فصل: وقعة فِحل

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 فصل الاختلاف في فتح دمشق صلحاً أو عنوة‏.‏

واختلف العلماء في دمشق هل فتحت صلحاً أو عنوة‏؟‏

فأكثر العلماء على أنه استقر أمرها على الصلح، لأنهم شكوا في المتقدم على الآخر أفتحت عنوة، ثم عدل الروم إلى المصالحة، أو فتحت صلحاً، أو اتفق الاستيلاء من الجانب الآخر قسراً‏؟‏ فلما شكوا في ذلك جعلوها صلحاً احتياطاً‏.‏

وقيل‏:‏ بل جعل نصفها صلحاً، ونصفها عنوة، وهذا القول قد يظهر من صنع الصحابة في الكنيسة العظمى التي كانت أكبر معابدهم حين أخذوا نصفها وتركوا لهم نصفها‏.‏ والله أعلم‏.‏

ثم قيل‏:‏ أن أبا عبيدة هو الذي كتب لهم كتاب الصلح، وهذا هو الأنسب والأشهر، فإن خالداً كان قد عزل عن الإمرة‏.‏

وقيل‏:‏ بل الذي كتب لهم الصلح خالد بن الوليد، ولكن أقره على ذلك أبو عبيدة فالله أعلم‏.‏

وذكر أبو حذيفة إسحاق بن بشر‏:‏ أن الصديق توفي قبل فتح دمشق، وأن عمر كتب إلى أبي عبيدة يعزيه والمسلمين في الصديق، وأنه قد استنابه على من بالشام، وأمره أن يستشير خالداً في الحرب، فلما وصل الكتاب إلى أبي عبيدة كتمه من خالد حتى فتحت دمشق بنحو من عشرين ليلة‏.‏

فقال له خالد‏:‏ يرحمك الله ما منعك أن تعلمني حين جاءك‏؟‏

فقال‏:‏ إني كرهت أن أكسر عليك حربك، وما سلطان الدنيا أريد، ولا للدنيا أعمل، وما ترى سيصير إلى زوال وانقطاع، وإنما نحن إخوان، وما يضر الرجل أن يليه أخوه في دينه ودنياه‏.‏

ومن أعجب ما يذكر ههنا‏:‏ ما رواه يعقوب بن سفيان الفسوي، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا عبد الملك بن محمد، حدثنا راشد بن داود الصنعاني، حدثني أبو عثمان الصنعاني شراحيل بن مرثد قال‏:‏ بعث أبو بكر خالد بن الوليد إلى أهل اليمامة، وبعث يزيد بن أبي سفيان إلى الشام، فذكر الراوي‏.‏

فقال خالد لأهل اليمامة إلى أن قال‏:‏ ومات أبو بكر واستخلف عمر، فبعث أبا عبيدة إلى الشام فقدم دمشق فاستمد أبو عبيدة عمر، فكتب عمر إلى خالد بن الوليد أن يسير إلى أبي عبيدة بالشام، فذكر مسير خالد من العراق إلى الشام كما تقدم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 29‏)‏

وهذا غريب جداً، فإن الذي لا يشك فيه أن الصديق هو الذي بعث أبا عبيدة وغيره من الأمراء إلى الشام، وهو الذي كتب إلى خالد بن الوليد أن يقدم من العراق إلى الشام ليكون مدداً لمن به، وأميراً عليهم ففتح الله تعالى عليه وعلى يديه جميع الشام على ما سنذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

وقال محمد بن عائذ‏:‏ قال الوليد بن مسلم‏:‏ أخبرني صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير‏:‏ أن المسلمين لما افتتحوا مدينة دمشق بعثوا أبا عبيدة بن الجراح وافداً إلى أبي بكر بشيراً بالفتح، فقدم المدينة فوجد أبا بكر قد توفي، واستخلف عمر بن الخطاب، فأعظم أن يتأمر أحد من الصحابة عليه، فولاه جماعة الناس فقدم عليهم، فقالوا‏:‏ مرحباً بمن بعثناه بريداً، فقدم علينا أميراً‏.‏

وقد روى الليث، وابن لهيعة، وحيوة بن شريح، ومفضل بن فضالة، وعمر بن الحارث، وغير واحد، عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الله بن الحكم، عن علي بن رباح، عن عقبة بن عامر‏:‏ أنه بعثه أبو عبيدة بريداً بفتح دمشق، قال‏:‏ فقدمت على عمر يوم الجمعة، فقال لي‏:‏ منذ كم لم تنزع خفيك‏؟‏

فقلت‏:‏ من يوم الجمعة، وهذا يوم الجمعة‏.‏

فقال‏:‏ أصبت السنة‏.‏

قال الليث‏:‏ وبه نأخذ، يعني‏:‏ أن المسح على الخفين للمسافر لا يتأقت بل له أن يمسح عليهما ما شاء، وإليه ذهب الشافعي في القديم‏.‏

وقد روى أحمد، وأبو داود، عن أبي بن عمارة مرفوعاً مثل هذا‏.‏

والجمهور على ما رواه مسلم، عن علي في تأقيت المسح للمسافر ثلاثة أيام بلياليهن، وللمقيم يوم وليلة‏.‏

ومن الناس من فصل بين البريد ومن في معناه وغيره، فقال في الأول‏:‏ لا يتأقت، وفيما عداه يتأقت لحديث عقبة وحديث علي والله أعلم‏.‏

 فصل بعث خالد بن الوليد إلى البقاع لفتحه

ثم إن أبا عبيدة بعث خالد بن الوليد إلى البقاع ففتحه بالسيف، وبعث سرية فالتقوا مع الروم بعين ميسنون، وعلى الروم رجل يقال له‏:‏ سنان، تحدر على المسلمين من عقبة بيروت، فقتل من المسلمين يومئذ جماعة من الشهداء، فكانوا يسمون عين ميسنون عين الشهداء‏.‏

واستخلف أبو عبيدة على دمشق يزيد بن أبي سفيان كما وعده بها الصديق، وبعث يزيد دحية بن خليفة إلى تدمر في سرية ليمهدوا أمرها، وبعث أبا الزهراء القشيري إلى البثينة وحوران، فصالح أهلها‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/30‏)‏

قال أبو عبيدة القاسم بن سلام رحمه الله‏:‏ افتتح خالد دمشق صلحاً، وهكذا سائر مدن الشام كانت صلحاً دون أراضيها‏.‏

فعلى يدي يزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وأبي عبيدة‏.‏

وقال الوليد بن مسلم‏:‏ أخبرني غير واحد من شيوخ دمشق بينما هم على حصار دمشق إذ أقبلت خيل من عقبة السلمية مخمرة بالحرير، فثار إليهم المسلمون فالتقوا فيما بين بيت لهيا والعقبة التي أقبلوا منها، فهزموهم وطردوهم إلى أبواب حمص، فلما رأى أهل حمص ذلك ظنوا أنهم قد فتحوا دمشق‏.‏

فقال لهم أهل حمص‏:‏ إنا نصالحكم على ما صالحتم عليه أهل دمشق ففعلوا‏.‏

وقال خليفة بن خياط‏:‏ حدثني عبد الله بن المغيرة، عن أبيه قال‏:‏ افتتح شرحبيل بن حسنة الأردن كلها عنوة ما خلا طبرية، فإن أهلها صالحوه‏.‏

وهكذا قال ابن الكلبي‏.‏

وقالا بعث أبو عبيدة خالداً فغلب على أرض البقاع، وصالحه أهل بعلبك، وكتب لهم كتاباً‏.‏

وقال ابن المغيرة، عن أبيه‏:‏ وصالحهم على أنصاف منازلهم، وكنائسهم، ووضع الخراج‏.‏

وقال ابن إسحاق وغيره‏:‏ وفي سنة أربع عشرة فتحت حمص وبعلبك صلحاً على يدي أبي عبيدة في ذي القعدة‏.‏

قال خليفة‏:‏ ويقال‏:‏ في سنة خمس عشرة‏.‏

 وقعة فِحل

وقد ذكرها كثير من علماء السير قبل فتح دمشق، وإنما ذكرها الإمام أبو جعفر بن جرير بعد فتح دمشق، وتبع في ذلك سياق سيف بن عمر فيما رواه عن أبي عثمان يزيد بن أسيد الغساني، وأبي حارثة القيسي قالا‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 31‏)‏

خلف الناس يزيد بن أبي سفيان في خيله في دمشق، وسار نحو فحل، وعلى الناس الذين هم بالغور شرحبيل بن حسنة، وسار أبو عبيدة، وقد جعل على المقدمة خالد بن الوليد، وأبو عبيدة على الميمنة، وعمرو بن العاص على الميسرة، وعلى الخيل ضرار بن الأزور، وعلى الرجالة عياض بن غنم، فوصلوا إلى فحل، وهي‏:‏ بلدة بالغور، وقد انحاز الروم إلى بيسان، وأرسلوا مياه تلك الأراضي على هنالك من الأراضي فحال بينهم وبين المسلمين، وأرسل المسلمون إلى عمر يخبرونه بما هم فيه من مصابرة عدوهم، وما صنعه الروم من تلك المكيدة، إلا أن المسلمين في عيش رغيد ومدد كبير وهم على أهبة من أمرهم‏.‏

وأمير هذا الحرب شرحبيل بن حسنة، وهو لا يبيت ولا يصبح إلا على تعبئة‏.‏

وظن الروم أن المسلمين على غرة فركبوا في بعض الليالي ليبيتوهم، وعلى الروم سقلاب بن مخراق، فهجموا على المسلمين فنهضوا إليهم نهضة رجل واحد كأنهم على أهبة دائماً فقاتلوهم حتى الصباح، وذلك اليوم بكماله إلى الليل‏.‏

فلما أظلم الليل فر الروم، وقتل أميرهم سقلاب، وركب المسلمون أكتافهم، وأسلمتهم هزيمتهم إلى ذلك الوحل الذي كانوا قد كادوا به المسلمين فغرقهم الله فيه، وقتل منهم المسلمين بأطراف الرماح ما قارب الثمانين ألفاً لم ينج منهم إلا الشريد، وغنموا منهم شيئاً كثيراً ومالاً جزيلاً‏.‏

وانصرف أبو عبيدة وخالد بمن معهم من الجيوش نحو حمص كما أمر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب‏.‏

واستخلف أبو عبيدة على الأردن شرحبيل بن حسنة، فسار شرحبيل ومعه عمرو بن العاص، فحاصر بيسان فخرجوا إليه فقتل منهم مقتلة عظيمة، ثم صالحوه على مثل ما صالحت عليه دمشق، وضرب عليهم الجزية والخراج على أراضيهم، وكذلك فعل أبو الأعور السلمي بأهل طبرية سواء‏.‏

 ما وقع بأرض العراق آنذاك من القتال

وقد قدمنا أن المثنى بن حارثة لما سار خالد من العراق بمن صحبه إلى الشام، وقد قيل‏:‏ أنه سار بتسعة آلاف، وقيل‏:‏ بثلاثة آلاف، وقيل‏:‏ بسبعمائة، وقيل‏:‏ بأقل إلا أنهم صناديد جيش العراق‏.‏

فأقام المثنى بمن بقي فاستقل عددهم وخاف من سطوة الفرس لولا اشتغالهم بتبديل ملوكهم وملكاتهم، واستبطأ المثنى خبر الصديق فسار إلى المدينة فوجد الصديق في السياق، فأخبره بأمر العراق، فأوصى الصديق عمر أن يندب الناس لقتال أهل العراق‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 32‏)‏

فلما مات الصديق ودفن ليلة الثلاثاء أصبح عمر فندب الناس وحثهم على قتال أهل العراق، وحرضهم ورغبهم في الثواب على ذلك، فلم يقم أحد لأن الناس كانوا يكرهون قتال الفرس لقوة سطوتهم، وشدة قتالهم‏.‏

ثم ندبهم في اليوم الثاني والثالث فلم يقم أحد، وتكلم المثنى بن حارثة فأحسن، وأخبرهم بما فتح الله تعالى على يد خالد من معظم أرض العراق، ومالهم هنالك من الأموال، والأملاك، والأمتعة، والزاد، فلم يقم أحد في اليوم الثالث، فلما كان اليوم الرابع كان أول من انتدب من المسلمين أبو عبيدة بن مسعود الثقفي‏.‏

ثم تتابع الناس في الإجابة، أمر عمر طائفة من أهل المدينة وأمر على الجميع أبا عبيد، هذا ولم يكن صحابياً، فقيل لعمر‏:‏ هلا أمرت عليهم رجلاً من الصحابة‏؟‏

فقال‏:‏ إنما أومر أول من استجاب، إنكم إنما سبقتم الناس بنصرة هذا الدين، وإن هذا هو الذي استجاب قبلكم‏.‏

ثم دعاه فوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيراً، وأمره أن يستشير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يستشير سليط بن قيس فإنه رجل باشر الحروب فسار المسلمون إلى أرض العراق، وهم سبعة آلاف رجل‏.‏

وكتب عمر إلى أبي عبيدة‏:‏ أن يرسل من كان بالعراق ممن قدم مع خالد إلى العراق، فجهز عشرة آلاف عليهم هاشم بن عتبة، وأرسل عمر جرير بن عبد الله البجلي في أربعة آلاف إلى العراق، فقدم الكوفة، ثم خرج منها فواقع هرقران المدار فقتله، وانهزم جيشه، وغرق أكثرهم في دجلة‏.‏

فلما وصل الناس إلى العراق وجدوا الفرس مضطربين في ملكهم، وآخر ما استقر عليه أمرهم أن ملكوا عليهم بوران بنت كسرى بعد ما قتلوا التي كانت قبلها آزرميدخت وفوضت بوران أمر الملك عشر سنين إلى رجل منهم يقال له‏:‏ رستم بن فرخزاذ على أن يقوم بأمر الحرب، ثم يصير الملك إلى آل كسرى، فقبل ذلك‏.‏

وكان رستم هذا منجماً يعرف النجوم وعلمها جيداً، فقيل له‏:‏ ما حملك على هذا‏؟‏ يعنون وأنت تعلم أن هذا الأمر لا يتم لك، فقال‏:‏ الطمع، وحب الشرف‏.‏

 وقعة النمارق

بعث رستم أميراً يقال له‏:‏ جابان، وعلى مجنبته رجلان يقال لأحدهما‏:‏ حشنس ماه، ويقال للآخر‏:‏ مردانشاه وهو خصي أمير حاجب الفرس، فالتقوا مع أبي عبيد بمكان يقال له‏:‏ النمارق - بين الحيرة والقادسية - وعلى الخيل المثنى بن حارثة، وعلى الميسرة عمرو بن الهيثم، فاقتتلوا هنالك قتالاً شديداً، وهزم الله الفرس، وأسر جابان ومردانشاه‏.‏

فأما مردانشاه فإنه قتله الذي أسره‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 33‏)‏

وأما جابان فإنه خدع الذي أسره حتى أطلقه فأمسكه المسلمون وأبوا أن يطلقوه، وقالوا‏:‏ إن هذا هو الأمير وجاؤا به إلى أبي عبيد فقالوا‏:‏ قتله فإنه الأمير‏.‏

فقال‏:‏ وإن كان الأمير فإني لا أقتله‏.‏

وقد أمنه رجل من المسلمين ثم ركب أبو عبيد في آثار من انهزم منهم، وقد لجأوا إلى مدينة كسكر التي لابن خالة كسرى واسمه‏:‏ نرسي فوازرهم نرسي على قتال أبي عبيد، فقهرهم أبو عبيد، وغنم منهم شيئاً كثيراً وأطعمات كثيرة جداً، ولله الحمد‏.‏

وبعث بخمس ما غنم من المال والطعام إلى عمر بن الخطاب بالمدينة‏.‏

وقد قال في ذلك رجل من المسلمين‏:‏

لعمري وما عمري عليَّ بهين * لقد صبحت بالخزي أهل النمارق

بأيدي رجال هاجروا نحو ربهم * يجوسونهم ما بين درنا وبارق

قتلناهم ما بين مرج مسلح * وبين الهواني من طريق التدارق

فالتقوا بمكان بين كسكر والسفاطية وعلى ميمنة نرسي وميسرته ابنا خاله بندويه وبيرويه أولاد نظام، وكان رستم قد جهز الجيوش مع الجالينوس، فلما بلغ أبو عبيد ذلك أعجل نرسي بالقتال قبل وصولهم، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزمت الفرس، وهرب نرسي والجالينوس إلى المدائن بعد وقعة جرت من أبي عبيد مع الجالينوس بمكان يقال له‏:‏ باروسما، فبعث أبو عبيد المثنى بن حارثة، وسرايا أخر إلى متاخم تلك الناحية كنهر جور ونحوها ففتحها صلحاً وقهراً، وضربوا الجزية والخراج، وغنموا الأموال الجزيلة ولله الحمد والمنة‏.‏

وكسروا الجالينوس الذي جاء لنصره جابان غنموا جيشه وأمواله، وكر هارباً إلى قومه حقيراً ذليلاً‏.‏

 وقعة جسر أبي عبيد ومقتل أمير المسلمين وخلق كثير منهم

لما رجع الجالينوس هارباً مما لقي من المسلمين، تذامرت الفرس بينهم، واجتمعوا إلى رستم فأرسل جيشاً كثيفاً عليهم ذا الحاجب بهمس حادويه وأعطاه راية أفريدون وتسمى‏:‏ درفش كابيان، وكانت الفرس تتيمن بها‏.‏

وحملوا معهم راية كسرى، وكانت من جلود النمور عرضها ثمانية أذرع‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 34‏)‏

فوصلوا إلى المسلمين وبينهم النهر، وعليه جسر فأرسلوا‏:‏ إما أن تعبروا إلينا، وإما أن نعبر إليكم‏؟‏

فقال المسلمون لأميرهم أبي عبيد‏:‏ أأمرهم فليعبروا هم إلينا‏.‏

فقال‏:‏ ما هم بأجرأ على الموت منا، ثم اقتحم إليهم فاجتمعوا في مكان ضيق هنالك فاقتتلوا قتالاً شديداً لم يعهد مثله المسلمون في نحو من عشرة آلاف، وقد جاءت الفرس معهم بأفيلة كثيرة عليها الجلاجل، قائمة لتذعر خيول المسلمين فجعلوا كلما حملوا على المسلمين فرت خيولهم من الفيلة، ومما تسمع من الجلاجل التي عليها، ولا يثبت منها إلا القليل على قسر‏.‏

وإذا حمل المسلمون عليهم لا تقدم خيولهم على الفيلة ورشقتهم الفرس بالنبل، فنالوا منهم خلقاً كثيراً، وقتل المسلمون منه مع ذلك ستة آلاف‏.‏

وأمر أبو عبيد المسلمين أن يقتلوا الفيلة أولاً، فاحتوشوها فقتلوها عن آخرها، وقد قدمت الفرس بين أيديهم فيلاً عظيماً أبيض، فتقدم إليه أبو عبيد فضربه بالسيف فقطع ذلومه فحمى الفيل، وصاح صيحة هائلة وحمل فتخبطه برجليه فقتله ووقف فوقه فحمل على الفيل خليفة أبي عبيد الذي كان أوصى أن يكون أميراً بعده فقتل، ثم آخر ثم آخر حتى قتل سبعة من ثقيف كان قد نص أبو عبيد عليهم واحداً بعد واحد، ثم صارت إلى المثنى بن حارثة بمقتضى الوصية أيضاً‏.‏

وقد كانت دومة امرأة أبي عبيد رأت مناماً يدل على ما وقع سواء بسواء‏.‏

فلما رأى المسلمون ذلك وهنوا عند ذلك، ولم يكن بقي إلا الظفر بالفرس، وضعف أمرهم، وذهب ريحهم، وولوا مدبرين، وساقت الفرس خلفهم فقتلوا بشراً كثيراً وانكشف الناس فكان أمراً بليغاً، وجاؤا إلى الجسر فمر بعض الناس‏.‏

ثم انكسر الجسر فتحكم فيمن وراءه الفرس، فقتلوا من المسلمين وغرق في الفرات نحو من أربعة آلاف‏.‏ فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وسار المثنى بن حارثة فوقف عند الجسر الذي جاؤا منه، وكان الناس لما انهزموا جعل بعضهم يلقي بنفسه في الفرات فيغرق‏.‏

فنادى المثنى‏:‏ أيها الناس على هينتكم فإني واقف على فم الجسر لا أجوزه حتى لا يبقى منكم أحد ههنا، فلما عدّى الناس إلى الناحية الأخرى، سار المثنى فنزل بهم أول منزل، وقام يحرسهم هو وشجعان المسلمين، وقد جرح أكثرهم وأثخنوا‏.‏

ومن الناس من ذهب في البرية لا يُدري أين ذهب، ومنهم من رجع إلى المدينة النبوية مذعوراً‏.‏

وذهب بالخبر عبد الله بن زيد بن عاصم المازني إلى عمر بن الخطاب فوجده على المنبر، فقال له عمر‏:‏ ما وراءك يا عبد الله بن زيد‏؟‏

فقال‏:‏ أتاك الخبر اليقين يا أمير المؤمنين، ثم صعد إليه المنبر فأخبره الخبر سراً‏.‏

ويقال‏:‏ كان أول من قدم بخبر الناس عبد الله بن يزيد بن الحصين الحطمي فالله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 35‏)‏

قال سيف بن عمر‏:‏ وكانت هذه الوقعة في شعبان من سنة ثلاث عشرة بعد اليرموك بأربعين يوماً فالله أعلم‏.‏

وتراجع المسلمون بعضهم إلى بعض، وكان منهم من فر إلى المدينة، فلم يؤنب عمر الناس، بل قال‏:‏ إنا فيئكم، وأشغل الله المجوس بأمر ملكهم‏.‏

وذلك أن أهل المدائن عدوا على رستم فخلعوه ثم ولوه، وأضافوا إليه الفيرزان، واختلفوا على فرقتين، فركب الفرس إلى المدائن ولحقهم المثنى بن حارثة في نفر من المسلمين، فعارضه أميران من أمرائهم في جيشهم، فأسرهما وأسر معهما بشراً كثيراً فضرب أعناقهم‏.‏

ثم أرسل المثنى إلى من بالعراق من أمراء المسلمين يستمدهم، فبعثوا إليه بالأمداد، وبعث إليه عمر بن الخطاب بمدد كثير فيهم جرير بن عبد الله البجلي، في قومه بجلية بكمالها، وغيره من سادات المسلمين حتى كثر جيشه‏.‏

 وقعة البويب التي اقتص فيها المسلمون من الفرس

فلما سمع بذلك أمراء الفرس، وبكثرة جيوش المثنى، بعثوا إليه جيشاً آخر مع رجل يقال له‏:‏ مهران فتوافوا هم وإياهم بمكان يقال له‏:‏ البويب، قريب من مكان الكوفة اليوم، وبينهما الفرات‏.‏

فقالوا‏:‏ إما أن تعبروا إلينا، أو نعبر إليكم‏؟‏

فقال المسلمون‏:‏ بل اعبروا إلينا‏.‏

فعبرت الفرس إليهم فتواقفوا، وذلك في شهر رمضان، فعزم المثنى على المسلمين في الفطر فأفطروا عن آخرهم ليكون أقوى لهم، وعبى الجيش، وجعل يمر على كل راية من رايات الأمراء على القبائل ويعظهم ويحثهم على الجهاد والصبر والصمت‏.‏

وفي القوم جرير بن عبد الله البجلي في بجلة وجماعة من سادات المسلمين‏.‏

وقال المثنى لهم‏:‏ إني مكبر ثلاث تكبيرات فتهيأوا، فإذا كبرت الرابعة فاحملوا‏.‏ فقابلوا قوله بالسمع والطاعة والقبول‏.‏

فلما كبر أول تكبيرة عاجلتهم الفرس فحملوا حتى غالقوهم، واقتتلوا قتالاً شديداً‏.‏

ورأى المثنى في بعض صفوفه خللاً، فبعث إليهم رجلاً يقول‏:‏ الأمير يقرأ عليكم السلام ويقول لكم‏:‏ لا تفضحوا العرب اليوم فاعتدلوا‏.‏

فلما رأى ذلك منهم - وهم بنو عجل - أعجبه وضحك‏.‏ وبعث إليهم يقول‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 36‏)‏

يا معشر المسلمين عاداتكم، انصروا الله ينصركم‏.‏ وجعل المثنى المسلمون يدعون الله بالظفر والنصر‏.‏

فلما طالت مدة الحرب جمع المثنى جماعة من أصحابه الأبطال يحمون ظهره، وحمل على مهران فأزاله عن موضعه حتى دخل الميمنة، وحمل غلام من بني تغلب نصراني فقتل مهران وركب فرسه‏.‏

كذا ذكره سيف بن عمر‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ بل حمل عليه المنذر بن حسان بن ضرار الضبي فطعنه واحتز رأسه جرير بن عبد الله البجلي، واختصما في سلبه فأخذ جرير السلاح، وأخذ المنذر منطقته‏.‏

وهربت المجوس، وركب المسلمون أكتافهم يفصلونهم فصلاً‏.‏

وسبق المثنى بن حارثة إلى الجسر فوقف عليه ليمنع الفرس من الجواز عليه ليتمكن منهم المسلمون‏.‏

فركبوا أكتافهم بقية ذلك اليوم وتلك الليلة، ومن أبعد إلى الليل فيقال‏:‏ أنه قتل منهم يومئذ وغرق قريب من مائة ألف، ولله الحمد والمنة‏.‏

وغنم المسلمون مالاً جزيلاً وطعاماً كثيراً، وبعثوا بالبشارة والأخماس إلى عمر رضي الله عنه‏.‏

وقد قتل من سادات المسلمين هذا اليوم بشر كثير أيضاً، وذلت لهذه الوقعة رقاب الفرس، وتمكن الصحابة من الغارات في بلادهم فيما بين الفرات ودجلة، فغنموا شيئاً عظيماً لا يمكن حصره‏.‏

وجرت أمور يطول ذكرها بعد يوم البويب، وكانت هذه الوقعة بالعراق نظير اليرموك بالشام‏.‏

وقد قال الأعور الشني العبدي في ذلك‏:‏

هاجت لأعور دار الحي أحزاناً * واستبدلت بعد عبد القيس حساناً

وقد أرانا بها الشمل مجتمع * إذ بالنخيلة قتلى جند مهراناً

إذ كان سار المثنى بالخيول لهم * فقتل الزحف من فرس وجيلاناً

سما لمهران والجيش الذي معه * حتى أبادهم مثنى ووحداناً

 فصل بعث عمر بن الخطاب سعد بن أبي وقاص أميراً على العراق‏.‏

ثم بعث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب سعد بن أبي وقاص الزهري أحد العشرة في ستة آلاف أميراً على العراق، وكتب إلى جرير عبد الله، والمثنى بن حارثة أن يكونا تبعاً له، وأن يسمعا له ويطيعا، فلما وصل إلى العراق كانا معه، وكانا قد تنازعا الإمرة فالمثنى يقول لجرير‏:‏ إنما بعثك أمير المؤمنين مدداً إلي‏.‏

ويقول جرير‏:‏ إنما بعثني أميراً عليك‏.‏

فلما قدم سعد بن أبي وقاص على أمر العراق انقطع نزاعهما‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وتوفي المثنى بن حارثة في هذه السنة‏:‏

كذا قال ابن إسحق‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 37‏)‏

والصحيح‏:‏ أن بعث عمر سعداً إنما كان في أول سنة أربع عشرة كما سيأتي‏.‏

 ذكر اجتماع الفرس على يزدجرد بعد اختلافهم

كان شيرين قد جمع آل كسرى في القصر الأبيض، وأمر بقتل ذكرانهم كلهم، وكانت أم يزدجرد فيهم ومعها ابنها وهو صغير، فواعدت أخواله فجاؤا وأخذوه منها، وذهبوا إلى بلادهم، فلما وقع ما وقع يوم البويب وقتل من قتل منهم كما ذكرنا، وركب المسلمون أكتافهم وانتصروا عليهم، وعلى أخذ بلدانهم، ومحالهم وأقاليمهم‏.‏

ثم سمعوا بقدوم سعد بن أبي وقاص من جهة عمر، اجتمعوا فيما بينهم وأحضروا الأميرين الكبيرين فيهم ووهما‏:‏ رستم والفيرزان فتذامروا فيما بينهم وتواصوا، وقالوا لهما‏:‏ لئن لم تقوما بالحرب كما ينبغي لنقتلنكما ونشتفي بكما‏.‏

ثم رأوا فيما بينهم‏:‏ أن يبعثوا خلف نساء كسرى من كل فجٍ ومن كل بقعة فمن كان لها ولد من آل كسرى ملكوه عليهم‏.‏

فجعلوا إذا أتوا بالمرأة عاقبوها هل لها ولد وهي تنكر ذلك خوفاً على ولدها إن كان لها ولد، فلم يزالوا حتى دلوا على أم يزدجرد، فأحضروها وأحضروا ولدها فملكوه عليهم، وهو ابن إحدى وعشرين سنة، وهو‏:‏ من ولد شهريار بن كسرى وعزلوا بوران واستوثقت الممالك له، واجتمعوا عليه وفرحوا به، وقاموا بين يديه بالنصر أتم قيام‏.‏

واستفحل أمره فيهم وقويت شوكتهم به، وبعثوا إلى الأقاليم والرساتيق، فخلعوا الطاعة للصحابة، ونقضوا عهودهم وذممهم‏.‏

وبعث الصحابة إلى عمر بالخبر، فأمرهم عمر أن يتبرزوا من بين ظهرانيهم، وليكونوا على أطراف البلاد حولهم على المياه، وأن تكون كل قبيلة تنظر إلى الأخرى بحيث إذا حدث حدث على قبيلة لا يخفى أمرها على جيرانهم‏.‏ وتفاقم الحال جداً، وذلك في ذي القعدة من سنة ثلاث عشرة‏.‏

وقد حج بالناس عمر في هذه السنة، وقيل‏:‏ بل حج بهم عبد الرحمن بن عوف، ولم يحج عمر هذه السنة والله أعلم‏.‏

 ما وقع سنة ثلاث عشرة من الحوادث

كانت فيها وقائع تقدم تفصيلها ببلاد العراق على يدي خالد بن الوليد رضي الله عنه، فتحت فيها الحيرة والأنبار وغيرهما من الأمصار‏.‏

وفيها‏:‏ سار خالد بن الوليد من العراق إلى الشام على المشهور‏.‏

وفيها‏:‏ كانت وقعة اليرموك في قول سيف بن عمر، واختيار ابن جرير، وقتل بها من قتل من الأعيان ممن يطول ذكرهم وتراجمهم رضي الله عنهم أجمعين‏.‏

وفيها‏:‏ توفي أبو بكر الصديق‏.‏ وقد أفردنا سيرته في مجلد ولله الحمد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 38‏)‏

وفيها‏:‏ ولي عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة منها، فولي قضاء المدينة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، واستناب على الشام أبا عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح الفهري، وعزل عنها خالد بن الوليد المخزومي، وأبقاه على شورى الحرب‏.‏

وفيها‏:‏ فتحت بصرى صلحاً وهي أول مدينة فتحت من الشام‏.‏

وفيها‏:‏ فتحت دمشق في قول سيف وغيره كما قدمنا، واستنيب فيها يزيد بن أبي سفيان، فهو أول من وليها من أمراء المسلمين رضي الله عنهم‏.‏

وفيها‏:‏ كانت وقعت وقعة الفحل من أرض الغور، وقتل بها جماعة من الصحابة وغيرهم‏.‏

وفيها‏:‏ كانت وقعة جسر أبي عبيد فقتل فيها أربعة آلاف من المسلمين‏.‏

منهم‏:‏ أميرهم أبو عبيد بن مسعود الثقفي، وهو والد صفية امرأة عبد الله بن عمر، وكانت امرأة صالحة رحمهما الله‏.‏

ووالد المختار بن أبي عبيد كذاب ثقيف، وقد كان نائباً على العراق في بعض وقعات العراق كما سيأتي‏.‏

وفيها‏:‏ توفي المثنى بن حارثة في قول ابن إسحاق، وقد كان نائباً على العراق، استخلفه خالد بن الوليد حين سار إلى الشام وقد شهد مواقف مشهورة، وله أيام مذكورة ولا سيما يوم البويب بعد جسر أبي عبيد قتل فيه من الفرس، وغرق بالفرات قريب من مائة ألف، الذي عليه الجمهور‏:‏ أنه بقي إلى سنة أربع عشرة كما سيأتي بيانه‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس عمر بن الخطاب في قول بعضهم، وقيل‏:‏ بل حج عبد الرحمن بن عوف‏.‏

وفيها‏:‏ استنفر عمر قبائل العرب لغزو العراق الشام فأقبلوا من كل النواحي، فرمى بهم الشام والعراق‏.‏

وفيها‏:‏ كانت وقعة أجنادين في قول ابن إسحاق يوم السبت لثلاث من جمادى الأولى منها‏.‏

وكذا عند الواقدي فيما بين الرملة وبين جسرين على الروم القيقلان، وأمير المسلمين عمرو بن العاص، وهو في عشرين ألفاً في قول، فقتل القيقلان انهزمت الروم، وقتل منهم خلق كثير‏.‏

واستشهد من المسلمين أيضاً جماعة منهم وهشام بن العاص، والفضل بن العباس، وأبان بن سعيد، وأخواه خالد وعمرو، ونعيم بن عبد الله بن النحام، والطفيل بن عمرو، وعبد الله بن عمرو الدوسيان، وضرار بن الأزور، وعكرمة بن أبي جهل، وعمه سلمة بن هشام، وهبار بن سفيان، وصخر بن نصر، وتميم وسعيد ابنا الحارث بن قيس رضي الله عنهم الأزور‏.‏

وقال محمد بن سعد‏:‏ قتل يومئذ طليب بن عمرو، وأمه أروى بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وممن قتل يومئذ عبد الله بن الزبير بن عبد المطلب، وكان عمره يومئذ ثلاثين سنة فيما ذكره الواقدي‏.‏

قال‏:‏ ولم يكن له رواية، وكان ممن صبر يوم حنين‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وقتل يومئذ عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، والحارث بن أوس بن عتيك رضي الله عنهم‏.‏

وفيها‏:‏ كانت وقعة مرج الصفر في قول خليفة بن خياط، وذلك لثنتي عشرة بقيت من جمادى الأولى، وأمير الناس خالد بن سعيد بن العاص فقتل يومئذ‏.‏

وقيل‏:‏ إنما قتل أخوه عمرو‏.‏

وقيل‏:‏ ابنه فالله أعلم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكان أمير الروم قلقط فقتل من الروم مقتلة عظيمة حتى جرت طاحون هناك من دمائهم‏.‏ والصحيح‏:‏ أن وقعة مرج الصفر في أول سنة أربع عشرة كما ستأتي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 39‏)‏

 ذكر المتوفين في هذه السنة مرتبين على الحروف كما ذكرهم الحافظ الذهبي

أبان بن سعيد بن العاص بن أمية الأموي أبو الوليد المكي صحابي جليل، وهو‏:‏ الذي أجار عثمان بن عفان يوم الحديبية حتى دخل مكة لأداء رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

أسلم بعد مرجع أخويه من الحبشة خالد، وعمرو، فدعوه إلى الإسلام فأجابهما، وساروا فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فتح خيبر‏.‏

وقد استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة تسع على البحرين، وقتل بأجنادين‏.‏

أنسة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم المشهور أنه قتل ببدر فيما ذكره البخاري وغيره‏.‏

وزعم الواقدي فيما نقله عن أهل العلم‏:‏ أنه شهد أحداً وأنه بقي بعد ذلك زماناً‏.‏

قال‏:‏ وحدثني ابن أبي الزناد، عن محمد بن يوسف‏:‏ أن أنسة مات في خلافة أبي بكر الصديق، وكان‏:‏ يكنى أبا مسروح‏.‏

وقال الزهري‏:‏ كان يأذن للناس على النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

تميم بن الحارث بن قيس السهمي وأخوه قيس صحابيان جليلان هاجرا إلى الحبشة وقتلا بأجنادين‏.‏

الحارث بن أوس بن عتيك من مهاجرة الحبشة، قتل بأجنادين‏.‏

خالد بن سعيد بن العاص الأموي من السابقين الأولين، ممن هاجر إلى الحبشة، وأقام بها بضع عشرة سنة‏.‏

ويقال‏:‏ أنه كان على صنعاء من جهة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره الصديق على بعض الفتوحات كما تقدم، قتل يوم مرج الصفر في قول، وقيل‏:‏ بل هرب فلم يمكنه الصديق من دخول المدينة تعزيراً له فأقام شهراً في بعض ظواهرها حتى أذن له‏.‏

ويقال‏:‏ أن الذي قتله أسلم، وقال‏:‏ رأيت له حين قتلته نوراً ساطعاً إلى السماء رضي الله عنه‏.‏

سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة بن أبي خزيمة، ويقال‏:‏ حارثة بن خزيمة بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج الأنصاري الخزرجي سيدهم، أبو ثابت‏.‏

ويقال‏:‏ أبو قيس صحابي جليل كان أحد النقباء ليلة العقبة، وشهد بدراً في قول عروة وموسى بن عقبة والبخاري وابن ماكولا‏.‏

وروى ابن عساكر‏:‏ من طريق حجاج بن أرطاة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس‏:‏ أن راية المهاجرين يوم بدر كانت مع علي، وراية الأنصار مع سعد بن عبادة رضي الله عنهما‏.‏

قلت‏:‏ والمشهور أن هذا كان يوم الفتح والله أعلم‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ لم يشهدها لأنه نهسته حية فشغلته عنها بعد أن تجهز لها فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه، وأجره وشهد أحداً وما بعدها‏.‏

وكذا قال خليفة بن خياط‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 40‏)‏

وكانت له جفنة تدور مع النبي صلى الله عليه وسلم حيث دار من بيوت نسائه بلحم وثريد، أو لبن وخبز، أو خبز وسمن، أو بخل وزيت، وكان ينادي عند أطمة كل ليلة لمن أراد القرى‏.‏

وكان يحسن الكتابة بالعربي، والرمي والسباحة، وكان يسمي من أحسن ذلك كاملاً‏.‏

وقد ذكر أبو عمر بن عبد البر ما ذكره غير واحد من علماء التاريخ‏:‏ أنه تخلف عن بيعة الصديق، حتى خرج إلى الشام فمات بقرب من حوران سنة ثلاث عشرة في خلافة الصديق‏.‏

قاله ابن إسحاق، والمدائني، وخليفة‏.‏

قال‏:‏ وقيل في أول خلافة عمر‏.‏

وقيل‏:‏ سنة أربع عشرة‏.‏

وقيل‏:‏ سنة خمس عشرة‏.‏

وقال الفلاس وابن بكر‏:‏ سنة ست عشرة‏.‏

قلت‏:‏ أما بيعة الصديق فقد روينا في مسند الإمام أحمد أنه سلَّم للصديق ما قاله من أن الخلفاء من قريش‏.‏

وأما موته بأرض الشام فمحقق، والمشهور‏:‏ أنه بحوران‏.‏

قال محمد بن عائذ الدمشقي، عن عبد الأعلى، عن سعيد بن عبد العزيز أنه قال‏:‏ أول مدينة فتحت من الشام بصرى، وبها توفي سعد بن عبادة‏.‏

وعند كثير من أهل زماننا أنه دفن بقرية من غوطة دمشق يقال لها‏:‏ المنيحة، وبها قبر مشهور به‏.‏

ولم أر الحافظ ابن عساكر تعرض لذكر هذا القبر في ترجمته بالكلية فالله أعلم‏.‏

قال ابن عبد البر‏:‏ ولم يختلفوا أنه وجد ميتاً في مغتسله وقد اخضر جسده ولم يشعروا بموته حتى سمعوا قائلاً يقول‏:‏

قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة * رميناه بسهم فلم يخطئ فؤاده

قال ابن جريج‏:‏ سمعت عطاء يقول‏:‏ سمعت أن الجن قالوا في سعد بن عبادة هذين البيتين له‏.‏

عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث، وكان رضي الله عنه من أشد الناس غيرة، ما تزوج امرأة بكراً ولا طلق امرأة فتجاسر أحد أن يخطبها بعده‏.‏

وقد روي‏:‏ أنه لما خرج من المدينة قسم ماله بين بنيه، فلما توفي ولد له ولد فجاء أبو بكر وعمر إلى ابنه قيس بن سعد فأمراه أن يدخل هذا معهم، فقال‏:‏ إني لا أغير ما صنع سعد، ولكن نصيبي لهذا الولد‏.‏

سلمة بن هشام بن المغيرة، أخو أبي جهل بن هشام، أسلم سلمة قديماً، وهاجر إلى الحبشة، فلما رجع منها حبسه أخوه وأجاعه، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو له في القنوت ولجماعة معه من المستضعفين‏.‏

ثم انسل فلحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد الخندق، وكان معه بها، وقد شهد أجنادين وقتل بها رضي الله عنه‏.‏

ضرار بن الأزور الأسدي، كان من الفرسان المشهورين، والأبطال المذكورين، له ومواقف مشهودة وأحوال محمودة‏.‏

ذكر عروة وموسى بن عقبة‏:‏ أنه قتل بأجنادين‏.‏

له حديث في استحباب إبقاء شيء من اللبن في الضرع عند الحلب‏.‏

طليب بن عمير بن وهب بن كثير بن هند بن قصي القرشي العبدي، أمه أروى بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

أسلم قديماً، وهاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية، وشهد بدراً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 41‏)‏

قاله ابن إسحاق، والواقدي، والزبير بن بكار‏.‏

ويقال‏:‏ أنه أول من ضرب مشركاً، وذلك أن أبا جهل سب النبي صلى الله عليه وسلم فضربه طليب بلحى جمل فشجه، استشهد طليب بأجنادين، وقد شاخ رضي الله عنه‏.‏

عبد الله بن الزبير بن عبد المطلب بن هاشم القرشي الهاشمي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان من الأبطال المذكورين والشجعان المشهورين، قتل يوم أجنادين بعد ما قتل عشرة من الروم مبارزة كلهم بطارقة أبطال، وله من العمر يومئذ بضع وثلاثون سنة‏.‏

عبد الله بن عمرو الدوسي، قتل بأجنادين‏.‏

وليس هذا الرجل معروفاً‏.‏

عثمان بن طلحة العبدري الحجبي‏.‏

قيل‏:‏ أنه قتل بأجنادين، والصحيح‏:‏ أنه تأخر إلى ما بعد الأربعين‏.‏

عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية الأموي أبو عبد الرحمن أمير مكة نيابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، استعمله عليها عام الفتح، وله من العمر عشرون سنة، فحج بالناس عامئذ، واستنابه عليها أبو بكر بعده عليه السلام، وكانت وفاته بمكة، قيل‏:‏ يوم توفي أبو بكر رضي الله عنهما‏.‏

له حديث واحد رواه أهل السنن الأربعة‏.‏

عكرمة بن أبي جهل عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم أبو عثمان القرشي المخزومي، كان من سادات الجاهلية كأبيه، ثم أسلم عام الفتح بعدما فر، ثم رجع إلى الحق‏.‏

واستعمله الصديق على عُمان حين ارتدوا فظفر بهم كما تقدم‏.‏

ثم قدم الشام، وكان أميراً على بعض الكراديس، ويقال‏:‏ أنه لا يعرف له ذنب بعدما أسلم‏.‏

وكان يقبل المصحف ويبكي ويقول‏:‏ كلام ربي كلام ربي‏.‏

احتج بهذا الإمام أحمد على جواز تقبيل المصحف ومشروعيته‏.‏

وقال الشافعي‏:‏ كان عكرمة محمود البلاء في الإسلام‏.‏

قال عروة‏:‏ قتل بأجنادين‏.‏

وقال غيره‏:‏ باليرموك بعدما وجد به بضع وسبعون ما بين ضربة وطعنة رضي الله عنه‏.‏

الفضل بن العباس بن عبد المطلب، قيل‏:‏ أنه توفي في هذه السنة، والصحيح‏:‏ أنه تأخر إلى سنة ثماني عشرة‏.‏

نعيم بن عبد الله بن النحام أحد بني عدي، أسلم قديماً قبل عمر، ولما يتهيأ له هجرة إلى ما بعد الحديبية، وذلك لأنه كان فيه بر بأقاربه، فقالت له قريش‏:‏ أقم عندنا على أي دين شئت فوالله لا يتعرضك أحد إلا ذهبت أنفسنا دونك‏.‏

استشهد يوم أجنادين، وقيل‏:‏ يوم اليرموك رضي الله عنه‏.‏

هبار بن الأسود بن أسد أبو الأسود القرشي الأسدي، هذا الرجل كان قد طعن راحلة زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم يوم خرجت من مكة حتى أسقطت، ثم أسلم بعد فحسن إسلامه، وقتل بأجنادين رضي الله عنه‏.‏

هبار بن سفيان بن عبد الأسود المخزومي ابن أخي أم سلمة‏.‏

أسلم قديماً، وهاجر إلى الحبشة، واستشهد يوم أجنادين على الصحيح، وقيل‏:‏ قتل يوم مؤتة والله أعلم‏.‏

هشام بن العاص بن وائل السهمي أخو عمرو بن العاص‏.‏

روى الترمذي‏:‏

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ابنا العاص مؤمنان‏)‏‏)‏‏.‏

وقد أسلم هشام قبل عمرو، وهاجر إلى الحبشة، فلما رجع منها احتبس بمكة‏.‏

ثم هاجر بعد الخندق، وقد أرسله الصديق إلى ملك الروم‏.‏

وكان من الفرسان‏.‏

وقتل بأجنادين، وقيل‏:‏ باليرموك، والأول‏:‏ أصح والله أعلم‏.‏

أبو بكر الصديق رضي الله عنه، تقدم وله ترجمة مفردة ولله الحمد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 42‏)‏

 سنة أربع عشرة من الهجرة

استهلت هذه السنة والخليفة عمر بن الخطاب يحث الناس ويحرضهم على جهاد أهل العراق، وذلك لما بلغه من قتل أبي عبيد يوم الجسر، وانتظام شمل الفرس، واجتماع أمرهم على يزدجر الذي أقاموه من بيت الملك، ونقض أهل الذمة بالعراق عهودهم، ونبذهم المواثيق التي كانت عليهم، وآذوا المسلمين وأخرجوا العمال من بين أظهرهم‏.‏

وقد كتب عمر إلى من هنالك من الجيش أن يتبرزوا من بين أظهرهم إلى أطراف البلاد‏.‏

قال ابن جرير رحمه الله‏:‏ وركب عمر رضي الله عنه في أول يوم من المحرم هذه السنة في الجيوش من المدينة فنزل على ماء يقال له‏:‏ صرار، فعسكر به عازماً على غزو العراق بنفسه، واستخلف على المدينة علي بن أبي طالب، واستصحب عثمان بن عفان وسادات الصحابة‏.‏

ثم عقد مجلساً لاستشارة الصحابة فيما عزم القيام به، ونودي أن الصلاة جامعة، وقد أرسل إلى علي فقدم من المدينة، ثم استشارهم فكلهم وافقوه على الذهاب إلى العراق إلا عبد الرحمن بن عوف فإنه قال له‏:‏ إني أخشى إن كسرت أن تضعف المسلمون في سائر أقطار الأرض، وإني أرى أن تبعث رجلاً وترجع أنت إلى المدينة، فارثا عمر والناس عند ذلك واستصوبوا رأي ابن عوف‏.‏

فقال عمر‏:‏ فمن ترى أن نبعث إلى العراق، فقال‏:‏ قد وجدته‏.‏

قال‏:‏ من هو‏؟‏

قال‏:‏ الأسد في براثنه سعد بن مالك الزهري‏.‏

فاستجاد قوله، وأرسل إلى سعد فأمره على العراق وأوصاه فقال‏:‏

يا سعد بن وهيب لا يغرنك من الله أن قيل خال رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه، فإن الله لا يمحو السيء بالسيء، ولكن يمحو السيء بالحسن، وإن الله ليس بينه وبين أحد نسب إلا بطاعته، فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء، الله ربهم، وهم عباده، يتفاضلون بالعافية ويدركون ما عند الله بالطاعة، فانظر الأمر الذي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ بعث إلى أن فارقنا عليه فالزمه، فإنه أمر‏.‏

هذه عظتي إياك إن تركتها ورغبت عنها حبط عملك وكنت من الخاسرين‏.‏

ولما أراد فراقه قال له‏:‏ إنك ستقدم على أمر شديد، فالصبر الصبر على ما أصابك ونابك، تجمع لك خشية الله، واعلم أن خشية الله تجتمع في أمرين‏:‏ في طاعته، واجتناب معصيته، وإنما طاعة من أطاعه ببغض الدنيا وحب الآخرة، وإنما عصيان من عصاه بحب الدنيا وبغض الآخرة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/43‏)‏

وللقلوب حقائق ينشئها الله إنشاء، منها‏:‏ للسر، ومنها‏:‏ العلانية، فأما العلانية‏:‏ فأن يكون حامده وذامه في الحق سواء، وأما السر‏:‏ فيعرف بظهور الحكمة من قلبه على لسانه، وبمحبة الناس‏.‏

ومن محبة الناس فلا تزهد في التحبب فإن النبيين قد سألوا محبتهم، وإن الله إذا أحب عبداً حببه، وإذا أبغض عبداً بغضه، فاعتبر منزلتك عند الله بمنزلتك عند الناس‏.‏

قالوا‏:‏ فسار سعد نحو العراق في أربعة آلاف ثلاثة آلاف من أهل اليمن، وألف من سائر الناس‏.‏

وقيل‏:‏ في ستة آلاف، وشيعهم عمر من صرار إلى الأعوص، وقام عمر في الناس خطيباً هنالك، فقال‏:‏ إن الله إنما ضرب لكم الأمثال، وصرف لكم القول لتحيي القلوب، فإن القلوب ميتة في صدورها حتى يحيها الله، من علم شيئاً فلينفع به، فإن للعدل أمارات وتباشير‏.‏

فأما الأمارات‏:‏ فالحياء، والسخاء، والهين، واللين‏.‏

وأما التباشير‏:‏ فالرحمة‏.‏

وقد جعل الله لكل أمر باباً، ويسر لكل باب مفتاحاً، فباب العدل الاعتبار، ومفتاحه الزهد والاعتبار، ذكر الموت والاستعداد بتقديم الأموال‏.‏

والزهد أخذ الحق من كل أحد قبله حق، والاكتفاء بما يكفيه من الكفاف، فإن لم يكفه الكفاف لم يغنه شيء‏.‏

إني بينكم وبين الله، وليس بيني وبينه أحد، وإن الله قد ألزمني دفع الدعاء عنه فانهوا شكاتكم إلينا، فمن لم يستطع فإلى من يبلغناها، نأخذ له الحق غير متعتع‏.‏

ثم سار سعد إلى العراق، ورجع عمر بمن معه من المسلمين إلى المدينة، ولما انتهى سعد إلى نهر زرود، ولم يبق بينه وبين أن يجتمع بالمثنى بن حارثة إلا اليسير، وكل منهما مشتاق إلى صاحبه، انتقض جرح المثنى بن حارثة الذي كان جرحه يوم الجسر فمات رحمه الله ورضي الله عنه‏.‏

واستخلف على الجيش بشير بن الخصاصية، ولما بلغ سعداً موته ترحم عليه، وتزوج زوجته سلمى، ولما وصل سعد إلى محلة الجيوش انتهت إليه رياستها وإمرتها، ولم يبق بالعراق أمير من سادات العرب إلا تحت أمره، وأمده عمر بأمداد أخر، حتى اجتمع معه يوم القادسية ثلاثون ألفاً، وقيل‏:‏ ستة وثلاثون‏.‏

وقال عمر‏:‏ والله لأرمين ملوك العجم بملوك العرب‏.‏

وكتب إلى سعد أن يجعل الأمراء على القبائل، والعرفاء على كل عشرة عريفاً على الجيوش، وأن يواعدهم إلى القادسية، ففعل ذلك سعد، عرف العرفاء، وأمر على القبائل، وولى على الطلائع والمقدمات، والمجنبات، والساقات، والرجالة، والركبان، كما أمر أمير المؤمنين عمر‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 44‏)‏

قال سيف بإسناده عن مشايخه قالوا‏:‏ وجعل عمر على قضاء الناس عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي ذا النون، وجعل إليه الإقباض وقسمة الفيء، وجعل داعية الناس وقاصهم سلمان الفارسي، وجعل الكاتب زياد بن أبي سفيان‏.‏

قالوا‏:‏ وكان في هذا الجيش كله من الصحابة ثلاثمائة وبضعة عشر صحابياً، منهم بضعة وسبعون بدرياً، وكان فيه سبعمائة من أبناء الصحابة رضي الله عنهم‏.‏

وبعث عمر كتابه إلى سعد يأمره بالمبادرة إلى القادسية، والقادسية باب فارس في الجاهلية، وأن يكون بين الحجر والمدر، وأن يأخذ الطرق والمسالك على فارس، وأن يبدروهم بالضرب والشدة، ولا يهولنك كثرة عَدَدِهم وعُدَدِهم فإنهم قوم خدعة مكرة، وإن أنتم صبرتم وأحسنتم ونويتم الأمانة رجوت أن تُنْصَرُوا عليهم، ثم لم يجتمع لهم شملهم أبداً إلا أن يجتمعوا، وليست معهم قلوبهم‏.‏

وإن كانت الأخرى فارجعوا إلى ما وراءكم حتى تصلوا إلى الحجر، فإنكم عليه أجرأ، وإنهم عنه أجبن وبه أجهل، حتى يأتي الله بالفتح عليهم، ويرد لكم الكرة‏.‏

وأمره بمحاسبة نفسه، وموعظة جيشه، وأمرهم بالنية الحسنة والصبر، فإن النصر يأتي من الله على قدر النية، والأجر على قدر الحسبة، وسلوا الله العافية، وأكثروا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏.‏

واكتب إلي بجميع أحوالكم وتفاصيلها، وكيف تنزلون، وأين يكون منكم عدوكم، واجعلني بكتبك إلي كأني أنظر إليكم، واجعلني من أمركم على الجلية، وخف الله وأرجه، ولا تدل بشيء‏.‏

واعلم أن الله قد توكل لهذا الأمر بما لا خلف له، فاحذر أن يصرفه عنك ويستبدل بكم غيركم‏.‏

فكتب إليه سعد يصف له كيفية تلك المنازل والأراضي بحيث كأنه يشاهدها، وكتب إليه يخبره بأن الفرس قد جردوا لحربه رستم وأمثاله، فهم يطلبوننا ونحن نطلبهم، وأمر الله بعد ماض، وقضاؤه مسلم إلى ما قدر لنا وعلينا، فنسأل الله خير القضاء، وخير القدر في عافية‏.‏

وكتب إليه عمر‏:‏ قد جاءني كتابك وفهمته، فإذا لقيت عدوك ومنحك الله أدبارهم، فإنه قد ألقي في روعي أنكم ستهزمونهم، فلا تشكن في ذلك، فإذا هزمتهم فلا تنزع عنهم حتى تقتحم عليهم المدائن فإنه خرابها إن شاء الله‏.‏

وجعل عمر يدعو لسعد خاصة، وله وللمسلمين عامة‏.‏

ولما بلغ سعد العُذيب اعترض للمسلمين جيش للفرس مع شيرزاذ بن أراذويه، فغنموا مما معه شيئاً كثيراً، ووقع منهم موقعاً كبيراً، فخمسها سعد، وقسم أربعة أخماسها في الناس، واستبشر الناس بذلك، وفرحوا، وتفاءلوا، وأفرد سعد سرية تكون حياطة لمن معهم من الحريم، على هذه السرية‏:‏ غالب بن عبد الله الليثي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 45‏)‏

 غزوة القادسية

ثم سار سعد فنزل القادسية، وبث سراياه، وأقام بها شهراً لم ير أحداً من الفرس، فكتب إلى عمر بذلك، والسرايا تأتي بالميرة من كل مكان، فعجت رعايا الفرس أطراف بلادهم إلى يزدجرد من الذين يلقون من المسلمين من النهب والسبي‏.‏

وقالوا‏:‏ إن لم تنجدونا وإلا أعطينا ما بأيدينا وسلمنا إليهم الحصون‏.‏

واجتمع رأي الفرس على إرسال رستم إليهم، فبعث إليه يزدجرد فأمره على الجيش فاستعفى رستم من ذلك وقال‏:‏ إن هذا ليس برأي في الحرب، إن إرسال الجيوش بعد الجيوش أشد على العرب من أن يكسروا جيشاً كثيفاً مرة واحدة‏.‏

فأبى الملك إلا ذلك، فتجهز رستم للخروج، ثم بعث سعد كاشفاً إلى الحيرة إلى صلوبا فأتاه الخبر بأن الملك قد أمر على الحرب رستم بن الفرخزاذ الأرمني، وأمده بالعساكر‏.‏

فكتب سعد إلى عمر بذلك، فكتب إليه عمر‏:‏ لا يكربنك ما يأتيك عنهم ولا ما يأتونك به، واستعن بالله وتوكل عليه، وابعث إليه رجالاً من أهل النظر والرأي والجلد يدعونه، فإن الله جاعل دعائهم توهيناً لهم، وفلجاً عليهم، واكتب إلي في كل يوم‏.‏

ولما اقترب رستم بجيوشه، وعسكر بساباط، كتب سعد إلى عمر يقول‏:‏ إن رستم قد عسكر بساباط، وجر الخيول والفيول، وزحف علينا بها، وليس شيء أهم عندي، ولا أكثر ذكراً مني لما أحببت أن أكون عليه من الاستعانة والتوكل‏.‏

وعبأ رستم فجعل على المقدمة وهي أربعون ألفاً الجالنوس، وعلى الميمنة الهرمزان، وعلى الميسرة مهران بن بهرام، وذلك ستون ألفاً، وعلى الساقة البندران في عشرين ألفاً، فالجيش كله ثمانون ألفاً، فيما ذكره سيف وغيره‏.‏

وفي رواية‏:‏ كان رستم في مائة ألف وعشرين ألفاً، يتبعها ثمانون ألفاً، وكان معه ثلاث وثلاثون فيلاً، منها فيل أبيض كان لسابور، فهو أعظمها وأقدمها، وكانت الفيلة تألفه‏.‏

ثم بعث سعد جماعة من السادات منهم‏:‏ النعمان بن مقرن، وفرات بن حبان، وحنظلة بن الربيع التميمي، وعطارد بن حاجب، والأشعث بن قيس، والمغيرة بن شعبة، وعمرو بن معدي كرب، يدعون رستم إلى الله عز وجل‏.‏

فقال لهم رستم‏:‏ ما أقدمكم‏؟‏

فقالوا‏:‏ جئنا لموعود الله إيانا، أخذ بلادكم، وسبي نسائكم وأبنائكم، وأخذ أموالكم، فنحن على يقين من ذلك، وقد رأى رستم في منامه كأن ملكاً نزل من السماء فختم على سلاح الفرس كله ودفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمر‏.‏

وذكر سيف بن عمر‏:‏ أن رستم طاول سعداً في اللقاء حتى كان بين خروجه من المدائن وملتقاه سعداً بالقادسية أربعة أشهر كل ذلك لعله يضجر سعداً ومن معه ليرجعوا، ولولا أن الملك استعجله ما التقاه، لما يعلم من غلبة المسلمين لهم ونصرهم عليهم، لما رأى في منامه، ولما يتوسمه، ولما سمع منهم، ولما عنده من علم النجوم الذي يعتقد صحته في نفسه لما له من الممارسة لهذا الفن‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 46‏)‏

ولما دنا جيش رستم من سعد أحب سعد أن يطلع على أخبارهم على الجلية، فبعث رجلاً سرية لتأتيه برجل من الفرس، وكان في السرية طليحة الأسدي الذي كان ادعى النبوة ثم تاب، وتقدم الحارث مع أصحابه حتى رجعوا، فلما بعث سعد السرية اخترق طليحة الجيوش والصفوف، وتخطى الألوف، وقتل جماعة من الأبطال حتى أسر أحدهم وجاء به لا يملك من نفسه شيئاً، فسأله سعد عن القوم فجعل يصف شجاعة طليحة، فقال‏:‏ دعنا من هذا، وأخبرنا عن رستم‏؟‏

فقال‏:‏ هو في مائة ألف وعشرين ألفاً، ويتبعها مثلها، وأسلم الرجل من فوره رحمه الله‏.‏

قال سيف عن شيوخه‏:‏ ولما تواجه الجيشان بعث رستم إلى سعد أن يبعث إليه برجل عاقل عالم بما أسأله عنه، فبعث إليه المغيرة بن شعبة رضي الله عنه‏.‏

فلما قدم عليه جعل رستم يقول له‏:‏ إنكم جيراننا، وكنا نحسن إليكم ونكف الأذى عنكم، فارجعوا إلى بلادكم ولا نمنع تجارتكم من الدخول إلى بلادنا‏.‏

فقال له المغيرة‏:‏ إنا ليس طلبنا الدنيا، وإنما همنا وطلبنا الآخرة، وقد بعث الله إلينا رسولاً، قال له‏:‏ إني قد سلطت هذه الطائفة على من لم يدن بديني، فأنا منتقم بهم منهم، واجعل لهم الغلبة ما داموا مقرين به، وهو دين الحق، لا يرغب عنه أحد إلا ذل، ولا يعتصم به إلا عز‏.‏

فقال له رستم‏:‏ فما هو‏؟‏

فقال‏:‏ أما عموده الذي لا يصلح شيء منه إلا به فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والإقرار بما جاء من عند الله‏.‏

فقال‏:‏ ما أحسن هذا ‏؟‏‏!‏ وأي شيء أيضاً‏؟‏

قال‏:‏ وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله‏.‏

قال‏:‏ وحسن أيضاً، وأي شيء أيضاً‏؟‏

قال‏:‏ والناس بنو آدم وحواء فهم أخوة لأب وأم‏.‏

وقال‏:‏ وحسن أيضاً‏.‏

ثم قال رستم‏:‏ أرأيت إن دخلنا في دينكم أترجعون عن بلادنا‏؟‏

قال‏:‏ أي والله، ثم لا نقرب بلادكم إلا في تجارة أو حاجة‏.‏

قال‏:‏ وحسن أيضاً‏.‏

قال‏:‏ ولما خرج المغيرة من عنده ذكر رستم رؤساء قومه في الإسلام فانفوا ذلك، وأبوا أن يدخلوا فيه قبحهم الله وأخزاهم وقد فعل‏.‏

قالوا‏:‏ ثم بعث إليه سعد رسولاً آخر بطلبه، وهو ربعي بن عامر، فدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق المذهبة، والزرابي الحرير، وأظهر اليواقيت، واللآلئ الثمينة والزينة العظيمة، وعليه تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة، وقد جلس على سرير من ذهب، ودخل ربعي بثياب صفيقة وسيف وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه وبيضته على رأسه‏.‏

فقالوا له‏:‏ ضع سلاحك‏.‏

فقال‏:‏ إني لم آتكم، وإنما جئتكم حين دعوتموني فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت‏.‏

فقال رستم‏:‏ ائذنوا له فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق فحرق عامتها‏.‏

فقالوا له‏:‏ ما جاء بكم‏؟‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 47‏)‏

فقال‏:‏ الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لتدعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبداً حتى نفضي إلى موعود الله‏.‏

قالوا‏:‏ وما موعود الله‏؟‏

قال‏:‏ الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي‏.‏

فقال رستم‏:‏ قد سمعت مقالتكم، فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏كم أحب إليكم‏؟‏ يوماً أو يومين‏؟‏

قال‏:‏ لا بل حتى نكاتب أهل رأينا رؤساء قومنا‏.‏

فقال‏:‏ ما سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نؤخر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث، فانظر في أمرك وأمرهم، واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل‏.‏

فقال‏:‏ أسيدهم أنت‏؟‏

قال‏:‏ لا، ولكن المسلمون كالجسد الواحد يجير أدناهم على أعلاهم‏.‏

فاجتمع رستم برؤساء قومه فقال‏:‏ هل رأيتم قط أعز وأرجح من كلام هذا الرجل‏؟‏

فقالوا‏:‏ معاذ الله أن تميل إلى شيء من هذا، تدع دينك إلى هذا الكلب أما ترى إلى ثيابه‏؟‏

فقال‏:‏ ويلكم لا تنظرون إلى الثياب، وانظروا إلى الرأي، والكلام والسيرة، إن العرب يستخفون بالثياب والمأكل، ويصونون الأحساب‏.‏

ثم بعثوا يطلبون في اليوم الثاني رجلاً، فبعث إليهم حذيفة بن محصن فتكلم نحو ما قال ربعي‏.‏

وفي اليوم الثالث المغيرة بن شعبة، فتكلم بكلام حسن طويل‏.‏

قال فيه رستم للمغيرة‏:‏ إنما مثلكم في دخولكم أرضنا كمثل الذباب رأى العسل‏.‏

فقال‏:‏ من يوصلني إليه وله درهمان‏؟‏

فلما سقط عليه غرق فيه فجعل يطلب الخلاص فلا يجده‏.‏

وجعل يقول‏:‏ من يخلصني وله أربعة دراهم‏؟‏

ومثلكم كمثل الثعلب ضعيف دخل جحراً في كرم فلما رآه صاحب الكرم ضعيفاً رحمه فتركه، فلما سمن أفسد شيئاً كثيراً، فجاء بجيشه واستعان عليه بغلمانه فذهب ليخرج فلم يستطع لسمنه فضربه حتى قتله، فهكذا تخرجون من بلادنا‏.‏

ثم استشاط غضباً وأقسم بالشمس‏:‏ لأقتلنكم غداً‏.‏

فقال المغيرة‏:‏ ستعلم‏.‏

ثم قال رستم للمغيرة‏:‏ قد أمرت لكم بكسوة، ولأميركم بألف دينار وكسوة ومركوب وتنصرفون عنا‏.‏

فقال المغيرة‏:‏ أبعد أن أوهنا ملككم وضعفنا عزكم، ولنا مدة نحو بلادكم، ونأخذ الجزية منكم عن يد وأنتم صاغرون، وستصيرون لنا عبيداً على رغمكم ‏؟‏‏!‏

فلما قال ذلك استشاط غضباً‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني محمد بن عبد الله بن صفوان الثقفي، ثنا أمية بن خالد، ثنا أبو عوانة، عن حصيب بن عبد الرحمن قال‏:‏ قال أبو وائل‏:‏ جاء سعد حتى نزل القادسية ومعه الناس‏.‏

قال‏:‏ لا أدري لعلنا لا نزيد على سبعة آلاف أو ثمان آلاف بين ذلك، والمشركون ثلاثون ألفاً ونحو ذلك، فقالوا‏:‏ لا يد لكم ولا قوة ولا سلاح ما جاء بكم‏؟‏ ارجعوا‏.‏

قال‏:‏ قلنا‏:‏ ما نحن براجعين، فكانوا يضحكون من نبلنا ويقولون‏:‏ دوك دوك، وشبهونا بالمغازل‏.‏

فلما أبينا عليهم أن نرجع، قالوا‏:‏ ابعثوا إلينا رجلاً من عقلائكم يبين لنا ما جاء بكم‏؟‏

فقال المغيرة بن شعبة‏:‏ أنا‏.‏

فعبر إليهم فقعد مع رستم على السرير فنخروا وصاحوا‏.‏

فقال‏:‏ إن هذا لم يزدني رفعة، ولم ينقص صاحبكم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 48‏)‏

فقال رستم‏:‏ صدق ما جاء بكم‏.‏

فقال‏:‏ إنا كنا قوماً في شر وضلالة فبعث الله إلينا نبياً فهدانا الله به ورزقنا على يديه، فكان فيما رزقنا حبة تنبت في هذا البلد، فلما أكلناها وأطعمناها أهلينا قالوا‏:‏ لا صبر لنا عنها أنزلونا هذه الأرض حتى نأكل من هذه الحبة‏.‏

فقال رستم‏:‏ إذا نقتلكم‏.‏

قال‏:‏ إن قتلتمونا دخلنا الجنة، وإن قتلناكم دخلتم النار وأديتم الجزية‏.‏

قال‏:‏ فلما قال‏:‏ وأديتم الجزية نخروا وصاحوا، وقالوا‏:‏ لا صلح بيننا وبينكم‏.‏

فقال المغيرة‏:‏ تعبرون إلينا أو نعبر إليكم‏؟‏

فقال رستم‏:‏ بل نعبر إليكم فاستأخر المسلمون حتى عبروا فحملوا عليهم فهزموهم‏.‏

وذكر سيف‏:‏ أن سعداً كان به عرق النسا يومئذ، وأنه خطب الناس وتلا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 105‏]‏ وصلى بالناس الظهر، ثم كبر أربعاً وحملوا بعد أن أمرهم أن يقولوا‏:‏ لا حول ولا قوة إلا بالله في طردهم إياهم، وقتلهم إياهم، وقعودهم لهم كل مرصد، وحصرهم لبعضهم في بعض الأماكن حتى أكلوا الكلاب والسنانير‏.‏

وما رد شاردهم حتى وصل إلى نهاوند، ولجأ أكثرهم إلى المدائن، ولحقهم المسلمون إلى أبوابها‏.‏

وكان سعد قد بعث طائفة من أصحابه إلى كسرى يدعونه إلى الله قبل الوقعة، فاستأذنوا على كسرى فأذن لهم، وخرج أهل البلد ينظرون إلى أشكالهم وأرديتهم على عواتقهم وسياطهم بأيديهم، والنعال في أرجلهم، وخيولهم الضعيفة، وخبطها الأرض بأرجلها، وجعلوا يتعجبون منها غاية العجب، كيف مثل هؤلاء يقهرون جيوشهم مع كثرة عَدَدِها وعُدَدِها‏.‏

ولما استأذنوا على الملك يزدجرد أذن لهم، وأجلسهم بين يديه، وكان متكبراً قليل الأدب، ثم جعل يسألهم عن ملابسهم هذه ما اسمها‏؟‏ عن الأردية، والنعال، والسياط ثم كلما قالوا شيئاً من ذلك تفاءل، فرد الله فأله على رأسه‏.‏

ثم قال لهم‏:‏ ما الذي أقدمكم هذه البلاد‏؟‏ أظننتم أنا لما تشاغلنا بأنفسنا اجترأتم علينا‏؟‏

فقال له النعمان بن مقرن‏:‏ إن الله رحمنا، فأرسل إلينا رسولاً يدلنا على الخير ويأمرنا به، ويعرفنا الشر وينهانا عنه، ووعدنا على إجابته خير الدنيا والآخرة‏.‏

فلم يدع إلى ذلك قبيلة إلا صاروا فرقتين‏:‏ فرقة تقاربه، وفرقة تباعده، ولا يدخل معه في دينه إلا الخواص، فمكث كذلك ما شاء الله أن يمكث، ثم أمر أن ينهد إلى من خالفه من العرب، ويبدأ بهم ففعل، فدخلوا معه جميعاً على وجهين‏:‏ مكروه عليه فاغتبط، وطائع إياه فازداد‏.‏

فعرفنا جميعاً فضل ما جاء به على الذي كنا عليه من العداوة والضيق‏.‏

وأمرنا أن نبدأ بمن يلينا من الأمم فندعوهم إلى الإنصاف، فنحن ندعوكم إلى ديننا، وهو دين الإسلام، حسن الحسن وقبح القبيح كله‏.‏

فإن أبيتم فأمر من الشر هو أهون من آخر شر منه الجزاء، فإن أبيتم فالمناجزة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 49‏)‏

وإن أجبتم إلى ديننا، خلفنا فيكم كتاب الله، وأقمنكم عليه على أن تحكموا بأحكامه ونرجع عنكم، وشأنكم وبلادكم، وإن أتيتمونا بالجزي قبلنا ومنعناكم وإلا قاتلناكم‏.‏

قال‏:‏ قتلكم يزدجرد‏.‏

فقال‏:‏ إني لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عدداً ولا أسوأ ذات بين منكم، قد كنا نوكل بكم قرى الضواحي ليكفوناكم لا تغزوكم فارس، ولا تطمعون أن تقوموا لهم‏.‏

فإن كان عددكم كثر فلا يغرنكم منا، وإن كان الجهد دعاكم فرضنا لكم قوتاً إلى خصبكم، وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم وملكنا عليكم ملكاً يرفق بكم‏.‏ فأسكت القوم، فقام المغيرة بن شعبة فقال‏:‏ أيها الملك، إن هؤلاء رؤس العرب وجوههم، وهم أشراف يستحيون من الأشراف وإنما يكرم، الأشرافَ الأشرافُ، ويعظم حقوق الأشرافِ الأشرافَ، وليس كل ما أرسلوا له جمعوه لك، ولا كل ما تكلمت به أجابوك عليه، وقد أحسنوا، ولا يحسن بمثلهم إلا ذلك، فجاوبني فأكون أنا الذي أبلغك، ويشهدون على ذلك‏.‏ إنك قد وصفتنا صفة لم تكن بها عالماً‏.‏

فأما ما ذكرت من سوء الحال‏:‏ فما كان أسوأ حالاً منا، وأما جوعنا‏:‏ فلم يكن يشبه الجوع، كنا نأكل الخنافس والجعلان والعقارب والحيات، ونرى ذلك طعامنا‏.‏ وأما المنازل‏:‏ فإنما هي ظهر الأرض‏.‏

ولا نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الإبل، وأشعار الغنم‏.‏

ديننا أن يقتل بعضنا بعضاً، وأن يبغي بعضنا على بعض، وإن كان أحدنا ليدفن ابنته وهي حية كراهية أن تأكل من طعامه‏.‏

وكانت حالنا قبل اليوم على ما ذكرت لك، فبعث الله إلينا رجلاً معروفاً نعرف نسبه، ونعرف وجهه ومولده، فأرضه خير أرضنا، وحسبه خير أحسابنا، وبيته خير بيوتنا، وقبيلته خير قبائلنا، وهو نفسه كان خيرنا في الحال التي كان فيها أصدقنا، وأحلمنا‏.‏

فدعانا إلى أمر فلم يجبه أحد‏.‏

أول ترب كان له الخليفة من بعده، فقال وقلنا، وصدق وكذبنا، وزاد ونقصنا، فلم يقل شيئاً إلا كان، فقذف الله في قلوبنا التصديق له واتباعه، فصار فيما بيننا وبين رب العالمين، فما قال لنا فهو قول الله، وما أمرنا فهو أمر الله‏.‏

فقال لنا‏:‏ إن ربكم يقول‏:‏ أنا الله وحدي لا شريك لي، كنت إذ لم يكن شيء، وكل شيء هالك إلا وجهي، وأنا خلقت كل شيء، وإلي يصير كل شيء، وإن رحمتي أدركتكم، فبعثت إليكم هذا الرجل لأدلكم على السبيل التي أنجيكم بها بعد الموت من عذابي، ولأحلكم داري دار السلام‏.‏

فنشهد عليه أنه جاء بالحق من عند الحق، وقال‏:‏ من تابعكم على هذا فله مالكم وعليه ما عليكم، ومن أبى فاعرضوا عليه الجزية، ثم امنعوه مما تمنعون منه أنفسكم، ومن أبى فقاتلوه، فأنا الحكم بينكم، فمن قتل منكم أدخلته جنتي، ومن بقي منكم أعقبته النصر على من ناوأه‏.‏

فاختر إن شئت الجزية وأنت صاغر، وإن شئت فالسيف، أو تسلم فتنجي نفسك ‏؟‏‏.‏

فقال يزدجرد‏:‏ أتستقبلني بمثل هذا‏؟‏

فقال‏:‏ ما استقبلت إلا من كلمني، ولو كلمني غيرك لم أستقبلك به‏.‏

فقال‏:‏ لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم، لا شيء لكم عندي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 50‏)‏

وقال‏:‏ ائتوني بوقر من تراب، فاحملوه على أشرف هؤلاء، ثم سوقوه حتى يخرج من أبيات المدائن‏.‏ ارجعوا إلى صاحبكم فأعلموه أني مرسل إليه رستم حتى يدفنه وجنده في خندق القادسية، وينكل به وبكم من بعد، ثم أورده بلادكم حتى أشغلكم في أنفسكم بأشد مما نالكم من سابور‏.‏

ثم قال‏:‏ من أشرفكم‏؟‏

فسكت القوم، فقال عاصم بن عمرو‏:‏ وأفتات ليأخذ التراب، أنا أشرفهم، أنا سيد هؤلاء فحملنيه‏.‏

فقال‏:‏ أكذلك‏؟‏

قالوا‏:‏ نعم، فحمله على عنقه، فخرج به من الإيوان، والدار حتى أتى راحلته فحمله عليها، ثم انجذب في السير ليأتوا به سعداً، وسبقهم عاصم فمر باب قديس فطواه، وقال‏:‏ بشروا الأمير بالظفر، ظفرنا إن شاء الله تعالى‏.‏

ثم مضى حتى جعل التراب في الحجر، ثم رجع فدخل على سعد فأخبره الخبر‏.‏

فقال‏:‏ أبشروا فقد والله أعطانا الله أقاليد ملكهم، وتفاءلوا بذلك أخذ بلادهم، ثم لم يزل أمر الصحابة يزداد في كل يوم علواً وشرفاً ورفعة، وينحط أمر الفرس سفلاً وذلاً ووهناً‏.‏

ولما رجع رستم إلى الملك يسأله عن حل من رأى من المسلمين‏؟‏ فذكر له عقلهم، وفصاحتهم وحدة جوابهم، وأنهم يرومون أمراً يوشك أن يدركوه‏.‏

وذكر ما أمر به أشرفهم من حمل التراب، وأنه استحمق أشرفهم في حمله التراب على رأسه، ولو شاء اتقى بغيره، وأنا لا أشعر‏.‏

فقال له رستم‏:‏ إنه ليس أحمق، وليس هو بأشرفهم إنما أراد أن يفتدي قومه بنفسه، ولكن والله ذهبوا بمفاتيح أرضنا، وكان رستم منجماً، ثم أرسل رجلاً وراءهم، وقال‏:‏ إن أدرك التراب فرده تداركنا أمرنا، وإن ذهبوا به إلى أميرهم غلبونا على أرضنا‏.‏

قال‏:‏ فساق وراءهم فلم يدركهم بل سبقوه إلى سعد بالتراب، وساء ذلك فارس وغضبوا من ذلك أشد الغضب واستهجنوا رأي الملك‏.‏