فصل: المسائل التي سئل عنها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


قصَّة زيد بن خارجة وكلامه بعد الموت‏:‏

وشهادته بالرِّسالة لمحمد صلَّى الله عليه وسلَّم، وبالخلافة لأبي بكر الصِّديق، ثمَّ لعمر، ثمَّ لعثمان - رضي الله عنهم -

قال الحافظ أبو بكر البيهقيّ‏:‏ أنَّا أبو صالح ابن أبي طاهر العنبريّ، أنَّا جدي يحيى بن منصور القاضيّ، ثنا أبو علي بن محمد بن عمرو بن كشمرد، أنَّا القعنبيّ، أنَّا سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيّب أنَّ زيد بن خارجة الأنصاريّ ثمَّ من بني الحارث بن الخزرج توفي زمن عثمان بن عفَّان فسجي بثوبه، ثمَّ إنهم سمعوا جلجلة في صدره ثمَّ تكلَّم ثمَّ قال‏:‏ أحمد أحمد في الكتاب الأوَّل، صدق صدق أبو بكر الصِّديق الضَّعيف في نفسه القويّ في أمر الله في الكتاب الأوَّل، صدق صدق عمر بن الخطَّاب القويّ الأمين في الكتاب الأوَّل، صدق صدق عثمان بن عفَّان على منهاجهم مضت أربع وبقيت ثنتان، أتت بالفتن وأكل الشَّديد الضَّعيف، وقامت السَّاعة، وسيأتيكم عن جيشكم خبر بئر أريس، وما بئر أريس ‏؟‏

قال يحيى‏:‏ قال سعيد‏:‏ ثمَّ هلك رجل من بني خطمة فسجي بثوبه فسمع جلجلة في صدره ثمَّ تكلَّم فقال‏:‏ إنَّ أخا بني الحارث بنت الخزرج صدق صدق‏.‏

ثمَّ رواه البيهقيّ عن الحاكم، عن أبي بكر ابن إسحاق، عن موسى بن الحسن، عن القعنبيّ فذكره وقال‏:‏ هذا إسناد صحيح وله شواهد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/174‏)‏

ثمَّ ساقه من طريق أبي بكر عبد الله ابن أبي الدُّنيا في كتاب ‏(‏من عاش بعد الموت‏)‏‏:‏ حدَّثنا أبو مسلم عبد الرَّحمن بن يونس، ثنا عبد الله بن إدريس عن إسماعيل ابن أبي خالد قال‏:‏ جاء يزيد بن النعمان بن بشير إلى حلقة القاسم بن عبد الرَّحمن بكتاب أبيه النُّعمان ابن بشير - يعني‏:‏ إلى أمه - بسم الله الرَّحمن الرَّحيم؛ من النُّعمان بن بشير إلى أم عبد الله بنت أبي هاشم سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو فإنَّك كتبتِ إلي لأكتب إليك بشأن زيد بن خارجة، وأنَّه كان من شأنه أنَّه أخذه وجع في حلقه، وهو يومئذ من أصحِّ النَّاس أو أهل المدينة، فتوفي بين صلاة الأولى وصلاة العصر، فأضجعناه لظهره وغشيناه ببردين وكساء، فأتاني آت في مقامي وأنا أسبح بعد المغرب فقال‏:‏ إنَّ زيداً قد تكلم بعد وفاته فانصرفت إليه مسرعاً، وقد حضره قوم من الأنصار وهو يقول أو يقال على لسانه‏:‏ الأوسط أجلد الثَّلاثة الذي كان لا يبالي في الله لومة لائم، كان لا يأمر النَّاس أن يأكل قويَّهم ضعيفهم عبد الله أمير المؤمنين صدق صدق كان ذلك في الكتاب الأول‏.‏

ثمَّ قال‏:‏ عثمان أمير المؤمنين وهو يعافي النَّاس من ذنوب كثيرة خلت اثنتان وبقي أربع، ثمَّ اختلف النَّاس وأكل بعضهم بعضاً، فلا نظام وأبيحت الأحماء، ثمَّ ارعوى المؤمنين‏.‏

وقال‏:‏ كتاب الله وقدره أيُّها النَّاس أقبلوا على أميركم واسمعوا، وأطيعوا فمن تولى فلا يعهدنَّ دماً وكان أمر الله قدراً مقدوراً، الله أكبر هذه الجنَّة وهذه النَّار، ويقول النَّبيّون والصِّديقون‏:‏ سلام عليكم يا عبد الله بن رواحة هل أحسست لي خارجة لأبيه وسعداً اللَّذين قتلا يوم أحد‏؟‏

‏(‏‏(‏كلا إنها لظى * نزَّاعة للشَّوى * تدعو من أدبر وتولى * وجمع فأوعى‏)‏‏)‏ ثمَّ خفت صوته فسألت الرَّهط عما سبقني من كلامه‏.‏

فقالوا‏:‏ سمعناه يقول‏:‏ أنصتوا أنصتوا، فنظر بعضنا إلى بعض فإذا الصَّوت من تحت الثِّياب‏.‏

قال‏:‏ فكشفنا عن وجهه فقال‏:‏ هذا أحمد رسول الله سلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته‏.‏

ثمَّ قال‏:‏ أبو بكر الصِّديق الأمين خليفة رسول الله كان ضعيفاً في جسمه، قوياً في أمر الله صدق صدق، وكان في الكتاب الأوَّل‏.‏

ثمَّ رواه الحافظ البيهقيّ عن أبي نصر ابن قتادة، عن أبي عمرو ابن بجير، عن علي بن الحسين بن الجنيد، عن المعافى بن سليمان، عن زهير بن معاوية، عن إسماعيل ابن أبي خالد فذكره‏.‏

وقال‏:‏ هذا إسناد صحيح‏.‏

وقد روى هشام بن عمار في كتاب ‏(‏البعث‏)‏ عن الوليد بن مسلم، عن عبد الرَّحمن بن يزيد بن جابر قال‏:‏ حدَّثني عمير بن هانئ، حدَّثني النُّعمان بن بشير قال‏:‏ توفي رجل منَّا يقال له‏:‏ خارجة بن زيد، فسجينا عليه ثوباً فذكر نحو ما تقدَّم‏.‏

قال البيهقيّ‏:‏ وروي ذلك عن حبيب بن سالم، عن النعمان بن بشير وذكر بئر أريس كما ذكرنا في رواية ابن المسيّب‏.‏

قال البيهقيّ‏:‏ والأمر فيها أنَّ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم اتخذ خاتماً فكان في يده، ثمَّ كان في يد أبي بكر من بعده، ثمَّ كان في يد عمر، ثمَّ كان في يد عثمان حتى وقع منه في بئر أريس بعد ما مضى من خلافته ست سنين، فعند ذلك تغيرت عمَّاله وظهرت أسباب الفتن كما قيل على لسان زيد بن خارجة‏.‏

قلت‏:‏ وهي المرادة من قوله‏:‏ مضت اثنتان وبقي أربع، أو مضت أربع وبقي اثنتان على اختلاف الرِّواية، والله أعلم‏.‏

وقد قال البخاريّ في ‏(‏التاريخ‏)‏‏:‏ زيد بن خارجة الخزرجيّ الأنصاريّ شهد بدراً، توفي زمن عثمان وهو الذي تكلم بعد الموت‏.‏

قال البيهقيّ‏:‏ وقد روى في التَّكلم بعد الموت عن جماعة بأسانيد صحيحة، والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/175‏)‏

قال ابن أبي الدُّنيا‏:‏ ثنا خلف بن هشام البزَّار، ثنا خالد الطحَّان عن حصين، عن عبد الله بن عبيد الأنصاريّ أنَّ رجلاً من بني سلمة تكلَّم فقال‏:‏ محمد رسول الله، أبو بكر الصِّديق، عثمان اللَّين الرَّحيم‏.‏

قال‏:‏ ولا أدري أيش قال في عمر، كذا رواه ابن أبي الدُّنيا في كتابه‏.‏

وقد قال الحافظ البيهقيّ‏:‏ أنَّا أبو سعيد ابن أبي عمرو، ثنا أبو العبَّاس محمد بن يعقوب، ثنا يحيى ابن أبي طالب، أنَّا علي بن عاصم، أنَّا حصين بن عبد الرَّحمن عن عبد الله بن عبيد الأنصاريّ قال‏:‏ بينما هم يثورون القتلى يوم صفين أو يوم الجمل، إذ تكلم رجل من الأنصار من القتلى فقال‏:‏ محمد رسول الله، أبو بكر الصِّديق، عمر الشَّهيد، عثمان الرَّحيم، ثمَّ سكت‏.‏

وقال هشام بن عمار في كتاب البعث‏.‏

باب في كلام الأموات وعجائبهم‏:‏

حدَّثنا الحكم بن هشام الثقفيّ، حدَّثنا عبد الحكم بن عمير عن ربعي بن خراش العبسيّ قال‏:‏ مرض أخي الرَّبيع بن خراش فمرَّضته ثمَّ مات فذهبنا نجهِّزه فلمَّا جئنا رفع الثَّوب عن وجهه ثمَّ قال‏:‏ السَّلام عليكم‏.‏

قلنا‏:‏ وعليك السَّلام قد مِتَّ‏.‏

قال‏:‏ بلى، ولكن لقيت بعدكم ربي ولقيني بروح وريحان ورب غير غضبان، ثمَّ كساني ثياباً من سندس أخضر، وإني سألته أن يأذن لي أن أبشِّركم فأذن لي، وإنَّ الأمر كما ترون فسدِّدوا وقاربوا، وبشِّروا ولا تنفِّروا، فلمَّا قالها كانت كحصاة وقعت في ماء‏.‏

ثمَّ أورد بأسانيد كثيرة في هذا الباب، وهي آخر كتابه‏.‏

حديث غريب جداً‏:‏

قال البيهقيّ‏:‏ أنَّا علي بن أحمد بن عبدان، ثنا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا محمد بن يونس الكديميّ، ثنا شاصونة بن عبيد أبو محمد اليمانيّ وانصرفنا من عدن بقرية يقال لها‏:‏ الحردة، حدَّثني معرض بن عبد الله بن معرض بن معيقيب اليمانيّ عن أبيه، عن جدِّه قال‏:‏ حججت حجَّة الوداع فدخلت داراً بمكة فرأيت فيها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ووجهه مثل دارة القمر، وسمعت منه عجباً، جاءه رجل بغلام يوم ولد‏.‏

فقال له رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏من أنا‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ أنت رسول الله‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏صدقت، بارك الله فيك‏)‏‏)‏‏.‏

ثمَّ قال‏:‏ إنَّ الغلام لم يتكلم بعد ذلك حتى شبَّ‏.‏

قال أبي‏:‏ فكنَّا نسميه مبارك اليمامة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/176‏)‏

قال شاصونة‏:‏ وقد كنت أمرُّ على معمر فلا أسمع منه‏.‏

قلت‏:‏ هذا الحديث مما تكلَّم النَّاس في محمد ابن يونس الكديمي بسببه، وأنكروه عليه واستغربوا شيخه هذا، وليس هذا مما ينكر عقلاً ولا شرعاً‏.‏

فقد ثبت في الصَّحيح في قصَّة جريج العابد أنَّه استنطق ابن تلك البغي فقال له‏:‏ يا أبا يونس ابن من أنت ‏؟‏

قال‏:‏ ابن الرَّاعي، فعلم بنو إسرائيل براءة عرض جريج مما كان نسب إليه‏.‏

وقد تقدَّم ذلك على أنَّه قد روي هذا الحديث من غير طريق الكديميّ إلا أنَّه بإسناد غريب أيضاً‏.‏

قال البيهقيّ‏:‏ أنَّا أبو سعد عبد الملك ابن أبي عثمان الزَّاهد، أنَّا أبو الحسين محمد بن أحمد ابن جميع الغسانيّ - بثغر صيدا -، ثنا العبَّاس بن محبوب بن عثمان بن عبيد أبو الفضل، ثنا أبي، ثنا جدِّي شانوصة بن عبيد، حدَّثني معرض بن عبد الله بن معيقيب عن أبيه، عن جدِّه قال‏:‏ حججت حجَّة الوداع فدخلت داراً بمكة فرأيت فيها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وجهه كدارة القمر فسمعت منه عجباً، أتاه رجل من أهل اليمامة بغلام يوم ولد وقد لفَّه في خرقة‏.‏

فقال له رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏يا غلام من أنا‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ أنت رسول الله‏.‏

فقال له‏:‏ ‏(‏‏(‏بارك الله فيك‏)‏‏)‏‏.‏

ثم إنَّ الغلام لم يتكلَّم بعدها‏.‏

قال البيهقيّ‏:‏ وقد ذكره شيخنا أبو عبد الله الحافظ عن أبي الحسن علي بن العبَّاس الورَّاق، عن أبي الفضل أحمد بن خلف بن محمد المقريّ القزوينيّ، عن أبي الفضل العبَّاس بن محمد بن شاصونة به‏.‏

قال الحاكم‏:‏ وقد أخبرني الثِّقة من أصحابنا عن أبي عمر الزاهد قال‏:‏ لما دخلت اليمن دخلت حردة فسألت عن هذا الحديث، فوجدت فيها لشاصونة عقباً وحملت إلى قبره فزرته‏.‏

قال البيهقيّ‏:‏ ولهذا الحديث أصل من حديث الكوفيين بإسناد مرسل يخالفه في وقت الكلام‏.‏

ثمَّ أورد من حديث وكيع عن الأعمش، عن شمر بن عطية، عن بعض أشياخه أنَّ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أُتي بصبي قد شبَّ لم يتكلم قط‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من أنا‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ أنت رسول الله‏.‏

ثمَّ روى عن الحاكم، عن الأصمّ، عن أحمد بن عبد الجبَّار، عن يونس بن بكير، عن الأعمش، عن شمر بن عطية، عن بعض أشياخه قال‏:‏ جاءت امرأة بابن لها قد تحرك فقالت‏:‏ يا رسول الله إنَّ ابني هذا لم يتكلم منذ وُلد‏.‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏أدنيه مني‏)‏‏)‏ فأدنته منه‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏من أنا‏؟‏‏)‏‏)‏

فقال‏:‏ أنت رسول الله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/177‏)‏

 قصَّة الصَّبيّ الذي كان يصرع فدعا له عليه السلام فبرأ‏:‏

قد تقدَّم ذلك من رواية أسامة بن زيد، وجابر بن عبد الله، ويعلى بن مرة الثقفيّ، مع قصَّة الجمل الحديث بطوله‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا يزيد، ثنا حماد بن سلمة عن فرقد السنجيّ، عن سعيد بن جبير بن عبَّاس أنَّ امرأة جاءت بولدها إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقالت‏:‏ يا رسول الله إنَّ به لمماً وإنَّه يأخذه عند طعامنا فيفسد علينا طعامنا‏.‏

قال‏:‏ فمسح رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم صدره ودعا له، فثع ثعة فخرج منه مثل الجرو الأسود يسعى‏.‏

تفرَّد به أحمد، وفرقد السَّنجيّ رجل صالح ولكنَّه سيء الحفظ، وقد روى عنه شعبة وغير واحد، واحتمل حديثه، ولما رواه ههنا شاهد مما تقدَّم، والله أعلم‏.‏

وقد تكون هذه القصَّة هي كما سبق إيرادها، ويحتمل أن تكون أخرى غيرها، والله أعلم‏.‏

حديث آخر في ذلك‏:‏

قال أبو بكر البزَّار‏:‏ ثنا محمد بن مرزوق، ثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا صدقة - يعني‏:‏ ابن موسى - ثنا فرقد - يعني‏:‏ السنجيّ - عن سعيد بن جبير، عن ابن عبَّاس قال‏:‏ كان النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم بمكة فجاءته امرأة من الأنصار فقالت‏:‏ يا رسول الله إنَّ هذا الخبيث قد غلبني‏.‏

فقال لها‏:‏ ‏(‏‏(‏إن تصبري على ما أنت عليه تجيئين يوم القيامة ليس عليك ذنوب ولا حساب‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ والذي بعثك بالحق لأصبرنَّ حتى ألقى الله‏.‏

قالت‏:‏ إني أخاف الخبيث أن يجردني، فدعا لها، فكانت إذا خشيت أن يأتيها تأتي أستار الكعبة فتعلق بها وتقول له‏:‏ إخسأ، فيذهب عنها‏.‏

قال البزَّار‏:‏ لا نعلمه يروى بهذا اللفظ إلا من هذا الوجه، وصدقة ليس به بأس، وفرقد حدَّث عنه جماعة من أهل العلم منهم شعبة وغيره، واحتمل حديثه على سوء حفظه فيه‏.‏

طريق أخرى عن ابن عبَّاس‏:‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا يحيى بن عمران أبي بكر، ثنا عطاء ابن أبي رباح قال‏:‏ قال لي ابن عبَّاس‏:‏ ألا أريك امرأة من أهل الجنَّة ‏؟‏

قلت‏:‏ بلى‏.‏

قال‏:‏ هذه السَّوداء أتت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقالت‏:‏ إني أصرع وأنكشف، فادع الله لي‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن شئت صبرت ولك الجنَّة، وإن شئت دعوت الله لك أن يعافيك‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ لا بل أصبر فادع الله ألا أنكشف ولا ينكشف عني‏.‏

قال‏:‏ فدعا لها‏.‏

وهكذا رواه البخاريّ عن مسدد، عن يحيى - وهو ابن سعيد القطان -‏.‏

وأخرجه مسلم عن القواريريّ، عن يحيى القطَّان وبشر بن الفضل، كلاهما عن عمران بن مسلم أبي بكر الفقيه البصري، عن عطاء ابن أبي رباح، عن ابن عبَّاس فذكر مثله‏.‏

ثمَّ قال البخاريّ‏:‏ حدَّثنا محمد، ثنا مخلد عن ابن جريح قال‏:‏ أخبرني عطاء أنَّه رأى أم زفر تلك امرأة طويلة سوداء على ستر الكعبة‏.‏

وقد ذكر الحافظ ابن الأثير في ‏(‏الغابة‏)‏‏:‏ أنَّ أم زفر هذه كانت مشاطة خديجة بنت خويلد قديماً، وأنها عمَّرت حتى أدركها عطاء ابن أبي رباح، فالله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/178‏)‏

حديث آخر‏:‏

قال البيهقيّ‏:‏ أنَّا علي بن أحمد بن عبدان، أنَّا أحمد بن عبيد، ثنا محمد بن يونس، ثنا قرة بن حبيب الغويّ، ثنا إياس ابن أبي تميمة عن عطاء، عن أبي هريرة قال‏:‏ جاءت الحمَّى إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقالت‏:‏ يا رسول الله إبعثني إلى أحبِّ قومك إليك، أو أحبِّ أصحابك إليك - شكَّ قرة -‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إذهبي إلى الأنصار‏)‏‏)‏‏.‏

فذهبت إليهم فصرعتهم، فجاؤا إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقالوا‏:‏ يا رسول الله قد أتت الحمَّى علينا فادع الله لنا بالشِّفاء، فدعا لهم فكشفت عنهم‏.‏

قال‏:‏ فاتبعته امرأة فقالت‏:‏ يا رسول الله أدع الله لي فإن لمن الأنصار فادع الله لي كما دعوت لهم‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أيُّهما أحبُّ إليك أن أدعو لك فيكشف عنك، أو تصبرين وتجب لك الجنَّة‏)‏‏)‏‏.‏

فقالت‏:‏ لا والله يا رسول الله بل أصبر ثلاثاً ولا أجعل والله لجنته خطراً‏.‏

محمد بن يونس الكديميّ ضعيف‏.‏

وقد قال البيهقيّ‏:‏ أنَّا علي بن أحمد بن عبدان، أنَّا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، ثنا أبي، ثنا هشام ابن لاحق - سنة خمس وثمانين ومائة -، ثنا عاصم الأحول عن أبي عثمان النهديّ، عن سلمان الفارسيّ قال‏:‏ استأذنت الحمَّى على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏من أنت‏؟‏‏)‏‏)‏

قالت‏:‏ أنا الحمَّى أبري اللَّحم وأمص الدَّم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إذهبي إلى أهل قباء‏)‏‏)‏‏.‏

فأتتهم فجاءوا إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقد اصفرت وجوههم فشكوا إليه الحمَّى‏.‏

فقال لهم‏:‏ ‏(‏‏(‏ما شئتم‏؟‏ إن شئتم دعوت الله فيكشف عنكم، وإن شئتم تركتموها فأسقطت ذنوبكم‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ بل ندعها يا رسول الله‏.‏

وهذا الحديث ليس هو في مسند الإمام أحمد، ولم يروه أحد من أصحاب الكتب السِّتة، وقد ذكرنا في أول الهجرة دعاءه عليه السلام لأهل المدينة أن يذهب حماها إلى الجحفة فاستجاب الله له ذلك، فإنَّ المدينة كانت من أوبأ أرض الله فصحَّحها الله ببركة حلوله بها، ودعائه لأهلها - صلوات الله وسلامه عليه -‏.‏

حديث آخر في ذلك‏:‏

قال الإمام أحمد‏:‏ ثنا روح، ثنا شعبة عن أبي جعفر المدينيّ سمعت عمارة بن خزيمة بن ثابت يحدِّث عن عثمان بن حنيف أنَّ رجلاً ضريراً أتى النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقال‏:‏ يا رسول الله أدع الله أن يعافيني‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن شئت أخَّرت ذلك فهو أفضل لآخرتك، وإن شئت دعوت له‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ لا بل أدع الله لي‏.‏

قال‏:‏ فأمره أن يتوضَّأ ويصلي ركعتين، وأن يدعو بهذا الدُّعاء‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرَّحمة، يا محمد إني أتوجه بك في حاجتي هذه فتقضي وتشفعني فيه وتشفعه فيَّ‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فكان يقول هذا مراراً ثمَّ قال بعد‏:‏ أحسب أنَّ فيها أن تشفعني فيه‏.‏

قال‏:‏ ففعل الرَّجل فبرأ‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/179‏)‏

وقد رواه أحمد أيضاً عن عثمان بن عمرو، عن شعبة به‏.‏

وقال‏:‏ اللَّهم شفِّعه فيَّ، ولم يقل الأخرى وكأنها غلط من الرَّاوي، والله أعلم‏.‏

وهكذا رواه التّرمذيّ والنسائي عن محمود بن غيلان، وابن ماجه عن أحمد بن منصور بن سيار، كلاهما عن عثمان بن عمرو‏.‏

وقال التّرمذيّ‏:‏ حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من حديث ابن جعفر الخطميّ‏.‏

ثمَّ رواه أحمد أيضاً عن مؤمل بن حماد بن سلمة ابن أبي جعفر الخطميّ، عن عمارة بن خزيمة، عن عثمان بن حنيف فذكر الحديث‏.‏

وهكذا رواه النَّسائيّ عن محمد بن معمر، عن حبان، عن حماد بن سلمة به‏.‏

رواه النَّسائيّ عن زكريا بن يحيى، عن محمد بن المثنى، عن معاذ بن هشام، عن أبيه، عن أبي جعفر، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن عمه عثمان بن حنيف، وهذه الرِّواية تخالف ما تقدم، ولعلَّه عند أبي جعفر الخطميّ من الوجهين، والله أعلم‏.‏

وقد روى البيهقيّ والحاكم من حديث يعقوب بن سفيان عن أحمد بن شبيب، عن سعيد الحنطبيّ، عن أبيه، عن روح بن القاسم، عن أبي جعفر المدينيّ، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن عمِّه عثمان بن حنيف قال‏:‏ سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وجاءه رجل ضرير فشكا إليه ذهاب بصره فقال‏:‏ يا رسول الله ليس لي قائد وقد شقَّ عليَّ‏.‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إئت الميضأة فتوضأ، ثمَّ صلِّ ركعتين، ثمَّ قل‏:‏ اللَّهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرَّحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فينجلي بصري، اللَّهم فشفِّعه فيَّ وشفِّعني في نفسيّ‏)‏‏)‏‏.‏

قال عثمان‏:‏ فوالله ما تفرَّقنا ولا طال الحديث بنا حتَّى دخل الرَّجل كأنَّه لم يكن به ضرّ قط‏.‏

قال البيهقيّ‏:‏ ورواه أيضاً هشام الدستوائيّ عن أبي جعفر، عن أبي أمامة بن سهل، عن عمه عثمان بن حنيف‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/180‏)‏

حديث آخر‏:‏

قال أبو بكر ابن أبي شيبة‏:‏ ثنا محمد بن بشر، ثنا عبد العزيز بن عمر، حدَّثني رجل من بني سلامان وبني سعد عن أبيه، عن خاله، أو أن خاله، أو خالها حبيب بن مريط، حدَّثها أنَّ أباه خرج إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وعيناه مبيضَّتان لا يبصر بهما شيئاً أصلاً‏.‏

فسأله‏:‏ ‏(‏‏(‏ما أصابك‏؟‏‏)‏‏)‏

فقال‏:‏ كنت أرعى جملاً لي فوقعت رجلي على بطن حية فأصبت ببصري‏.‏

قال‏:‏ فنفث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في عينيه فأبصر، فرأيته وإنَّه ليدخل الخيط في الإبرة، وإنَّه لابن ثمانين سنة، وإن عينيه لمبيضَّتان‏.‏

قال البيهقيّ‏:‏ كذا في كتابه، وغيره يقول‏:‏ حبيب بن مدرك‏.‏

قال‏:‏ وقد مضى في هذا المعنى حديث قتادة بن النّعمان أنَّه أصيبت عينه فسالت حدقته فردَّها رسول الله إلى موضعها، فكان لا يدري أيّهما أصيبت‏.‏

قلت‏:‏ وقد تقدَّم ذلك في غزوة أحد، وقد ذكرنا في مقتل أبي رافع مسحه بيده الكريمة على رجل جابر بن عتيك - وقد انكسر ساقه - فبرأ من ساعته‏.‏

وذكر البيهقيّ بإسناده‏:‏ أنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم مسح يد محمد بن حاطب - وقد احترقت يده بالنَّار - فبرأ من ساعته‏.‏

وأنَّه عليه السلام نفث في كفّ شرحبيل الجعفيّ فذهبت من كفه سلعة كانت به‏.‏

قلت‏:‏ وتقدَّم في غزوة خيبر تفله في عينيّ علي وهو أمرد فبرأ‏.‏

وروى التّرمذيّ عن علي حديثه في تعليمه عليه السلام ذلك الدُّعاء لحفظ القرآن فحفظه‏.‏

وفي الصَّحيح أنَّه قال لأبي هريرة وجماعة‏:‏ ‏(‏‏(‏من يبسط رداءه اليوم فإنَّه لا ينسى شيئاً من مقالتي‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فبسطته، فلم أنْسَ شيئاً من مقالته تلك‏.‏

فقيل‏:‏ كان ذلك حفظاً من أبي هريرة لكل ما سمعه منه في ذلك اليوم‏.‏

وقيل‏:‏ وفي غيره، فالله أعلم‏.‏

ودعا لسعد ابن أبي وقاص فبرأ‏.‏

وروى البيهقيّ‏:‏ أنَّه دعا لعمِّه أبي طالب في مرضة مرضها وطلب من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن يدعو له ربَّه فبرأ من ساعته‏.‏

والأحاديث في هذا كثيرة جداً يطول استقصاؤها‏.‏

وقد أورد البيهقيّ من هذا النوع كثيراً طيباً أشرنا إلى أطراف منه، وتركنا أحاديث ضعيفة الإسناد واكتفينا بما أوردنا عما تركنا، وبالله المستعان‏.‏

حديث آخر‏:‏

ثبت في الصَّحيحين من حديث زكريا ابن أبي زائدة زاد مسلم والمغيرة، كلاهما عن شراحيل الشعبيّ، عن جابر بن عبد الله أنَّه كان يسير على جمل قد أعيا فأراد أن يسيبه‏.‏

قال‏:‏ فلحقني رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فضربه ودعا لي، فسار سيراً لم يسر مثله‏.‏

وفي رواية‏:‏ فما زال بين يدي الإبل قدَّامها حتى كنت أحبس خطامه فلا أقدر عليه‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏كيف ترى جملك‏؟‏‏)‏‏)‏

فقلت‏:‏ قد أصابته بركتك يا رسول الله‏.‏

ثمَّ ذكر أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم اشتراه منه، واختلف الرُّواة في مقدار ثمنه على روايات كثيرة، وأنَّه استثنى حملانه إلى المدينة، ثمَّ لما قدم المدينة جاءه بالجمل فنقده ثمنه وزاده، ثمَّ أطلق له الجمل أيضاً، الحديث بطوله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/181‏)‏

حديث آخر‏:‏

روى البيهقيّ واللفظ له وهو في صحيح البخاري من حديث حسن بن محمد المروزيّ عن جرير ابن حازم، عن محمد بن سيرين، عن أنس بن مالك قال‏:‏ فزع النَّاس فركب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فرساً لأبي طلحة بطيئاً ثمَّ خرج يركض وحده، فركب النَّاس يركضون خلف رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لن تراعوا إنَّه لبحر‏)‏‏)‏ فوالله ما سبق بعد ذلك اليوم‏.‏

حديث آخر‏:‏

قال البيهقيّ‏:‏ أنَّا أبو بكر القاضي، أنَّا حامد بن محمد الهرويّ، ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا محمد بن عبد الله الرقاشيّ، ثنا رافع بن سلمة بن زياد، حدَّثني عبد الله ابن أبي الجعد عن جعيل الأشجعيّ قال‏:‏ غزوت مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في بعض غزواته وأنا على فرس لي عجفاء ضعيفة‏.‏

قال‏:‏ فكنت في أخريات النَّاس فلحقني رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏سر يا صاحب الفرس‏)‏‏)‏‏.‏

فقلت‏:‏ يا رسول الله عجفاء ضعيفة‏.‏

قال‏:‏ فرفع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مخفقة معه فضربها بها وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم بارك له‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فلقد رأيتني أمسك برأسها أن تقدَّم النَّاس، ولقد بعت من بطنها باثني عشر ألفاً‏.‏

ورواه النَّسائيّ عن محمد بن رافع، عن محمد بن عبد الله الرقاشيّ فذكره‏.‏

وهكذا رواه أبو بكر ابن أبي خيثمة عن عبيد بن يعيش، عن زيد بن الخبَّاب، عن رافع بن سلمة الأشجعيّ فذكره‏.‏

وقال البخاري في ‏(‏التَّاريخ‏)‏‏:‏ وقال رافع بن زياد بن الجعد ابن أبي الجعد‏:‏ حدَّثني أبي عبد الله ابن أبي الجعد أخي سالم، عن جعيل فذكره‏.‏

حديث آخر‏:‏

قال البيهقيّ‏:‏ أنَّا أبو الحسين ابن الفضل القطَّان ببغداد، أنَّا أبو سهل بن زياد القطَّان، ثنا محمد بن شاذان الجوهريّ، حدَّثنا زكريا بن عدي، ثنا مروان بن معاوية عن يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال‏:‏ جاء رجل إلى النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقال‏:‏ إني تزوجت امرأة‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏هلا نظرت إليها‏؟‏ فإنَّ في أعين الأنصار شيئاً‏)‏‏)‏

قال‏:‏ قد نظرت إليها‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏على كم تزوجتها‏؟‏‏)‏‏)‏ فذكر شيئاً‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏كأنهم ينحتون الذَّهب والفضة من عرض هذه الجبال، ما عندنا اليوم شيء نعطيكه ولكن سأبعثك في وجه تصيب فيه، فبعث بعثاً إلى بني عبس وبعث الرَّجل فيهم‏)‏‏)‏‏.‏

فأتاه فقال‏:‏ يا رسول الله أعيتني ناقتي أن تنبعث‏.‏

قال‏:‏ فناوله رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يده كالمعتمد عليه للقيام فأتاها فضربها برجله‏.‏

قال أبو هريرة‏:‏ والذي نفسي بيده لقد رأيتها تسبق به القائد‏.‏

رواه مسلم في الصَّحيح عن يحيى بن معين، عن مروان‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/182‏)‏

حديث آخر‏:‏

قال البيهقيّ‏:‏ أنَّا أبو زكريا ابن أبي إسحاق المزنيّ، أنَّا أبو عبد الله محمد بن يعقوب، ثنا أبو أحمد محمد بن عبد الوهاب، أنَّا أبو جعفر بن عون، أنَّا الأعمش عن مجاهد أنَّ رجلاً اشترى بعيراً فأتى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال‏:‏ إني اشتريت بعيراً فادع الله أن يبارك لي فيه‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم بارك له فيه‏)‏‏)‏‏.‏

فلم يلبث إلا يسيراً أن نفق، ثمَّ اشترى بعيراً آخر فأتى به رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال‏:‏ إني اشتريت بعيراً فادع الله أن يبارك لي فيه‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم بارك له فيه‏)‏‏)‏‏.‏

فلم يلبث حتى نفق، ثمَّ اشترى بعيراً آخر فأتى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال‏:‏ يا رسول الله قد اشتريت بعيرين فدعوت الله أن يبارك لي فيهما فادع الله أن يحملني عليه‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم احمله عليه‏)‏‏)‏ فمكث عنده عشرين سنة‏.‏

قال البيهقيّ‏:‏ وهذا مرسل ودعاؤه عليه السلام صار إلى أمر الآخرة في المرتين الأوَّليين‏.‏

حديث آخر‏:‏

قال الحافظ البيهقيّ‏:‏ أنَّا أبو عبد الرَّحمن السلميّ، أنَّا إسماعيل بن عبد الله الميكاليّ، ثنا علي بن سعد العسكريّ، أنَّا أبو أمية عبد الله بن محمد بن خلاد الواسطيّ، ثنا يزيد بن هارون، أنَّا المستلم بن سعيد، ثنا خبيب بن عبد الرَّحمن بن خبيب بن أساف عن أبيه، عن جدِّه حبيب بن أساف قال‏:‏ أتيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنا ورجل من قومي في بعض مغازيه فقلنا‏:‏ إنَّا نشتهي أن نشهد معك مشهداً‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أسلمتم‏؟‏‏)‏‏)‏

قلنا‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فإنَّا لا نستعين بالمشركين على المشركين‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فأسلمنا، وشهدت مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فأصابتني ضربة على عاتقي فجافتني فتعلقت يدي، فأتيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فتفل فيها وألزقها فالتأمت وبرأت، وقتلت الذي ضربني، ثمَّ تزوجت ابنة الذي قتلته وضربني فكانت تقول‏:‏ لا عدمت رجلاً وشَّحك هذا الوشاح‏.‏

فأقول‏:‏ لا عدمت رجلاً أعجل أباك إلى النَّار‏.‏

وقد روى الإمام أحمد هذا الحديث عن يزيد بن هارون بإسناده مثله، ولم يذكر‏:‏ فتفل فيها فبرأت‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/183‏)‏

حديث آخر‏:‏

ثبت في الصَّحيحين من حديث أبي النضر هاشم بن القاسم عن ورقاء بن عمر السكريّ، عن عبد الله بن يزيد، عن ابن عباس قال‏:‏ أتى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الخلاء فوضعت له وضوءاً فلمَّا خرج قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من صنع هذا‏؟‏‏)‏‏)‏

قالوا‏:‏ ابن عبَّاس‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم فقِّهه في الدِّين‏)‏‏)‏‏.‏

وروى البيهقيّ عن الحاكم وغيره، عن الأصمّ، عن عبَّاس الدورقيّ، عن الحسن بن موسى الأشيب، عن زهير، عن عبد الله بن عثمان بن خيثم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبَّاس أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وضع يده على كتفي - أو قال‏:‏ منكبي شكَّ سعيد - ثمَّ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم فقِّهه في الدِّين وعلِّمه التأويل‏)‏‏)‏‏.‏

وقد استجاب الله لرسوله صلَّى الله عليه وسلَّم هذه الدَّعوة في ابن عمه، فكان إماماً يهتدى بهداه ويقتدى بسناه في علوم الشَّريعة، ولا سيما في علم التأويل وهو التَّفسير فإنَّه انتهت إليه علوم الصَّحابة قبله، وما كان عقله من كلام ابن عمه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

وقد قال الأعمش عن أبي الضُّحى، عن مسروق قال‏:‏ قال عبد الله بن مسعود‏:‏ لو أنَّ ابن عبَّاس أدرك أسناننا ما عاشره أحد منَّا‏.‏

وكان يقول لهم‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم ترجمان القرآن ابن عبَّاس‏)‏‏)‏‏.‏

هذا وقد تأخَّرت وفاة ابن عبَّاس عن وفاة عبد الله بن مسعود ببضع وثلاثين سنة فما ظنَّك بما حصَّله بعده في هذه المدَّة‏؟‏

وقد روينا عن بعض أصحابه أنَّه قال‏:‏ خطب النَّاس ابن عبَّاس في عشية عرفة ففسَّر لهم سورة البقرة - أو قال‏:‏ سورة - ففسرها تفسيراً لو سمعه الرُّوم والتُّرك والدَّيلم لأسلموا - رضي الله عنه وأرضاه -‏.‏

حديث آخر‏:‏

ثبت في الصَّحيح أنَّه عليه السلام دعا لأنس بن مالك بكثرة المال والولد‏.‏

فكان كذلك حتى روى التّرمذيّ عن محمود بن غيلان، عن أبي داود الطَّيالسيّ، عن أبي خلدة قال‏:‏ قلت لأبي العالية‏:‏ سمع أنس من النَّبيّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ‏؟‏

فقال‏:‏ خدمه عشر سنين، ودعا له، وكان له بستان يحمل في السَّنة الفاكهة مرتين، وكان فيه ريحان يجيء منه ريح المسك‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/184‏)‏

وقد روينا في الصَّحيح‏:‏ أنَّه ولد له لصلبه قريب من مائة أو ما ينيف عليها‏.‏

وفي رواية‏:‏ أنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم أطل عمره‏)‏‏)‏ فعمَّر مائة‏.‏

وقد دعا صلَّى الله عليه وسلَّم لأم سليم، ولأبي طلحة في غابر ليلتهما فولدت له غلاماً سمَّاه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عبد الله، فجاء من صلبه تسعة كلهم قد حفظ القرآن، ثبت ذلك في الصَّحيح‏.‏

وثبت في صحيح مسلم من حديث عكرمة بن عمار عن أبي كثير الغبريّ، عن أبي هريرة أنَّه سأل من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن يدعو لأمه فيهديها الله، فدعا لها، فذهب أبو هريرة فوجد أمه تغتسل خلف الباب فلمَّا فرغت قالت‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فجعل أبو هريرة يبكي من الفرح، ثمَّ ذهب فأعلم بذلك رسول الله وسأل منه أن يدعو لهما أن يحببهما الله إلى عباده المؤمنين، فدعا لهما فحصل ذلك‏.‏

قال أبو هريرة‏:‏ فليس مؤمن ولا مؤمنة إلا وهو يحبنا، وقد صدق أبو هريرة في ذلك - رضي الله عنه وأرضاه -‏.‏

ومن تمام هذه الدعوة أنَّ الله شهر ذكره في أيام الجمع حيث يذكره النَّاس بين يدي خطبة الجمعة، وهذا من التقييض القدريّ والتقدير المعنوي‏.‏

وثبت في الصَّحيح أنَّه عليه السلام دعا لسعد ابن أبي وقَّاص وهو مريض فعوفي، ودعا له أن يكون مجاب الدَّعوة فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم أجب دعوته، وسدد رميته‏)‏‏)‏ فكان كذلك، فنعم أمير السَّرايا والجيوش كان‏.‏

وقد دعا على أبي سعدة أسامة بن قتادة حين شهد فيه بالزُّور بطول العمر، وكثرة الفقر، والتَّعرض للفتن، فكان ذلك، فكان إذا سئل ذلك الرَّجل يقول‏:‏ شيخ كبير مفتون، أصابتني دعوة سعد‏.‏

وثبت في صحيح البخاريّ وغيره‏:‏ أنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم دعا للسَّائب بن يزيد، ومسح بيده على رأسه فطال عمره حتى بلغ أربعاً وتسعين سنة، وهو تام القامة معتدل، ولم يشب منه موضع أصابت يد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ومتِّع بحواسه وقواه‏.‏

وقال أحمد‏:‏ ثنا جرير بن عمير، ثنا عروة بن ثابت، ثنا علي بن أحمد، حدَّثني أبو زيد الأنصاريّ قال‏:‏ قال لي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏أدن منيّ‏)‏‏)‏ فمسح بيده على رأسي ثمَّ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم جمِّله وأدم جماله‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فبلغ بضعاً ومائة - يعني‏:‏ سنة - وما في لحيته بياض إلا نبذة يسيرة، ولقد كان منبسط الوجه لم ينقبض وجهه حتى مات، قال السهيليّ‏:‏ إسناد صحيح موصول‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/185‏)‏

ولقد أورد البيهقيّ لهذا نظائر كثيرة في هذا المعنى تشفي القلوب، وتحصِّل المطلوب‏.‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا عارم، ثنا معتمر، وقال‏:‏ يحيى بن معين، ثنا عبد الأعلى، ثنا معتمر - هو ابن سليمان - قال‏:‏ سمعت أبي يحدّث عن أبي العلاء قال‏:‏ كنت عند قتادة بن ملحان في موضعه الذي مات فيه‏.‏

قال‏:‏ فمرَّ رجل في مؤخر الدَّار‏.‏

قال‏:‏ فرأيته في وجه قتادة‏.‏

وقال‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قد مسح وجهه‏.‏

قال‏:‏ وكنت قبل ما رأيته إلا ورأيت كأن على وجهه الدِّهان‏.‏

وثبت في الصَّحيحين أنَّه عليه السلام دعا لعبد الرَّحمن بن عوف بالبركة حين رأى عليه ذلك الدِّرع من الزَّعفران لأجل العرس، فاستجاب الله لرسوله صلَّى الله عليه وسلَّم ففتح له في المتجر والمغانم حتى حصل له مال جزيل بحيث أنَّه لما مات صولحت امرأة من نسائه الأربع عن ربع الثمن على ثمانين ألفاً‏.‏

وثبت في الحديث من طريق شبيب بن غرقد أنَّه سمع الحيّ يخبرون عن عروة ابن أبي الجعد المازنيّ أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أعطاه ديناراً ليشتري له به شاة، فاشترى شاتين وباع إحداهما بدينار، وأتاه بشاة ودينار فقال له‏:‏ ‏(‏‏(‏بارك الله لك في صفقة يمينك‏)‏‏)‏‏.‏

وفي رواية‏:‏ فدعا له بالبركة في البيع فكان لو اشترى التُّراب لربح فيه‏.‏

وقال البخاريّ‏:‏ ثنا عبد الله بن يوسف، أنَّا ابن وهب، ثنا سعيد ابن أبي أيوب عن أبي عقيل أنَّه كان يخرج به جده عبد الله بن هشام إلى السُّوق فيشتري الطَّعام فيلقاه ابن الزبير وابن عمر فيقولان‏:‏ أشركنا في بيعك فإنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قد دعا لك بالبركة، فيشركهم فربما أصاب الرَّاحلة كما هي فبعث بها إلى المنزل‏.‏

وقال البيهقيّ‏:‏ أنَّا أبو سعد الماليني، أنَّا ابن عديّ، ثنا علي بن محمد بن سليمان الحليميّ، ثنا محمد بن يزيد المستمليّ، ثنا سبابة بن عبد الله، ثنا أيوب بن سيار عن محمد بن المنكدر، عن جابر، عن أبي بكر، عن بلال قال‏:‏ أذَّنت في غداة باردة فخرج النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فلم يرَ في المسجد واحداً فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أين النَّاس‏؟‏‏)‏‏)‏

فقلت‏:‏ منعهم البرد‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم أذهب عنهم البرد‏)‏‏)‏‏.‏

فرأيتهم يتروحون‏.‏

ثمَّ قال البيهقيّ‏:‏ تفرَّد به أيوب بن سيار، ونظيره قد مضى في الحديث المشهور عن حذيفة في قصَّة الخندق‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/186‏)‏

حديث آخر‏:‏

قال البيهقيّ‏:‏ أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنَّا عبد العزيز بن عبد الله عن محمد بن عبد الله الأصبهانيّ إملاءً، أنَّا أبو إسماعيل التّرمذيّ محمد بن إسماعيل، ثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي، ثنا علي ابن أبي عليّ اللهبيّ عن أبي ذئب، عن نافع، عن ابن عمر أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم خرج وعمر بن الخطَّاب معه، فعرضت له امرأة فقالت‏:‏ يا رسول الله إني امرأة مسلمة محرمة ومعي زوج لي في بيتي مثل المرأة‏.‏

فقال لها رسول الله‏:‏ ‏(‏‏(‏إدعي لي زوجك‏)‏‏)‏‏.‏

فدعته، وكان خرَّازاً فقال له‏:‏ ‏(‏‏(‏ما تقول في امرأتك يا عبد الله‏؟‏‏)‏‏)‏

فقال الرَّجل‏:‏ والذي أكرمك ما جفَّ رأسي منها‏.‏

فقالت امرأته‏:‏ جاء مرة واحدة في الشَّهر‏.‏

فقال لها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏أتبغضينه‏؟‏‏)‏‏)‏

قالت‏:‏ نعم‏.‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏أدنيا رءوسكما‏)‏‏)‏ فوضع جبهتها على جبهة زوجها ثمَّ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم ألّف بينهما وحبب أحدهما إلى صاحبه‏)‏‏)‏ ثمَّ مرَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بسوق النَّمط ومعه عمر بن الخطَّاب فطلعت المرأة تحمل أدماً على رأسها، فلمَّا رأت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم طرحته وأقبلت فقبَّلت رجليه‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏كيف أنت وزوجك‏؟‏‏)‏‏)‏

فقالت‏:‏ والذي أكرمك ما طارف ولا تالد أحب إلي منه‏.‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏أشهد أني رسول الله‏)‏‏)‏

فقال عمر‏:‏ وأنا أشهد أنَّك رسول الله‏.‏

قال أبو عبد الله‏:‏ تفرَّد به علي بن علي اللهبي، وهو كثير الرِّواية للمناكير‏.‏

قال البيهقيّ‏:‏ وقد روى يوسف بن محمد بن المنكدر عن أبيه، عن جابر بن عبد الله - يعني‏:‏ هذه القصَّة - إلا أنَّه لم يذكر عمر بن الخطَّاب‏.‏

حديث آخر‏:‏

قال أبو القاسم البغويّ‏:‏ ثنا كامل بن طلحة، ثنا حماد بن سلمة، ثنا علي بن زيد بن جدعان عن أبي الطّفيل أنَّ رجلاً ولد له غلام فأتى به رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فدعا له بالبركة، وأخذ بجبهته فنبتت شعرة في جبهته كأنها هلبة فرس، فشبَّ الغلام فلمَّا كان زمن الخوارج أجابهم، فسقطت الشَّعرة عن جبهته، فأخذه أبوه فحبسه وقيده مخافة أن يلحق بهم‏.‏

قال‏:‏ فدخلنا عليه فوعظناه وقلنا له‏:‏ ألم تر إلى بركة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقعت، فلم نزل به حتى رجع عن رأيهم‏.‏

قال‏:‏ فردَّ الله تلك الشعرة إلى جبهته إذ تاب‏.‏

وقد رواه الحافظ أبو بكر البيهقيّ عن الحاكم وغيره، عن الأصمّ، عن أبي أسامة الكلبيّ، عن سريج بن مسلم، عن أبي يحيى إسماعيل بن إبراهيم التيميّ، حدَّثني سيف بن وهب عن أبي الطّفيل أنَّ رجلاً من بني ليث يقال له‏:‏ فراس بن عمرو أصابه صداع شديد فذهب به أبوه إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فأجلسه بين يديه وأخذ بجلدة بين عينيه فجذبها حتى تبعصت فنبتت في موضع أصابع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم شعرة وذهب عنه الصُّداع فلم يصدع، وذكر بقية القصَّة في الشعرة كنحو ما تقدم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/187‏)‏

حديث آخر‏:‏

قال الحافظ أبو بكر البزَّار‏:‏ حدَّثنا هاشم بن القاسم الحرَّانيّ، ثنا يعلى بن الأشدق سمعت عبد الله بن حراد العقيليّ، حدَّثني النَّابغة - يعني‏:‏ الجعدي - قال‏:‏ أتيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فأنشدته من قولي‏:‏

بلغنا السَّماء عفَّةً وتكرُّما * وإنَّا لنرجو فوق ذلك مظهرا

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أين المظهر يا أبا ليلى‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ أي الجنَّة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أجل إن شاء الله‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أنشدني‏)‏‏)‏‏.‏

فأنشدته من قولي‏:‏

ولا خيرَ في حلمٍ إذا لم يكنْ لهُ * بوادرُ تحمي صفوهُ أنْ يكدَّرَا

ولا خَير في جَهْلٍ إذا لم يكنْ لهُ * حليمٌ إذا ما أورَدَ الأمرَ أصدرا

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أحسنت لا يفضِّض الله فاك‏)‏‏)‏‏.‏

هكذا رواه البزَّار إسناداً ومتناً‏.‏

وقد رواه الحافظ البيهقيّ من طريق أخرى فقال‏:‏ أخبرنا أبو عثمان سعيد بن محمد بن محمد بن عبدان، أنَّا أبو بكر بن محمد بن المؤمل، ثنا جعفر بن محمد بن سوار، ثنا إسماعيل بن عبد الله بن خالد السُّكريّ الرِّقيّ، حدَّثني يعلى بن الأشدق قال‏:‏ سمعت النَّابغة نابغة - بني جعدة - يقول‏:‏ أنشدت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم هذا الشِّعر فأعجبه‏:‏

بَلَغنَا السَّما مجدَنا وتُراثنَا * وإنَّا لنَرجُو فوقَ ذلك مظهَرَا

فقال لي‏:‏ ‏(‏‏(‏أين المظهر يا أبا ليلى‏؟‏‏)‏‏)‏

قلت‏:‏ إلى الجنَّة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏كذلك إن شاء الله‏)‏‏)‏‏.‏

ولا خَيرَ في حُلم إذا لم يكُنْ لهُ * بوادِرُ تحمِي صَفوَهُ أنْ يُكَدَّرا

ولا خيرَ في جَهلٍ إذا لمْ يكُنْ لَهُ * حليمَ إذا ما أورَدَ الأمرَ أصدرَا

فقال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏أجدت لا يفضض الله فاك‏)‏‏)‏‏.‏

قال يعلى‏:‏ فلقد رأيته ولقد أتى عليه نيف ومائة سنة وما ذهب له سن‏.‏

قال البيهقيّ وروي عن مجاهد بن سليم، عن عبد الله بن حراد سمعت نابغة يقول‏:‏ سمعني رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأنا أنشد من قولي‏:‏

بَلَغْنا السَّماء عِفَّةً وتَكَرُّمَا * وإنَّا لنرجو فوقَ ذلكَ مَظْهَرا

ثمَّ ذكر الباقي بمعناه‏.‏

قال‏:‏ فلقد رأيت سنَّه كأنها البرد المنهل، ما سقط له سن ولا انفلت‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/188‏)‏

حديث آخر‏:‏

قال الحافظ البيهقيّ‏:‏ أنَّا أبو بكر القاضيّ وأبو سعيد بن يوسف أبي عمرو قالا‏:‏ ثنا الأصمّ، ثنا عبَّاس الدوريّ، ثنا علي بن بحر القطَّان، ثنا هاشم بن يوسف، ثنا معمر، ثنا ثابت وسليمان التيميّ عن أنس أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم نظر قبل العراق والشَّام واليمن - لا أدري بأيتهن بدأ - ثمَّ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم أقبل بقلوبهم إلى طاعتك، وحطَّ من أوزارهم‏)‏‏)‏‏.‏

ثمَّ رواه عن الحاكم، عن الأصمّ، عن محمد بن إسحاق الصَّغانيّ، عن علي بن بحر بن سريّ فذكر بمعناه‏.‏

وقال أبو داود الطَّيالسيّ‏:‏ ثنا عمران القطَّان عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن زيد بن ثابت قال‏:‏ نظر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قِبَلَ اليمن فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم أقبل بقلوبهم‏)‏‏)‏‏.‏

ثمَّ نظر قِبَلَ الشَّام فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم أقبل بقلوبهم‏)‏‏)‏‏.‏

ثمَّ نظر قِبَلَ العراق فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم أقبل بقلوبهم، وبارك لنا في صاعنا ومدنا‏)‏‏)‏‏.‏

وهكذا وقع الأمر‏:‏ أسلم أهل اليمن قبل أهل الشَّام، ثمَّ كان الخير والبركة قبل العراق، ووعد أهل الشَّام بالدوام على الهداية والقيام بنصرة الدِّين إلى آخر الأمر‏.‏

وروى أحمد في مسنده‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تقوم السَّاعة حتى يتحول خيار أهل العراق إلى الشَّام، ويتحول شرار أهل الشام إلى العراق‏)‏‏)‏‏.‏

فصل آداب الطَّعام‏:‏

وروى مسلم عن أبي بكر ابن أبي شيبة، عن زيد بن الحبَّاب، عن عكرمة بن عمَّار، حدَّثني إياس ابن سلمة بن الأكوع أنَّ أباه حدَّثه أنَّ رجلاً أكل عند رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بشماله‏.‏

فقال له‏:‏ ‏(‏‏(‏كل بيمينك‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ لا أستطيع‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا استطعت ما يمنعه إلا الكبر‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فما رفعها إلى فِيه‏.‏

وقد رواه أبو داود الطَّيالسيّ عن عكرمة، عن إياس، عن أبيه قال‏:‏ أبصر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بشر بن راعي العير وهو يأكل بشماله فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏كُلْ بيمينك‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ لا أستطيع‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لااستطعت‏)‏‏)‏‏.‏

فما وصلت يده إلى فيه بعد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/189‏)‏

وثبت في صحيح مسلم من حديث شعبة عن أبي حمزة، عن ابن عبَّاس قال‏:‏ كنت ألعب مع الغلمان فجاء رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فاختبأت منه، فجاءني فحطاني حطوة أو حطوتين وأرسلني إلى معاوية في حاجة فأتيته وهو يأكل‏.‏

فقلت‏:‏ أتيته وهو يأكل‏.‏

فأرسلني الثَّانية، فأتيته وهو يأكل‏.‏

فقلت‏:‏ أتيته وهو يأكل‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا أشبع الله بطنه‏)‏‏)‏‏.‏

وقد روى البيهقيّ عن الحاكم، عن علي بن حماد، عن هشام بن علي، عن موسى بن إسماعيل، حدَّثني أبو عوانة عن أبي حمزة سمعت ابن عبَّاس قال‏:‏ كنت ألعب مع الغلمان فإذا رسول الله قد جاء‏.‏

فقلت‏:‏ ما جاء إلا إليَّ فذهبت فاختبأت على باب فجاء فخطاني خطوة وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إذهب فادع لي معاوية‏)‏‏)‏ - وكان يكتب الوحي -‏.‏

قال‏:‏ فذهبت فدعوته له فقيل‏:‏ إنَّه يأكل‏.‏

فأتيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقلت‏:‏ إنَّه يأكل‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إذهب فادعه لي‏)‏‏)‏‏.‏

فأتيته الثَّانية فقيل‏:‏ إنَّه يأكل‏.‏

فأتيت رسول الله فأخبرته‏.‏

فقال في الثَّانية‏:‏ ‏(‏‏(‏لا أشبع الله بطنه‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فما شبع بعدها‏.‏

قلت‏:‏ وقد كان معاوية رضي الله عنه لا يشبع بعدها، ووافقته هذه الدَّعوة في أيام إمارته فيقال‏:‏ إنَّه كان يأكل في اليوم سبع مرات طعاماً بلحم وكان يقول‏:‏ والله لا أشبع وإنما أعيى‏.‏

وقال مالك عن زيد بن أسلم، عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ خرجنا مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في غزوة بني أنمار فذكر الحديث في الرَّجل الذي عليه ثوبان قد خلقا، وله ثوبان في القنية فأمره رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فلبسهما ثمَّ ولى‏.‏

فقال رسول الله‏:‏ ‏(‏‏(‏ماله ضرب الله عنقه‏؟‏‏)‏‏)‏

فقال الرَّجل‏:‏ في سبيل الله‏.‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏في سبيل الله‏)‏‏)‏‏.‏

فقتل الرَّجل في سبيل الله‏.‏

وقد ورد من هذا النَّوع كثير، وقد ثبت في الأحاديث الصَّحيحة بطرق متعددة عن جماعة من الصَّحابة تفيد القطع كما سنوردها قريباً في باب فضائله صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم من سببته أو جلدته أو لعنته وليس لذلك أهلاً، فاجعل ذلك قربةً له تقرِّبه بها عندك يوم القيامة‏)‏‏)‏‏.‏

وقد قدَّمنا في أول البعثة حديث ابن مسعود في دعائه صلَّى الله عليه وسلَّم على أولئك النَّفر السَّبعة الذين أحدهم أبو جهل ابن هشام وأصحابه حين طرحوا على ظهره عليه السلام الجَّزور وألقته عنه ابنته فاطمة، فلمَّا انصرف قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم عليك بقريش، اللَّهم عليك بأبي جهل بن هشام، وشيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة‏)‏‏)‏ ثمَّ سمَّى بقية السَّبعة‏.‏

قال ابن مسعود‏:‏ فوالذي بعثه بالحقّ لقد رأيتهم صرعى في القليب قليب بدر، الحديث وهو متفق عليه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/190‏)‏

حديث آخر‏:‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثني هشام، ثنا سليمان - يعني‏:‏ ابن المغيرة - عن ثابت، عن أنس بن مالك قال‏:‏ كان منَّا رجل من بني النَّجار قد قرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فانطلق هارباً حتى لحق بأهل الكتاب‏.‏

قال‏:‏ فرفعوه وقالوا‏:‏ هذا كان يكتب لمحمد وأعجبوا به، فما لبث أن قصم الله عنقه فيهم فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، ثمَّ عادوا فحفروا له وواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، فتركوه منبوذاً‏.‏

ورواه مسلم عن محمد بن راضي، عن أبي النَّضر هاشم بن القاسم به‏.‏

طريق أخرى عن أنس‏:‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا يزيد بن هارون، ثنا حميد عن أنس أنَّ رجلاً كان يكتب للنَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وكان قد قرأ البقرة وآل عمران، وكان الرَّجل إذا قرأ البقرة وآل عمران عزَّ فينا - يعني‏:‏ عظم - فكان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يملي عليه‏:‏ ‏(‏‏(‏غفوراً رحيماً‏)‏‏)‏ فيكتب عليماً حكيماً، فيقول له النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إكتب كذا وكذا‏)‏‏)‏‏.‏

فيقول‏:‏ أكتب كيف شئت‏.‏

ويملي عليه‏:‏ ‏(‏‏(‏عليماً حكيماً‏)‏‏)‏‏.‏

فيكتب‏:‏ سميعاً بصيراً‏.‏

فيقول‏:‏ ‏(‏‏(‏أكتب كيف شئت‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فارتد ذلك الرَّجل عن الإسلام فلحق بالمشركين وقال‏:‏ أنا أعلمكم بمحمد، وإني كنت لا أكتب إلا ما شئت، فمات ذلك الرَّجل‏.‏

فقال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّ الأرض لا تقبله‏)‏‏)‏‏.‏

قال أنس‏:‏ فحدثني أبو طلحة أنَّه أتى الأرض التي مات فيها ذلك الرَّجل فوجده منبوذاً‏.‏

فقال أبو طلحة‏:‏ ما شأن هذا الرجل ‏؟‏

قالوا‏:‏ قد دفنَّاه مراراً فلم تقبله الأرض‏.‏

وهذا على شرط الشَّيخين ولم يخرِّجوه‏.‏

طريق أخرى عن أنس‏:‏

وقال البخاري‏:‏ ثنا أبو معمر، ثنا عبد الرَّزاق، ثنا عبد العزيز عن أنس بن مالك قال‏:‏ كان رجل نصراني فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب للنَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فعاد نصرانياً‏.‏

وكان يقول‏:‏ لا يدري محمد إلا ما كتبت له، فأماته الله فدفنوه فأصبح وقد لفظته الأرض‏.‏

فقالوا‏:‏ هذا فعل محمد - وأصحابه لما هرب منهم نبشوا عن صاحبنا فألقوه - فحفروا له فأعمقوا له في الأرض ما استطاعوا، فأصبحوا وقد لفظته الأرض، فعلموا أنَّه ليس من النَّاس فألقوه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/191‏)‏

 باب المسائل التي سئل عنها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فأجاب عنها بما يطابق الحقّ الموافق لها في الكتب الموروثة عن الأنبياء‏:‏

قد ذكرنا في أول البعثة ما تعنَّتت به قريش وبعثت إلى يهود المدينة يسألونهم عن أشياء يسألون عنها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏

فقالوا‏:‏ سلوه عن الرَّوح، وعن أقوام ذهبوا في الدَّهر فلا يدرى ما صنعوا، وعن رجل طوَّاف في الأرض بلغ المشارق والمغارب‏.‏

فلمَّا رجعوا سألوا عن ذلك رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فأنزل الله عزَّ وجل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 85‏]‏‏.‏

وأنزل سورة الكهف يشرح فيها خبر الفتية الذين فارقوا دين قومهم وآمنوا بالله العزيز الحميد، وأفردوه بالعبادة واعتزلوا قومهم، ونزلوا غاراً وهو الكهف فناموا فيه ثمَّ أيقظهم الله بعد ثلاثمائة سنة وتسع سنين، وكان من أمرهم ما قصَّ الله علينا في كتابه العزيز، ثمَّ قصَّ خبر الرَّجلين المؤمن والكافر وما كان من أمرهما، ثمَّ ذكر خبر موسى والخضر وما جرى لهما من الحكم والمواعظ ثمَّ قال‏:‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 83‏]‏‏.‏

ثمَّ شرح ثمَّ ذكر خبره وما وصل إليه من المشارق والمغارب وما عمل من المصالح في العالم، وهذا الإخبار هو الواقع في الواقع، وإنما يوافقه من الكتب التي بأيدي أهل الكتاب ما كان منها حقاً وأما ما كان محرَّفاً مبدلاً فذاك مردود، فإنَّ الله بعث محمداً بالحق وأنزل عليه الكتاب ليبين للنَّاس ما اختلفوا فيه من الأخبار والأحكام‏.‏

قال الله تعالى بعد ذكر التَّوراة والإنجيل‏:‏ ‏{‏وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 48‏]‏‏.‏

وذكرنا في أول الهجرة قصَّة إسلام عبد الله بن سلام وأنَّه قال‏:‏ لمَّا قدم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم المدينة انجفل النَّاس إليه فكنت فيمن انجفل، فلمَّا رأيت وجهه قلت‏:‏ إنَّ وجهه ليس بوجه كذَّاب فكان أول ما سمعته يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏أيُّها النَّاس أفشوا السَّلام، وصِلُوا الأرحام، وأطعموا الطَّعام، وصَلُّوا باللَّيل والنَّاس نيام تدخلوا الجنَّة بسلام‏)‏‏)‏‏.‏

وثبت في صحيح البخاريّ وغيره من حديث إسماعيل بن عطية وغيره عن حميد، عن أنس قصَّة سؤاله رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ثلاث لا يعلمهنَّ إلا نبيّ‏:‏ ما أوَّل أشراط السَّاعة‏؟‏ وما أوَّل طعام يأكله أهل الجنَّة‏؟‏ وما ينزع الولد إلى أبيه وإلى أمه ‏؟‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏أخبرني بهنَّ جبريل آنفاً‏)‏‏)‏‏.‏

ثمَّ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أمَّا أوَّل أشراط السَّاعة فنار تحشر النَّاس من المشرق إلى المغرب، وأما أوَّل طعام يأكله أهل الجنَّة فزيادة كبد الحوت، وأما الولد فإذا سبق ماء الرَّجل ماء المرأة نزع الولد إلى أبيه، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرَّجل نزع الولد إلى أمه‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه البيهقيّ عن الحاكم، عن الأصمّ، عن أحمد بن عبد الجبَّار، عن يونس بن بكير، عن أبي معشر، عن سعيد المقبريّ فذكر مسألة عبد الله بن سلام إلا أنَّه قال‏:‏ فسأله عن السَّواد الذي في القمر بدل أشراط السَّاعة فذكر الحديث إلى أن قال‏:‏ ‏(‏‏(‏وأمَّا السَّواد الذي في القمر فإنهما كانا شمسين، فقال الله عزَّ وجل‏:‏ ‏(‏‏(‏وجعلنا اللَّيل والنَّهار آيتين فمحونا آية اللَّيل‏)‏‏)‏ فالسَّواد الذي رأيت هو المحو‏)‏‏)‏‏.‏

فقال عبد الله بن سلام‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمداً رسول الله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/192‏)‏

حديث آخر في معناه‏:‏

قال الحافظ البيهقيّ‏:‏ أنَّا أبو زكريا يحيى بن إبراهيم المزكيّ، أنَّا أبو الحسن - أحمد بن محمد بن عيدروس -، ثنا عثمان بن سعيد، أنَّا الرَّبيع بن نافع أبو توبة، ثنا معاوية بن سلام عن زيد بن سلام أنَّه سمع أبا سلام يقول‏:‏ أخبرني أبو أسماء الرَّحبي أنَّ ثوبان حدَّثه قال‏:‏ كنت قائماً عند رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فجاءه حبر من أحبار اليهود فقال‏:‏ السَّلام عليك يا محمد، فدفعته دفعة كاد يصرع منها‏.‏

قال‏:‏ لِمَ تدفعني ‏؟‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ ألا تقول‏:‏ يا رسول الله ‏؟‏

قال‏:‏ إنما سميته باسمه الذي سماه به أهله‏.‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّ اسمي الذي سماني به أهلي محمد‏)‏‏)‏‏.‏

فقال اليهوديّ‏:‏ جئت أسألك‏.‏

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏ينفعك شيء إن حدثتك‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ أسمع بأذني، فنكت بعود معه‏.‏

فقال له‏:‏ ‏(‏‏(‏سل‏)‏‏)‏‏.‏

فقال له اليهوديّ‏:‏ أين النَّاس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسَّموات ‏؟‏

فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -‏:‏ ‏(‏‏(‏في الظُّلمة دون الجسر‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فمن أوَّل النَّاس إجازة ‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏فقراء المهاجرين‏)‏‏)‏‏.‏

قال اليهوديّ‏:‏ فما تحفتهم حين يدخلون الجنَّة ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏زيادة كبد الحوت‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ وما غذاؤهم على إثره ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ينحر لهم ثور الجنَّة الذي كان يأكل من أطرافها‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فما شرابهم عليه ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من عين فيها تسمى سلسبيلاً‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ صدقت‏.‏

قال‏:‏ وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من الأرض إلا نبيّ أو رجل أو رجلان‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ينفعك إن حدَّثتك‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ أسمع بأذني‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏جئت أسألك عن الولد ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ماء الرَّجل أبيض، وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا فعلا مني الرَّجل مني المرأة أذكرا بإذن الله، وإذا علا مني المرأة مني الرَّجل أنثا بإذن الله‏)‏‏)‏‏.‏

فقال اليهوديّ‏:‏ صدقت، وإنَّك لنبيّ ثمَّ انصرف‏.‏

فقال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّه سألني عنه وما أعلم شيئاً منه حتى أتاني الله به‏)‏‏)‏‏.‏

وهكذا رواه مسلم عن الحسن بن علي الحلوانيّ، عن أبي توبة الرَّبيع بن نافع به‏.‏

وهذا الرَّجل يحتمل أن يكون هو عبد الله بن سلام، ويحتمل أن يكون غيره، والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/193‏)‏

حديث آخر‏:‏

قال أبو داود الطَّيالسيّ‏:‏ حدَّثنا عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب، حدَّثني ابن عبَّاس قال‏:‏ حضرت عصابة من اليهود يوماً عند رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقالوا‏:‏ يا رسول الله حدِّثنا عن خلال نسألك عنها لا يعلمها إلا نبيّ ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏سلوني ما شئتم، ولكن اجعلوا لي ذمَّة الله وما أخذ يعقوب على نبيِّه إن أنا حدَّثتكم بشيء تعرفونه صدقاً لتتابعنيّ على الإسلام‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ لك ذلك‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏سلوا عما شئتم‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ أخبرنا عن أربع خلال ثمَّ نسألك‏:‏ أخبرنا عن الطَّعام الذي حرَّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التَّوراة، وأخبرنا عن ماء الرَّجل كيف يكون الذَّكر منه حتى يكون ذكراً‏؟‏ وكيف تكون الأنثى حتى تكون الأنثى‏؟‏ وأخبرنا عن هذا النَّبيّ في النَّوم ومن وليك من الملائكة ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فعليكم عهد الله لئن أنا حدَّثتكم لتتابعنيّ‏)‏‏)‏‏.‏

فأعطوه ما شاء من عهد وميثاق‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أنشدكم بالله الذي أنزل التَّوراة على موسى هل تعلمون أنَّ إسرائيل - يعقوب - مرض مرضاً شديداً طال سقمه فيه فنذر لله نذراً لئن شفاه الله من سقمه ليحرمن أحبَّ الشَّراب إليه وأحبَّ الطَّعام إليه، وكان أحبّ الشَّراب إليه ألبان الإبل وأحبّ الطَّعام إليه لحمان الإبل‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ اللَّهم نعم‏.‏

فقال رسول الله‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم اشهد عليهم‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فأنشدكم الله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التَّوراة على موسى هل تعلمون أنَّ ماء الرَّجل أبيض وأنَّ ماء المرأة رقيق أصفر فأيهما علا كان له الولد والشبه بإذن الله، وإن علا ماء الرَّجل ماء المرأة كان ذكراً بإذن الله، وإن علا ماء المرأة ماء الرَّجل كان أنثى بإذن الله‏؟‏‏)‏‏)‏

قالوا‏:‏ اللَّهم نعم‏.‏

قال رسول الله‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم اشهد عليهم‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏وأنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التَّوراة على موسى هل تعلمون أنَّ هذا النَّبيّ تنام عيناه ولا ينام قلبه‏؟‏‏)‏‏)‏

قالوا‏:‏ اللَّهم نعم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم اشهد عليهم‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ أنت الآن حدِّثنا عن وليك من الملائكة فعندها نجامعك أو نفارقك‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏وليي جبريل عليه السلام ولم يبعث الله نبياً قط إلا وهو وليه‏)‏‏)‏ فقالوا‏:‏ فعندها نفارقك لو كان وليك غيره من الملائكة لبايعناك وصدَّقناك‏.‏

قال‏:‏ فما يمنعكم أن تصدِّقوه ‏؟‏

قالوا‏:‏ إنَّه عدوّنا من الملائكة‏.‏

فأنزل الله عزَّ وجل‏:‏ ‏{‏قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 97‏]‏‏.‏

ونزلت‏:‏ ‏{‏فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 90‏]‏ الآية‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/194‏)‏

حديث آخر‏:‏

قال الإمام أحمد‏:‏ ثنا يزيد، ثنا شعبة عن عمرو بن مرة سمعت عبد الله بن سلمة يحدِّث عن صفوان بن عسال المراديّ قال‏:‏ قال يهوديّ لصاحبه‏:‏ اذهب بنا إلى هذا النَّبيّ حتى نسأله عن هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ‏}‏‏.‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 101‏]‏‏.‏

فقال‏:‏ لا تقل له شيئاً، فإنَّه لو سمعك لصارت له أربع أعين فسألاه‏.‏

فقال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النَّفس التي حرَّم الله إلا بالحقّ، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الرِّبا، ولا تمشوا ببرئ إلى ذي سلطان ليقتله، ولا تقذفوا محصنة - أو قال‏:‏ - لا تفرُّوا من الزَّحف - شعبة الشَّاك - وأنتم يا معشر يهود عليكم خاصة أن لا تعدوا في السبت‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فقبَّلا يديه ورجليه وقالا‏:‏ نشهد أنَّك نبيّ‏.‏

قال‏:‏ فما يمنعكما أن تتبعاني ‏؟‏

قالا‏:‏ إنَّ داود - عليه السَّلام - دعا أن لا يزال من ذريته نبي، وإنَّا نخشى إن أسلمنا أن تقتلنا يهود‏.‏

وقد رواه التّرمذيّ والنسائي، وابن ماجه وابن جرير، والحاكم والبيهقيّ من طرق عن شعبة به‏.‏

وقال التّرمذيّ‏:‏ حسن صحيح‏.‏

قلت‏:‏ وفي رجاله من تُكلِّم فيه وكأنَّه اشتبه على الرَّاوي التِّسع الآيات بالعشر الكلمات، وذلك أن الوصايا التي أوصاها الله إلى موسى وكلَّمه بها ليلة القدر بعد ما خرجوا من ديار مصر وشعب بني إسرائيل حول الطُّور حضور، وهارون ومن معه وقوف على الطُّور أيضاً، وحينئذ كلَّم الله موسى تكليماً آمراً له بهذه العشر كلمات، وقد فسرت في هذا الحديث، وأما التِّسع الآيات فتلك دلائل وخوارق عادات أيَّد بها موسى عليه السلام وأظهرها الله على يديه بديار مصر وهي‏:‏ العصا، واليد، والطُّوفان، والجراد، والقُمَّل، والضَّفادع، والدَّم، والجدب، ونقص الثَّمرات، وقد بسطت القول على ذلك في التفسير بما فيه الكفاية، والله أعلم‏.‏