فصل: القاضي عز الدين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 ثم دخلت سنة خمس وعشرين وسبعمائة

استهلت وحكام البلاد هم المذكورون في التي قبلها، وأولها يوم الأربعاء‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/135‏)‏

وفي خامس صفر منها‏:‏ قدم إلى دمشق الشيخ شمس الدين محمود الأصبهاني بعد مرجعه من الحج وزيارة القدس الشريف وهو رجل فاضل له مصنفات منها‏:‏ شرح مختصر ابن الحاجب، وشرح التجريد وغير ذلك، ثم إنه شرح الحاجبية أيضاً وجمع له تفسيراً بعد صيرورته إلى مصر، ولما قدم إلى دمشق أكرم واشتغل عليه الطلبة، وكان حظياً عند القاضي جلال الدين القزويني، ثم إنه ترك الكل وصار يتردد إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية وسمع عليه من مصنفاته ورده على أهل الكلام، ولازمه مدة فلما مات الشيخ تقي الدين تحول إلى مصر وجمع التفسير‏.‏

وفي ربيع الأول جرد السلطان تجريدة نحو خمسة آلاف إلى اليمن لخروج عمه عليه، وصحبتهم خلق كثير من الحجاج، منهم الشيخ فخر الدين النويري‏.‏

وفيها‏:‏ منع شهاب الدين بن مري البعلبكي من الكلام على الناس بمصر، على طريقة الشيخ تقي الدين بن تيمية، وعزره القاضي المالكي بسبب الاستغاثة، وحضر المذكور بين يدي السلطان وأثنى عليه جماعة من الأمراء، ثم سفر إلى الشام بأهله فنزل ببلاد الخليل، ثم انتزح إلى بلاد الشرق وأقام بسنجار وماردين ومعاملتهما يتكلم ويعظ الناس إلى أن مات رحمه الله كما سنذكره‏.‏

وفي ربيع الآخر عاد نائب الشام من مصر وقد أكرمه السلطان والأمراء‏.‏

وفي جمادى الأولى وقع بمصر مطر لم يسمع بمثله بحيث زاد النيل بسببه أربع أصابع، وتغير أياماً‏.‏

وفيه‏:‏ زادت دجلة ببغداد حتى غرقت ما حول بغداد وانحصر الناس بها ستة أيام لم تفتح أبوابها، وبقيت مثل السفينة في وسط البحر، وغرق خلق كثير من الفلاحين وغيرهم، وتلف للناس ما لا يعمله إلا الله، وودع أهل البلد بعضهم بعضاً، ولجأوا إلى الله تعالى وحملوا المصاحف على رؤوسهم في شدة الشوق في أنفسهم حتى القضاة والأعيان، وكان وقتاً عجيباً، ثم لطف الله بهم فغيض الماء وتناقص، وتراجع الناس إلى ما كانوا عليه من أمورهم الجائرة وغير الجائرة‏.‏

وذكر بعضهم انه غرق بالجانب الغربي نحو من ستة آلاف وستمائة بيت، وإلى عشرة سنين لا يرجع ما غرق‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/136‏)‏

وفي أوائل جمادى الآخرة فتح السلطان خانقاه سرياقوس التي أنشأها وساق إليها خليجاً وبنى عندها محلة، وحضر السلطان بها ومعه القضاة والأعيان والأمراء وغيرهم‏.‏

ووليها مجد الدين الأقصرائي، وعمل السلطان بها وليمة كبيرة، وسمع على قاضي القضاة ابن جماعة عشرين حديثاً بقراءة ولده عز الدين بحضرة الدولة منهم أرغون النائب، وشيخ الشيوخ القونوي وغيرهم، وخلع على القارئ عز الدين وأثنوا عليه ثناء زائداً، وأجلس مكرماً، وخلع أيضاً على والده ابن جماعة وعلى المالكي وشيخ الشيوخ، وعلى مجد الدين الأقصرائي شيخ الخانقاه المذكورة، وغيرهم‏.‏

وفي يوم الأربعاء رابع عشر رجب درس بقبة المنصورية في الحديث الشيخ زين الدين بن الكتاني الدمشقي، بإشارة نائب الكرك وأرغون، وحضر عنده الناس، وكان فقيهاً جيداً، وأما الحديث فليس من فنه ولا من شغله‏.‏

وفي أواخر رجب قدم الشيخ زين الدين بن عبد الله بن المرحل من مصر على تدريس الشامية البرانية، وكانت بيد ابن الزملكاني فانتقل إلى قضاء حلب، فدرّس بها في خامس شعبان وحضر القاضي الشافعي وجماعة‏.‏

وفي سلخ رجب قدم القاضي عز الدين بن بدر الدين بن جماعة من مصر ومعه ولده، وفي صحبته الشيخ جمال الدين الدمياطي وجماعة من الطلبة بسبب سماع الحديث، فقرأ بنفسه وقرأ الناس له واعتنوا بأمره، وسمعنا معهم وبقراءته شيئاً كثيراً، نفعهم الله بما قرأوا وبما سمعوا، ونفع بهم‏.‏

وفي يوم الأربعاء ثاني عشر شوال درس الشيخ شمس الدين بن الأصبهاني، بالرواحية بعد ذهاب ابن الزملكاني إلى حلب، وحضر عنده القضاة والأعيان، وكان فيهم شيخ الإسلام ابن تيمية، وجرى يومئذ بحث في العام إذا خص، وفي الاستثناء بعد النفي ووقع إنتشار وطال الكلام في ذلك المجلس، وتكلم الشيخ تقي الدين كلاماً أبهت الحاضرين‏.‏

وتأخر ثبوت عيد الفطر إلى قريب الظهر يوم العيد، فلما ثبت دقت البشائر وصلى الخطيب العيد من الغد بالجامع، ولم يخرج الناس إلى المصلى، وتغضب الناس على المؤذنين وسجن بعضهم‏.‏

وخرج الركب في عاشره وأميره صلاح الدين بن أيبك الطويل، وفي الركب صلاح الدين بن أوحد، والمنكورسي، وقاضيه شهاب الدين الظاهر‏.‏

وفي سابع عشره درس بالرباط الناصري بقاسيون حسام الدين القزويني الذي كان قاضي طرابلس، قايضه بها جمال الدين بن الشريشني إلى تدريس المسرورية، وكان قد جاء توقيعه بالعذراوية والظاهرية فوقف في طريقه قاضي القضاة جمال الدين ونائباه ابن جملة والفخر المصري‏.‏

وعقد له ولكمال الدين بن الشيرازي مجلساً، ومعه توقيع بالشامية البرانية، فعطل الأمر عليهما لأنهما لم يظهرا استحقاهما في ذلك المجلس، فصارت المدرستان العذراوية والشامية لابن المرحل كما ذكرنا‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/137‏)‏

وعظم القزويني بالمسرورية فقايض منها لابن الشريشي إلى الرباط الناصري، فدرّس به في هذا اليوم وحضر عنده القاضي جلال الدين، ودرّس بعده ابن الشريشي بالمسرورية وحضر عنده الناس أيضاً‏.‏

وفيه‏:‏ عادت التجريدة اليمنية وقد فقد منهم خلق كثير من الغلمان وغيرهم، فحبس مقدمهم الكبير ركن الدين بيبرس لسوء سيرته فيهم‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 الشيخ إبراهيم الصباح

وهو إبراهيم بن منير البعلبكي، كان مشهوراً بالصلاح مقيماً بالمئذنة الشرقية، توفي ليلة الأربعاء مستهل المحرم ودفن بالباب الصغير، وكانت جنازته حافلة، حمله الناس على رؤوس الأصابع، وكان ملازماً لمجلس الشيخ تقي الدين بن تيمية‏.‏

 إبراهيم الموله

الذي يقال له القميني لإقامته بالقمامين خارج باب شرقي، وربما كاشف بعض العوام، ومع هذا لم يكن من أهل الصلاة، وقد استتابه الشيخ تقي الدين بن تيمية وضربه على ترك الصلوات ومخالطة القاذورات، وجمع النساء والرجال حوله في الأماكن النجسة‏.‏

توفي كهلاً في هذا الشهر‏.‏

 الشيخ عفيف الدين

محمد بن عمر بن عثمان بن عمر الصقلي ثم الدمشقي، إمام مسجد الرأس، آخر من حدث عن ابن الصلاح ببعض سنن البيهقي، سمعنا عليه شيئاً منها، توفي في صفر‏.‏

الشيخ الصالح العابد الزاهد الناسك

 عبد الله بن موسى بن أحمد الجزري، الذي كان مقيماً بزاوية أبي بكر من جامع دمشق، كان من الصالحين الكبار مباركاً خيراً، عليه سكينة ووقار‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/138‏)‏

وكانت له مطالعة كثيرة، وله فهم جيد وعقل جيد، وكان من الملازمين لمجالس الشيخ تقي الدين بن تيمية، وكان ينقل من كلامه أشياء كثيرة ويفهمها يعجز عنها كبار الفقهاء‏.‏

توفي يوم الاثنين سادس عشرين صفر، وصلّي عليه بالجامع ودفن بباب الصغير وكانت جنازته حافلة محمودة‏.‏

الشيخ الصالح الكبير المعمر

 الرجل الصالح تقي الدين بن الصائغ المقري المصري، الشافعي، آخر من بقي من مشايخ القراء وهو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الخالق بن علي بن سالم بن مكي، توفي في صفر ودفن بالقرافة وكانت جنازته حافلة، قارب التسعين ولم يبق له منها سوى سنة واحدة، وقد قرأ عليه غير واحد وهو ممن طال عمره وحسن عمله‏.‏

الشيخ الإمام صدر الدين

 أبو زكريا يحيى بن علي بن تمام بن موسى الأنصاري السبكي الشافعي، سمع الحديث وبرع في الأصول والفقه، ودرّس بالسيفية وباشرها بعده ابن أخيه تقي الدين السبكي الذي تولى قضاء الشام فيما بعد‏.‏

الشهاب محمود هو الصدر الكبير الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ صناعة الإنشاء الذي لم يكن بعد القاضي الفاضل مثله في صنعة الإنشاء، وله خصائص ليست للفاضل من كثرة النظم والقصائد المطولة الحسنة البليغة، فهو شهاب الدين أبو الثنا محمود بن سلمان بن فهد الحلبي ثم الدمشقي‏.‏

ولد سنة أربع وأربعين وستمائه بحلب، وسمع الحديث وعني باللغة والأدب والشعر وكان كثير الفضائل بارعاً في علم الإنشاء نظماً ونثراً، وله في ذلك كتب ومصنفات حسنة فائقة، وقد مكث في ديوان الإنشاء نحواً من خمسين سنة‏.‏

ثم ولي كتابة السر بدمشق نحواً من ثمان سنين إلى أن توفي ليلة السبت ثاني عشرين شعبان في منزله قرب باب النطفانيين وهي دار القاضي الفاضل، وصلّي عليه بالجامع ودفن بتربة له أنشأها بالقرب من اليغمورية وقد جاوز الثمانين رحمه الله‏.‏

 شيخنا عفيف الدين الأمدي

عفيف الدين إسحاق بن يحيى بن إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل الأمدي، ثم الدمشقي الحنفي شيخ دار الحديث الظاهرية‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/139‏)‏

ولد في حدود الأربعين وستمائة، وسمع الحديث على جماعة كثيرين، منهم يوسف بن خليل ومجد الدين بن تيمية، وكان شيخاً حسناً بهي المنظر سهل الإسماع يحب الرواية ولديه فضيلة، توفي ليلة الاثنين ثاني عشرين رمضان، ودفن بقاسيون، وهو والد فخر الدين ناظر الجيوش والجامع‏.‏

وقبله بيوم توفي الصدر معين الدين يوسف بن زغيب الرحبي أحد كبار التجار الأمناء‏.‏

وفي رمضان توفي‏.‏‏.‏‏.‏

 البدر العوام

وهو محمد بن علي البابا الحلبي، وكان فرداً في العوم، وطيب الأخلاق، انتفع به جماعة من التجار في بحر اليمن كان معهم فغرق بهم المركب، فلجأوا إلى صخرة في البحر، وكانوا ثلاثة عشر، ثم إنه غطس فاستخرج لهم أموالاً من قرار البحر بعد أن أفلسوا وكادوا أن يهلكوا‏.‏

وكان فيه ديانة وصيانة، وقد قرأ القرآن وحج عشر مرات، وعاش ثماناً وثمانين سنة رحمه الله، وكان يسمع الشيخ تقي الدين بن تيمية كثيراً‏.‏

وفيه توفي‏:‏

 الشهاب أحمد بن عثمان الأمشاطي

الأديب في الأزجال والموشحات والمواليا والدوبيت والبلاليق، وكان أستاذ أهل هذه الصناعة مات في عشر الستين‏.‏

القاضي الإمام العالم الزاهد

 صدر الدين سليمان بن هلال بن شبل بن فلاح بن خصيب الجعفري الشافعي المعروف بخطيب داريا، ولد سنة ثنتين وأربعين وستمائة، بقرية بسرا من عمل السواد، وقدم مع والده فقرأ بالصالحية القرآن على الشيخ نصر بن عبيد، وسمع الحديث وتفقه على الشيخ محيي الدين النووي، والشيخ تاج الدين الفزاري‏.‏

وتولى خطابة داريا وأعاد بالناصرية، وتولى نيابة القضاء لابن صصرى مدة، وكان متزهداً لا يتنعم بحمام ولا كتان ولا غيره، ولم يغير ما اعتاده في البر، وكان متواضعاً، وهو الذي استسقى بالناس في سنة تسع عشرة فسقوا كما ذكرنا‏.‏

وكان يذكر له نسباً إلى جعفر الطيار، بينه وبينه عشرة آباء، ثم ولي خطابة العقيبية فترك نيابة الحكم وقال هذه تكتفي إلى أن توفي ليلة الخميس ثامن ذي القعدة، ودفن بباب الصغير، وكانت جنازته مشهورة رحمه الله، وتولى بعده الخطابة ولده شهاب الدين‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/140‏)‏

 أحمد بن صبيح المؤذن

الرئيس بالعروس بجامع دمشق مع البرهان بدر الدين أبو عبد الله محمد بن صبيح بن عبد الله التفليسي مولاهم المقري المؤذن، كان مع أحسن الناس صوتاً في زمانه، وأطيبهم نغمة، ولد سنة ثنتين وخمسين وستمائة تقريباً، وسمع الحديث في سنة سبع وخمسين، وممن سمع عليه ابن عبد الدائم وغيره من المشايخ، وحدّث وكان رجلاً حسناً، أبوه مولى لامرأة اسمها شامة بنت كامل الدين التفليسي، امرأة فخر الدين الكرخي، وباشر مشارفة الجامع وقراءة المصحف، وأذن عند نائب السلطنة مدة، وتوفي في ذي الحجة بالطواويس، وصلّي عليه بجامع العقيبية، ودفن بمقابر باب الفراديس‏.‏

 خطاب باني خان خطاب

الذي بين الكسوة وغباغب‏.‏

الأمير الكبير عز الدين خطاب بن محمود بن رتقش العراقي، كان شيخاً كبيراً له ثروة من المال كبيرة، وأملاك وأموال، وله حمام بحكر السماق، وقد عمر الخان المشهور به بعد موته إلى ناحية الكتف المصري، مما يلي غباغب، وهو برج الصفر، وقد حصل لكثير من المسافرين به رفق، توفي ليلة سبع عشرة ربيع الآخر ودفن بتربته بسفح قاسيون، رحمه الله تعالى‏.‏وفي ذي القعدة منها توفي رجل آخر اسمه‏:‏

 ركن الدين خطاب بن الصاحب كمال الدين

أحمد ابن أخت ابن خطاب الرومي السيواسي، له خانقاه ببلده بسيواس، عليها أوقاف كثيرة وبر وصدقة، توفي وهو ذاهب إلى الحجاز الشريف بالكرك، ودفن بالقرب من جعفر وأصحابه بمؤتة رحمه الله‏.‏

وفي العشر الأخير من ذي القعدة توفي‏:‏

 بدر الدين أبو عبد الله

محمد بن كمال الدين أحمد بن أبي الفتح بن أبي الوحش أسد بن سلامة بن سليمان بن فتيان الشيباني المعروف بابن العطار، ولد سنة سبعين وستمائة، وسمع الحديث الكثير، وكتب الخط المنسوب واشتغل بالتنبيه ونظم الشعر، وولي كتابه الدرج، ثم نظر الجيش ونظر الأشراف، وكانت له حظوة في أيام الأفرم، ثم حصل له خمول قليل، وكان مترفاً منعماً له ثروة ورياسة وتواضع وحسن سيرة، ودفن بسفح قاسيون بتربتهم رحمه الله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/141‏)‏

القاضي محيي الدين

 أبو محمد بن الحسن بن محمد بن عمار بن فتوح الحارثي، قاضي الزبداني مدة طويلة، ثم ولي قضاء الكرك وبها مات في العشرين من ذي الحجة، وكان مولده سنة خمس وأربعين وستمائة، وقد سمع الحديث واشتغل، وكان حسن الأخلاق متواضعاً، وهو والد الشيخ جمال الدين بن قاضي الزبداني مدرس الظاهرية رحمه الله‏.‏

 ثم دخلت سنة ست وعشرين وسبعمائة

استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها، سوى كاتب سر دمشق شهاب الدين محمود فإنه توفي، وولي المنصب من بعده ولده الصدر شمس الدين‏.‏

وفيها‏:‏ تحول التجار في قماش النساء المخيط من الدهشة التي للجامع إلى دهشة سوق علي‏.‏

وفي يوم الأربعاء ثمان المحرم باشر مشيخة الحديث الظاهرية الشيخ شهاب الدين بن جهبل بعد وفاة العفيف إسحاق وترك تدريس الصلاحية بالقدس الشريف، واختار دمشق، وحضر عنده القضاة والأعيان‏.‏

وفي أولها فتح الحمام الذي بناه الأمير سيف الدين جوبان بجوار داره بالقرب من دار الجالق، وله بابان أحدهما إلى جهة مسجد الوزير، وحصل به نفع‏.‏

وفي يوم الاثنين ثاني صفر قدم الصاحب غبريال من مصر على البريد متولياً نظر الدواوين بدمشق على عادته، وانفصل عنها الكريم الصغير، وفرح الناس به‏.‏

وفي يوم الثلاثاء حادي عشرين ربيع الأول بكرة ضربت عنق ناصر بن الشرف أبي الفضل بن إسماعيل بن الهيثي بسوق الخيل على كفره واستهانته واستهتاره بآيات الله، وصحبته الزنادقة كالنجم بن خلكان، والشمس محمد الباجريقي، وابن المعمار البغدادي، وكل فيهم إنحلال وزندقة مشهور بها بين الناس‏.‏

قال الشيخ علم الدين الرزالي‏:‏ وربما زاد هذا المذكور المضروب العنق عليهم بالكفر والتلاعب بدين الإسلام، والاستهانة بالنبوة والقرآن‏.‏

قال‏:‏ وحضر قتله العلماء والأكابر وأعيان الدولة‏.‏

قال‏:‏ وكان هذا الرجل في أول أمره قد حفظ ‏(‏التنبيه‏)‏، وكان يقرأ في الختم بصوت حسن، وعنده نباهة وفهم، وكان منزلاً في المدارس والترب، ثم إنه انسلخ من ذلك جميعه، وكان قتله عزاً للإسلام وذلاً للزنادقة وأهل البدع‏.‏

قلت‏:‏ وقد شهدت قتله، وكان شيخنا أبو العباس بن تيمية حاضراً يومئذ، وقد أتاه وقرعه على ما كان يصدر منه قبل قتله، ثم ضربت عنقه وأنا شاهد ذلك‏.‏

وفي شهر ربيع الأول رسم في إخراج الكلاب من مدينة دمشق فجعلوا في الخندق من جهة باب الصغير من ناحية باب شرقي، الذكور على حدة والإناث على حده، وألزم أصحاب الدكاكين بذلك، وشددوا في أمرهم أياماً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/142‏)‏

وفي ربيع الأول ولي الشيخ علاء الدين المقدسي معيد البادرانية مشيخة الصلاحية بالقدس الشريف، وسافر إليها‏.‏

وفي جمادى الآخرة عزل قرطاي عن ولاية طرابلس ووليها طينال، وأقر قرطاي على خبز القرماني بدمشق بحكم سجن القرماني بقلعة دمشق‏.‏

قال البرزالي‏:‏ وفي يوم الاثنين عند العصر سادس عشر شعبان اعتقل الشيخ الإمام العالم العلامة تقي الدين بن تيمية بقلعة دمشق، حضر إليه من جهة نائب السلطنة تنكز مشداً الأوقاف، وابن الخطيري أحد الحجاب بدمشق، وأخبراه أن مرسوم السلطان ورد بذلك، وأحضرا معهما مركوباً ليركبه، وأظهر السرور والفرح بذلك، وقال‏:‏ أنا كنت منتظراً لذلك، وهذا فيه خير كثير ومصلحة كبيرة، وركبوا جميعاً من داره إلى باب القلعة، وأخليت له قاعة وأجرى إليها الماء ورسم له بالإقامة فيها، وأقام معه أخوه زين الدين يخدمه بإذن السلطان، ورسم له ما يقوم بكفايته‏.‏

قال البرزالي‏:‏ وفي يوم الجمعة عاشر الشهر المذكور قرئ بجامع دمشق الكتاب السلطاني الوارد باعتقاله ومنعه من الفتيا، وهذه الواقعة سببها فتيا وجدت بخطه في السفر وإعمال المطي إلى زيارة قبور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقبور الصالحين‏.‏

قال‏:‏ وفي يوم الأربعاء منتصف شعبان أمر قاضي القضاة الشافعي في حبس جماعة من أصحاب الشيخ تقي الدين في سجن الحكم، وذلك بمرسوم نائب السلطنة وإذنه له فيه، فيما تقتضيه الشريعة في أمرهم، وعزر جماعة منهم على دواب ونودي عليهم ثم أطلقوا، سوى شمس الدين محمد بن قيم الجوزية فإنه حبس بالقلعة، وسكتت القضية‏.‏

قال‏:‏ وفي أول رمضان وصلت الأخبار إلى دمشق أنه أجريت عين ماء إلى مكة شرفها الله وانتفع الناس بها انتفاعاً عظيماً، وهذه العين تعرف قديماً بعين باذان، أجراها جوبان من بلاد بعيدة حتى دخلت إلى نفس مكة، ووصلت إلى عند الصفا وباب إبراهيم، واستقى الناس منها فقيرهم وغنيهم وضعيفهم وشريفهم، كلهم فيها سواء، وارتفق أهل مكة بذلك رفقا كثيراً ولله الحمد والمنة‏.‏وكانوا قد شرعوا في حفرها وتجديدها في أوائل هذه السنة إلى العشر الأخر من جمادى الأولى، واتفق أن في هذه السنة كانت الآبار التي بمكة قد يبست وقل ماؤها، وقل ماء زمزم أيضاً، فلولا أن الله تعالى لطف بالناس بإجراء هذه القناة لنزح عن مكة أهلها، أو هلك كثير مما يقيم بها‏.‏

وأما الحجيج في أيام الموسم فحصل لهم بها رفق عظيم زائد عن الوصف، كما شاهدنا ذلك في سنة إحدى وثلاثين عام حججنا‏.‏

وجاء كتاب السلطان إلى نائبه بمكة بإخراج الزيديين من المسجد الحرام، وأن لا يكون لهم فيه إمام ولا مجتمع، ففعل ذلك‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 14/143‏)‏

وفي يوم الثلاثاء رابع شعبان درّس بالشامية الجوانية شهاب الدين أحمد بن جهبل، وحضر عنده القاضي القزويني الشافعي وجماعة عوضاً عن الشيخ أمين الدين سالم بن أبي الدر إمام مسجد ابن هشام توفي، ثم بعد أيام جاء توقيع بولاية القاضي الشافعي فباشرها في عشرين رمضان‏.‏

وفي عاشر شوال خرج الركب الشامي وأميره سيف الدين جوبان، وحج عامئذ القاضي شمس الدين بن مسلم قاضي قضاة الحنابلة، وبدر الدين ابن قاضي القضاة جلال الدين القزويني، ومعه تحف وهدايا وأمور تتعلق بالأمير سيف الدين أرغون نائب مصر، فإنه حج في هذه السنة ومعه أولاده وزوجته بنت السلطان، وحج فخر الدين ابن شيخ السلامية، وصدر الدين المالكي، وفخر الدين البعلبكي وغيره‏.‏

وفي يوم الأربعاء عاشر القعدة درّس بالحنبلية برهان الدين أحمد بن هلال الزرعي الحنبلي، بدلاً عن شيخ الإسلام ابن تيمية، وحضر عنده القاضي الشافعي وجماعة من الفقهاء وشق ذلك على كثير من أصحاب الشيخ تقي الدين، وكان ابن الخطيري الحاجب قد دخل على الشيخ تقي الدين قبل هذا اليوم فاجتمع به وسأله عن أشياء بأمر نائب السلطنة‏.‏

ثم يوم الخميس دخل القاضي جمال الدين بن جملة وناصر الدين مشد الأوقاف، وسألاه عن مضمون قوله في مسألة الزيارة، فكتب ذلك في درج وكتب تحته قاضي الشافعية بدمشق‏:‏ قابلت الجواب عن هذا السؤال المكتوب على خط ابن تيمية إلى أن قال‏:‏ وإنما المحز جعله زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقبور الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم معصية بالإجماع مقطوعاً بها‏.‏

فانظر الآن هذا التحريف على شيخ الإسلام، فإن جوابه على هذه المسألة ليس فيه منع زيارة قبور الأنبياء والصالحين، وإنما فيه ذكر قولين في شد الرحل والسفر إلى مجرد زيارة القبور، وزيارة القبور من غير شد رحل إليها مسألة، وشد الرحل لمجرد الزيارة مسألة أخرى، والشيخ لم يمنع الزيارة الخالية عن شد رحل، بل يستحبها ويندب إليها، وكتبه ومناسكه تشهد بذلك‏.‏

ولم يتعرض إلى هذه الزيارة في هذه الوجه في الفتيا، ولا قال إنها معصية، ولا حكى الإجماع على المنع منها، ولا هو جاهل قول الرسول‏:‏

‏(‏‏(‏زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة‏)‏‏)‏، والله سبحانه لا يخفى عليه شيء، ولا يخفى عليه خافية، ‏{‏وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 227‏]‏‏.‏

وفي يوم الأحد رابع القعدة فتحت المدرسة الحمصية تجاه الشامية الجوانية، ودرّس بها محيي الدين الطرابلسي قاضي هكار، وتلقب بأبي رباح، وحضر عنده القاضي الشافعي‏.‏

وفي ذي القعدة سافر القاضي جمال الدين الزرعي من الأتابكية إلى مصر، ونزل عن تدريسها لمحيي الدين بن جهبل‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 14/144‏)‏

وفي ثاني عشر ذي الحجة درس بالنجيبية ابن قاضي الزبداني عوضاً عن الدمشقي نائب الحكم مات بالمدرسة المذكورة‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 ابن المطهر الشيعي جمال الدين

أبو منصور حسن بن يوسف بن مطهر الحلبي العراقي الشيعي، شيخ الروافض بتلك النواحي، وله التصانيف الكثيرة، يقال تزيد على مائة وعشرين مجلداً، وعدتها خمسة وخمسون مصنفاً، في الفقه والنحو والأصول والفلسفة والرفض وغير ذلك من كبار وصغار‏.‏

وأشهرها بين الطلبة شرح ابن الحاجب في أصول الفقه، وليس بذاك الفائق، ورأيت له مجلدين في أصول الفقه على طريقة المحصول والأحكام، فلا بأس بها فإنها مشتملة على نقل كثير وتوجيه جيد‏.‏

وله كتاب ‏(‏منهاج الاستقامة في إثبات الإمامة‏)‏، خبط فيه في المعقول والمنقول، ولم يدر كيف يتوجه، إذ خرج عن الاستقامة‏.‏

وقد انتدب في الرد عليه الشيخ الإمام العلاّمة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس بن تيمية في مجلدات أتى فيها بما يبهر العقول من الأشياء المليحة الحسنة، وهو كتاب حافل‏.‏

ولد ابن المطهر الذي لم تطهر خلائقه ولم يتطهر من دنس الرفض ليلة الجمعة سابع عشرين رمضان سنة ثمان وأربعين وستمائة، توفي ليلة الجمعة عشرين محرم من هذه السنة، وكان اشتغاله ببغداد وغيرها من البلاد، واشتغل على نصير الطوسي، وعلى غيره، ولما ترفض الملك خربندا حظي عنده ابن المطهر وساد جداً وأقطعه بلاداً كثيرة‏.‏

 الشمس الكاتب

محمد بن أسد الحراني المعروف بالنجار، كان يجلس ليكتب الناس عليه بالمدرسة القليجية، توفي في ربيع الآخر ودفن بباب الصغير‏.‏

 العز حسن بن أحمد بن زفر

الأربلي ثم الدمشقي، كان يعرف طرفاً صالحاً من النحو والحديث والتاريخ، وكان مقيماً بدويرة حمد صوفيا بها، وكان حسن المجالسة أثنى عليه البرزالي في نقله وحسن معرفته، مات بالمارستان الصغير في جمادى الآخرة ودفن بباب الصغير عن ثلاث وستين سنة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/145‏)‏

 الشيخ الإمام أمين الدين سالم بن أبي الدر

عبد الرحمن بن عبد الله الدمشقي الشافعي مدرس الشامية الجوانية، أخذها من ابن الوكيل قهراً وهو إمام مسجد ابن هشام، ومحدث الكرسي به، كان مولده في سنة خمس وأربعين وستمائة، واشتغل وحصل وأثنى عليه النووي وغيره، وأعاد وأفتى ودرّس، وكان خبيراً بالمحاكمات، وكان فيه مروءة وعصبية لمن يقصده، توفي في شعبان ودفن بباب الصغير‏.‏

 الشيخ حماد

وهو الشيخ الصالح العابد الزاهد حماد الحلبي القطان، كان كثير التلاوة والصلوات، مواظباً على الإقامة بجامع التوبة بالعقيبة بالزاوية الغربية الشمالية، يقرئ القرآن ويكثر الصيام ويتردد الناس إلى زيارته، مات وقد جاوز السبعين سنة على هذا القدم، توفي ليلة الاثنين عشرين شعبان ودفن بباب الصغير، وكانت جنازته حافلة رحمه الله‏.‏

 الشيخ قطب الدين اليونيني

وهو الشيخ الإمام العالم بقية السلف، قطب الدين أبو الفتح موسى ابن الشيخ الفقيه الحافظ الكبير شيخ الإسلام أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الله بن عيسى بن أحمد بن محمد البعلبكي اليونيني الحنبلي‏.‏

ولد سنة أربعين وستمائة بدار الفضل بدمشق، وسمع الكثير وأحضره والده المشايخ واستجاز له وبحث واختصر ‏(‏مرآة الزمان‏)‏ للسبط، وذيّل عليها ذيلاً حسناً مرتباً أفاد فيه وأجاد بعبارة حسنة سهلة، بإنصاف وستر، وأتى فيه بأشياء حسنة وأشياء فائقة رائقة‏.‏

وكان كثير التلاوة حسن الهيئة متقللاً في ملبسه ومأكله، توفي ليلة الخميس ثالث عشر شوال، ودفن بباب سطحا عند أخيه الشيخ شرف الدين رحمهما الله‏.‏

 قاضي القضاة ابن مسلم

شمس الدين أبو عبد الله محمد بن مسلم بن مالك بن مزروع بن جعفر الصالحي الحنبلي، ولد سنة ستين وستمائة، ومات أبوه - وكان من الصالحين - سنة ثمان وستين، فنشأ يتيماً فقيراً لا مال له‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/146‏)‏

ثم اشتغل وحصل وسمع الكثير وانتصب للإفادة والاشتغال، فطار ذكره، فلما مات التقي سليمان سنة خمس عشرة ولي قضاء الحنابلة، فباشره أتم مباشرة، وخرجت له تخاريج كثيرة، فلما كانت هذه السنة خرج للحج فمرض في الطريق فورد المدينة النبوية على ساكنها رسول الله أفضل الصلاة والسلام، يوم الاثنين الثالث والعشرين من ذي القعدة فزار قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى في مسجده وكان بالأشواق إلى ذلك‏.‏

وكان قد تمنى ذلك لما مات ابن نجيح، فمات في عشية ذلك اليوم يوم الثلاثاء وصلّي عليه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالروضة، ودفن بالبقيع إلى جانب قبر شرف الدين ابن نجيح، الذي كان قد غبطه بموته هناك سنة حج هو وهو قبل هذه الحجة شرقي قبر عقيل رحمهم الله، وولي بعده القضاء عز الدين بن التقي سليمان‏.‏

 القاضي نجم الدين

أحمد بن عبد المحسن بن حسن بن معالي الدمشقي الشافعي، ولد سنة تسع وأربعين واشتغل على تاج الدين الفزاري وحصل وبرع وولي الإعادة ثم الحكم بالقدس، ثم عاد إلى دمشق فدرس بالنجيبية، وناب في الحكم عن ابن صصرى مدة، توفي بالنجيبية المذكورة يوم الأحد ثامن عشرين ذي القعدة، وصلّي عليه العصر بالجامع، ودفن بباب الصغير‏.‏

 ابن قاضي شهبة

الشيخ الإمام العالم شيخ الطلبة ومفيدهم كمال الدين أبو محمد عبد الوهاب بن ذؤيب الأسدي الشهبي الشافعي، ولد بحوران في سنة ثلاث وخمسين وستمائة، وقدم دمشق واشتغل على الشيخ تاج الدين الفزاري، ولازمه وانتفع به، وأعاد بحلقته، وتخرج به، وكذلك لازم أخاه الشيخ شرف الدين، وأخذ عنه النحو واللغة، وكان بارعاً في الفقه والنحو، له حلقة يشتغل فيها تجاه محراب الحنابلة‏.‏

وكان يعتكف جميع شهر رمضان، ولم يتزوج قط، وكان حسن الهيئة والشيبة، حسن العيش والملبس متقللاً من الدنيا، له معلوم يقوم بكفايته من إعادات وفقاهات وتصدير بالجامع، ولم يدرّس قط ولا أفتى، مع أنه كان ممن يصلح أن يأذن في الإفتاء، ولكنه كان يتورع عن ذلك‏.‏

وقد سمع الكثير‏:‏ سمع المسند للإمام أحمد وغير ذلك، توفي بالمدرسة المجاهدية - وبها كانت إقامته - ليلة الثلاثاء حادي عشرين ذي الحجة، وصلّي عليه بعد صلاة الظهر، ودفن بمقابر باب الصغير‏.‏

وفيها كانت وفاة‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/147‏)‏

 الشرف يعقوب بن فارس الجعبري

التاجر بفرجة ابن عمود، وكان يحفظ القرآن ويؤم بمسجد القصب، ويصحب الشيخ تقي الدين بن تيمية والقاضي نجم الدين الدمشقي، وقد حصل أموالاً وأملاكاً وثروة، وهو والد صاحبنا الشيخ الفقيه المفضل المحصل الزكي بدر الدين محمد، خال الولد عمر إن شاء الله‏.‏

وفيها توفي‏:‏

 الحاج أبو بكر بن تيمراز الصيرفي

كانت له أموال كثيرة ودائرة ومكارم وبر وصدقات، ولكنه انكسر في آخر عمره، وكاد أن ينكشف فجبره الله بالوفاة رحمه الله‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وعشرين وسبعمائة

استهلت بيوم الجمعة والحكام‏:‏ الخليفة والسلطان والنواب والقضاة والمباشرون هم المذكورون في التي قبلها سوى الحنبلي كما تقدم‏.‏

وفي العشر من المحرم دخل مصر أرغون نائب مصر فمسك في حادي عشر وحبس، ثم أطلق أياماً وبعثه السلطان إلى نائب حلب فاجتاز بدمشق بكرة الجمعة ثاني عشرين المحرم، فأنزله نائب السلطنة بداره المجاورة لجامعه، فبات بها ثم سافر إلى حلب، وقد كان قبله بيوم قد سافر من دمشق الجاي الدوادار إلى مصر، وصحبته نائب حلب علاء الدين الطنبغا معزولاً عنها إلى حجوبية الحجاب بمصر‏.‏

وفي يوم الجمعة التاسع عشر ربيع الأول قرئ تقليد قاضي الحنابلة عز الدين محمد بن التقي سليمان بن حمزة المقدسي، عوضاً عن ابن مسلم بمقصورة الخطابة بحضرة القضاة والأعيان، وحكم وقرئ قبل ذلك بالصالحية‏.‏

وفي أواخر هذا الشهر وصل البريد بتولية ابن النقيب الحاكم بحمص قضاء القضاة بطرابلس، ونقل الذي بها إلى حمص نائباً عن قاضي دمشق، وهو ناصر بن محمود الزرعي‏.‏

وفي سادس عشر ربيع الآخر عاد تنكز من مصر إلى الشام، وقد حصل له تكريم من السلطان‏.‏

وفي ربيع الأول حصلت زلزلة بالشام وقى الله شرها‏.‏

وفي يوم الخميس مستهل جمادى الأولى باشر نيابة الحنبلي القاضي برهان الدين الزرعي، وحضر عنده جماعة من القضاة‏.‏

وفي يوم الجمعة منتصف جمادى الآخرة جاء البريد بطلب القاضي القزويني الشافعي إلى مصر، فدخلها في مستهل رجب فخلع عليه بقضاء قضاة مصر مع تدريس الناصرية والصالحية ودار الحديث الكاملية، عوضاً عن بدر الدين بن جماعة لأجل كبر سنه وضعف نفسه، وضرر عينيه، فجبروا خاطره فرتب له ألف درهم وعشرة أرادب قمح في الشهر، مع تدريس زاوية الشافعي‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 14/148‏)‏

وأرسل ولده بدر الدين إلى دمشق خطيباً بالأموي، وعلى تدريس الشامية البرانية، على قاعدة والده جلال الدين القزويني في ذلك، فخلع عليه في أواخر رجب ثامن عشرين وحضر عنده الأعيان‏.‏

وفي رجب كان عرس الأمير سيف الدين قوصون الساقي الناصري، على بنت السلطان، وكان وقتاً مشهوداً، خلع على الأمراء والأكابر‏.‏

وفي صبيحة هذه الليلة عقد الأمير شهاب الدين أحمد بن الأمير بكتمر الساقي، على بنت تنكز نائب الشام، وكان السلطان وكيل أبيها تنكز والعقاد ابن الحريري، وخلع عليه وأدخلت في ذي الحجة من هذه السنة في كلفة كثيرة‏.‏

وفي رجب جرت فتنة كبيرة بالإسكندرية في سابع رجب، وذلك أن رجلاً من المسلمين قد تخاصم هو ورجل من الفرنج، على باب البحر فضرب أحدهما الآخر بنعل، فرفع الأمر إلى الوالي فأمر بغلق باب البلد بعد العصر، فقال له الناس‏:‏ إن لنا أموالاً وعبيداً ظاهر البلد، وقد أغلقت الباب قبل وقته‏.‏

ففتحه فخرج الناس في زحمة عظيمة، فقتل منهم نحو عشرة ونهبت عمائم وثياب وغير ذلك، وكان ذلك ليلة الجمعة فلما أصبح الناس ذهبوا إلى دار الوالي فأحرقوها وثلاث دور لبعض الظلمة‏.‏

وجرت أحوال صعبة، ونهبت أموال، وكسرت العامة باب سجن الوالي فخرج منه من فيه، فبلغ نائب السلطنة فاعتقد النائب أنه السجن الذي فيه الأمراء، فأمر بوضع السيف في البلد وتخريبه‏.‏

ثم إن الخبر بلغ السلطان فأرسل الوزير طيبغا الجمالي سريعاً فضرب وصادر، وضرب القاضي ونائبه وعزلهم، وأهان خلقاً من الأكابر وصادرهم بأموال كثيرة جداً، وعزل المتولي ثم أعيد، ثم تولى القضاء بهاء الدين علم الدين الأخنائي الشافعي الذي تولى دمشق فيما بعد، وعزل قضاة الإسكندرية المالكي ونائباه، ووضعت السلاسل في أعناقهم وأهينوا، وضرب ابن السني غير مرة‏.‏

وفي يوم السبت عشرين شعبان وصل إلى دمشق قاضي قضاة حلب ابن الزملكاني على البريد فأقام بدمشق أربعة أيام ثم سار إلى مصر ليتولى قضاء قضاة الشام بحضرة السلطان، فاتفق موته قبل وصوله إلى القاهرة ‏{‏وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 54‏]‏‏.‏

وفي يوم الجمعة سادس عشرين شعبان باشر صدر الدين المالكي مشيخة الشيوخ مضافاً إلى قضاء قضاة المالكية، وحضر الناس عنده، وقرئ تقليده بذلك بعد انفصال الزرعي عنها إلى مصر‏.‏

وفي نصف رمضان وصل قاضي الحنفية بدمشق لقضاء القضاة عماد الدين أبي الحسن علي بن أحمد بن عبد الواحد الطرسوسي، الذي كان نائباً لقاضي القضاة صدر الدين علي البصروي، فخلفه بعده بالمنصب، وقرئ تقليده بالجامع، وخلع عليه وباشر الحكم، واستناب القاضي عماد الدين ابن العز، ودرس بالنورية مع القضاء، وشكرت سيرته‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/149‏)‏

وفي رمضان قدم جماعة من الأسارى مع تجار الفرنج فأنزلوا بالمدرسة العادلية الكبيرة، واستفكوا من ديوان الأسرى بنحو من ستين ألفاً، وكثرت الأدعية لمن كان السبب في ذلك‏.‏

وفي ثامن شوال خرج الركب الشامي إلى الحجاز وأميره سيف الدين بالبان المحمدي، وقاضيه بدر الدين محمد بن محمد قاضي حران‏.‏

وفي شوال وصل تقليد قضاء الشافعية بدمشق لبدر الدين ابن قاضي القضاة ابن عز الدين بن الصائغ والخلعة معه، فامتنع من ذلك أشد الامتناع، وصمم، وألح عليه الدولة فلم يقبل وكثر بكاؤه وتغير مزاجه واغتاظ، فلما أصر على ذلك راجع تنكز السلطان في ذلك‏.‏

فلما كان شهر ذي القعدة اشتهر تولية علاء الدين علي بن إسماعيل القونوي قضاء الشام، فسار إليها من مصر وزار القدس ودخل دمشق يوم الاثنين سابع عشرين ذي القعدة، فاجتمع بنائب السلطنة ولبس الخلعة وركب مع الحجاب والدولة إلى العادلية‏.‏

فقرئ تقليده بها وحكم بها على العادة، وفرح الناس به وبحسن سمته وطيب لفظه وملاحة شمائله وتودده، وولي بعده مشيخة الشيوخ بمصر مجد الدين الأقصرائي الصوفي شيخ سرياقوس‏.‏

وفي يوم السبت ثالث عشرين ذي القعدة لبس القاضي محيي الدين بن فضل الله الخلعة بكتابة السر عوضاً عن ابن الشهاب محمود، واستمر ولده شرف الدين في كتابة الدست‏.‏

وفي هذه السنة تولى قضاء حلب عوضاً عن ابن الزملكاني القاضي فخر الدين البازري‏.‏

وفي العشر الأول من ذي الحجة كمل ترخيم الجامع الأموي أعني حائطه الشمالي، وجاء تنكز حتى نظر إليه فأعجبه ذلك، وشكر ناظره تقي الدين بن مراجل‏.‏

وفي يوم الأضحى جاء سيل عظيم إلى مدينة بلبيس فهرب أهلها منها وتعطلت الصلاة والأضاحي فيها، ولم ير مثله من مدة سنين متطاولة، وخرب شيئاً كثيراً من حواضرها وبساتينها، فإنا الله وإنا إليه راجعون‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 الأمير أبو يحيى

زكريا بن أحمد بن محمد بن عبد الواحد أبي حفص الهنتاني الجياني المغربي، أمير بلاد المغرب‏.‏

ولد بتونس قبل سنة خمسين وستمائة، وقرأ الفقه والعربية، وكان ملوك تونس تعظمه وتكرمه، لأنه من بيت الملك والإمرة والوزارة‏.‏

ثم بايعه أهل تونس على الملك في سنة إحدى عشرة وسبعمائة، وكان شجاعاً مقداماً، وهو أول من أبطل ذكر ابن التومرت من الخطبة، مع أن جده أبا حفص الهنتاني كان من أخص أصحاب ابن التومرت‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/150‏)‏

توفي في المحرم من هذه السنة بمدينة الإسكندرية رحمه الله‏.‏

 الشيخ الصالح ضياء الدين

ضياء الدين أبو الفدا إسماعيل بن رضي الدين أبي الفضل المسلم بن الحسن بن نصر الدمشقي، المعروف بابن الحموي، كان هو وأبوه وجده من الكتاب المشهورين المشكورين، وكان هو كثير التلاوة والصلاة والصيام والبر والصدقة والإحسان إلى الفقراء والأغنياء‏.‏

ولد سنة خمس وثلاثين وستمائة وسمع الحديث الكثير وخرج له البرزالي مشيخة سمعناها عليه، وكان من صدور أهل دمشق، توفي يوم الجمعة رابع عشر صفر، وصلّي عليه ضحوة يوم السبت، ودفن بباب الصغير، وحج وجاور وأقام بالقدس مدة‏.‏

مات وله ثنتان وسبعون سنة رحمه الله، وقد ذكر والده أنه حين ولد له فتح المصحف يتفاءل فإذا قوله‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 39‏]‏، فسماه إسماعيل‏.‏

ثم ولد له آخر فسماه إسحاق، وهذا من الاتفاق الحسن رحمهم الله تعالى‏.‏

 الشيخ علي المحارفي

علي بن أحمد بن هوس الهلالي، أصل جده من قرية إيل البسوق، وأقام والده بالقدس، وحج هو مرة وجاور بمكة سنة ثم حج، وكان رجلاً صالحاً مشهوراً، ويعرف بالمحارفي، لأنه كان يحرف الأزقة ويصلح الرصفان لله تعالى‏.‏

وكان يكثر التهليل والذكر جهرة، وكان عليه هيبة ووقار، ويتكلم كلاماً فيه تخويف وتحذير من النار، وعواقب الردى، وكان ملازماً لمجالس ابن تيمية، وكانت وفاته يوم الثلاثاء ثالث عشرين ربيع الأول، ودفن بتربة الشيخ موفق الدين بالسفح، وكانت جنازته حافلة جداً رحمه الله‏.‏

 الملك الكامل ناصر الدين

أبو المعالي محمد بن الملك السعيد فتح الدين عبد الملك بن السلطان الملك الصالح إسماعيل أبي الجيش ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب أحد أكابر الأمراء وأبناء الملوك، كان من محاسن البلد ذكاء وفطنة وحسن عشرة ولطافة كلام، بحيث يسرد كثيراً من الكلام بمنزلة الأمثال من قوة ذهنه وحذاقة فهمه، وكان رئيساً من أجواد الناس، توفي عشية الأربعاء عشرين جمادى الأولى، وصلّي عليه ظهر الخميس بصحن الجامع تحت النسر‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/151‏)‏

ثم أرادوا دفنه عند جده لأمه الملك الكامل فلم يتيسر ذلك فدفن بتربة أم الصالح سامحه الله، وكان له سماع كثير سمعنا عليه منه، وكان يحفظ تاريخاً جيداً، وقام ولده الأمير صلاح الدين مكانه في إمرة الطبلخانة، وجعل أخوه في عشرته ولبسا الخلع السلطانية بذلك‏.‏

 الشيخ الإمام نجم الدين

أحمد بن محمد بن أبي الحزم القرشي المخزومي القمولي، كان من أعيان الشافعية، وشرح ‏(‏الوسيط‏)‏ وشرح ‏(‏الحاجبية‏)‏ في مجلدين، ودرّس وحكم بمصر، وكان محتسباً بها أيضاً، وكان مشكور السيرة فيها، وقد تولى بعده الحكم نجم الدين بن عقيل، والحسبة ناصر الدين بن قار السبقوق، توفي في رجب وقد جاوز الثمانين، ودفن بالقرافة رحمه الله‏.‏

 الشيخ الصالح أبو القاسم

عبد الرحمن بن موسى بن خلف الحزامي، أحد مشاهير الصالحين بمصر، توفي بالروضة وحمل إلى شاطئ النيل، وصلّي عليه وحمل على الرؤوس والأصابع، ودفن عند ابن أبي حمزة، وقد قارب الثمانين، وكان ممن يقصد إلى الزيارة رحمه الله‏.‏

 القاضي عز الدين

عبد العزيز بن أحمد بن عثمان بن عيسى بن عمر بن الخضر الهكاري الشافعي، قاضي المحلة، كان من خيار القضاة، وله تصنيف على حديث المجامع في رمضان، يقال إنه استنبط فيه ألف حكم‏.‏

توفي في رمضان، وقد كان حصل كتباً جيدة منها ‏(‏التهذيب‏)‏ لشيخنا المزي‏.‏

 الشيخ كمال الدين بن الزملكاني

شيخ الشافعية بالشام وغيرها، انتهت إليه رياسة المذهب تدريساً وإفتاء ومناظرة، ويقال في نسبة السماكي نسبة إلى أبي دجانة سماك بن خرشة والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/152‏)‏

ولد ليلة الاثنين ثامن شوال سنة ست وستين وستمائة، وسمع الكثير واشتغل على الشيخ تاج الدين الفزاري، وفي الأصول على القاضي بهاء الدين بن الزكي، وفي النحو على بدر الدين بن ملك وغيرهم، وبرع وحصل وساد أقرانه من أهل مذهبه، وحاز قصب السبق عليهم بذهنه الوقاد في تحصيل العلم الذي أسهره ومنعه الرقاد وعبارته التي هي أشهى من كل شيء معتاد، وخطه الذي هو أنضر من أزاهير الوهاد‏.‏

وقد درّس بعدة مدارس بدمشق، وباشر عدة جهات كبار، كنظر الخزانة ونظر المارستان النوري وديوان الملك السعيد، ووكالة بيت المال‏.‏

وله تعاليق مفيدة واختيارات حميدة سديدة ومناظرات سعيدة‏.‏

ومما علقه قطعة كبيرة من شرح ‏(‏المنهاج‏)‏ للنووي، ومجلد في الرد على الشيخ تقي الدين بن تيمية في مسألة الطلاق وغير ذلك، وأما دروسه في المحافل فلم أسمع أحداً من الناس درس أحسن منها ولا أحلى من عبارته، وحسن تقريره، وجودة احترازاته، وصحة ذهنه وقوة قريحته وحسن نظمه‏.‏

وقد درّس بالشامية البرانية والعذراوية الجوانية والرواحية والمسرورية، فكان يعطي كل واحدة منهن حقها بحيث كان يكاد ينسخ بكل واحد من تلك الدروس ما قبله من حسنه وفصاحته، ولا يهيله تعداد الدروس وكثرة لفقهاء والفضلاء، بل كلما كان الجمع أكثر والفضلاء أكبر كان الدرس أنضر وأبهر وأحلى وأنصح وأفصح‏.‏

ثم لما انتقل إلى قضاء حلب وما معه من المدارس العديدة عامله معاملة مثلها، وأوسع بالفضيلة جميع أهلها، وسمعوا من العلوم ما لم يسمعوا هم ولا آباؤهم‏.‏

ثم طلب إلى الديار المصرية ليولى الشامية دار السنة النبوية فعاجلته المنية قبل وصوله إليها، فمرض وهو سائر على البريد تسعة أيام، ثم عقب المرض بحراق الحمام فقبضه هاذم اللذات، وحال بينه وبين سائر الشهوات والإرادات، والأعمال بالنيات‏.‏

ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه، وكان من نيته الخبيثة إذا رجع إلى الشام متولياً أن يؤذي شيخ الإسلام ابن تيمية فدعا عليه فلم يبلغ أمله ومراده، فتوفي في سحر يوم الأربعاء سادس عشر شهر رمضان بمدينة بلبيس، وحمل إلى القاهرة ودفن بالقرافة ليلة الخميس جوار قبة الشافعي تغمدها الله برحمته‏.‏

الحاج علي المؤذن المشهور بالجامع الأموي

الحاج علي بن فرج بن أبي الفضل الكتاني، كان أبوه من خيار المؤذنين، فيه صلاح ودين وله قبول عند الناس، وكان حسن الصوت جهوره، وفيه تودد وخدم وكرم، وحج غير مرة وسمع من أبي عمر وغيره، توفي ليلة الأربعاء ثالث القعدة وصلّي عليه غدوة، ودفن بباب الصغيرة‏.‏

وفي ذي القعدة توفي‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/153‏)‏

الشيخ فضل بن الشيخ الرجيحي التونسي

وأجلس أخوه يوسف مكانه بالزاوية‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وسبعمائة

في ذي القعدة منها كانت وفاة شيخ الإسلام أبي العباس أحمد بن تيمية قدس الله روحه كما ستأتي ترجمة وفاته في الوفيات إن شاء الله تعالى‏.‏

استهلت هذه السنة وحكام البلاد هم المذكورون في التي قبلها سوى نائب مصر وقاضي حلب‏.‏وفي يوم الأربعاء ثاني المحرم دّرس بحلقة صاحب حمص الشيخ الحافظ صلاح الدين العلائي، نزل له عنها شيخنا الحافظ المزي، وحضر عنده الفقهاء والقضاة والأعيان، وذكر درساً حسناً مفيداً‏.‏

وفي يوم الجمعة رابع المحرم حضر قاضي القضاة علاء الدين القونوي مشيخة الشيوخ بالسمساطية عوضاً عن القاضي المالكي شرف الدين، وحضر عنده الفقهاء والصوفية على العادة‏.‏

وفي يوم الأحد ثامن عشر صفر درّس بالمسرورية تقي الدين عبد الرحمن بن الشيخ كمال الدين بن الزملكاني عوضاً عن جمال الدين بن الشريشي بحكم انتقاله إلى قضاء حمص، وحضر الناس عنده وترحموا على والده‏.‏

وفي يوم الأحد خامس عشرين صفر وصل إلى دمشق الأمير الكبير صاحب بلاد الروم تمرتاش ابن جوبان، قاصداً إلى مصر، فخرج نائب السلطنة والجيش إلى تلقيه، وهو شاب حسن الصورة تام الشكل مليح الوجه‏.‏

ولما انتهى إلى السلطان بمصر أكرمه وأعطاه تقدمة ألف، وفرق أصحابه على الأمراء وأكرموا إكراماً زائداً، وكان سبب قدومه إلى مصر أن صاحب العراق الملك أبا سعيد كان قد قتل أخاه جواجا رمشتق في شوال من السنة الماضية، فهمّ والده جوبان بمحاربة السلطان أبي سعيد فلم يتمكن من ذلك، وكان جوبان إذ ذاك مدبر الممالك، فخاف تمرتاش هذا عند ذلك من السلطان ففر هارباً بدمه إلى السلطان الناصر بمصر‏.‏

وفي ربيع الأول توجه نائب الشام سيف الدين تنكز إلى الديار المصرية لزيارة السلطان فأكرمه واحترمه واشترى في هذه السفرة دار الفلوس التي بالقرب من البزوريين والجوزية، وهي شرقيها، وقد كان سوق البزورية اليوم يسمى سوق القمح، فاشترى هذه الدار وعمرها داراً هائلة ليس بدمشق دار أحسن منها‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 14/154‏)‏

وسماها دار الذهب، وهدم حمام سويد تلقاءها وجعله دار قرآن وحديث في غاية الحسن أيضاً، ووقف عليها أماكن ورتب فيه المشايخ والطلبة كما سيأتي تفصيله في موضعه، واجتاز برجوعه من مصر بالقدس الشريف وزاره وأمر ببناء حمام به، وبناء دار حديث أيضاً به، وخانقاه كما يأتي بيانه‏.‏

وفي آخر ربيع الأول وصلت القناة إلى القدس التي أمر بعمارتها وتجديدها سيف الدين تنكز قطلبك، فقام بعمارتها مع ولاة تلك النواحي، وفرح المسلمون بها ودخلت حتى إلى شط المسجد الأقصى، وعمل به بركة هائلة، وهي مرخمة ما بين الصخرة والأقصى، وكان ابتداء عملها من شوال من السنة الماضية‏.‏

وفي هذه المدة عمر سقوف شرافات المسجد الحرام وإيوانه، وعمرت بمكة طهارة ما يلي باب بني شيبة‏.‏

قال البرزالي‏:‏ وفي هذا الشهر كملت عمارة الحمام الذي بسوق باب توما، وله بابان‏.‏

وفي ربيع الآخر نقض الترخيم الذي بحائط جامع دمشق القبلي من جهة الغرب مما يلي باب الزيادة، فوجدوا الحائط متجافياً فخيف من أمره، وحضر تنكز بنفسه ومعه القضاة وأرباب الخبرة، فاتفق رأيهم على نقضه وإصلاحه‏.‏

وذلك يوم الجمعة بعد الصلاة سابع عشرين ربيع الآخر وكتب نائب السلطنة إلى السلطان يعلمه بذلك ويستأذنه في عمارته، فجاء المرسوم بالإذن بذلك، فشرع في نقضه يوم الجمعة خامس عشرين جمادى الأولى، وشرعوا في عمارته يوم الأحد تاسع جمادى الآخرة، وعمل محراب فيما بين الزيادة ومقصورة الخطابة يضاهي محراب الصحابة‏.‏

ثم جدوا ولازموا في عمارته، وتبرع كثير من الناس بالعمل فيه من سائر الناس، فكان يعمل فيه كل يوم أزيد من مائة رجل، حتى كملت عمارة الجدار وأعيدت طاقاته وسقوفه في العشرين من رجب وذلك بهمة تقي الدين بن مراجل‏.‏

وهذا من العجب فإنه نقض الجدار وما يسامته من السقف، وأعيد في مدة لا يتخيل إلى أحد أن عمله يفرغ فيما يقارب هذه المدة جزماً، وساعدهم على سرعة الإعادة حجارة وجدوها في أساس الصومعة الغربية التي عند الغزالية، وقد كان في كل زاوية من هذا المعبد صومعة كما في الغربية والشرقية القبلتين منه، فأبيدت الشماليتين قديماً ولم يبق منهما من مدة ألوف من السنين سوى أس هذه المئذنة الغربية الشمالية، فكانت من أكبر العون على إعادة هذا الجدار سريعاً‏.‏

ومن العجب أن ناظر الجامع ابن مراجل لم ينقص أحداً من أرباب المرتبات على الجامع شيئاً مع هذه العمارة‏.‏

وفي ليلة السبت خامس جمادى الأولى وقع حريق عظيم بالقرايين واتصل بالرماحين، واحترقت القيسارية والمسجد الذي هناك، وهلك للناس شيء كثير من الفرا والجوخ والأقمشة، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وفي يوم الجمعة عاشره بعد الصلاة صلّي على القاضي شمس الدين بن الحريري قاضي قضاة الحنفية بمصر، وصلّي عليه صلاة الغائب بدمشق‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/155‏)‏

وفي هذا اليوم قدم البريد يطلب برهان الدين بن عبد الحق الحنفي إلى مصر ليلي القضاء بها بعد ابن الحريري، فخرج مسافراً إليها، ودخل مصرفي خامس عشرين جمادى الأولى، واجتمع بالسلطان فولاه القضاء وأكرمه وخلع عليه وأعطاه بغلة بزناري، وحكم بالمدرسة الصالحية بحضرة القضاة والحجاب، ورسم له بجميع جهات ابن الحريري‏.‏

وفي يوم الاثنين تاسع جمادى الآخرة أخرج ما كان عند الشيخ تقي الدين بن تيمية من الكتب والأوراق والدواة والقلم، ومنع من الكتب والمطالعة، وحملت كتبه في مستهل رجب إلى خزانة الكتب بالعادلية الكبيرة‏.‏

قال البرزالي‏:‏ وكانت نحو ستين مجلداً، وأربع عشرة ربطة كراريس، فنظر القضاة والفقهاء فيها وتفرقوها بينهم، وكان سبب ذلك أنه أجاب لما كان رد عليه التقي ابن الاخنائي المالكي في مسألة الزيارة فرد عليه الشيخ تقي الدين واستجهله وأعلمه أنه قليل البضاعة في العلم، فطلع الاخنائي إلى السلطان، وشكاه فرسم السلطان عند ذلك بإخراج ما عنده من ذلك وكان ما كان، كما ذكرنا‏.‏

وفي أواخره رسم لعلاء الدين بن القلانسي في الدست، مكان أخيه جمال الدين توقيراً لخاطره عن المباشرة، وأن يكون معلومة على قضاء العساكر والوكالة، وخلع عليهما بذلك‏.‏

وفي يوم الثلاثاء ثالث عشرين رجب رسم للأئمة الثلاثة الحنفي والمالكي والحنبلي بالصلاة في الحائط القبلي من الأموي، فعين المحراب الجديد الذي بين الزيادة والمقصورة للإمام الحنفي، وعين محراب الصحابة للمالكي وعين محراب مقصورة الخضر الذي كان يصلي فيه المالكي للحنبلي، وعوض إمام محراب الصحابة بالكلاسة، وكان قبل ذلك في حال العمارة قد بلغ محراب الحنفية من المقصورة المعروفة بهم‏.‏

ومحراب الحنابلة من خلفهم في الرواق الثالث الغربي وكانا بين الأعمدة، فنقلت تلك المحاريب وعوضوا بالمحاريب المستقرة بالحائط القبلي واستقر الأمر كذلك‏.‏

وفي العشرين من شعبان مسك الأمير تمرتاش بن جوبان الذي أتى هارباً إلى السلطان الناصر بمصر وجماعة من أصحابه، وحبسوا بقلعة مصر، فلما كان ثاني شوال أظهر موته، يقال إنه قتله السلطان وأرسل رأسه إلى أبي سعيد صاحب العراق ابن خربندا ملك التتار‏.‏

وفي يوم الاثنين ثاني شوال خرج الركب الشامي وأميره فخر الدين عثمان بن شمس الدين لؤلؤ الحلبي أحد أمراء دمشق، وقاضيه قاضي قضاة الحنابلة عز الدين بن التقي سليمان‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/156‏)‏

وممن حج‏:‏ الأمير حسام الدين الشبمقدار، والأمير قبجق، والأمير حسام الدين بن النجيبي، وتقي الدين بن السلعوس، وبدر الدين بن الصائغ، وابنا جهبل والفخر المصري، والشيخ علم الدين البرزالي، وشهاب الدين الطاهري‏.‏

وقبل ذلك بيوم حكم القضاي المنفلوطي الذي كان حاكماً ببعلبك بدمشق نيابة عن شيخه قاضي القضاة علاء الدين القونوي، وكان مشكور السيرة تألم أهل بعلبك لفقده، فحكم بدمشق عوضاً عن القونوي بسبب عزمه على الحج، ثم لما رجع الفخر من الحج عاد إلى الحكم واستمر المنفلوطي يحكم أيضاً، فصاروا ثلاث نواب‏:‏ ابن جملة، والفخر المصري، والمنفلوطي‏.‏

وسافر ابن الحشيشي في ثاني عشرين شوال إلى القاهرة لينوب عن القاضي فخر الدين كاتب المماليك إلى حين رجوعه من الحجاز، فلما وصل ولي حجابة ديوان الجيش، واستمر هناك، واستقل قطب الدين ابن شيخ السلامية بنظر الجيش بدمشق على عادته‏.‏

وفي شوال خلع على أمين الملك بالديار المصرية وولي نظر الدواوين فباشره شهراً ويومين وعزل عنه‏.‏

 وفاة شيخ الإسلام أبي العباس تقي الدين أحمد بن تيمية

قال الشيخ علم الدين البرزالي في تاريخه‏:‏ وفي ليلة الاثنين العشرين من ذي العقدة توفي الشيخ الإمام العالم العلم العلامة الفقيه الحافظ الزاهد العابد المجاهد القدوة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد ابن شيخنا الإمام العلامة المفتي شهاب الدين أبي المحاسن عبد الحليم ابن الشيخ الإمام شيخ الإسلام أبي البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم محمد بن الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله بن تيمية الحراني ثم الدمشقي، بقلعة دمشق بالقاعة التي كان محبوساً بها، وحضر جمع كثير إلى القلعة، وأذن لهم في الدخول عليه، وجلس جماعة عنده قبل الغسل وقرؤا القرآن وتبركوا برؤيته وتقبيله، ثم انصرفوا، ثم حضر جماعة من النساء ففعلن مثل ذلك ثم انصرفن واقتصروا على من يغسله‏.‏

فلما فرغ من غسله أخرج ثم اجتمع الخلق بالقلعة والطريق إلى الجامع وامتلأ الجامع أيضاً وصحته والكلاسة وباب البريد وباب الساعات إلى باب اللبادين والغوارة، وحضرت الجنازة في الساعة الرابعة من النهار أو نحو ذلك ووضعت في الجامع، والجند قد احتاطوا بها يحفظونها من الناس من شدة الزحام، وصلّي عليه أولاً بالقلعة، تقدم في الصلاة عليه أولاً الشيخ محمد بن تمام، ثم صلّي عليه بالجامع الأموي عقيب صلاة الظهر‏.‏

وقد تضاعف اجتماع الناس على ما تقدم ذكره، ثم تزياد الجمع إلى أن ضاقت الرحاب والأزقة والأسواق بأهلها ومن فيها، ثم حمل بعد أن صلّي عليه على الرؤوس والأصابع، وخرج النعش به من باب البريد واشتد الزحام وعلت الأصوات بالبكاء والنحيب والترحم عليه والثناء والدعاء له‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/157‏)‏

وألقى الناس على نعشه مناديلهم وعمائمهم وثيابهم، وذهبت النعال من أرجل الناس وقباقيبهم ومناديل وعمائم لا يلتفتون إليها لشغلهم بالنظر إلى الجنازة، وصار النعش على الرؤوس تارة يتقدم وتارة يتأخر، وتارة يقف حتى تمر الناس، وخرج الناس من الجامع من أبوابه كلها وهي شديدة الزحام، كل باب أشد زحمة من الآخر، ثم خرج الناس من أبواب البلد جميعها من شدة الزحام فيها، لكن كان معظم الزحام من الأبواب الأربعة‏:‏ باب الفرج الذي أخرجت منه الجنازة، وباب الفراديس، وباب النصر، وباب الجابية‏.‏

وعظم الأمر بسوق الخيل وتضاعف الخلق وكثر الناس، ووضعت الجنازة هناك وتقدم للصلاة عليه هناك أخوه زين الدين عبد الرحمن، فلما قضيت الصلاة حمل إلى مقبرة الصوفية فدفن إلى جانب أخيه شرف الدين عبد الله رحمهما الله‏.‏

وكان دفنه قبل العصر بيسير، وذلك من كثرة من يأتي ويصلي عليه من أهل البساتين وأهل الغوطة وأهل القرى وغيرهم، وأغلق الناس حوانيتهم ولم يتخلف عن الحضور إلا من هو عاجز عن الحضور، مع الترحم والدعاء له، وأنه لو قدر ما تخلف، وحضر نساء كثيرات بحيث حزرن بخمسة عشر ألف امرأة، غير اللاتي كن على الأسطحة وغيرهن، الجميع يترحمن ويبكين عليه فيما قيل‏.‏

وأما الرجال فحزروا بستين ألفاً إلى مائة ألف إلى أكثر من ذلك إلى مائتي ألف، وشرب جماعة الماء الذي فضل من غسله، واقتسم جماعة بقية السدر الذي غسل به، ودفع في الخيط الذي كان فيه الزئبق الذي كان في عنقه بسبب القمل مائة وخمسون درهماً، وقيل إن الطاقية التي كانت على رأسه دفع فيها خمسمائة درهماً‏.‏

وحصل في الجنازة ضجيج وبكاء كثير، وتضرع وختمت له ختمات كثيرة بالصالحية وبالبلد، وتردد الناس إلى قبره أياماً كثيرة ليلاً ونهاراً يبيتون عنده ويصبحون، ورؤية له منامات صالحة كثيرة، ورثاه جماعة بقصائد جمة‏.‏

وكان مولده يوم الاثنين عاشر ربيع الأول بحران سنة إحدى وستين وستمائة، وقدم مع والده وأهله إلى دمشق، وهو صغير، فسمع الحديث من ابن عبد الدائم وابن أبي اليسر وابن عبدان، والشيخ شمس بن الحنبلي، والشيخ شمس الدين بن عطاء الحنفي، والشيخ جمال الدين بن الصيرفي، ومجد الدين بن عساكر، والشيخ جمال الدين البغدادي، والنجيب بن المقداد، وابن أبي الخير، وابن علان وابن أبي بكر اليهودي، والكمال عبد الرحيم، والفخر علي وابن شيبان والشرف بن القواس، وزينب بنت مكي، وخلق كثير سمع منهم الحديث، وقرأ بنفسه الكثير وطلب الحديث وكتب الطباق والإثبات ولازم السماع بنفسه مدة سنين، وقل أن سمع شيئاً إلا حفظه، ثم اشتغل بالعلوم، وكان ذكياً كثير المحفوظ فصار إماماً في التفسير وما يتعلق به، عارفاً بالفقه، فيقال إنه كان أعرف بفقه المذاهب من أهلها الذين كانوا في زمانه وغيره، وكان عالماً باختلاف العلماء، عالماً في الأصول والفروع والنحو واللغة، وغير ذلك من العلوم النقلية والعقلية، وما قطع في مجلس ولا تكلم معه فاضل في فن من الفنون إلا ظن أن ذلك الفن فنه، ورآه عارفاً به متقناً له، وأما الحديث فكان حامل رايته حافظاً له مميزاً بين صحيحه وسقيه، عارفاً برجاله متضلعاً من ذلك، وله تصانيف كثيرة وتعاليق مفيدة في الأصول والفروع، كمل منها جملة وبيضت وكتبت عنه وقرئت عليه أو بعضها، وجملة كبيرة لم يكملها وجملة كملها ولم تبيّض إلى الآن‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/158‏)‏

وأثنى عليه وعلى علومه وفضائله جماعة من علماء عصره، مثل القاضي الخويي، وابن دقيق العيد، وابن النحاس، والقاضي الحنفي قاضي قضاة مصر ابن الحريري وابن الزملكاني وغيرهم، ووجدت بخط ابن الزملكاني أنه قال‏:‏ اجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها، وأن له اليد الطولي في حسن التصنيف وجودة العبارة والترتيب والتقسيم والتدين، وكتب على تصنيف له هذه الأبيات

ماذا يقول الواصفون له * وصفاته جلت عن الحصر

هو حجة لله قاهرة * هو بيننا أعجوبة الدهر

هو آية في الخلق ظاهرة * أنوارها أربت على الفجر

وهذا الثناء عليه، وكان عمره يومئذ نحو الثلاثين سنة، وكان بيني وبينه مودة وصحبة من الصغر، وسماع الحديث والطلب من نحو سنة، وله فضائل كثيرة، وأسماء مصنفاته وسيرته وما جرى بينه وبين الفقهاء والدولة وحبسه مرات وأحواله لا يحتمل ذكر جميعها هذا الموضع، وهذا الكتاب‏.‏

ولما مات كنت غائباً عن دمشق بطريق الحجاز، ثم بلغنا خبر موته بعد وفاته بأكثر من خمسين يوماً لما وصلنا إلى تبوك، وحصل التأسف لفقده رحمه الله تعالى‏.‏

هذا لفظه في هذا الموضع من تاريخه‏.‏

ثم ذكر الشيخ علم الدين بعد إيراد هذه الترجمة جنازة أبي بكر بن أبي داود وعظمها، وجنازة الإمام أحمد ببغداد وشهرتها، وقال الإمام أبو عثمان الصابوني‏:‏ سمعت أبا عبد الرحمن السيوفي يقول‏:‏ حضرت جنازة أبي الفتح القواس الزاهد مع الشيخ أبي الحسن الدار قطني فلما بلغ إلى ذلك الجمع العظيم أقبل علينا وقال‏:‏ سمعت أبا سهل بن زياد القطان يقول سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل يقول سمعت أبي يقول‏:‏ قولوا لأهل البدع بيننا وبينكم الجنائز، قال‏:‏ ولا شك أن جنازة أحمد بن حنبل كانت هائلة عظيمة، بسبب كثرة أهل بلده واجتماعهم لذلك، وتعظيمهم له، وأن الدولة كانت تحبه‏.‏

والشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله توفي ببلدة دمشق، وأهلها لا يعشرون أهل بغداد حينئذ كثرة، ولكنهم اجتمعوا لجنازته اجتماعاً لو جمعهم سلطان قاهر، وديوان حاصر لما بلغوا هذه الكثرة التي اجتمعوها في جنازته، وانتهوا إليها‏.‏

هذا مع أن الرجل مات بالقلعة محبوساً من جهة السلطان، وكثير من الفقهاء والفقراء يذكرون عنه للناس أشياء كثيرة، مما ينفر منها طباع أهل الأديان فضلاً عن أهل الإسلام‏.‏وهذه كانت جنازته‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/159‏)‏

قال‏:‏ وقد اتفق موته في سحر ليلة الاثنين المذكور، فذكر ذلك مؤذن القلعة على المنارة بها وتكلم به الحراس على الأبرجة، فما أصبح الناس إلا وقد تسامعوا بهذا الخطب العظيم والأمر الجسيم، فبادر الناس على الفور إلى الاجتماع حول القلعة من كل مكان أمكنهم المجيء منه، حتى من الغوطة والمرج، ولم يطبخ أهل الأسواق شيئاً ولا فتحوا كثيراً من الدكاكين التي من شأنها أن تفتح أوائل النهار على العادة‏.‏

وكان نائب السلطنة تنكز قد ذهب يتصيد في بعض الأمكنة، فحارت الدولة ماذا يصنعون، وجاء الصاحب شمس الدين غبريال نائب القلعة فعزاه فيه، وجلس عنده، وفتح باب القلعة لمن يدخل من الخواص والأصحاب والأحباب، فاجتمع عند الشيخ في قاعته خلق من أخصاء أصحابه من الدولة وغيرهم من أهل البلد والصالحية، فجلسوا عنده يبكون ويثنون على، مثل ليلى يقتل المرء نفسه، وكنت فيمن حضر هناك مع شيخنا الحافظ أبي الحجاج المزي رحمه الله، وكشفت عن وجه الشيخ ونظرت إليه وقبلته، وعلى رأسه عمامة بعذب مغروزة وقد علاه الشيب أكثر مما فارقناه‏.‏

وأخبر الحاضرين أخوه زين الدين عبد الرحمن أنه قرأ هو والشيخ منذ دخل القلعة ثمانين ختمة وشرعا في الحادية والثمانين، فانتهينا فيها إلى آخر اقتربت الساعة ‏{‏إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 54- 55‏]‏‏.‏

فشرع عند ذلك الشيخان الصالحان الخيران عبد الله بن المحب وعبد الله الزرعي الضرير - وكان الشيخ رحمه الله يحب قراءتهما - فابتدآ من أول سورة الرحمن حتى ختموا القرآن وأنا حاضر أسمع وأرى‏.‏

ثم شرعوا في غسل الشيخ وخرجت إلى مسجد هناك ولم يدعوا عنده إلا من ساعد في غسله، منهم شيخنا الحافظ المزي وجماعة من كبار الصالحين الأخيار، أهل العلم والإيمان، فما فرغ منه حتى امتلأت القلعة وضج الناس بالبكاء والثناء والدعاء والترحم، ثم ساروا به إلى الجامع فسلكوا طريق العمادية على العادلية الكبيرة، ثم عطفوا على ثلث الناطفانيين‏.‏

وذلك أن سويقة باب البريد كانت قد هدمت لتصلح، ودخلوا بالجنازة إلى الجامع الأموي، والخلائق فيه بين يدي الجنازة وخلفها وعن يمينها وشمالها ما لا يحصى عدتهم إلا الله تعالى، فصرخ صارخ وصاح صائح‏:‏ هكذا تكون جنائز أئمة السنة، فتباكى الناس وضجوا عند سماع هذا الصارخ، ووضع الشيخ في موضع الجنائز مما يلي المقصورة‏.‏

وجلس الناس من كثرتهم وزحمتهم على غير صفوف، بل مرصوصين رصاً لا يتمكن أحد من السجود إلا بكلفة جو الجامع، وبرى الأزقة والأسواق، وذلك قبل أذان الظهر بقليل، وجاء الناس من كل مكان، وقوي خلق الصيام لأنهم لا يتفرغون في هذا اليوم لأكل ولا لشرب، وكثر الناس كثرة لا تحد ولا توصف، فلما فرغ من أذان الظهر أقيمت الصلاة عقبه على السدة خلاف العادة، فلما فرغوا من الصلاة خرج نائب الخطيب لغيبة الخطيب بمصر فصلى عليه إماماً، وهو الشيخ علاء الدين الخراط‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/160‏)‏

ثم خرج الناس من كل مكان من أبواب الجامع والبلد كما ذكرنا، واجتمعوا بسوق الخيل، ومن الناس من تعجل بعد أن صلى في الجامع إلى مقابر الصوفية، والناس في بكاء وتهليل في مخافته كل واحد بنفسه، وفي ثناء وتأسف، والنساء فوق الأسطحة من هناك إلى المقبرة يبكين ويدعين ويقلن هذا العالم‏.‏

وبالجملة كان يوماً مشهوداً لم يعهد مثله بدمشق إلا أن يكون في زمن بني أمية حين كان الناس كثيرين، وكانت دار الخلافة، ثم دفن عند أخيه قريباً من أذان العصر على التحديد، ولا يمكن أحد حصر من حضر الجنازة، وتقريب ذلك أنه عبارة عمن أمكنه الحضور من أهل البلد وحواضره ولم يتخلف من الناس إلا القليل من الصغار والمخدرات، وما علمت أحداً من أهل العلم إلا النفر اليسير تخلف عن الحضور في جنازته، وهم ثلاثة أنفس‏:‏ وهم ابن جملة، والصدر، والقفجاري‏.‏

وهؤلاء كانوا قد اشتهروا بمعاداته فاختفوا من الناس خوفاً على أنفسهم، بحيث إنهم علموا متى خرجوا قتلوا وأهلكهم الناس، وتردد شيخنا الإمام العلامة برهان الدين الفزاري إلى قبره في الأيام الثلاثة وكذلك جماعة من علماء الشافعية، وكان برهان الدين الفزاري يأتي راكباً على حماره وعليه الجلالة والوقار رحمه الله‏.‏

وعملت له ختمات كثيرة، ورؤية له منامات صالحة عجيبة، ورثي بأشعار كثيرة وقصائد مطولة جداً‏.‏

وقد أفردت له تراجم كثيرة، وصنف في ذلك جماعة من الفضلاء وغيرهم، وسألخص من مجموع ذلك ترجمة وجيزة في ذكر مناقبه وفضائله وشجاعته وكرمه ونصحه وزهادته وعبادته وعلومه المتنوعة الكثيرة المجودة وصفاته الكبار والصغار، التي احتوت على غالب العلوم ومفرداته في الاختيارات التي نصرها بالكتاب والسنة وأفتى بها‏.‏

وبالجملة كان رحمه الله من كبار العلماء وممن يخطئ ويصيب ولكن خطأه بالنسبة إلى صوابه كنقطة في بحر لجي، وخطأه أيضاً مغفور له كما في ‏(‏صحيح البخاري‏)‏‏:‏

‏(‏‏(‏إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجراً وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر‏)‏‏)‏ فهو مأجور‏.‏

وقال الإمام مالك بن أنس‏:‏ كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر‏.‏

وفي سادس عشرين ذي القعدة نقل تنكز حواصله وأمواله من دار الذهب داخل باب الفراديس إلى الدار التي أنشأها، وتعرف بدار فلوس، فسميت دار الذهب، وعزل خزنداره ناصر الدين محمد بن عيسى، وولي مكانه مملوكه أباجي‏.‏

وفي ثاني عشرين القعدة جاء إلى مدينة عجلون سيل عظيم من أول النهار إلى وقت العصر، فهدم من جامعها وأسواقها ورباعها ودورها شيئاً كثيراً، وغرق سبعة نفر وهلك للناس شيء كثير من الأموال والغلات والأمتعة والمواشي ما يقارب قيمته ألف ألف درهم والله أعلم، وإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/161‏)‏

وفي يوم الأحد ثامن عشر ذي الحجة ألزم القاضي الشافعي الشيخ علاء الدين القونوي جماعة الشهود بسائر المراكز أن يرسلوا في عمائمهم العذبات ليتميزوا بذلك عن عوام الناس، ففعلوا ذلك أياماً ثم تضرروا من ذلك فأرخص لهم في تركها، ومنهم من استمر بها‏.‏

وفي يوم الثلاثاء عشرين ذي الحجة أفرج عن الشيخ الإمام العالم العلاّمة أبي عبد الله شمس الدين بن قيم الجوزية، وكان معتقلاً بالقلعة أيضاً، من بعد اعتقال الشيخ تقي الدين بأيام من شعبان سنة ست وعشرين إلى هذا الحين، وجاء الخبر بأن السلطان أفرج عن الجاولي والأمير فرج بن قراسنقر، ولاجين المنصوري، وأحضروا بعد العيد بين يديه، وخلع عليهم‏.‏

وفيه‏:‏ وصل الخبر بموت الأمير الكبير جوبان نائب السلطان أبي سعيد على تلك البلاد، ووفاة قراسنقر المنصوري أيضاً كلاهما في ذي القعدة من هذه السنة‏.‏

وجوبان هذا هو الذي ساق القناة الواصلة إلى المسجد الحرام، وقد غرم عليها أموالاً جزيلة كثيرة، وله تربة بالمدينة النبوية، ومدرسة مشهورة، وله آثار حسنة، وكان جيد الإسلام له همة عالية وقد دبر الممالك في أيام أبي سعيد مدة طويلة على السداد، ثم أراد أبو سعيد مسكة فتخلص من ذلك كما ذكرنا‏.‏

ثم إن أبا سعيد قتل ابنه خواجا دمشق في السنة الماضية ففر ابنه الآخر تمرتاش هارباً إلى سلطان مصر، فآواه شهراً ثم ترددت الرسل بين الملكين في قتله فقتله صاحب مصر فيما قيل وأرسل برأسه إليه، ثم توفي أبوه بعده بقليل، والله أعلم بالسرائر‏.‏

وأما قراسنقر المنصوري فهو من جملة كبار أمراء مصر والشام، وكان من جملة من قتل الأشرف خليل بن المنصور كما تقدم، ثم ولي نيابة مصر مدة، ثم صار إلى نيابة دمشق ثم إلى نيابة حلب، ثم فر إلى التتر هو والأفرم والزركاشي فآواهم ملك التتار خربندا وأكرمهم وأقطعهم بلاداً كثيرة، وتزوج قراسنقر بنت هولاكو ثم كانت وفاته بمراغة بلده التي كان حاكماً بها في هذه السنة، وله نحو تسعين سنة والله أعلم‏.‏

 من الأعيان‏:‏

شيخ الإسلام العلامة تقي الدين ابن تيمية كما تقدم ذكر ذلك في الحوادث وسنفرد له ترجمة على حدة إن شاء الله تعالى‏.‏

 الشريف العالم عز الدين

عز الدين أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن عبد المحسن العلوي الحسيني العراقي الإسكندري الشافعي، سمع الكثير وحفظ ‏(‏الوجيز‏)‏ في الفقه، و‏(‏الإيضاح‏)‏ في النحو، وكان زاهداً متقللاً من الدنيا وبلغ تسعين سنة وعقله وعلمه وذهنه ثابت متيقظ، ولد سنة ثمان وثلاثين وستمائة، وتوفي يوم الجمعة خامس المحرم، ودفن بالإسكندرية بين المادين رحمه الله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/162‏)‏

 الشمس محمد بن عيسى التكريدي

كانت فيه شهامة وحزامة، وكان يكون بين يدي الشيخ تقي الدين بن تيمية كالمنفذ لما يأمر به وينهى عنه‏.‏

ويرسله الأمراء وغيرهم في الأمور المهمة، وله معرفة وفهم بتبليغ رسالته على أتم الوجوه توفي في الخامس من صفر بالقبيبات، ودفن عند الجامع الكريمي رحمه الله تعالى‏.‏

 الشيخ أبو بكر الصالحالي

أبو بكر بن شرف بن محسن بن معن بن عمان الصالحي، ولد سنة ثلاث وخمسين وستمائة، وسمع الكثير صحبة الشيخ تقي الدين بن تيمية والمزي، وكان ممن يحب الشيخ تقي الدين، وكان معهما كالخادم لهما، وكان فقيراً ذا عيال يتناول من الزكاة والصدقات ما يقوم بأوده‏.‏

وأقام في آخر عمره بحمص، وكان فصيحاً مفوهاً، له تعاليق وتصانيف في الأصول وغيرها، وكان له عبادة وفيه خير وصلاح، وكان يتكلم على الناس بعد صلاة الجمعة إلى العصر من حفظه‏.‏

وقد اجتمعت بأمره صحبة شيخنا المزي حين قدم من حمص فكان قوي العبارة فصيحها متوسطاً بالعلم، له ميل إلى التصوف والكلام في الأحوال والأعمال والقلوب وغير ذلك، وكان يكثر ذكر الشيخ تقي الدين بن تيمية‏.‏

توفي بحمص في الثاني والعشرين من صفر من هذه السنة، وقد كان الشيخ يحض الناس على الإحسان إليه، وكان يعطيه ويرفده‏.‏

 ابن الدواليبي البغدادي

الشيخ الصالح العالم العابد الرحلة المسند المعمر عفيف الدين أبو عبد الله محمد بن عبد المحسن ابن أبي الحسين بن عبد الغفار البغدادي الأرجي الحنبلي المعروف بابن الدواليبي، شيخ دار الحديث المستنصرية‏.‏

ولد في ربيع الأول سنة ثمان وثلاثين وستمائة، وسمع الكثير، وله إجازات عالية، واشتغل بحفظ الخرقي، وكان فاضلاً في النحو وغيره، وله شعر حسن، وكان رجلاً صالحاً جاوز التسعين وصار رحلة العراق، وتوفي يوم الخميس رابع جمادى الأولى ودفن بمقبرة الإمام أحمد مقابر الشهداء رحمه الله، وقد أجازني فيمن أجاز من مشايخ بغداد ولله الحمد‏.‏

 قاضي القضاة شمس الدين ابن الحريري

أبو عبد الله محمد بن صفي الدين أبي عمر وعثمان بن أبي الحسن عبد الوهاب الأنصاري الحنفي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/163‏)‏

ولد سنة ثلاث وخسمين، وسمع الحديث واشتغل وقرأ ‏(‏الهداية‏)‏، وكان فقيهاً جيداً، ودرّس بأماكن كثيرة بدمشق، ثم ولي القضاء بها، ثم خطب إلى قضاء الديار المصرية فاستمر بها مدة طويلة محفوظ العرض، لا يقبل من أحد هدية ولا تأخذه في الحكم لومة لائم، وكان يقول إن لم يكن ابن تيمية شيخ الإسلام فمن‏؟‏

وقال لبعض أصحابه‏:‏ أتحب الشيخ تقي الدين‏؟‏

قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ والله لقد أحببت شيئاً مليحاً‏.‏

توفي رحمه الله يوم السبت رابع جمادى الآخرة ودفن بالقرافة، وكان قد عين لمنصبه القاضي برهان الدين بن عبد الحق فنفذت وصيته بذلك، وأرسل إليه إلى دمشق فأحضر فباشر الحكم بعده وجميع جهاته‏.‏

 الشيخ الإمام العالم المقري

شهاب الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ الإمام تقي الدين محمد بن جبارة بن عبد الولي بن جبارة المقدسي المرداوي الحنبلي، شارح الشاطبية، ولد سنة تسع وأربعين وستمائة، وسمع الكثير وعني بفن القراءات فبرز فيه، وانتفع الناس به، وقد أقام بمصر مدة واشتغل بها على الفزاري في أصول الفقه، وتوفي بالقدس رابع رجب رحمه الله، كان يعد من الصلحاء الأخيار، سمع عن خطيب مردا وغيره‏.‏

 ابن العاقولي البغدادي

الشيخ الإمام العلاّمة جمال الدين أبو محمد عبد الله بن محمد بن علي بن حماد بن تائب الواسطي العاقولي ثم البغدادي الشافعي، مدرّس المستنصرية مدة طويلة نحواً من أربعين سنة، وباشر نظر الأوقاف وعين لقضاء القضاة في وقت‏.‏

ولد ليلة الأحد عاشر رجب سنة ثمان وثلاثين وستمائة، وسمع الحديث وبرع واشتغل وأفتى من سنة سبع وخمسين إلى أن مات، وذلك مدة إحدى وسبعين سنة، وهذا شيء غريب جداً، وكان قوي النفس له وجاهة في الدولة، فكم كشف كربة عن الناس بسعيه وقصده‏.‏

توفي ليلة الأربعاء رابع عشرين شوال، وقد جاوز التسعين سنة، ودفن بداره، وكان قد وقفها على شيخ وعشرة صبيان يسمعون القرآن ويحفظونه، ووقف عليها أملاكه كلها‏.‏

تقبل الله منه ورحمه، ودرّس بعده بالمستنصرية قاضي القضاة قطب الدين‏.‏

 الشيخ الصالح شمس الدين السلامي

شمس الدين محمد بن داود بن محمد بن ساب، السلامي البغدادي، أحد ذوي اليسار، وله بر تام بأهل العلم، ولا سيما أصحاب الشيخ تقي الدين‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/164‏)‏

وقد وقف كتباً كثيرة، وحج مرات، وتوفي ليلة الأحد رابع عشرين ذي القعدة بعد وفاة الشيخ تقي الدين بأربعة أيام، وصلّي عليه بعد صلاة الجمعة ودفن بباب الصغير رحمه الله وأكرم مثواه‏.‏

وفي هذه الليلة توفيت الوالدة مريم بنت فرج بن علي من قرية كان الوالد خطيبها، وهي مجيدل القرية سنة ثلاث وسبعين وستمائة، وصلّي عليها بعد الجمعة ودفنت بالصوفية شرقي قبر الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمها الله تعالى‏.‏