فصل: ذكرمن توفي في هذه السنة من الأعيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 ثم دخلت سنة تسع وسبعين

ففيها وقع طاعون عظيم بالشام حتى كادوا يفنون من شدته، ولم يغز فيها أحد من أهل الشام لضعفهم وقلتهم، ووصلت الروم فيها إنطاكية فأصابوا خلقاً من أهلها لعلمهم بضعف الجنود والمقاتلة‏.‏

وفيها غزا عبيد الله بن أبي بكرة رتبيل ملك الترك حتى أوغل في بلاده، ثم صالحه على مال يحمله إليه في كل سنة‏.‏

وفيها قتل عبد الملك بن مروان الحارث بن سعيد المتنبئ الكذاب، ويقال له الحارث بن عبد الرحمن بن سعيد الدمشقي، مولى أبي الجلاس العبدري، ويقال مولى الحكم بن مروان، كان أصله من الجولة فنزل دمشق وتعبد بها وتنسك وتزهد ثم مكر به ورجع القهري على عقبيه، وانسلخ من آيات الله تعالى، وفارق حزب الله المفلحين، واتبع الشيطان فكان من الغاوين، ولم يزل الشيطان يزج في قفاه حتى أخسره دينه ودنياه، وأخزاه وأشقاه‏.‏ فإنا لله وحسبنا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏

قال أبو بكر بن أبي خيثمة، ثنا عبد الوهاب نجدة الجولي، حدثنا محمد بن مبارك، ثنا الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن حسان، قال‏:‏ كان الحارث الكذاب من أهل دمشق، وكان مولى لأبي الجلاس، وكان له أب بالجولة، فعرض له إبليس، وكان رجلاً متعبداً زاهداً لو لبس جبة من ذهب لرؤيت عليه الزهادة والعبادة، وكان إذا أخذ بالتحميد لم يسمع السامعون مثل تحميده ولا أحسن من كلامه، فكتب إلى أبيه وكان بالجولة‏:‏ يا أبتاه أعجل عليَّ فإني قد رأيت أشياء أتخوف أن يكون الشيطان قد عرض لي، قال فزاده أبوه غيَّاً على غيه، فكتب إليه أبوه‏:‏ يا بني أقبل على ما أمرت به فإن الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 221 - 222‏]‏ ولست بأفاك ولا أثيم، فامض لما أمرت به، وكان يجيء إلى أهل المسجد رجلاً رجلاً، فيذاكرهم أمره ويأخذ عليهم العهد والميثاق إن هو يرى ما يرضى وإلا كتم عليه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/35‏)‏

قال‏:‏ وكان يريهم الأعاجيب‏.‏ كان يأتي إلى رخامة في المسجد فينقرها بيده فتسبح تسبيحاً بليغاً حتى يضج من ذلك الحاضرون‏.‏

قلت‏:‏ وقد سمعت شيخنا العلامة أبا العباس بن تيمية رحمه الله يقول‏:‏ كان ينقر هذه الرخامة الحمراء التي في المقصورة فتسبح، وكان زنديقاً‏.‏

قال ابن أبى خيثمة في روايته وكان الحارث يطعمهم فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، وكان يقول لهم‏:‏ اخرجوا حتى أريكم الملائكة، فيخرج بهم إلى دير المراق فيريهم رجالاً على خيل فيتبعه على ذلك بشر كثير، وفشا أمره في المسجد وكثر أصحابه وأتباعه، حتى وصل الأمر إلى القاسم بن مخيمرة، قال فعرض على القاسم أمره وأخذ عليه العهد إن هو رضي أمر قبله، وإن كرهه كتم عليه، قال فقال له‏:‏ إني نبي‏.‏

فقال القاسم‏:‏ كذبت يا عدو الله، ما أنت نبي، وفي رواية ولكنك أحد الكذابين الدجالين الذين أخبر عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إن الساعة لا تقوم حتى يخرج ثلاثون دجالون كذابون كلهم يزعم أنه نبي‏)‏‏)‏ وأنت أحدهم ولا عهد لك، ثم قام فخرج إلى أبي إدريس - وكان على القضاء بدمشق - فأعلمه بما سمع من الحارث فقال أبو إدريس نعرفه، ثم أعلم أبو إدريس عبد الملك بذلك، وفي رواية أخرى أن مكحولاً وعبد الله بن زائدة دخلا على الحارث فدعاهما إلى نبوته فكذباه وردا عليه ما قال، ودخلا على عبد الملك فأعلماه بأمره، فتطلبه عبد الملك طلباً حثيثاً، واختفى الحارث وصار إلى دار بيت المقدس يدعو إلى نفسه سراً واهتم عبد الملك بشأنه حتى ركب إلى النصرية فنزلها فورد عليه هناك رجل من أهل النصرية ممن كان يدخل على الحارث وهو ببيت المقدس فأعلمه بأمره وأين هو، وسأل من عبد الملك أن يبعث معه بطائفة من الجند الأتراك ليحتاط عليه، فأرسل معه طائفة وكتب إلى نائب القدس ليكون في طاعة هذا الرجل ويفعل ما يأمره به، فلما وصل الرجل إلى النصرية ببيت المقدس بمن معه، انتدب نائب القدس لخدمته فأمره أن يجمع ما يقدر عليه من الشموع ويجعل مع كل رجل شمعته، فإذا أمرهم بإشعالها في الليل أشعلوها كلهم في سائر الطرق والأزقة حتى لا يخفى أمره، وذهب الرجل بنفسه فدخل الدار التي فيها الحارث فقال لبوابة‏:‏ استأذن على نبي الله، فقال‏:‏ في هذه الساعة لا يؤذن عليه حتى يصبح، فصاح النصري أسرجوا، ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/36‏)‏ فأشعل الناس شموعهم حتى صار الليل كأنه النهار، وهمَّ النصري على الحارث فاختفى منه في سرب هناك فقال أصحابه هيهات يريدون أن يصلوا إلى نبي الله، إنه قد رفع إلى السماء، قال فأدخل النصري يده في ذلك السرب فإذا بثوبه فاجتره فأخرجه، ثم قال للفرعانين من أتراك الخليفة قال‏:‏ فأخذوه فقيدوه، فيقال‏:‏ إن القيود والجامعة سقطت من عنقه مراراً ويعيدونها وجعل يقول‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 50‏]‏ وقال لأولئك الأتراك‏:‏ ‏{‏أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏المؤمن‏:‏ 28‏]‏ فقالوا له بلسانهم ولغتهم‏:‏ هذا كراننا فهات كرانك، أي هذا قرآننا فهات قرآنك، فلما انتهوا به إلى عبد الملك أمر بصلبه على خشبة وأمر رجلاً فطعنه بحربة فانثنت في ضلع من أضلاعه، فقال له عبد الملك‏:‏ ويحك أذكرت اسم الله حين طعنته‏؟‏

فقال‏:‏ نسيت، فقال‏:‏ ويحك سم الله ثم اطعنه، قال‏:‏ فذكر اسم الله ثم طعنه فأنفذه، وقد كان عبد الملك حبسه قبل صلبه وأمر رجالاً من أهل الفقه والعلم أن يعظوه ويعلموه أن هذا الذي به من الشيطان، فأبى أن يقبل منهم فصلبه بعد ذلك وهذا من تمام العدل والدين‏.‏

وقد قال الوليد بن مسلم، عن ابن جابر، فحدثني من سمع الأعور، يقول‏:‏ سمعت العلاء بن زياد العدوي‏.‏

يقول‏:‏ ما غبطت عبد الملك بشيء من ولايته إلا بقتله حارثاً حيث إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون دجالون كذابون كلهم يزعم أنه نبي، فمن قاله فاقتلوه، ومن قتل منهم أحداً فله الجنة‏)‏‏)‏‏.‏

وقال الوليد بن مسلم‏:‏ بلغني أن خالد بن يزيد بن معاوية قال لعبد الملك‏:‏ لو حضرتك ما أمرتك بقتله، قال‏:‏ ولم‏؟‏ قال‏:‏ إنه إنما كان به المذهب فلو جوعته لذهب ذلك عنه، وقال الوليد، عن المنذر بن نافع، سمعت خالد بن الجلاخ، يقول لغيلان‏:‏ ويحك يا غيلان ألم تأخذك في شبيبتك ترا من النساء في شهر رمضان بالتفاح، ثم صرت حارثياً تحجب امرأته وتزعم أنها أم المؤمنين ثم تحولت فصرت قدرياً زنديقاً‏.‏

وفيها غزا عبيد الله بن أبي بكرة رتبيل ملك الترك الأعظم فيهم، وقد كان يصانع المسلمين تارة ويتمرد أخرى، فكتب الحجاج إلى ابن أبي بكرة تأخذه بمن معك من المسلمين حتى تستبيح أرضه وتهدم قلاعه وتقتل مقاتلته، فخرج في جمع من الجنود من بلاده وخلق من أهل البصرة والكوفة ثم التقى مع رتبيل ملك الترك فكسره وهدم أركانه بسطوة بتارة، وجاس ابن أبي بكرة وجنده خلال ديارهم، واستحوذ على كثير من أقاليمه ومدنه وأمصاره، وتبر ما هنالك تتبيراً، ثم إن رتبيل تقهقر منه وما زال يتبعه حتى اقترب من مدينته العظمى، حتى كانوا منها على ثمانية عشر فرسخاً وخافت الأتراك منهم خوفاً شديداً، ثم إن الترك أخذت عليهم الطرق والشعاب وضيقوا عليهم المسالك حتى ظن كل من المسلمين أنه لا محالة هالك، فعند ذلك طلب عبيد الله أن يصالح رتبيل على أن يأخذ منه سبعمائة ألف، ويفتحوا للمسلمين طريقاً يخرجون عنه ويرجعون عنهم إلى بلادهم، فانتدب شريح بن هانئ - وكان صحابياً، وكان من أكبر أصحاب عليَّ وهو المقدم على أهل الكوفة - فندب الناس إلى القتال والمصابرة والنزال والجلاد بالسيوف والرماح والنبال، فنهاه عبيد الله بن أبي بكرة فلم ينته، وأجابه شرذمة من الناس من الشجعان وأهل الحفائظ، فما زال يقاتل بهم الترك حتى فني أكثر المسلمين رضي الله عنهم، قالوا وجعل شريح بن هانئ يرتجز، ويقول‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/37‏)‏

أصبحت ذا بثٍ أقاسي الكبرا * قد عشت بين المشركين أعصرا

ثم أدركت النبي المنذرا * وبعده صدِّيقه وعمرا

ويوم مهران ويوم تسترا * والجمع في صفينهم والنهرا

هيهات ما أطول هذا عمرا *

ثم قاتل حتى قتل رضي الله عنه، وقتل معه خلق من أصحابه، ثم خرج من خرج من الناس صحبة عبيد الله بن أبي بكرة من أرض رتبيل، وهم قليل، وبلغ ذلك الحجاج فأخذ ما تقدم وما تأخر، وكتب إلى عبد الملك يعلمه بذلك ويستشيره في بعث جيش كثيف إلى بلاد رتبيل لينتقموا منه بسبب ما حل بالمسلمين في بلاده، فحين وصل البريد إلى عبد الملك كتب إلى الحجاج بالموافقة على ذلك، وأن يعجل ذلك سريعاً، فحين وصل البريد إلى الحجاج بذلك أخذ في جمع الجيوش فجهز جيشاً كثيفاً لذلك على ما سيأتي تفصيله في السنة الآتية‏.‏ بعدها وقيل‏:‏ إنه قتل من المسلمين مع شريح بن هانئ ثلاثون ألفاً وابتيع الرغيف مع المسلمين بدينار وقاسوا شدائد، ومات بسبب الجوع منهم خلق كثير أيضاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏ وقد قتل المسلمون من الترك خلقاً كثيراً أيضاً قتلوا أضعافهم‏.‏

ويقال إنه في هذه السنة استعفى شريح من القضاء فأعفاه الحجاج من ذلك وولى مكانه أبا بردة ابن أبي موسى الأشعري، وقد تقدمت ترجمة شريح عند وفاته في السنة الماضية والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/38‏)‏

قال الواقدي وأبو معشر وغير واحد من أهل السير‏:‏ وحج بالناس في هذه السنة أبان بن عثمان أمير المدينة النبوية، وفيها قتل قطري بن الفجاءة التميمي أبو نعامة الخارجي، وكان من الشجعان المشاهير، ويقال إنه مكث عشرين سنة يسلم عليه أصحابه بالخلافة، وقد جرت له خطوب وحروب مع جيش المهلب بن أبي صفرة من جهة الحجاج وغيره، وقد قدمنا منها طرفاً صالحاً في أماكنه، وكان خروجه في زمن مصعب بن الزبير، وتغلب على قلاع كثيرة وأقاليم وغيرها، ووقائعه مشهورة وقد أرسل إليه الحجاج جيوشاً كبيرة فهزمها، وقيل إنه برز إليه رجل من بعض الحرورية وهو على فرس أعجف وبيده عمود حديد، فلما قرب منه كشف قطري عن وجهه فولى الرجل هارباً فقال له قطري إلى أين‏؟‏ أما تستحي أن تفر ولم تر طعناً ولا ضرباً‏؟‏ فقال‏:‏ إن الإنسان لا يستحي أن يفر من مثلك، ثم إنه في آخر أمره توجه إليه سفيان بن الأبرد الكلبي في جيش فاقتتلوا بطبرستان، فعثر بقطري فرسه فوقع إلى الأرض فتكاثروا عليه فقتلوه وحملوا رأسه إلى الحجاج، وقيل‏:‏ إن الذي قتله سودة بن الحر الدارمي وكان قطري بن الفجاءة مع شجاعته المفرطة وإقدامه من خطباء العرب المشهورين بالفصاحة والبلاغة وجودة الكلام والشعر الحسن، فمن مستجاد شعره قوله يشجع نفسه وغيره ومن سمعها انتفع بها‏:‏

أقول لها وقد طارت شعاعاً * من الأبطال ويحك لن تراعي

فإنك لو طلبت بقاء يومٍ * على الأجل الذي لك لم تطاعي

فصبراً في مجال الموت صبراً * فما نيل الخلود بمستطاعي

ولا ثوب الحياة بثوب عز * فيطوى عن أخي الخنع اليراعي

سبيل الموت غاية كل حيٍ * وداعيه لأهل الأرض داع

فمن لا يغتبط يسأم ويهرم * وتسلمه المنون إلى انقطاعي

وما للمرء خير في حياة * إذا ما عدَّ من سقط المتاعي

ذكرها صاحب الحماسة واستحسنها ابن خلكان كثيراً ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/39‏)‏

 وفيها توفي  عبيد الله بن أبي بكرة رحمه الله وهو أمير الجيش الذي دخل بلاد الترك وقاتلوا رتبيل ملك الترك، وقد قتل من جيشه خلق كثير من شريح بن هانئ كما تقدم ذلك، وقد دخل عبيد الله بن أبي بكرة على الحجاج مرة وفي يده خاتم فقال له الحجاج‏:‏ وكم ختمت بخاتمك هذا‏؟‏ قال علي أربعين ألف ألف دينار قال ففيم أنفقتها‏؟‏ قال‏:‏ في اصطناع المعروف، ورد الملهوف والمكافأة بالصناع وتزويج العقائل‏.‏

وقيل‏:‏ إن عبيد الله عطش يوماً فأخرجت له امرأة كوز ماء بارد فأعطاها ثلاثين ألفاً، وقيل‏:‏ إنه أهدي إليه وصيف ووصيفة وهو جالس بين أصحابه فقال لبعض أصحابه‏:‏ خذهما لك، ثم فكر وقال‏:‏ والله إن إيثار بعض الجلساء على بعض لشح قبيح ودناءة رديئة، ثم قال‏:‏ يا غلام ادفع إلى كل واحد من جلسائي وصيفاً ووصيفة، فأحصى ذلك فكانوا ثمانين وصيفاً ووصيفة‏.‏

توفي عبيد الله بن أبي بكرة ببست، وقيل‏:‏ بذرخ، والله سبحانه وتعالى أعلم وأحلم، والحمد لله رب العالمين‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمانين من الهجرة النبوية

ففيها كان السيل الحجاف بمكة لأنه حجف على كل شيء فذهب به، وحمل الحجاج من بطن مكة الجمال بما عليها، والرجال والنساء لا يستطيع أحد أن ينقذهم منه، وبلغ الماء إلى الحجون، وغرق خلق كثير، وقيل إنه ارتفع حتى كاد أن يغطي البيت والله أعلم‏.‏

وحكى ابن جرير، عن الواقدي، أنه قال‏:‏ كان بالبصرة في هذه السنة الطاعون، والمشهور أنه كان في سنة تسع وستين كما تقدم‏.‏ وفيها قطع المهلب بن أبي صفرة نهر بلخ، وأقام بكش سنتين صابراً مصابراً للأعداء من الأتراك وجرت له معهم هناك فصول يطول ذكرها، وفد عليه في غضون هذه المدة كتاب ابن الأشعث بخلعه الحجاج، فبعثه المهلب برمته إلى الحجاج حتى قرأه ثم كان ما سيأتي بيانه وتفصيله فيما بعد من حروب ابن الأشعث، وفي هذه السنة جهز الحجاج الجيوش من البصرة والكوفة وغيرهما لقتال رتبيل ملك الترك ليقضوا منه ما كان من قتل جيش عبيد الله بن أبي بكرة في السنة الماضية، فجهز أربعين ألفاً من كل من المصرين عشرين ألفاً، وأمر على الجميع عبد الرحمن بن محمد ابن الأشعث مع أنه كان الحجاج يبغضه جداً، حتى قال ما رأيته قط إلا هممت بقتله‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 9/40‏)‏

ودخل ابن الأشعث يوماً على الحجاج وعنده عامر الشعبي فقال انظر إلى مشيته والله لقد هممت أن أضرب عنقه، فأسرها الشعبي إلى ابن الأشعث فقال ابن الأشعث‏:‏ وأنا والله لأجهدت أن أزيله عن سلطانه إن طال بي وبه البقاء‏.‏ والمقصود أن الحجاج أخذ في استعراض هذه الجنود وبذل فيهم العطاء ثم اختلف رأيه فيمن يؤمر عليهم، ثم وقع اختياره على عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فقدمه عليهم، فأتى عمه إسماعيل بن الأشعث فقال للحجاج‏:‏ إني أخاف أن تؤمره فلا ترى لك طاعة إذا جاوز جسر الصراه، فقال‏:‏ ليس هو هنالك هو لي حبيب، ومتى أرهب أن يخالف أمري أو يخرج عن طاعتي، فأمضاه عليهم، فسار ابن الأشعث بالجيوش نحو أرض رتبيل، فلما بلغ رتبيل مجيء ابن الأشعث بالجنود إليه كتب إليه رتبيل يعتذر مما أصاب المسلمين في بلاده في السنة الماضية وأنه كان لذلك كارهاً، وأن المسلمين هم الذين ألجأوه إلى قتالهم، وسأل من ابن الأشعث أن يصالحه وأن يبذل للمسلمين الخراج، فلم يجبه ابن الأشعث إلى ذلك وصمم على دخول بلاده، وجمع رتبيل جنوده وتهيأ له ولحربه، وجعل ابن الأشعث كلما دخل بلداً أو مدينة أو أخذ قلعة من بلاد رتبيل استعمل عليها نائباً من جهته يحفظها له، وجعل المشايخ على كل أرض ومكان مخوف، فاستحوذ على بلاد ومدن كثيرة من بلاد رتبيل، وغنم أموالاً كثيرة جزيلة، وسبى خلقاً كثيرة، ثم حبس الناس عن التوغل في بلاد رتبيل حتى يصلحوا ما بأيديهم من البلاد ويتقووا بما فيها من المغلات والحواصل، ثم يتقدمون في العام المقبل إلى أعدائهم فلا يزالون يجوزون الأراضي والأقاليم حتى يحاصروا رتبيل وجنوده في مدينتهم مدينة العظماء على الكنوز والأموال والذراري حتى يغنموها ثم يقتلون مقاتلتهم، وعزموا على ذلك، وكان هذا هو الرأي، وكتب ابن الأشعث إلى الحجاج يخبره بما وقع من الفتح وما صنع الله لهم، وبهذا الرأي الذي رآه لهم، وقال بعضهم كان الحجاج قد وجه هميان بن عدي السدوسي إلى كرمان مسلحة لأهلها ليمد عامل سجستان والسند إن احتاجا إلى ذلك، فعصي هميان ومن معه على الحجاج، فوجه الحجاج إليه ابن الأشعث فهزمه وأقام ابن الأشعث بمن معه ومات عبيد الله بن أبي بكرة فكتب الحجاج إلى ابن الأشعث بإمرة سجستان مكان ابن أبي بكرة وجهز إلى ابن الأشعث جيشاً أنفق عليه ألفي ألف سوى أعطياتهم، وكان يدعى هذا الجيش جيش الطواويس، وأمره بالإقدام على رتبيل فكان من أمره معه ما تقدم‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 9/41‏)‏

قال الواقدي وأبو معشر‏:‏ وحج بالناس في هذه السنة أبان بن عثمان وقال غيرهما‏:‏ بل حج بهم سليمان بن عبد الملك، وكان على الصائفة في هذه السنة الوليد بن عبد الملك، وعلى المدينة أبان بن عثمان، وعلى المشرق بكماله الحجاج، وعلى قضاء الكوفة أبو بردة بن أبي موسى، وعلى قضاء البصرة موسى بن أنس بن مالك‏.‏

 وممن توفي في هذه السنة من الأعيان

 أسلم مولى عمر بن الخطاب

وهو أبو زيد بن أسلم أصله من سبي عين التمر اشتراه عمر بمكة لما حج سنة إحدى عشرة،وتوفي وعمره مائة وأربع عشرة سنة، وروى عن عمر عدة أحاديث، وروى عن غيره من أصحابه أيضاً وله مناقب كثيرة رحمه الله‏.‏

 جبير بن نفير

ابن مالك الحضرمي له صحبة ورواية، وكان من علماء أهل الشام وكان مشهوراً بالعبادة والعلم توفي بالشام وعمره مائة وعشرون سنة، وقيل أكثر وقيل أقل‏.‏

 عبد الله بن جعفر بن أبي طالب

ولد بأرض الحبشة وأمه أسماء بنت عميس، وهو آخر من رأى النبي صلى الله عليه وسلم من بني هاشم وفاة، سكن المدينة، ولما استشهد أبوه جعفر بمؤتة ‏(‏‏(‏أتى النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمهم فقال‏:‏ ائتوني ببني أخي، فأتي بهم كأنهم أفرخ، فدعا بالحلاق فحلق رؤوسهم ثم قال‏:‏ اللهم اخلف جعفراً في أهله وبارك لعبد الله في صفقته، فجاءت أمهم فذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس لهم شيء، فقال أنا لهم عوضاً من أبيهم‏)‏‏)‏‏.‏

وقد بايع النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جعفر وعبد الله بن الزبير وعمرهما سبع سنين، وهذا لم يتفق لغيرهما، وكان عبد الله بن جعفر من أسخى الناس، يعطي الجزيل الكثير ويستقله، وقد تصدق مرة بألفي ألف، وأعطى مرة رجلاً ستين ألفاً، ومرة أعطى رجلاً أربعة آلاف دينار، وقيل إن رجلاً جلب مرة سكراً إلى المدينة فكسد عليه فلم يشتره أحد فأمر ابن جعفر قيمه أن يشتريه وأن يهديه للناس‏.‏

وقيل‏:‏ إن معاوية لما حج ونزل في دار مروان قال يوماً لحاجبه‏:‏ انظر هل ترى بالباب الحسن أو الحسين أو ابن جعفر أو فلاناً - وعد جماعة - فخرج فلم ير أحداً، فقيل له‏:‏ هم مجتمعون عند عبد الله بن جعفر يتغدون، فأتى معاوية فأخبره فقال‏:‏ ما أنا إلا كأحدهم، ثم أخذ عصا فتوكأ عليها ثم أتى باب ابن جعفر فاستأذن عليه ودخل فأجلسه في صدر فراشه، فقال له معاوية‏:‏ أين غداؤك يا ابن جعفر‏؟‏

فقال‏:‏ وما تشتهي من شيء فأدعوا به‏؟‏

فقال‏:‏ معاوية أطعمنا مخاً‏.‏

فقال‏:‏ يا غلام هات مخاً‏.‏

فأتى بصحيفة فأكل معاوية، ثم قال ابن جعفر لغلامه‏:‏ هات مخاً‏.‏

فجاء بصحيفة أخرى ملآنة مخاً إلى أن فعل ذلك ثلاث مرات‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 9/42‏)‏

فتعجب معاوية وقال‏:‏ يا ابن جعفر ما يشبعك إلا الكثير من العطاء، فلما خرج معاوية أمر له بخمسين ألف دينار، وكان ابن جعفر صديقاً لمعاوية وكان يفد عليه كل سنة فيعطيه ألف ألف درهم، ويقضي له مائة حاجة‏.‏

ولما حضرت معاوية الوفاة أوصى ابنه يزيد، فلما قدم ابن جعفر على يزيد قال له‏:‏ كم كان أمير المؤمنين يعطيك كل سنة‏؟‏

قال‏:‏ ألف ألف، فقال له‏:‏ قد أضعفناها لك، وكان يعطيه ألفي ألف كل سنة، فقال له عبد الملك بن جعفر‏:‏ بأبي أنت وأمي ما قلتها لأحد قبلك ولا أقولها لأحد بعدك، فقال يزيد‏:‏ ولا أعطاكها أحد قبلي ولا يعطيكها أحد بعدي، وقيل‏:‏ إنه كان عند ابن جعفر جارية تغنيه تسمي عمارة، وكان يحبها محبة عظيمة، فحضر عنده يزيد بن معاوية يوماً فغنت الجارية، فلما سمعها يزيد افتتن بها ولم يجسر على ابن جعفر أن يطلبها منه، فلم يزل في نفس يزيد منها حتى مات أبوه معاوية، فبعث يزيد رجلاً من أهل العراق وأمره أن يتطلع في أمر هذه الجارية، فقدم الرجل المدينة ونزل جواز ابن جعفر وأهدى إليه هدايا وتحفاً كثيرة، وأنس به، ولا زال حتى أخذ الجارية وأتى يزيد‏.‏ وكان الحسن البصري يذم ابن جعفر على سماعه الغنى واللهو وشرائه المولدات، ويقول‏:‏ أما يكفيه هذا الأمر القبيح المتلبس به من هذه الأشياء وغيرها‏؟‏ حتى زوج الحجاج بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الحجاج يقول إنما تزوجتها لأذل بها آل أبي طالب‏.‏

وقيل‏:‏ إنه لم يصل إليها، وقد كتب عبد الملك إليه أن يطلقها فطلقها‏.‏

أسند عبد الله ابن جعفر ثلاثة عشر حديثاً‏.‏

 أبو إدريس الخولاني

اسمه عائذ الله بن عبد الله، له أحوال ومناقب، كان يقول‏:‏ قلب نقي في ثياب دنسة خير من قلب دنس في ثياب نقية، وقد تولى القضاء بدمشق، وقد ذكرنا ترجمته في كتابنا التكميل‏.‏

معبد الجهني القدري

يقال إنه معبد بن عبد الله بن عليم، راوي حديث‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب‏)‏‏)‏‏.‏ وقيل غير ذلك في نسبه، سمع الحديث من ابن عباس وابن عمر ومعاوية وعمران بن حصين وغيرهم‏.‏ وشهد يوم التحكيم، وسأل أبا موسى في ذلك ووصاه ثم اجتمع بعمرو بن العاص فوصاه في ذلك فقال له‏:‏ أيها يا تيس جهنة ما أنت من أهل السر والعلانية، وإنه لا ينفعك الحق ولا يضرك الباطل‏.‏ وهذا توسم فيه من عمرو بن العاص، ولهذا كان هو أول من تكلم في القدر ويقال إنه أخذ ذلك عن رجل من النصارى من أهل العراق يقال له سوس، وأخذ غيلان القدر من معبد‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 9/43‏)‏

وقد كانت لمعبد عبادة وفيه زهادة، ووثقه ابن معين وغيره في حديثه، وقال الحسن البصري‏:‏ إياكم ومعبداً فإنه ضال مضل، وكان ممن خرج مع ابن الأشعث فعاقبه الحجاج عقوبة عظيمة بأنواع العذاب ثم قتله‏.‏ وقال سعيد بن عفير‏:‏ بل صلبه عبد الملك بن مروان في سنة ثمانين بدمشق ثم قتله، وقال خليفة بن خياط‏:‏ مات قبل التسعين فالله أعلم، وقيل إن الأقرب قتل عبد الملك له والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى وثمانين

ففيها فتح عبيد الله بن عبد الملك بن مروان مدينة قاليقلا وغنم المسلمون منها غنائم كثيرة‏.‏

وفيها قتل بكير بن وشاح، قتله بجير بن ورقاء الصريمي، وكان بكير من الأمراء الشجعان ثم ثار لبكير ابن وشاح رجل من قومه يقال له صعصعة بن حرب العوفي الصريمي، فقتل بجير بن ورقاء الذي قتل بكيراً، طعنه بخنجر وهو جالس عند المهلب بن أبي صفرة فحمل إلى منزله وهو بآخر رمق، فبعث المهلب بصعصعة إليه، فلما تمكن منه بجير بن ورقاء قال ضعوا رأسه عند رجلي، فوضعوه فطعنه بجير بحربته حتى قتله ومات على إثره‏.‏ وقد قال له أنس بن طارق‏:‏ اعف عنه فقد قتلت بكير بن وشاح، فقال‏:‏ لا والله لا أموت وهذا حي ثم قتله وقد قيل إنه إنما قتل بعد موته فالله أعلم‏.‏

 فتنة بن الأشعث

قال أبو مخنف‏:‏ كان ابتداؤها في هذه السنة، وقال الواقدي‏:‏ في سنة ثنتين وثمانين، وقد ساقها ابن جرير في هذه السنة فوافقناه في ذلك، وكان سبب هذه الفتنة أن ابن الأشعث كان الحجاج يبغضه وكان هو يفهم ذلك ويضمر له السوء وزوال الملك عنه، فلما أمره الحجاج على ذلك الجيش المتقدم ذكره، وأمره بدخول بلاد رتبيل ملك الترك فمضى وصنع ما قدمناه من أخذه بعض بلاد الترك، ثم رأى لأصحابه أن يقيموا حتى يتقووا إلى العام المقبل، فكتب إلى الحجاج بذلك فكتب إليه الحجاج يستهجن رأيه في ذلك ويستضعف عقله ويقرعه بالجبن والنكول عن الحرب، ويأمره حتماً بدخول بلاد رتبيل، ثم أردف ذلك بكتاب ثاني ثم ثالث مع البريد، وكتب في جملة ذلك يا ابن الحائك الغادر المرتد، امض إلى ما أمرتك به من الإيغال في أرض العدو وإلا حل بك ما لا يطاق‏.‏

وكان الحجاج يبغض ابن الأشعث ويقول‏:‏ هو أهوج أحمق حسود، وأبوه الذي سلب أمير المؤمنين عثمان ثيابه وقاتله، ودل عبيد الله بن زياد على مسلم ين عقيل حتى قتله، وجده الأشعث ارتد عن الإسلام وما رأيته قط إلا هممت بقتله‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 9/44‏)‏

ولما كتب الحجاج إلى ابن الأشعث بذلك وترادفت إليه البرد بذلك غضب ابن الأشعث وقال‏:‏ يكتب إلي بمثل هذا وهو لا يصلح أن يكون من بعض جندي ولا من بعض خدمي لخوره وضعف قوته‏؟‏ أما يذكر أباه من ثقيف هذا الجبان صاحب غزالة - يعني أن غزالة زوجة شبيب حملت على الحجاج وجيشه فانهزموا منها وهي امرأة لما دخلت الكوفة - ثم إن ابن الأشعث جمع رؤوس أهل العراق وقال لهم‏:‏ إن الحجاج قد ألح عليكم في الإيغال في بلاد العدو، وهي البلاد التي قد هلك فيها إخوانكم بالأمس، وقد أقبل عليكم فصل الشتاء والبرد، فانظروا في أمركم أما أنا فلست مطيعه ولا أنقض رأيا رأيته بالأمس، ثم قام فيهم خطيباً فأعلمهم بما كان رأى من الرأي له ولهم، وطلب في ذلك من إصلاح البلاد التي فتحوها، وأن يقيموا بها حتى يتقووا بغلاتها وأموالها ويخرج عنهم فصل البرد ثم يسيرون في بلاد العدو فيفتحونها بلداً بلداً إلى أن يحصروا رتبيل ملك الترك في مدينة العظماء، ثم أعلمهم بما كتب إليه الحجاج من الأمر بمعالجة رتبيل‏.‏ فثار إليه الناس وقالوا‏:‏ لا بل نأبى على عدو الله الحجاج ولا نسمع له ولا نطيع‏.‏ قال أبو مخنف‏:‏ فحدثني مطرف بن عامر بن وائلة الكناني، أن أباه، كان أول من تكلم في ذلك، وكان شاعراً خطيباً، وكان مما قال‏:‏ إن مثل الحجاج في هذا الرأي ومثلنا كما قال الأول لأخيه أحمل عبدك على الفرس فإن هلك هلك، وإن نجا فلك، أنتم إذا ظفرتم كان ذلك زيادة في سلطانه، وإن هلكتم كنتم الأعداء البغضاء، ثم قال‏:‏ اخلعوا عدو الله الحجاج - ولم يذكر خلع عبد الملك - وبايعوا لأميركم عبد الرحمن ابن الأشعث فإني أشهدكم أني أول خالع للحجاج‏.‏ فقال الناس من كل جانب‏:‏ خلعنا عدو الله ووثبوا إلى عبد الرحمن بن الأشعث فبايعوه عوضاً عن الحجاج، ولم يذكروا خلع عبد الملك بن مروان، وبعث ابن الأشعث إلى رتبيل فصالحه على أنه إن ظفروا بالحجاج فلا خراج على رتبيل أبداً‏.‏ ثم سار ابن الأشعث بالجنود الذين معه مقبلاً من سجستان إلى الحجاج ليقاتله ويأخذ منه العراق، فلما توسطوا الطريق قالوا‏:‏ إن خلعنا للحجاج خلع لابن مروان فخلعوهما وجددوا البيعة لابن الأشعث فبايعهم على كتاب الله وسنة رسوله وخلع أئمة الضلالة وجهاد الملحدين، فإذا قالوا‏:‏ نعم بايعهم‏.‏ فلما بلغ الحجاج ما صنعوا من خلعه وخلع ابن مروان، كتب إلى عبد الملك يعلمه بذلك ويستعجله في بعثه الجنود إليه، وجاء الحجاج حتى نزل البصرة، وبلغ المهلب خبر ابن الأشعث، وكتب إليه يدعوه إلى ذلك فأبى عليه، وبعث بكتابه إلى الحجاج، وكتب المهلب إلى ابن الأشعث يقول له‏:‏ إنك يا ابن الأشعث قد وضعت رجلك في ركاب طويل، ابق على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، انظر إلى نفسك فلا تهلكها، ودماء المسلمين فلا تسفكها، والجماعة فلا تفرقها، والبيعة فلا تنكثها، فإن قلت أخاف الناس على نفسي فالله أحق أن تخافه من الناس، فلا تعرضها لله في سفك الدماء، أو استحلال محرم والسلام عليك‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/45‏)‏ وكتب المهلب إلى الحجاج أما بعد فإن أهل العراق قد أقبلوا إليك مثل السيل المنحدر من علو ليس شيء يرده حتى ينتهي إلى قراره، وإن لأهل العراق شدة في أول مخرجهم، وصبابة إلى أبنائهم ونسائهم، فليس شيء يردهم حتى يصلوا إلى أهليهم وينبسطوا إلى نسائهم ويشموا أولادهم‏.‏ ثم واقعهم عندها فإن الله ناصرك عليهم إن شاء الله‏.‏ فلما قرأ الحجاج كتابه قال‏:‏ فعل الله به وفعل، لا والله مالي نظر ولكن لابن عمه نصح‏.‏

ولما وصل البريد بكتاب الحجاج إلى عبد الملك هاله ذلك، ثم نزل عن سريره وبعث إلى خالد بن يزيد بن معاوية فأقرأه كتاب الحجاج فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن كان هذا الحدث من قبل خراسان فخفه، وإن كان من قبل سجستان فلا تخفه، ثم أخذ عبد الملك في تجهيز الجنود من الشام إلى العراق في نصرة الحجاج وتجهيزه في الخروج إلى ابن الأشعث، وعصى رأي المهلب فيما أشار به عليه، وكان في شوره النصح والصدق، وجعلت كتب الحجاج لا تنقطع عن عبد الملك بخبر ابن الأشعث صباحاً ومساءً، أين نزل ومن أين ارتحل، وأي الناس إليه أسرع‏.‏

وجعل الناس يلتفون على ابن الأشعث من كل جانب، حتى قيل أنه سار معه ثلاثة وثلاثون ألف فارس ومائة وعشرون ألف راجل، وخرج الحجاج في جنود الشام من البصرة نحو ابن الأشعث، فنزل تستر وقدم بين يديه مطهر بن حيي الكعبي أميراً على المقدمة، ومعه عبد الله بن زميت أميراً آخر، فانتهوا إلى دجيل فإذا مقدمة ابن الأشعث في ثلاثمائة فارس عليها عبد الله بن أبان الحارثي، فالتقوا في يوم الأضحى عند نهر دجيل، فهزمت مقدمة الحجاج وقتل أصحاب ابن الأشعث منهم خلقاً كثيراً نحو ألف وخمسمائة، واحتازوا ما في معسكرهم من خيول وقماش وأموال‏.‏

وجاء الخبر إلى الحجاج بهزيمة أصحابه وأخذه مادب ودرج‏.‏ وقد كان قائماً يخطب فقال‏:‏ أيها الناس ارجعوا إلى البصرة فإنه أرفق بالجند، فرجع بالناس وتبعهم خيول ابن الأشعث لا يدركون منهم شاذاً إلا قتلوه، ولا فإذاً إلا أهلكوه، ومضى الحجاج هارباً لا يلوي على شيء حتى أتى الزاوية فعسكر عندها وجعل يقول‏:‏ لله در المهلب أي صاحب حرب هذا، قد أشار علينا بالرأي ولكنا لم نقبل، وأنفق الحجاج على جيشه وهو بهذا المكان مائة وخمسين ألف ألف درهم، وخندق حول جيشه خندقاً، وجاء أهل العراق فدخلوا البصرة واجتمعوا بأهاليهم وشموا أولادهم، ودخل ابن الأشعث البصرة فخطب الناس بهم وبايعهم وبايعوه على خلع عبد الملك ونائبه الحجاج بن يوسف، وقال لهم ابن الأشعث‏:‏ ليس الحجاج بشيء، ولكن اذهبوا بنا إلى عبد الملك، لنقاتله، ووافقه على خلعهما جميع من في البصرة من الفقهاء والقراء والشيوخ والشباب، ثم أمر ابن الأشعث بخندق حول البصرة فعمل ذلك، وكان ذلك في أواخر ذي الحجة من هذه السنة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/46‏)‏

وحج بالناس فيها إسحاق بن عيسى فيما ذكره الواقدي وأبو معشر والله سبحانه، وتعالى أعلم‏.‏

وفيها غزا موسى بن نصير أمير بلاد المغرب من جهة عبد الملك بلاد الأندلس فافتتح مدناً كثيرة، وأراضي عامرة، وأوغل في بلاد المغرب إلى أن وصل إلى الرقاق المنبثق من البحر الأخضر المحيط، والله أعلم‏.‏

 وممن توفي فيها من الأعيان  بجير بن ورقاء الصريمي أحد الأشراف بخراسان، والقواد والأمراء الذي حارب ابن خازم وقتله، وقتل بكير بن وشاح ثم قتل في هذه السنة‏.‏

سويد بن غفلة بن عوسجة بن عامر

 أبو أمية الجعفي الكوفي، شهد اليرموك وحدث عن جماعة من الصحابة، وكان من كبار المخضرمين ويقال أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان مولده عام ولد النبي صلى الله عليه وسلم وصلى معه، والصحيح أنه لم يره، وقيل أنه ولد بعده بسنتين، وعاش مائة وعشرين سنة، لم ير يوماً محتنياً ولا متسانداً، وافتض بكراً عام وفاته في سنة إحدى وثمانين، قاله أبو عبيد وغيره واحد‏.‏ وقيل إنه توفي في سنة ثنتين وثمانين، فالله أعلم‏.‏

 عبد الله بن شداد بن الهاد

كان من العباد الزهاد، والعلماء، وله وصايا وكلمات حسان، وقد روى عدة أحاديث عن الصحابة وعن خلق من التابعين‏.‏

 محمد بن علي بن أبي طالب

أبو القاسم وأبو عبد الله أيضاً، وهو المعروف بابن الحنفية، وكانت سوداء سندية من بني حنيفة اسمها خولة‏.‏

ولد محمد في خلافة عمر بن الخطاب، ووفد على معاوية وعلى عبد الملك بن مروان وقد صرع مروان يوم الجمل وقعد على صدره وأراد قتله فناشده مروان بالله وتذلل له فأطلقه، فلما وفد على عبد الملك ذكره بذلك فقال‏:‏ عفواً يا أمير المؤمنين فعفا عنه وأجزل له الجائزة، وكان محمد بن علي من سادات قريش، ومن الشجعان المشهورين، ومن الأقوياء المذكورين، ولما بويع لابن الزبير لم يبايعه، فجرى بينهما شر عظيم، حتى هم ابن الزبير به وبأهله كما تقدم ذلك، فلما قتل ابن الزبير واستقر أمر عبد الملك وبايعه ابن عمر تابعه ابن الحنفية، وقدم المدينة فمات بها في هذه السنة وقيل‏:‏ في التي قبلها أو في التي بعدها، ودفن بالبقيع‏.‏

والرافضة يزعمون أنه بجبل رضوى وأنه حي يرزق، وهم ينتظرونه، وقد قال كثير عزة في ذلك‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/47‏)‏

ألا إن الأئمة من قريشٍ * ولاة الحق أربعة سواءُ

علي والثلاثة من بنيه * هم الأسباط ليس بهم خفاءُ

فسبط سبط إيمان وبر * وسبط غيبته كربلاءُ

وسبط لا تراه العين حتى * تعود الخيل يقدمها لواءُ

ولما هم ابن الزبير بابن الحنفية كتب ابن الحنفية إلى شيعتهم بالكوفة مع أبي الطفيل وأثلة بن الأسقع وعلى الكوفة المختار بن عبيد الله، وقد كان ابن الزبير جمع لهم حطباً كثيراً على أبوابهم ليحرقهم بالنار، فلما وصل كتاب ابن الحنفية إلى المختار، وقد كان المختار يدعو إليه ويسميه المهدي، فبعث المختار أبا عبد الله الجدلي في أربعة آلاف فاستنقذوا بني هاشم من يدي ابن الزبير، وخرج معهم ابن عباس فمات بالطائف وبقي ابن الحنفية في شيعته، فأمره ابن الزبير أن يخرج عنه فخرج إلى أرض الشام بأصحابه وكانوا نحو سبعة آلاف، فلما وصل إلى أيلة كتب إليه عبد الملك‏:‏ إما أن تبايعني وإما أن تخرج من أرضي، فكتب إليه ابن الحنفية‏:‏ أبايعك على أن تؤمن أصحابي، قال‏:‏ نعم، فقام ابن الحنفية في أصحابه فحمد الله وأثنى عليه، فقال‏:‏ الحمد لله الذي حقن دماءكم وأحرز دينكم فمن أحب منكم أن يأتي مأمنه إلى بلده محفوظاً فليفعل، فرحل عنه الناس إلى بلادهم حتى بقي في سبعمائة رجل، فأحرم بعمرة وقلد هدياً وسار نحو مكة، فلما أراد دخول الحرم بعث إليه ابن الزبير خيلاً فمنعه أن يدخل، فأرسل إليه‏:‏ إنا لم نأت لحرب ولا لقتال دعنا ندخل حتى نقضي نسكناً ثم نخرج عنك، فأبى عليه وكان معه بدن قد قلدها فرجع إلى المدينة فأقام بها محرماً حتى قدم الحجاج وقتل ابن الزبير، فكان ابن الحنفية في تلك المدة محرماً، فلما سار الحجاج إلى العراق مضى ابن الحنفية إلى مكة وقضى نسكه وذلك بعد عدة سنين، ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/48‏)‏ وكان القمل يتناثر منه في تلك المدة كلها، فلما قضى نسكه رجع إلى المدينة أقام بها حتى مات، وقيل‏:‏ إن الحجاج لما قتل ابن الزبير بعث إلى ابن الحنفية‏:‏ قد قتل عدو الله فبايع، فكتب إليه إذا بايع الناس كلهم بايعت، فقال الحجاج‏:‏ والله لأقتلنك، فقال ابن الحنفية‏:‏ إن لله في كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة في اللوح المحفوظ، في كل نظرة ثلاثمائة وستون قضية، فلعل الله تعالى أن يجعلني في قضية منها فيكفينيك، فكتب الحجاج إلى عبد الملك بذلك، فأعجبه قوله، وكتب إليه قد عرفنا أن محمداً ليس عنده خلاف فارفق به فهو يأتيك ويبايعك، وكتب عبد الملك بكلامه ذلك - إن لله ثلاثمائة وستين نظرة - إلى ملك الروم، وذلك أن ملك الروم كتب إلى عبد الملك يتهدده بجموع من الجنود لا يطيقها أحد، فكتب بكلام ابن الحنفية، فقال ملك الروم‏:‏ إن هذا الكلام ليس من كلام عبد الملك، وإنما خرج من بيت نبوة، ولما اجتمع الناس على بيعة عبد الملك قال ابن عمر لابن الحنفية‏:‏ ما بقي شيء فبايع فكتب بيعته إلى عبد الملك ووفد عليه بعد ذلك‏.‏

توفي ابن الحنفية في المحرم بالمدينة وعمره خمس وستون سنة، وكان له من الولد عبد الله وحمزة وعلي وجعفر الأكبر والحسن وإبراهيم والقاسم وعبد الرحمن وجعفر الأصغر وعون ورقية، وكلهم لأمهات شتى‏.‏ وقال الزبير بن بكار‏:‏ كانت شيعته تزعم أنه لم يمت وفيه يقول السيد‏:‏

ألا قل للوصي فدتك نفسي * أطلت بذلك الجبل المقاما

أضر بمعشر والوكَ منا * وسموك الخليفة والإماما

وعادوا فيك أهل الأرض طراً * مقامك فيهم ستين عاما

وما ذاق ابن خولة طعم موت * ولا وارث له أرض عظاما

لقد أمسى بمورق شعب رضوى * تراجعه الملائكة الكلاما

وإن له به لمقيل صدق * وأندية تحدثه كراما

هدانا الله ادخرتم لأمر * به عليه يلتمس التماما

تمامٌ ثورة المهدي حتى * تروا راياته تترى نظاما ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/ 49‏)‏

وقد ذهب طائفة من الرافضة إلى إمامته وأنه ينتظر خروجه في آخر الزمان، كما ينتظر طائفة أخرى منهم الحسن بن محمد العسكري، الذي يخرج في زعمهم من سرداب سامراً، وهذا من خرافاتهم وهذيانهم وجهلهم وضلالهم وترهاتهم، وسنزيد ذلك وضوحاً في موضعه وإن شاء الله‏.‏

 ثم دخلت سنة ثنتين وثمانين

ففي المحرم منها كانت وقعة الزاوية بين ابن الأشعث والحجاج في آخره، وكان أول يوم لأهل العراق على أهل الشام، ثم تواقفوا يوماً آخر فحمل سفيان بن الأبرد أحد أمراء أهل الشام على ميمنة ابن الأشعث فهزمها وقتل خلقاً كثيراً من القراء من أصحاب ابن الأشعث في هذا اليوم، وخر الحجاج لله ساجداً بعدما كان جثى على ركبتيه وسل شيئاً من سيفه وجعل يترحم على مصعب بن الزبير ويقول‏:‏ ما كان أكرمه حتى صبر نفسه للقتل، وكان من جملة من قتل من أصحاب ابن الأشعث أبو الطفيل بن عامر بن وائلة الليثي، ولما فر أصحاب ابن الأشعث رجع ابن الأشعث بمن بقي معه ومن تبعه من أهل البصرة، فسار حتى دخل الكوفة فعمد أهل البصرة إلى عبد الرحمن بن عياش بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب فبايعوه، فقاتل الحجاج خمس ليال أشد القتال، ثم انصرف فلحق بابن الأشعث، وتبعه طائفة من أهل البصرة فاستناب الحجاج على البصرة أيوب بن الحكم ابن أبي عقيل، ودخل ابن الأشعث الكوفة فبايعه أهلها على خلع الحجاج وعبد الملك بن مروان‏.‏

وتفاقم الأمر وكثر متابعو ابن الأشعث على ذلك، واشتد الحال، وتفرقت الكلمة جداً وعظم الخطب، واتسع الخرق على الراقع‏.‏

قال الواقدي‏:‏ ولما التقى جيش الحجاج وجيش ابن الأشعث بالزاوية جعل جيش الحجاج يحمل عليهم مرة بعد مرة، فقال القراء‏:‏ - وكان عليهم جبلة بن زحر -‏:‏ أيها الناس ليس الفرار من أحد بأقبح منكم فقاتلوا عن دينكم ودنياكم‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ نحو ذلك، وقال الشعبي‏:‏ قاتلوهم على جورهم واستذلالهم الضعفاء وإماتتهم الصلاة، ثم حملت القراء - وهم العلماء - على جيش الحجاج حملة صادقة فبرعوا فيهم ثم رجعوا فإذا هم بمقدمهم جبلة بن زحر صريعاً، ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/ 50‏)‏ فهدّهم ذلك فناداهم جيش الحجاج‏:‏ يا أعداء الله قد قتلنا طاغيتكم، ثم حمل سفيان بن الأبرد وهو على خيل الحجاج على ميسرة ابن الأشعث وعليها الأبرد بن مرة التميمي، فانهزموا ولم يقاتلوا كثير قتال، فأنكر الناس منهم ذلك‏.‏

وكان أمير ميسرة ابن الأشعث الأبرد شجاعاً لا يفر، وظنوا أنه قد خامر، فنقضت الصفوف وركب الناس بعضهم بعضاً، وكان ابن الأشعث يحرض الناس على القتال، فلما رأى ما الناس فيه أخذ من اتبعه وذهب إلى الكوفة فبايعه أهلها، ثم كانت وقعة دير الجماجم في شعبان من هذه السنة‏.‏

 وقعة دير الجماجم

قال الواقدي‏:‏ وذلك أن ابن الأشعث لما قصد الكوفة خرج إليه أهلها فتلقوه وحفوا به ودخلوا بين يديه، غير أن شرذمة قليلة أرادت أن تقاتله دون مطر بن ناجية نائب الحجاج فلم يمكنهم من ذلك، فعدلوا إلى القصر، فلما وصل ابن الأشعث إلى الكوفة أمر بالسلالم فنصبت على قصر الإمارة فأخذه واستنزل مطر بن ناجية وأراد قتله، فقال له‏:‏ استبقني فإني خير من فرسانك فحبسه، ثم استدعاه فأطلقه وبايعه واستوثق لابن الأشعث أمر الكوفة وانضم إليه من جاء من أهل البصرة، وكان ممن قدم عليه عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن عبد المطلب، وأمر بالمسالح من كل جانب، وحفظت الثغور والطرق والمسالك‏.‏ ثم إن الحجاج ركب فيمن معه من الجيوش الشامية من البصرة في البر حتى مر بين القادسية والعذيب وبعث إليه ابن الأشعث عبد الرحمن بن العباس في خيل عظيمة من المصرين فمنعوا الحجاج من دخول القادسية، فسار الحجاج حتى نزل دير قره، وجاء ابن الأشعث بمن معه من الجيوش البصرية والكوفية حتى نزل دير الجماجم، ومعه جنود كثيرة وفيهم القراء وخلق من الصالحين، وكان الحجاج بعد ذلك يقول‏:‏ قاتل الله ابن الأشعث أما كان يزجر الطير حيث رآني قد نزلت دير قره، ونزل هو بدير الجماجم‏.‏ وكان جملة من اجتمع مع ابن الأشعث مائة ألف مقاتل ممن يأخذ العطاء، ومعهم مثلهم من مواليهم، وقدم على الحجاج في غبون ذلك أمداد كثيرة من الشام، وخندق كل من الطائفتين على نفسه وحول جيشه خندقاً يمتنع به من الوصول إليهم، غير أن الناس كان يبرز بعضهم لبعض في كل يوم فيقتتلون قتالاً شديداً في كل حين، حتى أصيب من رؤوس الناس خلق من قريش وغيرهم، واستمر هذا الحال مدة طويلة، واجتمع الأمراء من أهل المشورة عند عبد الملك بن مروان، فقالوا له‏:‏ إن كان أهل العراق يرضيهم منك أن تعزل عنهم الحجاج فهو أيسر من قتالهم وسفك دمائهم، فاستحضر عبد الملك عند ذلك أخاه محمد بن مروان وابنه عبد الله بن عبد الملك بن مروان، ومعهما جنود كثيرة جداً، وكتب معهما كتاباً إلى أهل العراق، يقول لهم‏:‏ إن كان يرضيكم مني عزل الحجاج عنكم عزلته عنكم، وبعثت عليكم أعطياتكم مثل أهل الشام، وليختر ابن الأشعث أي بلد شاء يكون عليه أميراً ما عاش وعشت، وتكون إمرة العراق لمحمد بن مروان، وقال في عهده هذا‏:‏ فإن لم تجب أهل العراق إلى ذلك فالحجاج على ما هو عليه إليه إمرة الحرب، ومحمد بن مروان وعبد الله بن عبد الملك في طاعة الحجاج وتحت أمره لا يخرجون عن رأيه في الحرب وغيره‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/51‏)‏

ولما بلغ الحجاج ما كتب به عبد الملك إلى أهل العراق من عزله إن رضوا به شق عليه ذلك مشقة عظيمة جداً وعظم شأن هذا الرأي عنده، وكتب إلى عبد الملك‏:‏ يا أمير المؤمنين والله لئن أعطيت أهل العراق نزعي عنهم لا يلبثون إلا قليلاً حتى يخالفوك ويسيروا إليك، ولا يزيدهم ذلك إلا جرأة عليك، ألم تر و تسمع بوثوب أهل العراق مع الأشتر النخعي على ابن عفان‏؟‏ فلما سألهم ما تريدون‏؟‏ قالوا‏:‏ نزع سعيد بن العاص فلما نزعه لم تتم لهم السنة حتى ساروا إليه فقتلوه‏؟‏ وإن الحديد بالحديد يُفلَح، كان الله لك فيما ارتأيت والسلام عليك‏.‏

قال‏:‏ فأبى عبد الملك إلا عرض هذه الخصال على أهل العراق كما أمر، فتقدم عبد الله ومحمد فنادى عبد الله‏:‏ يا معشر أهل العراق أنا عبد الله ابن أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، وإنه يعرض عليكم كيت وكيت، فذكر ما كتب به أبوه معه إليهم من هذه الخصال، وقال محمد بن مروان وأنا رسول أخي أمير المؤمنين إليكم بذلك، فقالوا‏:‏ ننظر في أمرنا غداً ونرد عليكم الخبر عشية، ثم انصرفوا فاجتمع جميع الأمراء إلى ابن الأشعث فقام فيهم خطيباً، وندبهم إلى قبول ما عرض عليهم من عزل الحجاج عنهم وبيعة عبد الملك وإبقاء الأعطيات وإمرة محمد بن مروان على العراق بدل الحجاج، فنفر الناس من كل جانب، وقالوا‏:‏ لا والله لا نقبل ذلك نحن أكثر عدداً وعدداً وهم في ضيق من الحال، وقد حكمنا عليهم، وذلوا لنا والله لا نجيب إلى ذلك أبداً‏.‏ ثم جددوا خلع عبد الملك ونائبه ثانية، واتفقوا على ذلك كلهم‏.‏

فلما بلغ عبد الله بن عبد الملك وعمه محمداً الخبر قالا للحجاج‏:‏ شأنك بهم إذاً فنحن في طاعتك كما أمرنا أمير المؤمنين، فكانا إذا لقياه سلما عليه بالإمرة ويسلم هو أيضاً عليهم بالإمرة، وتولى الحجاج أمر الحرب وتدبيرها كما كان قبل ذلك، فعند ذلك برز كل من الفريقين للقتال والحرب، فجعل الحجاج على ميمنته عبد الرحمن بن سليمان، وعلى ميسرته عمارة بن تميم اللخمي، وعلى الخيل سفيان بن الأبرد وعلى الرجالة عبد الرحمن بن حبيب الحكمي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/52‏)‏

وجعل ابن الأشعث على ميمنته الحجاج بن حارثة الجشمي، وعلى الميسرة الأبرد بن قرة التميمي، وعلى الخيالة عبد الرحمن ابن عياش بن أبي ربيعة، وعلى الرجالة محمد بن سعد بن أبي وقاص الزهري، وعلى القراء جبلة بن زحر بن قيس الجعفي، وكان فيهم سعيد بن جبير وعامر الشعبي وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وكميل بن زياد - وكان شجاعاً فاتكاً على كبر سنه - وأبو البختري الطائي وغيرهم، وجعلوا يقتتلون في كل يوم، وأهل العراق تأتيهم الميرة من الرساتيق والأقاليم، من العلف والطعام، وأما أهل الشام الذين مع الحجاج فهم في أضيق حال من العيش، وقلة من الطعام، وقد فقدوا اللحم بالكلية فلا يجدونه، وما زالت الحرب في هذه المدة كلها حتى انسلخت هذه السنة وهم على حالهم وقتالهم في كل يوم أو يوم بعد يوم، والدائرة لأهل العراق على أهل الشام في أكثر الأيام‏.‏ وقد قتل من أصحاب الحجاج زياد بن غنم، وكسر بسطام بن مصقلة في أربعة آلاف جفون سيوفهم واستقتلوا وكانوا من أصحاب ابن الأشعث‏.‏

 وفي هذه السنة  كانت وفاة المهلب بن أبي صفرة، وهو المهلب بن أبي صفرة ظالم أبو سعيد الأزدي أحد أشراف أهل البصرة ووجوههم ودهاتهم وأجوادهم وكرمائهم، ولد عام الفتح، وكانوا ينزلون فيما بين عمان والبحرين، وقد ارتد قومه فقاتلهم عكرمة بن أبي جهل فظفر بهم، وبعث بهم إلى الصديق وفيهم أبو صفرة وابنه المهلب غلام لم يبلغ الحنث، ثم نزل المهلب البصرة وقد غزا في أيام معاوية أرض الهند سنة أربع وأربعين، وولى الجزيرة لابن الزبير سنة ثمان وستين، ثم ولى حرب الخوارج أول دولة الحجاج، وقتل منهم في وقعة واحدة أربعة آلاف وثمانمائة، فعظمت منزلته عند الحجاج‏.‏ وكان فاضلاً شجاعاً كريماً يحب المدح، وله كلام حسن، فمنه‏:‏ نعم الخصلة السخاء تستر عورة الشريف وتلحق خسيسة الوضيع، وتحبب المزهود فيه، وقال‏:‏ يعجبني في الرجل خصلتان أن أرى عقله زائداً على لسانه، ولا أرى لسانه زائداً على عقله‏.‏

توفي المهلب غازياً بمرو الروذ وعمره ستة وسبعون سنة رحمه الله‏.‏

وكان له عشرة من الولد وهم‏:‏ يزيد، وزياد، والمفضل، ومدرك، وحبيب، والمغيرة، وقبيصة، ومحمد، وهند، وفاطمة‏.‏

توفي المهلب في ذي الحجة منها، وكان من الشجعان وله مواقف حميدة، وغزوات مشهورة في الترك والأزارقة وغيرهم من أنواع الخوارج، وجعل الأمر من بعده ليزيد بن المهلب على إمرة خراسان فأمضى له ذلك الحجاج وعبد الملك بن مروان‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 9/53‏)‏

 أسماء بن خارجة الفزاري الكوفي

وكان جواداً ممدحاً، حكي أنه رأى يوماً شاباً على باب داره جالساً فسأله عن قعوده على بابه فقال‏:‏ حاجة لا أستطيع ذكرها، فألح عليه فقال‏:‏ جارية رأيتها دخلت هذه الدار لم أر أحسن منها وقد خطفت قلبي معها، فأخذ بيده وأدخله داره وعرض عليه كل جارية عنده حتى مرت تلك الجارية فقال‏:‏ هذه فقال له اخرج فاجلس على الباب مكانك فخرج الشاب فجلس مكانه، ثم خرج إليه بعد ساعة والجارية معه قد ألبسها أنواع الحلي، وقال له‏:‏ ما منعني أن أدفعها إليك وأنت داخل الدار إلا أن الجارية كانت لأختي، وكانت ضنينة بها، فاشتريتها لك منها بثلاثة آلاف، وألبستها هذا الحلي، فهي لك بما عليها، فأخذها الشاب وانصرف‏.‏

 المغيرة بن المهلب

ابن أبي صفرة، كان جواداً ممدحاً شجاعاً، له مواقف مشهورة‏.‏

 الحارث بن عبد الله

ابن ربيعة المخزومي المعروف بقباع، ولي إمرة البصرة لابن الزبير‏.‏

 محمد بن أسامة بن زيد بن حارثة

كان من فضلاء أبناء الصحابة وأعقلهم، توفي بالمدينة ودفن بالبقيع‏.‏

 عبد الله بن أبي طلحة بن أبي الأسود

والد الفقيه إسحاق حملت به أمه أم سليم ليلة مات ابنها فأصبح أبو طلحة فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏عرستم بارك الله لكما في ليلتكما‏)‏‏)‏ ولما ولد حنكه بتمرات‏.‏

 عبد الله بن كعب بن مالك

كان قائد كعب حين عمي، له روايات، توفي بالمدينة هذه السنة‏.‏

 عفان بن وهب

أبو أيمن الخولاني المصري له صحبة ورواية، وغزا المغرب، وسكن مصر وبها مات‏.‏

 جميل بن عبد الله

ابن معمر بن صباح بن ظبيان بن الحسن بن ربيعة بن حرام بن ضبة بن عبيد بن كثير بن عذرة بن سعد بن هذيم بن زيد بن ليث بن سرهد بن أسلم بن الحاف بن قضاعة‏.‏

أبو عمرو الشاعر صاحب بثينة، كان قد خطبها فمنعت منه، فتغزل فيها واشتهر بها، وكان أحد عشاق العرب، كانت إقامته بوادي القرى، وكان عفيفاً حيياً ديناً شاعراً إسلامياً، من أفصح الشعراء في زمانه، وكان كثير عزة راويته، وهو يروي عن هدبة بن خثرم عن الحطيئة عن زهير بن أبي سلمى، وابنه كعب، قال كثير عزة‏:‏ كان جميل أشعر العرب حيث يقول‏:‏

وأخبرتماني أن تيماء منزل * لليلى إذا ما الصيف ألقى المراسيا

فهذي شهور الصيف عنَّا قد انقضت * فما للنوى ترمي بليلى المراميا

ومنها قوله‏:‏

وما زلت بي يا بثن حتى لو أنني * من الشوق أستبكي الحمام بكى ليا

وما زادني الواشون إلا صبابة * ولا كثرة الناهين إلا تماديا

وما أحدث النأي المفرق بيننا * سلوَّاً ولا طول اجتماع تقاليا

ألم تعلمي يا عذبة الريق أنني * أظل إذا لم ألق وجهك صاديا

لقد خفت أن ألقى المنية بغتة * وفي النفس حاجات إليك كما هيا

وله أيضاً‏:‏

إني لأحفظ غيبكم ويسرني * لو تعلمين بصالح أن تذكري

إلى أن قال‏:‏

ما أنت والوعد الذي تعدينني * إلا كبرق سحابة لم تمطر

وقوله وروى لعمرو بن أبي ربيعة فيما رواه ابن عساكر‏:‏

ما زلت أبغي الحي أتبع فلهم * حتى دفعت إلى ربيبة هودج ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/55‏)‏

فدنوت مختفياً ألمُّ ببيتها * حتى ولجت إلى خفي المولج

قالت‏:‏ وعيش أخي ونعمة والدي * لأنبهن الحي إن لم تخرج

فتناولت رأسي لتعرف مسه * بمخضب الأطراف غير مشنج

فخرجت خيفة أهلها فتبسمت * فعلمت أن يمينها لم تحرج

فلثمت فاها آخذاً بقرونها * فرشفت ريقاً بارداً متثلج

قال كثير عزة‏:‏ لقيني جميل بثينة فقال‏:‏ من أين أقبلت‏؟‏

فقلت‏:‏ من عند هذه الحبيبة، فقال‏:‏ وإلى أين‏؟‏ فقلت‏:‏ وإلى هذه الحبيبة - يعني عزة - فقال‏:‏ أقسمت عليك لما رجعت إلى بثينة فواعدتها لي فإن لي من أول الصيف ما رأيتها، وكان آخر عهدي بها بوادي القرى، وهي تغسل هي وأمها ثوباً فتحادثنا إلى الغروب، قال كثير‏:‏ فرجعت حتى أنخت بهم‏.‏

فقال أبو بثينة‏:‏ ما ردك يا ابن أخي‏؟‏

فقلت‏:‏ أبيات قلتها فرجعت لأعرضها عليك‏.‏

فقال‏:‏ وما هي‏؟‏

فأنشدته وبثينة تسمع من وراء الحجاب‏:‏

فقلت لها‏:‏ يا عز أرسل صاحبي * إليك رسولاً والرسول موكل

بأن تجعلي بيني وبينك موعداً * وأن تأمريني مال الذي فيه أفعل

وآخر عهدي منك يوم لقيتني * بأسفل وادي الدوم والثوب يغسل

فلما كان الليل أقبلت بثينة إلى المكان الذي واعدته إليه، وجاء جميل وكنت معهم فما رأيت ليلة أعجب منها ولا أحسن منادمات، وانفضَّ ذلك المجلس وما أدري أيهما أفهم لما في ضمير صاحبه منه‏.‏

وذكر الزبير بن بكار عن عباس بن سهل الساعدي أنه دخل على جميل وهو يموت فقال له‏:‏ ما تقول في رجل لم يشرب الخمر قط، ولم يزن قط ولم يسرق ولم يقتل النفس وهو يشهد أن لا إله إلا الله‏؟‏

قال‏:‏ أظنه قد نجا وأرجو له الجنة، فمن هذا‏؟‏

قال‏:‏ أنا، فقلت‏:‏ الله ما أظنك سلمت وأنت تشبب بالنساء منذ عشرين سنة، ببثينة‏.‏

فقال‏:‏ لا نالتني شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، وإني لفي أول يوم من أيام الآخرة وآخر يوم من أيام الدنيا إن كنت وضعت يدي عليها بريبة، قال‏:‏ فما برحنا حتى مات‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/56‏)‏

قلت‏:‏ كانت وفاته بمصر لأنه كان قد قدم على عبد العزيز بن مروان فأكرمه وسأله عن حبه بثينة فقال‏:‏ شديداً، واستنشده من أشعاره ومدائحه فأنشده فوعده أن يجمع بينه وبينها، فعاجلته المنية في سنة ثنتين وثمانين رحمه الله آمين‏.‏

وقد ذكر الأصمعي عن رجل أن جميلاً قال له‏:‏ هل أنت مبلغ عني رسالة إلى حي بثينة ولك ما عندي‏؟‏ قال‏:‏ نعم ‏!‏ قال‏:‏ إذا أنا متُّ فاركب ناقتي وألبس حلتي هذه وأمره أن يقول أبياتاً منها قوله‏:‏

قومي بثينة فاندبي بعويل * وابكي خليلاً دون كل خليل

فلما انتهى إلى حيهم أنشد الأبيات فخرجت بثينة كأنها بدر سرى في جنة وهي تتثنى في مرطها فقالت له‏:‏ ويحك إن كنت صادقاً فقد قتلتني، وإن كنت كاذباً فقد فضحتني‏.‏ فقلت‏:‏ بلى والله صادق وهذه حلته وناقته، فلما تحققت ذلك أنشدت أبياتاً ترثيه بها وتتأسف عليه فيها، وأنه لا يطيب لها العيش بعده، ولا خير لها في الحياة بعد فقده، ثم ماتت من ساعتها‏:‏ قال الرجل‏:‏ فما رأيت أكثر باكياً ولا باكية من يومئذ‏.‏

وروى ابن عساكر عنه أنه قيل له بدمشق‏:‏ لو تركت الشعر وحفظت القرآن‏؟‏

فقال‏:‏ هذا أنس بن مالك يخبرني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن من الشعر لحكمة‏)‏‏)‏‏.‏

 عمر بن عبيد الله

ابن معمر بن عثمان أبو حفص القرشي التميمي أحد الأجواد والأمراء الأمجاد، فتحت على يديه بلدان كثيرة، وكان نائباً لابن الزبير على البصرة، وقد فتح كابل مع عبد الله بن خازم، وهو الذي قتل قطري بن الفجاءة، روى عن ابن عمر وجابر وغيرهما، وعن عطاء بن أبي رباح، وابن عون، ووفد على عبد الملك فتوفي بدمشق سنة ثنتين وثمانين‏.‏ قاله المدائني‏.‏

وحكي أن رجلاً اشترى جارية كانت تحسن القرآن والشعر وغيره فأحبها حباً شديداً وأنفق عليها ماله كله حتى أفلس ولم يبق له شيء سوى هذه الجارية، فقالت له الجارية‏:‏ قد أرى ما بك من قلة الشيء‏.‏ فلو بعتني وانتفعت بثمني صلح حالك، فباعها لعمر بن عبيد الله هذا - وهو يومئذ أمير البصرة - بمائة ألف درهم، فلما قبض المال ندم وندمت الجارية، فأشارت تخاطب سيدها بأبيات شعر وهي‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/57‏)‏

هنيئاً لك المال الذي قد أخذته * ولم يبق في كفِّي إلا تفكُّري

أقول لنفسي وهي في كرب عيشةٍ * أقلي فقد بان الخليط أو أكثري

إذا لم يكن في الأمر عندك حيلةٌ * ولم تجدي بداً من الصبر فاصبري

فأجابها سيدها فقال‏:‏

ولولا قعود الدهر بي عنك لم يكن * لفرقتنا شيءٌ سوى الموت فاصبري

أأوب بحزن من فراقك موجعٌ * أناجي به قلباً طويل التذكر

عليك سلام لا زيارة بيننا * ولا وصل إلا أن يشاء ابن معمر

فلما سمعهما ابن معمر قد شببت قال‏:‏ والله لا فرقت بين محبين أبداً، ثم أعطاه المال - وهو مائة ألف - والجارية لما رأى من توجعهما على فراق كل منهما صاحبه، فأخذ الرجل الجارية وثمنها وانطلق‏.‏

توفي عمر بن عبيد الله بن معمر هذا بدمشق بالطاعون، وصلى عليه عبد الملك بن مروان، ومشى في جنازته وحضر دفنه وأثنى عليه بعد موته، وكان له من الولد طلحة وهو من سادات قريش تزوج فاطمة بنت القاسم بن محمد بن جعفر على صداق أربعين ألف دينار، فأولدها إبراهيم ورملة، فتزوج رملة إسماعيل بن علي بن عبد الله بن عباس على صداق مائة ألف دينار رحمهم الله‏.‏

 كُمَيل بن زياد

ابن نهيك بن خيثم النخعي الكوفي‏.‏ روى عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي هريرة، وشهد مع علي صفين، وكان شجاعاً فاتكاً، وزاهداً عابداً، قتله الحجاج في هذه السنة، وقد عاش مائة سنة قتله صبراً بين يديه‏:‏ وإنما نقم عليه لأنه طلب من عثمان بن عفان القصاص من لطمة لطمها إياه‏.‏ فلما أمكنه عثمان من نفسه عفا عنه، فقال له الحجاج‏:‏ أو مثلك يسأل من أمير المؤمنين القصاص‏؟‏ ثم أمر فضربت عنقه، قالوا‏:‏ وذكر الحجاج علياً في غبون ذلك فنال منه وصلى عليه كُميل، فقال له الحجاج‏:‏ والله لأبعثن إليك من يبغض علياً أكثر مما تحبه أنت، فأرسل إليه ابن أدهم، وكان من أهل حمص، ويقال أبا الجهم بن كنانة فضرب عنقه، وقد روى عن كميل جماعة كثيرة من التابعين وله الأثر المشهور عن علي بن أبي طالب الذي أوله ‏(‏‏(‏القلوب أوعية فخيرها أوعاها‏)‏‏)‏ وهو طويل قد رواه جماعة من الحفاظ الثقات وفيه مواعظ وكلام حسن رضي الله عن قائله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/58‏)‏

 زاذان أبو عمرو الكندي

أحد التابعين كان أولاً يشرب المسكر ويضرب بالطنبور، فرزقه الله التوبة على يد عبد الله بن مسعود وحصلت له إنابة ورجوع إلى الحق، وخشية شديدة، حتى كان في الصلاة كأنه خشبة‏.‏

قال خليفة‏:‏ وفيها توفي زر بن حبيش أحد أصحاب ابن مسعود وعائشة، وقد أتت عليه مائة وعشرون سنة‏.‏

وقال أبو عبيد‏:‏ مات سنة إحدى وثمانين، وقد تقدمت له ترجمة ‏(‏شقيق بن سلمة‏)‏ أبو وائل، أدرك من زمن الجاهلية سبع سنين، وأسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

 أم الدرداء الصغرى

اسمها هجيمة ويقال جهيمة تابعية عابدة عالمة فقيهة كان الرجال يقرؤون عليها ويتفقهون في الحائط الشمالي بجامع دمشق، وكان عبد الملك بن مروان يجلس في حلقتها مع المتفقهة يشتغل عليها وهو خليفة، رضي الله عنها‏.‏