فصل: القول فيما أوتي صالح عليه السَّلام‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 باب البينة على ذكر معجزات لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏

مماثلة لمعجزات جماعة من الأنبياء قبله وأعلى منها خارجة عما اختص به من المعجزات العظيمة التي لم يكن لأحد قبله منهم - عليهم السَّلام -‏.‏

فمن ذلك القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فإنَّه معجزة مستمرة على الآباد ولا يخفى برهانها ولا يتفحص مثلها، وقد تحدَّى به الثِّقلين من الجنِّ والأنس على أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور أو بسورة من مثله فعجزوا عن ذلك كما تقدَّم تقرير ذلك في أوَّل كتاب المعجزات‏.‏

وقد سبق الحديث المتَّفق على إخراجه في الصَّحيحين من حديث اللَّيث بن سعد بن سعيد ابن أبي سعيد المقبريّ عن أبيه، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما من نبيّ إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنَّما كان الذي أوتيت وحياً أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة‏)‏‏)‏‏.‏

والمعنى‏:‏ أنَّ كل نبيّ أوتي من خوارق المعجزات ما يقتضي إيمان من رأى ذلك من أولي البصائر والنُّهى لا من أهل العناد والشَّقاء، وإنَّما كان الذي أوتيته أي جلَّه وأعظمه وأبهره القرآن الذي أوحاه الله إليَّ فإنَّه لا يبيد ولا يذهب كما ذهبت معجزات الأنبياء وانقضت بانقضاء أيَّامهم، فلا تشاهد بل يخبر عنها بالتَّواتر والآحاد، بخلاف القرآن العظيم الذي أوحاه الله إليه فإنَّه معجزة متواترة عنه مستمرة دائمة البقاء بعده مسموعة لكلِّ من ألقى السَّمع وهو شهيد‏.‏

وقد تقدَّم في الخصائص ذكر ما اختص به رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن بقية إخوانه من الأنبياء - عليهم السَّلام - كما ثبت في الصَّحيحين عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏أعطيت خمساً لم يعطهنَّ أحد قبلي نصرت بالرُّعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأينما رجل من أمَّتي أدركته الصَّلاة فليصلِّ، وأحلَّت لي الغنائم ولم تحلّ لأحد قبلي، وأعطيت الشَّفاعة وكان النَّبيّ يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامة‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/289‏)‏

وقد تكلَّمنا على ذلك وما شاكله فيما سلف بما أغنى عن إعادته ولله الحمد‏.‏

وقد ذكر غير واحد من العلماء أنَّ كل معجزة لنبي من الأنبياء فهي معجزة لخاتمهم محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم وذلك أنَّ كلاً منهم بشَّر بمبعثه وأمر بمتابعته‏.‏

كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ ءأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 81-82‏]‏‏.‏

وقد ذكر البخاريّ وغيره عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما أنَّه قال‏:‏ ما بعث الله نبياً من الأنبياء إلا أخذ عليه العهد والميثاق لئن بعث محمَّد وهو حيّ ليؤمننَّ به، وليتبعنَّه ولينصرنَّه، وذكر غير واحد من العلماء أنَّ كرامات الأولياء معجزات للأنبياء لأنَّ الولي إنَّما نال ذلك ببركة متابعته لنبيه وثواب إيمانه والمقصود أنَّه كان الباعث لي على عقد هذا الباب أني وقفت على مولد اختصره من سيرة الإمام محمد بن إسحاق بن يسار وغيرهما شيخنا الإمام العلامة شيخ الإسلام كمال الدِّين أبو المعالي محمد بن علي الأنصاريّ السماكيّ، نسبة إلى أبي دجانة الأنصاري سماك بن حرب بن حرشة الأوسي رضي الله عنه شيخ الشَّافعية في زمانه بلا مدافعة، المعروف بابن الزَّملكانيّ - عليه رحمة الله - وقد ذكر في أواخره شيئاً من فضائل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وعقد فصلاً في هذا الباب فأورد فيه أشياء حسنة، ونبَّه على فوائد جمَّة، وفوائد مهمَّة، وترك أشياء أخرى حسنة ذكرها غيره من الأئمة المتقدِّمين، ولم أره استوعب الكلام إلى آخره، فأمَّا أنَّه قد سقط من خطه أو أنَّه لم يكمل تصنيفه، فسألني بعض أهله من أصحابنا ممن تتأكد إجابته وتكرر ذلك منه في تكميله وتبويبه وترتيبه وتهذيبه والزِّيادة عليه، والإضافة إليه، فاستخرت الله حيناً من الدَّهر ثمَّ نشطت لذلك ابتغاء الثَّواب والأجر، وقد كنت سمعت من شيخنا الإمام العلامة الحافظ أبي الحجَّاج المزِّي - تغمده الله برحمته - أنَّ أوَّل من تكلم في هذا المقام الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشَّافعي رضي الله عنه‏.‏

وقد روى الحافظ أبو بكر البيهقيّ رحمه الله في كتابه ‏(‏دلائل النُّبوة‏)‏ عن شيخه الحاكم أبي عبد الله أخبرني أبو أحمد ابن أبي الحسن، أنَّا عبد الرَّحمن بن أبي حاتم الرَّازيّ عن أبيه، قال عمر بن سوار‏:‏ قال الشَّافعي‏:‏ مثل ما أعطى الله نبياً ما أعطى محمَّداً صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

فقلت‏:‏ أعطى عيسى إحياء الموتى‏.‏

فقال‏:‏ أعطى محمَّدا صلَّى الله عليه وسلَّم الجذع الذي كان يخطب إلى جنبه حين بني له المنبر حنَّ الجذع حتى سمع صوته فهذا أكبر من ذلك، هذا لفظه رضي الله عنه والمراد من إيراد ما نذكره في هذا الباب البينة على ما أعطى الله أنبياءه - عليهم السَّلام - من الآيات البيِّنات، والخوارق القاطعات، والحجج الواضحات، وأنَّ الله جمع لعبده ورسوله سيِّد الأنبياء وخاتمهم من جميع أنواع المحاسن والآيات، مع ما اختصَّه الله به مما لم يؤت أحداً قبله كما ذكرنا في خصائصه وشمائله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/290‏)‏

ووقفت على فصل مليح في هذا المعنى في كتاب ‏(‏دلائل النبّوة‏)‏ للحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهانيّ وهو كتاب حافل في ثلاث مجلدات، عقد فيه فصلاً في هذا المعنى‏.‏

وكذا ذكر ذلك الفقيه أبو محمد عبد الله بن حامد في كتابه ‏(‏دلائل النُّبوة‏)‏ وهو كتاب كبير جليل حافل مشتمل على فرائد نفيسة‏.‏

وكذا الصرصريّ الشَّاعر يورد في بعض قصائده أشياء من ذلك كما سيأتي، وها أنا أذكر بعون الله مجامع ما ذكرنا من هذه الأماكن المتفرقة بأوجز عبارة، وأقصر إشارة وبالله المستعان وعليه التّكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم‏.‏

 القول فيما أوتي نوح عليه السلام‏:‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ * وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 10-15‏]‏‏.‏

وقد ذكرت القصَّة مبسوطة في أوَّل هذا الكتاب وكيف دعا على قومه فنجَّاه الله ومن اتَّبعه من المؤمنين فلم يهلك منهم أحد، وأغرق من خالفه من الكافرين فلم يسلم منهم أحد، حتى ولا ولده‏.‏

قال شيخنا العلامة أبو المعالي محمد بن علي الأنصاريّ الزَّملكانيّ ومن خطِّه نقلت‏:‏ وبيان أنَّ كل معجزة لنبيّ فلنبِّينا أمثالها إذا تمَّ يستدعي كلاماً طويلاً وتفصيلاً لا يسعه مجلدات عديدة، ولكن ننبِّه بالبعض على البعض، فلنذكر جلائل معجزات الأنبياء - عليهم السَّلام -‏.‏

فمنها نجاة نوح في السَّفينة بالمؤمنين ولا شكَّ أنَّ حمل الماء للنَّاس من غير سفينة أعظم من السُّلوك عليه في السَّفينة، وقد مشى كثير من الأولياء على متن الماء، وفي قصَّة العلاء بن زياد صاحب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ما يدلُّ على ذلك‏.‏

روى منجاب قال‏:‏ غزونا مع العلاء بن الحضرميّ دارين فدعا بثلاث دعوات فاستجيبت له، فنزلنا منزلاً فطلب الماء فلم يجده، فقام وصلَّى ركعتين وقال‏:‏ اللَّهم إنَّا عبيدك وفي سبيلك نقاتل عدوَّك اللَّهم اسقنا غيثاً نتوضأ به ونشرب، ولا يكون لأحد فيه نصيب غيرنا، فسرنا قليلاً فإذا نحن بماء حين أقلعت السَّماء عنه، فتوضأنا منه، وتزوَّدنا وملأت إداوتي وتركتها مكانها حتى أنظر هل استجيب له أم لا، فسرنا قليلاً ثمَّ قلت لأصحابي‏:‏ نسيت إداوتي فرجعت إلى ذلك المكان فكأنَّه لم يصبه ماء قط، ثمَّ سرنا حتى أتينا دارين والبحر بيننا وبينهم‏.‏

فقال‏:‏ يا علي يا حكيم إنَّا عبيدك وفي سبيلك نقاتل عدوَّك اللَّهم فاجعل لنا إليهم سبيلا، فدخلنا البحر فلم يبلغ الماء لبودنا ومشينا على متن الماء ولم يبتل لنا شيء، وذكر بقية القصَّة‏.‏

فهذا أبلغ من ركوب السَّفينة فإنَّ حمل الماء للسَّفينة معتاد، وأبلغ من فلق البحر لموسى فإنَّ هناك انحسر الماء حتى مشوا على الأرض فالمعجز انحسار الماء، وها هنا صار الماء جسداً يمشون عليه كالأرض وإنَّما هذا منسوب إلى النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وبركته، انتهى ما ذكره بحروفه فيما يتعلق بنوح عليه السلام‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/291‏)‏

وهذه القصَّة التي ساقها شيخنا ذكرها الحافظ أبو بكر البيهقيّ في كتابه ‏(‏الدَّلائل‏)‏ من طريق أبي بكر ابن أبي الدُّنيا عن أبي كريب، عن محمد بن فضيل، عن الصَّلت بن مطر العجليّ، عن عبد الملك ابن أخت سهم، عن سهم بن منجاب قال‏:‏ غزونا مع العلاء بن الحضرميّ فذكره‏.‏

وقد ذكرها البخاريّ في ‏(‏التَّاريخ الكبير‏)‏ من وجه آخر‏.‏

ورواها البيهقيّ من طريق أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه كان مع العلاء وشاهد ذلك‏.‏

وساقها البيهقيّ من طريق عيسى بن يونس عن عبد الله، عن عون، عن أنس بن مالك قال‏:‏ أدركت في هذه الأمَّة ثلاثاً لو كانت في بني إسرائيل لما تقاسمها الأمم‏.‏

قلنا‏:‏ ما هنَّ يا أبا حمزة ‏؟‏

قال‏:‏ كنَّا في الصَّفة عند رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فأتته امرأة مهاجرة ومعها ابن لها قد بلغ، فأضاف المرأة إلى النِّساء، وأضاف ابنها إلينا، فلم يلبث أن أصابه وباء المدينة فمرض أيَّاما ثمَّ قُبض فغمَّضه النَّبيّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأمر بجهازه، فلمَّا أردنا أن نغسِّله قال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أنس إئت أمَّه فأعلمها‏)‏‏)‏‏.‏

فأعلمتها، قال‏:‏ فجاءت حتَّى جلست عند قدميه، فأخذت بهما ثمَّ قالت‏:‏ اللَّهم إني أسلمت لك طوعاً وخلعت الأوثان، فلا تحملني من هذه المصيبة ما لا طاقة لي بحمله‏.‏

قال‏:‏ فوالله ما انقضى كلامها حتى حرَّك قدميه وألقى الثَّوب عن وجهه، وعاش حتى قبض الله رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم وحتَّى هلكت أمَّه‏.‏

قال أنس‏:‏ ثمَّ جهَّز عمر بن الخطَّاب جيشاً واستعمل عليهم العلاء بن الحضرميَّ‏.‏

قال أنس‏:‏ وكنت في غزاته، فأتينا مغازينا فوجدنا القوم قد بدروا بنا فعفوا آثار الماء والحرّ شديد فجهدنا العطش ودوابنا وذلك يوم الجمعة‏.‏

فلمَّا مالت الشَّمس لغروبها صلَّى بنا ركعتين ثمَّ مدَّ يده إلى السَّماء وما نرى في السَّماء شيئاً قال‏:‏ فوالله ما حطَّ يده حتى بعث الله ريحاً، وأنشأ سحاباً، وأفرغت حتى ملأت الغدر والشِّعاب، فشربنا وسقينا ركابنا واستقينا‏.‏

قال‏:‏ ثمَّ أتينا عدوَّنا وقد جاوز خليجاً في البحر إلى جزيرة‏.‏

فوقف على الخليج وقال‏:‏ يا علي يا عظيم يا حليم يا كريم ثمَّ قال‏:‏ أجيزوا بسم الله‏.‏

قال‏:‏ فأجزنا ما يبل الماء حوافر دوابنا، فلم نلبث إلا يسيراً فأصبنا العدوّ عليه فقتلنا وأسرنا وسبينا ثمَّ أتينا الخليج، فقال مثل مقالته، فأجزنا ما يبل الماء حوافر دوابنا‏.‏

ثمَّ ذكر موت العلاء ودفنهم إيَّاه في أرض لا تقبل الموتى، ثمَّ إنهم حفروا عليه لينقلوه منها إلى غيرها فلم يجدوه، ثمَّ وإذا اللَّحد يتلألأ نوراً فأعادوا التُّراب عليه ثمَّ ارتحلوا‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/292‏)‏

فهذا السِّياق أتمّ وفيه قصَّة المرأة التي أحيى الله لها ولدها بدعائها، وسننبه على ذلك فيما يتعلق بمعجزات المسيح عيسى بن مريم مع ما يشابهها إن شاء الله تعالى‏.‏

كما سنشير إلى قصَّة العلاء هذه مع ما سنورده معها ههنا فيما يتعلق بمعجزات موسى عليه السلام في قصَّة فلق البحر لبني إسرائيل وقد أرشد إلى ذلك شيخنا في عيون كلامه‏.‏

قصَّة أخرى تشبه قصَّة العلاء بن الحضرميّ‏:‏

روى البيهقيّ في ‏(‏الدَّلائل‏)‏ وقد تقدَّم ذلك أيضاً من طريق سليمان بن مروان الأعمش عن بعض أصحابه قال‏:‏ انتهينا إلى دجلة وهي مادة والأعاجم خلفها‏.‏

فقال رجل من المسلمين‏:‏ بسم الله ثمَّ اقتحم بفرسه فارتفع على الماء‏.‏

فقال النَّاس‏:‏ بسم الله ثمَّ اقتحموا فارتفعوا على الماء، فنظر إليهم الأعاجم وقالوا‏:‏ ديوان، ديوان - أي مجانين - ثمَّ ذهبوا على وجوههم‏.‏

قال‏:‏ فما فقد النَّاس إلا قدحاً كان معلقاً بعذبة سرج، فلمَّا خرجوا أصابوا الغنائم واقتسموا، فجعل الرَّجل يقول‏:‏ من يبادل صفراء ببيضاء‏؟‏

وقد ذكرنا في السِّيرة العمريّة وأيَّامها وفي التَّفسير أيضاً أنَّ أوَّل من اقتحم دجلة يومئذ أبو عبيدة النفيعيّ أمير الجيوش في أيام عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - وأنَّه نظر إلى دجلة فتلا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 145‏]‏‏.‏

ثمَّ سمَّى الله تعالى واقتحم بفرسه الماء، واقتحم الجيش وراءه، ولما نظر إليهم الأعاجم يفعلون ذلك جعلوا يقولون‏:‏ ديوان، ديوان - أي مجانين، مجانين - ثمَّ ولَّوا مدبرين فقتلهم المسلمون وغنموا منهم مغانم كثيرة‏.‏

قصَّة أخرى شبيهة بذلك‏:‏

وروى البيهقيّ من طريق أبي النضر عن سليمان بن المغيرة أنَّ أبا مسلم الخولانيّ جاء إلى دجلة وهي ترمي الخشب من مدِّها فمشى على الماء والتفت إلى أصحابه وقال‏:‏ هل تفقدون من متاعكم شيئاً فندعو الله تعالى‏؟‏

ثمَّ قال‏:‏ هذا إسناد صحيح‏.‏

قلت‏:‏ وقد ذكر الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر في ترجمة أبي عبد الله بن أيوب الخولانيّ هذه القصَّة بأبسط من هذه من طريق بقية ابن الوليد حدَّثني محمد بن زياد عن أبي مسلم الخولاني أنَّه كان إذا غزا أرض الرُّوم فمرُّوا بنهر، قال‏:‏ أجيزوا بسم الله‏.‏

قال‏:‏ ويمر بين أيديهم فيمرُّون على الماء فما يبلغ من الدَّواب إلا إلى الرُّكب، أو في بعض ذلك أو قريبا من ذلك‏.‏

قال‏:‏ وإذا جازوا قال للنَّاس‏:‏ هل ذهب لكم شيء‏؟‏ من ذهب له شيء فأنا ضامن‏.‏

قال‏:‏ فألقى مخلاة عمداً فلمَّا جاوزوا، قال الرَّجل‏:‏ مخلاتي وقعت في النَّهر‏.‏

قال له‏:‏ إتبعني، فإذا المخلاة قد تعلقت ببعض أعواد النَّهر‏.‏

قال‏:‏ خذها‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/293‏)‏

وقد رواه أبو داود من طريق الأعرابي عنه عن عمرو بن عثمان، عن بقية به، ثمَّ قال أبو داود‏:‏ حدَّثنا موسى بن إسماعيل، حدَّثنا سليمان بن المغيرة عن حميد أنَّ أبا مسلم الخولانيّ أتى على دجلة وهي ترمي بالخشب من مدِّها فوقف عليها ثمَّ حمد الله وأثنى عليه، وذكر مسير بني إسرائيل في البحر، ثمَّ لهز دابَّته فخاضت الماء وتبعه النَّاس حتَّى قطعوا‏.‏

ثمَّ قال‏:‏ هل فقدتم شيئاً من متاعكم فأدعو الله أن يرده عليّ ‏؟‏

وقد رواه ابن عساكر من طريق أخرى عن عبد الكريم بن رشيد، عن حميد بن هلال العدوي، حدَّثني ابن عمي أخي أبي قال‏:‏ خرجت مع أبي مسلم في جيش فأتينا على نهر عجاج منكر، فقلنا لأهل القرية‏:‏ أين المخاضة ‏؟‏

فقالوا‏:‏ ما كانت هاهنا مخاضة ولكن المخاضة أسفل منكم على ليلتين‏.‏

فقال أبو مسلم‏:‏ اللَّهم أجزت بني إسرائيل البحر، وإنَّا عبيدك وفي سبيلك فأجزنا هذا النَّهر اليوم، ثمَّ قال‏:‏ اعبروا بسم الله‏.‏

قال ابن عمي‏:‏ وأنا على فرس فقلت‏:‏ لأدفعنه أوَّل النَّاس خلف فرسه قال‏:‏ فوالله ما بلغ الماء بطون الخيل حتَّى عبر النَّاس كلَّهم‏.‏

ثمَّ وقف وقال‏:‏ يا معشر المسلمين هل ذهب لأحد منكم شيء فأدعو الله تعالى يرده ‏؟‏

فهذه الكرامات لهؤلاء الأولياء هي معجزات لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كما تقدَّم تقريره لأنَّهم إنَّما نالوها ببركة متابعته ويمن سفارته، إذ فيها حجَّة في الدِّين أكيدة للمسلمين، وهي مشابهة نوح - عليه السَّلام - في مسيره فوق الماء بالسَّفينة التي أمره الله تعالى بعملها، ومعجزة موسى - عليه السَّلام - في فلق البحر، وهذه فيها ما هو أعجب من ذلك من جهة مسيرهم على متن الماء من غير حائل، ومن جهة أنَّه ماء جار والسَّير عليه أعجب من السَّير على الماء القار الذي يجاز، وإن كان ماء الطُّوفان أطمّ وأعظم فهذه خارق والخارق لا فرق بين قليله وكثيره، فإنَّ من سلك على وجه الماء الخضم الجاري العجَّاج فلم يبتل منه نعال خيولهم أو لم يصل إلى بطونها فلا فرق في الخارق بين أن يكون قامة أو ألف قامة، أو أن يكون نهراً أو بحراً، بل كونه نهراً عجاجاً كالبرق الخاطف، والسَّيل الجاري أعظم وأغرب وكذلك بالنّسبة إلى فلق البحر وهو جانب بحر القلزم حتى صار كل فرق كالطود العظيم أي الجبل الكبير، فانحاز الماء يميناً وشمالاً حتَّى بدت أرض البحر وأرسل الله عليها الرِّيح حتى أيبسها ومشت الخيول عليها بلا انزعاج حتَّى جاوزوا عن آخرهم، وأقبل فرعون بجنوده ‏{‏فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ * وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 78-79‏]‏‏.‏

وذلك أنَّهم لمَّا توسَّطوه وهمَّوا بالخروج منه أمر الله البحر فارتطم عليهم فغرقوا عن آخرهم فلم يفلت منهم أحد كما لم يفقد من بني إسرائيل واحد، ففي ذلك آية عظيمة بل آيات معدودات كما بسطنا ذلك في التَّفسير ولله الحمد والمنة‏.‏

والمقصود أنَّ ما ذكرناه من قصَّة العلاء بن الحضرميّ، وأبي عبد الله الثَّقفيّ، وأبي مسلم الخولانيّ من مسيرهم على تيَّار الماء الجاري فلم يفقد منهم أحد، ولم يفقدوا شيئاً من أمتعتهم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/294‏)‏

هذا وهُمْ أولياء منهم صحابي، وتابعيان، فما الظَّن لو كان الاحتياج إلى ذلك بحضرة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم سيِّد الأنبياء وخاتمهم، وأعلاهم منزلة ليلة الإسراء، وإمامهم ليلتئذٍ ببيت المقدس الذي هو محل ولايتهم، ودار بدايتهم، وخطيبهم يوم القيامة، وأعلاهم منزلة في الجنَّة، وأوَّل شافع في الحشر وفي الخروج من النَّار، وفي دخوله الجنَّة وفي رفع الدَّرجات بها‏.‏

كما بسطنا أقسام الشَّفاعة وأنواعها في آخر الكتاب في أهوال يوم القيامة، وبالله المستعان‏.‏

وسنذكر في المعجزات الموسوية ما ورد من المعجزات المحمَّدية مما هو أظهر وأبهر منها ونحن الآن فيما يتعلق بمعجزات نوح عليه السلام ولم يذكر شيخنا سوى ما تقدَّم‏.‏

وأمَّا الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهانيّ فإنَّه قال في آخر كتابه ‏(‏دلائل النُّبوة‏)‏ وهو في مجلدات ثلاث‏:‏ الفصل الثَّالث والثَّلاثون في ذكر موازنة الأنبياء في فضائلهم بفضائل نبينا ومقابلة ما أوتوا من الآيات بما أوتي، إذ أوتي ما أوتوا وشبهه ونظيره فكان أوَّل الرُّسل نوح عليه السلام وآيته التي أوتي شفاء غيظه، وإجابة دعوته في تعجيل نقمة الله لمكذِّبيه حتى هلك من على بسيط الأرض من صامت وناطق إلا من آمن به ودخل معه في سفينته، ولعمري إنَّها آية جليلة وافقت سابق قدر الله وما قد علمه في هلاكهم‏.‏

وكذلك نبينا صلَّى الله عليه وسلَّم لمَّا كذَّبه قومه وبالغوا في أذيته والاستهانة بمنزلته منَّ الله عزَّ وجل حتى ألقى السَّفيه عقبة ابن أبي معيط سلا الجزور على ظهره وهو ساجد فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم عليك بالملأ من قريش‏)‏‏)‏‏.‏

ثمَّ ساق الحديث عن ابن مسعود كما تقدَّم، كما ذكرنا له في صحيح البخاريّ وغيره في وضع الملأ من قريش على ظهر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو ساجد عند الكعبة سلا تلك الجزور واستضحاكهم من ذلك حتى أنَّ بعضهم يميل على بعض من شدَّة الضَّحك ولم يزل على ظهره حتى جاءت ابنته فاطمة - عليها السَّلام - فطرحته عن ظهره، ثمَّ أقبلت عليهم تسبَّهم، فلمَّا سلَّم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من صلاته، رفع يديه فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم عليك بالملأ من قريش‏)‏‏)‏‏.‏

ثمَّ سمَّى فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم عليك بأبي جهل، وعتبة، وشيبة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة ابن أبي معيط، وعمارة بن الوليد‏)‏‏)‏‏.‏

قال عبد الله بن مسعود‏:‏ فوالذي بعثه بالحقِّ لقد رأيتهم صرعى يوم بدر ثمَّ سحبوا إلى القليب قليب بدر‏.‏

وكذلك لمَّا أقبلت قريش يوم بدر في عددها وعديدها فحين عاينهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال رافعاً يديه‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم هذه قريش جاءتك بفخرها وخيلائها تجادل وتكذِّب رسولك اللَّهم أصبهم الغداة‏)‏‏)‏‏.‏

فقتل من سراتهم سبعون، وأسر من أشرافهم سبعون، ولو شاء لاستأصلهم عن آخرهم، ولكن من حلم وشرف نبيِّه أبقى منهم من سبق في قدره أن سيؤمن به وبرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/295‏)‏

وقد دعا على عتبة ابن أبي لهب أن يسلِّط عليه كلبه بالشَّام فقتله الأسد عند وادي الزَّرقاء قبل مدينة بصرى، وكم له من مثلها ونظيرها كسبع يوسف فقحطوا حتى أكلوا العكبر وهو الدَّم بالوتر، وأكلوا العظام وكل شيء، ثمَّ توصَّلوا إلى تراحمه وشفقته ورأفته، فدعا لهم ففرَّج الله عنهم وسقوا الغيث ببركة دعائه‏.‏

وقال الإمام الفقيه أبو محمد بن عبد الله بن حامد في كتاب ‏(‏دلائل النُّبُّوة‏)‏ - وهو كتاب حافل -‏:‏ ذكر ما أوتي نوح عليه السلام من الفضائل، وبيان ما أوتي محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم مما يضاهي فضائله ويزيد عليها، إنَّ قوم نوح لما بلغوا من أذيته والاستخفاف به وترك الإيمان بما جاءهم به من عند الله‏.‏

دعا عليهم فقال‏:‏ ‏{‏رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 26‏]‏‏.‏

فاستجاب الله دعوته وغرَّق قومه حتى لم يسلم شيء من الحيوانات والدَّواب إلا من ركب السَّفينة وكان ذلك فضيلة أوتيها إذ أجيبت دعوته وشفي صدره بإهلاك قومه‏.‏

قلنا‏:‏ وقد أوتي محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم مثله حين ناله من قريش ما ناله من التَّكذيب والاستخفاف، فأنزل الله إليه ملك الجبال وأمره بطاعته فيما أمره به من إهلاك قومه فاختار الصَّبر على أذيتهم والابتهال في الدُّعاء لهم بالهداية‏.‏

قلت‏:‏ وهذا أحسن‏.‏

وقد تقدَّم الحديث بذلك عن عائشة، عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في قصَّة ذهابه إلى الطَّائف فدعاهم فآذوه فرجع وهو مهموم، فلمَّا كان عند قرن الثَّعالب، ناداه ملك الجبال فقال‏:‏ يا محمَّد إنَّ ربَّك قد سمع قول قومك وما ردوا عليك وقد أرسلني إليك لأفعل ما تأمرني به فإن شئت أطبقت عليهم الأخشبين - يعني‏:‏ جبلي مكة اللَّذين يكتنفانها جنوباً وشمالاً، أبو قبيس، وزر -‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏بل استأني بهم لعلَّ الله أن يُخرج من أصلابهم من لا يشرك بالله شيئاً‏)‏‏)‏‏.‏

وقد ذكر الحافظ أبو نعيم في مقابلة قوله تعالى‏:‏ ‏(‏‏(‏فدعا ربَّه أني مغلوب فانتصر * ففتحنا أبواب السَّماء بماء منهمر * وفجَّرنا الأرض عيوناً فالتقى الماء على أمر قد قدر‏)‏‏)‏‏.‏

أحاديث الاستسقاء عن أنس وغيره، كما تقدَّم ذكرنا لذلك في ‏(‏دلائل النبُّوة‏)‏ قريباً أنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم سأله ذلك الأعرابي أن يدعو الله لهم لما بهم من الجدب والجُّوع فرفع يديه فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم اسقنا، اللَّهم اسقنا‏)‏‏)‏

فما نزل عن المنبر حتى رؤي المطر يتحادر على لحيته الكريمة صلَّى الله عليه وسلَّم فاستحضر من استحضر من الصَّحابة - رضي الله عنهم - قول عمِّه أبي طالب فيه‏:‏

وأبيضَ يُستسقَى الغَمَامَ بوجهِهِ * ثمالَ اليتامى عِصمةً للأراملِ

يلوذُ بهِ الهلاكُ من آلِ هاشمٍ * فهمْ عندهُ في نعمةٍ وَفواضِلِ ‏(‏ج/ص‏:‏6/296‏)‏

وكذلك استسقى في غير ما موضع للجدب والعطش فيجاب كما يريد على قدر الحاجة المائية، ولا أزيد ولا أنقص وهكذا وقع أبلغ في المعجزة وأيضاً فإنَّ هذا ماء رحمة ونعمة، وماء الطُّوفان ماء غضب ونقمة‏.‏

وأيضاً فإنَّ عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه كان يستسقي بالعبَّاس عمّ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فيسقون‏.‏

وكذلك ما زال المسلمون في غالب الأزمان والبلدان يستسقون فيجابون فيسقَون، وغيرهم لا يجابون غالباً ولا يسقون ولله الحمد‏.‏

قال أبو نعيم‏:‏ ولبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً فبلغ جميع من آمن رجالاً ونساءً الذين ركبوا معه سفينته دون مائة نفس، وآمن بنبينا في مدة عشرين سنة النَّاس شرقاً وغرباً ودانت له جبابرة الأرض وملوكها، وخافت زوال ملكهم ككسرى وقيصر وأسلم النَّجاشيّ والأقيال رغبة في دين الله، والتزم من لم يؤمن به من عظماء الأرض الجِّزية والأيادة عن صغار أهل نجران، وهجر، وأيلة، وأنذر دومة، فذلُّوا له منقادين لما أيَّده الله به من الرُّعب الذي يسير بين يديه شهراً، وفتح الفتوح ودخل النَّاس في دين الله أفواجاً‏.‏

كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً‏}‏ ‏[‏النَّصر‏:‏ 1-3‏]‏‏.‏

قلت‏:‏ مات رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقد فتح الله له المدينة، وخيبر، ومكة، وأكثر اليمن، وحضرموت وتوفِّي عن مائة ألف صحابي أو يزيدون، وقد كتب في آخر حياته الكريمة إلى سائر ملوك الأرض يدعوهم إلى الله تعالى فمنهم من أجاب، ومنهم من صانع ودارى عن نفسه، ومنهم من تكبَّر فخاب وخسر، كما فعل كسرى بن هرمز حين عتى وبغى وتكبَّر فمزِّق ملكه، وتفرَّق جنده شذر مذر، ثمَّ فتح خلفاؤه من بعده أبو بكر، ثمَّ عمر، ثمَّ عثمان، ثمَّ علي التَّالي على الأثر مشارق الأرض ومغاربها من البحر الغربي إلى البحر الشَّرقي‏.‏

كما قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمَّتي ما زوى لي منها‏)‏‏)‏‏.‏

وقال صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، والذي نفسي بيده لتنفقنَّ كنوزهما في سبيل الله‏)‏‏)‏‏.‏

وكذا وقع سواء بسواء فقد استولت الممالك الإسلامية على ملك قيصر وحواصله إلا القسطنطينية، وجميع ممالك كسرى، وبلاد المشرق، وإلى أقصى بلاد المغرب إلى أن قتل عثمان رضي الله عنه في سنة ستة وثلاثين، فكما عمَّت جميع أهل الأرض النَّقمة بدعوة نوح عليه السلام لما رآهم عليه من التَّمادي في الضَّلال والكفر والفجور، فدعا عليهم غضباً لله ولدينه ورسالته، فاستجاب الله له وغضب لغضبه وانتقم منهم بسببه‏.‏

كذلك عمَّت جميع أهل الأرض ببركة رسالة محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم ودعوته، فآمن من آمن من النَّاس وقامت الحجَّة على من كفر منهم‏.‏

كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 107‏]‏‏.‏

وكما قال صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّما أنا رحمة مهداة‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/297‏)‏

وقال هشام بن عمَّار في كتاب ‏(‏البعث‏)‏‏:‏ حدَّثني عيسى بن عبد الله النعمانيّ، حدَّثنا المسعوديّ عن سعيد ابن أبي سعيد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏(‏‏(‏وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ من آمن بالله ورسله تمَّت له الرَّحمة في الدُّنيا والآخرة، ومن لم يؤمن بالله ورسله عدَّ فيمن يستحق تعجيل ما كان يصيب الأمم قبل ذلك من العذاب والفتن والقذف والخسف‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 28‏]‏‏.‏

قال ابن عبَّاس‏:‏ النِّعمة محمَّد، والذين بدَّلوا نعمة الله كفراً كفَّار قريش - يعني‏:‏ وكذلك كلَّ من كذَّب به من سائر النَّاس‏.‏

كما قال‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 17‏]‏‏.‏

قال أبو نعيم‏:‏ فإن قيل فقد سمَّى الله نوحاً عليه السلام باسم من أسمائه الحسنى، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 3‏]‏‏.‏

قلنا‏:‏ وقد سمَّى الله محمَّداً صلَّى الله عليه وسلَّم باسمين من أسمائه فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏بالمؤمنين رءوف رحيم‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ وقد خاطب الله الأنبياء بأسمائهم يا نوح، يا إبراهيم، يا موسى، يا داود، يا يحيى، يا عيسى، يا مريم‏.‏

وقال مخاطباً لمحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أيُّها الرَّسول‏)‏‏)‏ ‏(‏‏(‏يا أيُّها النَّبيّ‏)‏‏)‏ ‏(‏‏(‏يا أيُّها المزَّمل‏)‏‏)‏ ‏(‏‏(‏يا أيُّها المدَّثر‏)‏‏)‏‏.‏

وذلك قائم مقام الكنية بصفة الشَّرف، ولمَّا نسب المشركون أنبياءهم إلى السفه والجنون كلٌّ أجاب عن نفسه، قال نوح‏:‏ ‏{‏يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 67‏]‏‏.‏

وكذا قال هود عليه السلام‏.‏

ولمَّا قال فرعون‏:‏ ‏{‏إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُوراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 101‏]‏‏.‏

قال موسى‏:‏ ‏{‏قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُوراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 102‏]‏‏.‏

وأمَّا محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم فإنَّ الله تعالى هو الذي يتولى جوابهم عنه بنفسه الكريمة‏.‏

كما قال‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 6- 7‏]‏‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 8‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 5-6‏]‏‏.‏

‏{‏وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً‏}‏ ‏[‏الطُّور‏:‏ 30-31‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الحاقَّة‏:‏ 41-43‏]‏‏.‏

{‏وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 51‏]‏‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 52‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 1-4‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ‏}‏ ‏[‏النَّحل‏:‏ 103‏]‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/298‏)‏

 القول فيما أوتي هود عليه السلام

قال أبو نعيم ما معناه‏:‏ إنَّ الله تعالى أهلك قومه بالرِّيح العقيم وقد كانت ريح غضب ونصر الله تعالى محمَّداً صلَّى الله عليه وسلَّم بالصبا يوم الأحزاب‏.‏

كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 9‏]‏‏.‏

ثمَّ قال‏:‏ حدَّثنا إبراهيم بن إسحاق، حدَّثنا محمد بن إسحق بن خزيمة‏.‏

ح، وحدَّثنا عثمان بن محمد العثمانيّ، أنَّا زكريا بن يحي السَّاجيّ قالا‏:‏ حدَّثنا أبو سعيد الأشجّ، حدَّثنا حفص بن عتاب عن داود ابن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عبَّاس قال‏:‏ لمَّا كان يوم الأحزاب انطلقت الجنوب إلى الشَّمال فقالت‏:‏ انطلقي بنا ننصر محمَّداً رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

فقالت الشَّمال للجنوب‏:‏ إنَّ الحرَّة لا ترى باللَّيل، فأرسل الله عليهم الصَّبا‏.‏

فذلك قوله‏:‏ ‏{‏فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 9‏]‏‏.‏

ويشهد له الحديث المتقدِّم عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نصرت بالصَّبا وأهلكت عاد بالدَّبور‏)‏‏)‏‏.‏

 القول فيما أوتي صالح - عليه السَّلام‏:‏

قال أبو نعيم‏:‏ فإن قيل فقد أخرج الله لصالح ناقة من الصَّخرة جعلها الله له آية وحجة على قومه، وجعل لها شرب يوم ولهم شرب يوم معلوم‏.‏

قلنا‏:‏ وقد أعطى الله محمَّداً صلَّى الله عليه وسلَّم مثل ذلك بل أبلغ، لأنَّ ناقة صالح لم تكلِّمه، ولم تشهد له بالنُّبُّوة والرِّسالة، ومحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم شهد له البعير بالرِّسالة، وشكى إليه ما يلقى من أهله من أنهم يجيعونه ويريدون ذبحه، ثمَّ ساق الحديث بذلك كما قدَّمنا في ‏(‏دلائل النبُّوة‏)‏ بطرقه وألفاظه وغرره بما أغنى عن إعادته هاهنا وهو في الصِّحاح والحسان، والمسانيد، وقد ذكرنا مع ذلك حديث الغزالة، وحديث الضَّـب وشهادتهما له صلَّى الله عليه وسلَّم بالرِّسالة كما تقدَّم التَّنبيه على ذلك والكلام فيه‏.‏

وثبت الحديث في الصَّحيح بتسليم الحجر عليه قبل أن يبعث، وكذلك سلام الأشجار، والأحجار، والمدر عليه قبل أن يبعث صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

 القول فيما أوتي إبراهيم الخليل عليه السلام‏:‏

قال شيخنا العلامة أبو المعالي ابن الزَّملكانيّ رحمه الله‏:‏ وأمَّا خمود النَّار لإبراهيم عليه الصلاة والسلام فقد خمدت لنبيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّم نار فارس لمولده صلَّى الله عليه وسلَّم وبينه وبين بعثته أربعون سنة، وخمدت نار إبراهيم لمباشرته لها، وخمدت نار فارس لنبيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّم وبينه وبينها مسافة أشهر كذا‏.‏

وهذا الذي أشار إليه من خمود نار فارس ليلة مولده الكريم، قد ذكرناه بأسانيده وطرقه في أوَّل السِّيرة عند ذكر المولد المطهَّر الكريم بما فيه كفاية ومقنع‏.‏

ثمَّ قال شيخنا‏:‏ مع أنَّه قد أُلقي بعض هذه الأمَّة في النَّار فلم تؤثر فيه ببركة نبيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّم منهم أبو مسلم الخولاني‏.‏

قال‏:‏ بينما الأسود بن قيس العنسيّ باليمن فأرسل إلى أبي مسلم الخولاني، فقال‏:‏ أتشهد أنَّ محمَّداً رسول الله ‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ أتشهد أنِّي رسول الله ‏؟‏

قال‏:‏ ما أسمع‏.‏

فأعاد إليه، قال‏:‏ ما أسمع‏.‏

فأمر بنار عظيمة فأجِّجت فطُرح فيها أبو مسلم فلم تضرَّه‏.‏

فقيل له‏:‏ لئن تركت هذا في بلادك أفسدها عليك، فأمره بالرَّحيل فقدم المدينة وقد قبض رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم واستخلف أبو بكر فقام إلى سارية من سواري المسجد يصليّ، فبصر به عمر فقال‏:‏ من أين الرَّجل ‏؟‏

قال‏:‏ من اليمن‏.‏

قال‏:‏ ما فعل الله بصاحبنا الذي حرق بالنَّار فلم تضرَّه ‏؟‏

قال‏:‏ ذاك عبد الله بن أيوب‏.‏

قال‏:‏ نشدتك بالله أنت هو ‏؟‏

قال‏:‏ اللَّهم نعم‏.‏

قال‏:‏ فقبَّل ما بين عينيه ثمَّ جاء به حتَّى أجلسه بينه وبين أبي بكر الصِّديق وقال‏:‏ الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني في أمَّة محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الرَّحمن عليه السلام‏.‏

وهذا السِّياق الذي أورده شيخنا بهذه الصِّفة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/299‏)‏

وقد رواه الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر رحمه الله في ترجمة أبي مسلم عبد الله بن أيُّوب في تاريخه من غير وجه عن عبد الوهاب بن محمد، عن اسماعيل بن عيَّاش الحطيميّ، حدَّثني شراحيل ابن مسلم الخولانيّ، أنَّ الأسود بن قيس بن ذي الحمار العنسيّ تنبَّأ باليمن، فأرسل إلى أبي مسلم الخولانيّ فأتي به‏.‏

فلمَّا جاء به قال‏:‏ أتشهد أني رسول الله ‏؟‏

قال‏:‏ ما أسمع‏.‏

قال‏:‏ أتشهد أنَّ محمَّداً رسول الله ‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ أتشهد أني رسول الله ‏؟‏

قال‏:‏ ما أسمع‏.‏

قال‏:‏ أتشهد أنَّ محمَّداً رسول الله ‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ فردَّد عليه ذلك مراراً، ثمَّ أمر بنار عظيمة فأجِّجت فألقي فيها فلم تضرَّه‏.‏

فقيل للأسود‏:‏ إنفه عنك وإلا أفسد عليك من اتَّبعك، فأمره فارتحل فأتى المدينة وقد قبض رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم واستخلف أبو بكر، فأناخ أبو مسلم راحلته بباب المسجد، ثمَّ دخل المسجد وقام يصلِّي إلى سارية فبصر به عمر بن الخطَّاب فأتاه فقال‏:‏ ممن الرَّجل ‏؟‏

فقال‏:‏ من أهل اليمن‏.‏

قال‏:‏ ما فعل الرَّجل الذي حرقة الكذَّاب بالنَّار ‏؟‏

قال‏:‏ ذاك عبد الله بن أيُّوب‏.‏

قال‏:‏ فأنشدك بالله أنت هو ‏؟‏

قال‏:‏ اللَّهم نعم‏.‏

قال‏:‏ فاعتنقه ثمَّ ذهب به حتى أجلسه بينه وبين أبي بكر الصِّديق فقال‏:‏ الحمد لله الذي لم يمتني حتَّى أراني من أمَّة محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الرَّحمن‏.‏

قال إسماعيل بن عيَّاش‏:‏ فأنا أدركت رجالاً من الأمداد الذين يمدُّون إلينا من اليمن من خولان، ربَّما تمازحوا فيقول الخولانيون للعنسيين‏:‏ صاحبكم الكذَّاب حرق صاحبنا بالنَّار ولم تضره‏.‏

وروى الحافظ ابن عساكر أيضاً من غير وجه عن إبراهيم بن دحيم، حدَّثنا هشام بن عمَّار، حدَّثنا الوليد، أخبرني سعيد بن بشير عن أبي بشر جعفر ابن أبي وحشية أنَّ رجلاً أسلم فأراده قومه على الكفر فألقوه في نار فلم يحترق منه إلا أنملة لم يكن فيما مضى يصيبها الوضوء‏.‏

فقدم على أبي بكر فقال‏:‏ استغفر لي ‏؟‏

قال‏:‏ أنت أحق‏.‏

قال أبو بكر‏:‏ أنت ألقيت في النَّار فلم تحترق، فاستغفر له، ثمَّ خرج إلى الشَّام وكانوا يسمُّونه بإبراهيم عليه السلام وهذا الرَّجل هو أبو مسلم الخولانيّ، وهذه الرِّواية بهذه الزِّيادة تحقق أنَّه إنَّما نال ذلك ببركة متابعته الشَّريعة المحمَّدية المطهَّرة المقدَّسة‏.‏

كما جاء في حديث الشَّفاعة ‏(‏‏(‏وحرَّم الله على النَّار أن تأكل مواضع السُّجود‏)‏‏)‏‏.‏

وقد نزل أبو مسلم بداريا من غربي دمشق وكان لا يسبقه أحد إلى المسجد الجامع بدمشق وقت الصّبح، وكان يغازي ببلاد الرُّوم، وله أحوال وكرامات كثيرة جداً وقبره مشهور بداريا والظَّاهر أنَّه مقامه الذي كان يكون فيه، فإنَّ الحافظ ابن عساكر رجَّح أنَّه مات ببلاد الرُّوم في خلافة معاوية وقيل‏:‏ في أيَّام ابنه يزيد بعد الستِّين والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/300‏)‏

وقد وقع لأحمد ابن أبي الحواريّ من غير وجه أنَّه جاء إلى أستاذه أبي سليمان يعلمه بأنَّ التَّنور قد سجروه وأهله يتنظرون ما يأمرهم به فوجده يكلِّم النَّاس وهم حوله فأخبره بذلك، فاشتغل عنه بالنَّاس، ثمَّ أعلمه فلم يلتفت إليه، ثمَّ أعلمه مع أولئك الذين حوله، فقال‏:‏ إذهب فاجلس فيه‏.‏

فذهب أحمد ابن أبي الحواريّ إلى التَّنور فجلس فيه وهو يتضرَّم ناراً فكان عليه برداً وسلاماً وما زال فيه حتى استيقظ أبو سليمان من كلامه فقال لمن حوله‏:‏ قوموا بنا إلى أحمد ابن أبي الحواريّ فإنِّي أظنَّه قد ذهب إلى التَّنور فجلس فيه امتثالا لما أمرته‏.‏

فذهبوا فوجدوه جالساً فيه فأخذ بيده الشَّيخ أبو سليمان وأخرجه منه - رحمة الله عليهما - ورضي الله عنهما -‏.‏

وقال شيخنا أبو المعالي‏:‏ وأمَّا إلقاؤه - يعني‏:‏ إبراهيم عليه السَّلام - من المنجنيق‏.‏

فقد وقع في حديث البراء بن مالك في وقعة مسيلمة الكذَّاب وأنَّ أصحاب مسيلمة انتهوا إلى حائط حفير فتحصَّنوا به وأغلقوا الباب، فقال البراء بن مالك‏:‏ ضعوني على برش واحملوني على رؤوس الرِّماح ثمَّ ألقوني من أعلاها داخل الباب ففعلوا ذلك وألقوه عليهم فوقع وقام وقاتل المشركين، وقتل مسيلمة‏.‏

قلت‏:‏ وقد ذكر ذلك مستقصى في أيَّام الصِّديق حين بعث خالد بن الوليد لقتال مسيلمة وبني حنيفة، وكانوا في قريب من مائة ألف أو يزيدون، وكان المسلمون بضعة عشر ألفاً فلمَّا التقوا جعل كثير من الأعراب يفرون، فقال المهاجرون والأنصار‏:‏ خلِّصنا يا خالد فميَّزهم عنهم وكان المهاجرون والأنصار قريباً من ألفين وخمسمائة، فصمَّموا الحملة وجعلوا يتدابرون، ويقولون‏:‏ يا أصحاب سورة البقرة بطل السِّحر اليوم فهزموهم بإذن الله وألجأوهم إلى حديقة هناك وتسمى حديقة الموت، فتحصَّنوا بها فحصروهم فيها ففعل البراء بن مالك أخو أنس بن مالك - وكان الأكبر - ما ذكر من رفعه على الأسنَّة فوق الرِّماح حتَّى تمكن من أعلى سورها، ثمَّ ألقى نفسه عليهم ونهض سريعاً إليهم، ولم يزل يقاتلهم وحده ويقاتلونه حتَّى تمكَّن من فتح الحديقة ودخل المسلمون يكبِّرون، وانتهوا إلى قصر مسيلمة وهو واقف خارجه عند جدار كأنَّه جمل أزرق أي من سمرته فابتدره وحشي بن حرب الأسود - قاتل حمزة - بحربته، وأبو دجانة سماك بن حرشة الأنصاريّ - وهو الذي ينسب إليه شيخنا هذا أبو المعالي ابن الزَّملكانيّ - فسبقه وحشي فأرسل الحربة عليه من بعد فأنفذها منه وجاء إليه أبو دجانة فعلاه بسيفه فقتله، لكن صرخت جارية من فوق القصر‏:‏ واأميراه قتله العبد الأسود‏.‏

ويقال‏:‏ إن عمر ميسلمة يوم قتل مائة وأربعين سنة - لعنه الله - فمن طال عمره وساء عمله - قبَّحه الله -‏.‏

وهذا ما ذكره شيخنا فيما يتعلق بإبراهيم الخليل عليه السلام‏.‏

وأمَّا الحافظ أبو نعيم فإنَّه قال‏:‏ فإن قيل‏:‏ فإنَّ إبراهيم اختص بالخلَّة مع النُّبُّوة‏.‏

قيل‏:‏ فقد اتخذ الله محمَّداً خليلاً وحبيباً، والحبيب ألطف من الخليل‏.‏

ثمَّ ساق من حديث شعبة عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكنَّ صاحبكم خليل الله‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/301‏)‏

وقد رواه مسلم من طريق شعبة والثوريّ عن أبي إسحاق، ومن طريق عبد الله بن مرة وعبد الله ابن أبي الهديل، كلهم عن أبي الأحوص عوف بن مالك الجشيميّ قال‏:‏ سمعت عبد الله بن مسعود يحدِّث عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لو كنت متخذاً خليلاً لاتَّخذت أبا بكر خليلاً ولكنَّه أخي وصاحبي، وقد اتَّخذ الله صاحبكم خليلا‏)‏‏)‏‏.‏

هذا لفظ مسلم ورواه أيضاً منفرداً به عن جندب بن عبد الله البجليّ كما سأذكره‏.‏

وأصل الحديث في الصَّحيحين عن أبي سعيد، وفي أفراد البخاريّ عن ابن عبَّاس وابن الزُّبير‏.‏

كما سقت ذلك في فضائل الصِّديق رضي الله عنه وقد أوردناه هنالك من رواية أنس، والبراء، وجابر، وكعب بن مالك، وأبي الحسين ابن العلى، وأبي هريرة، وأبي واقد اللَّيثي، وعائشة أم المؤمنين - رضي الله عنهم أجمعين -‏.‏

ثمَّ إنَّما رواه أبو نعيم من حديث عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، عن كعب بن مالك أنَّه قال‏:‏ عهدي نبيِّكم صلَّى الله عليه وسلَّم فسمعته يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏لم يكن نبيّ إلا له خليل من أمَّته وإنَّ خليلي أبو بكر، وإنَّ الله اتَّخذ صاحبكم خليلاً‏)‏‏)‏ وهذا الإسناد ضعيف‏.‏

ومن حديث محمَّد بن عجلان عن أبيه، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏لكلِّ نبيٍّ خليل وخليلي أبو بكر ابن أبي قحافة، وخليل صاحبكم الرَّحمن‏)‏‏)‏ وهو غريب من هذا الوجه‏.‏

ومن حديث عبد الوهاب بن الضحاك عن إسماعيل بن عيَّاش، عن صفوان بن عمرو، عن عبد الرَّحمن بن جبير بن نفير، عن كثير بن مرة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّ الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً ومنزلي ومنزل إبراهيم في الجنَّة تجاهين والعبَّاس بيننا، مؤمن بين خليلين‏)‏‏)‏ غريب وفي إسناده نظر انتهى ما أورده أبو نعيم رحمه الله‏.‏

وقال مسلم بن الحجَّاج في صحيحه‏:‏ حدَّثنا أبو بكر ابن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم قالا‏:‏ حدَّثنا زكريا بن عدي، حدَّثنا عبيد الله بن عمرو، حدَّثنا زيد ابن أبي أنيسة عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن الحارث، حدَّثني جندب بن عبد الله قال‏:‏ سمعت النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قبل أن يموت بخمس وهو يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏إنِّي أبرأ إلى الله عزَّ وجل أن يكون لي بينكم خليلاً، فإنَّ الله قد اتَّخذني خليلاً كما اتخذ الله إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمَّتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإنَّ من كان قبلكم يتَّخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتَّخذوا القبور مساجد إنِّي أنهاكم عن ذلك‏)‏‏)‏‏.‏

وأمَّا اتِّخاذه حسيناً خليلاً فلم يتعرض لإسناده أبو نعيم‏.‏

وقد قال هشام بن عمَّار في كتابه ‏(‏المبعث‏)‏‏:‏ حدَّثنا يحيى بن حمزة الحضرميّ وعثمان بن علان القرشيّ قالا‏:‏ حدَّثنا عروة بن رويم اللَّخميّ أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّ الله أدرك بي الأجل المرقوم وأخذني لقربه واحتضرني احتضاراً، فنحن الآخرون، ونحن السَّابقون يوم القيامة، وأنا قائل قولاً غير فخر إبراهيم خليل الله، وموسى صفيّ الله، وأنا حبيب الله، وأنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وإنَّ بيدي لواء الحمد، وأجارني الله عليكم من ثلاث أن لا يهلككم بسنة، وأن يستبيحكم عدوكم، وأن لا تجمعوا على ضلالة‏)‏‏)‏‏.‏

وأمَّا الفقيه أبو محمَّد بن عبد الله بن حامد فتكلَّم على مقام الخلَّة بكلام طويل إلى أن قال‏:‏ ويقال‏:‏ الخليل الذي يعبد ربه على الرَّغبة والرَّهبة من قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏التَّوبة‏:‏ 114‏]‏‏.‏

من كثرة ما يقول‏:‏ أواه والحبيب الذي يعبد ربه على الرؤية والمحبة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/302‏)‏

ويقال‏:‏ الخليل الذي يكون معه انتظار العطاء‏.‏

والحبيب الذي يكون معه انتظار اللِّقاء‏.‏

ويقال‏:‏ الخليل الذي يصل بالواسطة من قوله‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 75‏]‏‏.‏

والحبيب الذي يصل إليه من غير واسطة من قوله‏:‏ ‏{‏فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى‏}‏ ‏[‏النَّجم‏:‏ 9‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ الخليل ‏{‏وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ‏}‏ ‏[‏الشُّعراء‏:‏ 82‏]‏‏.‏

وقال الله للحبيب محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏{‏لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 2‏]‏‏.‏

وقال الخليل‏:‏ ‏{‏وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ‏}‏ ‏[‏الشُّعراء‏:‏ 87‏]‏‏.‏

وقال الله للنبيّ‏:‏ ‏{‏يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ‏}‏ ‏[‏التَّحريم‏:‏ 8‏]‏‏.‏

وقال الخليل حين ألقي في النَّار‏:‏ ‏(‏‏(‏حسبي الله ونعم الوكيل‏)‏‏)‏‏.‏

وقال الله لمحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 64‏]‏‏.‏

وقال الخليل‏:‏ ‏{‏إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ‏}‏ ‏[‏الصَّافات‏:‏ 99‏]‏‏.‏

وقال الله لمحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏{‏وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى‏}‏ ‏[‏الضُّحى‏:‏ 7‏]‏‏.‏

وقال الخليل‏:‏ ‏{‏وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ‏}‏ ‏[‏الشُّعراء‏:‏ 84‏]‏‏.‏

وقال الله لمحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏{‏وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ‏}‏‏.‏ ‏[‏الإنشراح‏:‏ 4‏]‏‏.‏

وقال الخليل‏:‏ ‏{‏وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 35‏]‏‏.‏

وقال الله للحبيب‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 33‏]‏‏.‏

وقال الخليل‏:‏ ‏{‏وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ‏}‏ ‏[‏الشُّعراء‏:‏ 85‏]‏‏.‏

وقال الله لمحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ‏}‏ ‏[‏الكوثر‏:‏ 1‏]‏‏.‏

وذكر أشياء أخر، وسيأتي الحديث في صحيح مسلم عن أبي بن كعب أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنِّي سأقوم مقاماً يوم القيامة يرغب إلى الخلق كلَّهم حتَّى أبوهم إبراهيم الخليل‏)‏‏)‏‏.‏

فدلَّ على أنَّه أفضل إذ هو يحتاج إليه في ذلك المقام، ودلَّ على أنَّ إبراهيم أفضل الخلق بعده، ولو كان أحد أفضل من إبراهيم بعده لذكره‏.‏

ثمَّ قال أبو نعيم‏:‏ فإن قيل‏:‏ إنَّ إبراهيم عليه السلام حجب عن نمرود بحجب ثلاثة‏.‏

قيل‏:‏ فقد كان كذلك، وحجب محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم عمَّن أرادوه بخمسة حجب، قال الله تعالى في أمره‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 9‏]‏‏.‏

فهذه ثلاث ثمَّ قال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 45‏]‏‏.‏

ثمَّ قال‏:‏ ‏{‏فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 8‏]‏‏.‏

فهذه خمس حجب وقد ذكر مثله سواء الفقيه أبو محمد ابن حامد، وما أدري أيُّهما أخذ من الآخر والله أعلم‏.‏

وهذا الذي قاله غريب، والحجب التي ذكرها لإبراهيم عليه السلام لا أدري ما هي كيف وقد ألقاه في النَّار التي نجَّاه الله منها، وأمَّا ما ذكره من الحجب التي استدل عليها بهذه الآيات، فقد قيل‏:‏ إنَّها جميعها معنوية لا حسية، بمعنى أنَّهم مصرفون عن الحقِّ، لا يصل إليهم ولا يخلص إلى قلوبهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ‏}‏ ‏[‏فصِّلت‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وقد حررنا ذلك في التَّفسير، وقد ذكرنا في السِّيرة وفي التَّفسير‏:‏ أنَّ أم جميل امرأة أبي لهب لمَّا نزلت السُّورة في ذمِّها وذمِّ زوجها ودخولهما النَّار وخسارهما، جاءت بفهر وهو الحجر الكبير لترجم النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فانتهت إلى أبي بكر وهو جالس عند النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فلم تر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقالت لأبي بكر‏:‏ أين صاحبك ‏؟‏

فقال‏:‏ وماله ‏؟‏

فقالت‏:‏ إنَّه هجاني‏.‏

فقال‏:‏ ما هجاك ‏؟‏

فقالت‏:‏ والله لئن رأيته لأضربنَّه بهذا الفهر‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/303‏)‏

وكذلك حجب ومنع أبا جهل حين همَّ أن يطأ برجله رأس النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وهو ساجد فرأى جدثاً من نار وهولاً عظيماً وأجنحة الملائكة دونه، فرجع القهقرى وهو يتَّقي بيديه، فقالت له قريش‏:‏ مالك ويحك ‏؟‏

فأخبرهم بما رأى‏.‏

وقال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏لو أقدم لاختطفته الملائكة عضواً عضواً‏)‏‏)‏‏.‏

وكذلك لمَّا خرج رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ليلة الهجرة وقد أرصدوا على مدرجته وطريقه وأرسلوا إلى بيته رجالاً يحرسونه لئلا يخرج، ومتى عاينوه قتلوه، فأمر عليا فنام على فراشه، ثمَّ خرج عليهم وهم جلوس فجعل يذر على رأس كل إنسان منهم تراباً ويقول‏:‏ ‏(‏‏(‏شاهت الوجوه‏)‏‏)‏ فلم يروه حتى صار هو وأبو بكر الصِّديق إلى غار ثور كما بسطنا ذلك في السِّيرة‏.‏

وكذلك ذكرنا أن العنكبوت سدَّ على باب الغار ليعمي الله عليهم مكانه‏.‏

وفي الصَّحيح أنَّ أبا بكر قال‏:‏ يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لأبصرنا‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أبا بكر ما ظنَّك باثنين الله ثالثهما‏)‏‏)‏‏.‏

وقد قال بعض الشُّعراء في ذلك‏:‏

نسجُ داودَ ما حمى صاحبَ الغا * رِ وكانَ الفَخارُ لِلعَنكَبُوتِ

وكذلك حجب ومنع من سراقة بن مالك بن جشعم حين اتَّبعهم بسقوط قوائم فرسه في الأرض حتى أخذ منه أماناً كما تقدَّم بسطه في الهجرة‏.‏

وذكر ابن حامد في كتابه في مقابلة إضجاع إبراهيم عليه السلام ولده للذَّبح مستسلماً لأمر الله تعالى ببذل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم نفسه للقتل يوم أحد وغيره حتى نال منه العدو ما نالوا من هشم رأسه، وكسر ثنيته اليمنى السُّفلى كما تقدَّم بسط ذلك في السِّيرة‏.‏

ثمَّ قال‏:‏ قالوا‏:‏ كان إبراهيم عليه السلام ألقاه قومه في النَّار فجعلها الله برداً وسلاماً‏.‏

قلنا‏:‏ وقد أوتي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مثله، وذلك أنَّه لمَّا نزل بخيبر سمَّته الخيبرية فصيَّر ذلك السُّم في جوفه برداً وسلاماً إلى منتهى أجله، والسُّم عرق إذ لا يستقر في الجوف كما تحرق النَّار‏.‏

قلت‏:‏ وقد تقدَّم الحديث بذلك في فتح خيبر ويؤيد ما قاله أنَّ بشر بن البراء بن معرور مات سريعاً من تلك الشَّاة المسمومة، وأخبر ذراعها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بما أودع فيه من السُّم وكان قد نهش منه نهشةً، وكان السُّم فيه أكثر لأنَّهم كانوا يفهمون أنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم يحبّ الذِّراع فلم يضرَّه السُّم الذي حصل في باطنه بإذن الله عزَّ وجل حتَّى انقضى أجله صلَّى الله عليه وسلَّم فذكر أنَّه وجد حينئذٍ من ألم ذلك السُّم الذي كان في تلك الأكلة صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وقد ذكرنا في ترجمة خالد بن الوليد المخزوميّ فاتح بلاد الشَّام أنَّه أتى بسُّم فحثاه بحضرة الأعداء ليرهبهم بذلك فلم ير بأساً رضي الله عنه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/304‏)‏

ثمَّ قال أبو نعيم‏:‏ فإن قيل فإنَّ إبراهيم خصم نمرود ببرهان نبوَّته فبهته، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 258‏]‏‏.‏

قيل‏:‏ محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم أتاه الكذَّاب بالبعث أبيّ بن خلف بعظم بال ففركه وقال‏:‏ ‏{‏مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 78‏]‏‏.‏

فأنزل الله تعالى البرهان السَّاطع‏:‏ ‏{‏قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 79‏]‏‏.‏

فانصرف مبهوتاً ببرهان نبوَّته‏.‏

قلت‏:‏ وهذا أقطع للحجَّة وهو استدلاله للمعاد بالبداءة، فالذي خلق الخلق بعد أن لم يكونوا شيئاً مذكوراً قادر على إعادتهم‏.‏

كما قال‏:‏ ‏{‏أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 81‏]‏‏.‏

أي يعيدهم كما بدأهم، كما قال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 33‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 27‏]‏‏.‏

هذا وأمر المعاد نظري لا فطري ضروري في قول الأكثرين، فأمَّا الذي حاجَّ إبراهيم في ربِّه فإنَّه معاند مكابر، فإنَّ وجود الصَّانع مذكور في الفطر، وكل واحد مفطور على ذلك إلا من تغيَّرت فطرته فيصير نظرياً عنده، وبعض المتكلِّمين يجعل وجود الصَّانع من باب النَّظر لا الضَّروريات، وعلى كلِّ تقدير فدعواه أنَّه هو الذي يحيى الموتى لا يقبله عقل ولا سمع وكل واحد يكذِّبه بعقله في ذلك، ولهذا ألزمه إبراهيم بالإتيان بالشَّمس من المغرب إن كان كما ادَّعى ‏{‏فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 258‏]‏‏.‏

وكان ينبغي أن يذكر مع هذا أنَّ الله تعالى سلَّط محمداً على هذا المعاند لمَّا بارز النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يوم أحد فقتله بيده الكريمة طعنه بحربة، فأصاب ترقوته فتردَّى عن فرسه مراراً، فقالوا له‏:‏ ويحك مالك ‏؟‏

فقال‏:‏ والله إنَّ بي لمَّا لو كان بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعين، ألم يقل‏:‏ ‏(‏‏(‏بل أنا أقتله‏)‏‏)‏ والله لو بصق عليَّ لقتلني، وكان هذا - لعنه الله - قد أعدَّ فرساً وحربةً ليقتل بها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏بل أنا أقتله إن شاء الله‏)‏‏)‏ فكان كذلك يوم أحد‏.‏

ثمَّ قال أبو نعيم‏:‏ فإن قيل‏:‏ فإنَّ إبراهيم عليه السلام كسَّر أصنام قومه غضباً لله‏.‏

قيل‏:‏ فإنَّ محمداً صلَّى الله عليه وسلَّم كسَّر ثلاثمائة وستِّين صنماً قد ألزمها الشَّيطان بالرَّصاص والنحاس، فكان كلَّما دنا منها بمخصرته تهوي من غير أن يمسَّها ويقول‏:‏ ‏{‏جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 81‏]‏‏.‏

فتساقط لوجوهها ثمَّ أمر بهنَّ فأخرجن إلى الميل، وهذا أظهر وأجلى من الذي قبله‏.‏

وقد ذكرنا هذا في أوَّل دخول النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم مكة عام الفتح بأسانيده وطرقه من الصِّحاح وغيرها بما فيه كفاية‏.‏

وقد ذكر غير واحد من علماء السِّير أنَّ الأصنام تساقطت أيضاً لمولده الكريم وهذا أبلغ وأقوى في المعجز من مباشرة كسرها، وقد تقدَّم أنَّ نار فارس التي كانوا يعبدونها خمدت أيضاً ليلتئذ، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، وأنَّه سقط من شرفات قصر كسرى أربع عشر شرفة مؤذنة بزوال دولتهم بعد هلاك أربعة عشر من ملوكهم في أقصر مدة، وكان لهم في الملك قريب من ثلاثة آلاف سنة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/305‏)‏

وأمَّا إحياء الطُّيور الأربعة لإبراهيم عليه السلام فلم يذكره أبو نعيم ولا ابن حامد، وسيأتي في إحياء الموتى على يد عيسى عليه السلام ما وقع من المعجزات المحمَّدية من هذا النَّمط ما هو مثل ذلك، كما سيأتي التَّنبيه عليه إذا انتهينا إليه من إحياء أموات بدعوات أمَّته، وحنين الجذع، وتسليم الحجر والشَّجر والمدر عليه، وتكليم الذِّراع له وغير ذلك‏.‏

وأمَّا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 75‏]‏‏.‏

والآيات بعدها فقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 1‏]‏‏.‏

وقد ذكر ذلك ابن حامد فيما وقفت عليه بعد، وقد ذكرنا في أحاديث الإسراء من كتابنا هذا، ومن التَّفسير ما شاهده رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ليلة أسري به من الآيات فيما بين مكة إلى بيت المقدس، وفيما بين ذلك إلى سماء الدُّنيا، ثمَّ عاين من الآيات في السَّموات السَّبع وما فوق ذلك، وسدرة المنتهى، وجنَّة المأوى، والنَّار التي هي بئس المصير والمثوى‏.‏

وقال - عليه أفضل الصَّلاة والسَّلام - في حديث المنام - وقد رواه أحمد والتّرمذيّ وصحَّحه وغيرهما -‏:‏ ‏(‏‏(‏فتجلَّى لي كل شيء وعرفت‏)‏‏)‏‏.‏

وذكر ابن حامد في مقابلة ابتلاء الله يعقوب عليه السلام بفقده ولده يوسف عليه السلام وصبره واستعانته ربَّه عزَّ وجل، موت إبراهيم ابن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وصبره عليه وقوله‏:‏ ‏(‏‏(‏تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي ربَّنا وإنَّا بك يا إبراهيم لمحزونون‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ وقد مات بناته الثَّلاثة‏:‏ رقية، وأم كلثوم، وزينب وقتل عمَّه الحمزة أسد الله وأسد رسوله يوم أحد فصبر واحتسب‏.‏

وذكر في مقابلة حُسنِ يوسف عليه السلام ما ذكر من جمال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ومهابته وحلاوته شكلاً ونفعاً، وهدياً ودلاً، ويمناً كما تقدَّم في شمائله من الأحاديث الدَّالة على ذلك كما قالت الرَّبيع بنت مسعود‏:‏ لو رأيته لرأيت الشَّمس طالعة‏.‏

وذكر في مقابلة ما ابتلي به يوسف عليه السلام من الفرقة والغربة، هجرة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من مكة إلى المدينة ومفارقته وطنه وأهله وأصحابه الذين كانوا بها‏.‏