فصل: القاضي أبو بكر الباقلاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 ثم دخلت سنة تسع وثمانين وثلاثمائة

فيها‏:‏ قصد محمود بن سبكتكين بلاد خراسان فاستلب ملكها من أيدي السامانية، وواقعهم مرات متعددة في هذه السنة وما قبلها، حتى أزال اسمهم ورسمهم عن البلاد بالكلية، وانقرضت دولتهم بالكلية، ثم صمد لقتال ملك الترك بما وراء النهر، وذلك بعد موت الخاقان الكبير الذي يقال له‏:‏ فائق، وجرت له معهم حروب وخطوب‏.‏

وفيها‏:‏ استولى بهاء الدولة على بلاد فارس وخوزستان‏.‏

وفيها‏:‏ أرادت الشيعة أن يصنعوا ما كانوا يصنعونه من الزينة يوم غدير خم، وهو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة فيما يزعمونه، فقاتلهم جهلة آخرون من المنتسبين إلى السنة فادعوا أن في مثل هذا اليوم حصر النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في الغار فامتنعوا من ذلك، وهذا أيضاً جهل من هؤلاء، فإن هذا إنما كان في أوائل ربيع الأول من أول سني الهجرة، فإنهما أقاما فيه ثلاثاً، وحين خرجا منه قصدا المدينة فدخلاها بعد ثمانية أيام أو نحوها، وكان دخولهما المدينة في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول، وهذا أمر معلوم مقرر محرر‏.‏

ولما كانت الشيعة يصنعون في يوم عاشوراء مأتماً يظهرون فيه الحزن على الحسين بن علي، قابلتهم طائفة أخرى من جهلة أهل السنة، فادعوا أن في اليوم الثاني عشر من المحرم قتل مصعب بن الزبير، فعملوا له مأتماً كما تعمل الشيعة للحسين، وزاروا قبره كما زاروا قبر الحسين، وهذا من باب مقابلة البدعة ببدعة مثلها، ولا يرفع البدعة إلا السنة الصحيحة‏.‏

وفيها‏:‏ وقع برد شديد مع غيم مطبق، وريح قوية، بحيث أتلفت شيئاً كثيراً من النخيل ببغداد، فلم يتراجع حملها إلى عادتها إلا بعد سنتين‏.‏

وفيها‏:‏ حج بركب العراق الشريفان الرضي والمرتضي فاعتقلهما أمير الأعراب ابن الجراح، فافتديا أنفسهما منه بتسعة آلاف دينار من أموالهما فأطلقهما‏.‏

 وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

 زاهر بن عبد الله

ابن أحمد بن محمد بن عيسى السرخسي المقرئ الفقيه المحدث، شيخ عصره بخراسان، قرأ على ابن مجاهد، وتفقه بأبي إسحاق المروزي إمام الشافعية، وأخذ اللغة والأدب والنحو عن أبي بكر بن الأنباري‏.‏

توفي في ربيع الآخر عن ست وتسعين سنة‏.‏

 عبد الله بن محمد بن إسحاق

ابن سليمان بن مخلد بن إبراهيم بن مروز أبو القاسم المعروف بابن حبابة، روى عن البغوي وأبي بكر بن أبي داود وطبقتهما، وكان ثقة مأموناً مسنداً، ولد ببغداد سنة تسع وتسعين ومائتين، ومات في جمادى الأولى من هذه السنة عن تسعين سنة، وصلى عليه الشيخ أبو حامد الأسفراييني شيخ الشافعية، ودفن في مقابر جامع المنصور‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 374‏)‏

 ثم دخلت سنة تسعين وثلاثمائة من الهجرة النبوية

فيها‏:‏ ظهر بأرض سجستان معدن من ذهب كانوا يحفرون فيه مثل الآبار، ويخرجون منه ذهباً أحمر‏.‏

وفيها‏:‏ قتل الأمير أبو نصر بن بختيار صاحب بلاد فارس، واستولى عليها بهاء الدولة‏.‏

وفيها‏:‏ قلد القادر بالله القضاء بواسط وأعمالها أبا حازم محمد بن الحسن الواسطي، وقرئ عهده بدار الخلافة، وكتب له القادر وصية حسنة طويلة أوردها ابن الجوزي في ‏(‏منتظمه‏)‏، وفيها مواعظ وأوامر ونواهي حسنة جيدة‏.‏

 وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

 أحمد بن محمد

ابن أبي موسى أبو بكر الهاشمي الفقيه المالكي القاضي بالمدائن وغيرها، وخطب بجامع المنصور، وسمع الكثير، وروى عنه الجم الغفير، وعنه الدارقطني الكبير، وكان عفيفاً نزهاً ثقة ديناً‏.‏

توفي في محرم هذه السنة عن خمس وسبعين سنة‏.‏

 عبيد الله بن عثمان بن يحيى

أبو القاسم الدقاق، ويعرف بابن حنيفا، قال القاضي العلامة أبو يعلى بن الفراء - وهذا جده - وروي باللام لا بالنون - حليفاً - وقد سمع الحديث سماعاً صحيحاً، وروى عنه الأزهري وكان ثقة مأموناً حسن الخلق، ما رأينا مثله في معناه‏.‏

 الحسين بن محمد بن خلف

ابن الفراء والد القاضي أبي يعلى، وكان صالحاً فقيهاً على مذهب أبي حنيفة، أسند الحديث وروى عنه ابنه أبو حازم محمد بن الحسين‏.‏

 عبد الله بن أحمد

ابن علي بن أبي طالب البغدادي، نزيل مصر، وحدث بها فسمع منه الحافظ عبد الغني بن سعيد المصري‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 375‏)‏

 عمر بن إبراهيم

ابن أحمد أبو نصر المعروف بالكتاني المقري، ولد سنة ثلاثمائة، روى عن البغوي وابن مجاهد وابن صاعد، وعنه الأزهري وغيره، وكان ثقة صالحاً‏.‏

 محمد بن عبد الله بن الحسين

ابن عبد الله بن هارون، أبو الحسين الدقاق، المعروف بابن أخي ميمي، سمع البغوي وغيره، وعنه جماعة، ولم يزل على كبر سنة يكتب الحديث إلى أن توفي وله تسعون سنة، وكان ثقة مأموناً ديناً فاضلاً حسن الأخلاق، توفي ليلة الجمعة لثمان وعشرين من شعبان منها‏.‏

 محمد بن عمر بن يحيى

ابن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، الشريف أبو الحسين العلوي، الكوفي، ولد سنة خمس عشرة، وسمع من أبي العباس بن عقدة وغيره، وسكن بغداد، وكانت له أموال كثيرة وضياع، ودخل عظيم وحشمة وافرة، وهمة عالية، وكان مقدماً على الطالبيين في وقته، وقد صادره عضد الدولة في وقت استحوذ على جمهور أمواله وسجنه، ثم أطلقه شرف الدولة بن عضد الدولة، ثم صادره بهاء الدولة بألف ألف دينار ثم سجنه، ثم أطلقه واستنابه على بغداد‏.‏

ويقال‏:‏ إن غلاته كانت تساوي في كل سنة بألفي ألف دينار، وله وجاهة كبيرة جداً، ورياسة باذخة‏.‏

 الأستاذ أبو الفتوح برجوان

الناظر في الأمور بالديار المصرية في الدولة الحاكمية، وإليه تنسب حارة برجوان بالقاهرة، كان أولاً من غلمان العزيز بن المعز، ثم صار عند الحاكم نافذ الأمر مطاعاً كبيراً في الدولة، ثم أمر بقتله في القصر فضربه الأمير ريدان - الذي تنسب إليه الريدانية خارخ باب الفتوح - بسكين في بطنه فقتله‏.‏

وقد ترك شيئاً كثيراً من الأثاث والثياب، من ذلك ألف سراويل بيدقي بألف تكة من حرير، قاله ابن خلكان‏.‏

وولى الحاكم بعده في منصبه الأمير حسين بن القائد جوهر‏.‏‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 376‏)‏

 الجريري المعروف بابن طرار

المعافى بن زكريا بن يحيى بن حميد بن حماد بن داود أبو الفرج النهرواني القاضي - لأنه ناب في الحكم - المعروف بابن طرار الجريري، لأنه اشتغل على ابن جرير الطبري، وسلك وراءه في مذهبه، فنسب إليه‏.‏

سمع الحديث من البغوي وابن صاعد وخلق، وروى عنه جماعة، وكان ثقة مأموناً عالماً فاضلاً كثير الآداب والتمكن في أصناف العلوم، وله المصنفات الكثيرة منها كتابه المسمى ‏(‏بالجليس والأنيس‏)‏، فيه فوائد كثيرة جمة، وكان الشيخ أبو محمد الباقلاني أحد أئمة الشافعية يقول‏:‏ إذا حضر المعافى حضرت العلوم كلها، ولو أوصى رجل بثلث ماله لأعلم الناس لوجب أن يصرف إليه‏.‏

وقال غيره‏:‏ اجتمع جماعة من الفضلاء في دار بعض الرؤوساء وفيهم المعافى، فقالوا‏:‏ هل نتذاكر في فن من العلوم‏؟‏

فقال المعافى لصاحب المنزل - وكان عنده كتب كثيرة في خزانة عظيمة -‏:‏ مر غلامك أن يأتي بكتاب من هذه الكتب، أي كتاب كان نتذاكر فيه‏.‏

فتعجب الحاضرون من تمكنه وتبحره في سائر العلوم، وقال الخطيب البغدادي‏:‏ أنشدنا الشيخ أبو الطيب الطبري، أنشدنا المعافى بن زكريا لنفسه‏:‏

ألا قل لمن كان لي حاسداً * أتدري على من أسأت الأدب

أسأت على الله سبحانه * لأنك لا ترضى لي ما وهب

فجازاك عني بأن زادني * وسد عليك وجوه الطلب

توفي في ذي الحجة من هذه السنة عن خمس وثمانين سنة، رحمه الله‏.‏

ابن فارس

صاحب المجمل، وقيل‏:‏ إنه توفي في سنة خمس وتسعين كما سيأتي‏.‏

 أم السلامة

بنت القاضي أبي بكر بن أحمد بن كامل بن خلف بن شنخرة، أم الفتح، سمعت من محمد بن إسماعيل النصلاني وغيره، وعنها الأزهري والتنوخي وأبو يعلى بن الفراء وغيرهم، وأثنى عليها غير واحد في دينها وفضلها وسيادتها، وكان مولدها في رجب من سنة ثمان وتسعين، وتوفيت في رجب أيضاً من هذه السنة عن ثنتين وتسعين سنة، رحمها الله تعالى‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 377‏)‏

 ثم دخلت سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة

فيها‏:‏ بايع الخليفة القادر بالله أبي الفضل بولاية العهد من بعده، وخطب له على المنابر بعد أبيه، ولقب بالغالب بالله، وكان عمره حينئذ ثماني سنين وشهوراً، ولم يتم له ذلك‏.‏

وكان سبب ذلك أن رجلاً يقال له‏:‏ عبد الله بن عثمان الواقفي، ذهب إلى بعض الأطراف من بلاد الترك، وادعى أن القادر بالله جعله ولي العهد من بعده، فخطبوا له هنالك فلما بلغ القادر أمره بعث يتطلبه فهرب في البلاد وتمزق، ثم أخذه بعض الملوك فسجنه في قلعة إلى أن مات، فلهذا بادر القادر إلى هذه البيعة‏.‏

وفي يوم الخميس الثامن عشر من ذي القعدة ولد الأمير أبو جعفر عبد الله بن القادر بالله، وهذا هو الذي صارت إليه الخلافة، وهو القائم بأمر الله‏.‏

وفيها‏:‏ قتل الأمير حسام الدولة المقلد بن المسيب العقيلي غيلة ببلاد الأنبار، وكان قد عظم شأنه بتلك البلاد، ورام المملكة فجاءه القدر المحتوم فقتله بعض غلمانه الأتراك، وقام بالأمر من بعده ولده قرواش‏.‏

وحج بالناس المصريون‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 جعفر بن الفضل بن جعفر

ابن محمد بن الفرات أبو الفضل، المعروف بابن خنزابة الوزير، ولد سنة ثمان وثلاثمائة ببغداد، ونزل الديار المصرية ووزر بها للأمير كافور الأخشيدي، وكان أبوه وزيراً للمقتدر، وقد سمع الحديث من محمد بن هارون الحضرمي وطبقته من البغداديين، وكان قد سمع مجلساً من البغوي، ولم يكن عنده، وكان يقول‏:‏ من جاءني به أغنيته‏.‏

وكان له مجلس للإملاء بمصر، وبسببه رحل الدارقطني إلى مصر فنزل عنده وخرّج له مسنداً، وحصل له منه مال جزيل، وحدّث عنه الدارقطني وغيره من الأكابر‏.‏

ومن مستجاد شعره قوله‏:‏

من أخمل النفس أحياها وروّحها * ولم يبت طاوياً منها على ضجر

إن الرياح إذا اشتدت عواصفها * فليس ترمي سوى العالي من الشجر

قال ابن خلكان‏:‏ كانت وفاته في صفر، وقيل‏:‏ في ربيع الأول منها، عن ثنتين وثمانين سنة ودفن بالقرافة، وقيل‏:‏ بداره، وقيل‏:‏ إنه كان قد اشترى بالمدينة النبوية داراً فجعل له فيها تربة، فلما نقل إليها تلقته الأشراف لإحسانه إليهم، فحملوه وحجوا به ووقفوا به بعرفات، ثم أعادوه إلى المدينة فدفنوه بتربته‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 378‏)‏

 ابن الحجاج الشاعر

الحسين بن أحمد بن الحجاج أبو عبد الله الشاعر الماجن المقذع في نظمه، يستنكف اللسان عن التلفظ بها والأذنان عن الاستماع لها، وقد كان أبوه من كبار العمال، وولي هو حسبة بغداد في أيام عز الدولة، فاستخلف عليها نواباً ستة، وتشاغل هو بالشعر السخيف والرأي الضعيف، إلا أن شعره جيد من حيث اللفظ، وفيه قوة تدل على تمكين واقتدار على سبك المعاني القبيحة التي هي في غاية الفضيحة في الألفاظ الفصيحة، وله غير ذلك من الأشعار المستجادة، وقد امتدح مرة صاحب مصر فبعث إليه بألف دينار‏.‏

وقول ابن خلكان‏:‏ بأنه عزل عن حسبة بغداد بأبي سعيد الأصطخري قول ضعيف لا يسامح بمثله، فإن أبا سعيد توفي في سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة، فكيف يعزل به ابن الحجاج وهو لا يمكن ادعاء أن يلي الحسبة بعده أبو سعيد الأصطخري، وابن خلكان قد أرخ وفاة هذا الشاعر بهذه السنة، ووفاة الاصطخري بما تقدم‏.‏

وقد جمع الشريف الرضي أشعاره الجيدة على حدة في ديوان مفرد، ورثاه حين توفي هو وغيره من الشعراء‏.‏

 عبد العزيز بن أحمد بن الحسن الجزري

القاضي بالحرم وحريم دار الخلافة وغير ذلك من الجهات، كان ظاهرياً على مذهب داود، وكان لطيفاً تحاكم إليه وكيلان، فبكى أحدهما في أثناء الخصومة فقال له القاضي‏:‏ أرني وكالتك‏.‏

فناوله فقرأها ثم قال له‏:‏ لم يجعل إليك أن تبكي عنه‏.‏

فاستضحك الناس ونهض الوكيل خجلاً‏.‏

 عيسى بن الوزير علي بن عيسى

ابن داود بن الجراح، أبو القاسم البغدادي، وكان أبوه من كبار الوزراء، وكتب هو للطائع أيضاً، وسمع الحديث الكثير، وكان صحيح السماع كثير العلوم، وكان عارفاً بالمنطق وعلم الأوائل، فاتهموه بشيء من مذهب الفلاسفة، ومن جيد شعره قوله‏:‏

رب ميت قد صار بالعلم حياً * ومبقى قد مات جهلاً وغيا

فاقتنوا العلم كي تنالوا خلوداً * لا تعدوا الحياة في الجهل شيا

ولد في سنة ثنتين وثلاثمائة، وتوفي في هذه السنة عن تسع وثمانين سنة، ودفن في داره ببغداد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 379‏)‏

 ثم دخلت سنة ثنتين وتسعين وثلاثمائة

في محرمها غزا يمين الدولة محمود بن سبكتكين بلاد الهند، فقصده ملكها جيبال في جيش عظيم فاقتتلوا قتالاً شديداً ففتح الله على المسلمين، وانهزمت الهنود، وأسر ملكهم جيبال، وأخذوا من عنقه قلادة قيمتها ثمانون ألف دينار، وغنم المسلمون منهم أموالا عظيمة، وفتحوا بلاداً كثيرة‏.‏

ثم إن محموداً سلطان المسلمين أطلق ملك الهند احتقاراً له واستهانة به، ليراه أهل مملكته والناس في المذلة، فحين وصل جيبال إلى بلاده ألقى نفسه في النار التي يعبدونها من دون الله فاحترق، لعنه الله‏.‏

وفي ربيع الأول منها ثارت العوام على النصارى ببغداد، فنهبوا كنيستهم التي بقطيعة الدقيق وأحرقوها، فسقطت على خلق فماتوا، وفيهم جماعة من المسلمين رجال ونساء وصبيان‏.‏

وفي رمضان منها قوي أمر العيارين، وكثرت العملات ونهبت بغداد وانتشرت الفتنة‏.‏

قال ابن الجوزية‏:‏ وفي ليلة الاثنين منها ثالث القعدة انقض كوكب أضاء كضوء القمر ليلة التمام، ومضى الشعاع وبقي جرمه يتموج نحو ذراعين في ذراعين في رأي العين، ثم توارى بعد ساعة‏.‏

وفي هذا الشهر قدم الحجاج من خراسان إلى بغداد ليسيروا إلى الحجاز، فبلغهم عيث الأعراب في الأرض بالفساد، وأنه لا ناضر لهم ولا ناظر ينظر في أمرهم، فرجعوا إلى بلادهم، ولم يحج من بلاد المشرق أحد في هذه السنة‏.‏

وفي يوم عرفة منها ولد لبهاء الدولة ابنان توأمان فمات أحدهما بعد سبع سنين، وأقام الآخر حتى قام بالأمر من بعد أبيه، ولقب شرف الدولة‏.‏

وحج المصريون فيها بالناس‏.‏

 وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

 ابن جني

أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي النحوي اللغوي، صاحب التصانيف الفائقة المتداولة في النحو واللغة، وكان جنى عبد اً رومياً مملوكاً لسليمان بن فهد بن أحمد الأزدي الموصلي، ومن شعره في ذلك قوله‏:‏

فإن أُصبح بلا نسب * فعلمي في الورى نسبي

على أني أؤول إلى * قروم سادة نجب

قياصرة إذا نطقوا * أرمُّوا الدهر ذا الخطب

أولاك دعا النبي لهم * كفى شرفاً دعاء نبي

‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 380‏)‏

وقد أقام ببغداد ودرس بها العلم إلى أن توفي ليلة الجمعة لليلتين خلتا من صفر منها‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ ويقال‏:‏ إنه كان أعور وله في ذلك‏:‏

صدودك عني ولا ذنب لي * يدل على نية فاسدة

فقد - وحياتك -مما بكيت * خشيت على عيني الواحدة

ولولا ومخافة أن لا أرا * ك لما كان في تركها فائدة

ويقال‏:‏ إن هذه الأبيات لغيره، وكان قائلها أعور‏.‏

وله في مملوك حسن الصورة أعور قوله‏:‏

له عين أصابت كل عين * وعين قد أصابتها العيون

أبو الحسن الجرجاني الشاعر الماهر‏:‏

 علي بن عبد العزيز

القاضي بالري، سمع الحديث وترقى في العلوم حتى أقر له الناس بالتفرد، وله أشعار حسان من ذلك قوله‏:‏

يقولون لي فيك انقباض وإنما * رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما

أرى الناس من داناهم هان عندهم * ومن أكرمته عزة النفس أكرما

ولم أقض حق العلم إن كان كلما * بدا طمع صيرته لي سلما

إذا قيل لي هذا مطمع قلت قد أرى * ولكن نفس الحر تحتمل الظما

ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي * لأَخدم من لاقيت ولكن لأُخدما

أأشقى به غرساً وأجنيه ذلةً * إذاً فاتباع الجهل قد كان أحزما

ولو أن أهل العلم صانوه صانهم * ولو عظموه في النفس عظما

ولكن أهانوه، فهان، ودنسوا * محياه بالأطماع حتى تجهما

ومن مستجاد شعره أيضاً‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 380‏)‏

ما تطمَّعت لذة العيش حتى * صرت للبيت والكتاب جليسا

ليس عندي شيء ألذ من الـ * ـعلم فما أبتغي سواه أنيسا

ومن شعره أيضاً‏:‏

إذا شئت أن تستقرض المال منفقاً * على شهوات النفس في زمن العسر

فسل نفسك الإنفاق من كنز صبرها * عليك وإنظاراً إلى زمن اليسر

فإن فعلت كنت الغني وإن أبت * فكل منوع بعدها واسع العذر

توفي رحمه الله في هذه السنة، وحمل تابوته إلى جرجان فدفن بها‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة

وفيها‏:‏ كانت وفاة الطائع لله على ما سنذكره‏.‏

وفيها‏:‏ منع عميد الجيوش الشيعة من النوح على الحسين في يوم عاشوراء، ومنع جهلة السنة بباب البصرة وباب الشعير من النوح على مصعب بن الزبير بعد ذلك بثمانية أيام، فامتنع الفريقان ولله الحمد والمنة‏.‏

وفي أواخر المحرم خلع بهاء الدولة وزيره أبا غالب محمد بن خلف عن الوزارة وصادره بمائة ألف دينار قاشانية‏.‏

وفي أوائل صفر منها غلت الأسعار ببغداد جداً، وعدمت الحنطة حتى بيع الكر بمائة وعشرين ديناراً‏.‏

وفيها‏:‏ برز عميد الجيوش إلى سر من رأى واستدعى سيد الدولة أبا الحسن، علي بن مزيد، وقرر عليه في كل سنة أربعين ألف دينار، فالتزم بذلك فقرره على بلاده‏.‏

وفيها‏:‏ هرب أبو العباس الضبي وزير مجد الدولة بن فخر الدولة من الري إلى بدر بن حسنويه، فأكرمه، وولى بعد ذلك وزارة مجد الدولة أبو علي الخطير‏.‏

وفيها‏:‏ استناب الحاكم على دمشق وجيوش الشام أبا محمد الأسود، ثم بلغه أنه عزر رجلاً مغربياً سبّ أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، وطاف به في البلد، فخاف من معرة ذلك فبعث إليه فعزله مكراً وخديعة‏.‏

وانقطع الحج فيها من العراق بسبب الأعراب‏.‏

 وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

 إبراهيم بن أحمد بن محمد

أبو إسحاق الطبري الفقيه المالكي، مقدم المعدلين ببغداد، وشيخ القراءات، وقد سمع الكثير من الحديث، وخرج له الدارقطني خمسمائة جزء حديث، وكان كريماً مفضلاً على أهل العلم‏.‏

 الطائع لله عبد الكريم بن المطيع

تقدم خلعه وذكر ما جرى له، توفي ليلة عيد الفطر منها عن خمس أو ست وسبعين سنة، منها سبع عشر سنة وستة أشهر وخمسة أيام خليفة، وصلى عليه الخليفة القادر فكبر عليه خمساً، وشهد جنازته الأكابر، ودفن بالرصافة‏.‏

محمد بن عبد الرحمن بن العباس بن زكريا

أبو طاهر المخلص، شيخ كبير الرواية، سمع البغوي وابن صاعد وخلقاً، وعنه البرقاني والأزهري والخلال والتنوخي، وكان ثقة من الصالحين‏.‏

توفي في رمضان منها عن ثمان وثمانين سنة رحمه الله‏.‏

 محمد بن عبد الله

أبو الحسن السلامي الشاعر المجيد، له شعر مشهور، ومدائح في عضد الدولة وغيره‏.‏

 ميمونة

بنت شاقولة الواعظة التي هي للقرآن حافظة، ذكرت يوماً في وعظها أن ثوبها الذي عليها - وأشارت إليه - له في صحبتها تلبسه منذ سبع وأربعين سنة وما تغير، وأنه كان من غزل أمها‏.‏

قالت‏:‏ والثوب إذا لم يعص الله فيه لا يتخرق سريعاً‏.‏

وقال ابنها عبد الصمد‏:‏ كان في دارنا حائط يريد أن ينقض فقلت لأمي‏:‏ ألا ندعو البناء ليصلح هذا الجدار‏؟‏

فأخذت رقعة فكتبت فيها شيئاً ثم أمرتني أن أضعها في موضع من الجدار، فوضعتها فمكث على ذلك عشرين سنة، فلما توفيت أردت أن أستعلم ما كتبت في الرقعة، فحين أخذتها من الجدار سقط، وإذا في الرقعة‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 41‏]‏ اللهم ممسك السموات والأرض أمسكه‏.‏

 ثم دخلت سنة أربع وتسعين وثلاثمائة

وفيها‏:‏ ولى بهاء الدولة الشريف أبا أحمد الحسين بن أحمد بن موسى الموسوي، قضاء القضاة والحج والمظالم، ونقابة الطالبيبن، ولقب بالطاهر الأوحد، ذوي المناقب، وكان التقليد له بسيراج، فلما وصل الكتاب إلى بغداد لم يأذن له الخليفة القادر في قضاء القضاة، فتوقف حاله بسبب ذلك‏.‏

وفيها‏:‏ ملك أبو العباس بن واصل بلاد البطيحة، وأخرج منها مهذب الدولة فقصده زعيم الجيوش ليأخذها منه، فهزمه ابن واصل ونهب أمواله وحواصله، وكان في جملة ما أصاب في خيمة الخزانة ثلاثون ألف دينار، وخمسون ألف درهم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 383‏)‏

وفيها‏:‏ خرج الركب العراقي إلى الحجاز في جحفل عظيم كبير وتجمل كثير، فاعترضهم الأصيفر أمير الأعراب، فبعثوا إليه بشابين قارئين مجيدين كانا معهم، يقال لهما‏:‏ أبو الحسن الرفا وأبو عبد الله بن الزجاجي، وكانا من أحسن الناس قراءة، ليكلماه في شيء يأخذه من الحجيج، ويطلق سراحهم ليدركوا الحج‏.‏

فلما جلسا بين يديه قرآ جميعاً عشراً بأصوات هائلة مطربة مطبوعة، فأدهشه ذلك وأعجبه جداً، وقال لهما‏:‏ كيف عيشكما ببغداد‏؟‏

فقالا‏:‏ بخير لا يزال الناس يكرموننا ويبعثون إلينا بالذهب والفضة والتحف‏.‏

فقال لهما‏:‏ هل أطلق لكما أحد منهم بألف ألف دينار في يوم واحد‏؟‏

فقالا‏:‏ لا، ولا ألف درهم في يوم واحد‏.‏

قال‏:‏ فإني أطلق لكما ألف ألف دينار في هذه اللحظة، أطلق لكما الحجيج كله، ولولاكما لما قنعت منهم بألف ألف دينار‏.‏

فأطلق الحجيج كله بسببهما فلم يتعرض أحد من الأعراب لهم، وذهب الناس إلى الحج سالمون شاكرون لذينك الرجلين المقرئين‏.‏

ولما وقف الناس بعرفات قرأ هذان الرجلان قراءة عظيمة على جبل الرحمة، فضج الناس بالبكاء من سائر الركوب لقراءتهما، وقالوا لأهل العراق‏:‏ ما كان ينبغي لكم أن تخرجوا معكم بهذين الرجلين في سفرة واحدة، لاحتمال أن يصابا جميعاً، بل كان ينبغي أن تخرجوا بأحدهما وتدعوا الآخر، فإذا أصيب سلم الآخر‏.‏

وكانت الحجة والخطبة للمصرييين كما هي لهم من سنين متقدمة‏.‏

وقد كان أمير العراق عزم على العود سريعاً إلى بغداد على طريقهم التي جاؤوا منها، وأن لا يسيروا إلى المدينة النبوية خوفاً من الأعراب، وكثرة الخفارات، فشق ذلك على الناس، فوقف هذان الرجلان القارئان على جادة الطريق التي منها يعدل إلى المدينة النبوية، وقرآ‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ‏}‏ الآيات ‏[‏التوبة‏:‏ 120‏]‏‏.‏ فضج الناس بالبكاء، وأمالت النوق أعناقها نحوهما، فمال الناس بأجمعهم والأمير إلى المدينة النبوية فزاروا وعادوا سالمين إلى بلادهم ولله الحمد والمنة‏.‏

ولما رجع هذان القارئان رتبهما ولي الأمر مع أبي بكر بن البهلول -وكان مقرئاً مجيداً أيضاً - ليصلوا بالناس صلاة التراويح في رمضان، فكثر الجمع وراءهم لحسن تلاوتهم وكانوا يطيلون الصلاة جداً ويتناوبون في الإمامة، يقرؤون في كل ركعة بقدر ثلاثين آية، والناس لا ينصرفون من التراويح إلا في الثلث الأول من الليل، أو قريب النصف منه‏.‏

وقد قرأ ابن البهلول يوماً في جامع المنصور قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 16‏]‏ فنهض إليه رجل صوفي وهو يتمايل فقال‏:‏ كيف قلت‏؟‏

فأعاد الآية، فقال الصوفي‏:‏ بلى والله، وسقط ميتاً رحمه الله‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وكذلك وقع لأبي الحسن بن الخشاب شيخ ابن الرفا، وكان تلميذاً لأبي بكر بن الأدمي المتقدم ذكره، وكان جيد القراءة حسن الصوت أيضاً، قرأ ابن الخشاب هذا في جامع الرصافة في الأحياء هذه الآية‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 16‏]‏ فتواجد رجل صوفي وقال‏:‏ بلى والله قد آن، وجلس وبكى بكاء طويلاً، ثم سكت سكتة فإذا هو ميت رحمه الله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 384‏)‏

 وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

 أبو علي الإسكافي

ويلقب بالموفق، وكان مقدماً عند بهاء الدولة، فولاه بغداد فأخذ أموالاً كثيرة من اليهود ثم هرب إلى البطيحة، فأقام بها سنتين ثم قدم بغداد فولاه بهاء الدولة الوزارة، وكان شهماً منصوراً في الحرب ثم عاقبه بعد ذلك وقتله في هذه السنة، عن تسع وأربعين سنة‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس وتسعين وثلاثمائة

فيها‏:‏ عاد مهذب الدولة إلى البطيحة ولم يمانعه ابن واصل، وقرر عليه في كل سنة لبهاء الدولة خمسين ألف دينار‏.‏

وفيها‏:‏ كان غلاء عظيم بإفريقية، بحيث تعطلت المخابز والحمامات، وذهب خلق كثير من الفناء، وهلك آخرون من شدة الغلاء، فنسأل الله حسن العافية والخاتمة آمين‏.‏

وفيها‏:‏ أصاب الحجيج في الطريق عطش شديد بحيث هلك كثير منهم‏.‏

وكانت الخطبة للمصريين‏.‏

 وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

 محمد بن أحمد بن موسى بن جعفر

أبو نصر البخاري، المعروف بالملاحمي، أحد الحفاظ قدم بغداد وحدث بها عن محمود بن إسحاق عن البخاري، وروى عن الهيثم بن كليب وغيره، وحدث عنه الدارقطني، وكان من أعيان أصحاب الحديث‏.‏

توفي ببخارى في شعبان منها، وقد جاوز الثمانين‏.‏

 محمد بن أبي إسماعيل

علي بن الحسين بن الحسن بن القاسم أبي الحسن العلوي، ولد بهمذان ونشأ ببغداد، وكتب الحديث عن جعفر الخلدي وغيره، وسمع بنيسابور من الأصم وغيره، ودرس فقه الشافعي على علي بن أبي هريرة، ثم دخل الشام فصحب الصوفية حتى صار من كبارهم، وحج مرات على الوحدة، توفي في محرم هذه السنة‏.‏

 أبو الحسين أحمد بن فارس

ابن زكريا بن محمد بن حبيب اللغوي الرازي، صاحب ‏(‏المجمل في اللغة‏)‏، وكان مقيماً بهمذان، وله رسائل حسان، أخذ عنه البديع صاحب المقامات، ومن رائق شعره قوله‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 385‏)‏

مرت بنا هيفاء مجدولة * تركية تنمى لتركي

ترنو بطرف فاتر فاتن * أضعف من حجة نحوي

وله أيضاً‏:‏

إذا كنت في حاجة مرسلاً * وأنت بها كلف مغرم

فأرسل حكيماً ولا توصه * وذاك الحكيم هو الدرهم

قال ابن خلكان‏:‏ توفي سنة تسعين وثلاثمائة، وقيل‏:‏ سنة خمس وتسعين، والأول أشهر‏.‏

 ثم دخلت سنة ست وتسعين وثلاثمائة

قال ابن الجوزي‏:‏ في ليلة الجمعة مستهل شعبان طلع نجم يشبه الزهرة في كبره وكثرة ضوئه عن يسار القبلة يتموج، وله شعاع على الأرض كشعاع القمر، وثبت إلى النصف من ذي القعدة، ثم غاب‏.‏

وفيها‏:‏ ولي محمد بن الأكفاني قضاء جميع بغداد‏.‏

وفيها‏:‏ جلس القادر بالله للأمير قرواش بن أبي حسان وأقره في إمارة الكوفة، ولقبه معتمد الدولة‏.‏

وفيها‏:‏ قلد الشريف الرضي نقابة الطالبيين، ولقب بالرضي ذي الحسنيين، ولقب أخوه المرتضى ذا المجدين‏.‏

وفيها‏:‏ غزا يمين الدولة محمود بن سبكتكين بلاد الهند فافتتح مدناً كباراً، وأخذ أموالاً جزيلة، وأسر بعض ملوكهم وهو ملك كراشى حين هرب منه لما افتتحها، وكسر أصنامها، فألبسه منطقته وشدها على وسطه بعد تمنع شديد وقطع خنصره ثم أطلقه إهانة له، وإظاهراً لعظمة الإسلام وأهله‏.‏

وفيها‏:‏ كانت الخطبة للحاكم العبيدي، وتجدد في الخطبة أنه إذا ذكر الخطيب الحاكم يقوم الناس كلهم إجلالاً له، وكذلك فعلوا بديار مصر مع زيادة السجود له، وكانوا يسجدون عند ذكره، يسجد من هو في الصلاة ومن هو في الأسواق يسجدون لسجودهم، لعنه الله وقبحه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 386‏)‏

 وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

 أبو سعد الإسماعيلي

إبراهيم بن إسماعيل أبو سعد الجرجاني، المعروف بالإسماعيلي، ورد بغداد والدارقطني حيّ فحدث عن أبيه أبي بكر الإسماعيلي والأصم بن عدي، وحدث عنه الخلال والتنوخي، وكان ثقة فقيهاً فاضلاً، على مذهب الشافعي، عارفاً بالعربية، سخياً جواداً على أهل العلم، وله ورع ورياسة إلى اليوم في بلده إلى ولده‏.‏

قال الخطيب‏:‏ سمعت الشيخ أبا الطيب يقول‏:‏ ورد أبو سعد الإسماعيلي بغداد فعقد له الفقهاء مجلسين تولى أحدهما أبو حامد الأسفراييني، وتولى الثاني أبو محمد الباجي، فبعث الباجي إلى القاضي المعافى بن زكريا الجريري يستدعية إلى حضور المجلس ليجمل المجلس، وكانت الرسالة مع ولده أبي الفضل، وكتب على يده هذين البيتين‏:‏

إذا أكرم القاضي الجليل وليه * وصاحبه ألفاه للشكر موضعاً

ولي حاجة يأتي بني بذكرها * ويسأله فيها التطول أجمعا

فأجابه الجريري مع ولد الشيخ‏:‏

دعا الشيخ مطواعاً سميعاً لأمره * نواتيه طوعاً حيث يرسم أصنعا

وها أنا غاد في غد نحو داره * أبادر ما قد حده لي مسرعا

توفي الإسماعيلي فجأة بجرجان في ربيع الآخر وهو قائم يصلي في المحراب، في صلاة المغرب، فلما قرأ‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏ فاضت نفسه فمات رحمه الله‏.‏

 محمد بن أحمد

ابن محمد بن جعفر بن محمد بن محمد بن بحير، أبو عمرو المزكي، الحافظ النيسابوري، ويعرف بالحيري، رحل إلى الآفاق في طلب العلم، وكان حافظاً جيد المذاكرة، ثقة ثبتاً، حدث ببغداد وغيرها من البلاد، وتوفي في شعبان عن ثلاث وسبعين سنة‏.‏

 أبو عبد الله بن منده

الحافظ محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن منده، أبو عبد الله الأصفهاني الحافظ، كان ثبت الحديث والحفظ، رحل إلى البلاد الشاسعة، وسمع الكثر وصنف التاريخ، والناسخ والمنسوخ‏.‏

قال أبو العباس جعفر بن محمد‏:‏ ما رأيت أحفظ من ابن منده، توفي في أصفهان في صفر منها‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 387‏)‏

 ثم دخلت سنة سبع وتسعين وثلاثمائة

فيها‏:‏ كان خروج أبي ركوة على الحاكم العبيدي صاحب مصر، وملخص أمر هذا الرجل أنه كان من سلالة هشام بن عبد الملك بن مروان الأموي، واسمه الوليد، وإنما لقب بأبي ركوة لركوة كان يصحبها في أسفاره على طريق الصوفية، وقد سمع الحديث بالديار المصرية، ثم أقام بمكة ثم رحل إلى اليمن ثم دخل الشام، وهو في غضون ذلك يبايع من انقاد له، ممن يرى عنده همة ونهضة للقيام في نصرة ولد هشام، ثم إنه أقام ببعض بلاد مصر في محلة من محال العرب، يعلم الصبيان ويظهر التقشف والعبادة والورع، ويخبر بشيء من المغيبات، حتى خضعوا له وعظموه جداً‏.‏

ثم دعا إلى نفسه وذكر لهم أنه الذي يدعى إليه من الأمويين، فاستجابوا له وخاطبوه بأمير المؤمنين، ولقب بالثائر بأمر الله المنتصر من أعداء الله، ودخل برقة في جحفل عظيم، فجمع له أهلها نحواً من مائتي ألف دينار، وأخذ رجلاً من اليهود اتهم بشيء من الودائع فأخذ منه مائتي ألف دينار أيضاً، ونقشوا الدراهم والدنانير بألقابه، وخطب بالناس يوم الجمعة ولعن الحاكم في خطبته ونعما فعل، فالتف على أبي ركوة من الجنود نحو من ستة عشر ألفاً‏.‏

فلما بلغ الحاكم أمره وما آل إليه حاله بعث بخمسمائة ألف دينار وخمسة آلاف ثوب إلى مقدم جيوش أبي ركوة وهو الفضل بن عبد الله يستميله إليه ويثنيه عن أبي ركوة، فحين وصلت الأموال إليه رجع عن أبي ركوة وقال له‏:‏ إنا لا طاقة لنا بالحاكم، وما دمت بين أظهرنا فنحن مطلوبون بسببك، فاختر لنفسك بلداً تكون فيها‏.‏

فسأل أن يبعثوا معه فارسين يوصلانه إلى النوبة فإن بينه وبين ملكها مودة وصحبة، فأرسله، ثم بعث وراءه من رده إلى الحاكم بمصر، فلما وصل إليه أركبه جملاً وشهّره ثم قتله في اليوم الثاني، ثم أكرم الحاكم الفضل وأقطعه أقطاعاً كثيرة‏.‏

واتفق مرض الفضل فعاده الحاكم مرتين، فلما عوفي قتله وألحقه بصاحبه، وهذه مكافأة التمساح‏.‏

وفي رمضان منها عزل قرواش عما كان بيده ووليه أبو الحسن علي بن يزيد، ولقب بسند الدولة‏.‏

وفيها‏:‏ هزم يمين الدولة محمود بن سبكتكين ملك الترك عن بلاد خراسان، وقتل من الأتراك خلقاً كثيراً‏.‏

وفيها‏:‏ قتل أبو العباس بن واصل وحمل رأسه إلى بهاء الدولة فطيف به بخراسان وفارس‏.‏

وفيها‏:‏ ثارت على الحجيج وهم بالطريق ريح سوداء مظلمة جداً، واعترضهم ابن الجراح أمير الأعراب فاعتاقهم عن الذهاب ففاتهم الحج فرجعوا إلى بلادهم فدخلوها في يوم التروية‏.‏

وكانت الخطبة بالحرمين للمصريين‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 388‏)‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 عبد الصمد بن عمر بن إسحاق

أبو القاسم الدينوري الواعظ الزاهد، قرأ القرآن ودرس على مذهب الشافعي على أبي سعيد الاصطخري، وسمع الحديث من النجاد، وروى عنه الصيمري، وكان ثقة صالحاً، يضرب به المثل في مجاهدة النفس، واستعمال الصدق المحض، والتعفف والتفقه والتقشف، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحسن وعظه ووقعه في القلوب، جاءه يوماً رجل بمائة دينار فقال‏:‏ أنا غني عنها‏.‏

قال‏:‏ خذها ففرقها على أصحابك هؤلاء‏.‏

فقال‏:‏ ضعها على الأرض‏.‏

فوضعها ثم قال للجماعة‏:‏ ليأخذ كل واحد منكم حاجته منها، فجعلوا يأخذون بقدر حاجاتهم حتى أنفذوها، وجاء ولده بعد ذلك فشكى إليه حاجتهم فقال‏:‏ اذهب إلى البقال فخذ على ربع رطل تمر‏.‏

ورآه رجل وقد اشترى دجاجة وحلواء فتعجب من ذلك فاتبعه إلى دار فيها امرأة ولها أيتام فدفعها إليهم، وقد كان يدق السعد للعطارين بالأجرة ويقتات منه، ولما حضرته الوفاة جعل يقول‏:‏ سيدي لهذه الساعة خبأتك‏.‏

توفي يوم الثلاثاء لسبع بقين من ذي الحجة منها، وصلى عليه بالجامع المنصوري، ودفن بمقبرة الإمام أحمد‏.‏

 أبو العباس بن واصل

صاحب سيراف والبصرة وغيرهما، كان أولاً يخدم بالكرخ، وكان منصوراً له أنه سيملك، كان أصحابه يهزؤون به، فيقول أحدهم‏:‏ إذا ملكت فأي شيء تعطيني‏؟‏

ويقول الآخر‏:‏ ولني، ويقول الآخر‏:‏ استخدمني، ويقول الآخر‏:‏ اخلع عليّ‏.‏

فقدر له أنه تقلبت به الأحوال حتى ملك سيراف والبصرة، وأخذ بلاد البطيحة من مهذب الدولة، وأخرجه منها طريداً، بحيث إنه احتاج في أثناء الطريق إلى أن ركب بقرة‏.‏

واستحوذ ابن واصل على ما هناك، وقصد الأهواز وهزم بهاء الدولة، ثم ظفر به بهاء الدولة فقتله في شعبان منها، وطيف برأسه في البلاد‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة

فيها‏:‏ غزا يمين الدولة محمود بن سبكتكين بلاد الهند، ففتح حصوناً كثيرة، وأخذ أموالاً جزيلة وجواهر نفيسة، وكان في جملة ما وجد بيت طوله ثلاثون ذراعاً وعرضه خمسة عشر ذراعاً مملوءاً فضة، ولما رجع إلى غزنة بسط هذه الأموال كلها في صحن داره وأذن لرسل الملك فدخلوا عليه فرأوا ما بهرهم وهالهم‏.‏

وفي يوم الأربعاء الحادي عشر من ربيع الآخر وقع ببغداد ثلج عظيم، بحيث بقي على وجه الأرض ذراعاً ونصفاً، ومكث أسبوعاً لم يذب، وبلغ سقوطه إلى تكريت والكوفة وعبادان والنهروان‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 389‏)‏

وفي هذا الشهر كثرت العملات جهرة وجفية، حتى من المساجد والمشاهد، ثم ظفر أصحاب الشرطة بكثير منهم فقطعوا أيديهم وكحلوهم‏.‏

 قصة مصحف ابن مسعود وتحريقه

على فتيا الشيخ أبي حامد الأسفراييني فيما ذكره ابن الجوزي في ‏(‏منتظمه‏)‏‏:‏

وفي عاشر رجب جرت فتنة بين السنة والرافضة، سببها أن بعض الهاشميين قصد أبا عبد الله محمد بن النعمان المعروف بابن المعلم - وكان فقيه الشيعة - في مسجده بدرب رباح، فعرض له بالسب فثار أصحابه له واستنفر أصحاب الكرخ وصاروا إلى دار القاضي أبي محمد الأكفاني والشيخ أبي حامد الأسفراييني، وجرت فتنة عظيمة طويلة، وأحضرت الشيعة مصحفاً ذكروا أنه مصحف عبد الله بن مسعود، وهو مخالف للمصاحف كلها‏.‏

فجمع الأشراف والقضاة والفقهاء في يوم جمعة لليلة بقيت من رجب، وعرض المصحف عليهم فأشار الشيخ أبو حامد الأسفراييني والفقهاء بتحريقه، ففعل ذلك بمحضر منهم، فغضب الشيعة من ذلك غضباً شديداً، وجعلوا يدعون ليلة النصف من شعبان على من فعل ذلك ويسبونه، وقصد جماعة من أحداثهم دار الشيخ أبي حامد ليؤذوه فانتقل منها إلى دار القطن، وصاحوا‏:‏ يا حاكم يا منصور‏.‏

وبلغ ذلك الخليفة فغضب وبعث أعوانه لنصرة أهل السنة، فحرقت دور كثيرة من دور الشيعة وجرت خطوب شديدة، وبعث عميد الجيوش إلى بغداد لينفي عنها ابن المعلم فقيه الشيعة، فأخرج منها ثم شفع فيه، ومنعت القصاص من التعرض للذكر والسؤال باسم الشيخين، وعلي رضي الله عنهم، وعاذ الشيخ أبو حامد إلى داره على عادته‏.‏

وفي شعبان منها زلزلت الدينور زلزالاً شديداً، وسقطت منها دور كثيرة، وهلك للناس شيء كثير من الأثاث والأمتعة، وهبت ريح سوداء بدقوقي وتكريت وشيراز، فأتلفت كثيراً من المنازل والنخيل والزيتون، وقتلت خلقاً كثيراً، وسقط بعض شيراز، ووقعت رجفة بشيراز غرق بسببها مراكب كثيرة في البحر‏.‏

ووقع بواسط برد زنة الواحدة مائة درهم وستة دراهم، ووقع ببغداد في رمضان - وذلك في أيار - مطر عظيم سالت منه المزاريب‏.‏

 تخريب قُمَامَة في هذه السنة

وفيها‏:‏ أمر الحاكم بتخريب قُمامة وهي كنيسة النصارى ببيت المقدس، وأباح للعامة ما فيها من الأموال والأمتعة وغير ذلك، وكان سبب ذلك البهتان الذي يتعاطاه النصارى في يوم الفصح من النار التي يحتالون بها، ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 390‏)‏ وهي التي يوهمون جهلتهم أنها نزلت من السماء، وإنما هي مصنوعة بدهن البلسان في خيوط الإبريسم، والرقاع المدهونة بالكبريت وغيره، بالصنعة اللطيفة التي تروج على الطغام منهم والعوام، وهم إلى الآن يستعملونها في ذلك المكان بعينه‏.‏

وكذلك هدم في هذه السنة عدة كنائس ببلاد مصر، ونودي في النصارى‏:‏ من أحب الدخول في دين الإسلام دخل ومن لا يدخل فليرجع إلى بلاد الروم آمناً، ومن أقام منهم على دينه فليلتزم بما شرط عليهم من الشروط التي زادها الحاكم على العمرية، من تعليق الصلبان على صدورهم، وأن يكون الصليب من خشب زنته أربعة أرطال، وعلى اليهود تعليق رأس العجل زنته ستة أرطال‏.‏

وفي الحمام يكون في عنق الواحد منهم قربة زنة خمس أرطال، بأجراس، وأن لا يركبوا خيلاً‏.‏

ثم بعد هذا كله أمر بإعادة بناء الكنائس التي هدمها وأذن لمن أسلم منهم في الارتداد إلى دينه‏.‏

وقال‏:‏ ننزه مساجدنا أن يدخلها من لا نية له، ولا يعرف باطنه، قبحه الله‏.‏

 وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

 أبو محمد الباجي

سبق ذكره، اسمه عبد الله بن محمد الباجي البخاري الخوارزمي، أحد أئمة الشافعية، تفقه على أبي القاسم الداركي ودرس مكانه، وله معرفة جيدة بالأدب والفصاحة والشعر، جاء مرة ليزور بعض أصحابه فلم يجده في المنزل فكتب هذه الأبيات‏:‏

قد حضرنا وليس نقضي التلاقي * نسأل الله خير هذا الفراق

إن تغب لم أغب وإن لم تغب * غبت كأن افتراقنا باتفاق

توفي في محرم هذه السنة، وقد ذكرنا ترجمته في طبقات الشافعية‏.‏

 عبد الله بن أحمد

ابن علي بن الحسين، أبو القاسم المعروف بالصيدلاني، وهو آخر من حدث عن ابن صاعد من الثقات، وروى عنه الأزهري، وكان ثقة مأموناً صالحاً‏.‏

توفي في رجب من هذه السنة وقد جاوز التسعين‏.‏

 الببغاء الشاعر

عبد الواحد بن نصر بن محمد، أبو الفرج المخزومي، الملقب بالببغاء، توفي في شعبان من هذه السنة، وكان أديباً فاضلاً مترسلاً شاعراً مطبقاً، فمن ذلك قوله‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 391‏)‏

يا من تشابه منه الخلْقُ والخُلُق * فما تسافر إلا نحوه الحدق

فورد دمعي من خديك مختلس * وسقم جسمي من جفنيك مسترق

لم يبق لي رمق أشكو هواك به * وإنما يتشكى من به رمق

 محمد بن يحيى

أبو عبد الله الجرجاني، أحد العلماء الزهاد العباد، المناظرين لأبي بكر الرازي، وكان يدرس في قطيعة الربيع، وقد فلج في آخر عمره، وحين مات دفن مع أبي حنيفة‏.‏

 بديع الزمان

صاحب المقامات، أحمد بن الحسين بن يحيى بن سعيد‏.‏

أبو الفضل الهمذاني، الحافظ المعروف ببديانه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/61‏(‏الرسائل الرائقة‏)‏، و‏(‏المقامات الفائقة‏)‏، وعلى منواله نسج الحريري، واقتفى أثره وشكر تقدمه، واعترف بفضله، وقد كان أخذ اللغة عن ابن فارس، ثم برز، وكان أحد الفضلاء الفصحاء، ويقال‏:‏ أنه سم وأخذ ه سكتة، فدفن سريعاً‏.‏

ثم عاش في قبره وسمعوا صراخه فنبشوا عنه فإذا هو قد مات وهو آخذ على لحيته من هول القبر، وذلك يوم الجمعة الحادي عشر من جمادى الآخرة منها، رحمه الله تعالى‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع وتسعين وثلاثمائة

فيها‏:‏ قتل علي بن ثمال نائب الرحبة من طرف الحاكم العبيدي، قتله عيسى بن خلاط العقيلي، وملكها، فأخرجه منها عباس بن مرداس صاحب حلب وملكها‏.‏

وفيها‏:‏ صرف عمرو بن عبد الواحد عن قضاء البصرة ووليه أبو الحسن بن أبي الشوارب، فذهب الناس يهنون هذا ويعزون هذا، فقال في ذلك العصفري‏:‏

عندي حديث ظريف * بمثله يُتغنى

من قاضيين يعزى * هذا وهذا يُهنّا

فذا يقول أكرهوني * وذا يقول استرحنا

ويكذبان جميعاً * ومن يصدّق منا‏؟‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 392‏)‏

وفي شعبان من هذه السنة عصفت ريح شديدة فألقت وحلاً أحمر في طرقات بغداد‏.‏

وفيها‏:‏ هبت على الحجاج ريح سوداء مظلمة واعترضهم الأعراب فصدوهم عن السبيل، واعتاقوهم حتى فاتهم الحج فرجعوا، وأخذت بنو هلال طائفة من حجاج البصرة نحواً من ستمائة واحد، وأخذوا منهم نحواً من ألف ألف دينار، وكانت الخطبة فيها للمصريين‏.‏

 وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

 عبد الله بن بكر بن محمد بن الحسين

أبو أحمد الطبراني، سمع بمكة وبغداد وغيرهما من البلاد، وكان مكرماً، سمع منه الدارقطني وعبد الغني بن سعيد، ثم أقام بالشام بالقرب من جبل عند بانياس يعبد الله تعالى إلى أن مات في ربيع الأول منها‏.‏

 محمد بن علي بن الحسين

أبو مسلم كاتب الوزير بن خنزابة، روى عن البغوي وابن صاعد وابن دريد وابن أبي داود وابن عرفة وابن مجاهد وغيرهم، وكان آخر من بقي من أصحاب البغوي، وكان من أهل العلم والحديث والمعرفة والفهم، وقد تكلم بعضهم في روايته عن البغوي لأن أصله كان غالباً مفسوداً‏.‏

وذكر الصوري أنه خلط في آخر عمره‏.‏

 أبو الحسن علي بن أبي سعيد

عبد الواحد بن أحمد بن يونس بن عبد الأعلى الصدفي المصري، صاحب كتاب ‏(‏الزيج الحاكمي‏)‏ في أربع مجلدات، كان أبوه من كبار المحدثين الحفاظ، وفد وضع لمصر تاريخاً نافعاً يرجع العلماء إليه فيه، وأما هذا فإنه اشتغل في علم النجوم فنال من شأنه منالاً جيداً، وكان شديد الاعتناء بعلم الرصد وكان مع هذا مغفلاً سيء الحال، رث الثياب، طويلاً يتعمم على طرطور طويل، ويتطيلس فوقه، ويركب حماراً، فمن رآه ضحك منه، وكان يدخل على الحاكم فيكرمه ويذكر من تغفله ما يدل على اعتنائه بأمر نفسه، وكان شاهداً معدلاً، وله شعر جيد، فمنه ما ذكره ابن خلكان‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 393‏)‏

أحمل نشر الريح عد هبوبه * رسالة مشتاق إلى حبيبه

بنفسي من تحيا النفوس بريقه * ومن طابت الدنيا به وبطيبه

يجدد وجدي طائف منه في الكرا * سرى موهناً في جفنه من رقيبه

لعمري لقد عطلت كأسي بعده * وغيبتها عني لطول مغيبه

تمني أم أمير المؤمنين القادر بالله

مولاة عبد الواحد بن المقتدر كانت من العابدات الصالحات، ومن أهل الفضل والدين، توفيت ليلة الخميس الثاني والعشرين من شعبان منها، وصلى عليها ابنها القادر، وحملت بعد العشاء إلى الرصافة‏.‏

 ثم دخلت سنة أربعمائة من الهجرة

في ربيع الآخر منها نقصت دجلة نقصاً كثيراً، حتى ظهرت جزائر لم تغرق، وامتنع سير السفن في أعاليها من أذنة والراشدية، فأمر بكرى تلك الأماكن‏.‏

وفيها‏:‏ كمل السور على مشهد أمير المؤمنين علي عليه السلام، الذي بناه أبو إسحاق الأرجاني، وذلك أن أبا محمد بن سهلان مرض فنذر إن عوفي ليبنينه فعوفي‏.‏

وفي رمضان أرجف الناس بالخليفة القادر بالله بأنه مات فجلس للناس يوم جمعة بعد الصلاة وعليه البردة وبيده القضيب، وجاء الشيخ أبو حامد الأسفراييني فقبل الأرض بين يديه وقرأ‏:‏ ‏{‏لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ‏}‏ الآيات ‏[‏الأحزاب‏:‏ 60‏]‏‏.‏

فتباكى الناس ودعوا وانصرفوا وهم فراحاً‏.‏

وفيها‏:‏ ورد الخبر بأن الحاكم أنفذ إلى دار جعفر بن محمد الصادق بالمدينة فأخذ منها مصحفاً وآلات كانت بها، وهذه الدار لم تفتح بعد موت صاحبها إلى هذا الآن، وكان مع المصحف قعب خشب مطوق بحديد ودرقة خيزران وحربة وسرير، حمل ذلك كله جماعة من العلويين إلى الديار المصرية، فأطلق لهم الحاكم أنعاماً كثيرة ونفقات زائدة، وردّ السرير وأخذ الباقي، وقال‏:‏ أنا أحق به‏.‏

فردوا وهم ذامون له داعون عليه‏.‏

وبنى الحاكم فيها داراً للعلم وأجلس فيها الفقهاء، ثم بعد ثلاث سنين هدمها وقتل خلقاً كثيراً ممن كان فيها من الفقهاء والمحدثين وأهل الخير‏.‏

وفيها‏:‏ عمر الجامع المنسوب إليه وهو جامع الحاكم، وتأنق في بنائه‏.‏

وفي ذي الحجة منها أعيد المؤيد هشام بن الحكم بن عبد الرحمن الأموي إلى ملكه بعد خلعه وحبسه مدة طويلة، وكانت الخطبة بالحرمين للحاكم صاحب مصر والشام‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 394‏)‏

 وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

 أبو أحمد الموسوي النقيب

الحسن بن موسى بن محمد بن إبراهيم بن موسى بن حعفر الموسوي، والد الرضي والمرتضى، ولي نقابة الطالبيين مرات نحواً من خمس مرات، يعزل ويعاد، ثم أخر في آخر عمره، وتوفي عن سبع وتسعين سنة، وصلى عليه ابنه المرتضى، ودفن في مشهد الحسين‏.‏

وقد رثاه ابنه المرتضى في قصيدة حسنة قوية المنزع والمطلع فمنها‏:‏

سلام الله تنقله الليالي * وتهديه الغدو إلى الرواح

على جدث حسيب من لؤي * لينبوع العبادة والصلاح

فتى لم يروَ إلا من حلال * ولم يك زاده إلا المباح

ولا دنست له أزر لزور * ولا علقت له راح براح

خفيف الظهر من ثقل الخطايا * وعريان الجوارح من جناج

مشوق في الأمور إلى أعلاها * ومدلول على باب النجاح

من القوم الذين لهم قلوب * بذكر الله عامرة النواحي

بأجسام من التقوى مراض * لنصرتها وأديان صحاح

 الحجاج بن هرمز أبو جعفر

نائب بهاء الدولة على العراق، وكان تليده لقتال الأعراب والأكراد، وكان من المقدمين في أيام عضد الدولة، وكانت له خبرة تامة بالحرب، وحزمة شديدة، وشجاعة تامة وافرة، وهمة عالية وآراء سديدة‏.‏

ولما خرج من بغداد في سنة ثنتين وسبعين وثلاثمائة كثرت بها الفتن‏.‏

توفي بالأهواز عن مائة سنة وخمس سنين، رحمه الله‏.‏

أبو عبد الله القمي المصر ي التاجر

كان ذا مال جزيل جداً، اشتملت تركته على أزيد من ألف ألف دينار، من سائر أنواع المال‏.‏

توفي بأرض الحجاز ودفن بالمدينة النبوية عند قبر الحسن بن علي، رضي الله عنهم‏.‏

 أبو الحسن بن الرفا المقري

تقدم ذكره وقراءته على كبير الأعراب في سنة أربع وتسعين وثلاثمائة، كان من أحسن الناس صوتاً بالقرآن وأحلاهم أداء، رحمه الله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 395‏)‏

 ثم دخلت سنة إحدى وأربعمائة

في يوم الجمعة الرابع من المحرم منها خطب بالموصل للحاكم العبيدي عن أمر صاحبها قرواش بن مقلد أبي منيع، وذلك لقهره رعيته، وقد سرد ابن الجوزي صفة الخطبة بحروفها‏.‏

وفي آخر الخطبة صلوا على آبائه المهدي ثم ابنه القائم ثم المنصور، ثم ابنه المعز، ثم ابنه العزيز، ثم ابنه الحاكم صاحب الوقت، وبالغوا في الدعاء لهم، ولا سيما للحاكم، وكذلك تبعته أعمالها من الأنبار والمدائن وغيرها‏.‏

وكان سبب ذلك أن الحاكم ترددت مكاتباته ورسله وهداياه إلى قرواش يستميله إليه، وليقبل بوجهه عليه، حتى فعل ما فعل من الخطبة وغيرها، فلما بلغ الخبر القادر بالله العباسي كتب يعاتب قرواش على ما صنع، ونفذ بهاء الدولة إلى عميد الجيوش بمائة ألف دينار لمحاربة قرواش‏.‏

فلما بلغ قرواشاً رجع عن رأيه وندم على ما كان منه، وأمر بقطع الخطبة للحاكم من بلاده، وخطب للقادر على عادته‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ ولخمس بقين من رجب زادت دجلة زيادة كثيرة، واستمرت الزيادة إلى رمضان، وبلغت أحداً وعشرين ذراعاً وثلثاً، ودخل إلى أكثر دور بغداد‏.‏

وفيها‏:‏ رجع الوزير أبو خلف إلى بغداد ولقب فخر الملك بعميد الجيوش‏.‏

وفيها‏:‏ عصى أبو الفتح الحسن بن جعفر العلوي ودعا إلى نفسه، وتلقب بالراشد بالله‏.‏

ولم يحج فيها أحد من أهل العراق، والخطبة للحاكم‏.‏

 وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏ أبو مسعود صاحب ‏(‏الأطراف‏)‏‏.‏

 إبراهيم بن محمد بن عبيد

أبو مسعود الدمشقي الحافظ الكبير، مصنف كتاب ‏(‏الأطراف على الصحيحين‏)‏، رحل إلى بلاد شتى كبغداد والبصرة والكوفة وواسط وأصبهان وخراسان، وكان من الحفاظ الصادقين، والأمناء الضابطين، ولم يرو إلا اليسير، روى عنه أبو القاسم وأبو ذر الهروي، وحمزة السهمي وغيرهم‏.‏

توفي ببغداد في رجب، وأوصى إلى أبي حامد الأسفراييني فصلى عليه، ودفن في مقبرة جامع المنصور قريباً من السكك‏.‏

وقد ترجمه ابن عساكر وأثنى عليه‏.‏

 عميد الجيوش الوزير

الحسن بن أبي جعفر أستاذ هرمز، ولد سنة خمسين وثلاثمائة، وكان أبوه من حجاب عضد الدولة، وولاه بهاء الدولة وزارته سنة ثنتين وتسعين، والشرور كثيرة منتشرة، فمهد البلاد وأخاف العيارين واستقامت به الأمور، وأمر بعض غلمانه أن يحمل صينية فيها دراهم مكشوفة من أول بغداد إلى آخرها، وأن يدخل بها في جميع الأزقة، فإن اعترضه أحد فليدفعها إليه وليعرف ذلك المكان‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 396‏)‏

فذهب الغلام فلم يعترضه أحد، فحمد الله وأثنى عليه، ومنع الروافض النياحة في يوم عاشوراء، وما يتعاطونه من الفرح في يوم ثامن عشر ذي الحجة الذي يقال له‏:‏ عيد غدير خم، وكان عادلاً منصفاً‏.‏

 خلف الواسطي

صاحب ‏(‏الأطراف‏)‏ أيضاً، خلف بن محمد بن علي بن حمدون، أبو محمد الواسطي، رحل إلى البلاد وسمع الكثير ثم عاد إلى بغداد، ثم رحل إلى الشام ومصر، وكتب الناس عنه بانتخابه، وصنف أطرافاً على الصحيحين، وكانت له معرفة تامة، وحفظ جيد، ثم عاد إلى بغداد واشتغل بالتجارة وترك النظر في العلم حتى توفي في هذه السنة، سامحه الله‏.‏

روى عنه الأزهري‏.‏

 أبو عبيد الهروي

صاحب ‏(‏الغريبين‏)‏، أحمد بن محمد بن أبي عبيد العبدي أبو عبيد الهروي اللغوي البارع، كان من علماء الناس في الأدب واللغة، وكتابه ‏(‏الغريبين‏)‏ في معرفة القرآن والحديث، يدل على اطلاعه وتبحره في هذا الشأن، وكان من تلامذة أبي منصور الأزهري‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وقيل‏:‏ كان يحب التنزه ويتناول في خلوته ما لا يجوز، ويعاشر أهل الأدب في مجلس اللذة والطرب، والله أعلم، سامحه الله‏.‏

قال‏:‏ وكانت وفاته في رجب سنة إحدى وأربعمائة، وذكر ابن خلكان‏:‏ أن في السنة أو التي قبلها كانت وفاة البستي الشاعر وهو‏:‏

علي بن محمد بن الحسين بن يوسف الكاتب

صاحب ‏(‏الطريقة الأنيقة والتجنيس الأنيس‏)‏، البديع التأسيس، والحذاقة والنظم والنثر، وقد ذكرناه، ومما أورد له ابن خلكان قوله‏:‏ من أصلح فاسده أرغم حاسده، ومن أطاع غضبه أضاع أدبه‏.‏

من سعادة جدك وقوفك عند حدك‏.‏

المنية تضحك من الأمنية‏.‏

الرشوة رشا الحاجات، حد العفاف الرضى بالكفاف‏.‏

ومن شعره‏:‏

إن هز أقلامه يوماً ليعملها * أنساك كل كميٍ هز عامله

وإن أمر على رق أنامله * أقر بالرق كتاب الأنام له

وله‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 397‏)‏

إذا تحدثت في قوم لتؤنسهم * بما تحدث من ماض ومن آت

فلا تعد لحديث إن طبعهم * موكل بمعاداة المعادات

 ثم دخلت سنة ثنتين وأربعمائة

في المحرم منها أذن فخر الملك الوزير للروافض أن يعملوا بدعتهم الشنعاء، والفضيحة الصلعاء، من الانتحاب والنوح والبكاء، وتعليق المسوح، وأن تغلق الأسواق من الصباح إلى المساء، وأن تدور النساء حاسرات عن وجوههن ورؤوسهن، يلطمن خدودهن، كفعل الجاهلية الجهلاء، على الحسين بن علي، فلا جزاه الله خيراً، وسود الله وجهه يوم الجزاء، إنه سميع الدعاء‏.‏

وفي ربيع الآخر أمر القادر بعمارة مسجد الكف بقطيعة الدقيق، وأن يعاد إلى أحسن ما كان، ففعل ذلك وزخرف زخرفة عظيمة جداً، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

الطعن من أئمة بغداد وعلمائهم في نسب الفاطميين

وفي ربيع الآخر منها كتب هؤلاء ببغداد محاضر تتضمن الطعن والقدح في نسب الفاطميين وهم ملوك مصر وليسوا كذلك، وإنما نسبهم إلى عبيد بن سعد الجرمي، وكتب في ذلك جماعة من العلماء والقضاة والأشراف والعدول، والصالحين والفقهاء، والمحدثين، وشهدوا جميعاً أن الحاكم بمصر هو منصور بن نزار الملقب بالحاكم، حكم الله عليه بالبوار والخزي والدمار، ابن معد بن إسماعيل بن عبد الله بن سعيد، لا أسعده الله، فإنه لما صار إلى بلاد المغرب تسمى بعبيد الله، وتلقب بالمهدي، وأن من تقدم من سلفه أدعياء خوارج، لا نسب لهم في ولد علي بن أبي طالب، ولا يتعلقون بسبب وأنه منزه عن باطلهم، وأن الذي ادعوه إليه باطل وزور، وأنهم لا يعلمون أحداً من أهل بيوتات علي بن أبي طالب توقف عن إطلاق القول في أنهم خوارج كذبة‏.‏

وقد كان هذا الإنكار لباطلهم شائعاً في الحرمين، وفي أول أمرهم بالمغرب منتشراً انتشاراً يمنع أن يدلس أمرهم على أحد، أو يذهب وهم إلى تصديقهم فيما ادعوه، وأن هذا الحاكم بمصر هو وسلفه كفار فساق فجار، ملحدون زنادقة معطلون، وللإسلام جاحدون، ولمذهب المجوسية والثنوية معتقدون، قد عطلوا الحدود وأباحوا الفروج، وأحلوا الخمر وسفكوا الدماء، وسبوا الأنبياء، ولعنوا السلف، وادعوا الربوبية‏.‏

وكتب في سنة اثنتين وأربعمائة، وقد كتب خطه في المحضر خلق كثير، فمن العلويين‏:‏ المرتضى والرضي، وابن الأزرق الموسوي، وأبو طاهر بن أبي الطيب، ومحمد بن محمد بن عمرو بن أبي يعلى‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 398‏)‏

ومن القضاة‏:‏ أبو محمد بن الأكفاني، وأبو القاسم الجزري، وأبو العباس بن الشيوري‏.‏

ومن الفقهاء‏:‏ أبو حامد الأسفراييني، وأبو محمد بن الكسفلي، وأبو الحسن القدوري، وأبو عبد الله الصيمري، وأبو عبد الله البيضاوي، وأبو علي بن حمكان‏.‏

ومن الشهود‏:‏ أبو القاسم التنوخي في كثير منهم، وكتب فيه خلق كثير‏.‏

هذه عبارة أبي الفرج ابن الجوزي‏.‏

قلت‏:‏ ومما يدل على أن هؤلاء أدعياء كذبة، كما ذكر هؤلاء السادة العلماء، والأئمة الفضلاء، وأنهم لا نسب لهم إلى علي بن أبي طالب، ولا إلى فاطمة كما يزعمون، قول ابن عمر للحسين بن علي حين أراد الذهاب إلي العراق، وذلك حين كتب عوام أهل الكوفة بالبيعة إليه فقال له ابن عمر‏:‏ لا تذهب إليهم فإني أخاف عليك أن تقتل، وإن جدك قد خُيّر بين الدنيا والآخرة، فاختار الآخرة على الدنيا، وأنت بضعة منه، وإنه والله لا تنالها لا أنت ولا أحد من خلفك ولا من أهل بيتك‏.‏

فهذا الكلام الحسن الصحيح المتوجه المعقول، من هذا الصحابي الجليل، يقتضي أنه لا يلي الخلافة أحد من أهل البيت إلا محمد بن عبد الله المهدي الذي يكون في آخر الزمان عند نزول عيسى بن مريم، رغبة بهم عن الدنيا، وأن لا يدنسوا بها‏.‏

ومعلوم أن هؤلاء قد ملكوا ديار مصر مدة طويلة، فدل ذلك دلالة قوية ظاهرة على أنهم ليسوا من أهل البيت، كما نص عليه سادة الفقهاء‏.‏

وقد صنف القاضي الباقلاني كتاباً في الرد على هؤلاء وسماه ‏(‏كشف الأسرار وهتك الأستار‏)‏ بيّن فيه فضائحهم وقبائحهم، ووضح أمرهم لكل أحد، ووضوح أمرهم ينبئ عن مطاوي أفعالهم وأقوالهم، وقد كان الباقلاني يقول في عبارته عنهم‏:‏ هم قوم يظهرون الرفض ويبطنون الكفر المحض، والله سبحانه أعلم‏.‏

وفي رجب وشعبان ورمضان أجرى الوزير فخر الملك صدقات كثيرة على الفقراء والمساكين والمقيمين بالمشاهد والمساجد وغير ذلك، وزار بنفسه المساجد والمشاهد، وأخرج خلقاً من المحبوسين وأظهر نسكاً كثيراً، وعمر داراً عظيمة عند سوق الدقيق‏.‏

وفي شوال عصفت ريح شديدة فقصفت كثيراً من النخل وغيره، أكثر من عشرة آلاف نخلة، وورد كتاب من يمين الدولة محمود بن سبكتكين صاحب غزنة بأنه ركب بجيشه إلى أرض العدو فجازوا بمفازة فأعوزهم الماء حتى كادوا يهلكون عن آخرهم عطشاً، فبعث الله لهم سحابة فأمطرت عليهم حتى شربوا وسقوا واستقوا، ثم تواقفوا هم وعدوهم، ومع عدوهم نحو من ستمائة فيل، فهزموا العدو وغنموا شيئاً كثيراً من الأموال، ولله الحمد‏.‏

وفيها‏:‏ عملت الشيعة بدعتهم التي كانوا يعملونها يوم غديرخم، وهو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة، وزينت الحوانيت وتمكنوا بسبب الوزير وكثير من الأتراك تمكناً كثيراً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 399‏)‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 الحسن بن الحسن بن علي بن العباس

ابن نوبخت أبو محمد النوبختي، ولد سنة عشرين وثلاثمائة، وروى عن المحاملي وغيره، وعنه البرقاني، وقال‏:‏ كان شيعياً معتزلياً، إلا أنه تبين لي أنه كان صدوقاً، وروى عنه الأزهري وقال‏:‏ كان رافضياً، رديء المذهب‏.‏

وقال العقيقي‏:‏ كان فقيراً في الحديث، ويذهب إلى الاعتزال والله أعلم‏.‏

 عثمان بن عيسى أبو عمرو الباقلاني

أحد الزهاد الكبار المشهورين، كان له نخلات يأكل منها ويعمل بيده في البواري، ويأكل من ذلك، وكان في غاية الزهادة والعبادة الكثيرة، وكان لا يخرج من مسجده إلا من يوم الجمعة إلى يوم الجمعة، لأجل صلاة الجمعة ثم يعود إلى مسجده، وكان لا يجد شيئاً يشعله في مسجده، فسأله بعض الأمراء أن يقبل شيئاً ولو زيتاً يشعله في قناديل مسجده، فأبى الشيخ ذلك‏.‏

ولهذا وأمثاله لما مات رأى بعضهم بعض الأموات من جيرانه في القبور فسأله عن جواره فقال‏:‏ وأين هو، لما مات ووضع في قيره سمعنا قائلاً يقول‏:‏ إلى الفروس الأعلى، إلى الفروس الأعلى‏.‏

أو كما قال‏:‏ توفي في رجب منها عن ستة وثمانين سنة‏.‏

 محمد بن جعفر بن محمد

ابن هارون بن فروة بن ناجية، أبو الحسن النحوي، المعروف بابن النجار التميمي الكوفي، قدم بغداد وروى عن ابن دريد والصولي ونفطويه وغيرهم، توفي في جمادى الأولى منها عن سبع وسبعين سنة‏.‏

 أبو الطيب سهل بن محمد

الصعلوكي النيسابوري، قال أبو يعلى الخليلي‏:‏ توفي فيها، وقد ترجمناه في سنة سبع وثمانين وثلاثمائة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 400‏)‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وأربعمائة

في سادس عشر محرمها قلد الشريف الرضي أبو الحسن الموسوي نقابة الطالبيين في سائر الممالك، وقرئ تقليده في دار الوزير فخر الملك، بمحضر الأعيان، وخلع عليه السواد، وهو أول طالبي خلع عليه السواد‏.‏

وفيها‏:‏ جيء بأمير بني خفاجة أبو قلنبة قبحه الله وجماعة من رؤوس قومه أسارى، وكانوا قد اعترضوا للحجاج في السنة التي قبلها وهم راجعون، وغوروا المناهل التي يردها الحجاج، ووضعوا فيها الحنظل بحيث إنه مات من الحجاج من العطش نحو من خمسة عشر ألفاً، وأخذوا بقيتهم فجعلوهم رعاة لدوابهم في أسوأ حال، وأخذوا جميع ما كان معهم‏.‏

فحين حضروا عند دار الوزير سجنهم ومنعهم الماء، ثم صلبهم يرون صفاء الماء ولا يقدون على شيء منه، حتى ماتوا عطشاً جزاء وفاقاً، وقد أحسن في هذا الصنع اقتداء بحديث أنس في الصحيحين‏.‏

ثم بعث إلى أولئك الذين اعتقلوا في بلاد بني خفاجة من الحجاج فجيء بهم، وقد تزوجت نساؤهم وقسمت أموالهم، فردوا إلى أهاليهم وأموالهم‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وفي رمضان منها انقض كوكب من المشرق إلى المغرب عليه ضوء على ضوء القمر، وتقطع قطعاً وبقي ساعة طويلة‏.‏

قال‏:‏ وفي شوال توفيت زوجة بعض رؤوساء النصارى، فخرجت النوائح والصلبان معها جهاراً، فأنكر ذلك بعض الهاشميين فضربه بعض غلمان ذلك الرئيس النصراني بدبوس في رأسه فشجه، فثار المسلمون بهم فانهزموا حتى لجأوا إلى كنيسة لهم هناك، فدخلت العامة إليها فنهبوا ما فيها، وما قرب منها من دور النصارى، وتتبعوا النصارى في البلد، وقصدوا الناصح وابن أبي إسرائيل فقاتلهم غلمانهم، وانتشرت الفتنة ببغداد، ورفع المسلمون المصاحف في الأسواق، وعطلت الجمع في بعض الأيام، واستعانوا بالخليفة فأمر بإحضار ابن أبي إسرائيل فامتنع، فعزم الخليفة على الخروج من بغداد، وقويت الفتنة جداً ونهبت دور كثير من النصارى، ثم أحضر ابن أبي إسرائيل فبذل أموالاً جزيلة، فعفى عنه وسكنت الفتنة‏.‏

وفي ذي القعدة ورد كتاب يمين الدولة محمود إلى الخليفة يذكر أنه ورد إليه رسول من الحاكم صاحب مصر ومعه كتاب يدعوه إلى طاعته، فبصق فيه وأمر بتحريقه، وأسمع رسوله غليظ ما يقال‏.‏

وفيها‏:‏ قلد أبو نصر بن مروان الكردي آمد وميافارقين وديار بكر، وخلع عليه طوق وسواران، ولقب بناصر الدولة، ولم يتمكن ركب العراق وخراسان من الذهاب إلى الحج لفساد الطريق، وغيبة فخر الملك في إصلاح الأراضي‏.‏

وفيها‏:‏ عادت مملكة الأمويين ببلاد الأندلس فتولى فيها سليمان بن الحكم بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر الأموي، ولقب بالمستعين بالله، وبايعه الناس بقرطبة‏.‏

وفيها‏:‏ مات بهاء الدولة بن بويه الديلمي صاحب بغداد وغيرها، وقام بالأمر من بعده ولده سلطان الدولة أبو شجاع‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 401‏)‏

وفيها‏:‏ مات ملك الترك الأعظم واسمه إيلك الخان، وتولى مكانه أخوه طغان خان‏.‏

وفيها‏:‏ هلك شمس المعالي قابوس بن وشمكير، أدخل بيتاً بارداً في الشتاء وليس عليه ثياب حتى مات كذلك، وولي الأمر من بعده منوجهر، ولقب فلك المعالي، وخطب لمحمود بن سبكتكين، وقد كان شمس المعالي قابوس عالماً فاضلاً أديباً شاعراً، فمن شعره قوله‏:‏

قل للذي بصروف الدهر عيّرنا * هل عاند الدهر إلا من له خطر

أما ترى البحر يطفو فوقه جيف * ويستقر بأقصى قعره الدرر

فإن تكن نشبت أيدي الخطوب بنا * ومسنا من توالي صرفها ضرر

ففي السماء نجوم غير ذي عدد * وليس يكسف إلا الشمس والقمر

ومن مستجاد شعره قوله‏:‏

خطرات ذكرك تستثير مودتي * فأحس منها في الفؤاد دبيبا

لا عضو لي إلا وفيه صبابة * وكأن أعضائي خلقن قلوبا

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 أحمد بن علي أبو الحسن الليثي

كان يكتب للقادر وهو بالبطيحة، ثم كتب له على ديوان الخراج والبريد، وكان يحفظ القرآن حفظاً حسناً، مليح الصوت والتلاوة، حسن المجالسة، ظريف المعاني، كثير الضحك والمجانة‏.‏

خرج في بعض الأيام هو والشريفان الرضي والمرتضى وجماعة من الأكابر لتلقي بعض الملوك، فخرج بعض اللصوص فجعلوا يرمونهم بالحرّاقات، ويقولون‏:‏ يا أزواج القحاب‏.‏

فقال الليثي‏:‏ ما خرج هؤلاء علينا إلا بعين‏.‏

فقالوا‏:‏ ومن أين علمت هذا‏؟‏

فقال‏:‏ وإلا من أين علموا أنّا أزواج قحاب‏.‏

 الحسن بن حامد بن علي بن مروان

الورّاق الحنبلي، كان مدرس أصحاب أحمد وفقيههم في زمانه، وله المصنفات المشهورة، منها كتاب ‏(‏الجامع في اختلاف العلماء‏)‏ في أربعمائة جزء، وله في أصول الفقه والدين، وعليه اشتغل أبو يعلى بن الفراء، وكان معظماً في النفوس، مقدماً عند السلطان، وكان لا يأكل إلا من كسب يديه من النسج، وروى الحديث عن أبي بكر الشافعي، وابن مالك القطيعي، وغيرهما‏.‏

وخرج في هذه السنة إلى الحج فلما عطش الناس في الطريق استند هو إلى حجر هناك في الحر الشديد، فجاءه رجل بقليل من ماء فقال له ابن حامد‏:‏ من أين لك‏؟‏‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 402‏)‏

فقال‏:‏ ما هذا وقت سؤالك اشرب‏.‏

فقال‏:‏ بلى هذا وقته عند لقاء الله عز وجل، فلم يشرب ومات من فوره رحمه الله‏.‏

 الحسين بن الحسن

ابن محمد بن حليم، أبو عبد الله الحليمي، صاحب ‏(‏المنهاج في أصول الديانة‏)‏، كان أحد مشايخ الشافعية، ولد بجرجان وحمل إلى بخارى، وسمع الحديث الكثير حتى انتهت إليه رياسة المحدثين في عصره، وولي القضاء ببخارى‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ انتهت إليه الرياسة فيما وراء النهر، وله وجوه حسنة في المذهب، وروى عنه الحاكم أبو عبد الله‏.‏

 فيروز أبو نصر

الملقب ببهاء الدولة بن عضد الدولة الديلمي، صاحب بغداد وغيرها، وهو الذي قبض على الطائع وولى القادر، وكان يحب المصادرات فجمع من الأموال ما لم يجمعه أحد قبله من بني بويه، وكان بخيلاً جداً‏.‏

توفي بأرجان في جمادى الآخرة منها عن ثنتين وأربعين سنة وثلاثة أشهر، وكان مرضه بالصرع، ودفن بالمشهد إلى جانب أبيه‏.‏

 قابوس بن وشمكير

كان أهل دولته قد تغيروا عليه فبايعوا ابنه منوجهر وقتلوه كما ذكرنا، وكان قد نظر في النجوم فرأى أن ولده يقتله، وكان يتوهم أنه ولده داراً، لما يرى من مخالفته له، ولا يخطر بباله منوجهر لما يرى من طاعته له، فكان هلاكه على يد منوجهر، وقد قدمنا شيئاً من شعره في الحوادث‏.‏

 القاضي أبو بكر الباقلاني

محمد بن الطيب أبو بكر الباقلاني، رأس المتكلمين على مذهب الشافعي، وهو من أكثر الناس كلاماً وتصنيفاً في الكلام، يقال‏:‏ إنه كان لا ينام كل ليلة حتى يكتب عشرين ورقة من مدة طويلة من عمره، فانتشرت عنه تصانيف كثيرة، منها ‏(‏التبصرة‏)‏، و‏(‏دقائق الحقائق‏)‏، و‏(‏التمهيد في أصول الفقه‏)‏، و‏(‏شرح الإبانة‏)‏، وغير ذلك من المجاميع الكبار والصغار، ومن أحسنها كتابه في الرد على الباطنية، الذي سماه‏:‏ ‏(‏كشف الأسرار وهتك الأستار‏)‏‏.‏

وقد اختلفوا في مذهبه في الفروع، فقيل‏:‏ شافعي، وقيل‏:‏ مالكي، حكى ذلك عنه أبو ذر الهروي، وقيل‏:‏ إنه كان يكتب على الفتاوى‏:‏ كتبه محمد بن الطيب الحنبلي، وهذا غريب جداً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 403‏)‏

وقد كان في غاية الذكاء والفطنة، ذكر الخطيب وغيره عنه أن عضد الدولة بعثه في رسالة إلى ملك الروم، فلما انتهى إليه إذا هو لا يدخل عليه أحد إلا من باب قصير كهيئة الراكع، ففهم الباقلاني أن مراده أن ينحني الداخل عليه له كهيئة الراكع لله عز وجل، فدار إسته إلى الملك ودخل الباب بظهره يمشي إليه القهقرا، فلما وصل إليه انفتل فسلم عليه، فعرف الملك ذكاءه ومكانه من العلم والفهم، فعظمه‏.‏

ويقال‏:‏ إن الملك أحضر بين يديه آلة الطرب المسماة بالأرغل، ليستفز عقله بها، فلما سمعها الباقلاني خاف على نفسه أن يظهر منه حركة ناقصة بحضرة الملك، فجعل لا يألوا جهداً أن جرح رجله حتى خرج منها الدم الكثير، فاشتغل بالألم عن الطرب، ولم يظهر عليه شيء من النقص والخفة، فعجب الملك من ذلك، ثم إن الملك استكشف الأمر فإذا هو قد جرح نفسه بما أشغله عن الطرب، فتحقق الملك وفور همته وعلو عزيمته، فإن هذه الآلة لا يسمعها أحد إلا طرب شاء أم أبى‏.‏

وقد سأله بعض الأساقفة بحضرة ملكهم فقال‏:‏ ما فعلت زوجة نبيكم‏؟‏وما كان من أمرها بما رميت به من الإفك‏؟‏

فقال الباقلاني مجيباً له على البديهة‏:‏ هما امرأتان ذكرتا بسوء مريم وعائشة، فبرأهما الله عز وجل، وكانت عائشة ذات زوج ولم تأت بولد، وأتت مريم بولد ولم يكن لها زوج - يعني‏:‏ أن عائشة أولى بالبراءة من مريم - وكلاهما بريئة مما قيل فيها، فإن تطرق في الذهن الفاسد احتمال ريبة إلى هذه فهو إلى تلك أسرع، وهما بحمد الله منزهتان مبرأتان من السماء بوحي الله عز وجل، عليهما السلام‏.‏

وقد سمع الباقلاني الحديث من أبي بكر بن مالك القطيعي وأبي محمد بن ماسي وغيرهما، وقد قبله الدارقطني يوماً وقال‏:‏ هذا يرد على أهل الأهواء باطلهم، ودعا له‏.‏

وكانت وفاته يوم السبت لسبع بقين من ذي القعدة، ودفن بداره ثم نقل إلى مقبرة باب حرب‏.‏

 محمد بن موسى بن محمد

أبو بكر الخوارزمي شيخ الحنفية وفقيههم، أخذ العلم عن أحمد بن علي الرازي، وانتهت إليه رياسة الحنفية ببغداد، وكان معظماً عند الملوك، ومن تلامذة الرضي والصيمري، وقد سمع الحديث من أبي بكر الشافعي وغيره، وكان ثقة ديناً حسن الصلاة على طريقة السلف‏.‏

ويقول في الاعتقاد‏:‏ ديننا دين العجائز، لسنا من الكلام في شيء، وكان فصيحاً حسن التدريس، دُعي إلى ولاية القضاء غير مرة فلم يقبل، توفي ليلة الجمعة الثامن عشر من جمادى الأولى سنة ثلاث وأربعمائة، ودفن بداره من درب عبده‏.‏

الحافظ أبو الحسن علي بن محمد بن خلف

العامري القابسي مصنف ‏(‏التلخيص‏)‏، أصله قرويني وإنما غلب عليه القابسي لأن عمه كان يتعمم قابسية، فقيل لهم ذلك‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 404‏)‏

وقد كان حافظاً بارعاً في علم الحديث، رجلاً صالحاً جليل القدر، ولما توفي في ربيع الآخر من هذه السنة عكف الناس على قبره ليالي يقرؤون القرآن ويدعون له، وجاء الشعراء من كل أوب يرثون ويترحمون، ولما أجلس للمناظرة أنشد لغيره‏:‏

لعمر أبيك ما نسب المعلى * إلى كرم وفي الدنيا كريم

ولكن البلاد إذا اقشعرت * وصوّح نبتها رعي الهشيم

ثم بكى وأبكى، وجعل يقول‏:‏ أنا الهشيم أنا الهشيم‏.‏

رحمه الله‏.‏

 الحافظ ابن الفرضي

أبو الوليد عبد الله بن محمد بن يوسف بن نصر الأزدي الفرضي، قاضي بلنسية، سمع الكثير وجمع وصنف التاريخ، وفي المؤتلف والمختلف، ومشتبه النسبة وغير ذلك، وكان علامة زمانه، قتل شهيداً على يد البربر فسمعوه وهو جريح طريح يقرأ على نفسه الحديث الذي في الصحيح‏:‏

‏(‏‏(‏ما يكلم أحد في سبيل الله، والله أعلم بمن يكلم في سبيله، إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمي، اللون لون الدم، والريح ريح المسك‏)‏‏)‏‏.‏

وقد كان سأل الله الشهادة عند أستار الكعبة فأعطاه إياها، ومن شعره قوله‏:‏

أسير الخطايا عند بابك واقف * على وجل مما به أنت عارف

يخاف ذنوباً لم يغب عنك غيها * ويرجوك ففيها وهو راج وخائف

ومن ذا الذي يرجى سواك ويتقي * ومالك في فصل القضاء مخالف

فيا سيدي لا تخزني في صحيفتي * إذا نشرت يوم الحساب الصحائف

وكن مؤنسي في ظلمة القبر عندما * يصد ذوو القربى ويجفو الموالف

لئن ضاق عني عفوك الواسع الذي * أرجى لإسرافي فإني تالف

 ثم دخلت سنة أربع وأربعمائة

في يوم الخميس غرة ربيع الأول منها جلس الخليفة القادر في أبهة الخلافة، وأحضر بين يديه سلطان الدولة والحجبة، فخلع عليه سبع خلع على العادة، وعممه بعمامة سوداء، وقلد سيفاً وتاجاً مرصعاً وسوارين وطوقاً، وعقد له لواءين بيده، ثم أعطاه سيفاً وقال للخادم‏:‏ قلده به، فهو شرف له ولعقبه، يفتح شرق الأرض وغربها‏.‏

وكان ذلك يوماً مشهوداً، حضره القضاة والأمراء والوزراء‏.‏

وفيها‏:‏ غزا محمود بن سبكتكين بلاد الهند ففتح وقتل وسبى وغنم وسلم، وكتب إلى الخليفة أن يوليه ما بيده من مملكة خراسان وغيرها من البلاد، فأجابه إلى ما سأل‏.‏

وفيها‏:‏ عاثت بنو خفاجة ببلاد الكوفة، فبرز إليهم نائبها أبو الحسن بن مزيد فقتل منهم خلقاً وأسر محمد بن يمان وجماعة من رؤوسهم، وانهزم الباقون، فأرسل الله عليهم ريحاً حارة فأهلك منهم خمسمائة إنسان‏.‏

وحج بالناس أبو الحسن محمد بن الحسن الأفساسي‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 الحسن بن أحمد

أبو جعفر بن عبد الله المعروف بابن البغدادي، سمع الحديث، وكان زاهداً عابداً كثير المجاهدة، لا ينام إلا عن غلبة، وكان لا يدخل الحمام ولا يغسل ثيابه إلا بماء، وجده الحسن بن عثمان بن علي أبو عبد الله المقري الضرير المجاهدي، قرأ على ابن مجاهد القرآن وهو صغير، وكان آخر من بقي من أصحابه، توفي في جمادى الأولى منها، وقد جاوز المائة سنة، ودفن في مقابر الزرادين‏.‏

 علي بن سعيد الاصطخري

أحد شيوخ المعتزلة، صنف للقادر بالله ‏(‏الرد على الباطنية‏)‏ فأجرى عليه جراية سنية، وكان يسكن درب رباح، توفي في شوال وقد جاوز الثمانين‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 406‏)‏

 ثم دخلت سنة خمس وأربعمائة

فيها‏:‏ منع الحاكم صاحب مصر النساء من الخروج من منازلهم، أو أن يطلعن من الأسطحة أو من الطاقات، ومنع الخفافين من عمل الخفاف لهن، ومنعهن من الخروج إلى الحمامات، وقتل خلقاً من النساء على مخالفته في ذلك، وهدم بعض الحمامات عليهن، وجهز نساء عجائز كثيرة يستعلمن أحوال النساء لمن يعشقن أو يعشقهن، بأسمائهن وأسماء من يتعرض لهن، فمن وجد منهن كذلك أطفأها وأهلكها‏.‏

ثم إنه أكثر من الدوران بنفسه ليلاً ونهاراً في البلد، في طلب ذلك، وغرق خلقاً من الرجال والنساء والصبيان ممن يطلع على فسقهم، فضاق الحال واشتد على النساء، وعلى الفساق ذلك، ولم يتمكن أحد منهن أن يصل إلى أحد إلا نادراً، حتى أن امرأة كانت عاشقة لرجل عشقاً قوياً كادت أن تهلك بسببه، لما حيل بينها وبينه، فوقفت لقاضي القضاة وهو مالك بن سعد الفارقي وحلفته بحق الحاكم لما وقف لها واستمع كلامها، فرحمها فوقف لها فبكت إليه بكاء شديداً مكراً وحيلة وخداعاً، وقالت له‏:‏ أيها القاضي إن لي أخا ليس لي غيره، وهو في السياق وإني أسألك بحق الحاكم عليك لما أوصلتني إلى منزله، لأنظر إليه قبل أن يفارق الدنيا، وأجرك على الله‏.‏

فرق لها القاضي رقة شديدة، وأمر رجلين كانا معه يكونان معها حتى يبلغانها إلى المنزل الذي تريده، فأغلقت بابها وأعطت المفتاح لجارتها، وذهبت معهما حتى وصلت إلى منزل معشوقها، فطرقت الباب ودخلت وقالت لهما‏:‏ اذهبا هذا منزله فإذا رجل كانت تهواه وتحبه ويهواها ويحبها، فقال لها‏:‏ كيف قدرت على الوصول إلي‏؟‏

فأخبرته بما احتالت به من الحيلة على القاضي، فأعجبه ذلك من مكرها وحيلتها، وجاء زوجها من آخر النهار فوجد بابه مغلقاً وليس في بيته أحد، فسأل الجيران عن أمرها فذكرت له جارتها ما صنعت فاستغاث على القاضي وذهب إليه وقال له‏:‏ ما أريد امرأتي إلا منك الساعة، وإلا عرفت الحاكم، فإن امرأتي ليس لها أخ بالكلية، وإنما ذهبت إلى معشوقها، فخاف القاضي من معرة هذا الأمر، فركب إلى الحاكم وبكى بين يديه، فسأله عن شأنه فأخبره بما اتفق له من الأمر مع المرأة، فأرسل الحاكم مع ذينك الرجلين من يحضر المرأة والرجل جميعاً، على أي حال كانا عليه، فوجدهما متعانقين سكارى، فسألهما الحاكم عن أمرهما فأخذا يعتذران بما لا يجدي شيئاً، فأمر بتحريق المرأة في بادية وضرب الرجل ضرباً مبرحاً حتى أتلفه، ثم ازداد احتياطاً وشدة على النساء حتى جعلهن في أضيق من جحر ضب، و لا زال هذا دأبه حتى مات‏.‏

ذكره ابن الجوزي‏.‏

وفي رجب منها ولي أبو الحسن أحمد بن أبي الشوارب قضاء الحضرة بعد موت أبي محمد الأكفاني‏.‏

وفيها‏:‏ عمّر فخر الدولة مسجد الشرقية ونصب عليه الشبابيك من الحديد‏.‏

 وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

 بكر بن شاذان بن بكر

أبو القاسم المقري الواعظ، سمع أبا بكر الشافعي، وجعفر الخلدي، وعنه الأزهري والخلال، وكان ثقة أميناً صالحاً عابداً زاهداً، له قيام ليل، وكريم أخلاق‏.‏

مات فيها عن نيف وثمانين سنة، ودفن بباب حرب‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 407‏)‏

 بدر بن حسنويه بن الحسين

أبو النجم الكردي، كان من خيار الملوك بناحية الدينور وهمدان، وله سياسة وصدقة كثيرة، كناه القادر بأبي النجم، ولقبه ناصر الدولة، وعقد له لواء وأنفذه إليه، وكانت معاملاته وبلاده في غاية الأمن والطيبة، بحيث إذا أعيى جمل أحد من المسافرين أو دابته عن حمله يتركها بما عليها في البرية فيرد عليه، ولو بعد حين لا ينقص منه شيء‏.‏

ولما عاثت أمراؤه في الأرض فساداً عمل لهم ضيافة حسنة، فقدمها إليهم ولم يأتهم بخبز، فجلسوا ينتظرون الخبز، فلما استبطاؤه سألوا عنه فقال لهم‏:‏ إذا كنتم تهلكون الحرث وتظلمون الزراع، فمن أين تؤتون بخبز‏؟‏

ثم قال لهم‏:‏ لا أسمع بأحد أفسد في الأرض بعد اليوم إلا أرقت دمه‏.‏

واجتاز مرة في بعض أسفاره برجل قد حمل حزمة حطب وهو يبكي فقال له‏:‏ مالك تبكي‏؟‏

فقال‏:‏ إني كان معي رغيفان أريد أن أتقوتهما فأخذهما مني بعض الجند‏.‏

فقال له‏:‏ أتعرفه إذا رأيته‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

فوقف به في موضع مضيق حتى مر عليه ذلك الرجل الذي أخذ رغيفيه، قال‏:‏ هذا هو، فأمر به أن ينزل عن فرسه وأن يحمل حزمته التي احتطبها حتى يبلغ بها إلى المدينة، فأراد أن يفتدي من ذلك بمال جزيل فلم يقبل منه، حتى تأدب به الجيش كلهم‏.‏

وكان يصرف كل جمعة عشرين ألف درهم على الفقراء والأرامل، وفي كل شهر عشرين ألف درهم في تكفين الموتى، ويصرف في كل سنة ألف دينار إلى عشرين نفساً يحجون عن والدته، وعن عضد الدولة، لأنه كان السبب في تمليكه، وثلاثة آلاف دينار في كل سنة إلى الحدادين والحذاءين لأجل المنقطعين من همذان وبغداد، يصلحون الأحذية ونعال دوابهم، ويصرف في كل سنة مائة ألف دينار إلى الحرمين صدقة على المجاورين، وعمارة المصانع، وإصلاح المياه في طريق الحجاز، وحفر الآبار وما اجتاز في طريقه وأسفاره بماء إلا بنى عنده قرية، وعمر في أيامه من المساجد والخانات ما ينيف على ألفي مسجد وخان، هذا كله خارجاً عما يصرف من ديوانه من الجرايات والنفقات والصدقات، والبر والصلات، على أصناف الناس من الفقهاء والقضاة والمؤذنين والأشراف، والشهود والفقراء، والمساكين والأيتام والأرامل‏.‏

وكان مع هذا كثير الصلاة والذكر، وكان له من الدواب المربوطة في سبيل الله وفي الحشر ما ينيف على عشرين ألف دابة‏.‏

توفي في هذه السنة رحمه الله عن نيف وثمانين سنة، ودفن في مشهد علي، وترك من الأموال أربعة عشر ألف بدرة، ونيفاً وأربعين بدرة، والبدرة عشرة آلاف، رحمه الله‏.‏

 الحسن بن الحسين بن حمكان

أبو علي الهمذاني، أحد الفقهاء الشافعية ببغداد، عني أولاً بالحديث فسمع منه أبو حامد المروزي، وروى عنه الأزهري وقال‏:‏ كان ضعيفاً ليس بشيء في الحديث‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 408‏)‏

 عبد الله بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم

أبو محمد الأسدي المعروف بابن الأكفاني، قاضي قضاة بغداد، ولد سنة ست عشرة وثلاثمائة، وروى عن القاضي المحاملي، ومحمد بن خلف، وابن عقدة وغيرهم، وعنه البرقاني والتنوخي، يقال‏:‏ إنه أنفق على طلب العلم مائة ألف دينار، وكان عفيفاً نزهاً، صين العرض‏.‏

توفي في هذه السنة عن خمس وثمانين سنة، ولى الحكم منها أربعين سنة نيابة واستقلالاً، رحمه الله‏.‏

 عبد الرحمن بن محمد

ابن محمد بن عبد الله بن إدريس بن سعد، الحافظ الاستراباذي المعروف بالإدريسي، رحل في طلب العلم والحديث، وعني به وسمع الأصم وغيره، وسكن سمرقند، وصنف لها تاريخاً وعرضه على الدارقطني فاستحسنه، وحدث ببغداد فسمع منه الأزهري والتنوخي، وكان ثقة حافظاً‏.‏

 أبو نصر عبد العزيز بن عمر

ابن أحمد بن نباتة الشاعر المشهور، امتدح سيف الدولة بن حمدان، أظنه أخو الخطيب ابن نباتة أو غيره، وهو القائل البيت المطروق المشهور‏:‏

ومن لم يمت بالسيف مات بغيره * تنوعت الأسباب والموت واحد

 عبد العزيز بن عمر بن محمد بن نباتة

أبو نصر السعدي الشاعر، وشعره موقوف ومن شعره قوله‏:‏

وإذا عجزت عن العدو فداره * وامزج له إن المزاج وفاق

كالماء بالنار الذي هو ضدها * يعطي النضاج وطبعها الإحراق

توفي فيها‏:‏ عبد الغفار بن عبد الرحمن أبو بكر الدينوري الفقيه السفياني، وهو آخر من كان يفتي بمذهب سفيان الثوري ببغداد، في جامع المنصور، وكان إليه النظر في الجامع والقيام بأمره، توفي فيها ودفن خلف جامع الحاكم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 409‏)‏

 الحاكم النيسابوري

صاحب ‏(‏المستدرك‏)‏ محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه، بن نعيم بن الحكم، أبو عبد الله الحاكم الضبي الحافظ، ويعرف بابن البيع، من أهل نيسابور، وكان من أهل العلم والحفظ والحديث، ولد سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، وأول سماعه من سنة ثلاثين وثلاثمائة، سمع الكثير وطاف الآفاق، وصنف الكتب الكبار والصغار، فمناه ‏(‏المستدرك على الصحيحين‏)‏، و‏(‏علوم الحديث والإكليل‏)‏، و‏(‏تاريخ نيسابور‏)‏، وقد روى عن خلق، ومن مشايخه‏:‏ الدارقطني وابن أبي الفوارس وغيرهما‏.‏

وقد كان من أهل الدين والأمانة والصيانة، والضبط، والتجرد، والورع، لكن قال الخطيب البغدادي‏:‏ كان ابن البيع يميل إلى التشيع، فحدثني أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الأرموي، قال‏:‏ جمع الحاكم أبو عبد الله أحاديث زعم أنها صحاح على شرط البخاري ومسلم، يلزمهما إخراجها في صحيحيهما، فمنها‏:‏ حديث الطير، ‏(‏‏(‏ومن كنت مولاه فعليّ مولاه‏)‏‏)‏، فأنكر عليه أصحاب الحديث ذلك ولم يلتفتوا إلى قوله ولاموه في فعله‏.‏

وقال محمد بن طاهر المقدسي‏:‏ قال الحاكم‏:‏ حديث الطير لم يخرج في الصحيح وهو صحيح‏.‏

قال ابن طاهر‏:‏ بل موضوع لا يروى إلا عن أسقاط أهل الكوفة من المجاهيل، عن أنس، فإن كان الحاكم لا يعرف هذا فهو جاهل، وإلا فهو معاند كذاب‏.‏

وقال أبو عبد الرحمن السلمي‏:‏ دخلت على الحاكم وهو مختف من الكرامية لا يستطيع أن يخرج منهم‏.‏

فقلت له‏:‏ لو خرجت حديثاً في فضائل معاوية لاسترحت مما أنت فيه‏.‏

فقال‏:‏ لا يجيء من قبلي‏.‏

توفي فيها عن أربع وثمانين سنة‏.‏

 ابن كج

وهو يوسف بن أحمد بن كج أبو القاسم القاضي، أحد أئمة الشافعية، وله في المذهب وجوه غريبة، وكانت له نعمة عظيمة جداً، وولي القضاء بالدينور لبدر بن حسنويه فلما تغيرت البلاد بعد موت بدر وثب عليه جماعة من العيارين فقتلوه ليلة سبع وعشرين من رمضان من هذه السنة‏.‏

تم الجزء الحادي عشر من البداية والنهاية ويليه الجزء الثاني عشر وأوله سنة ست وأربعمائة، وبالله التوفيق