فصل: سنة ثلاث وعشرين وستمائة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وستمائة

فيها‏:‏ التقى الملك جلال الدين بن خوارزم شاه الخوارزمي مع الكرج فكسرهم كسرة عظيمة، وصمد إلى أكبر معاقلتهم تفليس ففتحها عنوة وقتل من فيها من الكفرة وسبى ذراريهم ولم يتعرض لأحد من المسلمين الذين كانوا بها، واستقر ملكه عليها، وقد كان الكرج أخذوها من المسلمين في سنة خمس عشرة وخمسمائة، وهي بأيديهم إلى الآن حتى استنقذها منهم جلال الدين هذا، فكان فتحاً عظيماً ولله المنة‏.‏

وفيها‏:‏ سار إلى خلاط ليأخذها من نائب الملك الأشرف فلم يتمكن من أخذها وقاتله أهلها قتالاً عظيماً فرجع عنهم سبب اشتغاله بعصيان نائبه بمدينة كرمان وخلافه له فسار إليهم وتركهم‏.‏

وفيها‏:‏ اصطلح الملك الأشرف مع أخيه المعظم وسار إليه إلى دمشق، وكان المعظم ممالئاً عليه مع جلال الدين وصاحب إربل وصاحب ماردين وصاحب الروم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/132‏)‏

وكان مع الأشرف أخوه الكامل وصاحب الموصل بدر الدين لؤلؤ، ثم استمال أخاه المعظم إلى ناحيته يقوي جانبه‏.‏

وفيها‏:‏ كان قتال كبير بين إبرنش إنطاكية وبين الأرمن، وجرت خطوب كثيرة بينهم‏.‏

وفيها‏:‏ أوقع الملك جلال الدين بالتركمان الإيوانية بأساً شديداً وكانوا يقطعون الطرق على المسلمين‏.‏

وفيها‏:‏ قدم محيي الدين يوسف بن الشيخ جمال الدين بن الجوزي من بغداد في الرسلية إلى الملك المعظم بدمشق، ومعه الخلع والتشاريف لأولاد العادل من الخليفة الظاهر بأمر الله، ومضمون الرسالة نهيه عن موالاة جلال الدين بن خوارزم شاه، فإنه خارجي من عزمه قتال الخليفة وأخذ بغداد منهم، فأجابه إلى ذلك وركب القاضي محيي الدين بن الجوزي إلى الملك الكامل بالديار المصرية، وكان ذلك أول قدومه إلى الشام، ومصر وحصل له جوائز كثيرة من الملوك، منها كان بناء مدرسته الجوزية بالنشابين بدمشق‏.‏

وفيها‏:‏ ولى تدريس الشبلية بالسفح شمس الدين محمد بن قزغلي سبط ابن الجوزي بمرسوم الملك المعظم، وحضر عنده أول يوم القضاة والأعيان‏.‏

 وفاة الخليفة الظاهر وخلافة ابنه المستنصر

كانت وفاة الخليفة رحمه الله يوم الجمعة ضحى الثالث عشر من رجب من هذه السنة، أعني سنة ثلاث وعشرين وستمائة، ولم يعلم الناس بموته إلا بعد الصلاة، فدعا له الخطباء يومئذ على المنابر على عادتهم فكانت خلافته تسعة أشهر وأربعة عشر يوماً، وعمره اثنتان وخمسون سنة‏.‏

وكان من أجود بني العباس وأحسنهم سيرة وسريرة، وأكثرهم عطاء وأحسنهم منظراً ورواءً، ولو طالت مدته لصلحت الأمة صلاحاً كثيراً، على يديه ولكن أحب الله تقريبه وإزلافه لديه، فاختار له ما عنده وأجزل له إحساناً ورفده‏.‏

وقد ذكرنا ما اعتمده في أول ولايته من إطلاق الأموال الديوانية ورد المظالم وإسقاط المكوس، وتخفيف الخراج عن الناس، وأداء الديون عمن عجز من أدائها، والإحسان إلى العلماء والفقراء وتولية ذوي الديانة والأمانة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/133‏)‏

وقد كان كتب كتاباً لولاة الرعية فيه‏:‏

بسم الله الرحيم، اعلموا أنه ليس إمهالنا إهمالاً ولا إغضاؤنا احتمالاً، ولكن لنبلوكم أيكم أحسن عملا، وقد غفرنا لكم ما سلف من إخراب البلاد، وتشريد الرعايا وتقبيح الشريعة، وإظهار الباطل الجلي في صورة الحق الخفي، حيلة ومكيدة، وتسمية الاستئصال والاجتياح استيفاء واستدركاً لأغراض انتهزتم فرصها مختلسة من براثن ليث باسل، وأنياب أسد مهيب، تنفقون بألفاظ مختلفة على معنى واحد، وأنتم أمناؤه وثقاته فتميلون رأيه إلى هواكم، وتمزجون باطلكم بحقه، فيطيعكم وأنتم له عاصون، ويوافقكم وأنتم له مخالفون‏.‏

والآن قد بدل الله سبحانه بخوفكم أمناً، وبفقركم غنى وبباطلكم حقاً، ورزقكم سلطانا يقيل العثرة، ولا يؤاخذ إلا من أصر، ولا ينتقم إلا ممن استمر، يأمركم بالعدل وهو يريده منكم، وينهاكم عن الجور وهو يكرهه لكم، يخاف الله تعالى فيخوفكم مكره، ويرجو الله تعالى ويرغبكم في طاعته، فإن سلكتم مسالك خلفاء الله في أرضه وأمنائه على خلقه، وإلا هلكتم والسلام‏.‏

ووجد في داره رقاع مختومة لم يفتحها ستراً للناس ودرءاً عن أعراضهم رحمه الله، وقد خلف من الأولاد عشرة ذكوراً وإناثا، منهم ابنه الأكبر الذي بويع له بالخلافة من بعده أبو جعفر المنصور، ولقب بالمستنصر بالله، وغسله الشيخ محمد الخياط الواعظ، ودفن في دار الخلافة، ثم نقل إلى الترب من الرصافة‏.‏

 خلافة المستنصر بالله العباسي

أمير المؤمنين أبي جعفر منصور بن الظاهر محمد بن الناصر أحمد، بويع بالخلافة يوم مات أبوه يوم جمعة ثالث عشر رجب من هذه السنة، سنة ثلاث وعشرين وستمائة، استدعوا به من التاج فبايعه الخاصة والعامة من أهل العقد والحل، وكان يوماً مشهوداً، وكان عمره يومئذ خمساً وثلاثين سنة وخمسة أشهر وأحد عشر يوماً، وكان من أحسن الناس شكلاً وأبهاهم منظراً، وهو كما قال القائل‏:‏

كأن الثريا علقت في جبينه * وفي خده الشعرى وفي وجهه القمر

وفي نسبه الشريف خمسة عشر خليفة، منهم خسة من آبائه ولوا نسقاً، وتلقى هو الخلافة عنهم وراثة كابراً عن كابر، وهذا شيء لم يتفق لأحد من الخلفاء قبله، وسار في الناس كسيرة أبيه الظاهر في الجود وحسن السيرة والإحسان إلى الرعية‏.‏

وبنى المدرسة الكبيرة المستنصرية التي لم تبن مدرسة في الدنيا مثلها، وسيأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء الله، واستمر أرباب الولايات الذين كانوا في عهد أبيه على ما كانوا عليه، ولما كان يوم الجمعة المقبلة خطب للإمام المستنصر بالله على المنابر ونثر الذهب والفضة عند ذكر اسمه، وكان يوماً مشهوداً وأنشد الشعراء المدائح والمراثي، وأطلقت لهم الخلع والجوائز، وقدم رسول من صاحب الموصل يوم غرة شعبان من الوزير ضياء الدين أبي الفتح نصر الله بن الأثير، فيها التهنئة والتعزية بعبارة فصيحة بليغة‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/134‏)‏

ثم إن المستنصر بالله كان يواظب على حضور الجمعة راكباً ظاهراً للناس، وإنما معه خادمان وراكب دار، وخرج مرة وهو راكب فسمع ضجة عظيمة فقال‏:‏ ما هذا‏؟‏ فقيل له التأذين، فترجل عن مركوبه وسعى ماشياً، ثم صار يدمن المشي إلى الجمعة رغبة في التواضع والخشوع، ويجلس قريباً من الإمام ويستمع الخطبة، ثم أصلح له المطبق فكان يمشي فيه إلى الجمعة‏.‏

وركب في الثاني والعشرين من شعبان ركوباً ظاهراً للناس عامةً، ولما كانت أول ليلة من رمضان تصدق بصدقات كثيرة من الدقيق والغنم والنفقات على العلماء والفقراء والمحاويج، إعانة لهم على الصيام، وتقوية لهم على القيام‏.‏

وفي يوم السابع والعشرين من رمضان نقل تابوت الظاهر من دار الخلافة إلى التربة من الرصافة، وكان يوماً مشهوداً وبعث الخليفة المستنصر يوم العيد صدقات كثيرة وإنعاماً جزيلاً إلى الفقهاء والصوفية وأئمة المساجد، على يدي محي الدين ابن الجوزي‏.‏

وذكر ابن الأثير أنه كانت زلزلة عظيمة في هذه السنة، هدمت شيئاً كثيراً من القرى والقلاع ببلادهم، وذكر أنه ذبح شاة ببلدهم فوجد لحمها مراً حتى رأسها وأكارعها ومعاليقها وجميع أجزائها‏.‏

 وممن توفي بها من الأعيان بعد الخليفة الظاهر كما تقدم‏:‏

 الجمال المصري

يونس بن بدران بن فيروز جمال الدين المصري، قاضي القضاة في هذا الحين، اشتغل وحصل وبرع واختصر كتاب ‏(‏الأم‏)‏ للإمام للشافعي وله كتاب مطول في الفرائض‏.‏

وولي تدريس الأمينية بعد التقي صالح الضرير، الذي قتل نفسه، ولاه إياه الوزير صفي الدين بن شكر، وكان معتنياً بأمره ثم ولى وكالة بيت المال بدمشق، وترسل إلى الملوك والخلفاء عن صاحب دمشق، ثم ولاه المعظم قضاء القضاة بدمشق بعد عزله الزكي بن الزكي، وولاه تدريس العادلية الكبيرة، حين كمل بناؤها فكان أول من درس بها وحضره الأعيان كما ذكرنا‏.‏

وكان يقول أولا درساً في التفسير حتى أكمل التفسير إلى آخره، ويقول درس الفقه بعد التفسير، وكان يعتمد في أمر إثبات السجلات اعتماداً حسناً وهو أنه كان يجلس في كل يوم جمعة بكرة ويوم الثلاثاء ويستحضر عنده في إيوان العادلية جميع شهود البلد، ومن كان له كتاب يثبته حضر واستدعى شهوده فأدوا على الحاكم وثبت ذلك سريعاً‏.‏

وكان يجلس كل يوم جمعة بعد العصر إلى الشباك الكمالي بمشهد عثمان فيحكم حتى يصلي المغرب، وربما مكث حتى يصلي العشاء أيضاً، وكان كثير المذاكرة للعلم كثير الاشتغال حسن الطريقة، لم ينقم عليه أنه أخذ شيئا لأحد‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ وإنما كان ينقم عليه أنه كان يشير على بعض الورثة بمصالحة بيت المال، وأنه استناب ولده التاج محمداً ولم يكن مرضي الطريقة، وأما هو فكان عفيفاً في نفسه نزها مهيباً‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/135‏)‏

وكان يدعى أنه قرشي شيبي فتكلم الناس فيه بسبب ذلك، وتولى القضاء بعده شمس الدين أحمد بن الخليلي الجويني‏.‏

قلت‏:‏ وكانت وفاته في ربيع الأول من هذه السنة، ودفن بداره التي في رأس درب الريحان من ناحية الجامع، ولتربته شباك شرق المدرسة الصدرية اليوم‏.‏

وقد قال فيه ابن عنين، وكان هجاء‏:‏

ما أقصر المصري في فعله * إذ جعل التربة في داره

أراح للأحياء من رجمه * وأبعد الأموات من ناره

 المعتمد والي دمشق

المبارز إبراهيم المعروف بالمعتمد والي دمشق، من خيار الولاة وأعفهم وأحسنهم سيرة وأجودهم سريرة، أصله من الموصل، وقدم الشام فخدم فروخشاه بن شاهنشاه بن أيوب‏.‏

ثم استنابه البدر مودود أخو فروخشاه، وكان شحنة دمشق، فحمدت سيرته في ذلك، ثم صار هو شحنة دمشق أربعين سنة، فجرت في أيامه عجائب وغرائب، وكان كثير الستر على ذوي الهيئات، ولا سيما من كان من أبناء الناس وأهل البيوتات‏.‏

وأتفق في أيامه أن رجلاً حائكاً كان له ولد صغير في آذانه حلق فعدا عليه رجل من جيرانهم فقتله غيلة، وأخذ ما عليه من الحلي ودفنه في بعض المقابر، فاشتكوا عليه فلم يقر‏.‏

فبكت والدته من ذلك، وسألت زوجها أن يطلقها، فطلقها، فذهبت إلى ذلك الرجل وسألته أن يتزوجها، وأظهرت له أنها أحبته فتزوجها، ومكثت عنده حيناً ثم سألته في بعض الأوقات عن ولدها الذي اشتكوا عليه بسببه‏.‏

فقال‏:‏ نعم، أنا قتلته‏.‏

فقالت‏:‏ أشتهي أن تريني قبره حتى أنظر إليه، فذهب بها إلى قبر خشنكاشه ففتحه فنظرت إلى ولدها فاستعبرت، وقد أخذت معها سكينا أعدتها لهذا اليوم، فضربته حتى قتلته ودفنته مع ولدها في ذلك القبر، فجاء أهل المقبرة فحملوها إلى الوالي المعتمد هذا فسألها فذكرت له خبرها، فاستحسن ذلك منها وأطلقها وأحسن إليها‏.‏

وحكى عنه السبط قال‏:‏ بينما أنا يوما خارج من باب الفرج، وإذا برجل يحمل طبلاً وهو سكران، فأمرت به فضرب الحد، وأمرتهم فكسروا الطبل، وإذا ذكرة كبيرة جداً فشقوها فإذا فيها خمر، وكان العادل قد منع أن يعصر خمر ويحمل إلى دمشق شيء منه بالكلية، فكان الناس يتحيلون بأنواع الحيل ولطائف المكر‏.‏

قال السبط‏:‏ فسألته من أين علمت أن في الطبل شيئاً ‏؟‏

قال‏:‏ رأيته يمشي ترجف سيقانه، فعرفت أنه يحمل شيئا ثقيلاً في الطبل‏.‏

وله من هذا الجنس غرائب، وقد عزله المعظم وكان في نفسه منه وسجنه في القلعة نحواً من خمس سنين، ونادى عليه في البلد فلم يجيء أحد ذكر أنه أخذ منه حبة خردل، ولما مات رحمه الله دفن بتربته المجاورة لمدرسة أبي عمر من شامها قبلي السوق، وله عند تربته المسجد يعرف به، رحمه الله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/136‏)‏

واقف الشبلية التي بطريق الصالحية

شبل الدولة كافور الحسامي نسبة إلى حسام الدين محمد بن لاجين، ولد ست الشام وهو الذي كان مستحثاً على عمارة الشامية البرانية لمولاته ست الشام، وهو الذي بنى الشبلية للحنفية والخانقاه على الصوفية إلى جانبها‏.‏

وكانت منزله ووقف القناة والمصنع والساباط، وفتح للناس طريقاً من عند المقبرة غربي الشامية البرانية إلى طريق عين الكرش، ولم يكن الناس لهم طريق إلى الجبل من هناك، إنما كانوا يسلكون من عند مسجد الصفي بالعقبية، وكانت وفاته في رجب ودفن إلى جانب مدرسته، وقد سمع الحديث على الكندي وغيره، رحمه الله تعالى‏.‏

 واقف الرواحية بدمشق وحلب

أبو القاسم هبة الله المعروف‏:‏ بابن رواحة، كان أحد التجار وفي الثروة المقدار ومن المعدلين بدمشق، وكان في غاية الطول والعرض ولا لحية له، وقد ابتنى المدرسة الرواحية داخل باب الفراديس ووقفها على الشافعية، وفوض نظرها وتدريسها إلى الشيخ تقي الدين بن الصلاح الشهرزوري، وله بحلب مدرسة أخرى مثلها‏.‏

وقد انقطع في آخر عمره في المدرسة التي بدمشق، وكان يسكن البيت الذي في إيوانها من الشرق، ورغب فيما بعد أن يدفن فيه إذا مات، فلم يمكن من ذلك، بل دفن بمقابر الصوفية، وبعد وفاته شهد محي الدين بن عربي الطائي الصوفي، وتقي الدين خزعل النحوي المصري ثم المقدسي إمام مشهد على شهدا على ابن رواحة بأنه عزل الشيخ تقي الدين عن هذه المدرسة، فجرت خطوب طويلة ولم ينتظم ما راماه من الأمر، ومات خزعل في هذه السنة أيضا، فبطل ما سلكوه‏.‏

 أبو محمد محمود بن مودود بن محمود

البلدجي الحنفي الموصلي، وله بها مدرسة تعرف به، وكان من أبناء الترك، وصار من مشايخ العلماء وله دين متين وشعر حسن جيد، فمنه قوله‏:‏

من ادعى أن له حالة * تخرجه عن منهج الشرعِ

فلا تكونن له صاحبا * فإنه خرء بلا نفعِ

كانت وفاته بالموصل في السادس والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة، وله نحو من ثمانين سنة‏.‏

ياقوت ويقال له‏:‏ يعقوب بن عبد الله

نجيب الدين متولي الشيخ تاج الدين الكندي، وقد وقف إليه الكتب التي بالخزانة بالزاوية الشرقية الشمالية من جامع دمشق، وكانت سبعمائة وإحدى وستين مجلداً، ثم على ولده من بعده ثم على العلماء فتمحقت هذه الكتب وبيع أكثرها‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 13/137‏)‏

وقد كان ياقوت هذا لديه فضيلة وأدب وشعر جيد، وكانت وفاته ببغداد في مستهل رجب، ودفن بمقبرة الخيزران بالقرب من مشهد أبي حنيفة‏.‏

 ثم دخلت سنة أربع وعشرين وستمائة

فيها‏:‏ كانت عامة أهل تفليس الكرج فجاؤوا إليهم فدخلوها فقتلوا العامة والخاصة، ونهبوا وسبوا وخربوا وأحرقوا، وخرجوا على حمية، وبلغ ذلك جلال الدين فسار سريعاً ليدركهم فلم يدركهم‏.‏

وفيها‏:‏ قتلت الإسماعيلية أميراً كبيراً من نواب جلال الدين بن خوارزم شاه، فسار إلى بلادهم فقتل منهم خلقاً كثيراً، وخرب مدينتهم، وسبى ذراريهم، ونهب أموالهم‏.‏

وقد كانوا قبحهم الله من أكبر العون على المسلمين لما قدم التتار إلى الناس، وكانوا أضر على الناس منهم‏.‏

وفيها‏:‏ تواقع جلال الدين وطائفة كبيرة من التتار فهزمهم وأوسعهم قتلاً وأسراً، وساق وراءهم أياماً فقتلهم، حتى وصل إلى الري فبلغه أن طائفة قد جاؤا لقصده فأقام يثبطهم، وكان من أمره وأمرهم ما سيأتي في سنة خمس وعشرين‏.‏

وفيها‏:‏ دخلت عساكر الملك الأشرف بن العادل إلى أذربيجان فملكوا منها مدناً كثيرة، وغنموا أموالاً جزيلة، وخرجوا معهم بزوجة جلال الدين بنت طغرل، وكانت تبغضه وتعاديه فأنزلوها مدينة خلاط، وسيأتي ما كان من خبرهم في السنة الآتية‏.‏

وفيها‏:‏ قدم رسول الأنبور ملك الفرنج في البحر إلى المعظم يطلب منه ما كان فتحه عمه السلطان الملك الناصر صلاح الدين من بلاد السواحل، فأغلظ لهم المعظم في الجواب، وقال له‏:‏

قل لصاحبك ما عندي إلا السيف، والله أعلم‏.‏

وفيها‏:‏ جهز الأشرف أخاه شهاب الدين غازي إلى الحج في محمل عظيم يحمل ثقله ستمائة جمل، ومعه خمسون هجيناً، على كل هجين مملوك، فسار من ناحية العراق، وجاءته هدايا من الخليفة إلى أثناء الطريق، وعاد على طريقه التي حج منها‏.‏

وفيها‏:‏ ولي قضاء القضاة ببغداد نجم الدين أبو المعالي عبد الرحمن بن مقبل الواسطي، وخلع عليه كما هي عادة الحكام، وكان يوماً مشهوداً‏.‏

وفيها‏:‏ كان غلاء شديد ببلاد الجزيرة، وقل اللحم‏.‏

حتى حكى ابن الأثير‏:‏ أنه لم يذبح بمدينة الموصل في بعض الأيام سوى خروف واحد في زمن الربيع‏.‏

قال‏:‏ وسقط فيها عاشر آذار ثلج كثير بالجزيرة والعراق مرتين، فأهلك الأزهار وغيرها، قال‏:‏

وهذا شيء لم يعهد مثله، والعجب كل العجب من العراق مع كثرة حره كيف وقع فيه مثل هذا‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13 /138‏)‏

 من الأعيان‏:‏

 جنكيز خان

السلطان الأعظم عند التتار والد ملوكهم اليوم، ينتسبون إليه ومن عظم القان إنما يريد هذا الملك وهو الذي وضع لهم السياسة التي يتحاكمون إليها، ويحكمون بها، وأكثرها مخالف لشرائع الله تعالى وكتبه، وهو شيء اقترحه من عند نفسه، وتبعوه في ذلك، وكانت تزعم أمه أنها حملته من شعاع الشمس، فلهذا لا يعرف له أب والظاهر أنه مجهول النسب‏.‏

وقد رأيت مجلداً جمعه الوزير ببغداد علاء الدين الجويني في ترجمته فذكر فيه سيرته، وما كان يشتمل عليه من العقل السياسي والكرم والشجاعة والتدبير الجيد للملك والرعايا، والحروب‏.‏

فذكر أنه كان في ابتداء أمره خصيصاً عند الملك أزبك خان، وكان إذ ذاك شاباً حسناً وكان اسمه أولاً تمرجي، ثم لما عظم سمى نفسه جنكيزخان‏.‏

وكان هذا الملك قد قربه وأدناه فحسده عظماء الملك ووشوا به إليه حتى أخرجوه عليه، ولم يقتله ولم يجد له طريقاً في ذنب يتسلط عليه به، فهو في ذلك إذ تغضب الملك على مملوكين صغيرين فهربا منه ولجآ إلى جنكيزخان فأكرمهما وأحسن إليهما فأخبراه بما يضمره الملك أزبك خان من قتله، فأخذ حذره وتحيز بدولة واتبعه طوائف من التتار وصار كثير من أصحاب أزبك خان ينفرون إليه ويفدون عليه فيكرمهم ويعطيهم حتى قويت شوكته وكثرت جنوده‏.‏

ثم حارب بعد ذلك أزبك خان فظفر به وقتله واستحوز على مملكته وملكه، وانضاف إليه عَدده وعُدده وعظم أمره‏.‏

وبعد صيته وخضعت له قبائل الترك ببلاد طمعاج كلها حتى صار يركب في نحو ثمان مائة ألف مقاتل، وأكثر القبائل قبيلته التي هو منها يقال لهم‏:‏ قيان‏.‏

ثم أقرب القبائل إليه بعدهم قبيلتان كبيرتا العدد وهما أزان وقنقوران وكان يصطاد من السنة ثلاثة أشهر والباقي للحرب والحكم‏.‏

قال الجويني‏:‏ وكان يضرب الحلقة يكون ما بين طرفيها ثلاثة أشهر ثم تتضايق فيجتمع فيها من أنواع الحيوانات شيء كثير لا يحد كثرة، ثم نشبت الحرب بينه وبين الملك علاء الدين خوارزم شاه صاحب بلاد خراسان والعراق وأذربيجان وغير ذلك والأقاليم والملك، فقهره جنكيزخان وكسره وغلبه وسلبه، واستحوذ على سائر بلاده بنفسه وبأولاده في أيسر مدة كما ذكرنا ذلك في الحوادث‏.‏

وكان ابتداء ملك جنكزخان سنة تسع وتسعين وخمسمائة، وكان قتاله لخوارزم شاه في حدود سنة ست عشرة وستمائة، ومات خوارزم شاه في سنة سبع عشرة كما ذكرنا، فاستحوذ حينئذ على الممالك بلا منازع ولا ممانع‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/139‏)‏

وكانت وفاته في سنة أربع وعشرين وستمائة، فجعلوه في تابوت من حديد وربطوه بسلاسل وعلقوه بين جبلين هنالك‏.‏

وأما كتابه ‏(‏الياسا‏)‏ فإنه يكتب في مجلدين بخط غليظ، ويحمل على بعير عندهم، وقد ذكر بعضهم أنه كان يصعد جبلاً ثم ينزل ثم يصعد ثم ينزل مراراً حتى يعي ويقع مغشياً عليه، ويأمر من عنده أن يكتب ما يلقي على لسانه حينئذ، فإن كان هذا هكذا فالظاهر أن الشيطان كان ينطق على لسانه بما فيها‏.‏

وذكر الجويني‏:‏ أن بعض عبادهم كان يصعد الجبال في البرد الشديد للعبادة فسمع قائلاً يقول له‏:‏ إنا قد ملكنا جنكيزخان وذريته وجه الأرض، قال الجويني‏:‏ فمشايخ المغول يصدقون بهذا ويأخذونه مسلماً‏.‏

ثم ذكر الجويني نتفاً من ‏(‏الياسا‏)‏ من ذلك‏:‏ أنه من زنا قتل محصناً كان أو غير محصن، وكذلك من لاط قتل، ومن تعمد الكذب قتل، ومن سحر قتل، ومن تجسس قتل، ومن دخل بين اثنين يختصمان فأعان أحدهما قتل، ومن بال في الماء الواقف قتل، ومن انغمس فيه قتل، ومن أطعم أسيراً أو سقاه أو كساه بغير إذن أهله قتل، ومن وجد هارباً ولم يرده قتل، ومن أطعم أسيراً أو رمى إلى أحد شيئاً من المأكول قتل، بل يناوله من يده إلى يده ومن أطعم أحداً شيئاً فليأكل منه أولاً ولو كان المطعوم أميراً لا أسيراً، ومن أكل ولم يطعم من عنده قتل‏.‏

ومن ذبح حيواناً ذبح مثله بل يشق جوفه ويتناول قلبه بيده يستخرجه من جوفه أولاً‏.‏

وفي ذلك كله مخالفة لشرائع الله المنزلة على عباده الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء، وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى ‏(‏الياسا‏)‏ وقدمها عليه ‏؟‏

من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ‏}‏‏.‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 50‏]‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً‏}‏ صدق الله العظيم، ‏[‏النساء‏:‏ 65‏]‏‏.‏

ومن آدابهم‏:‏ الطاعة للسلطان غاية الاستطاعة، وأن يعرضوا عليه أبكارهم الحسان ليختار لنفسه، ومن شاء من حاشيته، ما شاء منهن، ومن شأنهم أن يخاطبوا الملك باسمه، ومن مر بقوم يأكلون فله أن يأكل معهم من غير استئذان، ولا يتخطى موقد النار، ولا طبق الطعام، ولا يقف على أسكفه الخركاه ولا يغسلون ثيابهم حتى يبدو وسخها، ولا يكلفون العلماء من كل ما ذكر شيئاً من الجنايات، ولا يتعرضون لمال ميت‏.‏

وقد ذكر علاء الدين الجويني‏:‏ طرفاً كبيراً من أخبار جنكيزخان ومكارم كان يفعلها لسجيته وما أداه إليه عقله، وإن كان مشركاً بالله كان يعبد معه غيره، وقد قتل من الخلائق ما لا يعلم عددهم إلا الذي خلقهم، ولكن كان البداءة من خوارزم شاه، فإنه لما أرسل جنكيزخان تجاراً من جهته معهم بضائع كثيرة من بلاده فانتهوا إلى إيران فقتلهم نائبها من جهة خوارزم شاه، وهو والد زوجة كشلي خان، وأخذ جميع ما كان معهم، فأرسل جنكيزخان إلى خوارزم شاه يستعمله هل وقع هذا الأمر عن رضى منه، أو أنه لا يعلم به، فأنكره، وقال له فيما أرسل إليه‏:‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 13/140‏)‏ من المعهود من الملوك أن التجار لا يقتلون لأنهم عمارة الأقاليم، وهم الذين يحملون إلى الملوك ما فيه التحف والأشياء النفيسة، ثم إن هؤلاء التجار كانوا على دينك فقتلهم نائبك، فإن كان أمراً أمرت به طلبنا بدمائهم، وإلا فأنت تنكره وتقتص من نائبك‏.‏

فلما سمع خوارزم شاه ذلك من رسول جنكيز خان لم يكن له جواب سوى أنه أمر بضرب عنقه فأساء التدبير، وقد كان خرف وكبرت سنه، وقد ورد الحديث‏:‏ ‏(‏‏(‏اتركوا الترك ما تركوكم‏)‏‏)‏، فلما بلغ ذلك جنكيز خان تجهز لقتاله وأخذ بلاده، فكان بقدر الله تعالى ما كان من الأمور التي لم يسمع بأغرب منها ولا أبشع‏.‏

فمما ذكره الجويني‏:‏ أنه قدم له بعض الفلاحين بالصيد ثلاث بطيخات فلم يتفق أن عند جنكيز خان أحد من الخزندارية، فقال‏:‏ لزوجته خاتون‏:‏ أعطيه هذين القرطين اللذين في أذنيك‏.‏

وكان فيهما جوهرتان نفيستان جداً، فشحت المرأة بهما

وقالت‏:‏ انظره إلى غد‏.‏

فقال‏:‏ إنه يبيت هذه الليلة مقلقل الخاطر، وربما لا يجعل له شيء بعد هذا، وإن هذين لا يمكن أحد إذا اشتراهما إلا جاء بهما إليك فانتزعتهما فدفعتهما إلى الفلاح فطار عقله بهما، وذهب بهما فباعهما لأحد التجار بألف دينار، ولم يعرف قيمتهما، فحملهما التاجر إلى الملك فردهما على زوجته، ثم أنشد الجويني عند ذلك‏:‏

ومن قال إن البحر والقطر أشبها * نداه فقد أثنى على البحر والقطر

قالوا‏:‏ واجتاز يوماً في سوق، فرأى عند بقال عناباً فأعجبه لونه، ومالت نفسه إليه، فأمر الحاجب أن يشتري منه ببالس، فاشترى الحاجب بربع بالس، فلما وضعه بين يديه أعجبه وقال‏:‏ هذا كله ببالس‏؟‏ قال‏:‏ وبقي منه هذا - وأشار إلى ما بقي معه من المال - فغضب وقال‏:‏

من يجد من يشتري منه مثلي تمموا له عشرة بوالس‏.‏

قالوا‏:‏ وأهدى له رجل جام زجاج من معمول حلب فاستحسنه جنكيز خان فوهن أمره عنده بعض خواصه وقال‏:‏ خوند هذا زجاج لا قيمة له‏.‏

فقال‏:‏ أليس قد حمله من بلاد بعيدة حتى وصل إلينا سالماً‏؟‏ أعطوه مائتي بالس‏.‏

قال‏:‏ وقيل له‏:‏ إن في هذا المكان كنزاً عظيماً إن فتحته أخذت منه مالاً جزيلاً‏.‏

فقال‏:‏ الذي في أيدينا يكفينا، ودع هذا يفتحه الناس ويأكلونه فهم أحق به منا، ولم يتعرض له‏.‏

قال‏:‏ واشتهر عن رجل في بلاده يقول‏:‏ أنا أعرف موضع كنز ولا أقول إلا للقان، وألح عليه الأمراء أن يعلمهم فلم يفعل، فذكروا ذلك للقان فأحضره على خيل الآولاق - يعني البريد - سريعاً فلما حضر إلى بين يديه سأله عن الكنز‏.‏

فقال‏:‏ إنما كنت أقول ذلك حيلة لأرى وجهك‏.‏

فلما رأى تغير كلامه غضب وقال له‏:‏ قد حصل لك ما قلت، ورده إلى موضعه سالماً ولم يعطه شيئاً‏.‏

قال‏:‏ وأهدى له إنسان رمانة فكسرها وفرق حبها على الحاضرين وأمر له بعدد حبها بوالس ثم أنشد‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/141‏)‏

فلذاك تزدحم الوفود ببابه * مثل ازدحام الحب في الرمان

قال‏:‏ وقدم عليه لرجل كافر يقول‏:‏ رأيت في النوم جنكيز خان يقول‏:‏ قل لأبي يقتل المسلمين، فقال له هذا كذب، وأمر بقتله‏.‏

قال‏:‏ وأمر بقتل ثلاثة قد قضت ‏(‏الياسا‏)‏ بقتلهم، فإذا امرأة تبكي وتلطم‏.‏

فقال‏:‏ ما هذه‏؟‏ أحضروها‏.‏

فقالت‏:‏ هذا ابني، وهذا أخي، وهذا زوجي‏.‏

فقال‏:‏ اختاري واحداً منهم حتى أطلقه لك‏.‏

فقالت‏:‏ الزوج يجيء مثله، والابن كذلك، والأخ لا عوض له، فاستحسن ذلك منها، وأطلق الثلاثة لها‏.‏

قال‏:‏ وكان يحب المصارعين وأهل الشطارة، وقد اجتمع عنده منهم جماعة، فذكر له إنسان بخراسان فأحضره فصرع جميع من عنده، فأكرمه وأعطاه وأطلق له بنتاً من بنات الملوك حسناء‏.‏

فمكثت عنده مدة لا يتعرض لها، فاتفق مجيئها إلا الاردوا فجعل السلطان يمازحها‏.‏

ويقول‏:‏ كيف رأيت المستعرب‏؟‏ فذكرت له أنه لم يقربها، فتعجب من ذلك وأحضره فسأله عن ذلك‏.‏

فقال‏:‏ يا خوند أنا إنما حظيت عندك بالشطارة ومتى قربتها نقصت منزلتي عندك‏.‏

فقال‏:‏ لا بأس عليك وأحضر ابن عم له وكان مثله، فأراد أن يصارع الأول‏.‏

فقال السلطان‏:‏ أنتما قرابة ولا يليق هذا بينكما وأمر له بمال جزيل‏.‏

قال‏:‏ ولما احتضر أوصى أولاده بالاتفاق وعدم الافتراق، وضرب لهم في لك الأمثال، وأحضر بين يديه نشاباً وأخذ سهماً أعطاه لواحد منهم فكسره، ثم أحضر حزمة ودفعها إليهم مجموعة فلم يطيقوا كسرها‏.‏

فقال‏:‏ هذا مثلكم إذا اجتمعتم واتفقتم، وذلك مثلكم إذا انفردتم واختلفتم‏.‏

قال‏:‏ وكان له عدة أولاد ذكور وإناث منهم أربعة هم عظماء أولاده أكبرهم يوسي وهريول وباتو وبركة وتركجار، وكان كل منهم له وظيفة عنده‏.‏

ثم تكلم الجويني على ملك ذريته إلى زمان هولاكو خان، وهو يقول في اسمه ياذشاه زاره هولاكو، وذكر ما وقع في زمانه من الأوابد والأمور المعروفة المزعجة كما بسطناه في الحوادث والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/142‏)‏

 السلطان الملك المعظم

عيسى بن العادل أبي بكر بن أيوب، ملك دمشق والشام، كانت وفاته يوم الجمعة سلخ ذي القعدة من هذه السنة، وكان استقلاله بملك دمشق لما توفي أبوه سنة خمس عشرة، وكان شجاعاً باسلاً عالماً فاضلاً‏.‏

اشتغل في الفقه على مذهب أبي حنيفة على الحصيري مدرس النورية، وفي اللغة والنحو على التاج الكندي، وكان محفوظه مفصل الزمخشري، وكان يجيز من حفظه بثلاثين ديناراً، وكان قد أمر أن يجمع له كتاب في اللغة يشمل ‏(‏صحاح‏)‏ الجوهري و‏(‏الجمهرة‏)‏ لابن دريد و‏(‏التهذيب‏)‏ للأزهري وغير ذلك، وأمر أن يرتب له ‏(‏مسند‏)‏ الإمام أحمد‏.‏

وكان يحب العلماء ويكرمهم ويجتهد في متابعة الخير ويقول‏:‏ أنا على عقيدة الطحاوي‏.‏

وأوصى عند وفاته أن لا يكفن إلا في البياض، وأن يلحد له ويدفن في الصحراء ولا يبني عليه، وكان يقول‏:‏

واقعة دمياط أدخرها عند الله تعالى وأرجو أن يرحمني بها - يعني أنه أبلى بها بلاء حسناً - رحمه الله تعالى، وقد جمع له بين الشجاعة والبراعة والعلم ومحبة أهله‏.‏

وكان يجيء في كل جمعة إلى تربة والده فيجلس قليلاً، ثم إذا ذكر المؤذنون ينطلق إلى تربة عمه صلاح الدين فيصلي فيها الجمعة، وكان قليل التعاظم، يركب في بعض الأحيان وحده ثم يلحقه بعض غلمانه سوقاً‏.‏

وقال فيه بعض أصحابه وهو محب الدين بن أبي السعود البغدادي‏:‏ لئن غودرت تلك المحاسن في الثرى بوالٍ * فما وجدي عليك ببالِ

ومذ غبت عني ما ظفرت بصاحبٍ * أخي ثقة إلا خطرت ببالي

وملك بعده دمشق ولده الناصر داود بن المعظم، وبايعه الأمراء‏.‏

 أبو المعالي أسعد بن يحيى

ابن موسى بن منصور بن عبد العزيز بن وهب الفقيه الشافعي البخاري، شيخ أديب فاضل خير، له نظم ونثر ظريف، وله نوادر حسنة وجاوز التسعين‏.‏

قد استوزره صاحب حماة في وقت، وله شعر رائق أورد منه ابن الساعي قطعة جيدة‏.‏ فمن ذلك قوله‏:‏

وهواك ما خطر السلو بباله * ولأنت أعلم في الغرام بحالهِ

فمتى وشى واش إليك بشأنه * سائل هواك فذاك من أعدالهِ

أو ليس للدنف المعنى شاهد * من حاله يغنيك عن تسآلهِ

جددت ثوب سقامه وهتكت ستـ * ر غرامه، وصرمت حبل وصالهِ

ياللعجائب من أسيرٍ دأبه * يفدي الطليق بنفسه وبمالهِ

وله أيضاً‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/143‏)‏

لام العواذل في هواك فأكثروا * هيهات ميعاد السلو المحشر

جهلوا مكانكِ في القلوب وحاولوا * لو أنهم وجدوا كوجدي أقصروا

صبراً على عذب الهوى وعذابهِ * وأخو الهوى أبداً يلام ويعذرُ

 أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد

ابن أحمد بن حمدان الطبي المعروف بالصائن، أحد المعيدين بالنظامية، ودرس بالثقفية، وكان عارفاً بالمذهب والفرائض والحساب، صنف شرحاً للتنبيه‏.‏ ذكره ابن الساعي‏.‏

 أبو النجم محمد بن القاسم بن هبة الله التكريتي

الفقيه الشافعي، تفقه على أبي القاسم بن فضلان، ثم أعاد بالنظامية ودرس بغيرها، وكان يشتغل كل يوم عشرين درساً، ليس له دأب إلا الاشتغال وتلاوة القرآن ليلاً ونهاراً‏.‏

وكان بارعاً كثير العلوم، قد أتقن المذهب والخلاف، وكان يفتي في مسألة الطلاق الثلاث بواحدة فتغيظ عليه قاضي القضاة أبو القاسم عبد الله بن الحسين الدامغاني، فلم يسمع منه ثم أخرج إلى تكريت فأقام بها، ثم استدعى إلى بغداد، فعاد إلى الاشتغال وأعاده قاضي القضاة نصر بن عبد الرزاق إلى إعادته بالنظامية، وعاد إلى ما كان عليه من الاشتغال والفتوى والوجاهة إلى أن توفي في هذه السنة رحمه الله تعالى‏.‏ وهذا ذكره ابن الساعي‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس وعشرين وستمائة

فيها‏:‏ كانت حروب كثيرة بين جلال الدين والتتر، كسروه غير مرة، ثم بعد ذلك كله كسرهم كسرة عظيمة، وقتل منهم خلقاً وأمماً لا يحصون‏.‏

وكان هؤلاء التتر قد انفردوا وعصوا على جنكيز خان فكتب جنكيز خان إلى جلال الدين يقول له‏:‏

إن هؤلاء ليسوا منا ونحن أبعدناهم، ولكن سترى منا ما لا قبل لك به‏.‏

وفيها‏:‏ قدمت طائفة كبيرة من الفرنج من ناحية صقلية فنزلوا عكا وصور وحملوا على مدينة صيدا فانتزعوها من أيدي المؤمنين، وعبروها وقويت شوكتهم، وجاء الأنبرو ملك الجزيرة القبرصية ثم سار فنزل عكا فخاف المسلمون من شره وبالله المستعان‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 13/144‏)‏

وركب الملك الكامل محمد بن العادل صاحب مصر إلى بيت المقدس الشريف فدخله، ثم سار إلى نابلس فخاف الناصر داود بن المعظم من عمه الكامل، فكتب إلى عمه الأشرف فقدم عليه جريدة، وكتب إلى أخيه الكامل يستعطفه ويكفه عن ابن أخيه، فأجابه الكامل‏:‏

بأني إنما جئت لحفظ بيت المقدس وصونه عن الفرنج الذين يريدون أخذه، وحاشى لله أن أحاصر أخي أو ابن أخي، وبعد أن جئت أنت إلى الشام فأنت تحفظها وأنا راجع إلى الديار المصرية‏.‏

فخشي الأشرف وأهل دمشق إن رجع الكامل أن تمتد أطماع الفرنج إلى بيت المقدس، فركب الأشرف إلى أخيه الكامل فثبطه عن الرجوع، وأقاما جميعاً هنالك جزاهما الله خيراً، يحوطان جناب القدس عن الفرنج لعنهم الله‏.‏

واجتمع إلى الملك جماعة من ملوكهم، كأخيه الأشرف وأخيهما الشهاب غازي بن العادل، وأخيهم الصالح إسماعيل بن العادل وصاحب حمص أسد الدين شيركوه بن ناصر الدين، وغيرهم، واتفقوا كلهم على نزع الناصر داود عن ملك دمشق وتسليمها إلى الأشرف موسى‏.‏

وفيها‏:‏ عزل الصدر التكريتي عن حسبة دمشق ومشيخة الشيوخ وولى فيها اثنان غيره‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ وفي أوائل رجب توفي الشيخ الصالح الفقيه أبو الحسن علي بن المراكشي المقيم بالمدرسة المالكية، ودفن بالمقبرة التي وقفها الزين خليل بن زويزان قبلي مقابر الصوفية، وكان أول من دفن بها رحمه الله تعالى‏.‏

 ثم دخلت سنة ست وعشرين وستمائة

استلهت هذه السنة وملوك بني أيوب مفترقون مختلفون، قد صاروا أحزاباً وفرقاً، وقد اجتمع ملوكهم إلى الكامل محمد صاحب مصر، وهو مقيم بنواحي القدس الشريف، فقويت نفوس الفرنج لعنهم الله بكثرتهم بمن وفد إليهم من البحر، وبموت المعظم واختلاف من بعده من الملوك، فطلبوا من المسلمين أن يردوا إليهم ما كان الناصر صلاح الدين أخذ منهم، فوقعت المصالحة بينهم وبين الملوك أن يردوا لهم بيت المقدس وحده، وتبقى بأيديهم بقية البلاد فتسلموا القدس الشريف‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/145‏)‏

وكان المعظم قد هدم أسواره، فعظم ذلك على المسلمين جداً، وحصل وهن شديد وإرجاف عظيم، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

ثم قَدم الملك الكامل فحاصر دمشق وضيق على أهلها فقطع الأنهار ونهُبت الحواصل وغلت الأسعار، ولم يزل الجنود حولها حتى أخرج منها ابن أخيه صلاح الدين الملك الناصر داود بن المعظم، على أن يقيم ملكاً بمدينة الكرك والشوبك ونابلس وبرا ما بين الغور وبالبلقاء، ويكون الأمير عز الدين أيبك أستاذ دار المعظم صاحب صرخد‏.‏

ثم تقايض الأشرف وأخاه الكامل فأخذ الأشرف دمشق وأعطى أخاه حران والرها والرقة ورأس العين وسروج‏.‏

ثم سار الكامل فحاصر حماة، وكان صاحبها الملك المنصور بن تقي الدين عمر قد توفي وعهد بالأمر من بعده إلى أكبر ولده المظفر محمد، وهو زوج بنت الكامل، فاستحوذ على حماة أخوه صلاح الدين قلج أرسلان فحاصره الكامل حتى أنزله من قلعتها وسلمها إلى أخيه المظفر محمد، ثم سار فتسلم البلاد التي قايض بها عن دمشق من أخيه الملك الأشرف كما ذكرنا‏.‏

وكان الناس بدمشق قد اشتغلوا بعلم الأوائل في أيام الملك الناصر داود، وكان يعاني ذلك وقديماً نسبه بعضهم إلى نوع من الانحلال فالله أعلم، فنادى الملك الأشرف بالبلدان أن لا يشتغل الناس بذلك، وأن يشتغلا بعلم التفسير والحديث والفقه‏.‏

وكان سيف الدين الآمدي مدرساً بالعزيزية فعزله عنها وبقي ملازماً منزله حتى مات في سنة إحدى وثلاثين كما سيأتي‏.‏

وفيها‏:‏ كان الناصر داود قد أضاف إلى قاضي القضاة شمس الدين بن الخولي القاضي محيي الدين يحيى بن محمد بن علي بن الزكي، فحكم أياماً بالشباك شرقي باب الكلاسة، ثم صار الحكم بداره، مشاركاً لابن الخولي‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 الملك المسعود أقسيس بن الكامل

صاحب اليمن، وقد ملك مكة سنة تسع عشرة فأحسن بها المعدلة، ونفي الزيدية منها، وأمنت الطرقات والحجاج، ولكنه كان مسرفاً على نفسه، فيه عسف وظلم أيضاً، وكانت وفاته بمكة ودفن بباب المعلى‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/146‏)‏

 محمد السبتي النجار

كان يعده بعضهم من الأبدال‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ وهو الذي بنى المسجد غربي دار الزكاة عن يسار المار في الشارع من ماله، ودفن بالجبل‏.‏

وكانت جنازته مشهودة رحمه الله تعالى‏.‏

 أبو الحسن علي بن سالم

ابن يزبك بن محمد بن مقلد العبادي الشاعر من الحديثة، قدم بغداد مراراً وامتدح المستظهر وغيره، وكان فاضلاً شاعراً يكثر التغزل‏.‏

 أبو يوسف يعقوب بن صابر الحراني

ثم البغدادي المنجنيقي، كان فاضلاً في فنه، وشاعراً مطبقاً لطيف الشعر حسن المعاني، قد أورد له ابن الساعي قطعة صالحة، ومن أحسن ما أورد له قصيدة فيها تعزية عظيمة لجميع الناس وهي‏:‏

هل لمن يرتجي البقاء خلود * وسوى الله كل شيء يبيدُ

والذي كان من تراب وإن * عاش طويلاً للتراب يعودُ

فمصير الأنام طراً إلى ما * صار فيه آباؤهم والجدودُ

أين حواء أين آدم إذ فا * تهم الخلد والثوى والخلودُ ‏؟‏

أين هابيل أين قابيل إذ هـ * ذا لهذا معاند وحسودُ

أين نوحٌ ومن نجامعه بالفلـ * ك والعالمون طراً فقيدُ

أسلمته الأيام كالطفل للمو * ت ولم يغن عمره الممدودُ

أين عاد‏؟‏ بل أين جنة عادٍ * أم ترى أين صالح وثمودُ ‏؟‏

أين إبراهيم الذي شاد بيـ * ت الله فهو المعظم المقصودُ

حسدوا يوسفاً أخاهم فكادو * ه ومات الحاسد والمحسودُ

وسليمان في النبوة والملك * قضى مثل ما قضى داودُ

فغدوا بعدما أطيع لذا الخلـ * ق وهذا له ألين الحديدُ

وابن عمران بعد آياته التسـ * ع وشق الخضم فهو صعيدُ

والمسيح ابن مريم وهو روح اللـ *ـه كادت تقضي عليه اليهودُ

وقضى سيد النبيين والها * دي إلى الحق أحمد المحمودُ

وبنوه وآله الطاهرو * ن الزهر صلى عليهم المعبودُ

ونجوم السماء منتثراتٌ * بعد حينٍ وللهواء ركودُ

ولنار الدنيا التي توقد الصخـ *ـر خمود وللماء جمودُ

وكذا للثرى غداة يؤم النـ * ـاس منها تزلزل وهمودُ

هذه الأمهات نار وتربٌ * وهواءٌ رطبٌ وماءٌ برودُ

سوف يفنى كما فنينا فلا * يبقى من الخلق والدٌ ووليدُ

لا الشقي الغوي من نوب الأيا * م ينجو ولا السعيد الرشيدُ

ومتى سلت المنايا سيوفاً * فالموالي حصيدها والعبيدُ

وممن توفي فيها‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/147‏)‏

 أبو الفتوح نصر بن علي البغدادي

الفقيه الشافعي ويلقب‏:‏ بثعلب، اشتغل في المذهب والخلاف ومن شعره قوله‏:‏

جسمي معي غير أن الروح عندكمُ * فالجسم في غربة والروح في وطنِ

فليعجب الناس مني أن لي بدناً * لا روح فيه ولي روح بلا بدنِ

 أبو الفضل جبرائيل بن منصور

ابن هبة الله بن جبريل بن الحسن بن غالب بن يحيى بن موسى بن يحيى بن الحسن بن غالب بن الحسن بن عمرو بن الحسن بن النعمان بن المنذر المعروف‏:‏ بابن زطينا البغدادي‏.‏

كاتب الديوان بها، أسلم - وكان نصرانياً - فحسن إسلامه، وكان من أفصح الناس وأبلغهم موعظة، ومن ذلك قوله‏:‏ ‏(‏خير أوقاتك ساعة صفت لله، وخلصت من الفكرة لغيره والرجاء لسواه، وما دمت في خدمة السلطان فلا تغتر بالزمان، اكفف كفك واصرف طرفك وأكثر صومك وأقلل نومك يؤمنك واشكر ربك يحمد أمرك‏)‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏زاد المسافر يقدم على رحيله، فأعد الزاد تبلغ بالمعاد المراد‏.‏

وقال‏:‏ إلى متى تتمادى في الغفلة كأنك قد أمنت عواقب المهلة، عمر اللهو مضى وعمر الشبيبة انقضى، وما حصلت من ربك على ثقة بالرضا، وقد انتهى بك الأمر إلى سن التخاذل وزمن التكاسل، وما حظيت بطائل‏)‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏روحك تخضع وعينك لا تدمع، وقلبك يخشع ونفسك تجشع، وتظلم نفسك وأنت لها تتوجع، وتظهر الزهد في الدنيا وفي الحال تطمع، وتطلب ما ليس لك بحق، وما وجب عليك من الحق لا تدفع، وتروم فضل ربك وللماعون تمنع، وتعيب نفسك الأمارة وهي عن اللهو لا ترجع، وتوقظ الغافلين بإنذارك وتتناوم عن سهمك وتهجع، وتخص غيرك بخيرك ونفسك الفقيرة لا تنفع، وتحوم على الحق وأنت بالباطل مولع‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/148‏)‏

وتتعثر في المضايق وطرق النجاة مهيع، وتتهجم على الذنوب وفي المجرمين تشفع، وتظهر القناعة بالقليل وبالكثير لا تشبع، وتعمر الدار الفانية ودارك الباقية خراب بلقع، وتستوطن في منزل رحيل كأنك إلى ربك لا ترجع، وتظن أنك بلا رقيب وأعمالك إلى المراقب ترفع، تقدم على الكبائر وعن الصغائر تتورع، وتؤمل الغفران وأنت عن الذنوب لا تقلع، وترى الأهوال محيطة بك وأنت في ميدان اللهو ترتع، وتستقبح أفعال الجهال وباب الجهل تقرع، وقد آن لك أن تأنف من التعنيف وعن الدنايا تترفع، وقد سار المخفون وتخلفت فماذا تتوقع‏)‏‏.‏

وقد أورد ابن الساعي له شعراً حسناً فمنه‏:‏

إن سهرت عيناك في طاعة * فذاك خير لك من نومِ

أمسك قد فات بعلاته * فاستدرك الفائت في اليومِ

وله‏:‏

إن ربَّا هداك بعد ضلالٍ * سُبل الرشد مستحق للعبادهْ

فتعبد له تجد منه عتقاً * واستدم فضله بطول الزهادهْ

وله‏:‏

إذا تعففت عن حرامٍ * عوضت بالطيب الحلالْ

فاقنع تجد في الحرام حلاً * فضلاً من الله ذي الجلالْ

 ثم دخلت سنة سبع وعشرين وستمائة

فيها‏:‏ كانت وقعة عظيمة بين الأشرف موسى بن العادل وبين جلال الدين بن خوارزم شاه، وكان سببها أن جلال الدين كان قد أخذ مدينة خلاط في الماضي وخربها وشرد أهلها، وحاربه علاء الدين كيقباد ملك الروم وأرسل إلى الأشرف يستحثه على القدوم عليه ولو جريدة وحده، فقد الأشرف في طائفة كبيرة من عسكر دمشق، وانضاف إليهم عسكر بلاد الجزيرة ومن تبقى من عسكر خلاط، فكانوا خمسة آلاف مقاتل، معهم العدة الكاملة، والخيول الهائلة، فالتقوا مع جلال الدين بأذربيجان وهو في عشرين ألف مقاتل، فلم يقم لهم ساعة واحدة، ولا صبر فتقهقر وانهزم واتبعوه على الأثر‏.‏

ولم يزالوا في طلبهم إلى مدينة خوي وعاد الأشرف إلى مدينة خلاط فوجدها خاوية على عروشها، فمهدها وأطدها، ثم تصالح وجلال الدين وعاد إلى مستقر ملكه حرسها الله‏.‏

وفيها‏:‏ تسلم الأشرف قلعة بعلبك من الملك الأمجد بهرام شاه بعد حصار طويل، ثم استخلف على دمشق أخاه الصالح إسماعيل‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/149‏)‏

ثم سار إلى الأشرف بسبب أن جلال الدين الخوارزمي استحوذ على بلاد خلاط، وقتل من أهلها خلقاً كثيراً ونهب أموالاً كثيرة، فالتقى معه الأشرف واقتتلوا قتالاً عظيماً فهزمه الأشرف هزيمة منكرة، وهلك من الخوارزمية خلق كثير، ودقت البشائر في البلاد فرحاً بنصرة الأشرف على الخوارزمية، فإنهم كانوا لا يفتحون بلداً إلا قتلوا من فيه ونهبوا أموالهم، فكسرهم الله تعالى‏.‏

وقد كان الأشرف رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام قبل الوقعة وهو يقول له‏:‏ يا موسى، أنت منصور عليهم‏.‏

ولما فرغ من كسرتهم عاد إلى بلاد خلاط فرمم شعثها وأصلح ما كان فسد منها، ولم يحج أحد من أهل الشام في هذه السنة ولا في التي قبلها، وكذا فيما قبلها أيضاً، فهذه ثلاث سنين لم يسر من الشام أحد إلى الحج‏.‏

وفيها‏:‏ أخذت الفرنج جزيرة سورقة وقتلوا بها خلقاً وأسروا آخرين، فقدموا بهم إلى الساحل فاستقبلهم المسلمون فأخبروا بما جرى عليهم من الفرنج‏.‏

 وممن توفى فيها من الأعيان‏:‏

 زين الأمناء الشيخ الصالح

أبو البركات بن الحسن بن محمد بن الحسن بن هبة الله بن زين الأمناء بن عساكر الدمشقي الشافعي، سمع على عميه الحافظ أبي القاسم، والصائن وغير واحد، وعمر وتفرد بالرواية وجاوز الثمانين بنحو من ثلاث سنين، وأقعد في آخر عمره فكان يحمل في محفة إلى الجامع وإلى دار الحديث النورية لإسماع الحديث، وانتفع به الناس مدة طويلة‏.‏

ولما توفي حضر الناس جنازته ودفن عند أخيه الشيخ فخر الدين بن عساكر بمقابر الصوفية رحمه الله تعالى‏.‏

 الشيخ بيرم المارديني

كان صالحاً منقطعاً محباً للعزلة عن الناس، وكان مقيماً بالزاوية الغربية من الجامع، وهي التي يقال لها‏:‏ الغزالية‏.‏

وتعرف‏:‏ بزاوية الدولعي‏.‏

وبزاوية‏:‏ القطب النيسابوري‏.‏

وبزاوية‏:‏ الشيخ أبي نصر المقدسي‏.‏

قاله الشيخ شهاب الدين أبو شامة‏:‏ وكان يوم جنازته مشهوداً، ودفن بسفح قاسيون رحمه الله تعالى وعفا عنه بمنه وكرمه‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وستمائة

استهلت هذه السنة والملك الأشرف موسى بن العادل مقيم بالجزيرة مشغول فيها بإصلاح ما كان جلال الدين الخوارزمي قد أفسده من بلاده‏.‏

وقد قدمت التتار في هذه السنة إلى الجزيرة وديار بكر فعاثوا بالفساد يميناً وشمالاً، فقتلوا ونهبوا وسبوا على عادتهم خذلهم الله تعالى‏.‏

وفيها‏:‏ رتب إمام بمشهد أبي بكر من جامع دمشق وصليت فيه الصلوات الخمس‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/150‏)‏

وفيها‏:‏ درس الشيخ تقي الدين بن الصلاح الشهرزوري الشافعي في المدرسة الجوانية في جانب المارستان في جمادى الأولى منها‏.‏

وفيها‏:‏ درس الناصر ابن الحنبلي بالصالحية بسفح قاسيون التي أنشأتها الخاتون ربيعة خاتون بنت أيوب أخت ست الشام‏.‏

وفيها‏:‏ حبس الملك الأشرف الشيخ علي الحريري بقلعة عزتا‏.‏

وفيها‏:‏ كان غلاء شديد بديار مصر وبلاد الشام وحلب والجزيرة بسبب قلة المياه السماوية والأرضية، فكانت هذه السنة كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 155-156‏]‏

وذكر ابن الأثير كلاماً طويلاً مضمونه خروج طائفة من التتار مرة أخرى من بلاد ما وراء النهر، وكان سبب قدومهم هذه السنة أن الإسماعيلية كتبوا إليهم يخبرونهم بضعف أمر جلال الدين بن خوارزم شاه، وأنه قد عادى جميع الملوك حوله حتى الخليفة، وأنه قد كسره الأشرف بن العادل مرتين، وكان جلال الدين قد ظهرت منه أفعال ناقصة تدل على قلة عقله‏.‏

وذلك أنه توفي له غلام خصي يقال له‏:‏ قلج، وكان يحبه فوجد عليه وجداً عظيماً بحيث إنه أمر الأمراء أن يمشوا بجنازته فمشوا فراسخ، وأمر أهل البلد أن يخرجوا بحزن وتعداد عليه فتوانى بعضهم في ذلك فهمّ بقتلهم حتى تشفع فيهم بعض الأمراء ثم لم يسمح بدفن قلج فكان يحمل معه بمحفة‏.‏

وكلما أحضر بين يديه طعام يقول‏:‏ احملوا هذا إلى قلج فقال له بعضهم‏:‏ أيها الملك إن قلج قد مات، فأمر بقتله فقتل، فكانوا بعد ذلك يقولون‏:‏ قبله وهو يقبل الأرض، ويقول هو الآن أصلح مما كان - يعني أنه مريض وليس بميت - فيجد الملك بذلك راحة من قلة عقله ودينه قبحه الله‏.‏

فلما جاءت التتار اشتغل بهم وأمر بدفن قلج وهرب من بين أيديهم وامتلأ قلبه خوفاً منهم، وكان كلما سار من قطر لحقوه إليه وخربوا ما اجتازوا به من الأقاليم والبلدان حتى انتهوا إلى الجزيرة وجاوزوها إلى سنجار وماردين وآمد، يفسدون ما قدروا عليه قتلاً ونهباً وأسراً، وتمزق شمل جلال الدين وتفرق عنه جيشه، فصاروا شذر مذر، وبدلوا بالأمن خوفاً، وبالعز ذلاً، وبالاجتماع تفريقاً، فسبحان من بيده الملك لا إله إلا هو‏.‏

وانقطع خبر جلال الدين فلا يدري أين سلك، ولا أين ذهب، وتمكنت التتار من الناس في سائر البلاد لا يجدون من يمنعهم ولا من يردعهم، وألقى الله تعالى الوهن والضعف في قلوب الناس منهم، كانوا كثيراً يقتلون الناس فيقول المسلم‏:‏ لا بالله، لا بالله، فكانوا يلعبون على الخيل ويغنون ويحاكون الناس لا بالله لا بالله، وهذه طامة عظمى وداهية كبرى، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وحج الناس في هذه السنة من الشام وكان ممن حج فيها الشيخ تقي الدين أبو عمر بن الصلاح، ثم لم يحج الناس بعد هذه السنة أيضاً لكثرة الحروب والخوف من التتار والفرنج، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/151‏)‏

وفيها‏:‏ تكامل بناء المدرسة التي بسوق العجم ببغداد المنسوبة إلى إقبال الشرابي، وحضر الدرس بها، وكان يوماً مشهوداً، اجتمع فيه جميع المدرسين والمفتيين ببغداد، وعمل بصحنها قباب الحلوى فحمل منها إلى جميع المدارس والربط، ورتب فيها خمسة وعشرين فقيهاً لهم الجوامك الدارة في كل يوم، والحلوى في أوقات المواسم، والفواكه في زمانها، وخلع على المدرس والمعيدين والفقهاء في ذلك اليوم‏.‏ وكان وقتاً حسناً تقبل الله تعالى منه‏.‏

وفيها‏:‏ سار الأشرف أبو العباس أحمد بن القاضي الفاضل في الرسلية عن الكامل محمد صاحب مصر إلى الخليفة المستنصر بالله، فأكرم وأعيد معظماً‏.‏

وفيها‏:‏ دخل الملك المظفر أبو سعيد كوكبري بن زين الدين صاحب إربل إلى بغداد ولم يكن دخلها قط، فتلقاه الموكب وشافهه الخليفة بالسلام مرتين في وقتين، وكان ذلك شرفاً له غبطه به سائر ملوك الآفاق وسألوا أن يهاجروا ليحصل لهم مثل ذلك، فلم يمكنوا لحفظ الثغور، ورجع إلى مملكته معظماً مكرماً‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 يحيى بن معطي بن عبد النور

النحوي صاحب الألفية وغيرها من المصنفات النحوية المفيدة، ويلقب زين الدين، أخذ عن الكندي وغيره، ثم سافر إلى مصر فكانت وفاته بالقاهرة في مستهل ذي الحجة من هذه السنة، وشهد جنازته الشيخ شهاب الدين أبو شامة، وكان قد رحل إلى مصر في هذه السنة‏.‏

وحكي أن الملك الكامل شهد جنازته أيضاً، وأنه دفن قريباً من قبر المزني بالقرافة في طريق الشافعي عن يسرة المار رحمه الله‏.‏

 الدخوار الطبيب

مهذب الدين عبد الرحيم بن علي بن حامد، المعروف بالدخوار شيخ الأطباء بدمشق، وقد وقف داره بدرب العميد بالقرب من الصاغة العتيقة على الأطباء بدمشق مدرسة لهم، وكانت وفاته بصفر من هذه السنة، ودفن بسفح قاسيون، وعلى قبره قبة على أعمدة في أصل الجبل شرقي الركتيه، وقد ابتلي بستة أمراض متعاكسة، منها ريح اللقوة، وكان مولده سنة خمس وستين وخمسمائة، وكان عمره ثلاثاً وستين سنة‏.‏

قال ابن الأثير‏:‏ وفيها توفي‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/152‏)‏

 القاضي أبو غانم بن العديم

الشيخ الصالح، وكان من المجتهدين في العبادة والرياضة، من العاملين بعلمهم، ولو قال قائل إنه لم يكن في زمانه أعبد منه لكان صادقاً، فرضي الله تعالى عنه وأرضاه، فإنه من جماعة شيوخنا، سمعنا عليه الحديث وانتفعنا برؤيته وكلامه، قال‏:‏

وفيها‏:‏ أيضاً في الثاني عشر من ربيع الأول توفي صديقنا‏:‏

 أبو القاسم عبد المجيد بن العجمي الحلبي

وهو وأهل بيته مقدموا السنة بحلب، وكان رجلاً ذا مروءة غزيرة، وخلق حسن، وحلم وافر ورياسة كثيرة، يحب إطعام الطعام، وأحب الناس إليه من أكل من طعامه ويقبل يده، وكان يلقى أضيافه بوجه منبسط، ولا يقعد عن إيصال راحة وقضاء حاجة، فرحمه الله تعالى رحمة واسعة‏.‏

قلت وهذا آخر ما وجد من الكامل في التاريخ للحافظ عز الدين أبي الحسن علي بن محمد بن الأثير رحمه الله تعالى‏.‏

 أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الكريم

ابن أبي السعادات بن كريم الموصلي، أحد الفقهاء الحنفيين، شرح قطعة كبيرة من القدوري، وكتب الإنشاء لصاحبها بدر الدين لؤلؤ، ثم استقال من ذلك، وكان فاضلاً شاعراً، من شعره‏:‏

دعوة كما شاء الغرام يكون * فلست وإن خان العهود أخونُ

ولينوا له في قولكم ما استطعتم * عسى قلبه القاسي عليّ يلينُ

وبثوا صباباتي إليه وكرروا * حديثي عليه فالحديث شجونُ

بنفسي الأولى بانوا عن العين حصةً * وحبهم في القلب ليس يبينُ

وسلوا على العشاق يوم تحملوا * سيوفاً لها وطف الجفون جفونَ

 المجد البهنسي

وزير الملك الأشرف ثم عزله وصادره، ولما توفي دفن بتربته التي أنشأها بسفح قاسيون وجعل كتبه بها وقفاً، وأجرى عليها أوقافاً جيدة دارة رحمه الله تعالى‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/153‏)‏

جمال الدولة

خليل بن زويزان رئيس قصر حجاج، كان كيساً ذا مروءة، له صدقات كثيرة، وله زيارة في مقابر الصوفية من ناحية القبلة، ودفن بتربته عند مسجد قلوس رحمه الله تعالى‏.‏

وفيها‏:‏ كانت وفاة‏:‏

الملك الأمجد

واقف المدرسة الأمجدية‏.‏

 بهرام شاه بن فروخشاه بن شاهنشاه

ابن أيوب صاحب بعلبك، لم يزل بها حتى قدم الأشرف موسى بن العادل إلى دمشق فملكها في سنة ست وعشرين، فانتزع من يده بعلبك في سنة سبع وعشرين، وأسكنه عنده بدمشق بدار أبيه، فلما كان شهر شوال من هذه السنة عدا عليه مملوك من مماليكه تركي فقتله ليلاً، وكان قد اتهمه في صاحبة له وحبسه، فتغلب عليه في بعض الليالي فقتله وقتل المملوك بعده‏.‏

ودفن الأمجد في تربته التي إلى جانب تربة أبيه في الشرق الشمالي رحمه الله تعالى، وقد كان شاعراً فاضلاً له ديوان شعر، وقد أورد له ابن الساعي قطعة جيدة من شعره الرائق الفائق، وترجمته في طبقات الشافعية، ولم يذكره أبو شامة في الذيل، وهذا عجيب منه، ومما أورد له ابن الساعي في شاب رآه يقطع قضبان بأن فأنشأ على البديهة‏:‏

من لي بأهيف قال حين عتبته * في قطع كل قضيب بانٍ رائق

تحكي شمائله الرشاء إذا انثنى * ريان بين جداولٍ وحدائقِ

سرقت غصون البان لين شمائلي * فقطعتها والقطع حد السارقِ

ومن شعره أيضاً رحمه الله تعالى‏:‏

يؤرقني حنين وإدكار * وقد خلت المرابع والديارُ

تناءى الظاعنون ولي فؤاد * يسير مع الهوادج حيث ساروا

حنين مثلما شاء التنائي * وشوق كلما بعد المزارُ

وليل بعد بينهم طويل * فأين مضت ليالي القصارُ‏؟‏

وقد حكم السهاد على جفوني * تساوى الليل عندي والنهارُ

سهادي بعد نأيهم كثير * ونومي بعد ما رحلوا غرارُ

‏(‏ج/ص‏:‏ 13/154‏)‏

فمن ذا يستعير لنا عيوناً * تنام وهل ترى عينا تعارُ

فلا ليلى له صبح منير * ولا وجدي يقال له‏:‏ عثارُ

وكم من قائل والحي غادٍ * يحجب ظعنه النقع المثارُ

وقوفك في الديار وأنت حي * وقد رحل الخليط عليك عار

وله دو بيت‏:‏

كم يذهب هذا العمر في الخسران * ما أغفلني فيه وما أنساني

ضيعت زماني كله في لعب * يا عمر هل بعدك عمر ثاني

وقد رآه بعضهم في المنام فقال له‏:‏ ما فعل الله تعالى بك‏؟‏ فقال‏:‏

كنت من ديني على وجلٍ * زال عني ذلك الوجلُ

أمنت نفسي بوائقها * عشت لما مت لما رجلُ

رحمه الله وعفا عنه‏.‏

 جلال الدين تكش

وقيل محمود بن علاء الدين خوارزم شاه محمد بن تكش الخوارزمي، وهم من سلالة طاهر بن الحسين، وتكش جدهم هو الذي أزال دولة السلجوقية‏.‏

كانت التتار قهروا أباه حتى شردوه في البلاد فمات في بعض جزائر البحر، ثم ساقوا وراء جلال الدين هذا حتى مزقوا عساكره شذر مذر وتفرقوا عنه أيدي سبأ، وانفرد هو وحده فلقيه فلاح من قرية بأرض ميافارقين فأنكره لما عليه من الجواهر الذهب، وعلى فرسه، فقال له‏:‏ من أنت‏؟‏ فقال‏:‏

أنا ملك الخوارزمية - وكانوا قد قتلوا للفلاح أخاً - فأنزله وأظهر إكرامه، فلما نام قتله بفأس كانت عنده، وأخذ ما عليه، فبلغ الخبر إلى شهاب الدين غازي بن العادل صاحب ميافارقين فاستدعى بالفلاح فأخذ ما كان عليه من الجواهر وأخذ الفرس أيضاً، وكان الأشرف يقول هو سد ما بيننا وبين التتار، كما أن السد بيننا وبين يأجوج ومأجوج‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع وعشرين وستمائة

فيها‏:‏ عزل القاضيان بدمشق‏:‏ شمس الخوي وشمس الدين بن سني الدولة وولي قضاء القضاة عماد الدين بن الحرستاني، ثم عزل في سنة إحدى وثلاثين وأعيد شمس الدين بن سني الدولة كما سيأتي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/155‏)‏

وفيها‏:‏ سابع عشر شوالها عزل الخليفة المستنصر وزيره مؤيد الدين محمد بن محمد بن عبد الكريم القمي، وقبض عليه وعلى أخيه حسن ابنه فخر الدين أحمد بن محمد القمي وأصحابهم وحبسوا، واستوزر الخليفة مكانه أستاذ الدار شمس الدين أبا الأزهر، أحمد بن محمد بن الناقد، وخلع عليه خلعة سنية وفرح الناس بذلك‏.‏

وفيه أقبل طائفة من التتار فوصلوا إلى شهزور فندب الخليفة صاحب إربل مظفر الدين كوكبري بن زين الدين، وأضاف إليه عساكر من عنده فساورا نحوهم فهربت منهم التتار، وأقاموا في مقابلتهم مدة شهور، ثم تمرض مظفر الدين وعاد إلى بلده إربل وتراجعت التتار إلى بلادها‏.‏

 وممن توفى فيها من الأعيان‏:‏

 الحافظ محمد بن عبد الغني

ابن أبي بكر البغدادي، أبو بكر بن نقطة الحافظ المحدث الفاضل، صاحب الكتاب النافع المسمى بالتقييد في تراجم رواة الكتب والمشاهير من المحدثين، كان أبوه فقيهاً فقيراً منقطعاً في بعض مساجد بغداد، يؤثر أصحابه بما يحصل له‏.‏

ونشأ ولده هذا معنيّ بعلم الحديث وسماعه والرحلة فيه إلى الأفاق شرقاً غرباً، حتى برز فيه على الأقران، وفاق أهل ذلك الزمان، ولد سنة تسع وسبعين وخمسمائة، وتوفي يوم الجمعة الثاني والعشرين من صفر من هذه السنة، رحمهم الله تعالى‏.‏

 الجمال عبد الله بن الحافظ عبد الغني المقدسي

كان فاضلاً كريماً حيياً، سمع الكثير، ثم خالط الملوك وأبناء الدنيا، فتغيرت أحواله ومات ببستان ابن شكر عند الصالح إسماعيل بن العادل، وهو الذي كفنه ودفن بسفح قاسيون‏.‏

 أبو علي الحسين بن أبي بكر المبارك

ابن أبي عبد الله محمد بن يحيى بن مسلم الزبيدي ثم البغدادي، كان شيخاً صالحاً حنفياً فاضلاً ذا فنون كثيرة، ومن ذلك علم الفرائض والعروض، وله فيه أرجوزة حسنة، انتخب منها ابن الساعي من كل بحر بيتين، وسرد ذلك في تاريخه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/156‏)‏

 أبو الفتح مسعود بن إسماعيل

ابن علي بن موسى السلماسي، فقيه أديب شاعر، له تصانيف، وقد شرح المقامات والجمل في النحو، وله خطب وأشعار حسنة رحمه الله تعالى‏.‏

 أبو بكر محمد بن عبد الوهاب

ابن عبد الله الأنصاري فخر الدين ابن الشيرجي الدمشقي، أحد المعدلين بها، ولد سنة تسع وأربعين وخمسمائة، وسمع الحديث وكان يلي ديوان الخاتون ست الشام بنت أيوب، وفوضت إليه أمرا أوقافها‏.‏

قال السبط‏:‏ وكان ثقة أميناً كيساً متواضعاً‏.‏

قال‏:‏ وقد وزر ولده شرف الدين للناصر داود مدة يسيرة، وكانت وفاة فخر الدين في يوم عيد الأضحى ودفن بمقابر باب الصغير رحمه الله تعالى وعفا عنه‏.‏

 حسام بن غزي

ابن يونس عماد الدين أبو المناقب المحلي المصري، ثم الدمشقي، كان شيخاً صالحاً فاضلاً فقيهاً شافعياً حسن المحاضرة وله أشعار حسنة‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ وله في معجم القوصي ترجمة حسنة، وذكر أنه توفي عاشر ربيع الآخر ودفن بمقابر الصوفية‏.‏

قال السبط‏:‏ وكان مقيماً بالمدرسة الأمينية، وكان لا يأكل لأحد شيئاً ولا للسلطان، بل إذا حضر طعاماً كان معه في كمه شيء يأكله، وكان لا يزال معه ألف دينار على وسطه‏.‏

وحكي عنه قال‏:‏ خلع عليَّ الملك العادل ليلة طيلساناً فلما خرجت مشى بين يدي تعاط يحسبني القاضي، فلما وصلت باب البريد عند دار سيف خلعت الطيلسان وجعلته في كمي وتباطأت في المشي، فالتفت فلم يرو راءه أحداً، فقال لي‏:‏ أين القاضي‏؟‏ فأشرت إلى ناحية النورية وقلت‏:‏ ذهب إلى داره، فلما أسرع إلى ناحية النورية هرولت إلى المدرسة الأمينية واسترحت منه‏.‏

قال ابن الساعي‏:‏ كان مولده سنة ستين وخمسمائة، وخلف أموالاً كثيرة ورثتها عصبته، قال‏:‏ وكانت له معرفة حسنة بالأخبار والتواريخ وأيام الناس، مع دين وصلاح وورع، وأورد له ابن الساعي قطعاً من شعره فمن ذلك قوله‏:‏

قيل لي من هويت قد عبث الشـ *ـعرَ في خديه قلت ما ذاك عارهْ

حمرة الخد أحرقت عنبر الخا * ل فمن ذاك الدخان عذارهْ

وله‏:‏

شوقي إليكم دون أشواقكم * لكن لا بد أن يشرحُ

لأنني عن قلبكم غائبٌ * وأنتم في القلب لن تبرحوا

‏(‏ج/ص‏:‏ 13/157‏)‏

 أبو عبد الله محمد بن علي

ابن محمد بن الجارود الماراني، الفقيه الشافعي، أحد الفضلاء، ولي القضاء بإربل وكان ظريفاً خليعاً، وكان من محاسن الأيام، وله أشعار رائقة ومعان فائقة منها قوله‏:‏

مشيب أتى وشباب رحل * أحل العناية حيث حلْ

وذنبك جم، ألا فارجعي * وعودي فقد حان وقت الأجلْ

وديني الإله ولا تقصري * ولا يخدعنك طول الأملْ

أبو الثناء محمود بن رالي

ابن علي بن يحيى الطائي الرقي نزيل إربل، وولي النظر بها للملك مظفر الدين، وكان شيخاً أديباً فاضلاً، ومن شعره قوله‏:‏

وهيف ما الخطيُّ إلا قوامه * وما الغصن إلا ما يثنيه لينه

وما الدعص إلا ما تحمل خصره * وما النبل إلا ما تريش جفونهُ

وما الخمر إلا ما يروق ثغره * وما السحر إلا ما تكن عيونهُ

وما الحسن إلا كله فمن الذي * إذا ما رآه لا يزيد جنونهُ

 ابن معطي النحوي يحيى

ترجمه أبو شامة في السنة الماضية، وهو أضبط لأنه شهد جنازته بمصر، وأما ابن الساعي فإنه ذكره في هذه السنة، وقال‏:‏ إنه كان حظياً عند الكامل محمد صاحب مصر، وإنه كان قد نظم أرجوزة في القراءات السبع، ونظم ألفاظ الجمهرة، وكان قد عزم على نظم صحاح الجوهري‏.‏