فصل: فصل نزول قريش بمجتمع الأسيال يوم الخندق‏.‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 فصل نزول قريش بمجتمع الأسيال يوم الخندق‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق، أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رومة، بين الجرف وزغابة، في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تبعهم من بني كنانة وأهل تهامة، وأقبلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد، حتى نزلوا بذنب نقمى، إلى جانب أحد‏.‏

وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع، في ثلاثة آلاف من المسلمين، فضرب هنالك عسكره، والخندق بينه وبين القوم، وأمر بالذراري والنساء، فجعلوا فوق الأطام‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ واستعمل على المدينة عبد الله ابن أم مكتوم‏.‏

قلت‏:‏ وهذا معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 10‏]‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 118‏)‏

قال البخاري‏:‏ حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا عبيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار‏}‏ قالت‏:‏ ذلك يوم الخندق‏.‏

قال موسى بن عقبة‏:‏ ولما نزل الأحزاب حول المدينة أغلق بنو قريظة حصنهم دونهم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وخرج حيي بن أخطب النضري، حتى أتى كعب بن أسد القرظي صاحب عقدهم وعهدهم، فلما سمع به كعب أغلق باب حصنه دون حيي، فاستأذن عليه فأبى أن يفتح له، فناداه‏:‏ ويحك يا كعب افتح لي‏.‏

قال‏:‏ ويحك يا حيي إنك امرؤ مشؤوم، وإني قد عاهدت محمداً فلست بناقض ما بيني وبينه، ولم أر منه إلا وفاء وصدقاً‏.‏

قال‏:‏ ويحك افتح لي أكلمك‏.‏

قال‏:‏ ما أنا بفاعل، قال‏:‏ والله إن أغلقت دوني إلا خوفاً على جشيشتك أن آكل معك منها، فاحفظ الرجل، ففتح له فقال‏:‏ ويحك يا كعب جئتك بعز الدهر وبحر طام‏.‏

قال‏:‏ وما ذاك‏؟‏

قال‏:‏ جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من رومة وبغطفان، على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نقمى، إلى جانب أحد، وقد عاهدوني وعاقدوني على أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمداً ومن معه‏.‏

فقال كعب‏:‏ جئتني والله بذل الدهر وبجهام قد هراق ماؤه، يرعد ويبرق وليس فيه شيء، ويحك يا حيي ‏!‏ فدعني وما أنا عليه، فإني لم أر من محمد إلا وفاءً وصدقاً‏.‏

وقد تكلم عمر بن سعد القرظي فأحسن فيما ذكره موسى بن عقبة‏:‏ ذكرهم ميثاق رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده ومعاقدتهم إياه على نصره وقال‏:‏ إذا لم تنصروه فاتركوه وعدوه‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فلم يزل حيي بكعب يفتله في الذروة والغارب، حتى سمع له - يعني في نقض عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي محاربته مع الأحزاب - على أن أعطاه حيي عهد الله وميثاقه لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمداً أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك، فنقض كعب بن أسد العهد، وبرئ مما كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال موسى بن عقبة‏:‏ وأمر كعب بن أسد بنو قريظة حيي بن أخطب أن يأخذ لهم من قريش وغطفان رهائن، تكون عندهم لئلا ينالهم ضيم إن هم رجعوا ولم يناجزوا محمداً، قالوا‏:‏ وتكون الرهائن تسعين رجلاً من أشرافهم، فنازلهم حيي على ذلك، فعند ذلك نقضوا العهد ومزقوا الصحيفة التي كان فيها العقد إلا بني سعنة أسد وأسيد وثعلبة، فإنهم خرجوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 119‏)‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى المسلمين، بعث سعد بن معاذ وهو يومئذ سيد الأوس، وسعد بن عبادة وهو يومئذ سيد الخزرج، ومعهما عبد الله بن رواحة، وخوات بن جبير‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏انطلقوا حتى تأتوا هؤلاء القوم فتنظروا أحقٌ ما بلغنا عنهم، فإن كان حقاً فالحنوا لي لحنا أعرفه ولا تفتوا في أعضاد المسلمين، وإن كانوا على الوفاء فاجهروا به للناس‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فخرجوا حتى أتوهم‏.‏

قال موسى بن عقبة‏:‏ فدخلوا معهم حصنهم، فدعوهم إلى الموادعة وتجديد الحلف، فقالوا‏:‏ الآن وقد كسر جناحنا وأخرجهم يريدون بني النضير، ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل سعد بن عبادة يشاتمهم، فأغضبوه فقال له سعد بن معاذ‏:‏ إنا والله ما جئنا لهذا، ولما بيننا أكبر من المشاتمة‏.‏

ثم ناداهم سعد بن معاذ فقال‏:‏ إنكم قد علمتم الذي بيننا وبينكم يا بني قريظة، وأنا خائف عليكم مثل يوم بني النضير، أو أمر منه‏.‏

فقالوا‏:‏ أكلت أير أبيك‏.‏

فقال‏:‏ غير هذا من القول كان أجمل بكم وأحسن‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ نالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا‏:‏ من رسول الله‏؟‏ لا عهد بيننا وبين محمد‏.‏

فشاتمهم سعد بن معاذ وشاتموه، وكان رجلاً فيه حدة فقال له سعد بن عبادة‏:‏ دع عنك مشاتمتهم لما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة، ثم أقبل السعدان ومن معهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلموا عليه، ثم قالوا‏:‏ عضل والقارة أي‏:‏ كغدرهم بأصحاب الرجيع‏:‏ خبيب وأصحابه‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين‏)‏‏)‏‏.‏

قال موسى بن عقبة‏:‏ ثم تقنع رسول الله صلى الله عليه وسلم بثوبه حين جاءه الخبر عن بني قريظة، فاضطجع ومكث طويلاً، فاشتد على الناس البلاء والخوف حين رأوه اضطجع، وعرفوا أنه لم يأته عن بني قريظة خير، ثم إنه رفع رأسه وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أبشروا بفتح الله ونصره‏)‏‏)‏‏.‏

فلما أن أصبحوا، دنا القوم بعضهم من بعض، وكان بينهم رمي بالنبل والحجارة‏.‏

قال سعيد بن المسيب‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم إني أسألك عهدك ووعدك، اللهم إن تشأ لا تعبد‏)‏‏)‏‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف، وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، حتى ظن المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق حتى قال معتب بن قشير - أخو بني عمرو بن عوف -‏:‏ كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط‏.‏

وحتى قال أوس بن قيظي‏:‏ يا رسول الله إن بيوتنا عورة من العدو، وذلك عن ملأ من رجال قومه، فأذن لنا أن نرجع إلى دارنا فإنها خارج من المدينة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 120‏)‏

قلت‏:‏ هؤلاء وأمثالهم المرادون بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 12-13‏]‏‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم مرابطاً، وأقام المشركون يحاصرونه بضعاً وعشرين ليلة قريبا من شهر، ولم يكن بينهم حرب إلا الرميا بالنبل، فلما اشتد على الناس البلاء، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، ومن لا أتهم عن الزهري إلى عيينة بن حصن، والحارث بن عوف المري وهما قائدا غطفان، وأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه‏.‏

فجرى بينه وبينهم الصلح حتى كتبوا الكتاب، ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح إلا المراوضة، فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك، بعث إلى السعدين فذكر لهما ذلك واستشارهما فيه، فقالا‏:‏ يا رسول الله أمراً تحبه فنصنعه، أم شيئاً أمرك الله به ولا بد لنا من العمل به، أم شيئاً تصنعه لنا‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما‏)‏‏)‏

فقال له سعد بن معاذ‏:‏ يا رسول الله قد كنا وهؤلاء على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة واحدة إلا قرى أو بيعاً، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا‏؟‏ ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم‏.‏

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أنت وذاك‏)‏‏)‏ فتناول سعد بن معاذ الصحيفة، فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال‏:‏ ليجهدوا عليها‏.‏

قال‏:‏ فأقام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه محاصرين، ولم يكن بينهم وبين عدوهم قتال، إلا أن فوارس من قريش - منهم عمرو بن عبد ود بن أبي قيس أحد بني عامر بن لؤي، وعكرمة بن أبي جهل، وهبيرة بن أبي وهر المخزوميان، وضرار بن الخطاب بن مرداس، أحد بني محارب بن فهر - تلبسوا للقتال‏.‏

ثم خرجوا على خيلهم حتى مروا بمنازل بني كنانة فقالوا‏:‏ تهيئوا يا بني كنانة للحرب، فستعلمون من الفرسان اليوم، ثم أقبلوا تعنق بهم خيلهم حتى وقفوا على الخندق، فلما رأوه قالوا‏:‏ والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها، ثم تيمموا مكاناً من الخندق ضيقاً فضربوا خيلهم، فاقتحمت منه فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع‏.‏

وخرج علي بن أبي طالب في نفر معه من المسلمين، حتى أخذوا عليه الثغرة التي أقحموا منها خيلهم، وأقبلت الفرسان تعنق نحوهم، وكان عمرو بن عبد ود قد قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة، فلم يشهد يوم أحد، فلما كان يوم الخندق خرج معلماً ليرى مكانه، فلما خرج هو وخيله قال‏:‏ من يبارز ‏؟‏

فبرز له علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال له‏:‏ يا عمرو إنك كنت هاعدت الله لا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذتها منه‏.‏

قال‏:‏ أجل‏.‏

قال له علي‏:‏ فإني أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام‏.‏

قال‏:‏ لا حاجة لي بذلك‏.‏

قال‏:‏ فإني أدعوك إلى النزال‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 121‏)‏

قال له‏:‏ لمَ يا ابن أخي فوالله ما أحب أن أقتلك‏.‏

قال له علي‏:‏ لكني والله أحب أن أقتلك، فحمى عمرو عند ذلك فاقتحم عن فرسه، فعقره وضرب وجهه، ثم أقبل على علي فتنازلا وتجاولا، فقتله علي رضي الله عنه وخرجت خيلهم منهزمة، حتى اقتحمت من الخندق هاربة‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وقال علي بن أبي طالب في ذلك‏:‏

نصر الحجارة من سفاهة رأيه * ونصرت رب محمد بصواب

فصدرت حين تركته متجدلاً * كالجذع بين دكادك وروابي

وعففت عن أثوابه ولو أنني * كنت المقطر بزَّنى أثوابي

لا تحسبن الله خاذل دينه * ونبيه يا معشر الأحزاب

قال ابن هشام‏:‏ وأكثر أهل العلم بالشعر يشك فيها لعلي‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وألقى عكرمة رمحه يومئذ وهو منهزم عن عمرو، فقال في ذلك حسان بن ثابت‏:‏

فر وألقى لنا رمحه * لعلك عكرم لم تفعل

ووليت تعدو كعدو الظليـ * ـم ما إن يحور عن المعدل

ولم تلو ظهرك مستأنساً * كأن قفاك قفا فرعل

قال ابن هشام‏:‏ الفراعل صغار الضباع‏.‏

وذكر الحافظ البيهقي في ‏(‏دلائل النبوة‏)‏‏:‏ عن ابن إسحاق في موضع آخر من السيرة قال‏:‏ خرج عمرو بن عبد ود وهو مقنع بالحديد، فنادى من يبارز ‏؟‏

فقام علي بن أبي طالب فقال‏:‏ أنا لها يا نبي الله‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنه عمرو اجلس‏)‏‏)‏‏.‏

ثم نادى عمرو‏:‏ ألا رجل يبرز ‏؟‏

فجعل يؤنبهم ويقول‏:‏ أين جنتكم التي تزعمون أنه من قتل منكم دخلها، أفلا تبرزون إلي رجلاً ‏؟‏

فقام علي فقال‏:‏ أنا يا رسول الله ‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اجلس‏)‏‏)‏‏.‏

ثم نادى الثالثة فقال‏:‏

ولقد بححت من النداء * لجمعهم هل من مبارز

ووقفت إذ جبن المشجع * موقف القرن المناجز

ولذاك إني لم أزل * متسرعاً قبل الهزاهز

إن الشجاعة في الفتى * والجود من خير الغرائز

قال‏:‏ فقام علي رضي الله عنه فقال‏:‏ يا رسول الله أنا‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنه عمرو‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ وإن كان عمراً‏.‏ فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فمشى إليه حتى أتى وهو يقول‏:‏

لا تعجلن فقد أتاك * مجيب صوتك غير عاجز

في نية وبصيرة * والصدق منجي كل فائز

إني لأرجو أن أقي * م عليك نائحة الجنائز

من ضربة نجلاء * يبقى ذكرها عند الهزاهز

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 122‏)‏

فقال له عمرو‏:‏ من أنت ‏؟‏

قال‏:‏ أنا علي‏.‏

قال‏:‏ ابن عبد مناف ‏؟‏

قال‏:‏ أنا علي بن أبي طالب‏.‏

فقال‏:‏ يا ابن أخي من أعمامك من هو أسن منك، فإني أكره أن أهريق دمك‏؟‏

فقال له علي‏:‏ لكني والله لا أكره أن أهريق دمك، فغضب فنزل وسل سيفه كأنه شعلة نار، ثم أقبل نحو علي مغضباً واستقبله علي بدرقته، فضربه عمرو في درقته فقدها، وأثبت فيها السيف، وأصاب رأسه فشجه، وضربه علي على حبل عاتقه فسقط وثار العجاج، وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم التكبير، فعرفنا أن علياً قد قتله، فثم يقول علي‏:‏

أعلي تقتحم الفوارس هكذا * عني وعنهم أخروا أصحابي

اليوم يمنعني الفرار حفيظتي * ومصمم في الرأس ليس بنابي

إلى أن قال‏:‏

عبد الحجارة من سفاهة رأيه * وعبدت رب محمد بصواب

إلى آخرها‏.‏

قال‏:‏ ثم أقبل علي نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه يتهلل فقال له عمر بن الخطاب‏:‏ هلا استلبته درعه، فإنه ليس للعرب درع خير منها‏؟‏ فقال‏:‏ ضربته فاتقاني بسوءته، فاستحييت ابن عمي أن أسلبه‏.‏

قال‏:‏ وخرجت خيوله منهزمة حتى اقتحمت من الخندق‏.‏

وذكر ابن إسحاق فيما حكاه، عن البيهقي‏:‏ أن علياً طعنه في ترقوته حتى أخرجها من مراقه، فمات في الخندق، وبعث المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشترون جيفته بعشرة آلاف، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏هو لكم لا نأكل ثمن الموتى‏)‏‏)‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا نصر بن باب، حدثنا حجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس أنه قال‏:‏ قتل المسلمون يوم الخندق رجلاً من المشركين، فأعطوا بجيفته مالاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ادفعوا إليهم جيفته، فإنه خبيث الجيفة خبيث الدية‏)‏‏)‏ فلم يقبل منهم شيئاً‏.‏

وقد رواه البيهقي من حديث حماد بن سلمة، عن حجاج وهو ابن أرطأة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس‏:‏ أن رجلاً من المشركين قتل يوم الأحزاب، فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أن ابعث إلينا بجسده ونعطيهم اثني عشر ألفاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لا خير في جسده ولا في ثمنه‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه الترمذي، من حديث سفيان الثوري، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، وقال غريب‏.‏

وقد ذكر موسى بن عقبة‏:‏ أن المشركين إنما بعثوا يطلبون جسد نوفل بن عبد الله المخزومي حين قتل، وعرضوا عليه الدية، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنه خبيث خبيث الدية، فلعنه الله ولعن ديته، فلا أرب لنا في ديته، ولسنا نمنعكم أن تدفنوه‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 123‏)‏

وذكر يونس بن بكير، عن ابن إسحاق قال‏:‏ وخرج نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي، فسأل المبارزة فخرج إليه الزبير بن العوام، فضربه فشقه باثنتين حتى فلَّ في سيفه فلاً، وانصرف وهو يقول‏:‏

إني امرؤ أحمي وأحتمي * عن النبي المصطفى الأمي

وقد ذكر ابن جرير‏:‏ أن نوفلاً لما تورط في الخندق رماه الناس بالحجارة، فجعل يقول قتلة أحسن من هذه يا معشر العرب، فنزل إليه علي فقتله وطلب المشركون رمته من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثمن، فأبى عليهم أن يأخذ منهم شيئاً، ومكنهم من أخذه إليهم‏.‏

وهذا غريب من وجهين‏.‏

وقد روى البيهقي‏:‏ من طريق حماد بن يزيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير قال‏:‏ جعلت يوم الخندق مع النساء والصبيان في الأطم، ومعي عمر بن أبي سلمة، فجعل يطأطئ لي، فأصعد على ظهره فأنظر إليهم كيف يقتتلون، وأطأطئ له فيصعد فوق ظهري فينظر‏.‏

قال‏:‏ فنظرت إلى أبي وهو يحمل مرة ها هنا ومرة ها هنا، فما يرتفع له شيء إلا أتاه، فلما أمسى جاءنا إلى الأطم‏.‏

قلت‏:‏ يا أبة رأيتك اليوم وما تصنع‏.‏

قال‏:‏ ورأيتني يا بني ‏؟‏

قلت‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ فدى لك أبي وأمي‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني أبو ليلى عبد الله بن سهل بن عبد الرحمن بن سهل الأنصاري، أخو بني حارثة‏:‏ أن عائشة أم المؤمنين كانت في حصن بني حارثة يوم الخندق، وكان من أحرز حصون المدينة‏.‏

قال‏:‏ وكانت أم سعد بن معاذ معها في الحصن‏.‏

قالت عائشة‏:‏ وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب‏.‏ قالت‏:‏ فمر سعد وعليه درع مقلصة قد خرجت منها ذراعه كلها، وفي يده حربته يرفل بها ويقول‏:‏

لبّثْ قليلاً يشهد الهيجا جمَل * لا بأس بالموت إذا حان الأجل

فقالت له أمه‏:‏ الحق بني فقد والله أخرت‏.‏

قالت عائشة‏:‏ فقلت لها يا أم سعد، والله لوددت أن درع سعد كانت أسبغ مما هي‏.‏

قالت‏:‏ وخفت عليه، حيث أصاب السهم منه، فرُمي سعد بن معاذ بسهم فقطع منه الأكحل‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 124‏)‏

قال ابن إسحاق‏:‏ حدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال‏:‏ رماه حيان بن قيس بن العرقة أحد بني عامر بن لؤي، فلما أصابه قال‏:‏ خذها مني وأنا ابن العرقة، فقال له سعد‏:‏ عرق الله وجهك في النار، اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئاً فأبقني لها فإنه لا قوم أحب إلي أن أجاهد من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه، اللهم وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لي شهادة، ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني من لا أتهم عن عبد الله بن كعب بن مالك أنه كان يقول‏:‏ ما أصاب سعداً يومئذ إلا أبو أسامة الجشمي حليف بني مخزوم‏.‏

وقد قال أبو أسامة في ذلك شعراً قاله لعكرمة بن أبي جهل‏:‏

أعكرم هلاّ لمتني إذ تقول لي * فداك بآطام المدينة خالدَ

ألست الذي ألزمت سعداً مريشة * لها بين أثناء المرافق عاند

قضى نحبه منها سعيد فأعولت * عليه مع الشمط العذارى النواهد

وأنت الذي دافعت عنه وقد دعا * عبيدة جمعاً منهم إذ يكابد

على حين ما هم جائر عن طريقه * وآخر مرعوبٌ عن القصد قاصد

قال ابن إسحاق‏:‏ والله أعلم أي ذلك كان‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ ويقال إن الذي رمى سعداً خفاجة بن عاصم بن حبان‏.‏

قلت‏:‏ وقد استجاب الله دعوة وليه سعد بن معاذ في بني قريظة، أقر الله عينه فحكم فيهم بقدرته وتيسيره، وجعلهم هم الذين يطلبون ذلك كما سيأتي بيانه، فحكم بقتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم، حتى قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لقد حكمت فيهم بحكم الله فوق سبع أرقعة‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عباد قال‏:‏ كانت صفية بنت عبد المطلب في فارع، حصن حسان بن ثابت، قالت‏:‏ وكان حسان معنا فيه مع النساء والصبيان، فمر بنا رجل من يهود فجعل يطيف بالحصن، وقد حاربت بنو قريظة، وقطعت ما بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون في نحور عدوهم، لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إلينا إذ أتانا آت‏.‏

فقلت‏:‏ يا حسان إن هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن، وإني والله ما أمنه أن يدل على عورتنا من وراءنا من يهود، وقد شغل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فانزل إليه فاقتله‏.‏

قال‏:‏ يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا‏.‏

قالت‏:‏ فلما قال لي ذلك ولم أر عنده شيئاً احتجزت، ثم أخذت عموداً، ثم نزلت من الحصن إليه، فضربته بالعمود حتى قتلته، فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن فقلت‏:‏ يا حسان انزل فاستلبه، فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل‏.‏

قال‏:‏ مالي بسلبه حاجة يا ابنة عبد المطلب‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 125‏)‏

قال موسى بن عقبة‏:‏ وأحاط المشركون بالمسلمين حتى جعلوهم في مثل الحصن من كتائبهم، فحاصروهم قريباً من عشرين ليلة، وأخذوا بكل ناحية حتى لا يدرى أتم أم لا‏.‏

قال‏:‏ ووجهوا نحو منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم كتيبة غليظة، فقاتلوهم يوماً إلى الليل، فلما حانت صلاة العصر دنت الكتيبة، فلم يقدر النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه الذين كانوا معه أن يصلوا الصلاة على نحو ما أرادوا، فانكفأت الكتيبة مع الليل، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏شغلونا عن صلاة العصر ملأ الله بطونهم وقلوبهم‏)‏‏)‏ وفي رواية ‏(‏‏(‏وقبورهم ناراً‏)‏‏)‏‏.‏

فلما اشتد البلاء نافق ناس كثير، وتكلموا بكلام قبيح، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بالناس من البلاء والكرب، جعل يبشرهم ويقول‏:‏ ‏(‏‏(‏والذي نفسي بيده ليفرجن عنكم ما ترون من الشدة، وإني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق أمناً، وأن يدفع الله إلي مفاتيح الكعبة، وليهلكن الله كسرى وقيصر، ولتنفقن كنوزهما في سبيل الله‏)‏‏)‏‏.‏

وقد قال البخاري‏:‏ حدثنا إسحاق، حدثنا روح، حدثنا هشام، عن محمد، عن عبيدة، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم الخندق‏:‏ ‏(‏‏(‏ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم ناراً كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس‏)‏‏)‏‏.‏

وهكذا رواه بقية الجماعة إلا ابن ماجه من طرق، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة، عن علي به‏.‏

ورواه مسلم والترمذي، من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي حسان الأعرج، عن عبيدة، عن علي به‏.‏ وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏

ثم قال البخاري‏:‏ حدثنا المكي بن إبراهيم، حدثنا هشام، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن جابر بن عبد الله‏:‏ أن عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق بعد ما غربت الشمس، فجعل يسب كفار قريش وقال‏:‏ يا رسول الله ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب‏.‏

قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏والله ما صليتها‏)‏‏)‏ فنزلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بطحان، فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها، فصلى العصر بعد ما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب‏.‏

وقد رواه البخاري أيضاً، ومسلم، والترمذي، والنسائي من طرق، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة به‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 126‏)‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الصمد، حدثنا ثابت، حدثنا هلال، عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ قاتل النبي صلى الله عليه وسلم عدواً، فلم يفرغ منهم حتى أخر العصر عن وقتها، فلما رأى ذلك قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم من حبسنا عن الصلاة الوسطى فاملأ بيوتهم ناراً، واملأ قبورهم ناراً‏)‏‏)‏ ونحو ذلك تفرد به أحمد، وهو من رواية هلال بن خباب العبدي الكوفي، وهو ثقة يصحح له الترمذي وغيره‏.‏

وقد استدل طائفة من العلماء بهذه الأحاديث على كون الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، كما هو منصوص عليه في هذه الأحاديث، وألزم القاضي الماوردي مذهب الشافعي بهذا لصحة الحديث‏.‏

وقد حررنا ذلك نقلاً واستدلالاً عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 238‏}‏

وقد استدل طائفة بهذا الصنيع على جواز تأخير الصلاة لعذر القتال، كما هو مذهب مكحول والأوزاعي‏.‏

وقد بوب البخاري ذلك، واستدل بهذا الحديث، وبقوله صلى الله عليه وسلم يوم أمرهم بالذهاب إلى بني قريظة - كما سيأتي - ‏(‏‏(‏لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة‏)‏‏)‏ وكان من الناس من صلى العصر في الطريق، ومنهم من لم يصل إلا في بني قريظة بعد الغروب، ولم يعنف واحداً من الفريقين‏.‏

واستدل بما ذكره عن الصحابة ومن معهم في حصار تستر، سنة عشرين في زمن عمر، حيث صلوا الصبح بعد طلوع الشمس لعذر القتال، واقتراب فتح الحصن‏.‏

وقال آخرون من العلماء وهم الجمهور منهم الشافعي‏:‏ هذا الصنيع يوم الخندق منسوخ بشرعية صلاة الخوف بعد ذلك، فإنها لم تكن مشروعة إذ ذاك، فلهذا أخروها يومئذ، وهو مشكل‏.‏

قال ابن إسحاق وجماعة‏:‏ ذهبوا إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف بعسفان‏.‏

وقد ذكرها ابن إسحاق - وهو إمام في المغازي - قبل الخندق، وكذلك ذات الرقاع ذكرها قبل الخندق، فالله أعلم‏.‏

وأما الذين قالوا‏:‏ إن تأخير الصلاة يوم الخندق وقع نسياناً كما حكاه شراح مسلم عن بعض الناس، فهو مشكل إذ يبعد أن يقع هذا من جمع كبير مع شدة حرصهم على محافظة الصلاة، كيف وقد روي أنهم تركوا يومئذ الظهر والعصر والمغرب حتى صلوا الجميع في وقت العشاء، من رواية أبي هريرة وأبي سعيد‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يزيد وحجاج قالا‏:‏ حدثنا ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه قال‏:‏ حبسنا يوم الخندق حتى ذهب هَويٌ من الليل حتى كفينا، وذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 25‏]‏‏.‏

قال‏:‏ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً فأمره، فأقام فصلى الظهر كما كان يصليها في وقتها، ثم أقام العصر فصلاها كذلك، ثم أقام المغرب فصلاها كذلك، ثم أقام العشاء فصلاها كذلك، وذلك قبل أن ينزل‏.‏

قال حجاج في صلاة الخوف‏:‏ ‏{‏فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 239‏]‏‏.‏

وقد رواه النسائي عن الفلاس، عن يحيى القطان، عن ابن أبي ذئب به‏.‏

قال‏:‏ شغلنا المشركون يوم الخندق عن صلاة الظهر حتى غربت الشمس فذكره‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 127‏)‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا هشيم، حدثنا أبو الزبير، عن نافع بن جبير، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه‏:‏ أن المشركين شغلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق عن أربع صلوات، حتى ذهب من الليل ما شاء الله‏.‏

قال‏:‏ فأمر بلالاً فأذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء‏.‏

وقال الحافظ أبو بكر البزار‏:‏ حدثنا محمد بن معمر، حدثنا مؤمل - يعني ابن إسماعيل- حدثنا حماد - يعني ابن سلمة - عن عبد الكريم - يعني ابن أبي المخارق- عن مجاهد، عن جابر بن عبد الله‏:‏

أن النبي صلى الله عليه وسلم شغل يوم الخندق عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فأمر بلالاً فأذن وأقام فصلى الظهر، ثم أمره فأذن وأقام فصلى العصر، ثم أمره فأذن وأقام فصلى المغرب، ثم أمره فأذن وأقام فصلى العشاء، ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما على وجه الأرض قوم يذكرون الله في هذه الساعة غيركم‏)‏‏)‏‏.‏

تفرد به البزار وقال‏:‏ لا نعرفه إلا من هذا الوجه‏.‏

وقد رواه بعضهم، عن عبد الكريم، عن مجاهد، عن أبي عبيدة، عن عبد الله‏.‏

 فصل في دعائه عليه السلام على الأحزاب

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو عامر، حدثنا الزبير - يعني ابن عبد الله - حدثنا ربيح بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه قال‏:‏ قلنا يوم الخندق‏:‏ يا رسول الله هل من شيء نقوله، فقد بلغت القلوب الحناجر ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فضرب الله وجوه أعدائه بالريح‏.‏

وقد رواه ابن أبي حاتم في ‏(‏تفسيره‏)‏ عن أبيه، عن أبي عامر - وهو العقدي - عن الزبير بن عبد الله مولى عثمان بن عفان، عن ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه عن أبي سعيد، فذكره وهذا هو الصواب‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا حسين، عن ابن أبي ذئب، عن رجل من بني سلمة، عن جابر بن عبد الله‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى مسجد الأحزاب فوضع رداءه، وقام ورفع يديه مداً يدعو عليهم ولم يصل‏.‏

قال‏:‏ ثم جاء ودعا عليهم وصلى‏.‏

وثبت في الصحيحين من حديث إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله بن أبي أوفى قال‏:‏ دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم‏)‏‏)‏ وفي الرواية‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم اهزمهم وانصرنا عليهم‏)‏‏)‏‏.‏

وروى البخاري، عن قتيبة، عن الليث، عن سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏لا إله إلا الله وحده، أعز جنده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده، فلا شيء بعده‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 128‏)‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيما وصف الله من الخوف والشدة، لتظاهر عدوهم عليهم، وإتيانهم إياهم من فوقهم ومن أسفل منهم‏.‏

قال‏:‏ ثم إن نعيم بن مسعود بن عامر بن أنيف بن ثعلبة بن قنفذ بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن ريث بن غطفان أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة‏)‏‏)‏ فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة، وكان لهم نديماً في الجاهلية فقال‏:‏ يا بني قريظة قد عرفتم ودي إياكم، وخاصة ما بيني وبينكم‏.‏

قالوا‏:‏ صدقت لست عندنا بمتهم‏.‏

فقال لهم‏:‏ إن قريشاً وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، لا تقدرون على أن تتحولوا منه إلى غيره، وإن قريشاً وغطفان قد جاؤوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم ونساؤهم وأموالهم بغيره، فليسوا كأنتم فإن رأوا نهزة أصابوها‏.‏

وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم، يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمداً حتى تناجزوه‏.‏

قالوا‏:‏ لقد أشرت بالرأي، ثم خرج حتى أتى قريشاً فقال لأبي سفيان بن حرب، ومن معه من رجال قريش‏:‏ قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمداً، وإنه قد بلغني أمر قد رأيت علي حقاً أن أبلغكموه نصحاً لكم فاكتموا عني‏.‏

قالوا‏:‏ نفعل‏.‏

قال‏:‏ تعلموا أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه أنا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين من قريش وغطفان رجالاً من أشرافهم فنعطيكهم، فتضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقي منهم حتى تستأصلهم ‏؟‏

فأرسل إليهم‏:‏ أن نعم، فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهناً من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلاً واحداً، ثم خرج حتى أتى غطفان فقال‏:‏ يا معشر غطفان إنكم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إلي، ولا أراكم تتهموني‏.‏

قالوا‏:‏ صدقت ما أنت عندنا بمتهم‏.‏

قال‏:‏ فاكتموا عني‏.‏

قالوا‏:‏ نفعل، ثم قال لهم ما قال لقريش، وحذرهم ما حذرهم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 129‏)‏

فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس، وكان من صنيع الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أن أرسل أبو سفيان بن حرب ورؤوس غطفان، إلى بني قريظة‏:‏ عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان‏.‏

فقال لهم‏:‏ إنا لسنا بدار مقام، هلك الخف والحافر، فأعدوا للقتال حتى نناجز محمداً ونفرغ مما بيننا وبينه‏.‏

فأرسلوا إليهم‏:‏ إن اليوم يوم السبت، وهو يوم لا نعمل فيه شيئاً، وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثاً، فأصابهم ما لم يخف عليكم، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمداً حتى تعطونا رهناً من رجالكم، يكونون بأيدينا ثقة لنا، حتى نناجز محمداً، فإنا نخشى إن ضرستكم الحرب واشتد عليكم القتال أن تنشمروا إلى بلادكم وتتركونا، والرجل في بلادنا ولا طاقة لنا بذلك منه‏.‏

فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة، قالت قريش وغطفان‏:‏ والله إن الذي حدثكم نعيم بن مسعود لحق، فأرسلوا إلى بني قريظة‏:‏ إنا ولله لا ندفع إليكم رجلاً من رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا‏.‏

فقالت بنو قريظة حين انتهت إليهم الرسل بهذا‏:‏ إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق، ما يريد القوم إلا أن تقاتلوا، فإن رأوا فرصة انتهزوها، وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم، وخلوا بينكم وبين الرجل في بلدكم‏.‏

فأرسلوا إلى قريش وغطفان‏:‏ إنا والله ما نقاتل معكم حتى تعطونا رهناً، فأبوا عليهم، وخذل الله بينهم، وبعث الله الريح في ليلة شاتية شديدة البرد، فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح آنيتهم‏.‏

وهذا الذي ذكره ابن إسحاق من قصة نعيم بن مسعود أحسن مما ذكره موسى بن عقبة‏.‏

وقد أورده عنه البيهقي في ‏(‏الدلائل‏)‏ فإنه ذكر ما حاصله‏:‏ أن نعيم بن مسعود كان يذيع ما يسمعه من الحديث، فاتفق أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم عشاء، فأشار إليه أن تعال، فجاء فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما وراءك ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ إنه قد بعثت قريش وغطفان إلى بني قريظة يطلبون منهم أن يخرجوا إليهم فيناجزوك، فقالت قريظة‏:‏ نعم، فأرسلوا إلينا بالرهن، وقد ذكر فيما تقدم‏:‏ أنهم إنما نقضوا العهد على يدي حيي بن أخطب، بشرط أن يأتيهم برهائن تكون عندهم توثقة‏.‏

قال‏:‏ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إني مسر إليك شيئاً فلا تذكره‏)‏‏)‏ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنهم قد أرسلوا إلي يدعونني إلى الصلح، وأرد بني النضير إلى دورهم وأموالهم‏)‏‏)‏‏.‏

فخرج نعيم بن مسعود عامداً إلى غطفان، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏الحرب خدعة، وعسى أن يصنع الله لنا‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 130‏)‏

فأتى نعيم غطفان وقريشاً فأعلمهم، فبادر القوم وأرسلوا إلى بني قريظة عكرمة وجماعة معه، واتفق ذلك ليلة السبت، يطلبون منهم أن يخرجوا للقتال معهم، فاعتلت اليهود بالسبت، ثم أيضاً طلبوا الرهن توثقة، فأوقع الله بينهم واختلفوا‏.‏

قلت‏:‏ وقد يحتمل أن تكون قريظة لما يئسوا من انتظام أمرهم مع قريش وغطفان، بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدون منه الصلح على أن يرد بني النضير إلى المدينة، والله أعلم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اختلف من أمرهم، وما فرق الله من جمعهم، دعا حذيفة بن اليمان فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلاً‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فحدثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القرظي قال‏:‏ قال رجل من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان‏:‏ يا أبا عبد الله أرأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتموه ‏؟‏

قال‏:‏ نعم يا ابن أخي‏.‏

قال‏:‏ فكيف كنتم تصنعون ‏؟‏

قال‏:‏ والله لقد كنا نجتهد‏.‏

قال‏:‏ والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض، ولحملناه على أعناقنا‏.‏

قال‏:‏ فقال حذيفة‏:‏ يا ابن أخي والله لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هوياً من الليل، ثم التفت إلينا فقال‏:‏ من رجل يقول فينظر لنا ما فعل القوم، ثم يرجع - فشرط له رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجعة - أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة ‏؟‏

فما قام رجل من شدة الخوف وشدة الجوع والبرد، فلما لم يقم أحد دعاني، فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا حذيفة اذهب فادخل في القوم فانظر ماذا يفعلون، ولا تحدثن شيئاً حتى تأتينا‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فذهبت فدخلت في القوم، والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل، لا تقر لهم قدراً ولا ناراً ولا بناء، فقام أبو سفيان فقال‏:‏ يا معشر قريش لينظر امرؤ من جليسه ‏؟‏

قال حذيفة‏:‏ فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي فقلت‏:‏ من أنت ‏؟‏

قال‏:‏ فلان ابن فلان، ثم قال أبو سفيان‏:‏ يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون، ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فإني مرتحل‏.‏

ثم قام إلى جمله وهو معقول، فجلس عليه ثم ضربه فوثب به على ثلاث، فما أطلق عقاله إلا وهو قائم، ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي لا تحدث شيئاً حتى تأتيني لقتلته بسهم‏.‏

قال حذيفة‏:‏ فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي في مرط لبعض نسائه مرحل، فلما رآني أدخلني إلى رجليه، وطرح علي طرف المرط، ثم ركع وسجد وإني لفيه، فلما سلم أخبرته الخبر، وسمعت غطفان بما فعلت قريش فانشمروا راجعين إلى بلادهم، وهذا منقطع من هذا الوجه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 131‏)‏

وقد روى هذا الحديث مسلم بن الحجاج في صحيحه‏:‏ من حديث الأعمش، عن إبراهيم بن يزيد التيمي، عن أبيه قال‏:‏ كنا عند حذيفة فقال له رجل‏:‏ لو أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلت معه وأبليت، فقال له حذيفة‏:‏ أنت كنت تفعل ذلك‏؟‏

لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب، في ليلة ذات ريح شديدة وقر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ألا رجل يأتيني بخبر القوم، يكون معي يوم القيامة ‏؟‏‏)‏‏)‏ فسكتنا فلم يجبه منا أحد، ثم الثانية، ثم الثالثة مثله‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا حذيفة قم فأتنا بخبر القوم‏)‏‏)‏ فلم أجد بداً إذ دعاني باسمي أن أقوم، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اذهب ائتني بخبر القوم، ولا تذعرهم عليَّ‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فمضيت، كأنما أمشي في حمام، حتى أتيتهم، فإذا أبو سفيان يصلي ظهره بالنار، فوضعت سهماً في كبد قوسي وأردت أن أرميه، ثم ذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تذعرهم علي‏)‏‏)‏ ولو رميته لأصبته‏.‏

فرجعت كأنما أمشي في حمام، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصابني برد حين رجعت وقررت، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وألبسني من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها، فلم أبرح نائماً حتى الصبح، فلما أن أصبحت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏قم يا نومان‏)‏‏)‏‏.‏

وقد روى الحاكم والحافظ البيهقي في ‏(‏الدلائل‏)‏ هذا الحديث مبسوطاً من حديث عكرمة بن عمار، عن محمد بن عبد الله الدؤلي، عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة، قال‏:‏ ذكر حذيفة مشاهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال جلساؤه‏:‏ أما والله لو كنا شهدنا ذلك لكنا فعلنا وفعلنا‏.‏

فقال حذيفة‏:‏ لا تمنوا ذلك، لقد رأيتنا ليلة الأحزاب ونحن صافون قعود، وأبو سفيان ومن معه فوقنا، وقريظة اليهود أسفل منا، نخافهم على ذرارينا، وما أتت علينا ليلة قط أشد ظلمة، ولا أشد ريحاً منها في أصوات ريحها، أمثال الصواعق وهي ظلمة، ما يرى أحدنا أصبعه‏.‏

فجعل المنافقون يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون‏:‏ إن بيوتنا عورة وما هي بعورة، فما يستأذنه أحد منهم إلا أذن له، ويأذن لهم ويتسللون، ونحن ثلاثمائة ونحو ذلك إذا استقبلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً رجلاً‏.‏

حتى أتى عليَّ وما علي جنة من العدو ولا من البرد إلا مرط لامرأتي، ما يجاوز ركبتي، قال‏:‏ فأتاني وأنا جاث على ركبتي، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏من هذا ‏؟‏‏)‏‏)‏ فقلت‏:‏ حذيفة، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏حذيفة ‏!‏‏)‏‏)‏ فتقاصرت للأرض، فقلت‏:‏ بلى يا رسول الله كراهية أن أقوم، فقمت فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنه كائن في القوم خبر، فأتني بخبر القوم‏)‏‏)‏ قال‏:‏ وأنا من أشد الناس فزعاً، وأشدهم قراً‏.‏

قال‏:‏ فخرجت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم احفظه من بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، ومن فوقه، ومن تحته‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فوالله ما خلق الله فزعاً، ولا قراً في جوفي، إلا خرج من جوفي فما أجد فيه شيئاً‏.‏

قال‏:‏ فلما وليت، قال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا حذيفة لا تحدثن في القوم شيئاً حتى تأتيني‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 132‏)‏

قال‏:‏ فخرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم، نظرت في ضوء نار لهم توقد، وإذا رجل أدهم ضخم، يقول بيديه على النار، ويمسح خاصرته، ويقول‏:‏ الرحيل الرحيل، ولم أكن أعرف أبا سفيان قبل ذلك‏.‏

فانتزعت سهماً من كنانتي أبيض الريش، فأضعه في كبد قوسي لأرميه به في ضوء النار، فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تحدثن فيهم شيئاً حتى تأتيني‏)‏‏)‏ فأمسكت، ورددت سهمي إلى كنانتي‏.‏

ثم إني شجعت نفسي حتى دخلت العسكر، فإذا أدنى الناس مني بنو عامر يقولون‏:‏ يا آل عامر الرحيل الرحيل، لا مقام لكم، وإذا الريح في عسكرهم ما تجاوز عسكرهم شبراً، فوالله إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وفرشهم، الريح تضرب بها‏.‏

ثم إني خرجت نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انتصفت بي الطريق أو نحو من ذلك، إذا أنا بنحو من عشرين فارساً أو نحو ذلك معتمين، فقالوا‏:‏ أخبر صاحبك أن الله قد كفاه‏.‏

قال‏:‏ فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مشتمل في شملة يصلي، فوالله ما عدا أن رجعت راجعني القر، وجعلت أقرقف، فأومأ إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وهو يصلي، فدنوت منه فأسبل علي شملته، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى، فأخبرته خبر القوم، أخبرته أني تركتهم يرحلون‏.‏

قال‏:‏ وأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 9‏]‏ يعني الآيات كلها، إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 25‏]‏‏.‏

أي‏:‏ صرف الله عنهم عدوهم، بالريح التي أرسلها عليهم والجنود من الملائكة وغيرهم، التي بعثها الله إليهم، وكفى الله المؤمنين القتال أي‏:‏ لم يحتاجوا إلى منازلتهم ومبارزتهم، بل صرفهم القوي العزيز بحوله وقوته‏.‏

لهذا ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، فلا شيء بعده‏)‏‏)‏‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏وكفى الله المؤمنين القتال‏}‏ إشارة إلى وضع الحرب بينهم وبينهم، وهكذا وقع ولم ترجع قريش بعدها إلى حرب المسلمين، كما قال محمد بن إسحاق رحمه الله‏.‏

فلما انصرف أهل الخندق عن الخندق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا‏:‏ ‏(‏‏(‏لن تغزوكم قريش بعد عامكم، ولكنكم تغزونهم‏)‏‏)‏ قال‏:‏ فلم تغز قريش بعد ذلك، وكان يغزوهم بعد ذلك، حتى فتح الله عليه مكة، وهذا بلاغ من ابن إسحاق‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 133‏)‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يحيى، عن سفيان، حدثني أبو إسحاق، سمعت سليمان بن صرد رضي الله عنه يقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏الآن نغزوهم ولا يغزوننا‏)‏‏)‏‏.‏

وهكذا رواه البخاري من حديث إسرائيل، وسفيان الثوري، كلاهما عن أبي إسحاق السبيعي، عن سليمان بن صرد به‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ واستشهد من المسلمين يوم الخندق ثلاثة من بني عبد الأشهل، وهم‏:‏ سعد بن معاذ - وستأتي وفاته مبسوطة - وأنس بن أوس بن عتيك بن عمرو، وعبد الله بن سهل، والطفيل بن النعمان، وثعلبة بن غنمة الجشميان السلميان، وكعب بن زيد النجاري، أصابه سهم غرب فقتله‏.‏

قال‏:‏ وقُتل من المشركين ثلاثة وهم‏:‏ منبه بن عثمان بن عبيد بن السباق بن عبد الدار، أصابه سهم فمات منه بمكة، ونوفل بن عبد الله بن المغيرة، اقتحم الخندق بفرسه فتورط فيه فقتل هناك، وطلبوا جسده بثمن كبير كما تقدم، وعمرو بن عبد ود العامري، قتله علي بن أبي طالب‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وحدثني الثقة أنه حدث عن الزهري أنه قال‏:‏ قتل علي يومئذ عمرو بن عبد ود، وابنه حسل بن عمرو‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ ويقال عمرو بن عبد ود، ويقال عمرو بن عبد‏.‏

 فصل في غزوة بني قريظة

وما أحل الله تعالى بهم من البأس الشديد، مع ما أعد الله لهم في الآخرة من العذاب الأليم، وذلك لكفرهم ونقضهم العهود التي كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وممالأتهم الأحزاب عليه، فما أجدى ذلك عنهم شيئاً، وباؤا بغضب من الله ورسوله، والصفقة الخاسرة في الدنيا والآخرة‏.‏

وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً * وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 25-27‏]‏‏.‏

قال البخاري‏:‏ حدثنا محمد بن مقاتل، حدثنا عبد الله، حدثنا موسى بن عقبة، عن سالم ونافع عن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قفل من الغزو والحج والعمرة، يبدأ فيكبر ثم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون عابدون ساجدون، لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده‏)‏‏)‏‏.‏

قال محمد بن إسحاق رحمه الله‏:‏ ولما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف عن الخندق راجعاً إلى المدينة و المسلمون، ووضعوا السلاح، فلما كانت الظهر أتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما حدثني الزهري معتجراً بعمامة من استبرق، على بغلة عليها رحالة، عليها قطيفة من ديباج فقال‏:‏ أو قد وضعت السلاح يا رسول الله‏؟‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 134‏)‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم‏)‏‏)‏ فقال جبريل‏:‏ ما وضعت الملائكة السلاح بعد، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم، إن الله يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة، فإني عامد إليهم فمزلزل بهم‏.‏

فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذناً فأذن في الناس‏:‏ ‏(‏‏(‏من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة‏)‏‏)‏‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثني عبد الله بن أبي شيبة، حدثنا ابن نمير، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت‏:‏ لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الخندق، ووضع السلاح، واغتسل، أتاه جبريل فقال‏:‏ قد وضعت السلاح والله ما وضعناه ‏!‏ فاخرج إليهم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فإلى أين ‏؟‏‏)‏‏)‏ قال‏:‏ ها هنا، وأشار إلى بني قريظة‏.‏ فخرج النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال أحمد‏:‏ وحدثنا حسن، حدثنا حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من الأحزاب دخل المغتسل ليغتسل، وجاء جبريل فرأيته من خلل البيت قد عصب رأسه الغبار، فقال‏:‏ يا محمد أوضعتم أسلحتكم‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏وضعنا أسلحتنا‏)‏‏)‏ فقال‏:‏ إنا لم نضع أسلحتنا بعد، انهد إلى بني قريظة‏.‏

ثم قال البخاري‏:‏ حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا جرير بن حازم، عن حميد بن هلال، عن أنس بن مالك قال‏:‏ كأني أنظر إلى الغبار ساطعاً في زقاق بني غنم موكب جبريل، حين سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة‏.‏

ثم قال البخاري‏:‏ حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء، حدثنا جويرية بن أسماء، عن نافع، عن ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة‏)‏‏)‏ فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم‏:‏ لا نصلي العصر حتى نأتيها‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ بل نصلي لم يرد منا ذلك‏.‏ فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحداً منهم‏.‏

وهكذا رواه مسلم عن عبد الله بن محمد بن أسماء به‏.‏

وقال الحافظ البيهقي‏:‏ حدثنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي، قالا‏:‏ حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن خالد بن علي، حدثنا بشر بن حرب، عن أبيه، حدثنا الزهري، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عمه عبيد الله أخبره‏:‏

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من طلب الأحزاب، وضع عنه اللأمة واغتسل واستحم، فتبدى له جبريل عليه السلام فقال‏:‏ عذيرك من محارب إلا أراك قد وضعت اللأمة، وما وضعناها بعد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 135‏)‏

قال‏:‏ فوثب النبي صلى الله عليه وسلم فزعاً، فعزم على الناس أن لا يصلوا صلاة العصر إلا في بني قريظة، قال‏:‏ فلبس الناس السلاح، فلم يأتوا بني قريظة حتى غربت الشمس، فاختصم الناس عند غروب الشمس‏.‏

فقال بعضهم‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عزم علينا أن لا نصلي حتى نأتي بني قريظة، فإنما نحن في عزيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس علينا إثم‏.‏ وصلى طائفة من الناس احتساباً، وتركت طائفة منهم الصلاة حتى غربت الشمس، فصلوها حين جاؤوا بني قريظة احتساباً فلم يعنف رسول الله صلى الله عليه وسلم واحداً من الفريقين‏.‏

ثم روى البيهقي من طريق عبد الله العمري، عن أخيه عبيد الله، عن القاسم بن محمد، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عندها فسلم علينا رجل ونحن في البيت، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعاً، وقمت في أثره فإذا بدحية الكلبي‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏هذا جبريل أمرني أن أذهب إلى بني قريظة‏)‏‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏قد وضعتم السلاح، لكنا لم نضع، طلبنا المشركين حتى بلغنا حمراء الأسد‏)‏‏)‏ وذلك حين رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق‏.‏

فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعاً، وقال لأصحابه‏:‏ ‏(‏‏(‏عزمت عليكم أن لا تصلوا صلاة العصر حتى تأتوا بني قريظة‏)‏‏)‏ فغربت الشمس قبل أن يأتوهم، فقالت طائفة من المسلمين‏:‏

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرد أن تدعوا الصلاة فصلوا، وقالت طائفة‏:‏ والله إنا لفي عزيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما علينا من إثم، فصلت طائفة إيماناً واحتساباً، وتركت طائفة إيماناً واحتساباً، ولم يعنف رسول الله صلى الله عليه وسلم واحداً من الفريقين‏.‏

وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر بمجالس بينه وبين بني قريظة، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏هل مر بكم أحد ‏؟‏‏)‏‏)‏ فقالوا‏:‏ مر علينا دحية الكلبي، على بغلة شهباء تحته قطيفة ديباج، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ذلك جبريل أرسل إلى بني قريظة ليزلزلهم، ويقذف في قلوبهم الرعب‏)‏‏)‏‏.‏

فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر أصحابه أن يستروه بالجحف حتى يسمع كلامهم فناداهم‏:‏ يا إخوة القردة والخنازير‏.‏

فقالوا‏:‏ يا أبا القاسم لم تكن فحاشاً، فحاصرهم حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ‏.‏

وكانوا حلفاءه فحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم ونساؤهم‏.‏

ولهذا الحديث طرق جيدة عن عائشة وغيرها‏.‏

وقد اختلف العلماء في المصيب من الصحابة يومئذ من هو‏؟‏ بل الإجماع على أن كلا من الفريقين مأجور ومعذور غير معنف، فقالت طائفة من العلماء‏:‏ الذين أخروا الصلاة يومئذ عن وقتها المقدر لها حتى صلوها في بني قريظة هم المصيبون، لأن أمرهم يومئذ تأخير الصلاة خاص فيقدم على عموم الأمر بها في وقتها المقدر لها شرعاً‏.‏

قال أبو محمد بن حزم الظاهري في كتاب ‏(‏السيرة‏)‏‏:‏ وعلم الله أنا لو كنا هناك، لم نصل العصر إلا في بني قريظة، ولو بعد أيام‏.‏

وهذا القول منه ماش على قاعدته الأصلية في الأخذ بالظاهر‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 136‏)‏

وقالت طائفة أخرى من العلماء‏:‏ بل الذين صلوا الصلاة في وقتها، لما أدركتهم وهم في مسيرهم هم المصيبون، لأنهم فهموا أن المراد إنما هو تعجيل السير إلى بني قريظة، لا تأخير الصلاة، فعملوا بمقتضى الأدلة الدالة على أفضلية الصلاة في أول وقتها، مع فهمهم عن الشارع ما أراد، ولهذا لم يعنفهم، ولم يأمرهم بإعادة الصلاة في وقتها التي حولت إليه يومئذ كما يدعيه أولئك‏.‏

وأما أولئك الذين أخروا فعذروا بحسب ما فهموا، وأكثر ما كانوا يؤمرون بالقضاء، وقد فعلوه‏.‏

وأما على قول من يجوز تأخير الصلاة لعذر القتال، كما فهمه البخاري، حيث احتج على ذلك بحديث ابن عمر المتقدم في هذا، فلا إشكال على من أخر، ولا على من قدم أيضاً، والله أعلم‏.‏

ثم قال ابن إسحاق‏:‏ وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، ومعه رايته، وابتدرها الناس‏.‏

وقال موسى بن عقبة في ‏(‏مغازيه‏)‏ عن الزهري‏:‏ فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في مغتسله كما يزعمون، قد رجل أحد شقيه، أتاه جبريل على فرس، عليه لأمته، حتى وقف بباب المسجد، عند موضع الجنائز، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له جبريل‏:‏ غفر الله لك، أو قد وضعت السلاح‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم‏)‏‏)‏ فقال جبريل‏:‏ لكنا لم نضعه منذ نزل بك العدو، وما زلت في طلبهم حتى هزمهم الله - ويقولون إن على وجه جبريل لأثر الغبار - فقال له جبريل‏:‏ إن الله قد أمرك بقتال بني قريظة، فأنا عامد إليهم بمن معي من الملائكة نزلزل بهم الحصون، فاخرج بالناس‏.‏

فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثر جبريل، فمر على مجلس بني غنم وهم ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏مر عليكم فارس آنفاً ‏؟‏‏)‏‏)‏ قالوا‏:‏ مر علينا دحية الكلبي على فرس أبيض، تحته نمط أو قطيفة ديباج، عليه اللأمة‏.‏

فذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ذاك جبريل‏)‏‏)‏‏.‏

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشبه دحية الكلبي بجبريل، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ألحقوني ببني قريظة، فصلوا فيهم العصر‏)‏‏)‏ فقاموا وما شاء الله من المسلمين، فانطلقوا إلى بني قريظة، فحانت صلاة العصر وهم بالطريق، فذكروا الصلاة فقال بعضهم لبعض‏:‏ ألم تعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمركم أن تصلوا العصر في بني قريظة‏.‏

وقال آخرون‏:‏ هي الصلاة، فصلى منهم قوم، وأخرت طائفة الصلاة حتى صلوها في بني قريظة بعد أن غابت الشمس، فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم من عجل منهم الصلاة، ومن أخرها، فذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعنف واحداً من الفريقين‏.‏

قال‏:‏ فلما رأى علي بن أبي طالب رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً، تلقاه وقال‏:‏ ارجع يا رسول الله فإن الله كافيك اليهود‏.‏

وكان علي قد سمع منهم قولاً سيئاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه رضي الله عنهن، فكره أن يسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لمَ تأمرني بالرجوع ‏؟‏‏)‏‏)‏ فكتمه ما سمع منهم‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أظنك سمعت فيَّ منهم أذى، فامض فإن أعداء الله لو رأوني لم يقولوا شيئاً مما سمعت‏)‏‏)‏‏.‏

فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحصنهم، وكانوا في أعلاه نادى بأعلى صوته نفراً من أشرافهم حتى أسمعهم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أجيبوا يا معشر يهود، يا إخوة القردة، قد نزل بكم خزي الله عز وجل‏)‏‏)‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 137‏)‏

فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتائب المسلمين بضع عشرة ليلة، ورد الله حيي بن أخطب حتى دخل حصن بني قريظة، وقذف الله في قلوبهم الرعب، واشتد عليهم الحصار، فصرخوا بأبي لبابة بن عبد المنذر - وكانوا حلفاء الأنصار - فقال أبو لبابة‏:‏ لا آتيهم حتى يأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏قد أذنت لك‏)‏‏)‏ فأتاهم أبو لبابة فبكوا إليه، وقالوا‏:‏ يا أبا لبابة ماذا ترى، وماذا تأمرنا، فإنه لا طاقة لنا بالقتال‏.‏

فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه، وأمر عليه أصابعه، يريهم إنما يراد بهم القتل‏.‏

فلما انصرف أبو لبابة سقط في يده، ورأى أنه قد أصابته فتنة عظيمة، فقال‏:‏ والله لا أنظر في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أحدث لله توبة نصوحاً يعلمها الله من نفسي‏.‏

فرجع إلى المدينة فربط يديه إلى جذع من جذوع المسجد، وزعموا أنه ارتبط قريباً من عشرين ليلة‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين غاب عليه أبو لبابة‏:‏ ‏(‏‏(‏أما فرغ أبو لبابة من حلفائه ‏؟‏‏)‏‏)‏ فذكر له ما فعل‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لقد أصابته بعدي فتنة، ولو جاءني لاستغفرت له، وإذ قد فعل هذا فلن أحركه من مكانه، حتى يقضي الله فيه ما يشاء‏.‏

وهكذا رواه ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة‏.‏

وكذا ذكره محمد بن إسحاق في ‏(‏مغازيه‏)‏ في مثل سياق موسى بن عقبة، عن الزهري، ومثل رواية أبي الأسود عن عروة‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على بئر من آبار بني قريظة، من ناحية أموالهم، يقال لها بئر أنى، فحصرهم خمساً وعشرين ليلة، حتى جهدهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب‏.‏

وقد كان حيي بن أخطب دخل معهم حصنهم، حين رجعت عنهم قريش وغطفان، وفاءً لكعب بن أسد بما كان عاهده عليه‏.‏

فلما أيقنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم، قال كعب بن أسد‏:‏ يا معشر يهود قد نزل بكم من الأمر، ما ترون وإني عارض عليكم خلالاً ثلاثاً، فخذوا بما شئتم منها‏.‏

قالوا‏:‏ وما هن‏؟‏

قال‏:‏ نتابع هذا الرجل ونصدقه، فوالله لقد تبين لكم أنه لنبي مرسل، وأنه للذي تجدونه في كتابكم، فتُأمنون به على دمائكم، وأموالكم، وأبنائكم، ونسائكم قالوا‏:‏ لا نفارق حكم التوراة أبداً، ولا نستبدل به غيره‏.‏

قال‏:‏ فإذا أبيتم عليَّ هذه فهلم، فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه، رجالاً مصلتين بالسيوف، لم نترك وراءنا ثقلاً، حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، فإن نهلك نهلك، ولم نترك نسلاً نخشى عليه، وإن نظهر، فلعمري لنجدن النساء والأبناء‏.‏

قالوا‏:‏ أنقتل هؤلاء المساكين‏؟‏ فما خير العيش بعدهم‏؟‏

قال‏:‏ فإن أبيتم علي هذه، فالليلة ليلة السبت، وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنونا فيها، فانزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غرة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 138‏)‏

قالوا‏:‏ أنفسد سبتنا، ونحدث فيه ما لم يحدث فيه من كان قبلنا، إلا من قد علمت فأصابه ما لم يخف عنك، من المسخ فقال‏:‏ ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة من الدهر حازماً‏.‏

ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف، وكانوا حلفاء الأوس نستشيره في أمرنا، فأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأوه قام إليه الرجال وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه فرق لهم وقالوا يا أبا لبابة‏:‏ أترى أن ننزل على حكم محمد ‏؟‏

قال‏:‏ نعم، وأشار بيده إلى حلقه أنه الذبح‏.‏

قال أبو لبابة‏:‏ فوالله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله، ثم انطلق أبو لبابة على وجهه، ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده، وقال‏:‏ لا أبرح مكاني حتى يتوب الله على ما صنعت، وعاهد الله أن لا أطأ بني قريظة أبداً، ولا أرى في بلد خنت الله ورسوله فيه أبداً‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وأنزل الله فيما قال سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله بن أبي قتادة‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 27‏]‏‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ أقام مرتبطاً ست ليال، تأتيه امرأته في وقت كل صلاة، فتحله حتى يتوضأ ويصلي، ثم يرتبط حتى نزلت توبته في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 102‏]‏‏.‏

وقول موسى بن عقبة‏:‏ إنه مكث عشرين ليلة مرتبطاً به، والله أعلم‏.‏

وذكر ابن إسحاق‏:‏ أن الله أنزل توبته على رسوله من آخر الليل وهو في بيت أم سلمة، فجعل يبتسم، فسألته أم سلمة فأخبرها بتوبة الله على أبي لبابة، فاستأذنته أن تبشره فأذن لها، فخرجت فبشرته، فثار الناس إليه يبشرونه، وأرادوا أن يحلوه من رباطه، فقال‏:‏ والله لا يحلني إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صلاة الفجر حله من رباطه، رضي الله عنه وأرضاه‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم إن ثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسد بن عبيد، وهم نفر من بني هدل ليسوا من بني قريظة ولا النضير، نسبهم فوق ذلك، هم بنو عم القوم أسلموا في تلك الليلة التي أنزلت فيها قريظة على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج في تلك عمرو بن سُعدى القرظي فمر بحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليهم محمد بن مسلمة تلك الليلة، فلما رآه قال‏:‏ من هذا ‏؟‏

قال‏:‏ أنا عمرو بن سعدى - وكان عمرو قد أبى أن يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ لا أغدر بمحمد أبداً - فقال محمد بن مسلمة حين عرفه‏:‏

اللهم لا تحرمني إقالة عثرات الكرام، ثم خلى سبيله فخرج على وجهه حتى بات في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة تلك الليلة، ثم ذهب لم يدر أين توجه من الأرض إلى يومه هذا، فذكر شأنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ذاك رجل نجاه الله بوفائه‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 139‏)‏

قال‏:‏ وبعض الناس يزعم أنه كان أوثق برمة فيمن أوثق من بني قريظة، فأصبحت رمته ملقاة ولم يدر أين ذهب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه تلك المقالة، والله أعلم أي ذلك كان‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فلما أصبحوا نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتواثبت الأوس فقالوا‏:‏ يا رسول الله إنهم كانوا موالينا دون الخزرج، وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت، يعنون عفوه عن بني قينقاع، حين سأله فيهم عبد الله ابن أبيّ كما تقدم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فلما كلمته الأوس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏يا معشر الأوس ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ بلى‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فذلك إلى سعد بن معاذ‏)‏‏)‏‏.‏

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جعل سعد بن معاذ في خيمة لامرأة من أسلم يقال لها رفيدة في مسجده، وكانت تداوي الجرحى، فلما حكمه في بني قريظة أتاه قومه فحملوه على حمار قد وطئوا له بوسادة من أدم، وكان رجلاً جسيماً جميلاً‏.‏

ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون‏:‏ يا أبا عمرو أحسن في مواليك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم، فلما أكثروا عليه قال‏:‏ قد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم‏.‏

فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني عبد الأشهل، فنعى لهم رجال بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعد عن كلمته التي سمع منه، فلما انتهى سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏قوموا إلى سيدكم‏)‏‏)‏‏.‏

فأما المهاجرون من قريش فيقولون‏:‏ إنما أراد الأنصار، وأما الأنصار فيقولون‏:‏ قد عم رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين، فقاموا إليه فقالوا‏:‏ يا أبا عمر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم‏.‏

فقال سعد‏:‏ عليكم بذلك عهد الله وميثاقه، إن الحكم فيهم لما حكمت ‏؟‏

قالوا‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ وعلي من ها هنا في الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالاً له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم‏)‏‏)‏‏.‏

قال سعد‏:‏ فإني أحكم فيهم أن يقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى الذراري والنساء‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن بن عمر بن سعد بن معاذ، عن علقمة بن وقاص الليثي قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد‏:‏ ‏(‏‏(‏لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة‏)‏‏)‏‏.‏

وقال ابن هشام‏:‏ حدثني من أثق به من أهل العلم‏:‏ إن علي بن أبي طالب صاح وهم محاصرو بني قريظة‏:‏ يا كتيبة الإيمان، وتقدم هو والزبير بن العوام وقال‏:‏ والله لأذوقن ما ذاق حمزة أو أقتحم حصنهم‏.‏

فقالوا‏:‏ يا محمد ننزل على حكم سعد بن معاذ‏.‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، سمعت أبا أمامة بن سهل، سمعت أبا سعيد الخدري قال‏:‏ نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ قال‏:‏ فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد فأتاه على حمار، فلما دنا قريباً من المسجد قال‏:‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏قوموا لسيدكم أو خيركم‏)‏‏)‏ ثم قال‏:‏ إن هؤلاء نزلوا على حكمك‏.‏

قال‏:‏ نقتل مقاتلتهم ونسبي ذريتهم‏.‏

قال‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏قضيت بحكم الله‏)‏‏)‏ وربما قال‏:‏ ‏(‏‏(‏قضيت بحكم الملك‏)‏‏)‏ وفي رواية ‏(‏‏(‏الملك‏)‏‏)‏ أخرجاه في الصحيحين من طرق عن شعبة‏.‏

‏(‏ج/ص 4‏:‏/140‏)‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا حجين، ويونس قالا‏:‏ حدثنا الليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله أنه قال‏:‏ رمى يوم الأحزاب سعد بن معاذ فقطعوا أكحله، فحسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنار، فانتفخت يده فنزفه فحسمه أخرى، فانتفخت يده فنزفه‏.‏

فلما رأى ذلك قال‏:‏ اللهم لا تخرج نفسي حتى تقر عيني من بني قريظة، فاستمسك عرقه فما قطر قطرة حتى نزلوا على حكم سعد، فأرسل إليه فحكم أن تقتل رجالهم، وتسبى نساؤهم وذراريهم، يستعين بهم المسلمون‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أصبت حكم الله فيهم‏)‏‏)‏ وكانوا أربعمائة، فلما فرغ من قتلهم انفتق عرقه فمات‏.‏

وقد رواه الترمذي والنسائي جميعاً عن قتيبة، عن الليث به‏.‏ وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا ابن نمير، عن هشام، أخبرني أبي عن عائشة قالت‏:‏ لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق ووضع السلاح واغتسل، فأتاه جبريل وعلى رأسه الغبار فقال‏:‏ قد وضعت السلاح، فوالله ما وضعتها، أُخرج إليهم‏.‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏فأين ‏؟‏‏)‏‏)‏ قال‏:‏ ها هنا، وأشار إلى بني قريظة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم‏.‏

قال هشام‏:‏ فأخبرني أبي أنهم نزلوا على حكم النبي صلى الله عليه وسلم، فرد الحكم فيهم إلى سعد، قال‏:‏ فإني أحكم أن تقتل المقاتلة، وتسبى النساء والذرية وتقسم أموالهم‏.‏

قال هشام‏:‏ قال أبي‏:‏ فأخبرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لقد حكمت فيهم بحكم الله‏)‏‏)‏‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا زكريا بن يحيى، حدثنا عبد الله بن نمير، حدثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت‏:‏ أصيب سعد يوم الخندق، رماه رجل من قريش يقال له‏:‏ حِبَّان بن العرقة، رماه في الأكحل، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب‏.‏

فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق وضع السلاح واغتسل، فأتاه جبريل وهو ينفض رأسه من الغبار فقال‏:‏ قد وضعت السلاح، والله ما وضعته، أُخرج إليهم‏.‏

قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏فأين ‏؟‏‏)‏‏)‏ فأشار إلى بني قريظة، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلوا على حكمه، فرد الحكم إلى سعد، قال‏:‏ فإني أحكم فيهم أن تقتل المقاتلة، وأن تسبى النساء والذرية، وأن تقسم أموالهم‏.‏

قال هشام‏:‏ فأخبرني أبي عن عائشة‏:‏ أن سعداً قال‏:‏ اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إليَّ أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه، اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كان بقي من حرب قريش شيء، فأبقني له حتى أجاهدهم فيك، وإن كنت وضعت الحرب فافجرها واجعل موتي فيها‏.‏

فانفجرت من لبته، فلم يرعهم وفي المسجد خيمة من بني غفار إلا الدم يسيل إليهم فقالوا‏:‏ يا أهل الخيمة ما هذا الذي يأتينا من قبلكم‏؟‏ فإذا هو سعد يغدو جرحه دماً فمات منها‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 141‏)‏

وهذا رواه مسلم من حديث عبد الله بن نمير به‏.‏

قلت‏:‏ كان دعا أولاً بهذا الدعاء قبل أن يحكم في بني قريظة ولهذا قال فيه‏:‏ ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة فاستجاب الله له، فلما حكم فيهم وأقر الله عينه أيَّ قرار، دعا ثانياً بهذا الدعاء، فجعلها الله له شهادة رضي الله عنه وأرضاه‏.‏ وسيأتي ذكر وفاته قريباً إن شاء الله‏.‏

وقد رواه الإمام أحمد من وجه آخر عن عائشة مطولاً جداً وفيه فوائد فقال‏:‏ حدثنا يزيد، أنبأنا محمد بن عمرو، عن أبيه، عن جده علقمة بن وقاص قال‏:‏ أخبرتني عائشة قالت‏:‏ خرجت يوم الخندق أقفو الناس، فسمعت وئيد الأرض ورائي، فإذا أنا بسعد بن معاذ ومعه ابن أخيه الحارث بن أوس يحمل مجنة‏.‏

قالت‏:‏ فجلست إلى الأرض، فمر سعد وعليه درع من حديد قد خرجت منها أطرافه، فأنا أتخوف على أطراف سعد، قالت‏:‏ وكان سعد من أعظم الناس وأطولهم، فمر وهو يرتجز ويقول‏:‏

لبث قليلاً يدركَ الهيجا جملٌ * ما أحسنَ الموت إذا حانَ الأجل

قالت‏:‏ فقمت فاقتحمت حديقة فإذا نفر من المسلمين، فإذا فيها عمر بن الخطاب، وفيهم رجل عليه سبغة له - تعني المغفر - فقال عمر‏:‏ ما جاء بك والله إنك لجريئة، وما يؤمنك أن يكون بلاء أو يكون تحوّز، فما زال يلومني حتى تمنيت أن الأرض فتحت ساعتئذ فدخلت فيها‏.‏

فرفع الرجل السبغة عن وجهه، فإذا هو طلحة بن عبيد الله فقال‏:‏ يا عمر ويحك إنك قد أكثرت منذ اليوم، وأين التحوز أو الفرار إلا إلى الله عز وجل‏.‏

قالت‏:‏ ويرمي سعداً رجل من قريش يقال له‏:‏ ابن العرقة وقال‏:‏ خذها، وأنا ابن العرقة، فأصاب أكحله فقطعه، فدعا الله سعد فقال‏:‏ اللهم لا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة‏.‏

قالت‏:‏ وكانوا حلفاءه ومواليه في الجاهلية، قالت‏:‏ فرقأ كلمة، وبعث الله الريح على المشركين، وكفى الله المؤمنين القتال، وكان الله قوياً عزيزاً‏.‏

فلحق أبو سفيان ومن معه بتهامة، ولحق عيينة بن بدر ومن معه بنجد، ورجعت بنو قريظة فتحصنوا في صياصيهم، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وأمر بقبة من أدم فضربت على سعد في المسجد‏.‏

قالت‏:‏ فجاء جبريل وإن على ثناياه لنقع الغبار، فقال‏:‏ أقد وضعت السلاح لا والله ما وضعت الملائكة السلاح بعد، أخرج إلى بني قريظة فقاتلهم‏.‏

قالت‏:‏ فلبس رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، وأذن في الناس بالرحيل أن يخرجوا، فمر على بني غنم وهم جيران المسجد حوله فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏من مر بكم ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ مر بنا دحية الكلبي - وكان دحية الكلبي تشبه لحيته وسنه ووجهه جبريل عليه السلام - فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاصرهم خمساً وعشرين ليلة‏.‏

فلما اشتد حصرهم، واشتد البلاء قيل لهم‏:‏ انزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستشاروا أبا لبابة بن عبد المنذر، فأشار إليهم أنه الذبح قالوا‏:‏ ننزل على حكم سعد بن معاذ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏انزلوا على حكم سعد بن معاذ‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 142‏)‏

فأُتي به على حمار عليه أكاف من ليف قد حمل عليه، وحف به قومه فقالوا‏:‏ يا أبا عمرو حلفاؤك ومواليك وأهل النكاية ومن قد علمت، قالت‏:‏ ولا يرجع إليهم شيئاً، ولا يلتفت إليهم، حتى إذا دنا من دورهم التفت إلى قومه فقال‏:‏ قد آن لي أن لا أبالي في الله لومة لائم‏.‏

قالت‏:‏ قال أبو سعيد‏:‏ فلما طلع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏قوموا إلى سيدكم فأنزلوه‏)‏‏)‏ قال عمر‏:‏ سيدنا الله، قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أنزلوه‏)‏‏)‏ فأنزلوه‏.‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏اُحكم فيهم‏)‏‏)‏ فقال سعد‏:‏ فإني أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، وتقسم أموالهم‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لقد حكمت فيهم بحكم الله وحكم رسوله‏)‏‏)‏‏.‏

ثم دعا سعد فقال‏:‏ اللهم إن كنت أبقيت على نبيك من حرب قريش شيئاً فأبقني لها، وإن كنت قطعت الحرب بينه وبينهم فاقبضني إليك‏.‏

قالت‏:‏ فانفجر كلمه، وكان قد برئ حتى لا يرى منه إلا مثل الخرص، ورجع إلى قبته التي ضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قالت عائشة‏:‏ فحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر قالت‏:‏ فوالذي نفس محمد بيده إني لأعرف بكاء عمر، من بكاء أبي بكر، وأنا في حجرتي، وكانوا كما قال الله‏:‏ ‏{‏رحماء بينهم‏}‏‏.‏

قال علقمة‏:‏ فقلت‏:‏ يا أمة فكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع‏؟‏

قالت‏:‏ كانت عينه لا تدمع على أحد، ولكنه كان إذا وجد فإنما هو آخذ بلحيته‏.‏

وهذا الحديث إسناده جيد، وله شواهد من وجوه كثيرة، وفيه التصريح بدعاء سعد مرتين مرة قبل حكمه في بني قريظة، ومرة بعد ذلك كما قلناه أولاً، ولله الحمد والمنة، وسنذكر كيفية وفاته ودفنه وفضله في ذلك رضي الله عنه وأرضاه، بعد فراغنا من القصة‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم استنزلوا فحبسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة في دار بنت الحارث، امرأة من بني النجار قلت‏:‏ هي نسيبة ابنة الحارث بن كرز بن حبيب بن عبد شمس، وكانت تحت مسيلمة الكذاب، ثم خلف عليها عبد الله بن عامر بن كريز‏.‏

ثم خرج صلى الله عليه وسلم إلى سوق المدينة، فخندق بها خنادق، ثم بعث إليهم فضرب أعناقهم في تلك الخنادق، فخرج بهم إليه أرسالاً وفيهم عدو الله حيي بن أخطب وكعب بن أسد، رأس القوم وهم ستمائة أو سبعمائة‏.‏ والمكثر لهم يقول‏:‏ كانوا ما بين الثمانمائة والتسعمائة‏.‏

قلت‏:‏ وقد تقدم فيما رواه الليث عن أبى الزبير عن جابر‏:‏ أنهم كانوا أربعمائة، فالله أعلم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وقد قالوا لكعب بن أسد، وهم يُذهب بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالاً‏:‏ يا كعب ما تراه يصنع بنا‏؟‏ قال‏:‏ أفي كل موطن لا تعقلون، ألا ترون الداعي لا ينزع، ومن ذهب به منكم لا يرجع، هو والله القتل‏.‏

فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم، وأُتي بحيي بن أخطب وعليه حلة له فقاحية، قد شقها عليه من كل ناحية قدر أنملة لئلا يسلبها، مجموعة يداه إلى عنقه بحبل‏.‏

فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ أما والله ما لمت نفسي في عداوتك، ولكنه من يخذل الله يخذل‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 143‏)‏

ثم أقبل على الناس فقال‏:‏ أيها الناس إنه لا بأس بأمر الله، كتاب وقدر وملحمة كتبها الله على بني إسرائيل‏.‏ ثم جلس فضربت عنقه، فقال جبل بن جوال الثعلبي‏:‏

لعمرك ما لام ابن أخطبَ نفسه * ولكنه مَنْ يخذلِ الله يخُذل

لجاهدَ حتى أبلغَ النفس عُذرها * وقلقل يبغي العزّ كل مقلقل

وذكر ابن إسحاق قصة الزبير بن باطا، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، وكان قد منَّ يوم بعاث على ثابت بن قيس بن شماس، وجزَّ ناصيته، فلما كان هذا اليوم أراد أن يكافئه فجاءه فقال‏:‏ هل تعرفني يا أبا عبد الرحمن‏؟‏ قال‏:‏ وهل يجهل مثلي مثلك‏؟‏ فقال له ثابت‏:‏ أريد أن أكافئك فقال‏:‏ إن الكريم يجزي الكريم‏.‏

فذهب ثابت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستطلقه فأطلقه له، ثم جاءه فأخبره فقال‏:‏ شيخ كبير لا أهل له ولا ولد، فما يصنع بالحياة‏؟‏ فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستطلق له امرأته وولده، فأطلقهم له ثم جاءه فقال‏:‏ أهل بيت بالحجاز لا مال لهم فما بقاؤهم على ذلك‏؟‏

فأتى ثابت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستطلق مال الزبير بن باطا فأطلقه له، ثم جاءه فأخبره فقال له‏:‏ يا ثابت ما فعل الذي كان وجهه مرآة صينية تتراءى فيها عذارى حي كعب بن أسد‏؟‏

قال‏:‏ قتل‏.‏

قال‏:‏ فما فعل سيد الحاضر والبادي حيي بن أخطب‏؟‏

قال‏:‏ قتل‏.‏

قال‏:‏ قال‏:‏ فما فعل مقدمتنا إذا شددنا وحاميتنا إذا فررنا‏:‏ عزال بن شموال‏؟‏

قال‏:‏ قتل‏.‏

قال‏:‏ فما فعل المجلسان‏؟‏ - يعني بني كعب بن قريظة وبني عمرو بن قريظة - قال‏:‏ ذهبوا قتلوا‏.‏

قال‏:‏ فإني أسألك يا ثابت بيدي عندك إلا ألحقتني بالقوم، فوالله ما في العيش بعد هؤلاء من خير، فما أنا بصابر لله فيلة دلو ناضح، حتى ألقى الأحبة‏.‏ فقدمه ثابت فضربت عنقه‏.‏

فلما بلغ أبا بكر الصديق قوله‏:‏ ألقى الأحبة، قال‏:‏ يلقاهم والله في نار جهنم خالداً فيها مخلداً‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فيلة بالفاء والياء المثناة من أسفل‏.‏

وقال ابن هشام‏:‏ بالقاف والباء الموحدة‏.‏

وقال ابن هشام‏:‏ الناضح البعير الذي يستقي عليه الماء لسقي النخل‏.‏

وقال أبو عبيدة‏:‏ معناه إفراغه دلو‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 144‏)‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر كل بقتل من أنبت منهم‏.‏

فحدثني شعبة بن الحجاج عن عبد الملك بن عُمير، عن عطية القرظي قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أن يقتل من بني قريظة كل من أنبت منهم، وكنت غلاماً فوجدوني لم أنبت، فخلوا سبيلي‏.‏

ورواه أهل السنن الأربعة من حديث عبد الملك بن عمير، عن عطية القرظي نحوه‏.‏

وقد استدل به من ذهب من العلماء إلى أن إنبات الشعر الخشن حول الفرج دليل على البلوغ، بل هو بلوغ في أصح قولي الشافعي، ومن العلماء من يقرن بين صبيان أهل الذمة يكون بلوغاً في حقهم دون غيرهم، لأن المسلم قد يتأذى بذلك لمقصد‏.‏

وقد روى ابن إسحاق عن أيوب بن عبد الرحمن، أن سلمى بنت قيس، أم المنذر استطلقت من رسول الله صلى الله عليه وسلم رفاعة بن شموال، وكان قد بلغ، فلاذ بها، وكان يعرفهم قبل ذلك فأطلقه لها، وكانت قالت‏:‏ يا رسول الله إن رفاعة يزعم أنه سيصلى ويأكل لحمل الجمل، فأجابها إلى ذلك فأطلقه‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة، عن عائشة قالت‏:‏ لم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة، قالت‏:‏ والله إنها لعندي تحدث معي، تضحك ظهراً وبطناً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل رجالها في السوق، إذ هتف هاتف باسمها‏:‏ أين فلانة‏؟‏

قالت‏:‏ أنا والله، قالت‏:‏ قلت لها‏:‏ ويلك مالك‏؟‏ قالت‏:‏ أقتل ‏!‏ قلت‏:‏ ولم‏؟‏ قالت‏:‏ لحدث أحدثته، قالت‏:‏ فانطلق بها فضربت عنقها‏.‏

وكانت عائشة تقول‏:‏ فوالله ما أنسى عجباً منها طيب نفسها، وكثرة ضحكها، وقد عرفت أنها تقتل‏.‏

وهكذا رواه الإمام أحمد عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه عن محمد بن إسحاق به‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ هي التي طرحت الرحا على خلاد بن سويد فقتلته، يعني‏:‏ فقتلها رسول الله صلى الله عليه وسلم به‏.‏

قال ابن إسحاق في موضع آخر‏:‏ وسماها نباتة امرأة الحكم القرظي‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسَّم أموال بني قريظة ونساءهم وأبناءهم على المسلمين، بعد ما أخرج الخمس، وقسَّم للفارس ثلاثة أسهم، سهمين للفرس، وسهماً لراكبه، وسهماً للراجل، وكانت الخيل يومئذ ستاً وثلاثين‏.‏

قال‏:‏ وكان أول فيء وقعت فيه السهمان وخمس‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعيد بن زيد بسبايا من بني قريظة إلى نجد، فابتاع بها خيلاً وسلاحاً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 145‏)‏

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اصطفى من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن خناقة، إحدى نساء بني عمرو بن قريظة، وكان عليها حتى توفي عنها، وهي في ملكه، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض عليها الإسلام فامتنعت، ثم أسلمت بعد ذلك‏.‏

فسُر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامها، وقد عرض عليها أن يعتقها ويتزوجها، فاختارت أن تستمر على الرق ليكون أسهل عليها، فلم تزل عنده حتى توفي عليه الصلاة والسلام‏.‏

ثم تكلم ابن إسحاق على ما نزل من الآيات في قصة الخندق من أول سورة الأحزاب، وقد ذكرنا ذلك مستقصى في تفسيرها، ولله الحمد والمنة‏.‏

وقد قال ابن إسحاق‏:‏ واستشهد من المسلمين يوم بني قريظة‏:‏ خلاد بن سويد بن ثعلبة بن عمرو الخزرجي، طرحت عليه رحا فشدخته شدخاً شديداً، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن له لأجر شهيدين‏)‏‏)‏ قلت‏:‏ كان الذي ألقى عليه الرحى تلك المرأة التي لم يقتل من بني قريظة امرأة غيرها كما تقدم، والله أعلم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ومات أبو سنان بن محصن بن حُرثان، من بني أسد بن خزيمة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم محاصر بني قريظة فدفن في مقبرتهم اليوم‏.‏