أهل المال، فذهب الطبيب معه على وجلٍ وخوفٍ، فجعل الرجل يتصدق على من لقيه في الطريق ويذكر الله ويسبحه ويكثر من ذلك، فارتاب به الطبيب وتخيل منه، ومع هذا حمله الطمع على الاستمرار معه حتى دخل داره، فإذا هي خربة فارتاب الطبيب أيضاً فخرج صاحبه فقال له‏:‏ ومع هذا البطء جئت لنا بصيد، فلما سمعها الطبيب هرب فخرجا خلفه سراعاً فما خلص إلا بعد جهد وشر‏.‏

وفيها‏:‏ وقع وباء شديد ببلاد عنزة بين الحجاز واليمن، وكانوا عشرين قرية، فبادت منها ثماني عشرة لم يبق فيها ديار ولا نافخ نار، وبقيت أنعامهم وأموالهم لا قاني لها، ولا يستطيع أحد أن يسكن تلك القرى ولا يدخلها، بل كان من اقترب إلى شيء من هذه القرى هلك من ساعته، نعوذ بالله من بأس الله وعذابه وغضبه وعقابه‏.‏

أما القريتان الباقيتان فإنهما لم يمت منهما أحد ولا عندهم شعور بما جرى على من حولهم، بل هم على حالهم لم يفقد منهم أحد فسبحان الحكيم العليم‏.‏

واتفق باليمن في هذه السنة كائنة غريبة جداً، وهي أن رجلاً يقال له عبد الله بن حمزة العلوي كان قد تغلب على كثير من بلاد اليمن، وجمع نحواً من اثني عشر ألف فارس، ومن الرجالة جمعاً كثيراً‏.‏

وخافه ملك اليمن إسماعيل بن طغتكين بن أيوب، وغلب على ظنه زوال ملكه على يدي هذا الرجل، وأيقن بالهلكة لضعفه عن مقاومته، واختلاف أمرائه معه في المشورة، فأرسل الله صاعقة فنزلت عليهم فلم يبق منهم أحد سوى طائفة من الخيالة والرجالة، فاختلف جيشه فيما بينهم فغشيهم المعز فقتل منهم ستة آلاف، واستقر في ملكه آمناً‏.‏

وفيها‏:‏ تكاتب الأخوان الأفضل من صرخد والظاهر من حلب على أن يجتمعا على حصار دمشق وينزعاها من المعظم بن العادل، وتكون للأفضل، ثم يسيرا إلى مصر فيأخذاها من العادل وابنه الكامل اللذين نقضا العهد وأبطلا خطبة المنصور، ونكثا المواثيق، فإذا أخذا مصر كانت للأفضل وتصير دمشق مضافة إلى الظاهر مع حلب‏.‏

فلما بلغ العادل ما تمالآ عليه أرسل جيشاً مدداً لابنه المعظم عيسى إلى دمشق، فوصلوا إليها قبل وصول الظاهر وأخيه إليها، وكان وصولهما إليها في ذي القعدة من ناحية بعلبك، فنزلا على مسجد القدم واشتد الحصار للبلد، وتسلق كثير من الجيش من ناحية خان القدم، ولم يبق إلا فتح البلد، لولا هجوم الليل‏.‏

ثم إن الظاهر بدا له في كون دمشق للأفضل فرأى أن تكون له أولاً، ثم إذا فتحت مصر تسلمها الأفضل، فأرسل إليه في ذلك فلم يقبل الأفضل، فاختلفا وتفرقت كلمتهما، وتنازعا الملك بدمشق، فتفرقت الأمراء عنهما، وكوتب العادل في الصلح فأرسل يجيب إلى ما سألا وزاد في إقطاعهما شيئاً من بلاد الجزيرة، وبعض معاملة المعرة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/34‏)‏

وتفرقت العساكر عن دمشق في محرم سنة ثمان وتسعين، وسار كل منهما إلى ما تسلم من البلاد التي أقطعها وجرت خطوب يطول شرحها، وقد كان الظاهر وأخوه كتبا إلى صاحب الموصل نور الدين أرسلان الأتابكي أن يحاصر مدن الجزيرة التي مع عمهما العادل‏.‏

فركب في جيشه وأرسل إلى ابن عمه قطب الدين صاحب سنجار، واجتمع معهما صاحب ماردين الذي كان العادل قد حاصره وضيق عليه مدة طويلة، فقصدت العساكر حران، وبها الفائز بن العادل، فحاصروه مدة، ثم لما بلغهم وقوع الصلح عدلوا إلى المصالحة، وذلك بعد طلب الفائز ذلك منهم، وتمهدت الأمور واستقرت على ما كانت عليه‏.‏

وفيها‏:‏ ملك غياث الدين وأخوه شهاب الدين الغوريان جميع ما كان يملك خوارزم شاه من البلدان والحواصل والأموال، وجرت لهم خطوب طويلة جداً‏.‏

وفيها‏:‏ كانت زلزلة عظيمة ابتدأت من بلاد الشام إلى الجزيرة وبلاد الروم والعراق، وكان جمهورها وعظمها بالشام تهدمت منها دور كثيرة، وتخربت محال كثيرة، وخسف بقرية من أرض بصرى، وأما سواحل الشام وغيرها فهلك فيها شيء كثير، وأخربت محال كثيرة من طرابلس وصور وعكا ونابلس‏.‏

ولم يبق بنابلس سوى حارة السامرة، ومات بها وبقراها ثلاثون ألفاً تحت الردم، وسقط طائفة كثيرة من المنارة الشرقية بدمشق بجامعها، وأربع عشرة شرافة منه، وغالب الكلاسة والمارستان النوري‏.‏

وخرج الناس إلى الميادين يستغيثون وسقط غالب قلعة بعلبك مع وثاقه بنيانها، وانفرق البحر إلى قبرص وقد حذف بالمراكب منه إلى ساحله، وتعدى إلى ناحية الشرق فسقط بسبب ذلك دور كثيرة، ومات أمم لا يحصون ولا يعدون حتى قال صاحب ‏(‏مرآة الزمان‏)‏‏:‏

إنه مات في هذه السنة بسبب الزلزلة نحو ألف ألف ومائة ألف إنسان قتلاً تحتها، وقيل إن أحداً لم يحص من مات فيها والله سبحانه أعلم‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 عبد الرحمن بن علي

ابن محمد بن علي بن عبيد الله بن عبد الله بن حمادي بن أحمد بن محمد بن جعفر الجوزي - نسبة إلى فرضة نهر البصرة - ابن عبد الله بن القاسم بن النضر بن القاسم بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/35‏)‏

الشيخ الحافظ الواعظ جمال الدين أبو الفرج المشهور بابن الجوزي، القرشي التيمي البغدادي الحنبلي، أحد أفراد العلماء، برز في علوم كثيرة، وانفرد بها عن غيره، وجمع المصنفات الكبار والصغار نحواً من ثلاثمائة مصنف‏.‏

وكتب بيده نحواً من مائتي مجلدة، وتفرد بفن الوعظ الذي لم يسبق إليه ولا يلحق شأوه فيه وفي طريقته وشكله، وفي فصاحته وبلاغته وعذوبته وحلاوة ترصيعه ونفوذ وعظه وغوصه على المعاني البديعة، وتقريبه الأشياء الغريبة فيما يشاهد من الأمور الحسية، بعبارة وجيزة سريعة الفهم والإدراك، بحيث يجمع المعاني الكثيرة في الكلمة اليسيرة‏.‏

هذا وله في العلوم كلها اليد الطولى، والمشاركات في سائر أنواعها من التفسير والحديث والتاريخ والحساب والنظر في النجوم والطب والفقه وغير ذلك من اللغة والنحو، وله من المصنفات في ذلك ما يضيق هذا المكان عن تعدادها، وحصر أفرادها‏.‏

منها‏:‏ كتابه في التفسير المشهور ‏(‏بزاد المسير‏)‏، وله تفسير أبسط منه ولكنه ليس بمشهور، وله ‏(‏جامع المسانيد‏)‏ استوعب به غالب ‏(‏مسند أحمد‏)‏ و ‏(‏صحيحي البخاري ومسلم‏)‏ و‏(‏جامع الترمذي‏)‏، وله كتاب ‏(‏المنتظم في تواريخ الأمم من العرب والعجم‏)‏ في عشرين مجلداً‏.‏

قد أوردنا في كتابنا هذا كثيراً منه من حوادثه وتراجمه، ولم يزل يؤرخ أخبار العالم حتى صار تاريخاً وما أحقه بقول الشاعر‏:‏

ما زلت تدأب في التاريخ مجتهداً * حتى رأيتك في التاريخ مكتوبا

وله مقامات وخطب، وله الأحاديث الموضوعة، وله العلل المتناهية في الأحاديث الواهية، وغير ذلك‏.‏

ولد سنة عشر وخمسمائة، ومات أبوه وعمره ثلاث سنين، وكان أهله تجاراً في النحاس، فلما ترعرع جاءت به عمته إلى مسجد محمد بن ناصر الحافظ، فلزم الشيخ وقرأ عليه وسمع عليه الحديث وتفقه بابن الزاغوني، وحفظ الوعظ ووعظ وهو ابن عشرين سنة أو دونها‏.‏

وأخذ اللغة عن أبي منصور الجواليقي، وكان وهو صبي ديناً مجموعاً على نفسه لا يخالط أحداً ولا يأكل ما فيه شبهة، ولا يخرج من بيته إلا للجمعة، وكان لا يلعب مع الصبيان‏.‏

وقد حضر مجلس وعظه الخلفاء والوزراء والملوك والأمراء والعلماء والفقراء، ومن سائر صنوف بني آدم، وأقل ما كان يجتمع في مجلس وعظه عشرة آلاف، وربما اجتمع فيه مائة ألف أو يزيدون، وربما تكلم من خاطره على البديهة نظماً ونثراً، وبالجملة كان أستاذاً فرداً في الوعظ وغيره‏.‏

وقد كان فيه بهاء وترفع في نفسه وإعجاب وسمو بنفسه أكثر من مقامه، وذلك ظاهر في كلامه في نثره ونظمه، فمن ذلك قوله‏:‏

ما زلت أدرك ما غلا بل ما علا * وأكابد النهج العسير الأطولا

تجري بي الآمال في حلباته * جري السعيد مدى ما أملا

أفضى بي التوفيق فيه إلى الذي * أعيا سواي توصلاً وتغلغلا

لو كان هذا العلم شخصاً ناطقاً * وسألته هل زار مثلي‏؟‏ قال‏:‏ لا

ومن شعره وقيل هو لغيره‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/36‏)‏

إذا قنعت بميسورٍ من القوت * بقيت في الناس حراً غير ممقوت

ياقوت يومي إذا ما در حلقك لي * فلست آسي على درٍ وياقوت

وله من النظم والنثر شيء كثيراً جداً، وله كتاب سماه ‏(‏لقط الجمان في كان وكان‏)‏، ومن لطائف كلامه قوله في الحديث‏:‏ ‏(‏‏(‏أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين‏)‏‏)‏ إنما طالت أعمار من قبلنا لطول البادية، فلما شارف الركب بلد الإقامة قيل لهم حثوا المطي‏.‏

وقال له رجل أيما أفضل‏؟‏ أجلس أسبح أو أستغفر‏؟‏

فقال‏:‏ الثوب الوسخ أحوج إلى البخور‏.‏

وسئل عمن أوصى وهو في السياق فقال‏:‏

هذا طين سطحه في كانون‏.‏

والتفت إلى ناحية الخليفة المستضيء وهو في الوعظ فقال‏:‏

يا أمير المؤمنين إن تكلمت خفت منك، وإن سكت خفت عليك، وإن قول القائل لك اتق الله خير لك من قوله لكم إنكم أهل بيت مغفور لكم، كان عمر بن الخطاب يقول‏:‏

إذا بلغني عن عامل لي أنه ظلم فلم أغيره فأنا الظالم، يا أمير المؤمنين‏.‏

وكان يوسف لا يشبع في زمن القحط حتى لا ينسى الجائع، وكان عمر يضرب بطنه عام الرمادة ويقول قرقرا ولا تقرقرا، والله لا ذاق عمر سمناً ولا سميناً حتى يخصب الناس‏.‏

قال‏:‏ فبكى المستضيء وتصدق بمال كثير، وأطلق المحابيس وكسى خلقاً من الفقراء‏.‏

ولد ابن الجوزي في حدود سنة عشر وخمسمائة كما تقدم، وكانت وفاته ليلة الجمعة بين العشاءين الثاني عشر من رمضان من هذه السنة، وله من العمر سبع وثمانون سنة، وحملت جنازته على رؤوس الناس، وكان الجمع كثيراً جداً، ودفن بباب حرب عند أبيه بالقرب من الإمام أحمد‏.‏

وكان يوماً مشهوداً، حتى قيل‏:‏ إنه أفطر جماعة من الناس من كثرة الزحام وشدة الحر، وقد أوصى أن يكتب على قبره هذه الأبيات‏:‏

يا كثير العفو يا من * كثرت ذنبي لديه

جاءك المذنب يرجو الصـ * ـفح عن جرم يديه

أنا ضيفٌ وجزاء الـ * ـضيف إحسان إليه

وقد كان من الأولاد الذكور ثلاثة‏:‏ عبد العزيز - وهو أكبرهم - مات شاباً في حياة والده في سنة أربع وخمسين، ثم أبو القاسم علي، وقد كان عاقاً لوالده إلباً عليه في زمن المحنة وغيرها، وقد تسلط على كتبه في غيبته بواسط فباعها بأبخس الثمن‏.‏

ثم محيي الدين يوسف، وكان أنجب أولاده وأصغرهم ولد سنة ثمانين وخمسمائة ووعظ بعد أبيه، واشتغل وحرر وأتقن وساد أقرانه، ثم باشر حسبة بغداد، ثم صار رسول الخلفاء إلى الملوك بأطراف البلاد، ولا سيما بني أيوب بالشام‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/37‏)‏

وقد حصل منهم من الأموال والكرامات ما ابتنى به المدرسة الجوزية بالنشابين بدمشق، وما أوقف عليها، ثم حصل له من سائر الملوك أموالاً جزيلة، ثم صار أستاذ دار الخليفة المستعصم في سنة أربعين وستمائة، واستمر مباشرها إلى أن قتل مع الخليفة عام هارون تركي بن جنكيز خان‏.‏

وكان لأبي الفرج عدة بنات منهن رابعة أم سبطه أبي المظفر بن قزغلي صاحب ‏(‏مرآة الزمان‏)‏، وهي من أجمع التواريخ وأكثرها فائدة، وقد ذكره ابن خلكان في الوفيات فأثنى عليه وشكر تصانيفه وعلومه‏.‏

 العماد الكاتب الأصبهاني

محمد بن محمد بن حامد بن محمد بن عبد الله بن علي بن محمود بن هبة الله بن أله - بتشديد اللام وضمها -، المعروف بالعماد الكاتب الأصبهاني، صاحب المصنفات والرسائل، وهو قرين القاضي الفاضل، واشتهر في زمنه، ومن اشتهر في زمن الفاضل فهو فاضل، ولد بأصبهان في سنة تسع عشرة وخمسمائة‏.‏

وقدم بغداد فاشتغل بها على الشيخ أبي منصور سعيد بن الرزاز مدرّس النظامية، وسمع الحديث ثم رحل إلى الشام فحظي عند الملك نور الدين محمود بن زنكي، وكتب بين يديه وولاه المدرسة التي أنشأها داخل باب الفرج التي يقال لها العمادية، نسبة إلى سكناه بها وإقامته فيها، وتدريسه بها، لا أنه أنشأها وإنما أنشأها نور الدين محمود‏.‏

ولم يكن هو أول من درّس بها، بل قد سبقه إلى تدريسها غير واحد، كما تقدم في ترجمة نور الدين، ثم صار العماد كاتباً في الدولة الصلاحية وكان الفاضل يثني عليه ويشكره‏.‏

قالوا‏:‏ وكان منطوقه يعتريه جمود وفترة، وقريحته في غاية الجودة والحدة، وقد قال القاضي الفاضل لأصحابه يوماً‏:‏ قولوا فتكلموا وشبهوه في هذه الصفة بصفات فلم يقبلها القاضي‏.‏

وقال‏:‏ هو كالزناد ظاهره بارد وداخله نار، وله من المصنفات الجريدة ‏(‏جريدة النصر في شعراء العصر‏)‏ و‏(‏الفتح القدسي‏)‏، و‏(‏البرق الشامي‏)‏، وغير ذلك من المصنفات المسجعة، والعبارات المتنوعة والقصائد المطولة‏.‏

توفي في مستهل رمضان من هذه السنة عن ثمان وسبعين سنة، ودفن بمقابر الصوفية‏.‏

 الأمير بهاء الدين قراقوش

الفحل الخصي، أحد كبار كتاب أمراء الدولة الصلاحية، كان شهماً شجاعاً فاتكاً‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 13/38‏)‏

تسلم القصر لما مات العاضد وعمر سور القاهرة محيطاً على مصر أيضاً، وانتهى إلى المقسم وهو المكان الذي اقتسمت فيه الصحابة ما غنموا من الديار المصرية، وبنى قلعة الجبل، وكان صلاح الدين سلمه عكا ليعمر فيها أماكن كثيرة فوقع الحصار وهو بها‏.‏

فلما خرج البدل منها كان هو من جملة من خرج، ثم دخلها ابن المشطوب‏.‏

وقد ذكر أنه أسر فافتدى نفسه بعشرة آلاف دينار، وعاد إلى صلاح الدين ففرح به فرحاً شديداً، ولما توفي في هذه السنة احتاط العادل على تركته وصارت أقطاعه وأملاكه للملك الكامل محمد بن العادل‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وقد نسب إليه أحكام عجيبة، حتى صنف بعضهم جزءاً لطيفاً سماه كتاب ‏(‏الفاشوش في أحكام قراقوش‏)‏، فذكر أشياء كثيرة جداً، وأظنها موضوعة عليه، فإن الملك صلاح الدين كان يعتمد عليه، فكيف يعتمد على من بهذه المثابة والله أعلم‏.‏

 مكلبة بن عبد الله المستنجدي

كان تركياً عابداً زاهداً، سمع المؤذن وقت السحر وهو ينشد على المنارة‏:‏

يا رجال الليل جدوا * رب صوت لا يرد

ما يقوم الليل إلا * من له عزمٌ و جد

فبكى مكلبة وقال للمؤذن‏:‏ يا مؤذن زدني، فقال‏:‏

قد مضى الليل وولى * وحبيبي قد تخلا

فصرخ مكلبة صرخة كان فيها حتفه، فأصبح أهل البلد قد اجتمعوا على بابه فالسعيد منهم من وصل إلى نعشه رحمه الله تعالى‏.‏

 أبو منصور بن أبي بكر بن شجاع

المركلسي ببغداد، ويعرف بابن نقطة، كان يدور في أسواق بغداد بالنهار ينشد كان وكان والمواليا، ويسحر الناس في ليالي رمضان، وكان مطبوعاً ظريفاً خليعاً، وكان أخوه الشيخ عبد الغني الزاهد من أكابر الصالحين، له زاوية ببغداد يزار فيها‏.‏

وكان له أتباع ومريدون، ولا يدخر شيئاً يحصل له من الفتوح، تصدق في ليلة بألف دينار وأصحابه صيام لم يدخر منها شيئاً لعشائهم، وزوجته أم الخليفة بجارية من خواصها وجهزتها بعشرة آلاف دينار إليه فما حال الحول وعندهم من ذلك شيء سوى هاون، فوقف سائل ببابه فألح في الطلب فأخرج إليه الهاون فقال‏:‏ خذ هذا وكل به ثلاثين يوماً، ولا تسأل الناس ولا تشنع على الله عز وجل‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/39‏)‏

هذا الرجل من خيار الصالحين، والمقصود أنه قال لأخيه أبي منصور‏:‏ ويحك أنت تدور في الأسواق وتنشد الأشعار وأخوك من قد عرفت‏؟‏

فأنشأ يقول في جواب ذلك بيتين مواليا من شعره على البديهة‏:‏

قد خاب من شبه الجزعة إلى درةٍ * وقاس قحبةً إلى مستحييةٍ حره

أنا مغني وأخي زاهد إلى مرةٍ * في الدر ببرى ذي حلوة وذي مره

وقد جرى عنده مرة ذكر قتل عثمان وعلي حاضر فأنشأ يقول كان وكان، ومن قتل في جواره مثل ابن عفان فاعتذر، يجب عليه أن يقبل في الشام عذر يزيد، فأرادت الروافض قتله فاتفق أنه بعض الليالي يسحر الناس في رمضان إذ مر بدار الخليفة فعطس الخليفة في الطارقة فشمّته أبو منصور هذا من الطريق، فأرسل إليه مائة دينار، ورسم بحمايته من الروافض، إلى أن مات في هذه السنة رحمه الله‏.‏

وفيها توفي مسند الشام‏:‏

 أبو طاهر بركات بن إبراهيم بن طاهر

الخشوعي، شارك ابن عساكر في كثير من مشيخته، وطالت حياته بعد وفاته بسبع وعشرين سنة فألحق فيها الأحفاد بالأجداد‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وخمسمائة

فيها‏:‏ شرع الشيخ أبو عمر محمد بن قدامة باني المدرسة بسفح قاسيون، في بناء المسجد الجامع بالسفح، فاتفق عليه رجل يقال له الشيخ أبو داود محاسن الغامي، حتى بلغ البناء مقدار قامة فنفد ما عنده، وما كان معه من المال‏.‏

فأرسل الملك المظفر كوكري بن زين الدين صاحب إربل مالاً جزيلاً ليتمه به، فكمل وأرسل ألف دينار ليساق بها إليه الماء من بردى، فلم يمكن من ذلك الملك المعظم صاحب دمشق، واعتذر بأن هذا فرش قبور كثيرة للمسلمين، فصنع له بئر وبغل يدور، ووقف عليه وقفاً لذلك‏.‏

وفيها‏:‏ كانت حروب كثيرة وخطوب طويلة بين الخوارزمية والغورية ببلاد المشرق بسطها ابن الأثير واختصرها ابن كثير‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/40‏)‏

وفيها‏:‏ درس بالنظامية مجد الدين يحيى بن الربيع وخلع عليه خلعة سنية سوداء وطرحة كحلي، وحضر عنده العلماء والأعيان‏.‏

وفيها‏:‏ تولى القضاء ببغداد أبو الحسن علي بن سليمان الجيلي وخلع عليه أيضاً‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 القاضي ابن الزكي

محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن عبد العزيز أبو المعالي القرشي، محيي الدين قاضي قضاة دمشق وكل منهما كان قاضياً أبوه وجده وأبو جده يحيى بن علي، وهو أول من ولي الحكم بدمشق منهم، وكان هو جد الحافظ أبي القاسم بن عساكر لأمه، وقد ترجمه ابن عساكر في التاريخ ولم يزد على القرشي‏.‏

قال الشيخ أبو شامة‏:‏ ولو كان أموياً عثمانياً كما يزعمون لذكر ذلك ابن عساكر، إذ كان فيه شرف لجده وخاليه محمد وسلطان، فلو كان ذلك صحيحاً لما خفي على ابن عساكر، اشتغل ابن الزكي على القاضي شرف الدين أبي سعد عبد الله بن محمد بن أبي عصرون، وناب عنه في الحكم، وهو أول من ترك النيابة، وهو أول من خطب بالقدس لما فتح كما تقدم‏.‏

ثم تولى قضاء دمشق وأضيف إليه قضاء حلب أيضاً، وكان ناظر أوقاف الجامع، وعزل عنها قبل وفاته بشهور ووليها شمس الدين بن الليثي ضماناً، وقد كان ابن الزكي ينهى الطلبة عن الاشتغال بالمنطق وعلم الكلام، ويمزق كتب من كان عنده شيء من ذلك بالمدرسة النورية‏.‏

وكان يحفظ العقيدة المسماة ‏(‏بالمصباح‏)‏ للغزالي، ويحفظها أولاده أيضاً، وكان له درس في التفسير يذكره بالكلاسة، تجاه تربة صلاح الدين، ووقع بينه وبين الإسماعيلية فأرادوا قتله فاتخذ له باباً من داره إلى الجامع ليخرج منه إلى الصلاة‏.‏

ثم إنه خولط في عقله، فكان يعتريه شبه الصرع إلى أن توفي في شعبان من هذه السنة، ودفن بتربته بسفح قاسيون ويقال إن الحافظ عبد الغني دعا عليه فحصل له هذا الداء العضال، ومات، وكذلك الخطيب الدولعي توفي فيها وهما اللذان قاما على الحافظ عبد الغنى فماتا في هذه السنة، فكانا عبرة لغيرهما‏.‏

 الخطيب الدولعي

ضياء الدين أبو القاسم عبد الملك بن زيد بن ياسين الثعلبي الدولعي، نسبة إلى قرية بالموصل، يقال لها الدولعية، ولد بها في سنة ثمان عشرة وخمسمائة، وتفقه ببغداد على مذهب الشافعي وسمع الحديث فسمع الترمذي على أبي الفتح الكروخي والنسائي على أبي الحسن علي بن أحمد البردي، ثم قدم دمشق فولى بها الخطابة وتدريس الغزالية‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/ 41‏)‏

وكان زاهداً متورعاً حسن الطريقة مهيباً في الحق، توفي يوم الثلاثاء تاسع عشر ربيع الأول، ودفن بمقبرة باب الصغير عند قبور الشهداء، وكان يوم جنازته يوماً مشهوداً‏.‏

وتولى بعده الخطابة ولد أخيه محمد بن أبي الفضل بن زيد سبعاً وثلاثين سنة، وقيل ولده جمال الدين محمد‏.‏

وقد كان ابن الزكي ولى ولده الزكي فصلى صلاة واحدة فتشفع جمال الدين بالأمير علم الدين أخي العادل، فولاه إياها فبقي فيها إلى أن توفي سنة خمس وثلاثين وستمائة‏.‏

 الشيخ علي بن علي بن عليش

اليمني العابد الزاهد، كان مقيماً شرقي الكلاسة، وكانت له أحوال وكرامات، نقلها الشيخ علم الدين السخاوي عنه، ساقها أبو شامة عنه‏.‏

 الصدر أبو الثناء حماد بن هبة الله

ابن حماد الحراني، التاجر، ولد سنة إحدى عشرة عام نور الدين الشهيد، وسمع الحديث ببغداد ومصر وغيرها من البلاد، وتوفي في ذي الحجة، ومن شعره قوله‏:‏

تنقُّل المرء في الآفاق يكسبه * محاسناً لم يكن منها ببلدته

أما ترى البيدق الشطرنج أكسبه * حسن التنقّل حسناً فوق زينته

 الست الجليلة ينفشا بنت عبد الله

عتيقة المستضيء، كانت من أكبر حظاياه، ثم صارت بعده من أكثر الناس صدقة وبراً وإحساناً إلى العلماء والفقراء، لها عند تربتها ببغداد عند تربة معروف الكرخي صدقات وبر‏.‏

 ابن المحتسب الشاعر أبو السكر

محمود بن سليمان بن سعيد الموصلي يعرف بابن المحتسب، تفقه ببغداد ثم سافر إلى البلاد وصحب ابن الشهرزوري وقدم معه، فلما ولي قضاء بغداد ولاه نظر أوقاف النظامية، وكان يقول الشعر، وله أشعار في الخمر لا خير فيها تركتها تنزها عن ذلك، وتقذراً لها‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع وتسعين وخمسمائة

قال سبط ابن الجوزي في مرآته‏:‏ في ليلة السبت سلخ المحرم هاجت النجوم في السماء وماجت شرقاً وغرباً، وتطايرت كالجراد المنتشر يميناً وشمالاً، قال‏:‏ ولم ير مثل هذا إلا في عام المبعث، وفي سنة إحدى وأربعين ومائتين‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/42‏)‏‏.‏

وفيها‏:‏ شرع بعمارة سور قلعة دمشق وابتدئ ببرج الزاوية الغربية القبلية المجاور لباب النصر‏.‏

وفيها‏:‏ أرسل الخليفة الناصر الخلع وسراويلات الفتوة إلى الملك العادل وبنيه‏.‏

وفيها بعث العادل ولده موسى الأشرف لمحاصرة ماردين، وساعده جيش سنجار والموصل ثم وقع الصلح على يدي الظاهر، على أن يحمل صاحب ماردين في كل سنة مائة ألف وخمسين ألف دينار، وأن تكون السكة والخطبة للعادل، وأنه متى طلبه بجيشه يحضر إليه‏.‏

وفيها‏:‏ كمل بناء رباط الموريانية، ووليه الشيخ شهاب الدين عمر بن محمد الشهرزوري، ومعه جماعة من الصوفية، ورتب لهم من المعلوم والجراية ما ينبغي لمثلهم‏.‏ وفيها‏:‏ احتجر الملك العادل على محمد بن الملك العزيز وإخوته وسيرهم إلى الرها خوفا من آفائهم بمصر‏.‏

وفيها‏:‏ استحوذت الكرج على مدينة دوين فقتلوا أهلها ونهبوها، وهي من بلاد أذربيجان، لاشتغال ملكها بالفسق وشرب الخمر قبحه الله، فتحكمت الكفرة في رقاب المسلمين بسببه، وذلك كله غل في عنقه يوم القيامة‏.‏

 وفيها توفي‏:‏

 الملك غياث الدين الغوري أخو شهاب الدين

فقام بالملك بعده ولده محمود، وتلقب بلقب أبيه، وكان غياث الدين عاقلا حازما شجاعا، لم تكسر له راية مع كثرة حروبه، وكان شافعي المذهب، ابتنى مدرسة هائلة للشافعية، وكانت سيرته حسنة في غاية الجودة‏.‏

وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 الأمير علم الدين أبو منصور

سليمان بن شيروه بن جندر أخو الملك العادل لأبيه، في تاسع عشر من المحرم، ودفن بداره التي خطها مدرسة في داخل باب الفراديس في محلة الافتراس، ووقف عليها الحمام بكمالها تقبل الله منه‏.‏

 القاضي الضياء الشهرزوري

أبو الفضائل القاسم بن يحيى بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري الموصلي، قاضي قضاة بغداد، وهو ابن أخي قاضي قضاة دمشق كمال الدين الشهرزوري، أيام نور الدين‏.‏ ولما توفي سنة ست وسبعين في أيام صلاح الدين أوصى لولد أخيه هذا بالقضاء فوليه، ثم عزل عنه بابن أبي عصرون، وعوض بالسفارة إلى الملوك، ثم تولى قضاء بلدة الموصل، ثم استدعى إلى بغداد فوليها سنتين وأربعة أشهر، ثم استقال الخليفة فلم يقله لحظوته عنده، فاستشفع في زوجته ست الملوك على أم الخليفة، وكان لها مكانة عندها، فأجيب إلى ذلك فصار إلى قضاء حماه لمحبته إياها، وكان يعاب عليه ذلك، وكانت لديه فضائل وله أشعار رائقة، توفي في حماه في نصف رجب منها‏.‏

 عبد الله بن علي بن نصر بن حمزة

أبو بكر البغدادي المعروف بابن المرستانية، أحد الفضلاء المشهورين‏.‏ سمع الحديث وجمعه، وكان طبيباً منجماً يعرف علوم الأوائل وأيام الناس، وصنف ديوان الإسلام في تاريخ دار السلام، ورتبه على ثلاثمائة وستين كتاباً إلا أنه لم يشتهر، وجمع سيرة ابن هبيرة، وقد كان يزعم أنه من سلالة الصديق فتكلموا فيه بسبب ذلك‏.‏ وأنشد بعضهم‏:‏

دع الأنساب لا تعرض لتيم * فإن الهجن من ولد الصميم

لقد أصبحت من تيم دعياً * كدعوى حيص بيص إلى تميم

 ابن النجا الواعظ

علي بن إبراهيم بن نجا زين الدين أبو الحسن الدمشقي، الواعظ الحنبلي، قدم بغداد فتفقه بها وسمع الحديث ثم رجع إلى بلده دمشق، ثم عاد إليها رسولاً من جهة نور الدين في سنة أربع وستين، وحدث بها، ثم كانت له حظوة عند صلاح الدين، وهو الذي نم على عمارة اليمني وذويه فصلبوا، وكانت له مكانة بمصر، وقد تكلم يوم الجمعة التي خطب فيها بالقدس بعد الفراغ من الجمعة، وكان وقتاً مشهوداً، وكان يعيش عيشاً أطيب من عيش الملوك في الأطعمة والملابس، وكان عنده أكثر من عشرين سرية من أحسن النساء، كل واحدة بألف دينار، فكان يطوف عليهن ويغشاهن وبعد هذا كله مات فقيراً لم يخلف كفناً، وقد أنشد وهو على منبره للوزير طلائع بن زريك‏:‏

مشيبك قد قضى شرخ الشباب * وحل الباز في وكر الغراب

تنام ومقلة الحدثان يقظى * وما ناب النوائب عنك ناب

فكيف بقاء عمرك وهو كنز * وقد أنفقت منه بلا حساب‏؟‏

 الشيخ أبو البركات ‏(‏محمد بن أحمد بن سعيد التكريتي‏)‏ يعرف بالمؤيد، كان أديباً شاعراً‏.‏ ومما نظمه في الوجيه النحوي حين كان حنبلياً فانتقل حنفياً، ثم صار شافعياً، نظم ذلك في حلقة النحو بالنظامية فقال‏:‏

ألا مبلغا عني الوجيه رسالة * وإن كان لا تجدي لديه الرسائل

تمذهبت للنعمان بعد ابن حنبل * وذلك لما أعوزتك المآكل

وما اخترت قول الشافعي ديانة * ولكنما تهوى الذي هو حاصل

وعما قليل أنت لا شك صائر * إلى مالك فانظر إلى ما أنت قائل‏؟‏

 الست الجيلية زمرد خاتون ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/44‏)‏

أم الخليفة الناصر لدين الله زوجة المستضيئ، كانت صالحة عابدة كثيرة البر والإحسان والصلات والأوقاف، وقد بنت لها تربة إلى جانب قبر معروف، وكانت جنازتها مشهورة جداً، واستمر العزاء بسببها شهراً، عاشت في خلافة ولدها أربعاً وعشرين سنة نافذة الكلمة مطاعة الأوامر‏.‏

وفيها‏:‏ كان مولد الشيخ شهاب الدين أبي شامة، وقد ترجم نفسه عند ذكر مولده في هذه السنة في الذيل ترجمة مطولة، فينقل إلى سنة وفاته، وذكر بدو أمره واشتغاله ومصنفاته وشيئاً كثيراً من شعاره، وما رئي له من المنامات المبشرة‏.‏

وفيها‏:‏ كان ابتداء ملك جنكيز خان ملك التتار، عليه من الله ما يستحقه، وهو صاحب الباسق وضعها ليتحاكموا إليها - يعني التتار ومن معهم من أمراء الترك - ممن يبتغي حكم الجاهلية - وهو والد تولى، وجد هولاكو بن تولى - الذي قتل الخليفة المستعصم وأهل بغداد في سنة ست وخمسين وستمائة كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في موضعه‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

 سنة ستمائة من الهجرة

في هذه السنة كانت الفرنج قد جمعوا خلقاً منهم ليستعيدوا بيت المقدس من أيدي المسلمين، فأشغلهم الله عن ذلك بقتال الروم، وذلك أنهم اجتازوا في طريقهم بالقسطنطينية فوجدوا ملوكها قد اختلفوا فيما بينهم، فحاصروها حتى فتحوها قسراً، وأباحوها ثلاثة أيام قتلاً وأسراً، وأحرقوا أكثر من ربعها، وما أصبح أحد من الروم في هذه الأيام الثلاثة إلا قتيلاً أو فقيراً أو مكبولاً أو أسيراً، ولجأ عامة من بقي منها إلى كنيستها العظمى المسماة بأياصوفيا، فقصدهم الفرنج فخرج إليهم القسيسون بالأناجيل ليتوسلوا إليهم ويتلوا ما فيها عليهم، فما التفتوا إلى شيء من ذلك، بل قتلوهم أجمعين أكتعين أبصعين‏.‏ وأخذوا ما كان في الكنيسة من الحلي والأذهاب والأموال التي لا تحصى ولا تعد، وأخذوا ما كان على الصلبان والحيطان، والحمد لله الرحيم الرحمن، الذي ما شاء كان، ثم اقترع ملوك الفرنج وكانوا ثلاثة وهم دوق البنادقة، وكان شيخاً أعمى يقاد فرسه، ومركيس الإفرنسيس وكندا بلند، وكان أكثرهم عدداً وعدداً‏.‏ فخرجت القرعة له ثلاث مرات فولوه ملك القسطنطينية وأخذ الملكان الآخران بعض البلاد، وتحول الملك من الروم إلى الفرنج بالقسطنطينية في هذه السنة ولم يبق بأيدي الروم هناك إلا ما وراء الخليج، استحوذ عليه رجل من الروم يقال له تسكرى، ولم يزل مالكاً لتلك الناحية حتى توفي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/45‏)‏

ثم إن الفرنج قصدوا بلاد الشام وقد تقووا بملكهم القسطنطينية فنزلوا عكا وأغاروا على كثير من بلاد الإسلام من ناحية الغور وتلك الأراضي، فقتلوا وسبوا، فنهض إليهم العادل وكان بدمشق، واستدعى الجيوش المصرية والشرقية ونازلهم بالقرب من عكا، فكان بينهم قتال شديد وحصار عظيم، ثم وقع الصلح بينهم والهدنة وأطلق لهم شيئاً من البلاد فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وفيها‏:‏ جرت حروب كثيرة بين الخوارزمية والغورية بالمشرق يطول ذكرها‏.‏

وفيها‏:‏ تحارب صاحب الموصل نور الدين وصاحب سنجار قطب الدين وساعد الأشرف بن العادل القطب، ثم اصطلحوا وتزوج الأشرف أخت نور الدين، وهي الأتابكية بنت عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي، واقفة الأتابكية التي بالسفح، وبها تربتها‏.‏

وفيها‏:‏ كانت زلزلة عظيمة بمصر والشام والجزيرة وقبرص وغيرها من البلاد‏.‏ قاله ابن الأثير في ‏(‏كامله‏)‏‏.‏

وفيها‏:‏ تغلب رجل من التجار يقال له محمود بن محمد الحميري على بعض بلاد حضرموت ظفار وغيرها، واستمرت أيامه إلى سنة تسع عشرة وستمائة وما بعدها‏.‏

وفي جمادى الأولى منها عقد مجلس لقاضي القضاة ببغداد وهو أبو الحسن علي بن عبد الله بن سليمان الجيلي بدار الوزير، وثبت عليه محضر بأنه يتناول الرشا فعزل في ذلك المجلس وفسق ونزعت الطرحة عن رأسه، وكانت مدة ولايته سنتين وثلاثة أشهر‏.‏

وفيها كانت وفاة الملك ركن الدين بن قلج أرسلان كان ينسب إلى اعتقاد الفلاسفة، وكان كهفاً لمن ينسب إلى ذلك، وملجأ لهم، وظهر منه قبل موته تجهرم عظيم، وذلك أنه حاصر أخاه شقيقه - وكان صاحب أنكورية، وتسمى أيضاً أنقرة - مدة سنين حتى ضيق عليه الأقوات بها فسلمها إليه قسراً، على أن يعطيه بعض البلاد‏.‏

فلما تمكن منه ومن أولاده أرسل إليهم من قتلهم غدراً وخديعة ومكراً فلم ينظر بعد ذلك إلا خمسة أيام فضربه الله تعالى بالقولنج سبعة أيام ومات ‏{‏فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 29‏]‏

وقام بالملك من بعده ولده أفلح أرسلان، وكان صغيراً فبقي سنة واحدة، ثم نزع منه الملك وصار إلى عمه كنخسروا‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/46‏)‏

وفيها‏:‏ قتل خلق كثير من الباطنية بواسط‏.‏

قال ابن الأثير‏:‏ في رجب منها اجتمع جماعة من الصوفية برباط ببغداد في سماع فأنشدهم، وهو الجمال الحلي‏:‏

أعاذلتي أقصري * كفى بمشيبي عذل

شباب كأن لم يكن * وشيب كأن لم يزل

وبثي ليال الوصا * ل أواخرها والأول

وصفرة لون المحبـ * ـب عند استماع الغزل

لئن عاد عتبي لكم * حلالي العيش واتصل

فلست أبالي بما نالني * ولست أبالي بأهل ومل

قال فتحرك الصوفية على العادة فتواجد من بينهم رجل يقال له أحمد الرازي فخر مغشياً عليه، فحركوه فإذا هو ميت‏.‏ قال‏:‏ وكان رجلاً صالحاً، وقال ابن الساعي كان شيخاً صالحاً صحب الصدر عبد الرحيم شيخ الشيوخ فشهد الناس جنازته، ودفن بباب إبرز‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 أبو القاسم بهاء الدين

الحافظ ابن الحافظ أبو القاسم علي بن هبة الله بن عساكر، كان مولده في سنة سبع وعشرين وخمسمائة، أسمعه أبوه الكثير، وشارك أباه في أكثر مشايخه، وكتب تاريخ أبيه مرتين بخطه، وكتب الكثير وأسمع وصنف كتباً عدة، وخلف أباه في إسماع الحديث بالجامع الأموي، ودار الحديث النورية‏.‏

مات يوم الخميس ثامن صفر ودفن بعد العصر على أبيه بمقابر باب الصغير شرقي قبور الصحابة خارج الحظيرة‏.‏

 الحافظ عبد الغني المقدسي

ابن عبد الواحد بن علي بن سرور الحافظ أبو محمد المقدسي، صاحب التصانيف المشهورة، من ذلك الكمال في أسماء الرجال، والأحكام الكبرى والصغرى وغير ذلك، ولد بجماعيل في ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، وهو أسن من عميه الإمام موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي، والشيخ أبي عمر، بأربعة أشهر، ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/47‏)‏

وكان قدومهما مع أهلهما من بيت المقدس إلى مسجد أبي صالح، خارج باب شرقي أولاً، ثم انتقلوا إلى السفح فعرفت محلة الصالحية بهم، فقيل لها الصالحية فسكنوا الدير، وقرأ الحافظ عبد الغني القرآن وسمع الحديث وارتحل هو والموفق إلى بغداد سنة ستين وخمسمائة، فأنزلهما الشيخ عبد القادر عنده في المدرسة، وكان لا يترك أحداً ينزل عنده، ولكن توسم فيهما الخير والنجابة والصلاح فأكرمهما وأسمعهما‏.‏

ثم توفي بعد مقدمهما بخمسين ليلة رحمه الله، وكان ميل عبد الغني إلى الحديث وأسماء الرجال، وميل الموفق إلى الفقه واشتغلا على الشيخ أبي الفرج ابن الجوزي، وعلى الشيخ أبي الفتح ابن المنى، ثم قدما دمشق بعد أربع سنين فدخل عبد الغني إلى مصر وإسكندرية، ثم عاد إلى دمشق، ثم ارتحل إلى الجزيرة وبغداد، ثم رحل إلى أصبهان فسمع بها الكثير، ووقف على مصنف للحافظ أبي نعيم في أسماء الصحابة‏.‏

قلت‏:‏ وهو عندي بخط أبي نعيم‏.‏ فأخذ في مناقشته في أماكن من الكتاب في مائة وتسعين موضعاً، فغضب بنو الخجندي من ذلك، فبغضوه وأخرجوه منها مختفياً في إزار‏.‏ ولما دخل في طريقه إلى الموصل سمع كتاب العقيلي في الجرح والتعديل، فثار عليه الحنفية بسبب أبي حنيفة، فخرج منها أيضاً خائفاً يترقب، فلما ورد دمشق كان يقرأ الحديث بعد صلاة الجمعة برواق الحنابلة من جامع دمشق، فاجتمع الناس عليه وإليه، وكان رقيق القلب سريع الدمعة، فحصل له قبول من الناس جداً، فحسده بنو الزكي والدولعي وكبار الدماشقة من الشافعية وبعض الحنابلة، وجهزوا الناصح الحنبلي، فتكلم تحت قبة النسر، وأمروه أن يجهر بصوته مهما أمكنه، حتى يشوش عليه فحول عبد الغني ميعاده إلى بعد العصر، فذكر يوماً عقيدته على الكرسي فثار عليه القاضي ابن الزكي، وضياء الدين الدولعي، وعقدوا له مجلساً في القلعة يوم الاثنين الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة خمس وتسعين‏.‏

وتكلموا معه في مسألة العلو ومسألة النزول، ومسألة ا لحرف والصوت، وطال الكلام وظهر عليهم بالحجة، فقال له برغش نائب القلعة‏:‏ كل هؤلاء على الضلالة وأنت على الحق‏؟‏ قال‏:‏ نعم، فغضب برغش من ذلك وأمره بالخروج من البلد‏.‏

فارتحل بعد ثلاث إلى بعلبك، ثم إلى القاهرة، فآواه الطحانيون فكان يقرأ الحديث بها فثار عليه الفقهاء بمصر أيضاً، وكتبوا إلى الوزير صفي الدين بن شكر فأقر بنفيه إلى المغرب فمات قبل وصول الكتاب يوم الاثنين الثالث والعشرين من ربيع الأول من هذه السنة، وله سبع وخمسون سنة، ودفن بالقرافة عند الشيخ أبي عمرو بن مرزوق رحمهما الله‏.‏

قال السبط‏:‏ كان عبد الغني ورعاً زاهداً عابداً، يصلي كل يوم ثلاثمائة ركعة كورد الإمام أحمد، ويقوم الليل ويصوم عامة السنة، وكان كريماً جواداً لا يدخر شيئاً، ويتصدق على الأرامل والأيتام حيث لا يراه أحد، وكان يرقع ثوبه ويؤثر بثمن الجديد، وكان قد ضعف بصره من كثرة المطالعة والبكاء وكان أوحد زمانه في علم الحديث والحفظ‏.‏

قلت‏:‏ وقد هذب شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي كتابه الكمال في أسماء الرجال - رجال الكتب الستة - بتهذيبه الذي استدرك عليه فيه أماكن كثيرة، نحواً من ألف موضع، وذلك الإمام المزي الذي لا يمارى ولا يجارى، وكتابه التهذيب لم يسبق إلى مثله، ولا يلحق في شكله فرحمهما الله، ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/48‏)‏

فلقد كانا نادرين في زمانهما في أسماء الرجال حفظاً وإتقاناً وسماعاً وإسماعاً وسرداً للمتون وأسماء الرجال، والحاسد لا يفلح ولا ينال منالاً طائلاً‏.‏

قال ابن الأثير وفيها توفي‏:‏

 أبو الفتوح أسعد بن محمود العجلي

صاحب تتمة التتمة أسعد بن أبي الفضل بن محمود بن خلف العجلي الفقيه الشافعي الأصبهاني الواعظ منتخب الدين، سمع الحديث وتفقه وبرع وصنف تتمة التتمة لأبي سعد الهروي، كان زاهداً عابداً، وله شرح مشكلات الوسيط والوجيز، توفي في صفر سنة ستمائة‏.‏

 البناني الشاعر

أبو عبد الله محمد بن المهنا الشاعر المعروف بالبناني، مدح الخلفاء والوزراء وغيرهم، ومدح وكبر وعلت سنه، وكان رقيق الشعر ظريفه قال‏:‏

ظلماً ترى مغرماً في الحب تزجره * وغيره بالهوى أمسيت تنكره

يا عاذل الصب لو عانيت قاتله * لو جنة وعذار كنت تعذره

أفدى الذي بسحر عينيه يعلمني * إذا تصدى لقتلي كيف أسحره

يستمتع الليل في نوم وأسهره * إلى الصباح وينساني وأذكره

 أبو سعيد الحسن بن خلد

ابن المبارك النصراني المازداني الملقب بالوحيد، اشتغل في حداثته بعلم‏:‏ الأوائل وأتقنه وكانت له يد طولى في الشعر الرائق، فمن ذلك قوله قاتله الله‏:‏

أتاني كتاب أنشأته أنامل * حوت أبحرا من فيضها يغرق البحر

فوا عجباً أني التوت فوق طرسه * وما عودت بالقبض أنمله العشر

وله أيضا‏:‏

لقد أثرت صدغاه في لون خده * ولاحا كفئ من وراء جاج

ترى عسكراً للروم في الريح مذ بدت * كطائفة تسعى ليوم هياج

أم الصبح بالليل البهيم موشح * حكى آبنوسا في صحيفة عاج

لقد غار صدغاه على ورد خده * فسيجه من شعره بسياج

الطاووسي صاحب الطريقة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/49‏)‏

 العراقي محمد بن العراقي

ركن الدين أبو الفضل القزويني، ثم الهمداني، المعروف بالطاووسي كان بارعاً في علم الخلاف والجدل والمناظرة، أخذ علم ذلك عن رضي الدين النيسابوري الحنفي، وصنف في ذلك ثلاث تعاليق قال ابن خلكان‏:‏ أحسنهن الوسطى، وكانت إليه الرحلة بهمدان، وقد بنى له بعض الحجبة بها مدرسة تعرف بالحاجبية، ويقال إنه منسوب إلى طاووس بن كيسان التابعي فالله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى وستمائة

فيها عزل الخليفة ولده محمد الملقب بالظاهر عن ولاية العهد بعد ما خطب له سبعة عشر سنة، وولى العهد ولده الآخر علياً، فمات علي عن قريب فعاد الأمر إلى الظاهر، فبويع له بالخلافة بعد أبيه الناصر كما سيأتي في سنة ثلاث وعشرين وستمائة‏.‏

وفيها‏:‏ وقع حريق عظيم بدار الخلافة في خزائن السلاح، فاحترق من ذلك شيء كثير من السلاح والمتعة والمساكن ما يقارب قيمته أربعة آلاف ألف دينار؛ وشاع خبر هذا الحريق في الناس، فأرسلت الملوك من سائر الأقطار هدايا أسلحة إلى الخليفة عوضاً عن ذلك وفوقه من ذلك شيئاً كثيراً‏.‏

وفيها‏:‏ عاثت الكرج ببلاد المسلمين فقتلوا خلقاً، وأسروا آخرين‏.‏

وفيها‏:‏ وقعت الحرب بين أمير مكة قتادة الحسيني، وبين أمير المدينة سالم بن قاسم الحسيني، وكان قتادة قد قصد المدينة فحصر سالماً، فيها فركب إليه سالم بعد ما صلى عندا لحجرة فاستنصر الله عليه، ثم برز إليه فكسره وساق وراءه إلى مكة فحصره بها، ثم إن قتادة أرسل إلى أمراء سالم فأفسدهم عليه فكر سالم راجعاً إلى المدينة سالماً‏.‏

وفيها‏:‏ ملك غياث الدين كيخسرو بن قلج أرسلان بن مسعود بن قلج بلاد الروم واستلبها من ابن أخيه واستقر هو بها وعظم شأنه وقويت شوكته، وكثرت عساكره وأطاعه الأمراء وأصحاب الأطراف، وخطب له الأفضل بن صلاح الدين بسميساط، وسار إلى خدمته‏.‏

واتفق في هذه السنة أن رجلاً ببغداد نزل إلى دجلة يسبح فيها وأعطى ثيابه لغلامه فغرق في الماء فوجد في ورقة بعمامته هذه الأبيات‏:‏

يا أيها الناس كان لي أمل * قصر بي عن بلوغه الأجل

فليتق الله ربه رجل * أمكنه في حياته العمل

ما أنا وحدي بفناء بيت * يرى كل إلى مثله سينتقل

‏(‏ج/ص‏:‏ 13 /50‏)‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 أبو الحسن علي بن عنتر بن ثابت الحلي

المعروف بشميم، كان شيخاً أديباً لغوياً شاعراً جمع من شعره حماسة كان يفضلها على حماسة أبي تمام، وله خمريات يزعم أنها أفحل من التي لأبي نواس‏.‏ قال أبو شامة في الذيل‏:‏ كان قليل الدين ذا حماقة ورقاعة وخلاعة، وله حماسة ورسائل‏.‏ قال ابن الساعي‏:‏ قدم بغداد فأخذ النحو عن ابن الخشاب، حصل منه طرفاً صالحاً، ومن اللغة وأشعار العرب، ثم أقام بالموصل حتى توفي بها‏.‏ ومن شعره‏:‏

لا تسرحن الطرف في مقل المها * فمصارع الآجال في الآمال

كم نظرة أردت وما أخرت * وكم يد قبلت أوان قتال

سنحت وما سمحت بتسليمة * وأغلال التحية فعلة المحتال

وله في التجنيس‏:‏

ليت من طول بالشـ * ـأ م ثواه وثوابه

جعل العود إلى الزو *راء من بعض ثوابه

أترى يوطئني الده * ر ثرى مسك ترابه

وأراني نور عيني * موطئاً لي وثرى به

وله أيضا في الخمر وغيره‏:‏

 أبو نصر محمد بن سعد الله

ابن نصر بن سعيد الأرتاحي، كان سخياً بهياً واعظاً حنبلياً فاضلاً شاعراً مجيداً وله‏:‏

نفس الفتى إن أصلحت أحوالها * كان إلى نيل المنى أحوى لها

وإن تراها سددت أقوالها * كان على حمل العلى أوقى لها

فإن تبدت حال من لها لها * في قبره عند البلى لها لها

 أبو العباس أحمد بن مسعود‏(‏ج/ص‏:‏ 13/51‏)‏

ابن محمد القرطبي الخزرجي، كان إماماً في التفسير والفقه والحساب والفرائض والنحو واللغة والعروض والطب، وله تصانيف حسان، وشعر رائق منه قوله‏:‏

وفي الوجنات ما في الروض لكن * لرونق زهرها معنى عجيب

وأعجب ما التعجب منه * أنى لتيار تحمله عصيب

 أبو الفداء إسماعيل بن برتعس السنجاري

مولى صاحبها عمادا لدين زنكي بن مودود، وكان جندياً حسن الصورة مليح النظم كثير الأدب ومن شعره ما كتب به إلى الأشرف موسى بن العادل يعزيه في أخ له اسمه يوسف‏:‏

دموع المعالي والمكارم أذرفت * وربع العلى قاع لفقدك صفصف

غدا الجود والمعروف في اللحد ثاوياً * غداة ثوى في ذلك اللحد يوسف

متى خطفت يد المنية روحه * وقد كان للأرواح بالبيض يخطف

سقته ليالي الدهر كأس حمامها * وكان بسقي الموت في الحرب يعرف

فوا حسرتا لو ينفع الموت حسرة * ووا أسفا لو كان يجدي التأسف

وكان على الأرزاء نفسي قوية * ولكنها عن حمل ذا الرزء تضعف

 أبو الفضل بن إلياس بن جامع الأربلي

تفقه بالنظامية وسمع الحديث، وصنف التاريخ وغيره، وتفرد بحسن كتابة الشروط، وله فضل ونظم، فمن شعره‏:‏

أممرض قلبي، ما لهجرك آخر ‏؟‏* ومسهر طرفي، هل خيالك زائر‏؟‏

ومستعذب التعذيب جوراً بصده * أما لك في شرع المحبة زاجر‏؟‏

هنيئاً لك القلب الذي قد وقفته * على ذكر أيامي وأنت مسافر

فلا فارق الحزن المبرح خاطري * لبعدك حتى يجمع الشمل قادر

فإن مت فالتسليم مني عليكم * يعاودكم ما كبر الله ذاكر

 أبو السعادات الحلي

التاجر البغدادي الرافضي، كان في كل جمعة يلبس لأمة الحرب ويقف خلف باب داره، ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/52‏)‏

والباب مجاف عليه، والناس في صلاة الجمعة، وهو ينتظر أن يخرج صاحب الزمان من سرداب سامرا -يعني محمد بن الحسن العسكري -ليميل بسيفه في الناس نصرة للمهدي‏.‏

 أبو غالب بن كمنونة اليهودي

الكاتب، كان يزور على خط ابن مقلة من قوة خطه، توفي لعنه الله بمطمورة واسط، ذكره ابن الساعي‏:‏ في تاريخه‏.‏

 ثم دخلت سنة ثنتين وستمائة

فيها وقعت حرب عظيمة بين شهاب الدين محمد بن سام الغوري، صاحب غزنة، وبين بني بوكر أصحاب الجبل الجودي، وكانوا قد ارتدوا عن الإسلام فقاتلهم وكسرهم وغنم منهم شيئاً كثيراً لا يعد ولا يوصف، فاتبعه بعضهم حتى قتله غيلة في ليلة مستهل شعبان منها بعد العشاء‏.‏

وكان رحمه الله من أجود الملوك سيرة وأعقلهم وأثبتهم في الحرب، ولما قتل كان في صحبته فخر الدين الرازي، وكان يجلس للوعظ بحضرة الملك ويعظه، وكان السلطان يبكي حين يقول في آخر مجلسه يا سلطان سلطانك لا يبقى، ولا يبقى الرازي أيضا وإن مردنا جميعاً إلى الله‏.‏

وحين قتل السلطان اتهم الرازي بعض الخاصكية بقتله، فخاف من ذلك والتجأ إلى الوزير مؤيد الملك بن خواجا، فسيره إلى حيث يأمن وتملك غزنة بعده أحد مماليكه تاج الدر، وجرت بعد ذلك خطوب يطول ذكرها، قد استقصاها ابن الأثير وابن الساعي‏.‏

وفيها‏:‏ أغارت الكرج على بلاد المسلمين فوصلوا إلى أخلاط فقتلوا وسبوا وقاتلهم المقاتلة والعامة‏.‏

وفيها‏:‏ سار صاحب إربل مظفر الدين كوكري وصحبته صاحب مراغة لقتال ملك أذربيجان، وهو أبو بكر بن البهلول، وذلك لنكوله عن قتال الكرج وإقباله على السكر ليلاً ونهاراً فلم يقدروا عليه، ثم إنه تزوج في هذه السنة بنت ملك الكرج، فانكف شرهم عنه‏.‏

قال ابن الأثير‏:‏ وكان كما يقال‏:‏ أغمد سيفه وسل أيره‏.‏

وفيها‏:‏ استوزر الخليفة نصير الدين ناصر بن مهدي ناصر العلوي الحسني وخلع عليه بالوزارة وضربت الطبول بين يديه وعلى بابه في أوقات الصلوات‏.‏

وفيها‏:‏ أغار صاحب بلاد الأرمن وهو ابن لاون على بلاد حلب فقتل وسبى ونهب‏.‏

فخرج إليه الملك الظاهر غازي بن الناصر فهرب ابن لاون بين يديه، فهدم الظاهر قلعة كان قد بناها ودكها إلى الأرض‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13 /53‏)‏

وفي شعبان منها هدمت القنطرة الرومانية عند الباب الشرقي، ونشرت حجارتها ليبلط بها الجامع الأموي بسفارة الوزير صفي الدين بن شكر، وزير العادل، وكمل تبليطه في سنة أربع وستمائة‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 شرف الدين أبو الحسن

علي بن محمد بن علي جمال الإسلام الشهرزوري، بمدينة حمص، وقد كان أخرج إليها من دمشق، وكان قبل ذلك مدرساً بالأمينية والحلقة بالجامع تجاه البرادة، وكان لديه علم جيد بالمذهب والخلاف‏.‏

 التقي عيسى بن يوسف

ابن أحمد العراقي الضرير، مدرس الأمينية أيضاً، كان يسكن المنارة الغربية، وكان عنده شاب يخدمه ويقود به فعدم للشيخ دارهم فاتهم هذا الشاب بها فلم يثبت له عنده شيئاً، واتهم الشيخ عيسى هذا بأنه يلوط به، ولم يكن يظن الناس أن عنده من المال شيء، فضاع المال واتهم عرضه‏.‏

فأصبح يوم الجمعة السابع من ذي القعدة مشنوقاً ببيته بالمئذنة الغربية، فامتنع الناس من الصلاة عليه لكونه قتل نفسه، فتقدم الشيخ فخر الدين عبد الرحمن بن عساكر فصلى عليه، فائتم به بعض الناس قال أبو شامة‏:‏ وإنما حمله على ما فعله ذهاب ماله والوقوع في عرضه‏.‏

قال وقد جرى لي أخت هذه القضية فعصمني الله سبحانه بفضله، قال وقد درس بعده في الأمينية الجمال المصري وكيل بيت المال‏.‏

 أبو الغنائم المركيسهلار البغدادي

كان يخدم مع عز الدين نجاح السراي، وحصل أموالاً جزيلة، كان كلما تهيأ له مال اشترى به ملكاً وكتبه باسم صاحب له يعتمد عليه، فلما حضرته الوفاة أوصى ذلك الرجل أن يتولى أولاده وينفق عليهم من ميراثه مما تركه لهم‏.‏

فمرض الموصي إليه بعد قليل فاستدعى الشهود ليشهدهم على نفسه أن ما في يده لورثة أبي الغنائم، فتمادى ورثته بإحضار الشهود وطولوا عليه وأخذته سكتة فمات فاستولى ورثته على تلك الأموال والأملاك، ولم يقضوا أولاد أبي الغنائم منها شيئاً مما ترك لهم‏.‏

 أبو الحسن علي بن سعاد الفارسي ‏(‏ج/ص‏:‏ 13 /54‏)‏

تفقه ببغداد وأعاد بالنظامية وناب في تدريسها واستقل بتدريس المدرسة التي أنشأتها أم الخليفة وأزيد على نيابة القضاء عن أبي طالب البخاري فامتنع فألزم به فباشره قليلاً، ثم دخل يوماً إلى مسجد فلبس على رأسه مئزر صوف، وأمر الوكلاء والجلاوذة أن ينصرفوا عنه، وأشهد على نفسه بعزلها عن نيابة القضاء، واستمر على الإعادة والتدريس رحمه الله‏.‏ وفي يوم الجمعة العشرين من ربيع الأول توفيت‏:‏

 الخاتون

أم السلطان الملك المعظم عيسى بن العادل، فدفنت بالقبة بالمدرسة المعظمية بسفح قاسيون‏.‏

 الأمير مجير الدين طاشتكين المستنجدي

أمير الحاج وزعيم بلاد خوزستان، كان شيخاً خيراً حسن السيرة كثير العبادة، غالياً في التشيع، توفي بتستر ثاني جمادى الآخرة وحمل تابوته إلى الكوفة فدفن بمشهد علي لوصيته بذلك، هكذا ترجمه ابن الساعي في تاريخه‏.‏

وذكر أبو شامة في الذيل‏:‏ أنه طاشتكين بن عبد الله المقتفوي أمير الحاج، حج بالناس ستاً وعشرين سنة، كان يكون في الحجاز كأنه ملك، وقد رماه الوزير ابن يونس بأنه يكاتب صلاح الدين فحبسه الخليفة، ثم تبين له بطلان ما ذكر عنه فأطلقه وأعطاه خوزستان ثم أعاده إلى إمرة الحج‏.‏

وكانت الحلة الشيعية إقطاعه، وكان شجاعاً جواداً سمحاً قليل الكلام، يمضي عليه الأسبوع لا يتكلم فيه بكلمة، وكان فيه حلم واحتمال، استغاث به رجل على بعض نوابه فلم يرد عليه، فقال له الرجل المستغيث‏:‏ أحمار أنت‏؟‏ فقال‏:‏ لا‏.‏ وفيه يقول ابن التعاويذي‏:‏

وأمير على البلاد مولى * لا يجيب الشاكي بغير السكوت

وكلما زاد رفعة حطنا اللـ * ـه بتفيله إلى البهموت

وقد سرق فراشه حياجبه له فأرادوا أن يستقروه عليها، وكان قد رآه الأمير طاشتكين حين أخذها فقال‏:‏ لا تعاقبوا أحدا، قد أخذها من لا يردها، ورآه حين أخذها من لا ينم عليه، وقد كان بلغ من العمر تسعين سنة، واتفق أنه استأجر أرضاً مدة ثلاثمائة سنة للوقف، فقال فيه بعض المضحكين‏:‏ هذا لا يوقن بالموت، عمره تسعون سنة وأستأجر أرضاً ثلاثمائة سنة، فاستضحك القوم والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/55‏)‏