فصل: سنة سبع ومائة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 ثم دخلت سنة سبع ومائة

فيها خرج باليمين رجل يقال له‏:‏ عباد الرعيني، فدعا إلى مذهب الخوارج، واتبعه فرقة من الناس وحلموا، فقاتلهم يوسف بن عمر، فقتله وقتل أصحابه، وكانوا ثلاثمائة‏.‏

وفيها وقع بالشام طاعون شديد‏.‏

وفيها غزا معاوية بن هشام الصائفة وعلى جيش أهل الشام ميمون بن مهران، فقطعوا البحر إلى قبرص، وغزا مسلمة في البر في جيش آخر‏.‏

وفيها ظفر أسد بن عبد الله القسري بجماعة من دعاة بني العباس بخراسان، فصلبهم وأشهرهم‏.‏

وفيها غزا أسد القسري جبال نمروذ، ملك القرقيسيان، مما يلي جبال الطالقان، فصالحه نمروذ وأسلم على يديه‏.‏

وفيها غزا أسد الغور - وهي جبال هراة - فعمد أهلها إلى حواصلهم وأموالهم وأثقالهم فجعلوا ذلك كله في كهف منيع، لا سبيل لأحد عليه، وهو مستعل جداً، فأمر أسد بالرجال فحملوا في توابيت ودلاهم إليه، وأمر بوضع ما هنالك في التوابيت ورفعوهم فسلموا وغنموا، وهذا رأي سديد‏.‏

وفيها أمر أسد بجمع ما حول بلخ إليها، واستناب عليها برمك والد خالد بن برمك، وبناها بناءً جيداً جديداً محكماً، وحصنها وجعلها معقداً للمسلمين‏.‏

وفيها حج بالناس إبراهيم بن هشام أمير الحرمين‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 9/272‏)‏

 وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

 سليمان بن يسار أحد التابعين

وهو أخو عطاء بن يسار، له روايات كثيرة، وكان من المجتهدين في العبادة، وكان من أحسن الناس وجهاً، توفي بالمدينة وعمره ثلاث وسبعون سنة‏.‏

دخلت عليه امرأة من أحسن الناس وجهاً فأرادته على نفسها فأبى وتركها في منزله وخرج هارباً منها، فرأى يوسف عليه السلام في المنام فقال له‏:‏ أنت يوسف‏؟‏ فقال‏:‏ نعم أنا يوسف الذي هممت، وأنت سليمان الذي لم تهم‏.‏

وقيل‏:‏ إن هذه الحكاية إنما وقعت في بعض منازل الحجاج، وكان معه صاحب له، فبعثه إلى سوق الحجاج ليشتري شيئاً فانحطت على سليمان امرأة من الجبل حسناء فقالت له‏:‏ هيت لك، فبكى واشتد بكاؤه، فلما رأت ذلك منه ارتفعت في الجبل‏.‏

وجاء صديقه فوجده يبكي فقال له‏:‏ مالك تبكي‏؟‏ فقال‏:‏ خير، فقال‏:‏ لعلك ذكرت بعض ولدك أو بعض أهلك‏؟‏ فقال‏:‏ لا ‏!‏ فقال‏:‏ والله لتخبرني ما أبكاك أنت‏.‏ قال‏:‏ أبكاني حزني على نفسي، لو كنت مكانك لم أصبر عنها، ثم ذكر أنه نام فرأى يوسف في منامه، كما تقدم، والله أعلم‏.‏

 عكرمة مولى ابن عباس

أحد التابعين، والمفسرين المكثرين، والعلماء الربانيين، والرحالين الجوالين، وهو‏:‏ أبو عبد الله، وقد روى عن خلق كثير من الصحابة، وكان أحد أوعية العلم، وقد أفتى في حياة مولاه ابن عباس‏.‏

قال عكرمة‏:‏ طلبت العلم أربعين سنة‏.‏

وقد طاف عكرمة البلاد، ودخل إفريقية واليمن والشام والعراق وخراسان، وبث علمه هنالك، وأخذ الصلات وجوائز الأمراء‏.‏

وقد روى ابن أبي شيبة، عنه، قال‏:‏ كان ابن عباس يجعل في رجليَّ الكبل يعلمني القرآن والسنن‏.‏

وقال حبيب بن أبي ثابت‏:‏ اجتمع عندي خمسة لا يجتمع عندي مثلهم أبداً‏:‏ عطاء، وطاوس، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد، فأقبل سعيد ومجاهد يلقيان على عكرمة التفسير، فلم يسألاه عن آية إلا فسرها لهما، فلما نفد ما عندهما، جعل يقول‏:‏ أنزلت آية كذا في كذا، قال‏:‏ ثم دخلوا الحمام ليلاً‏.‏

قال جابر بن زيد‏:‏ عكرمة أعلم الناس‏.‏

وقال الشعبي‏:‏ ما بقي أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة‏.‏

وروى الإمام أحمد، عن عبد الصمد، عن سلام بن مسكين، سمعت قتادة، يقول‏:‏ أعلمهم بالتفسير عكرمة‏.‏ وقال سعيد بن جبير نحوه‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ لقد فسرت ما بين اللوحتين‏.‏

وقال ابن علية‏:‏ عن أيوب‏:‏ سأل رجل عكرمة عن آية فقال‏:‏ نزلت في سفح ذلك الجبل - وأشار إلى سلع -‏.‏

وقال عبد الرزاق‏:‏ عن أبيه‏:‏ لما قدم عكرمة الجند حمله طاوس على نجيب فقال‏:‏ ابتعت علم هذا الرجل‏.‏

وفي رواية‏:‏ أن طاوساً حمله على نجيب ثمنة ستون ديناراً، وقال‏:‏ ألا نشتري علم هذا العبد بستين ديناراً ‏!‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 9/273‏)‏

ومات عكرمة وكثير عزة في يوم واحد، فأخرجت جنازتهما، فقال الناس‏:‏ مات أفقه الناس وأشعر الناس‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ قال لي ابن عباس‏:‏ انطلق فأفتِ الناس، فمن سألك عما يعنيه فأفته، ومن سألك عما لا يعنيه فلا تفته، فإنك تطرح عني ثلثي مؤنة الناس‏.‏

وقال سفيان‏:‏ عن عمرو، قال‏:‏ كنت إذا سمعت عكرمة يحدث عن المغازي كأنه مشرف عليهم ينظر كيف يصنعون ويقتتلون‏.‏

وقال الإمام أحمد بن حنبل‏:‏ حدثنا عبد الرزاق، قال‏:‏ سمعت معمراً، يقول‏:‏ سمعت أيوب، يقول‏:‏ كنت أريد أن أرحل إلى عكرمة إلى أفق من الآفاق، قال‏:‏ فإني لفي سوق البصرة فإذا رجل على حمار، قيل‏:‏ هذا عكرمة، قال‏:‏ واجتمع الناس إليه، فما قدرت أنا على شيء أسأله عنه، ذهبت مني المسائل، وشردت عني فقمت إلى جنب حماره، فجعل الناس يسألونه وأنا أحفظه‏.‏

وقال شعبة‏:‏ عن خالد الحذاء، قال‏:‏ قال عكرمة لرجل وهو يسأله‏:‏ مالك أخبلت‏؟‏ أي‏:‏ فتنت‏.‏

وقال زياد بن أبي أيوب‏:‏ حدثنا أبو ثميلة، حدثنا عبد العزيز بن أبي رواد، قال‏:‏ قلت لعكرمة بنيسابور‏:‏ الرجل يريد الخلاء وفي إصبعه خاتم فيه اسم الله، قال‏:‏ يجعل فصه في باطن يده ثم يقبض عليه‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أمية بن خالد، قال‏:‏ سمعت شعبة، يقول‏:‏ قال خالد الحذاء‏:‏ كل شيء قال فيه محمد بن سيرين‏:‏ ثبت عن ابن عباس، إنما سمعه من عكرمة، لقيه أيام المختار بالكوفة‏.‏

وقال سفيان الثوري‏:‏ خذوا المناسك عن سعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ خذوا التفسير عن أربعة‏:‏ سعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ أدركت مئتين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المسجد‏.‏

وقال محمد بن يوسف الفريابي‏:‏ حدثنا إسرائيل، عن سعيد بن مسروق، عن عكرمة، قال‏:‏ كانت الخيل التي شغلت سليمان بن داود عليه السلام عشرين ألفاً فعقرها‏.‏

وقال أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا معمر بن سليمان، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 17‏]‏ قال‏:‏ الدنيا كلها قريب، وكلها جهالة‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 83‏]‏ قال‏:‏ عند سلاطينها وملوكها‏.‏

{‏وَلَا فَسَاداً‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 83‏]‏‏:‏ لا يعلمون بمعاصي الله عز وجل‏.‏

‏{‏وَالْعَاقِبَةُ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 83‏]‏‏:‏ هي الجنة‏.‏

وقال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 44‏]‏ أي‏:‏ تركوا ما وعظوا‏.‏

{‏بِعَذَابٍ بَئِيسٍ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 165‏]‏ أي‏:‏ شديد‏.‏

{‏فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 166‏]‏ أي‏:‏ تمادوا وأصروا‏.‏

{‏خَاسِئِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 166‏]‏‏:‏ صاغرين‏.‏

{‏فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 66‏]‏ أي‏:‏ من الأمم الماضية‏.‏

{‏وَمَا خَلْفَهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 66‏]‏‏:‏ من الأمم الآتية، من أهل زمانهم وغيرهم‏.‏

{‏وَمَوْعِظَةً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 66‏]‏‏:‏ تقي من اتعظ بها الشرك والمعاصي‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ إذا كان يوم القيامة بعث الله الذين اعتدوا ويحاسب الذين تركوا الأمر والنهي كان المسخ لهم عقوبة في الدنيا حين تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ هلك والله والقوم جميعاً‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ فالذين أمروا ونهوا نجوا، والذين لم يأمروا ولم ينهوا هلكوا فيمن هلك من أهل المعاصي‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 9/274‏)‏

قال‏:‏ وذلك أهل أيلة - وهي‏:‏ قرية على شاطئ البحر - وكان الله قد أمر بني إسرائيل أن يتفرغوا ليوم الجمعة فقالوا‏:‏ بل نتفرغ ليوم السبت، لأن الله فرغ من الخلق يوم السبت، فأصبحت الأشياء مسبوتة‏.‏

وذكروا قصة أصحاب السبت، وتحريم الصيد عليهم، وأن الحيتان كانت تأتيهم يوم السبت ولا تأتيهم في غيره من الأيام، وذكروا احتيالهم على صيدها في يوم السبت فقال قوم‏:‏ لا ندعكم تصيدون في يوم السبت ووعظوهم، فجاء قوم آخرون مداهنون فقالوا‏:‏ ‏{‏لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً‏}‏‏؟‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 164‏]‏‏.‏

قال الناهون‏:‏ ‏{‏مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 164‏]‏ أي‏:‏ ينتهون عن الصيد في يوم السبت‏.‏

وقد ذكر عكرمة أنه لما قال لابن عباس‏:‏ إن المداهنين هلكوا مع الغالفين، كساه ثوبين‏.‏

وقال حوثرة، عن مغيرة، عن عكرمة، قال‏:‏ كانت القضاة ثلاثة - يعني‏:‏ في بني إسرائيل - فمات واحد فجعل الآخر مكانه، فقضوا ما شاء الله أن يقضوا فبعث الله ملكاً على فرس فمر على رجل يسقي بقرة معها عجل، فدعا الملك العجل فتبع العجل الفرس، فجاء صاحبه ليرده فقال‏:‏ يا عبد الله ‏!‏ عجلي وابن بقرتي، فقال الملك‏:‏ بل هو عجلي وابن فرسي، فخاصمه حتى أعيا، فقال‏:‏ القاضي بيني وبينك‏.‏

قال‏:‏ لقد رضيت، فارتفعا إلى أحد القضاة، فتكلم صاحب العجل فقال له‏:‏ مر بي على فرس فدعا عجلي فتبعه فأبى أن يرده، قال‏:‏ ومع الملك ثلاث درات لم ير الناس مثلها، فأعطى القاضي درة، وقال‏:‏ اقض لي، فقال‏:‏ كيف يسوغ هذا‏؟‏ فقال‏:‏ نرسل العجل خلف الفرس والبقرة فأيهما تبعها فهو ابنها، ففعل ذلك فتبع الفرس فقضى له‏.‏

فقال صاحب العجل‏:‏ لا أرضى، بيني وبينك القاضي الآخر، ففعلا مثل ذلك، ثم أتيا الثالث فقصا عليه قصتهما، وناوله الملك الدرة الثالثة فلم يأخذها، وقال‏:‏ لا أقضي بينكما اليوم، فقالا‏:‏ ولم لا تقضي بيننا‏؟‏ فقال‏:‏ لأني حائض، فقال الملك‏:‏ سبحان الله ‏!‏‏!‏ رجل يحيض ‏!‏‏؟‏‏.‏

فقال القاضي‏:‏ سبحان الله ‏!‏ وهل تنتج الفرس عجلاً‏؟‏ فقضى لصاحب البقرة‏.‏

فقال الملك‏:‏ إنكم إنما ابتليتم، وقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك‏.‏

وقال أبو بكر بن عياش‏:‏ عن أبي حمزة الثمالي، عن عكرمة، أن ملكاً من الملوك نادى في مملكته‏:‏ إني إن وجدت أحداً يتصدق بصدقة قطعت يده‏.‏

فجاء سائل إلى امرأة فقال‏:‏ تصدقي علي بشيء، فقالت‏:‏ كيف أتصدق عليك والملك يقطع يد من يتصدق‏؟‏ قال‏:‏ أسالك بوجه الله إلا تصدقت علي بشيء، فتصدقت عليه برغيفين، فبلغ ذلك الملك فأرسل إليها فقطع يديها‏.‏

ثم إن الملك قال لأمه‏:‏ دليني على امرأة جميلة لأتزوجها، فقالت‏:‏ إن ههنا امرأة ما رأيت مثلها، لولا عيب بها، قال‏:‏ أي عيب هو‏؟‏ قالت‏:‏ مقطوعة اليدين، قال‏:‏ فأرسلي إليها، فلما رآها أعجبته - وكان لها جمال - فقالت‏:‏ إن الملك يريد أن يتزوجك، قالت‏:‏ نعم إن شاء الله، فتزوجها وأكرمها، فنهد إلى الملك عدو فخرج إليهم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/275‏)‏

ثم كتب إلى أمه‏:‏ انظري فلانة فاستوصي بها خيراً وافعلي وافعلي معها، فجاء الرسول فنزل على بعض ضرائرها فحسدنها، فأخذن الكتاب فغيرنه وكتبن إلى أمه‏:‏ انظري فلانة فقد بلغني أن رجالاً يأتونها فأخرجيها من البيت، وافعلي وافعلي، فكتبت إليه الأم‏:‏ إنك قد كذبت، وإنها لامرأة صدق، فذهب الرسول إليهن، فنزل بهن، فأخذن الكتاب فغيرنه، فكتبن إليه‏:‏ إنها فاجرة وقد ولدت غلاماً من الزنا‏.‏

فكتب إلى أمه‏:‏ انظري فلانة فاجعلي ولدها على رقبتها واضربي على جيبها وأخرجيها‏.‏ قال‏:‏ فلما جاءها الكتاب قرأته عليها وقالت لها‏:‏ اخرجي، فجعلت الصبي على رقبتها وذهبت، فمرت بنهر وهي عطشانة فنزلت لتشرب والصبي على رقبتها فوقع في الماء فغرق، فجلست تبكي على شاطئ النهر‏.‏

فمر بها رجلان فقالا‏:‏ ما يبكيك‏؟‏ فقالت‏:‏ ابني كان على رقبتي وليس لي يدان فسقط في الماء فغرق‏.‏

فقالا لها‏:‏ أتحبين أن يرد الله عليك يديك كما كانتا‏؟‏ قالت‏:‏ نعم ‏!‏ فدعوا الله ربهما لها فاستوت يداها، ثم قالا لها‏:‏ أتدرين من نحن‏؟‏ قالت‏:‏ لا ‏!‏ قالا‏:‏ نحن الرغيفان اللذان تصدقت بهما‏.‏

وقال في قوله‏:‏ ‏{‏طَيْرَاً أَبَابِيْل‏}‏ ‏[‏الفيل‏:‏ 3‏]‏ قال‏:‏ طير خرجت من البحر لها رؤوس كرؤوس السباع فلم تزل ترميهم حتى جدرت جلودهم، وما رؤي الجدري قبل يومئذ، وما رؤي الطير قبل يومئذ ولا بعد‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 6-7‏]‏ قال‏:‏ لا يقولون لا إله إلا الله‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 14‏]‏ قال‏:‏ من يقول لا إله إلا الله‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 18‏]‏‏:‏ إلى أن تقول لا إله إلا الله‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 30‏]‏‏:‏ على شهادة أن لا إله إلا الله‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 78‏]‏‏:‏ أليس منكم من يقول‏:‏ لا إله إلا الله‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏وَقَالَ صَوَاباً‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 38‏]‏ قال‏:‏ لا إله إلا الله‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏إنك لا تخلف الميعاد‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 194‏]‏ لمن قال‏:‏ لا إله إلا الله‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 193‏]‏‏:‏ على من لا يقول‏:‏ لا إله إلا الله‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 24‏]‏ قال‏:‏ إذا غضبت‏.‏

{‏سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 29‏]‏، قال‏:‏ السهر ‏.‏

وقال‏:‏ إن الشيطان ليزين للعبد الذنب، فإذا عمله تبرأ منه، فلا يزال يتضرع إلى ربه ويتمسكن له ويبكي حتى يغفر الله له ذلك وما قبله‏.‏

وقال‏:‏ قال جبريل عليه السلام‏:‏ إن ربي ليبعثني إلى الشيء لأمضيه فأجد الكون قد سبقني إليه‏.‏

وسئل عن الماعون قال‏:‏ العارية‏.‏

قلت‏:‏ فإن منع الرجل غربالاً أو قدراً أو قصعةً أو شيئاً من متاع البيت فله الويل‏؟‏ قال‏:‏ لا ‏!‏ ولكن إذا نهى عن الصلاة ومنع الماعون، فله الويل‏.‏

وقال‏:‏ البضاعة المزجاة‏:‏ التي فيها تجوز‏.‏

وقال‏:‏ السائحون، هم طلبة العلم‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 13‏]‏ قال‏:‏ إذا دخل الكفار القبور وعاينوا ما أعد الله لهم من الخزي، يئسوا من نعمه الله‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 9/276‏)‏

قال غيره‏:‏ ‏(‏‏(‏يئس الكفار من أصحاب القبور‏)‏‏)‏ أي‏:‏ من حياتهم وبعثهم بعد موتهم‏.‏

وقال‏:‏ كان إبراهيم عليه السلام يدعى‏:‏ أبا الضيفان، وكان لقصره أربعة أبوب لكيلا يفوته أحد‏.‏

وقال‏:‏ أنكالاً، أي‏:‏ قيوداً‏.‏

وقال في كاهن سبأ‏:‏ أنه قال لقومه لما دنا منهم العذاب‏:‏ من أراد سفراً بعيداً وحملاً شديداً، فعليه بعمان، ومن أراد الخمر والخمير، وكذا وكذا والعصير، فعليه ببصرى - يعني الشام - ومن أراد الراسخات في الوحل، والمقيمات في المحل فعليه بيثرب ذات النخل‏.‏

فخرج قوم إلى عمان وقوم إلى الشام، وهم غسان، وخرج الأوس والخزرج - وهم‏:‏ بنو كعب بن عمرو - وخزاعة حتى نزلوا يثرب، ذات النخل‏.‏

فلما كانوا ببطن مر قالت خزاعة‏:‏ هذا موضع صالح لا نريد به بدلاً، فنزلوا، فمن ثم سميت‏:‏ خزاعة، لأنهم تخزعوا من أصحابهم‏.‏

وتقدمت الأوس والخزرج حتى نزلوا بيثرب، فقال الله عز وجل ليوسف عليه السلام‏:‏ يا يوسف ‏!‏ بعفوك عن إخوتك رفعت لك ذكرك مع الذاكرين‏.‏

وقال‏:‏ قال لقمان لابنه‏:‏ قد ذقت المرار فلم أذق شيئاً أمر من الفقر‏.‏ وحملت كل حمل ثقيل فلم أحمل أثقل من جار السوء‏.‏ ولو أن الكلام من فضة لكان السكوت من ذهب‏.‏

رواه وكيع بن الجراح، عن سفيان، عن أبيه، عن عكرمة‏:‏ ‏{‏وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 17‏]‏ قال‏:‏ ما وقع شيء منها إلا في عين رجل منهم‏.‏

وقال‏:‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏زَنِيْم‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 13‏]‏‏:‏ هو اللئيم الذي يعرف اللؤمة كما يعرف الشاة بذمتها‏.‏

وقال‏:‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 57‏]‏ قال‏:‏ هم أصحاب التصاوير‏.‏

{‏وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 10‏]‏ قال‏:‏ لو أن القلوب تحركت أو زالت لخرجت نفسه، وإنما هو الخوف والفزع‏.‏

{‏فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ بالشهوات‏.‏

{‏وَتَرَبَّصْتُمْ‏}‏‏:‏ بالتوبة‏.‏

{‏وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ‏}‏ أي‏:‏ التسويف‏.‏

{‏حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ‏}‏‏:‏ الموت‏.‏

{‏وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 14‏]‏‏:‏ الشيطان‏.‏

وقال‏:‏ من قرأ يس والقرآن الحكيم لم يزل ذلك اليوم في سرور حتى يمسي‏.‏

قال سلمة بن شعيب‏:‏ حدثنا إبراهيم بن الحكم، عن أبان، عن أبيه‏.‏ قال‏:‏ كنت جالساً مع عكرمة عند البحر فذكروا الذين يغرقون في البحر فقال عكرمة‏:‏ الذين يغرقون في البحار تقتسم لحومهم الحيتان فلا يبقى منها شيء إلا العظام، حتى تصير حائلاً نخرة فتمر بها الإبل فتأكلها، ثم تسير الإبل فتبعرها، ثم يجيء بعدهم قوم فينزلون ذلك المنزل فيأخذون ذلك البعر فيوقدونه، ثم يصير رماداً فتجيء الريح فتأخذه فتذريه في كل مكان من الأرض حيث يشاء الله من بره وبحره، فإذا جاءت النفخة - نفخة المبعث - فيخرج أولئك وأهل القبور المجموعين سواء‏.‏

وبهذا الإسناد، عنه، قال‏:‏ إن الله أخرج رجلين، رجلاً من الجنة ورجلاً من النار، فقال لصاحب الجنة‏:‏ عبدي ‏!‏ كيف وجدت مقيلك‏؟‏ قال‏:‏ خير مقيل‏.‏ ثم قال لصاحب النار‏:‏ ‏(‏‏(‏عبدي ‏!‏ كيف وجدت مقيلك ‏؟‏‏)‏‏)‏ فقال‏:‏ شر مقيل قاله القائلون، ثم ذكر من عقاربها وحياتها وزنابيرها، ومن أنواع ما فيها من العذاب وألونه‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 9/277‏)‏

فيقول الله تعالى لصاحب النار‏:‏ ‏(‏‏(‏عبدي ‏!‏ ماذا تعطيني إن أنا أعفيتك من النار ‏؟‏‏)‏‏)‏ فيقول العبد‏:‏ إلهي وماذا عندي ما أعطيك‏؟‏ فقال له الرب تعالى‏:‏ ‏(‏‏(‏لو كان لك جبل من ذهب أكنت تعطيني فأعفيك من النار ‏؟‏‏)‏‏)‏ فقال‏:‏ نعم، فقال له الرب‏:‏ ‏(‏‏(‏كذبت لقد سألتك في الدنيا ما هو أيسر من ذلك ‏!‏ تدعوني فأستجيب لك، وتستغفرني فأغفر لك، وتسألني فأعطيك، فكنت تتولى ذاهباً‏)‏‏)‏‏.‏

وبهذا الإسناد قال‏:‏ ما من عبد يقربه الله عز وجل يوم القيامة للحساب إلا قام من عند الله بعفوه‏.‏

وبه، عنه‏:‏ لكل شيء أساس، وأساس الإسلام الخلق الحسن‏.‏

وبه، عنه، قال‏:‏ شكا نبي من الأنبياء إلى ربه عز وجل الجوع والعري، فأوحى الله إليه‏:‏ ‏(‏‏(‏أما ترضى أني سددت عنك باب الشر الناشئ عنها ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

وبه، عنه، قال‏:‏ إن في السماء ملكاً يقال له‏:‏ إسماعيل لو أذن الله له بفتح أذن من آذانه يسبح الرحمن عز وجل لمات من في السموات والأرض‏.‏

وبه، عنه، قال‏:‏ سعة الشمس سعة الأرض وزيادة ثلاث مرات، وسعة القمر سعة الأرض مرة، وإن الشمس إذا غربت دخلت بحراً تحت العرش تسبح الله حتى إذا أصبحت استعفت ربها تعالى من الطلوع فيقول لها‏:‏ ولم ذاك‏؟‏ - وهو أعلم - فتقول‏:‏ لئلا أعبد من دونك، فيقول لها‏:‏ اطلعي فليس عليك شيء من ذلك، حسبهم جهنم أبعثها إليهم مع ثلاثة عشرة ألف ملك تقودها حتى يدخلوهم‏.‏

وهذا خلاف ما ثبت في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏‏(‏إن جهنم يؤتى بها تقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك‏)‏‏)‏‏.‏

وقال مندل‏:‏ عن أسد بن عطاء، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يقفن أحدكم على رجل يضرب ظلماً فإن اللعنة تنزل من السماء على من يحضره إذا لم تدفعوا عنه‏.‏ ولا يقفن أحدكم على رجل يقتل ظلماً فإن اللعنة تنزل من السماء على من يحضره إذا لم تدفعوا عنه‏)‏‏)‏‏.‏ لم يرفعه إلا مندل هذا‏.‏

وروى شعبة، عن عمارة بن حفصة، عن عكرمة، عن أبي هريرة، ‏(‏‏(‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا عطس غطى وجهه بثوبه، ووضع يديه على حاجبيه‏)‏‏)‏‏.‏ هذا حديث عال من حديث شعبة‏.‏

وروى بقية، عن إسحق بن مالك الخضري، عن عكرمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من حلف على أحد يميناً، وهو يرى أنه سيبره فلم يفعل، فإنما أثمه على الذي لم يبره‏)‏‏)‏‏.‏ تفرد به بقية بن الوليد مرفوعاً‏.‏

وقال عبد الله بن أحمد في مسند أبيه‏:‏ حدثنا عبيد بن عمر القواريري، حدثنا يزيد بن ربيع، حدثنا عمارة بن أبي حفصة، حدثنا عكرمة، حدثتنا عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عليه بردان قطريان خشنان غليظان، فقالت عائشة‏:‏ يا رسول الله، إن ثوبيك هذين غليظان خشنان، ترشح فيهما فيثقلان عليك، فأرسل إلى فلان فقد أتاه برد من الشام فأشتر منه ثوبين إلى ميسرة‏.‏

فقال‏:‏ قد علمت والله، ما يريد نبي الله إلا أن يذهب بثوبي ويمطلني بثمنها، فرجع الرسول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏كذب ‏!‏ قد علموا أني أتقاهم لله وآداهم للأمانة‏)‏‏)‏‏.‏

وفي هذا اليوم قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لأن يلبس أحدكم من رقاع شتى خير له من أن يستدين ما ليس عنده‏)‏‏)‏، والله سبحانه أعلم‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 9/ 278‏)‏

 القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق

كان أحد الفقهاء المشهورين، له روايات كثيرة، عن الصحابة وغيرهم، وكان من أفضل أهل المدينة، وأعلم أهل زمانه، قتل أبوه بمصر وهو صغير، فأخذته خالته فنشأ عندها، وساد وله مناقب كثيرة‏.‏

أبو رجاء العطاردي

وفيها توفي‏:‏

 كثير عزة الشاعر المشهور

وهو كثير بن عبد الرحمن بن الأسود بن عامر، أبو صخر الخزاعي الحجازي، المعروف بابن أبي جمعة، وعزة هذه المشهور بها المنسوب إليها، لتغزله فيها، هي أم عمرو عزة بالعين المهملة، بنت جميل بن حفص، من بني حاجب بن غفار، وإنما صغر اسمه فقيل كثير، لأنه كان دميم الخلق قصيراً، طوله ثلاثة أشبار‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ كان يقال له رب الدبان، وكان إذا مشى يظن أنه صغير من قصره، وكان إذا دخل على عبد الملك بن مروان يقول له‏:‏ طأطأ رأسك لا يؤذيك السقف، وكان يضحك إليه، وكان يفد على عبد الملك، ووفد على عبد الملك بن مروان مرات، ووفد على عمر بن عبد العزيز‏.‏

وكان يقال‏:‏ إنه أشعر الإسلاميين، على أنه كان فيه تشيع، وربما نسبه بعضهم إلى مذهب التناسخية، وكان يحتج على ذلك من جهله وقلة عقله إن صح النقل عنه، في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 8‏]‏‏.‏

وقد استأذن يوماً على عبد الملك، فلما دخل عليه قال عبد الملك‏:‏ لأن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، فقال حَيَّهلا يا أمير المؤمنين إنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه، إن نطق نطق ببيان، وإن قاتل قاتل بجنان، وأنا الذي أقول‏:‏

وجربت الأمور وجربتني * وقد أبدت عريكتي الأمور

وما تخفى الرجال علي أني* بهم لأخو مثاقفةٍ خبير

‏(‏ج/ص‏:‏ 9/ 279‏)‏

ترى الرجل النحيف فتزدريه * وفي أثوابه أسد زئير

ويعجبك الطرير فتختبره * فيخلف ظنك الرجل الطرير

وما هام لها بزين ولكن زينها * دين وخير بغاث الطير

أطولها جسوماً ولم تطل * البزاة ولا الصقور

وقد عظم البعير بغير لبٍ * فلم يستغن بالعظم البعير

فيركب ثم يضرب بالهراوي * ولا عرف لديه ولا نكير

وعود النبع ينبت مستمراً * وليس يطول والعضباء حور

وقد تكلم أبو الفرج بن طرار على غريب هذه الحكاية وشعرها بكلام طويل، قالوا‏:‏ ودخل كثير عزة يوماً على عبد الملك بن مروان فامتدحه بقصيدته التي يقول فيها‏:‏

على ابن أبي العاصي دروع حصينةٌ * أجاد المدى سردها وأدالها

قال له عبد الملك‏:‏ أفلا قلت كما قال الأعشى لقيس بن معد يكرب‏:‏

وإذا تجيء كتيبةٌ ملمومة شهباً * يخشى الذائدون صيالها

كنت المقدم غير لابس جبةً * بالسيف يضرب معلماً أبطالها

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين وصفه بالخرق و وصفتك بالحزم‏.‏

ودخل يوماً على عبد الملك وهو يتجهز للخروج إلى مصعب بن الزبير فقال‏:‏ ويحك يا كثير، ذكرتك الآن بشعرك فإن أصبته أعطيتك حكمك، فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين كأنك لما ودعت عاتكة بنت يزيد بكت لفراقك فبكى لبكائها حشمها، فذكرت قولي‏:‏

إذا ما أراد الغزو لم تثن عزمه * حصان عليها نظم دريزينها

نهته فلما لم تر النهي عافه * بكت فبكى مما عراها قطينها

قال‏:‏ أصبت فاحتكم‏.‏

قال‏:‏ مائة ناقة من نوقك المختارة‏.‏

قال‏:‏ هي لك، فلما سار عبد الملك إلى العراق نظر يوماً إلى كثير عزة وهو مفكر في أمره، فقال‏:‏ عليَّ به، فلما جيء به قال له‏:‏ أرأيت إن أخبرتك بما كنت تفكر به تعطيني حكمي‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏

قال‏:‏ والله‏؟‏

قال‏:‏ والله، قال له عبد الملك‏:‏ إنك تقول في نفسك‏:‏ هذا رجل ليس هو على مذهبي، وهو ذاهب إلى قتال رجل ليس هو على مذهبي، فإن أصابني سهم غرب من بينهما خسرت الدنيا والآخرة‏.‏

فقال‏:‏ أي والله يا أمير المؤمنين فاحتكم‏.‏

قال‏:‏ أحتكم حكمي أن أدرك إلى أهلك وأحسن جائزتك، فأعطاه مالاً وأذن له بالانصراف ‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 9/ 280‏)‏

وقال حماد الراوية، عن كثير عزة‏:‏ وفدت أنا والأحوص، ونصيب إلى عمر بن عبد العزيز حين ولي الخلافة، ونحن نمت بصحبتنا إياه ومعاشرتنا له، لما كان بالمدينة، وكل منا يظن أنه سيشركه في الخلافة، فنحن نسير ونختال في رحالنا‏.‏

فلما انتهينا إلى خناصرة ولاحت لنا أعلامها تلقانا مسلمة بن عبد الملك فقال‏:‏ ما أقدمكم‏؟‏ أو ما علمتم أن صاحبكم لا يحب الشعر ولا والشعراء‏؟‏

قال‏:‏ فوجمنا لذلك، فأنزلنا مسلمة عنده وأجرى علينا النفقات وعلف دوابنا، وأقمنا عنده أربعة أشهر لا يمكنه أن يستأذن لنا على عمر‏.‏

فلما كان في بعض الجمع دنوت منه لأسمع خطبته فأسلم عليه بعد الصلاة، فسمعته، يقول في خطبته‏:‏ لكل سفر زاد، فتزودوا لسفركم من الدنيا إلى الآخرة بالتقوى، وكونوا كمن عاين ما أعد الله له من عذابه وثوابه فترغبوا وترهبوا، ولا يطولن عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم وتنقادوا لعدوكم، فإنه والله ما بسط أمل من لا يدري لعله لا يمسي بعد إصباحه ولا يصبح بعد إمسائه، وربما كانت له كامنة بين ذلك خطرات الموت والمنايا، وإنما يطمئن من وثق بالنجاة من عذاب الله وأهوال يوم القيامة، فأما من لا يداوي من الدنيا كلماً إلا أصابه جارح من ناحية أخرى فكيف يطمئن‏.‏

أعوذ بالله أن آمركم بما أنهى عنه نفسي فتحسر صفقتي وتبدو مسكنتي في يوم لا ينفع فيه إلا الحق والصدق، ثم بكى حتى ظننا أنه قاض نحبه‏.‏

وارتج المسجد وما حوله بالبكاء والعويل قال‏:‏ فانصرفت إلى صاحبي فقلت‏:‏ خذ سرحاً من الشعر غير ما كنا نقول لعمر وآبائه فإنه رجل أخرى ليس برجل دنيا‏.‏

قال‏:‏ ثم استأذن لنا مسلمة عليه يوم الجمعة فلما دخلنا عليه سلمت عليه، ثم قلت‏:‏ يا أمير المؤمنين طال الثواء وقلت الفائدة، وتحدث بجفائك إيانا وفود العرب‏.‏

فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 61‏]‏ وقرأ الآية، فإن كنتم من هؤلاء أعطيتم، وإلا فلاحق لكم فيها، فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين إني مسكين وعابر سبيل ومنقطع به‏.‏

فقال‏:‏ ألستم عند أبي سعيد‏؟‏ - يعني‏:‏ مسلمة بن عبد الملك - فقلنا بلى ‏!‏

فقال‏:‏ إنه لا ثواب على من هو عند أبي سعيد‏.‏

فقلت‏:‏ ائذن لي يا أمير المؤمنين بالإنشاد

قال‏:‏ نعم، ولا تقل إلا حقاً، فأنشدته قصيدة فيه‏:‏

وليت فلم تشتم علياً ولم تخف * بريئاً ولم تقبل إشارة مجرم

وصدقت بالفعل المقال مع الذي * آتيت فأمسى راضيا كل مسلم

إلا إنما يكفي الفتى بعد ريعه * من الأود النادي ثقاف المقوم

وقد لبست تسعى إليك ثيابها * تراءى لك الدنيا بكف ومعصم

وتمض أحياناً بعين مريضة * وتبسم عن مثل الحمان المنظم

فأعرضت عنها مشمئزاً كأنما * سقتك مذوقاً من سمام وعلقم

وقد كنت من أحبالها في ممنع * ومن بحرها في مزبد الموج مفعم

ومازلت تواقاً إلى كل غاية * بلغت بها أعلى البناء المقدم

فلما أتاك الملك عفواً ولم تكن * لطالب دنيا بعدة في تكلم

‏(‏ج/ص‏:‏ 9/ 281‏)‏

تركت الذي يفنى وإن كان مونقاً * و آثرت ما يبقى برأي مصمم

وأضررت بالفاني وشمرت للذي * أمامك في يوم من الشر مظلم

ومالك إذ كنت الخليفة مانع * سوى الله من مال رعيت و لا دم

سما لك همٌ في الفؤاد مؤرق * بلغت به أعلى المعالي بسلم

فما بين شرق الأرض والغرب كلها * مناد ينادي من فصيح وأعجم

يقول أمير المؤمنين ظلمتني * بأخذك ديناري وأخذك درهمي

ولا بسط كف لامرئ غير مجرم * ولا السفك منه ظالماً ملء محجم

ولو يستطيع المسلمون لقسموا * لك الشطر من أعمارهم غير ندَّم

فعشت بها ما حج لله راكب * ملبٍ مطيف بالمقام و زمزم

فاربخ بها من صفقة لمبايع * وأعظم بها أعظم بها ثم أعظم

قال‏:‏ فأقبل علي عمر بن عبد العزيز وقال‏:‏ إنك تسأل عن هذا يوم القيامة، ثم استأذنه الأحوص فانشده قصيدة أخرى فقال‏:‏ إنك تسأل عن هذا يوم القيامة‏.‏

ثم استأذنه نصيب فلم يأذن له، وأمر لكل واحد منهم بمائة وخمسين درهماً، وأغزى نصيباً إلى مرج دابق‏.‏

وقد وفد كثير عزة بعد ذلك على يزيد بن عبد الملك فامتدحه بقصائد فأعطاه سبعمائة دينار‏.‏

وقال الزبير بن بكار‏:‏ كان كثير عزة شيعياً خبيثاً يرى الرجعة، وكان يرى التناسخ ويحتج بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 8‏]‏‏.‏

وقال موسى بن عقبة‏:‏ هوَّل كثير عزة ليلة في منامه فأصبح يمتدح آل الزبير، ويرثي عبد الله بن الزبير، وكان يسيء الرأي فيه‏:‏

بمفتضح البطحا تأول أنه * أقام بها ما لم ترمها الأخاشب

سرحنا سروباً آمنين ومن يخف * بوائق ما يخشى تنبه النوائب

تبرأت من عيب ابن أسماء إنني * إلى الله من عيب ابن أسماء تائب

هو المرء لا ترزى به أمهاته * وآباؤه فينا الكرام الأطايب

وقال مصعب بن عبد الله الزبيري‏:‏ قالت عائشة بنت طلحة لكثير عزة‏:‏ ما الذي يدعوك إلى ما تقول من الشعر في عزة وليست على نصف من الحسن والجمال‏؟‏ فلو قلت ذلك فيَّ وفي أمثالي فأنا أشرف وأفضل وأحسن منها - وكانت عائشة بنت طلحة قد فاقت النساء حسناً وجمالاً وأصالةً - وإنما قالت له ذلك لتختبره وتبلوه فقال‏:‏

ضحى قلبه يا عز أو كاد يذهل * وأضحى يريد الصوم أو يتبدل

وكيف يريد الصوم من هو وامق * لعزة لا قال ولا متبذل

إذا واصلتنا خلة كي تزيلنا * أبينا وقلنا الحاجبية أول

سنوليك عرفاً إن أردت وصالنا * ونحن لتيك الحاجبية أوصل

‏(‏ج/ص‏:‏ 9/282‏)‏

وحدثها الواشون أني هجرتها * فحملها غيظاً على المحمل

فقالت له عائشة‏:‏ قد جعلتني خلة ولست لك بخلة، وهلا قلت كما قال جميل فهو والله أشعر منك حيث يقول‏:‏

يا رب عارضة علينا وصلها * بالجد تخلطه بقول الهازل

فأجبتها بالقول بعد تستر * حبي بثينة عن وصالك شاغلي

لو كان في قلبي بقدر قلامة * فضل وصلتك أو أتتك رسائلي

فقال‏:‏ والله ما أنكر فضل جميل، وما أنا إلا حسنة من حسناته، واستحيا‏.‏

ومما أنشده ابن الأنباري لكثير عزة‏:‏

بأبي وأمي أنت من معشوقة * طبن العدو لها فغير حالها

ومشى إلي بعيب عزة نسوة * جعل الإله خدودهن نعالها

الله يعلم لو جمعن ومثلت * لأخذت قبل تأمل تمثالها

ولو أن عزة خاصمت شمس الضحى * في الحسن عند موفق لقضى لها

وأنشد غيره لكثير عزة‏:‏

فما أحدث النأي الذي كان بيننا * سلوا ولا طول اجتماع تقاليا

وما زادني الواشون إلا صبابة * ولا كثرة الناهين إلا تمادياً

غيره له‏:‏

فقلت لها يا عز كل مصيبة * إذا وطنت يوماً لها النفس ذلت

هنيئاً مريئاً غير داء مخامر لعزة * من أعراضنا ما استحلت

وقال كثير عزة أيضاً وفيه حكمة أيضاً‏:‏

ومن لا يغمض عينه عن صديقه * وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب

ومن يتتبع جاهداً كل عثرة * يجدها ولا يبقى له الدهر صاحب

وذكروا أن عزة بنت جميل بن حفص أحد بني حاجب بن عبد الله بن غفار أم عمرو الضمرية وفدت على عبد الملك بن مروان تشكو إليه ظلامة فقال‏:‏ لا أقضيها لك حتى تنشديني شيئاً من شعره، فقالت‏:‏ لا أحفظ لكثير شعراً، لكني سمعتهم يحكون عنه أنه قال فيّ هذه الأبيات‏:‏

قضى كل ذي دين علمت غريمه * وعزة ممطول معنى غريمها

فقال‏:‏ ليس عن هذا أسألك ولكن أنشديني قوله‏:‏

وقد زعمت إني تغيرت بعدها * ومن ذا الذي يا عز لا يتغير

تغير جسمي والمحبة كالذي * عهدت ولم يخبر بذاك مخبر

‏(‏ج/ص‏:‏ 9/283‏)‏

قال‏:‏ فاستحيت وقالت‏:‏ أما هذا فلا أحفظه ولكن سمعتهم يحكونه عنه ولكن أحفظ له قوله‏:‏

كأني أنادي صخرة حين أعرضت * من الظلم لو تمشى بها العصم زلت

صفوح فما تلقاك إلا بخيلة * ومن مل منها ذلك الوصل ملت

قال‏:‏ فقضى لها حاجتها وردها ورد عليها ظلامتها وقال‏:‏ أدخلوها الحرم ليتعلموا من أدبها‏.‏

وروي عن بعض نساء العرب قالت‏:‏ اجتازت بنا عزة فاجتمع نساء الحاضر إليها لينظرن حسنها، فإذا هي حميراء حلوة لطيفة، فلم تقع من النساء بذلك الموقع حتى تكلمت فإذا هي أبرع النساء وأحلاهن حديثاً، فما بقي في أعيننا امرأة تفوقها حسناً وجمالاً وحلاوةً‏.‏

وذكر الأصمعي‏:‏ عن سفيان بن عيينة، قال‏:‏ دخلت عزة على سكينة بنت الحسين فقالت لها‏:‏ إني أسألك عن شيء فاصدقيني، ما الذي أراد كثير في قوله لك‏:‏

قضى كل ذي دين فوفى غريمة * وعزة ممطول معنى غريمها

فقالت‏:‏ كنت وعدته قبلة فمطلته بها، فقالت‏:‏ أنجزيها له و إثمها عليَّ، وقد كانت سكينة بنت الحسين من أحسن النساء حتى كان يضرب بحسنها المثل‏.‏

وروي أن عبد الملك بن مروان أراد أن يزوج كثيراً من عزة فأبت عليه وقالت‏:‏ يا أمير المؤمنين أبعد ما فضحني بين الناس وشهرني في العرب ‏!‏ وامتنعت من ذلك كل الامتناع، ذكره ابن عساكر‏.‏

وروي إنها اجتازت مرة بكثير وهو لا يعرفها فتنكرت عليه وأرادت أن تختبر ما عنده، فتعرض لها فقالت‏:‏ فأين حبك عزة‏؟‏ فقال‏:‏ أنا لك الفداء لو أن عزة أمة لي لوهبتها لك، فقالت‏:‏ ويحك لا تفعل ألست القائل‏:‏

إذا وصلتنا خلة كي تزيلنا * أبينا وقلنا الحاجبية أول

فقال‏:‏ بأبي أنت وأمي، أقصري عن ذكرها وأسمعي ما أتقول‏:‏

هل وصل عزة إلا وصل غانية * في وصل غانية من وصلها بدل

قالت‏:‏ فهل لك في المجالسة‏؟‏ قال‏:‏ ومن لي بذلك‏؟‏ قالت‏:‏ فكيف بما قلت في عزة‏؟‏ قال‏:‏ أقلبه فيتحول لك، قال‏:‏ فسفرت عن وجهها وقالت‏:‏

أغدراً وتناكثاً يا فاسق، وإنك لها هنا يا عدو الله، فبهت وأبلس ولم ينطق وتحير وخجل، ثم قالت‏:‏ قاتل الله جميلاً حيث يقول‏:‏

محا الله من لا ينفع الود عنده * ومن حبله إن صد غير متين

ومن هو ذو وجهين ليس بدائم * على العهد حلافاً بكل يمين

ثم شرع كثير يعتذر ويتنصل مما وقع منه ويقول في ذلك الأشعار ذاكراً وآثراً‏.‏

وقد ماتت عزة بمصر في أيام عبد العزيز بن مروان، وزار كثير قبرها ورثاها وتغير شعره بعدها، فقال له قائل‏:‏ ما بال شعرك تغير وقد قصرت فيه‏؟‏ فقال‏:‏ ماتت عزة ولا أطرب، وذهب الشباب فلا أعجب، ومات عبد العزيز بن مروان فلا أرغب، وإنما ينشأ الشعر عن هذه الخلال‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/284‏)‏

وكانت وفاته ووفاة عكرمة في يوم واحد، ولكن في سنة خمس ومائة على المشهور‏.‏ وإنما ذكره شيخنا الذهبي في هذه السنة - أعني سنة سبع ومائة - والله سبحانه أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان ومائة

ففيها افتتح مسلمة بن عبد الملك قيسارية من بلاد الروم‏.‏

وفتح إبراهيم بن هشام بن عبد الملك حصناً من حصون الروم أيضاً‏.‏

وفيها غزا أسيد بن عبد الله القسري أمير خراسان فكسر الأتراك كسرة فاضحة‏.‏

وفيها زحف خاقان إلى أذربيجان وحاصر مدينة ورثان ورماها بالمناجيق، فسار إليه أمير تلك الناحية‏:‏ الحارث بن عمرو نائب مسلمة بن عبد الملك، فالتقى مع خاقان ملك الترك فهزمه، وقتل من جيشه خلق كثير، وهرب الخاقان بعد أن كان قتل في جملة من قتل من جيشه، وقتل الحارث بن عمرو شهيداً، وذلك بعد أن قتلوا من الأتراك خلقاً كثيراً‏.‏

وفيها غزا معاوية بن هشام بن عبد الملك أرض الروم، وبعث البطال على جيش كثيف فافتتح جنجرة وغنم منها شيئاً كثيراً‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 بكر بن عبد الله المزني البصري

كان عالماً عابداً زاهداً متواضعاً قليل الكلام، وله روايات كثيرة عن خلق من الصحابة والتابعين‏.‏

قال بكر بن عبد الله‏:‏ إذا رأيت من هو أكبر منك من المسلمين فقل‏:‏ سبقته إلى المعاصي فهو خير مني، وإذا رأيت إخوانك يكرهونك ويعظمونك فقل‏:‏ هذا من فضل ربي، وإذا رأيت منهم تقصيراً فقل‏:‏ هذا بذنب أحدثته‏.‏

وقال‏:‏ من مثلك يا ابن آدم‏؟‏ خلي بينك وبين الماء والمحراب متى شئت تطهرت ودخلت على ربك عز وجل ليس بينك وبينه ترجمان ولا حاجب‏.‏

وقال‏:‏ لا يكون العبد تقياً حتى يكون تقي الطمع تقي الغضب‏.‏

وقال‏:‏ إذا رأيتم الرجل موكلاً بعيوب الناس ناسياً لعيبه فاعلموا أنه قد مكر به‏.‏

وقال‏:‏ كان الرجل من بني إسرائيل إذا بلغ المبلغ الصالح من العمل فمشى في الناس تظلله غمامة، قال‏:‏ فمر رجل قد أظلته غمامة على رجل فأعظمه لما رآه مما آتاه الله، فاحتقره صاحب الغمامة فأمرها الله أن تتحول عن رأسه إلى رأس الذي احتقره، وهو الذي عظم أمر الله عز وجل‏.‏

وقال‏:‏ ما سبقهم أبو بكر بكثير صلاة ولا صيام، ولكن بشيء قر في صدره‏.‏

وله كلام حسن كثير يطول ذكره‏.‏

راشد بن سعد المقراني الحمصي

عمر دهراً، وروى عن جماعة من الصحابة، وقد كان عابداً صالحاً زاهداً، رحمه الله تعالى، وله ترجمة طويلة‏.‏

 محمد بن كعب القرظي

توفي فيها في قول، وهو‏:‏ أبو حمزة، له روايات كثيرة عن جماعة من الصحابة، وكان عالماً بتفسير القرآن، صالحاً عابداً‏.‏

قال الأصمعي‏:‏ حدثنا أبو المقدام - هشام بن زياد -، عن محمد بن كعب القرظي، أنه سئل‏:‏ ما علامة الخذلان‏؟‏ قال‏:‏ أن يقبح الرجل ما كان يستحن، ويستحسن ما كان قبيحاً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/285‏)‏

وقال عبد الله بن المبارك‏:‏ حدثنا عبد الله بن عبد الله بن موهب، قال‏:‏ سمعت بن كعب، يقول‏:‏ لأن أقرأ في ليلة حتى أصبح إذا زلزلت والقارعة لا أزيد عليهما وأردد فيهما الفكرة، أحب إلى من أن أهد القرآن هداً - أو قال‏:‏ انثره نثراً -‏.‏

وقال‏:‏ لو رخص لأحد في ترك الذكر، لرخص لزكريا عليه السلام، قال تعالى‏:‏ ‏{‏آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 41‏]‏‏.‏

فلو رخص لأحد في ترك الذكر لرخص له، ولرخص للذين يقاتلون في سبيل الله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 45‏]‏‏.‏

وقال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 200‏]‏ قال‏:‏ اصبروا على دينكم وصابروا لوعدكم الذي وعدتم، ورابطوا عدوكم الظاهر والباطن، واتقوا الله فيما بيني وبينكم، لعلكم تفلحون إذا لقيتموني‏.‏

وقال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 24‏]‏‏:‏ علم ما أحل القرآن مما حرم‏.‏

{‏مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 100‏]‏ قال‏:‏ القائم‏:‏ ما كان من بنائهم قائماً، والحصيد‏:‏ ما حصد فهدم‏.‏

{‏إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 65‏]‏ قال‏:‏ غرموا ما نعموا به من النعم في الدنيا‏.‏

وفي رواية‏:‏ سألهم ثمن نعمة فلم يقدروا عليها ولم يؤدوها، فأغرمهم ثمنها‏.‏ فأدخلهم النار‏.‏

وقال قتيبة بن سعيد‏:‏ حدثنا عبد الرحمن بن أبي الموالي، قال‏:‏ سمعت محمد بن كعب في هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 39‏]‏ قال‏:‏ هو الرجل يعطي الآخر من ماله ليكافئه به أو يزداد، فهذا الذي لا يربو عند الله، والمضعفون هم الذي يعطون لوجه الله لا يبتغي مكافئة أحد‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 80‏]‏ قال‏:‏ اجعل سريرتي وعلانيتي حسنة‏.‏

وقيل‏:‏ أدخلني مدخل صدق في العمل الصالح، أي‏:‏ الإخلاص، وأخرجني مخرج صدق أي‏:‏ سالماً‏.‏

{‏أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 37‏]‏ أي‏:‏ يسمع القرآن وقلبه معه في مكان آخر‏.‏

{‏فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 9‏]‏ قال‏:‏ السعي العمل ليس بالشد‏.‏

وقال‏:‏ الكبائر ثلاثة‏:‏ أن تأمن مكر الله، وأن تقنط من رحمة الله، وأن تيأس من روح الله‏.‏

وقال عبد الله بن المبارك‏:‏ حدثنا موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب، قال‏:‏ إذا أراد الله بعبد خيراً جعل فيه ثلاث خصال‏:‏ فقهاً في الدين، وزهادة في الدنيا، وبصراً بعيوب نفسه‏.‏

وقال‏:‏ الدنيا دار قلق، رغب عنها السعداء، وانتزعت من أيدي الأشقياء، فأشقى الناس بها أرغب الناس فيها، وأزهد الناس فيها أسعد الناس بها، هي الغاوية لمن أضاعها، المهلكة لمن اتبعها، الخائنة لمن انقاد لها، علمها جهل، وغناؤها فقر، وزيادتها نقصان، وأيامها دول‏.‏

وروى ابن المبارك، عن داود بن قيس، قال‏:‏ سمعت محمد بن كعب يقول‏:‏ إن الأرض لتبكي من رجل، وتبكي على رجل، تبكي على من كان يعمل على ظهرها بطاعة الله، وتبكي ممن كان يعمل على ظهرها بمعصية الله قد أثقلها‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/286‏)‏

ثم قرأ‏:‏ ‏{‏فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 29‏]‏‏.‏

وقال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏ 7-8‏]‏‏:‏ من يعمل مثقال ذرة خيراً من كافر يرى ثوابها في نفسه وأهله وماله حتى يخرج من الدنيا وليس له خير، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره، من مؤمن يرى عقوبتها في نفسه وأهله وماله حتى يخرج من الدنيا وليس له شر‏.‏

وقال‏:‏ ما يؤمنني أن يكون الله قد اطلع علي في بعض ما يكره فمقتني، وقال‏:‏ اذهب لا أغفر لك مع إن عجائب القرآن تردني على أمور حتى إنه لينقضي الليل ولم أفرغ من حاجتي‏.‏

وكتب عمر بن عبد العزيز إلى محمد بن كعب يسأله أن يبيعه غلامه سالماً - وكان عابداً خيراً زاهداً - فكتب إليه‏:‏ إني قد دبرته، قال‏:‏ فازدد فيه، فأتاه سالم فقال له عمر‏:‏ إني قد ابتليت بما ترى، وأنا والله أتخوف أن لا أنجو، فقال له سالم‏:‏ إن كنت كما تقول فهذا نجاته، وإلا فهو الأمر الذي يخاف‏.‏

قال‏:‏ يا سالم عظني، قال‏:‏ آدم عليه السلام أخطأ خطيئة واحدة خرج بها من الجنة، وأنتم مع عمل الخطايا ترجون دخول الجنة، ثم سكت‏.‏

قلت‏:‏ والأمر كما قيل في بعض كتب الله‏:‏ تزرعون السيئات وترجون الحسنات، لا يجتنى من الشوك العنب‏.‏

تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي * درج الجنان وطيب عيش العابد

ونسيت أن الله أخرج آدماً * منها إلى الدنيا بذنب واحد

وقال‏:‏ من قرأ القرآن متِّع بعقله وإن بلغ من العمر مائتي سنة‏.‏

وقال له رجل‏:‏ ما تقول في التوبة‏؟‏ قال‏:‏ لا أحسنها، قال‏:‏ أفرأيت إن أعطيت الله عهداً أن لا تعصيه أبداً‏؟‏ قال‏:‏ فمن أعظم جرماً منك، تتألى على الله أن لا ينفذ فيك أمره‏.‏

وقال الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني‏:‏ حدثنا ابن عبد العزيز، حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام، حدثنا عباد بن عباد، عن هشام بن زياد أبي المقدام، قالوا كلهم‏:‏ حدثنا محمد بن كعب القرظي، قال‏:‏ حدثنا ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق مما في يده، ألا أنبئكم بشراركم ‏؟‏‏)‏‏)‏ قالوا‏:‏ نعم يا رسول الله، قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من نزل وحده، ومنع رفده، وجلد عبده، أفأنبئكم بشر من هذا ‏؟‏‏)‏‏)‏ قالوا‏:‏ نعم يا رسول الله، قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من لا يقبل عثرة، ولا يقبل معذرة، ولا يغفر ذنباً‏)‏‏)‏، ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ألا أنبئكم بشر من هذا ‏؟‏‏)‏‏)‏ قالوا‏:‏ نعم يا رسول الله، قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من لا يرجى خيره، ولا يؤمن شره، إن عيسى بن مريم قام في بني إسرائيل خطيباً فقال‏:‏ يا بني إسرائيل لا تكلموا بالحكمة عند الجهال فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموها - وقال مرة‏:‏ فتظلموهم - ولا تظلموا ظالماً، ولا تطاولوا ظالماً فيبطل فضلكم عند ربكم، يا بني إسرائيل الأمور ثلاثة‏:‏ أمر تبين رشده فاتبعوه، وأمر تبين غيه فاجتنبوه، وأمر اختلف فيه فردوه إلى الله‏)‏‏)‏‏.‏

وهذه الألفاظ لا تحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا السياق إلا من حديث محمد بن كعب، عن ابن عباس، وقد روى أول الحديث إلى ذكر عيسى من غير طريقه، وسيأتي أن هذا الحديث تفرد به الطبراني بطوله، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/287‏)‏

وفيها توفي أبو نضرة المنذر بن مالك بن قطعة العبدي، وقد ذكرنا ترجمهم في كتابنا التكميل‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع ومائة

ففيها عزل هشام بن عبد الملك أسد بن عبد الله القسري عن إمرة خراسان، وأمره أن يقدم إلى الحج فأقبل منها في رمضان، واستخلف على خراسان الحكم بن عوانة الكلبي، واستناب هشام على خراسان أشرس بن عبد الله السلمي، وأمره أن يكاتب خالد بن عبد الله القسري، وكان أشرس فاضلاً خيراً، وكان سمي الكامل لذلك، وكان أول من اتخذ المرابطة بخراسان، واستعمل المرابطة عبد الملك بن زياد الباهلي، وتولى هو الأمور بنفسه كبيرها وصغيرها، ففرح بها أهلها‏.‏

وفيها حج بالناس إبراهيم بن هشام أمير الحرمين‏.‏

 سنة عشر ومائة من الهجرة النبوية

فيها قاتل مسلمة بن عبد الملك ملك الترك الأعظم خاقان، فزحف إلى مسلمة في جموع عظيمة فتوقفوا نحواً من شهر، ثم هزم الله خاقان زمن الشتاء، ورجع مسلمة سالماً غانماً، فسلك على مسلك ذي القرنين في رجوعه إلى الشام، وتسمى هذه الغزوة غزاة الطين وذلك أنهم سلكوا على مفارق ومواضع غرق فيها دواب كثيرة، وتوحل فيها خلق كثير، فما نجوا حتى قاسوا شدائد وأهوالاً صعاباً وشدائد عظاماً‏.‏

وفيها دعا أشرس بن عبد الله السلمي نائب خراسان أهل الذمة بسمرقند ومن وراء النهر إلى الدخول في الإسلام، ويضع عنهم الجزية فأجابوه إلى ذلك، وأسلم غالبهم، ثم طالبه بالجزية فنصبوا له الحرب وقاتلوه، ثم كانت بينه وبين الترك حروب كثيرة، أطال ابن جرير بسطها وشرحها فوق الحاجة‏.‏

وفيها أرسل أمير المؤمنين هشام بن عبيدة إلى أفريقية متولياً عليها، فلما وصل جهز ابنه وأخاه في جيش فالتقوا مع المشركين، فقتلوا منهم خلقاً كثيراً وأسروا بطريقهم وانهزم باقيهم، وغنم المسلمون منهم شيئاً كثيراً‏.‏

وفيها افتتح معاوية بن هشام حصنين من بلاد الروم، وغنم غنائم جمة‏.‏

وفيها حج بالناس إبراهيم بن هشام وعلى العراق خالد القسري، وعلى خراسان أشرس السلمي‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 9/288‏)‏

 ذكر من توفي فيها من الأعيان‏:‏

 جرير الشاعر

وهو جرير بن الخطفي، ويقال‏:‏ ابن عطية بن الخطفي، واسم الخطفي‏:‏ حذيفة بن بدر بن سلمة عوف بن كليب بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مر بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار، أبو حرزة الشاعر البصري‏.‏

قدم دمشق مراراً، وامتدح يزيد بن معاوية والخلفاء من بعده، ووفد على عمر بن عبد العزيز، وكان في عصره من الشعراء الذين يقارنونه الفرزدق والأخطل ، وكان جرير أشعرهم وأخيرهم‏.‏

قال غير واحد‏:‏ هو أشعر الثلاثة‏.‏

قال ابن دريد‏:‏ ثنا الأشنانداني، ثنا الثوري، عن أبي عبيدة، عن عثمان البني، قال‏:‏ رأيت جريراً وما تضم شفتاه من التسبيح، فقلت‏:‏ وما ينفعك هذا‏؟‏ فقال‏:‏ سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد إن الحسنات يذهبن السيئات، وعد من الله حق‏.‏

وقال هشام بن محمد الكلبي، عن أبيه، قال‏:‏ دخل رجل من بني عذرة على عبد الملك بن مروان يمتدحه بقصيدة، وعنده الشعراء الثلاثة‏:‏ جرير والفرزدق والأخطل، فلم يعرفهم الأعرابي، فقال عبد الملك للأعرابي‏:‏ هل تعرف أهجى بيت قالته العرب في الإسلام‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏ قول جرير‏:‏

فغض الطرف إنك من نمير * فلا كعباً بلغت ولا كلاباً

فقال‏:‏ أحسنت ‏!‏ فهل تعرف أمدح بيت قيل في الإسلام‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏ قول جرير‏:‏

ألستم خير من ركب المطايا * وأندى العالمين بطون راح

فقال‏:‏ أصبت وأحسنت ‏!‏ فهل تعرف أرق بيت قيل في الإسلام‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏ قول جرير‏:‏

إن العيون التي في طرفها مرض * قتلننا ثم لم يحيين قتلانا

يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به * وهن أضعف خلق الله أركانا

‏(‏ج/ص‏:‏ 9/289‏)‏

فقال أحسنت ‏!‏ فهل تعرف جريراً‏؟‏

قال‏:‏ لا والله وإني إلى رؤيته لمشتاق‏.‏

قال‏:‏ فهذا جرير وهذا الفرزدق وهذا الأخطل، فأنشأ الأعرابي يقول‏:‏

فحيا الإله أبا حرزة * وأرغم أنفك يا أخطل

وجد الفرزدق أتعس به * ورقَّ خياشيمه الجندل

فأنشأ الفرزدق يقول‏:‏

يا أرغم الله أنفاً أنت حامله * يا ذا الخنا ومقال الزور والخطل

ما أنت بالحكم الترضى حكومته * ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل

ثم أنشأ الأخطل يقول‏:‏

يا شر من حملت ساق على قدم * ما مثل قولك في الأقوام يحتمل

إن الحكومة ليست في أبيك ولا * في معشر أنت منهم إنهم سفل

فقام جرير مغضباً وقال‏:‏

أتشتمان سفاهاً خيركم حسباً * ففيكم -وإلهي - الزور والخطل

شتمتماه على رفعي ووضعكما * لا زلتما في سفال أيها السفل

ثم وثب جرير فقبل رأس الأعرابي، وقال‏:‏ يا أمير المؤمنين جائزتي له، وكانت خمسة آلاف، فقال عبد الملك‏:‏ وله مثلها من مالي، فقبض الأعرابي ذلك كله وخرج‏.‏

وحكى يعقوب بن السكيت‏:‏ أن جريراً دخل على عبد الملك مع وفد أهل العراق من جهة الحجاج فأنشده مديحه الذي يقول فيه‏:‏

ألستم خير من ركب المطايا * وأندى العالمين بطون راح فأطلق له مائة ناقة وثمانية من الرعاء أربعة من النوبة وأربعة من السبي الذين قدم بهم من الصغد‏.‏

قال جرير‏:‏ وبين يدي عبد الملك جامان من فضة قد أهديت له، وهو لا يعبأ بها شيئاً، فهو يقرعها بقضيب في يده، فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين المحلب، فألقى إلي واحداً من تلك الجامات، ولما رجع إلى الحجاج أعجبه إكرام أمير المؤمنين له فأطلق الحجاج له خمسين ناقة تحمل طعاماً لأهله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/290‏)‏

وحكى نفطويه‏:‏ أن جريراً دخل يوماً على بشر بن مروان وعنده الأخطل، فقال بشر لجرير‏:‏ أتعرف هذا‏؟‏ قال‏:‏ لا ‏!‏ ومن هذا أيها الأمير‏؟‏

فقال‏:‏ هذا الأخطل‏.‏

فقال الأخطل‏:‏

أنا الذي قذفت عرضك، أسهرت ليلك، وآذيت قومك‏.‏

فقال جرير‏:‏ أما قولك شتمت عرضك فما ضر البحر أن يشتمه من غرق فيه، وأما قولك وأسهرت ليلك، فلو تركتني أنام لكان خيراً لك، وأما قولك وآذيت قومك، فكيف تؤذي قوماً أنت تؤدي الجزية إليهم ‏؟‏

وكان الأخطل من نصارى العرب المتنصرة، قبحه الله وأبعد مثواه، وهو الذي أنشد بشر بن مروان قصيدته التي يقول فيها‏:‏

قد استوى بشر على العراق * من غير سيف ودم مهراق

وهذا البيت تستدل به الجهمية على أن الاستواء على العرش بمعنى‏:‏ الاستيلاء وهذا من تحريف الكلم عن مواضعه، وليس في بيت هذا النصراني حجة ولا دليل على ذلك، ولا أراد الله عز وجل باستوائه على عرشه استيلاءه عليه، تعالى الله عن قول الجهمية علواً كبيراً‏.‏

فإنه إنما يقال‏:‏ استوى على الشيء إذا كان ذلك الشيء عاصياً عليه قبل استيلائه عليه، كاستيلاء بشر على العراق، واستيلاء الملك على المدينة بعد عصيانها عليه، وعرش الرب لم يكن ممتنعاً عليه نفساً واحداً، حتى يقال استوى عليه أو معنى الاستواء الاستيلاء، ولا تجد أضعف من حجج الجهمية، حتى أداهم الإفلاس من الحجج إلى بيت هذا النصراني المقبوح، وليس فيه حجة، والله أعلم‏.‏

وقال الهيثم بن عدي‏:‏ عن عوانة بن الحكم، قال‏:‏ لما استخلف عمر بن عبد العزيز وفد إليه الشعراء فمكثوا ببابه أياماً لا يؤذن لهم ولا يلتفت إليهم، فساءهم ذلك وهموا بالرجوع إلى بلادهم، فمر بهم رجاء بن حيوة فقال له جرير‏:‏

يا أيها الرجل المرخي عمامته * هذا زمانك فاستأذن لنا عمرا

فدخل ولم يذكر لعمر من أمرهم شيئاً، فمر بهم عدي بن أرطاة، فقال له جرير منشداً‏:‏

يا أيها الراكب المرخي مطيته * هذا زمانك إني قد مضى زمني

أبلغ خلفيتنا إن كنت لاقيه * أني لدى الباب كالمصفود في قرن

لا تنس حاجتنا لاقيت مغفرة * قد طال مكثي عن أهلي وعن وطني

فدخل عدي على عمر بن عبد العزيز فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين الشعراء ببابك وسهامهم مسمومة وأقوالهم نافذة، فقال‏:‏ ويحك يا عدي مالي وللشعراء، فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان يسمع الشعر ويجزي عليه، وقد أنشده العباس بن مرداس مدحه فأعطاه حلة، فقال له عمر‏:‏ أتروي منها شيئاً‏؟‏ قال‏:‏ نعم ‏!‏ فأنشده‏:‏

رأيتك يا خير البرية كلها * نشرت كتاباً جاء بالحق معلما

‏(‏ج/ص‏:‏ 9/291‏)‏

شرعت لنا دين الهدى بعد جورنا * عن الحق لما أصبح الحق مظلما

ونورت بالبرهان أمراً مدلساً * وأطفأت بالقرآن ناراً تضرما

فمن مبلغ عني النبي محمداً * وكل امرئ يجزى بما كان قدما

أقمت سبيل الحق بعد اعوجاجه * وكان قديماً ركنه قد تهدما

تعالى علواً فوق عرش إلهنا * وكان مكان الله أعلا وأعظما

فقال عمر‏:‏ من بالباب منهم‏؟‏

فقال‏:‏ عمر بن أبي ربيعة‏.‏

فقال‏:‏ أليس هو الذي يقول‏:‏

ثم نبهتها فهبت كعاباً * طفلة ما تبين رجع الكلام

ساعة ثم إنها بعد قالت * ويلنا قد عجلت يا ابن الكرام

أعلى غير موعد جئت تسري * تتخطى إلى رؤوس النيام

ما تجشمت ما تريد من الأمر * ولاحيت طارقاً لخصام

فلو كان عدو الله إذ فجر كتم وستر على نفسه، لا يدخل والله أبداً، فمن بالباب سواه‏؟‏

قال‏:‏ همام بن غالب - يعني‏:‏ الفرزدق -

فقال عمر‏:‏ أو ليس هو الذي يقول في شعره‏:‏

هما دلياني من ثمانين قامة * كما أنقض باز أقتم الريش كاسرة

فلما استوت رجلاي بالأرض قالتا * أحي يرجى أم قتيل نحاذره

لا يطأ والله بساطي وهو كاذب، فمن سواه بالباب‏؟‏

قال‏:‏ الأخطل‏.‏

قال‏:‏ أو ليس هو الذي يقول‏:‏

ولست بصائم رمضان طوعاً * ولست بآكل لحم الأضاحي

ولست بزاجر عيساً بكور * إلى بطحاء مكة للنجاح

ولست بزائر بيتاً بعيداً * بمكة أبتغي فيه صلاحي

ولست بقائم كالعير أدعو * قبيل الصبح حي على الفلاح

ولكني سأشربها شمولاً * وأسجد عند منبلج الصباح

والله لا يدخل عليَّ وهو كافر أبداً، فهل بالباب سوى من ذكرت‏؟‏

قال‏:‏ نعم، الأحوص‏.‏

قال‏:‏ أليس هو الذي يقول‏:‏

الله بيني وبين سيدها * يفر مني بها وأتبعه

فما هو دون من ذكرت، فمن ههنا غيره‏؟‏

قال‏:‏ جميل بن معمر‏.‏

قال‏:‏ الذي يقول‏:‏

ألا ليتنا نحيا جميعاً وإن نمت * يوافق في الموتى خريجي خريجها

فما أنا في طول الحياة براغب * إذا قيل قد سوَّى عليها صفيحها

‏(‏ج/ص‏:‏ 9/292‏)‏

فلو كان عدو الله تمنى لقاءها في الدنيا ليعمل بذلك صالحاً ويتوب، والله لا يدخل علي أبداً، فهل بالباب أحد سوى ذلك‏؟‏

قلت‏:‏ جرير‏.‏

قال‏:‏ أما إنه الذي يقول‏:‏

طرقتك صائدة القلوب وليس ذا * حين الزيارة فأرجعي بسلام

فإن كان لابد فأذن لجرير، فأذن له فدخل على عمر وهو يقول‏:‏

إن الذي بعث النبي محمداً * جعل الخلافة للإمام العادل

وسع الخلائق عدله ووفاؤه * حتى ارعوى وأقام ميل المائل

إني لأرجو منك خيراً عاجلاً * والنفس مولعة بحب العاجل

فقال له‏:‏ ويحك يا جرير، اتق الله فيما تقول‏.‏

ثم إن جرير استأذن عمر في الإنشاد فلم يأذن له ولم ينهه فأنشده قصيدة طويلة يمدحه بها‏.‏

فقال له‏:‏ ويحك يا جرير لا أرى لك فيها ههنا حقاً‏.‏

فقال‏:‏ إني مسكين وابن سبيل‏.‏

قال‏:‏ إنا ولينا هذا الأمر ونحن لا نملك إلا ثلاثمائة درهم، أخذت أم عبد الله مائة وابنها مائة وقد بقيت مائة فأمر له بها‏.‏

فخرج على الشعراء فقالوا‏:‏ ما وراءك يا جرير‏؟‏

فقال‏:‏ ما يسوءكم، خرجت من عند أمير المؤمنين وهو يعطي الفقراء ويمنع الشعراء وإني عنه لراض، ثم أنشأ يقول‏:‏

رأيت رقى الشيطان لا تستفزه * وقد كان شيطاني من الجن راقيا

وقال بعضهم فيما حكاه المعافى بن زكريا الجريري‏:‏ قالت جارية للحجاج بن يوسف‏:‏ إنك تدخل هذا علينا، فقال‏:‏ إنه ما علمت عفيفاً، فقالت‏:‏ أما أنك لو أخليتني وإياه سترى ما يصنع‏.‏

فأمر بإخلائها مع جرير في مكان يراهما الحجاج و لا يريانه، ولا يشعر جرير بشيء من ذلك‏.‏

فقالت له‏:‏ يا جرير فأطرق رأسه وقال‏:‏ هاأنذا‏.‏

فقالت‏:‏ أنشدني من قولك كذا وكذا - لشعر فيه رقة - فقال‏:‏ لست أحفظه ولكن أحفظ كذا وكذا - ويعرض عن ذاك وينشدها شعراً في مدح الحجاج -‏.‏

فقالت‏:‏ لست أريد هذا إنما أريد كذا وكذا - فيعرض عن ذاك وينشدها في الحجاج - حتى انقضى المجلس‏.‏

فقال الحجاج‏:‏ لله درك أبيت إلا كرماً وتكرماً‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ أنشدت أعرابياً بيتاً لجرير الخطفي‏:‏

أبدل الليل لا تجري كواكبه * أو طال حتى حسبت النجم حيرانا

فقال الأعرابي‏:‏ إن هذا حسن في معناه وأعوذ بالله من مثله، ولكني أنشدك في ضده من قولي‏:‏

وليل لم يقصره رقاد * وقصره لنا وصل الحبيب

نعيم الحب أورق فيه * حتى تناولنا جناه من قريب

‏(‏ج/ص‏:‏ 9/293‏)‏

بمجلس لذة لم نقف فيه * على شكوى ولا عيب الذنوب

فخشينا أن نقطعه بلفظ * فترجمت العيون عن القلوب

فقلت له‏:‏ زدني، قال‏:‏ أما من هذا فحسبك ولكن أنشدك غيره، فأنشدني‏:‏

وكنت إذا عقدت حبال قوم * صحبتهم وشيمتي الوفاء

فأحسن حين يحسن محسنوهم * وأجتنب الإساءة إن أساؤوا

أشاؤوا سوى مشيئتهم فآتي * مشيئتهم وأترك ما أشاء

قال ابن خلكان‏:‏ كان جرير أشعر من الفرزدق عند الجمهور، وأفخر بيت قاله جرير‏:‏

إذا غضبت عليك بنو تميم * حسبت الناس كلهم غضابا

قال‏:‏ وقد سأله رجل‏:‏ من أشعر الناس‏؟‏

فأخذ بيده وأدخله على ابنه، إذا هو يرتضع من ثدي عنز، فاستدعاه فنهض واللبن يسيل على لحيتيه‏.‏

فقال جرير للذي سأله‏:‏ أتبصر هذا‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏

قال‏:‏ أتعرفه‏؟‏

قال‏:‏ لا ‏!‏

قال‏:‏ هذا أبي، وإنما يشرب من ضرع العنز لئلا يحلبها فيسمع جيرانه حس الحلب فيطلبوا منه لبناً، فأشعر الناس من فاخر بهذا ثمانين شاعراً فغلبهم، وقد كان بين جرير والفرزدق مقاولات ومهاجاة كثيرةً جداً يطول ذكرها، وقد مات في سنة عشر ومائة‏.‏

قال خليفة بن خياط وغير واحد‏:‏ قال خليفة‏:‏ مات الفرزدق وجرير بعده بأشهر‏.‏

وقال الصولي‏:‏ ماتا في سنة إحدى عشرة ومائة، ومات الفرزدق قبل جرير بأربعين يوماً‏.‏

وقال الكريمي‏:‏ عن الأصمعي، عن أبيه، قال‏:‏ رأى رجل جريراً في المنام بعد موته فقال له‏:‏ ما فعل الله بك‏؟‏ فقال‏:‏ غفر لي، فقيل‏:‏ بماذا‏؟‏ قال‏:‏ بتكبيرة كبرتها بالبادية‏.‏

قيل له‏:‏ فما فعل الفرزدق‏؟‏ قال‏:‏ أيهات أهلكه قذف المحصنات‏.‏

قال الأصمعي‏:‏ لم يدعه في الحياة ولا في الممات‏.‏

وأما الفرزدق

واسمه همام بن غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم بن حنظلة بن زيد بن مناة بن مر بن أدّ بن طابخة، أبو فراس بن أبي خطل التيمي البصري الشاعر المعروف بالفرزدق، وجدّه صعصعة بن ناجية صحابي، وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يحيي الموؤدة في الجاهلية‏.‏

حدث الفرزدق، عن علي‏:‏ أنه ورد مع أبيه عليه، فقال‏:‏ من هذا‏؟‏ قال‏:‏ ابني وهو شاعر، قال‏:‏ علمه القراءة فهو خير له من الشعر‏.‏

وسمع الفرزدق‏:‏ الحسين بن علي ورآه وهو ذاهب إلى العراق، وأبا هريرة، وأبا سعيد الخدري، وعرفجة بن أسعد، وزرارة بن كرب، والطرماح بن عدي الشاعر‏.‏

وروى عنه‏:‏ خالد الحذاء، ومروان الأصغر، وحجاج بن حجاج الأحول، وجماعة‏.‏

وقد وفد على معاوية يطلب ميراث عمه الحباب، وعلى الوليد بن عبد الملك، وعلى أخيه، ولم يصح ذلك‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 9/294‏)‏

وقال أشعث بن عبد الله‏:‏ عن الفرزدق، قال‏:‏ نظر أبو هريرة إلى قدمي فقال‏:‏ يا فرزدق إني أرى قدميك صغيرين، فأطلب لهما موضعاً في الجنة، فقلت‏:‏ إن ذنوبي كثيرة، فقال‏:‏ لا بأس فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏إن بالمغرب باباً مفتوحاً للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها‏)‏‏)‏‏.‏

وقال معاوية بن عبد الكريم‏:‏ عن أبيه، قال‏:‏ دخلت على الفرزدق فتحرك فإذا في رجله قيد، فقلت‏:‏ ما هذا‏؟‏ فقال‏:‏ حلفت أن لا أنزعه حتى أحفظ القرآن‏.‏

وقال أبو عمرو بن العلاء‏:‏ ما رأيت بدوياً أقام بالحضر إلا فسد لسانه إلا رؤبة بن العجاج والفرزدق فإنهما زادا على طول الإقامة جدة و حدة‏.‏

وقال راويته أبو سهل‏:‏ طلق الفرزدق امرأته النوار ثلاثاً، ثم جاء فأشهد على ذلك الحسن البصري، ثم ندم على طلاقها وإشهاده الحسن على ذلك، فأنشأ يقول‏:‏

فلو أني ملكت يدي وقلبي * لكان عليَّ للقدر الخيار

ندمت ندامة الكسعي لما * غدت مني مطلقة نوار

وكانت جنتي فخرجت منها * كآدم حين أخرجه الضرار

وقال الأصمعي وغير واحد‏:‏ لما ماتت النوار بنت أعين بن ضبيعة المجاشعي امرأة الفرزدق - وكانت قد أوصت أن يصلي عليها الحسن البصري - فشهدها أعيان أهل البصرة مع الحسن والحسن على بغلته، والفرزدق على بعيره، فسار فقال الحسن للفرزدق‏:‏ ماذا يقول الناس‏؟‏ قال‏:‏ يقولون شهد هذه الجنازة اليوم خير الناس - يعنونك - وشر الناس - يعنوني - فقال له‏:‏ يا أبا فراس لست أنا بخير الناس ولست أنت بشر الناس‏.‏

ثم قال له الحسن‏:‏ ما أعددت لهذا اليوم‏؟‏ قال‏:‏ شهادة أن لا إله إلا الله منذ ثمانين سنة، فلما أن صلى عليها الحسن مالوا إلى قبرها، فأنشأ الفرزدق يقول‏:‏

أخاف وراء القبر إن لم يعافني * أشد من القبر التهاباً وأضيقا

إذا جاءني يوم القيامة قائد * عنيف وسواق يسوق الفرزدقا

لقد خاب من أولاد آدم من مشى * إلى النار مغلول القلادة أزرقا

يساق إلى نار الجحيم مسربلاً * سرابيل قطران لباساً مخرقا

إذا شربوا فيها الصديد رأيتهم * يذوبون من حر الصديد تمزقا

‏(‏ج/ص‏:‏ 9/295‏)‏

قال‏:‏ فبكى الحسن حتى بل الثرى ثم التزم الفرزدق، وقال‏:‏ لقد كنت من أبغض الناس إلي، وإنك اليوم من أحب الناس إلي‏.‏

وقال له بعض الناس‏:‏ ألا تخاف من الله في قذف المحصنات‏؟‏ فقال‏:‏ والله لله أحب إلي من عيني اللتين أبصر بهما، فكيف يعذبني‏؟‏

وقد قدمنا أنه مات سنة عشر ومائة قبل جرير بأربعين يوماً، وقيل‏:‏ بأشهر، فالله أعلم‏.‏

وأما الحسن وابن سيرين فقد ذكرنا ترجمة كل منهما في كتابنا التكميل مبسوطة، وحسبنا الله ونعم الوكيل‏.‏

 فأما الحسن بن أبي الحسن

فاسم أبيه يسار، وأبرد هو‏:‏ أبو سعيد البصري مولى زيد بن ثابت، ويقال‏:‏ مولى جابر بن عبد الله، وقيل‏:‏ غير ذلك، وأمه‏:‏ خيرة مولاة لأم سلمة، كانت تخدمها وربما أرسلتها في الحاجة فتشتغل عن ولدها الحسن وهو رضيع، فتشاغله أم سلمة بثدييها فيدران عليه فيرتضع منهما، فكانوا يرون أن تلك الحكمة والعلوم التي أوتيها الحسن من بركة تلك الرضاعة من الثدي المنسوب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم كان وهو صغير تخرجه أمه إلى الصحابة فيدعون له‏.‏

وكان في جملة من يدعو له عمر بن الخطاب، قال‏:‏ اللهم فقهه في الدين وحببه إلى الناس‏.‏

وسئل مرة أنس بن مالك عن مسألة فقال‏:‏ سلوا عنها مولانا الحسن، فإنه سمع وسمعنا، فحفظ ونسينا‏.‏

وقال أنس مرة‏:‏ إني لأغبط أهل البصرة بهذين الشيخين - الحسن وابن سيرين -‏.‏

وقال قتادة‏:‏ ما جالست رجلاً فقيهاً إلا رأيت فضل الحسن عليه‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ ما رأت عيناي أفقه من الحسن‏.‏

وقال أيوب‏:‏ كان الرجل يجالس الحسن ثلاث حجج ما يسأله عن مسألة هيبة له‏.‏

وقال الشعبي لرجل يريد قدوم البصرة‏:‏ إذا نظرت إلى رجل أجمل أهل البصرة وأهيبهم فهو الحسن، فأقرأه مني السلام‏.‏

وقال يونس بن عبيد‏:‏ كان الرجل إذا نظر إلى الحسن أنتفع به وإن لم ير عمله ولم يسمع كلامه‏.‏

وقال الأعمش‏:‏ ما زال الحسن يعي الحكمة حتى نطق بها‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/ 296‏)‏

وكان أبو جعفر إذا ذكره يقول‏:‏ ذاك الذي يشبه كلامه كلام الأنبياء‏.‏

وقال محمد بن سعد‏:‏ قالوا‏:‏ كان الحسن جامعاً للعلم والعمل، عالماً رفيعاً فقيهاً مأموناً عابداً زاهداً ناسكاً كثير العلم والعمل فصيحاً جميلاً وسيماً‏.‏

وقدم مكة فأجلس على سرير، وجلس العلماء حوله، واجتمع الناس إليه فحدثهم‏.‏

قال أهل التاريخ‏:‏ مات الحسن عن ثمان و ثمانين سنة، عام عشر ومائة، في رجب منها، بينه وبين محمد بن سيرين مائة يوم‏.‏

 وأما ابن سيرين

فهو محمد بن سيرين، أبو بكر بن أبي عمرو الأنصاري، مولى أنس بن مالك النضري، كان أبو محمد من سبي عين التمر، أسره خالد بن الوليد في جملة السبي، فاشتراه أنس ثم كاتبه‏.‏

ثم ولد له من الأولاد الأخيار، جماعة‏:‏ محمد هذا، وأنس بن سيرين، ومعبد، ويحيى، وحفصة، وكريمة، وكلهم تابعيون ثقاة أجلاء رحمهم الله‏.‏

قال البخاري‏:‏ ولد محمد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان‏.‏

وقال هشام بن حسان‏:‏ هو أصدق من أدركت من البشر‏.‏

وقال محمد بن سعد‏:‏ كان ثقةً مأموناً عالماً رفيعاً فقيهاً إماماً كثير العلم ورعاً وكان به صمم‏.‏

وقال مؤرق العجلي‏:‏ ما رأيت رجلاً أفقه في ورعه، وأورع في فقهه منه‏.‏

قال ابن عون‏:‏ كان محمد بن سيرين أرجى الناس لهذه الأمة، وأشد الناس إزاراً على نفسه، وأشدهم خوفاً عليها‏.‏

قال ابن عون‏:‏ ما بكى في الدنيا مثل ثلاثة‏:‏ محمد بن سيرين في العراق، والقاسم بن محمد في الحجاز، ورجاء بن حيوة بالشام، وكانوا يأتون بالحديث على حروفه‏.‏

وكان الشعبي يقول‏:‏ عليكم بذاك الأصم - يعني محمد بن سيرين -‏.‏

وقال ابن شوذب‏:‏ ما رأيت أحداً أجرأ على تعبير الرؤيا منه‏.‏

وقال عثمان البتي‏:‏ لم يكن بالبصرة أعلم بالقضاء منه‏.‏

قالوا‏:‏ ومات في تاسع شوال من هذه السنة بعد الحسن بمائة يوم‏.‏